![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
![]() تدبير الخلاص بين علم اللاهوت والتدبير والروحيات: لابد من الإشارة إلى حقيقة هامة في خدمة ذهبى الفم، وهى أنه لا يخلط فكره اللاهوتى بالفلسفة، وذلك رغم تتلمذه على ألمع فلاسفة عصره ليبانيوس الذي درس الفلسفة والبلاغة والخطابة في أثينا، وأسس مدرسة في إنطاكية وتهافت عليها الطلاب، ومن بينهم يوحنا ذهبى الفم وكان ذلك حوالى سنة 354. كان القديس باسيليوس من أشد المعجبين بفصاحة ليبانيوس، وهكذا تتلمذ ذهبى الفم لذلك الخطيب المفوه والعلامة المحيط بثقافة عصره، وقد فضّل يوحنا جهالة الصليب على فلسفة الأوثان، ومع ذلك احتفظ بمنهج الخطابة والوضوح في عرض الأفكار والدراية بقضايا الإنسان، فجاء لاهوته متجذرًا في قضايا الأرض وهموم الإنسان. ويلاحظ الباحث أن أغلب مشاكل قديسنا كانت نتيجة تدخله في قضايا الحياة اليومية، ومقاومة الظلم وتبكيت المفسدين في الأرض وانحيازه للإنسان. ومن بين أعمق العظات التي ألقاها القديس يوحنا ذهبى الفم، نجد مجموعة العظات الخمس التي ألقاها في إنطاكية (380ـ387م)، وفيها يرد على بقايا الآريوسية المتطرفة؛ وهم الأقنوميون. وخطورة هذه البدع أنها تفصل الله عن الناس وتحاول تفسير جوهره فلسفيًا، والفارق الكبير بين الاقتراب الفلسفى من قضية الله والاقتراب اللاهوتى، هو أن الفلسفة تفحص جوهر الله بدون أى صلة بالإنسان، وبدون الاهتمام بالخلاص والتجسد، لأن الهدف منصب أكثر على تفسير جوهر الله منه على اتصاله بالعالم. فالفيلسوف لا يسأل التاريخ عن معانى اللاهوت، والأكثر من ذلك فهو لا يصلى؛ أى لا يُخضع العقل للروح. ولهذا يأخذ هذه العظات وأهميتها، من أنها يعتبر المدخل اللاهوتى الصحيح للحديث عن الخلاص. والقديس يوحنا لا يخلط اللاهوت بالفلسفة كما سبق وأكدنا، ولعله من الآباء القليلين الذين لا يخلطون اللاهوت بالفلسفة. ونود الإشارة إلى أن العلماء درجوا في الحديث عن سر التدبير، على الحديث عن الثيؤلوجيا (علم اللاهوت) والإيكونوميا (التدبير) فقط، بينما كل شئ بالثالوث يكمل، فلابد من إضافة البنفماتولوجيا (أي الروحانية). فالثيؤلوجيا تخص الله في جوهره أى اللاهوت، والإيكونوميا تتعلّق بالابن الوحيد في تجسده، والبنفماتولوجيا هى الروح القدس؛ في أنه ناقل بركات الخلاص وصانع اللاهوت. وهذا البعد الثالوثى للتدبير واضح عند ذهبى الفم، وهو يؤكد ذلك انطلاقًا من شرحه لعمل الروح القدس في الكنيسة، وذلك في شرحه لإنجيل الحبيب يوحنا والإصحاح السادس عشر ويقول [ إذا كان الروح القدس سيعلم عن الناموس وبطلانه، فهذا علم به الأنبياء، وإذا كان سيتكلم عن لاهوت المسيح (الثيؤلوجيا) وتدبيره (الايكونوميا)، فهذه الأمور سمعنا عنها الكثير، ولكن الروح القدس (البنفماتولوجيا) سيعلن لنا الأمور الآتية][1]. وهنا تتكامل الثيؤلوجيا أى اللاهوت فيما يخص الآب وجوهره وطبيعته مع التدبير، أي التجسد والفداء ومسيرة شعب الله التاريخية، والبنفماتولوجيا أى عمل الله في المسيح بالروح القدس في الكنيسة والإنسان والكون، ويؤكد على الإرادة الواحدة في الثالوث. ونص "أن الله لا يمكن إدراكه" من النصوص الهامة في هذا الصدد؛ أولاً لأنه كُتب في فترة عصيبة من تاريخ الكنيسة، ثانيًا: لأن الذي كتبه كتبه بحس الراعى والخادم، وهذا يشكل أعمق ملامح تدبير الخلاص عند ذهبى الفم أنه يقدم سر الله بشكل رعوى عميق وسلس، ولا ينسى الهدف الأساسى وهو خلاص النفوس، وهذا يعود إلى أنه خادم اختلط بالناس وعاش همومهم ورفع عنهم الصلوات... نحن أمام نموذج لما أسميه (لاهوت الواقع، لاهوت المبادرات). وهذا الجانب العملى والحياتى، يؤكده اليوم أكثر علماء اللاهوت عقلانية؛ العالِم الألمانى باسيل شتودير في مؤلفه العلمى الضخم[2]. يؤكد على أن البحث النظرى وحده لا يكفى لمعرفة إيمان الكنيسة الأولى بالمسيح (الذي يريد أن يُكوّن فكرة حقيقية على فكر المسيحيين في الكنيسة الأولى وعلاقتهم بيسوع وتسليمهم حياتهم له، لابد أن لا يكتفى بإعلان الإيمان، وما يرتبط به من فكر لاهوتى، ولكن يجب أيضًا أن يضع في اعتباره هذا المجال الحياتى الذي نسميه الروحانية والتقوى المسيحية، ويجب أن نعى موقف هؤلاء المسيحيين من قضايا الوجود الإنسانى). وهذا معناه أن البنفماتولوجيا صارت في خدمة الإيكونوميا التي تعلن لنا مقاصد الثيؤلوجيا، وهذا يعنى ببساطة أن الروح القدس مازال عاملاً في الابداعات اللاهوتية التي تلتقى وهموم الإنسان المعاصر، ولا تتعارض مع العمق اللاهوتى والقصد التدبيرى، [ولا يخفى على الدارس المدقق، أن الفكر المسيحى لم يكن دائمًا ثالوثيًا بسبب التركيز على شخصية الابن في وسط يذكرنا دائمًا بآريوس وأنصاره][3]. ونعود إلى رؤية ذهبى الفم للاهوت[4]. ويستهل قديسنا عظاته بالحديث عن سمو المحبة وبطلان العلم [ بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى. بحقك، بماذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى؟ قل لى، بماذا؟ أبسلطان إحياء الموتى، أم بسلطان تطهير البرص، أم بسلطان طرد الشياطين؟ كلا، فقد قال المسيح معرضًا عن ذلك كله: " بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى، إذا ما أحببتم بعضكم بعضًا…" فإن تزول موهبة النبوة، وتضمحل موهبة الألسنة، فهذا أمر لا يثير أى مشكلة، لأن هذه النعم قد وضعت تحت تصرفنا لفترة ما، ويمكن أن تتوقف دون إلحاق أى ضرر بالكرازة. فاليوم لا تقع على أثر لموهبة النبوة والألسنة، ومع ذلك لم توقف الكلمة المقدسة ][5]. ويُتهم بالحماقة من يدعى أنه يمتلك العلم كله[6]. ثم يصل إلى هدفه الأساسي وهو معرفة جوهر الله [ أن الإصرار على معرفة الله في جوهره هو قمة الجنون ][7]. ويستشهد بالأنبياء (إش8:53) وحتى الملائكة لا يمكنها إدراك جوهر الله، ويؤكد حقيقة لاهوتية ورعوية هامة جدًا وهى [ أننا لا نملك في الحديث عن الله سوى تعابير بشرية ][8]. وهنا نصل إلى البداية الصحيحة لتدبير الخلاص، وهى أن تتحول لغتنا وأعمالنا ومواقفنا الحياتية اليومية إلى تدبير بالروح القدس، أى بالابنفماتولوجيا "دبر حياتنا كما يليق"، كما تصلى الكنيسة في الأواشى، ونستطيع أن نفسر الصلاة تفسيرًا صحيحًا وليس فقط ماديًا (دبر حياتنا بكل تفاصيلها الأرضية كما يليق بلاهوتك وبإعلاناتك السماوية،) ونشير هنا إلى أن العلم اللاهوتى الآبائى لا يبحث في جوهر الله، بل يبحث في تدبير الله وعمله في تاريخ الناس (الإيكونوميا) |
![]() |
|