منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 28 - 05 - 2025, 07:12 AM
الصورة الرمزية Jesus follower
 
Jesus follower Female
سراج مضئ | الفرح المسيحى

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Jesus follower غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 125699
تـاريخ التسجيـل : May 2025
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : مصر
المشاركـــــــات : 832

المقدمة (*)

ينشد الإنسان النجاح والسعادة باشتياق. ولا حرج في ذلك لأن هذه الرغبة جزء من طبيعته، ولكن كل نجاح على الأرض ناقص، وكل سعادة في العالم خيال. والرغبة التي فينا نحو السعادة لن تخبو نارها المستعمرة بملذات العالم. وكما أن العطشان لا يرتوي إلاّ من المياه هكذا النجاح والمسرّة لا يكملان إلاّ في الله.


إنّا نسرّ بالأشياء فنطلبها، ولكن أنّى لنا أن نسعد بها؟ لأنه قلّما نحصل عليها كما نحب. وإن حصلنا فلا تدوم، وإن دامت فسرعان ما تزول رغبتنا فيها. وإن دامت رغبتنا فنشقى لأنا نطلب المزيد. لقد كان سليمان غنياً حتى أن آنية بيته كانت من الذهب الخالص. وكان حكيماً حتى أن الملوك والحكماء أتوا من أقاصي الأرض ليسمعوا حكمته ويروا مجده. ولكن لم يسدّ كل هذا الفراغ قلبه فعاد أدراجه واعتبر أن كل ما في العالم باطل وقبض الريح: (جميع الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن) (جامعة 7:1). إذ أننا غرباء في الأرض، نسير كسوّاح نحو وطننا السماوي في ملكوت الله فلا نسعد بما في هذه الدنيا سعادة كاملة. ولو ملكناها كلها فالقلب البشري لا يشبع إلاّ من حب الله الذي يستطيع أن يملأ النفس ويسعدها ويسدّ كل احتياجها ويروي ظمأ رغباتها. فهل توّد أن تملأ فراغ قلبك؟.. كن مسيحياً أرثوذكسياً وحوِّل قلبك نحو الله الذي انفصل منه بسبب خطاياك.

والخطيئة حقيقية لا تُنكر، يعترف بها كل من فحص قلبه. لأن البشر جميعاً حتى الذين ليس لهم نور الوحي، يشعرون بخطاياهم ويعترفون بنقصهم وعجزهم عن القيام بما كُلِّفوا به أدبياً، بأنهم مطرودون من دائرة رضى الله. كما أن كل إنسان يسلّم بأنه عديم الصلاح أمام الشريعة الإلهية بيد أنه لا أحد يميّز قوة الخطيئة وشدة فعلها فينا كالمؤمن الحقيقي الذي فداه المسيح من تسلط الخطيئة المطلق عليه. لأن الشريعة تفعل فيه فعل المؤدِّب لتأتي به إلى المسيح. وهذا (أي المسيح) يعلّمه سماجة الخطيئة وشدة لزوم التخلّص من عبوديتها. كما أن النعمة ترشد المؤمن إلى معرفة حقيقة الخطيئة، واختباراته توضح له نجاسة قلبه وشدة ميله إلى الشر، فيضحي شاعراً أكثر من غيره بأنه محتاج كل الاحتياج إلى معرفة النعمة الإلهية وفيض المراحم والحب، وإلى دوام التكفير لتستر الخطيئة، وإلى تجديد الروح القدس لينال المناعة ضد ارتكاب الشر ويكون أشد تسليماً بلزوم طريقة الفداء التي عيّنها الله لإنارته وتجديده وتقديسه وخلاصه من لعنة الخطيئة وتسلطها عليه. فالمتجدد هو من يعترف بخطاياه حق الاعتراف ويشعر بقوة الخطيئة فيه.

إن المسيح أخلى ذاته ليرينا أن أصل الداء هو في التعلق بذواتنا. وصُلب بواسطتنا ولأجلنا ليرينا ماذا تفعل الخطيئة والأنانية بالمحبة. ولينزل دمه الذكي مجدداً عهد المحبة فنعود إلى الله الآب من بعد ما كان قد تملكنا الشر الذي فصلنا عنه والشعور بالذات الذي أعمى عيوننا فلم نرجع لنرى حبه. ونحن مفتقرون إلى هذا التغيير لأننا لا نحب القداسة ولا نرغب فيها. لذلك نحن نحتاج إلى تجديد كلي تنشأ منه حياة جديدة يتغيّر فيها القلب والروح كما قال داود: (قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدّد في أحشائي) (المزمور10:50).

إنه تغيير فجائي يتم حالاً حينما يتممه الروح بعمل قوته الفائقة الطبيعة وبهذا نميّز التجديد من الاقتناع العقلي والاستنارة الداخلية بأنه (أي التجديد) إيجاد حياة جديدة وإقامة الميت إلى الحياة. وهو عمل سري لا يُدرَك، من أفعال الروح.

إن النفس المتجددة ترجع إلى الله بالتوبة والإيمان فتتبرر وتعيش عيشة جديدة وتتقدس وتتحد مع المسيح. ويصحّ القول أن المسيح والنفس المتجددة يصبحان واحداً في حالتهما الروحية متّحدين كاتحاد الغصن بالكرمة.

إننا لا نستطيع أن نرجع إلى الله من تلقاء ذاتنا، إنما بيسوع المسيح. لأن خطايانا أصبحت حاجزاً يمنعنا من الوصول إليه. ولكن المسيح قد أحبّنا ونزل إلى الأرض آخذاً جسدنا، ومات عنّا ليحطّم هذا الحاجز ويدخل بنا إلى الله. والآن بما أن لنا يسوع المسيح مخلّصاً ومحرّراً، نستطيع أن نرجع إلى الله فندخل ملكوت السماوات، ولكن ما لهذا الملكوت سوى طريق واحدة هي الطريق التي سلكها يسوع نفسها لما عاش على الأرض. وقد قال: (أنا هو الطريق، من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني) (يو6:14 ومرقس 34:8).

لذلك كان لزاماً على كل مسيحي أرثوذكسي بل على كل بشري أن يعرف كيف يجد هذه الطريق وكيف يدخل فيها. وإذ نتحدّث عنها نجد أننا لا نستطيع أن نوضحها تماماً. لكن ثقتنا بالرب يسوع المسيح الذي صنع من الطين شفاء أن يحوّل بالصلاة نفس القارئ، فيرى في هذا الإيضاح البسيط نوراً لبصيرته وحرارة لقلبه.

ويقسم هذا الكتاب على أربعة أجزاء:

1- النعم التي وهبها لنا المسيح بموته.

2- كيف عاش يسوع المسيح على الأرض وما احتمل من أجلنا.

3- الطريق التي يجب أن نسلكها إلى ملكوت السماوات.

4- كيف يعيننا يسوع المسيح لنسلك في هذه الطريق وكيف نستطيع أن نتقبل هذه المعونة؟

الفصل الأول: النِعَمْ التي وهبها لنا يسوع المسيح بموته

إن الإنسان الأول خُلق على صورة الله ومثاله. ولكنه شوَّه بإرادته هذا المثال. لقد كان مطوَّباً بهذا المثال وتلك الصورة. فكما أن الله أبدي كذلك خلق آدم لكيلا يموت. وكما أن الله كلّي الصلاح كذلك خلق آدم بلا خطيئة. وكما أن الله كلّي السعادة كذلك خلق آدم سعيداً وليسعد إلى الأبد.

عاش آدم في فردوس جميل غُرس بيد الله، فكان فرحاً بكل شيء، متمتعاً بالصحة التامة دون أن يعرف ما هو المرض. كان يأمر فتطيعه الحيوانات كلها دون أن يرهب أحداً أو يخشى شيئاً ما. كان لا يشعر بوطأة الحر أو شدة البرد بل كان يعمل في الجنّة دون أن يتعب أو يشقى. كان بريئاً لا تشوبه شائبة، يعيش مع الله والله يحيا معه. كان قلبه وروحه مفعمين بمحبة الله ومعرفته. كان دائماً هادئاً سعيداً ذا رغبات صالحة. لقد كان آدم في الفردوس وكان الفردوس في قلب آدم.

خطئ آدم. ولولا خطيئته لعاش سعيداً هو ونسله من بعده. خطئ أمام الله وتعدّى أسهل وصاياه فطرده من الفردوس لأنه لا يعيش مع الخطيئة والخطأة. ففقد آدم حالاً كل السعادة التي عرفها في الفردوس، كما أن نفسه أظلمت، وأفكاره اضطربت، ورغباته اعوجت، وسحابة قاتمة علت كل آماله وخيالاته. فرأى الحزن والضيق عوضاً عن الفرح والسلام. تعب وكدّ واحتاج وتقدّم في الأيام، أزعجته الشيخوخة واضطرب من الموت وأخيراً غلبه الشرّير إلى ملكه العاتي.

لقد أصبحت كل العناصر الأوّلية من هواء وماء ونار مصدراً للخوف عوضاً عن السرور. وبدأ آدم وذريته يشعرون بالجوع ويتألمون من تقلبات الطقس وهبوب الأرياح ويخشون بطش الحيوانات ويقاسون آلاماً من الأمراض التي تعدّدت وينسون أنهم إخوة، فيهاجم بعضهم بعضاً كأنهم أعداء، ويكره ويغش بعضهم بعضاً كأنهم غرباء، ويمضون بعد التعب إلى الجحيم الأبدي كخطأة.

وبما أنه لا يمكن بشرياً ما أن يعوّضنا مما فقده آدم، فقد أحبنا الله إلى النهاية (يوحنا1:13)، وأرسل برحمته ابنه الوحيد يسوع المسيح ليخلّصنا، فصار إنساناً مشابهاً لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة.

بتعاليمه تبدّدت الظلمات والأخطاء من الفكر البشري.

بنور إنجيله أُنير العالم وأُعلنت إرادة الله لكل من يريد أن يعرفها وظهر مصدر السعادة الأبدية لكل من يودّ أن يتملّكها.

بحياته أرانا الطريق إلى الملكوت السماوي وبيَّن لنا كيف نسلكه.

بآلامه وموته قضى عنّا ديننا الذي لم نكن لنستطيع دفعه وأنقذنا من عذاب الموت الأبدي وتعاسة المستقبل المظلم.

بقيامته حطَّم الجحيم وفتح لنا باب النعيم الذي أُغلق في وجه آدم بسبب عصيانه، وأعطى الأموات على رجاء القيامة والراقدين في الإيمان عبوراً من حياة أرضية باطلة وفاسدة فانية ووقتية إلى حياة نيِّرة أبدية بلا فساد، وأعطانا نحن الأحياء أن نصرع الشيطان ونطرده بعيداً عنّا. ومجَّد معه بصعوده إلى السماء جنسنا البشري فتباركت طبيعتنا في شخصه المبارك. وأخيراً أعطانا بنعمته وفضله، أن نمضي على ملكوت السماوات ونقتبل كل مساعدة في الطريق التي سلكها الفادي الحبيب ونمتلئ من الروح القدس ينبوع كل مساعدة.

نعم، لو لم يأتِ يسوع المسيح إلى الأرض لما تمكن أحد قط من الدخول إلى ملكوت السماوات. ولكننا قد أُعطينا الآن هذه النعمة المجّانية التي بها نتمكّن من معاشرة الرب إلى الأبد. وإذا كنّا لا نقدر أن نخبر بما أُعِدَّ لنا، لكننا نعلم أننا سنعيش مع الملائكة والقديسين، ونرى الله وجهاً لوجه، ونفرح فرحاً أبدياً، ونملك مع المسيح ملكاً لا نهاية له، (وذلك) إن آمنّا به وتبعنا وصاياه. فكل هذه المزايا توهب للجميع بلا استثناء ما داموا يطلبونها. والطريق إليها واضحة ومعبَّدة.

والآن إذ نعلم أية محبة أحبنا بها الرب يسوع وأية نعمة أنعم بها علينا، فماذا يكون جوابنا لو ظهر فجأة أمامنا وسألنا قائلاً: (يا أولادي، هل تحبونني كما أحبكم، هل تفيض قلوبكم شكراً على صنيعي معكم).

لكن إذا أحببنا الرب يسوع وشعرنا بفضله علينا، أفلا نعمل بوصاياه ونتمّم كل ما يسرّه؟ فإنه لا يطلب منّا سوى أن نتبعه إلى ملكوت السماء. لقد نزل من السماء ليخلِّصنا، أفلا نرضى أن نتبعه إلى السماء؟ لقد احتمل كل الآلام والأحزان من أجلنا، لأفلا نُسّر نحن بأن نحزن قليلاً ونتألم يسيراً من أجل ملكوته؟ فطوبى لمن يتبعه ويكون معه حيثما يكون وطوبى لمن يقتدي به فإنه يعينه ويقوّيه. ولكن ما أشقى من لا يرغب في السير وراءه معتذراً عن نفسه بأن الطريق شاق وهو ضعيف. فإن هذا الإنسان يحرم نفسه نعمة الله التي تقوّى في الضعف.

الفصل الثاني: كيف عاش يسوع المسيح على الأرض وماذا احتمل من أجلنا ؟

يشتمل ناموس الله على وصيّتين: (1- أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قدرتك. 2- وأحبب قريبك كنفسك) (لوقا27:10). ولكن ما وجد من تمم هذا الناموس تماماً إلاّ يسوع المسيح الذي، بإزاء ضياء قداسته التي تشع كالشمس الباهرة تبدو باهتة قداسة أقدس القديسين. لذلك يعسر علينا أن نصف أعماله، لكننا سنحاول بقدر الإِمكان أن نرى ما يعلنه لنا الإنجيل.

لم يوجد من الملائكة أو البشر من أحب الله مثلما أحبه يسوع المسيح. فقد كان يصلّي دائماً إلى الله أبيه ويقضي ليالي كاملة في عشرته على انفراد. وكان يمضي إلى أورشليم في كل عيد ويؤم في كل سبت المجمع حيث يجتمع الشعب للتعليم والصلاة. لقد مجَّد اسم الله في كل أعماله مسبِّحاً إياه في الخفية والعلانية.

لقد احترم والدته، وأطاع عائلته، واحترم الرؤساء والأكبر منه سناً، وواظب على دفع الجزية للإمبراطور الأرضي، بدون أن ينسى أن يتمم بكل سرور واشتياق وحرارة ومحبة وبلا تذمر، عمله الذي أتى إلى العالم من أجله. لقد أحب الجميع. وتمنى الخير للجميع وأحسن إلى الجميع، ولم يفتر عن إسعاد الجميع، محتملاً شكاية الشاكين وإهانة المعاندين، بوداعة وصمت ومحبة دون احتجاج أو غضب. لقد اضطهدوه وأهانوه وهو القادر أن يفنيهم بكلمة واحدة. لكنه أراد لهم كل خير. فأحسن إليهم وصلّى من أجلهم. وباختصار فإن يسوع لم يخطأ لا بالقول ولا بالفعل ولا بالفكر.

والآن دعنا نرى كيف تألم يسوع المسيح من أجلنا. لقد تنازل وأخذ جسدنا وصار إنساناً كاملاً في كل شيء ما عدا الخطيئة. إن الإله يخلي ذاته ويأخذ صورة العبد، وملك السماوات والأرض يولد فقيراً من أم فقيرة في كهف مظلم ويرقد في مذود للبهائم يعوله نجار فقير، ومعطي الناموس يتممه ويختن في اليوم الثامن من ولادته، وفادي العالم كله، تمضي به أمه إلى الهيكل لتفتديه، وواهب السلطان يهرب إلى مصر من وجه هيرودس الذي أراد أن يقتله. لقد رضي أن يطيع وهو المطاع، وأن لا يجد لرأسه مكاناً وهو المنعم على الجميع بكل الخيرات، وأن يخدم ويغسل أرجل تلاميذه وهو الذي يخدمه جند السماء.

يُشتم فيبارك أعداءه ويعلّمهم. يُدعى خاطئاً ومتعدياً الناموس وصديق العشّارين فيغفر ويسامح. أراد مقاوموه أن يلقوا به من الجبل فجاز في وسطهم. اعتبروا تعاليمه خداعاً يدِنهم. حسبوا قوته التي بها يقيم الموتى ويشفي الأمراض قوة الشيطان فحذّرهم من التجديف على روح الله.

كانت حياته سلسلة من الآلام والأحزان. تألم من الناس ولأجل الناس. وحزن لا لأنهم قاوموه، بل لأنهم يفقدون بذلك الخلاص الذي وهبهم إياه. تألم آلاماً خفية وظاهرة. فسمع أصواتهم مرتفعة بالسخط عليه وعلم فكر قلوبهم الشريرة نحوه. بل رأى أن الكثيرين ممن أحبوه ظاهرياً لم يؤمنوا به. تألم خاصة من الرؤساء والكهنة والكتبة الذين يعرفون مجيئه، ولكنهم يسلمونه للموت كمضلٍّ للشعب، ويوعزون إلى الناس أن يصلبوه ويطلقوا لصّاً عوضاً عن القدوس.

لقد سلّمه للموت أحد تلاميذه بقبلة غاشة وثمن بخس. ومع ذلك فهو وإن كان قد تألم من قوم، إلاّ أنه تألم من أجل جميع الخطأة من آدم إلى نهاية العالم، تألم من أجل أحبائه وأعدائه، تألم منا نحن الذين نهينه بكذبنا وحقدنا ومخالفتنا مثاله.

لقد قرّ قرار رؤساء الكهنة على قتل من يهب الحياة للموتى. ونحن لا نستطيع أن نتصوّر كم قاسى له المجد في الليلة الأخيرة من بعد أن تناول العشاء الأخير إلى أن أُسلم للجند. فقد تألم آلاماً داخلية لا يقدر أحد سواه أن يحتملها، وتساقط عرقه كقطرات دم وهو يصلّي في البستان.

حزنت نفسه بسبب حمل آثامنا من كثرة الخجل على خطايانا التي تراكمت على عاتقه. إنه يبكي إذ يرى تابعيه المرائين أمثال يهوذا، ويكتئب إذ يرى البعض لا يرفض أن يقتدي به فقط، بل ينغمس في الرذيلة والمعصية. إنه يتألم إذ يرى معلَّمين لهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها.

إن حبه لله الآب يتطلب منه أن يفني هذا العالم الشرير ويبيد هذا الجنس الجاحد، ولكن من جهة أخرى يدفعه حبه لأولئك الساقطين إلى أن يتألم من أجلهم ويخلّصهم من الهلاك الأبدي. وفي وسط هذه الأهوال يعبِّر يسوع عما يعتريه بقوله: (إن نفسي حزينة حتى الموت) (متى38:26).

ألقى الجند القبض عليه وقيّدوه كفاعل الشر وقادوه إلى أعدائه ليحكموا عليه، كما أن تلاميذه تركوه وهربوا بعيداً عنه. قدّموه إلى بيلاطس الوالي فأراد هذا أن يطلقه لكن رؤساء الكهنة هيّجوا الشعب لكي يطلق لهم بالحري باراباس اللص (مرقس11:15). أُسلم للجلد والهزء والسخرية، وتألم من الأشواك والمسامير والحربة. وشرب الخمر ممزوجة بالمرارة، وصُلب بين لصين على الخشبة، خشبة العار كمجرم أفّاك. ومات ميتة الخزي الشديدة.

كان يقدر أن ينجو من الموت، ولكنه سلَّم نفسه بإرادته وحده فديةً عنّا، وسمح للذين قبضوا عليه أن يتمموا عملهم بعد أن أرهبتهم حضرته وسقطوا على الأرض.

هذه لمحة عن آلامه من أجل محبته لنا، تلك الآلام التي لا تُدرك عظمتها، وهذه المحبة التي لا نرى حدوداً لها، إلاّ إذا أيقنّا بأن الإله الحقيقي، رب الكون وديّان الجميع يخلي ذاته ويشاء أن يتألم من أجل جنسنا.

الفصل الثالث: الطريق المؤدِّية إلى ملكوت السماوات

إن يسوع المسيح هو نفسه الطريق المؤدِّية إلى الملكوت السماوي، التي لا يسلك فيها إلاّ من تبعه. لذلك فهو يقول: (إن أراد أحد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني) (مرقس 34:8). ويعني بقوله: (إن أراد أحد أن يتبعني)، أنه لا يكره أحداً قط ولا يرغب أن يكون بين تلاميذه من لا يريد بإرادته أن يسلم إليه حياته تسليماً كلياً. أيها المسيحي إن خلاصك وهلاكك يتوقفان على إرادتك. إن يسوع المسيح لم يرتضِ أن يسلبك هبة الحرية الثمينة التي منحك إياها كي تسير في حياتك كما تشاء. فإن أردت أن تتبع يسوع المسيح فسرعان ما تجده يسدي إليك كل العون. أمّا إذا لم ترد فلن يجبرك أحد قط لأنك حر تفعل ما تشاء. لكن احذر أن تهمل دعوته إياك، تلك الدعوة المملوءة من كل محبة. إنه يقرع على باب كل قلب عسى أن يستيقظ أحد وتنمو في نفسه الرغبة في الخلاص.

إنك بحاجة إلى رغبة خالصة وعزم حقيقي لكي تتبع يسوع المسيح. ولن تتأتى لك تلك الرغبة حتى تعرف إلى أين تمضي وما تحتاج إليه في طريقك. لكن كيف تعرف ما لا تودّ معرفته وكيف تفهم ما قد سمعت عنه سماعاً سطحياً ؟ يجب قبل أن تتبع يسوع المسيح أن تتمم ما يأتي:

1- يجب أن تدرس أسس المسيحية، أعني الكتب المقدسة التي بُني عليها الإيمان الأرثوذكسي. ويجب أن تعرف أيضاً من كتبها ومتى كُتبت وكيف حُفظت حتى سُلِّمت إلينا. ثم لماذا تُسمّى كتباً إلهية مقدسة إلى غير ذلك من الأمور، على أن تدرس الكتب المقدسة ببساطة قلب وبلا تحامل أو نقد وبدون أن ترتئي فوق ما ينبغي أن ترتئي. فلا تتدخل في حكمة الله السامية.

إن مثل هذه الدراسة لا تتعارض مع الإيمان لأن من واجب كل مسيحي أن يعرف إيمانه معرفة تامة كيلا يتعرض للشك، فكم من المسيحيّين الذين اعتمدوا باسم المسيح قد هلكوا لأنهم لم يرغبوا في أن يتفهموا أسس الإيمان الأرثوذكسي. ولكن لا يمكن أن يؤدي الجميع هذا الواجب على السواء بل كل حسب قدرته. أمّا المتعلِّم فعليه أن يدرس الحوادث التاريخية التي تبرهن أصول الإيمان ونتائجه، وأمّا البسيط فعليه أن يتعلم على يدي الكهنة والمعلِّمين في الكنيسة، هؤلاء الذين تعهدوا بأن يكرّسوا حياتهم لهذا العمل.

2- عندما تدرك أن الكتب المقدسة هي كلمة الله التي أُعلنت لنا بواسطة الأنبياء والرسل وتوقن بأن الإيمان الأرثوذكسي قد بني عليها لا على أوهام مجرّدة أو خيالات، حينذاك لا تحاول أن تتطلع إلى ما أخفي عنك، ولا تنصت إلى أي تفسير طبيعي يبحث في ما لا يستطيعه العقل البشري، لكي يكون إيمانك حقيقياً وتنمو في الحق والفضيلة. (رومية 3:4- 24).

3- أخيراً حاول أن تحرِّك في نفسك الرغبة في تتميم تعاليم الكتاب المقدس. أمّا إذا لم تكن لك تلك الرغبة فانحنِ عند قدمي المخلِّص واطلب إليه بحرارة حتى يهبك إياها. وحينئذ لا تقاوم نعمة الله عندما تبدأ عملها لخلاصك.

ولتفسير ما سبق من كلام عن الإيمان نورد المثل الآتي:

تصوَّر بناء كبيراً مرتفعاً جداً يبلغ السماء علواً ومدخل البناء مختفياً وينتظر بجواره رفقاء يرشدون الراغبين في الدخول إلى طريق هذا المدخل، كما يعلمون في الوقت عينه كأطباء للمرضى وموزّعين للطعام الضروري للرحلة حتى ذروة هذا البناء. وتوجد في البناء سلالم عديدة لكي يكون لكل رحّالة أن يتسلّق سلّماً على انفراد. ولكن السلالم كلها ضيّقة وغير مريحة ومظلمة حتى أنه يتعذر ارتقاء درجة واحدة من درجاتها بدون المرشد وخاصة الدرجات الأولى.

إن هذا البناء من صنع أمهر البنائين وقد أنشأه ليمكِّن الناس من الصعود إلى ملكوت السماوات. وأنت توّد طبعاً أن تذهب إلى هذا البناء لتدخل إلى داخله وتصعد إلى السماء. لكن ماذا ينبغي أن تعمل ؟ ولا بد من أن تختبر البناء باحتراس وتسأل المرشدين عن كل شيء أي تسألهم عن البناء نفسه وكيفية الدخول إليه. وإذا استطعت أن تتعلم أكثر فادرس أساسات البناء واختبر قوة احتمالها. وإذا أردت أن تتعمق أكثر فاختبر المواد التي صُنع منها هذا الأساس.. وابحث في كل ما تراه عينك. وعندما تتأكد أن البناء سليم قوي يمكنه أن يحقق الغرض الذي من أجله قد بني، حينئذ لا تواصل أبحاثك بل دع آلات فحصك عند الباب لأنها لن تساعدك فيما بعد بل بالعكس قد تعيق عملك. ادخل البناء بدون ريبة أو تردد وسر بدون توقف أو خوف من صعوبة الصعود. في الحقيقة إن الصعود أمر شاق فعلاً وخاصة في الدرجات الأولى. ولكن لا تنسَ أنه يؤدي بك إلى السماء مباشرة، إلى تلك التي يطلبها الجميع وينشدها كل إنسان طيلة الحياة. إنك ستقابل داخل البناء مسافرين آخرين يرافقونك وأطباء كثيرين يعتنون بك لدى أي حادث يحدث وخداماً أمناء يقدمون لك الطعام اللازم لهذه الرحلة وأدلاّء مرشدين ومعلمين يخبرونك بكل ما يلزمك. إنك ستقابل كل هؤلاء حتى تلتقي بالسيد موجد البناء. فإن كنت تريد أن تمضي إلى نهاية رحلتك وتترقى في سلمك بخطى ثابتة، سلم نفسك تماماً لإرادة رب البناء ومنشئه.

لكن ألا تعتبر من قبيل العبث أن يحاول إنسان بكبرياء وبثقته بنفسه أو بمكابرته أن يفحص أعلى البناء، الذي يكون في الغالب محجوباً بالسحب، بدلاً من أن يفحص الأساس الذي يراه ؟ ألا تعتبر من قبيل الحماقة أن يرى المرء بعض أجزاء البناء بعيدة بُعد الشقة بين الأرض والسماء، وإذا لم يستطع أن يفحص جيداً ما يراه يحكم بعدم صلاح البناء كله ؟ ألا تعتبر من قبيل الإجرام أن لا يرى المرء شيئاً بمجرد أن يقترب من البناء ولكنه يبدأ ينتقد كل شيء فلا يحفل بالأسس التي وضعها رب البناء عند تصميمه بل يفكر في أسس وقواعد جديدة من وضع عقله ؟ ولا شك في أن الأكثر حماقة من كل هؤلاء هو ذلك الذي يقترب من البناء ويفقد كل رغبة لا في الدخول فقط بل في التطلع إليه.

فإن كنت تشتاق إلى أن تكون في المكان الذي يؤدي إليه هذا البناء، فاكتف بأن ترى الأساس سليماً قوياً. فإن البناء لم يصنع بأيدي الفنانين والعمال بل بيد البنّاء العظيم الذي بنفسه افتتح الطريق إليه وطهّره بدمه وسلكه أولاً. أمّا ما بقي من الأمور الأخرى كالتساؤل: لماذا لم يبنَ بغير هذه الطريقة أو لماذا بني هنا وليس هناك ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، فهو ليس مما يهمك الآن، إنما عليك أن تسلم نفسك لمشيئة رب البيت واثقاً بمعونته ومحبته لك.

وإذا طابقنا بين هذا المثل وبين المسيحية نجد أن البناء الذي يصل الأرض بالسماء هو إيماننا المسيحي الأرثوذكسي، وأن مهندس البيت وربه هو الرب يسوع المسيح، وأن خدمة البيت هم كهنة والمرشدون والمعلمون في الكنيسة.

والآن دعنا ننظر إلى الطريق التي ينبغي أن نتبع فيها يسوع المسيح. لقد قال: “من أراد أن يتبعني

1- فليكفر بنفسه

2- ويحمل صليبه

3- ويتبعني“.

الواجب الأول

إن أول واجبات المسيحي أي تلميذ يسوع المسيح أن يكفر بنفسه. ومعنى الكفر بالذات هو أن نقلع عن عادتنا الرديئة ونُخرج من القلب كل رباطات العالم، وأن لا نرحب بالرغبات الباطلة والأفكار الشريرة بل أن نطردها خارجاً. كما يجب أن نتجنب الفرص التي تؤدينا إلى الخطيئة غير راغبين فيما هو لذواتنا بل فيما يؤدينا إلى محبة الله. إن معنى الكفر بالذات هو كما يراه بولس الرسول: أن نموت عن الخطيئة والعالم لنحيا لله (رومية 11:6).

الواجب الثاني

أمّا ثاني واجبات المسيحي فهو أن يحمل صليبه، والصليب هو الآلام والأحزان والتجارب. وهو على نوعين: صليب خارجي وصليب داخلي. أمّا ما يُقصد بحمله فهو قبول واحتمال كل ما هو غير سار ومحزن وصعب (وذلك) بلا تذمر. فقد يقاومك إنسان ما أو يسخر منك أو يتعبك أو يؤلمك أو يحزنك أو يغضبك أو يقابل معروفك معه بالجحود. وقد لا تجد طريقة لإتمام عمل الخير الذي تريد أن تعمله، إذ قد يحل عليك سوء أو مرض أو احتياج بالرغم من أتعابك في الحياة، أو قد تتورط في صعوبة وتقع في مأزق حرج، فاحتمل كل هذا بلا حقد أو تذمر أو انتقاد أو اعتراض أي بدون أن تعتبر نفسك أنك قد اضطُهدت وبدون انتظار لجزاء أرضي. بل تحمَّل كل شيء بمحبة وفرح وثبات.

وليس معنى الصليب أن نحمل الصلبان التي تلقيها علينا ظروف الحياة والآخرون فقط بل أن نحمل نحن بالذات صلباننا أي أن نحمل نفوسنا صلباناً ونحتملها. وبما أنّنا مسيحيون، يجب أن نكون قادرين على أن ننذر نذوراً ونقطع وعوداً تثقل كواهلنا وتتعبنا، كما يجب أن نتحملها من كل قلوبنا على أن تتفق نذورنا وكلمة الله وإرادته وأن لا تكون حسب أفكارنا وأهوائنا. مثال ذلك أن نصنع الخير إلى جيراننا ونزور المرضى ونساعد من يحتاج إلى مساعدة عملية ونفتش عن الضالين بصبر ووداعة ونواظب على خدمة الجميع بالقول والعمل والصلاة. وإذا عاودك فكر غريب بأنك إذ تحمل الصليب قد أصبحت لست كسائر الناس لأنك ثابت في كلمة الله ومتديِّن، فبادر إلى استئصال هذه الأفكار (5) التي تحطم كل فضائلك.

إن ما سبق ذكره هي صلبان خارجية والرب يطوِّب من يحتملها بحكمة وطول أناة، إنه يرسل روحه القدوس ليقويه ويرشده ويقوده إلى الأمام. لكن هذه الصلبان الخارجية لا تكفي من يريد أن يشابه المسيح، ولا تفيد كثيراً من يريد أن يكون قديساً وتابعاً حقيقياً له. لذلك وجب حمل الصلبان الداخلية أيضاً لكي نصبح تلاميذ أمناء لمن سبق فاحتمل من أجلنا.

إن الصلبان الداخلية الحقيقية موجودة في كل وقت ويسهل حملها أكثر من الخارجية. وما عليك إلاّ أن تنتبه لذاتك وتفحص نفسك بروح التوبة والندامة فسرعان ما تحوم حولك آلاف الصلبان الداخلية. تساءل مثلاً: كيف أتيت إلى هذا العالم ؟ ولماذا تحيا وهل أنت تحيا كما ينبغي ؟ وهكذا انتبه لذاتك فتدرك لأول وهلة أنك خُلقت بيد الله العلي ووُجدتَ لكي تمجِّده بأعمالك وحركاتك وسكناتك وتعظم اسمه القدوس في قلبك ولسانك. ولكنك الآن تجدِّف عليه بحياتك الخاطئة. ثم تساءل: ماذا ينتظرك بعد الموت وفي أي جانب ستقف في يوم الدينونة الرهيب ؟ أعن يمين المسيح أم عن يساره ؟ وهكذا سرعان ما يبدأ يقلق بالك وترتعب.
رد مع اقتباس
قديم 28 - 05 - 2025, 11:37 AM   رقم المشاركة : ( 2 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,341,795

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: الطريق إلى ملكوت السماوات – للقديس اينوكنديوس كارزو ألاسكا

مشاركة
جميلة جدا
ربنا يبارك حياتك

  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
(مت 5: 3) ملكوت السماوات
ملكوت السماوات فهو ملكوت خلاص
ما هو ملكوت السماوات؟
قصة ملكوت السماوات
ملكوت السماوات


الساعة الآن 04:00 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025