![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
ما هي الحرّية؟ يقول دوميري إن الإنسان كائن روحي يظهر كيانُه في ما يضفيه على أعماله من معانٍ وقيم. فأعماله كلّها والمعاني والقيم التي تتّسم بها لا تُفرض عليه آخر بل إنّما هي من إبداعه. لا شكّ أنّ هذا الكائن الروحي لم يخلق نفسه بنفسه، بل إن الله هو الذي خلقه. وهنا لا بدّ من تأكيد الفرق الجوهري بين الله الخالق والإنسان المخلوق، ومن ثمّ التأكيد أيضًا أنّ الله هو فوق كل كيان وكل ماهية وكل معنى وكل قيمة. لذلك، وإن كان قد خلق الإنسان، فقد خلقه كائنًا روحيًّا، أي إنّه قد ترك له أن يقوم بأعماله قيامًا شخصيًا ويضفي عليها المعاني والقيم التي بها يصير ما هو عليه ويتّحد بالله الذي منه استقى الكيان والوجود. فالإنسان كائن روحي بقدر ما يضطلع بذاته وبالعالم اضطلاعًا خاصًا به، وإن بالانسجام مع السبل التي بها يضطلع الآخرون بذواتهم وبالعالم، فينتج أنّ الإنسان هو الذي يعطى ذاته شريعة عمله ويحدّد الشروط الضرورية له، لكونه في آن واحد عقلاً يحقّق ذاتَه في ما يعقله، وجسدًا به يرتبط بالعالم الخارجي ليسوده. "فكلٌّ منّا بحسب قول دوميري، إنسانية متشعّبة. إنه، في آن واحد، كائن روحي ووعي لذاته في الزمن ومن خلال ما يدركه. في قمّته المطلق وعلى أقدامه العالم. أو بالأحرى الله حاضر فيه وإن كان عليه متساميًا، والكون متضمّن فيه وإن كان خارجًا عنه. أمّا الأنا فهو وظيفة الحضور إلى الذات على مدى المسير. إنّه في كل المستويات فيَ طرق يعاد تصحيحها باستمرار ولكن يضطلع هو نفسه بها. من دون هذا الأنا يصير كلٌّ منّا حتمًا عدة أشخاص. أمّا به فيبقى كل إنسان وحدة متعدّدة، بنية متشعّبة وموحَّدة في آنٍ واحد" هذا الفعل- الشريعة هو نفسه الحرّية التي يمكن التعريف بها أنّها "إرادة تضطلع بأهلها ضمن معطيات محدّدة". فلا وجو لحرية مطلقة: إنّما وجودها وعملها هما حتمًا ضمن معطيات تجد ذاتها فيها على مستويات مختلفة إمّا خارجًا عنها (كظروف الحياة واللقاءات والتأثيرات)، وإمّا داخلها (كالبنى النفسيهّ وردود الفعل عام أحداث الماضي). وهذه المعطيات لا وجود لها بالنسبة إلينا إلاّ ضمن بنية الوعي الإنساني؟ وكما أن الوعي الإنساني لا يكون وعيًا إلاّ لمعطيات معينة. لذلك يخطئ فهمَ الحرية الإنسانيّة من يظنّ أنّ الحرّية تبدأ عندما يتخلّص الإنسان من المعطيات السابقة. ففي أي عمل حرّ كلُّ شيء معطى وكلُّ شيء عمل الإرادة. الحرّية هي دومًا حرية ضمن معطيات وأوضاع معيّنة، ويعود إلى الحرّية تحويلها إلى ممكنات تخلق في إطارها ما تراه مناسبًا من معانٍ وقيم روحية لتحقيق ذاتها. فالحرّية تكمن إذاً في التحرّر في سبيل تحقيق الذات. إنّ الإنسان يحيا ويلتزم قضايا متنوّعة في حياته، إلاّ أنّه في التزامه يجب عليه تجنّب السقوط في شباك تلك القضايا لئلاّ تأسره في أطرها، لا بل عليه أن يعدّها سبيلاً إلى مزاولة حريته. إنّ الإنسان حرّ، أي إنّه يتحرّر في ما يقوم به من أعمال في تاريخ حياته وخبرة وجوده. لذلك يمكننا القول إنّ الإنسان هو الذي يعطي ذاته باستمرار هويته الخاصة التي هي الحرية. هذا التعريف بالحرّية نجده أيضًا عند الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، إلاّ أنّ هذا يرفض أن يكون للحرّية أساس خارجًا عنها، وينكر بالتالي وجود إله مطلق، أمّا دوميري فيرى أنّ الله هو مبدأ حرّية الإنسان، وهو فوق كل نظام وكل شريعة وكل قاعدة مسلكية، فالأنظمة والشرائع والقواعد المسلكية لا يمكن الإنسان أن يجدها قبله وقد جهّزها هوله، إنّما على الإنسان أن يحدّدها ويضعها بنفسه. وهكذا يجيب دوميري على خوف سارتر من أن يقيّد الاعتراف بوجود الله حرّية الإنسان أو يزيلها. النعمة ضمن الحرّية من هذا الملحظ لا تعود النعمة مساعدة فائقة الطبيعة تضاف إلى الحرّية من الخارج، بل إنّما تُكتَشف ضمن حرية الإنسان. فكيف نفسّر أنّ الحرّية لا يمكنها الاكتفاء بأيّ نظام تضعه وأنّها تجزع من فقدان ذاتها في ماتضعه، إن لم نعترف بأنّها تحمل في ذاتها اقتضاء المطلق؟ إنّ الحرّية تحيا في حالة ملتبسة لا يمكنها الخروج منها بقواها الذاتية، ولا يمكن الإنسِان أن يتجاوز وضعه إلاّ بالاعتراف بالمطلق واللامتناهي كمصدر للحرّية ومثال لها، والنعمة، كوحي من الله، هي ظهور هذين المصدر والمثال في التارّيخ، وهي في الإنسان مشاركته حرّيةَ الله المطلقة برفضه كل نظام سابق. وهكذا يصل دوميري إلى التعريف بالنعمة أنها "تحرير الحرّية". ويعطي مثالاً على ذلك من موضوع المحبّة فالمحبّة لا تقوم على محبّة الآخر حبًا بالله، فهذه أنانية، بل على محبّة الآخر على مثال الله، أي كما يحبّه الله، وهذا أكثر تطلّبًا. فالحرّية، يقول أوغسطينوس، هي حبّ الخير حبًّا ثابتًا وممتلكًا ذاته بحيث "يكون الإنسان حرّاً حقّاً عندما يصير موضوع غبطته الحرية ذاتها". فالحرّية تكون كافلة عندما يتصرّف الإنسان حبًّا بالغبطة المحرّرة التي تعتقه من الخطيئة، وتأتي بالتالي النعمة عبورًا داخليًا إلى الحرّية الكاملة. إنّ المحبّة، وتد حرّرتها النعمة، لا يمكنها الوقوع في المثالية، وإن اعتبرنا أنّها هي التي تحدّد موضوعها، إذ إنّها تتوجّه إلى العالم كما هو وإلى الناس كما هم. بيد أنّها إن توجّهت إلى العالم كما هو، فإنّها ترفض حدوده، وإلى الناس كما هم، فإنّها ترفض تصوّراتهم الضيّقة: "فالإنسان، يقول دوميري، يتجاوز ما لا يمكنه أن يستغني عنه". في تلك النظرة للنعمة نجد الجواب على الانتقادات التي يوجّهها الفلاسفة، من أمثال نيتشه وسارتر، إلى تدخّل الله في عمل الإنسان لإزالة حرّيته وإبداعيته ليس خارجًا عن الإنسان بل إنّ نعمته تعمل داخل إطار حرّيته ذاتها ومن خلالها وهي ليست عمل خلاص يأتي الإنسان من شخص آخر. إن المطلق ليسَ شَخصًا آخر، واعتبار الله كائنًا آخر يضع الله على مستوى الإنسان، في حين أنّه يسمُو فوق كل كيان وكل نظام. لذلك لا تناقض ممكن بين النظام البشري الطبيعي والنظام الإلهي، فالمطلق لا يقضي على النظام الطبيعي بل هو أساسه. واعتبار المطلق أساس النظام الطبيعي يمنع هذا النظام من الانغلاق على نفسه واعتبار ذاته مطلقًا، كما يمنع الإنسان "الذي يرغب رغبة لامتناهية في اللامتناهي" من فقدان تلك الرغبة في النظام الطبيعي غير المتناهي. - النعمة والاختيار الأساسي كل إنسان يختبر نقصًا في أعماله ومسافة دائمة بين ما يتوق إليه وما يحققه في واقع حياته، ويسأل نفسه هل حُكم عليه أن يعيش دومًا في هذا التناقض، أم أنّه يستطيع أن يكون له "اتّجاه أساسي" تسير حياته بموجبه، رغم حدودها ونقائصها، اتجاهٌ نحو الخير المطلق والسعادة الدائمة؟ ألا يمكنه اختيار ما يرى فيه الخير الأسمى اختيارًا جذريًا، بحيث تتحدّد بالنسبة إلى هذا الاختيار كل مسيرة حياته وإرادته العميقة وشخصيته الحقيقية وهويته الذاتية؟ إن اختيارات الإنسان في معظمها ليست اختيارات اعتباطية، فهناك اتجاه عام للحياة وهدف أساسي ونظرة شاملة يمكن إدراكها من خلال اختيارات الإنسان الفردية المتعددة. واستنادًا إلى الخبرة الإنسانية يمكن القول إنّ الإنسان يستطيع، متى توصّل إلى درجة كافية من النضج البشري، أن يوحّد ذاته في اختيار أساسي يوجّه كل اختياراته الفردية. وهذا الاختيار يدعى اختياراً، أنّ الإنسان لا يقوم به إلا ضمن معطيات محدّدة، فالحرّية، كما رأينا، لا وجود لها إلاّ ضمن معطيات معيّنة. وإنّه اختيار أساسي، لأنّه في الأساس من كل أعمال الإنسان الفردية ونشاطاته المتنوّعة، يعطيها قيمتها البشرية ومعناها الإنساني، وهو اتجاه جذري من ذات الإنسان بكاملها نحو كل ما هو إزاء الإنسان، العالم والآخرين، ومن خلال العالم والآخرين، نحو الحقيقة الإلهية، يوحّد كل الأعمال المحدودة التي يقوم بها الإنسان وكل العلائق التي تربطه بالآخرين في اتجاه واحد ونحو هدف واحد. إنّ الاختيار الأساسي أعمق وأشمل بكثير من "حرّية الاختيار" التي كانت تعتبر ميزة الإنسان الخاصة، فالحرّية ليست أمرًا نمتلكه لاختيار ما نشاء، إنما هي دعوة إلى التحرّر للوصول إلى "اختيار أساسي" ننمو من خلاله في الحرّية نموًّا يلازمنا العمر كله. وبمَا أن هذا الاختيار هو اختيار جذري، فلا يمكن أن يكون اختيارًا إلاّ بين أمرين، إمّا الانكماش على الذات بأنانية وإمّا الانفتاح على المطلق، أو، بتعبير آخر، إمّا اعتبار الإنسان ذاته مطلقًا وإمّا الإيمان بالله مطلقًا. فالنعمة هي عطاء الله ذاته للإنسان وفي الوقت نفسه اختيار الإنسان لله اختيارًا أساسيًا يوجّه من خلاله كلّ أبعاد حياته الشخصية وانخراطه في جميع شؤون العالم. أمّا رفض النعمة فهو اختيار الإنسان ذاتَه محورًا لكل شيء، وتلك هي الخطيئة الأساسية التي تظهر وتتشعّب خطايا متنوعة في حياة الإنسان. وارتداد القلب إلى الله هو الاختيار الأساسي الذي يدعونا إليه المسيح: "فمن القلب تخرج الأفكار الشريرة، والقتل، والزنى، والفسق، والسرقة، وشهادة الزور، والتجديف" (متى 15: 19). وكل هذه قد تكون أمرًا عابرًا في حياة الإنسان، في حين يبقى قلبه اختيارًا للنعمة. أمّا إذا أصبحت حالة اعتيادية يعيش فيها، فاختياره الأساسي يضحي اختيارًا للأنانية ورفضًا للنعمة، وإذّاك يمكن القول عنه إنّه يعيش في "الخطيئة المميتة"، لأنّه أمات فيه اختيار الله والنعمة. إنّ تغيير الاختيار الأساسي ممكن. فالسقوط من حياة النعمة إلى حياة الخطيئة أمر ممكن، كما أنّ الارتداد إلى اختيار أساسي إيجابي أيضًا ممكن. إلاّ أنّ هذا التغيير لا يحدث في معظم الأحيان بطريقة فجائية، بك يهيّأ له طوال سنوات، وكأنّ الإنسان يسمح لاختيار أساسي آخر أن ينمو شيئًا فشيئًا في ذاته إلى جانب اختياره الأساسي الأوّل، إلى أن يزيله ويحلّ محلّه. 3- النعمة "تجليّ" الله ء) ماذا تعنى لفظة "تجلّي"؟ يقول بولس في رسالته إلى الرومانيين: "إنّ غضب الله يعتلن من السماء على كل كفر وظلم للناس الذين يعوقون الحق بالظلم. لأن ما قد يعرف عن الله واضح لهم، إذ إنّ الله هو نفسه قد أوضحه لهم. فإنّ صفاته غير المنظورة ولا سيّما قدرته الأزلية وألوهته تُبصر منذ خلق العالم مُدرَكة بمخلوقاته" (رو 1: 18- 20) واستنادًا إلى هذا القول أكّد التقليد المسيحي أنّ الإنسان يستطيع الوصول إلى معرفة الله من خلال المخلوقات التي تتجلّى فيها "صفات الله غير المنظورة". وقد بيّن الفلاسفة من جهتهم أنّ الكائن الأسمى يتجلّى من خلال الكائنات، والمطلق من خلال النسبي. فلفظة "تجلّي" تعني حضورَ غير المنظور حضورًا منظورًا، إلاّ أنّ غير المنظور بحضوره في العالم يبقى غائباً عنه، فهو حاضر وغائب في الوقت نفسه، حاضر من خلال تجلّيه. و يمكننا إدراك مفهوم "تجلّي الكائن" من العلاقة بين الكلمة والفكرة. فالفكرة تتجلّى في الكلمة، إلاّ أنّ هذا التجلّي يتّم بسمتين متلازمتين. فالسمة الأولى هي أنّ الفكرة ليست أمرًا مكتملاً داخل فكر الإنسان يبرز إلى خارجه بواسطة الكلمة، وإلاّ صارت الكلمة غريبة عن الفكرة وبعيدة عنها، إنّما الفكرة حاضرة في الكلمة حضورًا مباشرًا دون وسيط، لأنّ الوسيط يكون بين أمرين متميّزين أحدهما عن الآخر. امّا السمة الثانية فهي أنّ الكلمة لا يمكنها أن تستنفد الفكرة وتستنفد حضورها، فالفكرة تبقى أكثر اتّساعًا من الكلمة، ويبقى فيها عنصر غائبًا عن الكلمة. هكذا يتجلّى الكائن والمطلق والله، متّسمًا بهاتين السمتين: فتجلّيه ليس غريبًا عن كيانه، إنّما هو كيانه بالذات الحاضر في تجلّيه، وتلك هي السمة الأولى؛ ثمّ إنّ تجليه لا يستنفذ كيانه كلّه، إذ إنّ الكيان الذي يظهر لنا إنّما هو كيان المطلق والله ذاته، ولكن من إنّه يتجلّى، اي إنّه يبقى حتمًا فرق وبعد ومسافة بيت الكائن في ذاته وتجلّي هذا الكائن، وتلك هي السمة الثانية. وللتعبير عن الطريقة التي يظهر فيها الكائن والمطلق والله، وعن السمتين اللتين يتّسم بهما ظهوره، استخدم بعض الفلاسفة المعاصرين لفظة "السلبيّة" أو "النفي"، لا لينفوا، في التجلّي، هوية الكائن الذي تجلّى لنا، بل ليعبّروا عن الطريقة التي يمكن الكائن المطلق أن يظهر بها في الكائنات وعنّ السمتين اللتين يتّسم بهما حتمًا ظهوره. وهكذا لا يمكن اللامتناهي أن يظهر إلا متناهيًا، والواحد متعدّدًا، والأزلي زمنيًا، ولا يمكن المطلق أن يتجلّى إلاّ في "تلاشي ذاته". ب) تجلّي الله إنّ مفهوم "السلبية" أو "النفي" في الفلسفة المعاصرة يذكّرنا بأسلوب النفي الذي نهجه آباء الكنيسة الشرقية في حديثهم عن إمكان تكلّمنا عن الله. فقد أعلنوا أنّ ما نقوله عن الله لا يمكنه أن يني بكامل سره، لأنّ الصفات التي نصف بها الله، كالصلاح والمحبّة والخلود وغيرهما، إنّما مما مستقاة من عالمنا البشري، لذلك لا تصلح لوصف الله إلاّ إذا أكّدنا، ونحن نستعملها، أنها لا تزال بعيدة عن إدراكه تعالى، فالله أسمى من كل ما يمكننا أن نقوله عنه، أصل من كل فكر وقول. إنّ ما أكَّده الآباء الشرقيون في ما يمكننا أن نقوله عن الله يؤكّده الفكر المعاصر في تجلّي الله لنا. فالله، وإن ظهر في الكون وفي تاريخ الخلاص، إلاّ أنّه لا يزال في ذاته أوسع بكثير ممّا ظهر لنا، فإنّه قريب منّا وبعيد عنا في آن واحد، وهو نفسه الذي يظهر، ويكل قط من خلال تجلّيه، بمَا في هذه اللفظة من إيجاب ونفي، من حضور وغياب. هكذا ظهر لنا الله في الكتاب المقدّس، في العهد القديم ثمّ في الجديد في شخص يسوع المسيح، وهكذا يظهر لنا في الكنيسة، وهكذا يظهر لنا في الإيمان. تجلّي الله في المسيح إنّ الله قد تجلّى لنا في الكتاب المقدّس بواسطة الوحي الذي نقل إلينا كلام الله. إلاّ أنّ الكلام الذي نقرأه في الكتاب المقدّس لا يمكننا أن نعتبره الوسيط الذي ينقل إلينا كلام الله الموجود منذ الأزل مكتملاً عند الله، إنّما هو في ذاته كلام الله، فيه يتجلّى بمَا في لفظة التجلّي من إيجاب ونفي، من قرب وبعد، من مطابقة وفرق. وفي النفي والبعد والفرق ينفتح المجال لتفسير هذا الكلام، وينشأ "علم التفسير". ونجد التفسير داخل الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّمَا بين العهد الجديد والعهد القديم. فالعهد الجديد رأى في شخص يسوع المسيح بّحلّي الله نفسه، وكل ما قاله العهد القديم عن الله رآه العهد الجديد في شخصا يسوع: فهو الحكمة، وهو النور، وهو خبز الحياة، وهو الماء الحي، وهو الراعي، وهو الملك، وهو الطريق والحق والحياة، فيه "تمّت الكتب المقدسة" (لو 4: 21)، وفيه صار "ملكوت الله في ما بيننا" (لو 17: 21). وإن ظهور الله في المسيح كان ظهررًا في التلاشي على قول بولس الرسول: "هو القائم في صورة الله.. لاشى ذاته آخذا صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، باب موت الصليب" (في 2: 6- 8). إنّ السرّ الفصحي هو الكلمة الأخيرة في تجلّي الله، لذلك لا يمكننا بعد المسيح انتظار نبيّ آخر يتجلّى الله من خلاله، فكل ظهور لله هو ظهور للمسيح. وهكذا تبدو لنا الكنيسة تجلّي المسيح. تجلي المسيح في الكنيسة تجد الكنيسة في الكتاب المقدّس نشأتها وحقيقتها، وتتكوّن ارتكازًا على أبعاد ثلاثة هي ذكرى المسيح وتفسير الكتاب وانتظار المجيء الثاني، وفيها يتجلّى المسيح في الكنيسة في حضوره وغيابه. فالمسيح الذي نجدّد ذكراه في الكنيسة التي هي استمرار لحضوره، هو في وقت واحد حاضر بيننا وغائب عنّا على مدى التاريخ. والتفسير الذي به تطبّق الكنيسة كلام الله على العالم في تحوّله الدائم يتضمّن حضور الله وغيابه. أمّا البعد الثالث فهو ترقّب المجيء الثاني وانتظار حضور المسيح الدائم، وهو يتضمّن الغياب على مدى الزمن. هكذا فالكنيسة هي تجلّي المسيح، صورته الواقعية، من غير أن تستنفده. إنّه يتجلّى من خلالها شرط أن تكون دومًا منفتحة على سر الذي لا يمكنها أن تحيط به أو أن تمتلكه. تجلّي الله في المسيح إنّ الله قد تجلّى لنا في الكتاب المقدّس بواسطة الوحي الذي نقل إلينا كلام الله. إلاّ أنّ الكلام الذي نقرأه في الكتاب المقدّس لا يمكننا أن نعتبره الوسيط الذي ينقل إلينا كلام الله الموجود منذ الأزل مكتملاً عند الله، إنّما هو في ذاته كلام الله، فيه يتجلّى بمَا في لفظة التجلّي من إيجاب ونفي، من قرب وبعد، من مطابقة وفرق. وفي النفي والبعد والفرق ينفتح المجال لتفسير هذا الكلام، وينشأ "علم التفسير". ونجد التفسير داخل الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّمَا بين العهد الجديد والعهد القديم. فالعهد الجديد رأى في شخص يسوع المسيح بّحلّي الله نفسه، وكل ما قاله العهد القديم عن الله رآه العهد الجديد في شخصا يسوع: فهو الحكمة، وهو النور، وهو خبز الحياة، وهو الماء الحي، وهو الراعي، وهو الملك، وهو الطريق والحق والحياة، فيه "تمّت الكتب المقدسة" (لو 4: 21)، وفيه صار "ملكوت الله في ما بيننا" (لو 17: 21). وإن ظهور الله في المسيح كان ظهررًا في التلاشي على قول بولس الرسول: "هو القائم في صورة الله.. لاشى ذاته آخذا صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، باب موت الصليب" (في 2: 6- 8). إنّ السرّ الفصحي هو الكلمة الأخيرة في تجلّي الله، لذلك لا يمكننا بعد المسيح انتظار نبيّ آخر يتجلّى الله من خلاله، فكل ظهور لله هو ظهور للمسيح. وهكذا تبدو لنا الكنيسة تجلّي المسيح. تجلي المسيح في الكنيسة تجد الكنيسة في الكتاب المقدّس نشأتها وحقيقتها، وتتكوّن ارتكازًا على أبعاد ثلاثة هي ذكرى المسيح وتفسير الكتاب وانتظار المجيء الثاني، وفيها يتجلّى المسيح في الكنيسة في حضوره وغيابه. فالمسيح الذي نجدّد ذكراه في الكنيسة التي هي استمرار لحضوره، هو في وقت واحد حاضر بيننا وغائب عنّا على مدى التاريخ. والتفسير الذي به تطبّق الكنيسة كلام الله على العالم في تحوّله الدائم يتضمّن حضور الله وغيابه. أمّا البعد الثالث فهو ترقّب المجيء الثاني وانتظار حضور المسيح الدائم، وهو يتضمّن الغياب على مدى الزمن. هكذا فالكنيسة هي تجلّي المسيح، صورته الواقعية، من غير أن تستنفده. إنّه يتجلّى من خلالها شرط أن تكون دومًا منفتحة على سر الذي لا يمكنها أن تحيط به أو أن تمتلكه. تجلّي المسيح في الإيمان الإيمان في نظر اللاهوت التقليدي اعتناف لحقيقة الله وحقيقة المسيح. وفي العقائد الإيمانية لا يتوقّف إيماننا عند التعبير العقائدي بل يتخطّاه إلى الله والمسيح اللذين هما موضوع الإيمان. إلاّ أن الحقيقة تُعتبر اليوم، ولا سيّمَا ابتداء صت من الفيلسوف هَيْدِغِر، إمكان الإطّلاع على الكائن من خلال تجلّيه: فهي ليست المطابقة التامة بين ما في فكرنا وما هو خارج عنّا، بين الذات والموضوع، بل اكتشاف الكائن في ظهوره. إنّ الكائنات كلّها تتجلّى أمامنا وتبرز بكيانها. والمعرفة تقوم على أن ندع الأشياء تظهر في كيانها. والإنسان الذي يعرف هو الإنسان هو الإنسان الذي يشهد ظهور الكائنات. والكلام ليس ما يتيِح للإنسان أن يعبّر تعبيراً كاملاً عن العالم والكائنات، بل هو الطريقة التي يكون فيها الإنسان بالنسبة إلى العالم. فإذا نظرنا إلى الإيمان نظرتنا إلى الكائن الذي يظهر ويشهد الإنسان ظهوره، بدا لنا الإيمان موضع تجلّي المسيح وتجلّي الله بالمسيح. ففي إيمان المسيح يتجلّى الله، وفي إيمان الكنيسة يتجلّى المسيح، وفي رجائها يتجلّى ملكوت الله، وفي محبّتها تتجلى محبّة الله. وفي كلٍّ من إيمان الكنيسة ورجائها ومحبتها نلاحظ معاً وجود القرب والبعد، الحضور والغياب. فالمسيح يتجلّى في الكنيسة المؤمنة، إلاّ أن الكنيسة لا تستنفد حضوره، والملكوت يتجلّى في الرجاء المسيحي، إلاّ أنّ هذا الرجاء لا يستنفد حضور الملكوت، ومحبّة الله تتجلّى في محبّتنا للقريب، إلاّ أنّ هذه المحبّة لا تستنفد حضور محبّة الله. |
![]() |
|