بيلاطس والتخلص المزيف
في أواخر القرن الماضي كتب كاتب ألماني رواية رائعة عن مغسل بيلاطس، وفيها يصور أن هذا المغسل - بعد أن غسل بيلاطس يديه فيه - قد فقد. واتهم بعضهم يهوذا الاسخريوطي، بأنه سرقه، وباعه، ولكن الكاتب يبريء يهوذا الذي طرح النقود التي سلم بها المسيح في الهيكل، لكن المغسل مع ذلك ظل ينتقل من مكان إلى مكانومن جيل إلى جيل، فكل حاكم يدوس الحق، في سبيل نصرة حزبه، والوصول إلى الحكم يغسل يديه في هذا المغسل، وكل مواطن يعيش عالة على بلده دون أن يفعل شيئًا لخدمة البلاد، يغسل يديه في مغسل بيلاطس، وكل محرر يعلم الحق، ولكنه يسكت إرضاء للجماهير، دون أن يساعد على إظهاره، يغسل يديه في مغسل بيلاطس، وكل خادم دين يغض الطرف عن الشر إرضاء لنزوة أو نزعة تأتي من غنى أو صاحب نفوذ، إنما يغسل يديه في المغسل العتيد.. والمعنى واضح بين يصور كل تخلص مزيف يحاول فيه الآثم أن يغسل يديه من الجريمة التي يرتكبها، على غرار ما فعل بيلاطس البنطي وهو يسلم يسوع المسيح لمشيئة اليهود ليصلبوه، وهو الخداع الساذج للنفس إذ ينسى أن العبرة بالتصرف، دون التنكر أو التبرير الذي لا يصلح قط أمام الحقيقة والتاريخ اللذين أخذا بتلابيب الرجل في كل العصور، فكتب مقابل اسمه : «يسوع المسيح الذي حكم عليه بالموت علىيد بيلاطس البنطي» فإذا ظن الرجل أنه يستطيع أن يكتب تقريرًا إلى طباريوس قيصر على ما جاء في أقوال ترتليانوس ويوسابيوس، بالصورة التالية :
من بيلاطس البنطي إلى طباريوس قيصر لتكثر لكم التحية، كل شيء هاديء هنا، ومن الحق إن لي متاعبي مع هذا الشعب الجامح الذي لايحتمل ولكني لم أتخل قط عن السهر والحزم من جانبي، لكن الشيء الوحيد الذي أربكني هو تصرفي السابق مع يسوع بن داود، وكم أتمنى كثيرًا لو أن رجلاً أكثر حكمة كان في مكاني، حتى يستطيع أن يعطي التقرير الأفضل عن هذه الحركة الروحية بين هذا الشعب، فلو أن يسوع هذا كان يهوديًا عاديًا غيورًا أو ممن يجلبون المتاعب بأى صورة، فإن واجبي تجاه سيدي كان يقتضي اتخاذ الاجراء الحاسم في الحال، غير أن يسوع هذا الذي يدعونه المسيح أفضل عندي، ولخدمة الإدارة من كتيبة مسلحة بأكملها، إذ أنه أعظم الناس جميعًا رغبة في السلام وعدم التعدي، وأنا أفهم ما أقول، فلقد راقبته وراقبت تلاميذه وتلقيت عنهم التقارير في كل مكان وزمان، وأكثر من ذلك لقد أندسست أنا بنفسي في وسط الناس حتى أنظر بعيني ماذا يفعل، وسمعته يتكلم عن شيء اسمه الولادة الجديدة، وعجبت كيف لا يقبلونه مع ذلك، وإذا به يتكلم أنه مرسل إلى خراف بيت إسرائيل الضالة!! غير أن الشعب مع ذلك قدمه ليصلب وإذ خفت أن يحدث اضطراب أكثر لم أجد بدا من تسليمه للموت، وكل ما يهمني هو الحرص الكامل على إخضاع هذا الشعب للسيد الإمبراطور!! وإذا سمع سيدي شيئًا غير هذا، فلا يقبله أو يصدقه!!
مسكين بيلاطس، ومسكين كل من يغسل يديه في مغسلة أو يسير على منواله، فيحكم على المسيح وهو يعلم تمامًا أنه لا علة فيه على وجه الإطلاق!!