![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في معسكر "أوشفيتز"، بولندا، في صيف عام 1941، لحظة واحدة غيّرت فيها الرحمة وجه الموت. في معسكر "أوشفيتز"، لم تكن الأيام تُقاس بالشمس ولا بالساعات... بل بعدد الجلدات، بعدد الأوامر، بعدد من سقطوا دون أن يصرخوا. كان المعسكر مكانًا يُسحق فيه الإنسان حتى ينطفئ، دون شاهد، دون اسم. في أحد الأيام، وبينما السجناء يقفون في ساحة المعسكر تحت شمس خانقة، أعلن الضابط النازي بصوت بارد أن أحد السجناء قد هرب. وكعادة النظام الوحشي هناك، فإن العقوبة على هروب سجين هي إعدام عشرة أبرياء عشوائيًا من نفس الكتلة. وقف الجميع في صمت مرعب، لا يسمع فيه سوى وقع خطوات الضابط وهو يختار من سيموت. كان كل اسم يُنادى بمثابة طلقة تُصيب القلوب من حوله. عندما وصل الضابط إلى السجين العاشر، اختار رجلاً يُدعى فرانسيسك غاجوڤنيتشيك. وما إن سمع الرجل اسمه، حتى انهار باكيًا وصرخ: "أرجوكم! لدي زوجة وأطفال... لن يروْني مجددًا!" كان فرانسيسك يومها في الحادية والأربعين من عمره، رجل بسيط لم يكن يطمح سوى للنجاة من هذا الجحيم، لأجل أطفاله الذين ربما كانوا لا يزالون ينتظرونه خلف الأسلاك. في تلك اللحظة، حدث ما لم يتوقعه أحد… من وسط الصفوف، تقدم رجل نحيل، هادئ، ملامحه متعبة لكنه واقف بثبات. لم يكن يُعرف كثيرًا بين السجناء، فقط أنه كان يعمل في الورشة رقم 11، وأنه كان سابقًا راهبًا ومديرًا لدار إيواء ومربيًا للأطفال الفقراء. تقدّم بهدوء نحو الضابط وقال بصوت ثابت: "اسمح لي أن آخذ مكانه." صُعق الضابط. صمت لثوانٍ طويلة، ثم سأل: "لماذا؟" فأجابه الرجل: "لأنني لا أملك أحدًا في هذه الحياة... بينما هو لديه عائلة." وبدون أي كلمة أخرى، تم قبوله ضمن المحكوم عليهم بالموت. هذا الرجل كان يُدعى: ماكسيميليان كولبي. نُقل كولبي مع التسعة الآخرين إلى زنزانة تحت الأرض، حيث لم تكن هناك طعام، ولا ماء، فقط انتظار الموت عبر الجوع والعطش. كانت هذه الطريقة البطيئة في الإعدام أكثر قسوة من الرصاص، لأن الموت يأتي ببطء... ووعي. لكن هناك، داخل الزنزانة، حدث شيء غريب. بدلاً من الصراخ والجنون الذي كان متوقعًا، ساد الهدوء. كان السجناء يتحدثون بهمس، كان ماكسيمليان يواسيهم، وأحيانًا يُسمع صوت صلاة خافت. وكان ماكسيميليان – رغم ضعفه – يساعد من ينهار، ويواسي من يفقد الأمل، ويبث فيهم نوعًا غريبًا من الطمأنينة... وكأنه جاء ليموت، لكنه أعاد لهم شيئًا من الكرامة قبل أن يغادروا. واحدًا تلو الآخر، راح السجناء يرحلون... حتى لم يتبقَ سوى ماكسيميليان، بسبب اعتياده على الأصوام. وبعد أسبوعين من المعاناة، وقد بدا أن جسده يرفض الاستسلام، حقنه الحراس بجرعة قاتلة... فأسلم الروح، في صمت يشبه صمت الأبطال. نجا الرجل الذي أنقذه ماكسيميليان – فرانسيسك – من الحرب، وعاش ليروي القصة للعالم، حتى عمر الأربعة وتسعين. كان يحضر كل احتفال يُقام لتكريم الرجل الذي أنقذ حياته، ويقول دومًا وهو يجهش بالبكاء: "لم أكن أستحق هذه التضحية… لكنه أعطاني حياتي هدية، وأنا عشتها لأحمل اسمه في قلبي إلى الأبد." ماكسيميليان كولبي لم يكن ضابط، ولا جنديًا، بل إنسان اختار الرحمة في مكان لا يعرف الرحمة. وقف أمام آلة القتل النازية، وقال لها: "لن تأخذي رجلاً لديه زوجة وأبناء… خذيني أنا بدلاً منه." ومات، ليس كضحية، بل كبطل قرر أن يزرع الرحمة في أرض ما*ت فيها كل شيء. |
![]() |
|