![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() العودة إلى الله بهذا الأصحاح ينتهي القسم الخاص بالعتاب العلني في داخل الهيكل. إن كان في الأصحاح السابع يتحدث عن تقديس البيت الداخلي، وفي الثامن عن عدم الاتكال على حفظ الشريعة حرفيًا، وفي التاسع يقيم مرثاة على ما وصلوا إليه، ففي العاشر يتحدث عن العودة إلى الله. 1. ترك الوثنية الباطلة: 1 اِسْمَعُوا الْكَلِمَةَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ عَلَيْكُمْ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ. 2 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «لاَ تَتَعَلَّمُوا طَرِيقَ الأُمَمِ، وَمِنْ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ لاَ تَرْتَعِبُوا، لأَنَّ الأُمَمَ تَرْتَعِبُ مِنْهَا. 3 لأَنَّ فَرَائِضَ الأُمَمِ بَاطِلَةٌ. لأَنَّهَا شَجَرَةٌ يَقْطَعُونَهَا مِنَ الْوَعْرِ. صَنْعَةُ يَدَيْ نَجَّارٍ بِالْقَدُومِ. 4 بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُزَيِّنُونَهَا، وَبِالْمَسَامِيرِ وَالْمَطَارِقِ يُشَدِّدُونَهَا فَلاَ تَتَحَرَّكُ. 5 هِيَ كَاللَّعِينِ فِي مَقْثَأَةٍ فَلاَ تَتَكَلَّمُ! تُحْمَلُ حَمْلًا لأَنَّهَا لاَ تَمْشِي! لاَ تَخَافُوهَا لأَنَّهَا لاَ تَضُرُّ، وَلاَ فِيهَا أَنْ تَصْنَعَ خَيْرًا». 6 لاَ مِثْلَ لَكَ يَا رَبُّ! عَظِيمٌ أَنْتَ، وَعَظِيمٌ اسْمُكَ فِي الْجَبَرُوتِ. 7 مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا مَلِكَ الشُّعُوبِ؟ لأَنَّهُ بِكَ يَلِيقُ. لأَنَّهُ فِي جَمِيعِ حُكَمَاءِ الشُّعُوبِ وَفِي كُلِّ مَمَالِكِهِمْ لَيْسَ مِثْلَكَ. 8 بَلُدُوا وَحَمِقُوا مَعًا. أَدَبُ أَبَاطِيلَ هُوَ الْخَشَبُ. 9 فِضَّةٌ مُطَرَّقَةٌ تُجْلَبُ مِنْ تَرْشِيشَ، وَذَهَبٌ مِنْ أُوفَازَ، صَنْعَةُ صَانِعٍ وَيَدَيْ صَائِغٍ. أَسْمَانْجُونِيٌّ وَأُرْجُوَانٌ لِبَاسُهَا. كُلُّهَا صَنْعَةُ حُكَمَاءَ. 10 أَمَّا الرَّبُّ الإِلهُ فَحَقٌّ. هُوَ إِلهٌ حَيٌّ وَمَلِكٌ أَبَدِيٌّ. مِنْ سُخْطِهِ تَرْتَعِدُ الأَرْضُ، وَلاَ تَطِيقُ الأُمَمُ غَضَبَهُ. 11 هكَذَا تَقُولُونَ لَهُمْ: «الآلِهَةُ الَّتِي لَمْ تَصْنَعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ تَبِيدُ مِنَ الأَرْضِ وَمِنْ تَحْتِ هذِهِ السَّمَاوَاتِ» 12 صَانِعُ الأَرْضِ بِقُوَّتِهِ، مُؤَسِّسُ الْمَسْكُونَةِ بِحِكْمَتِهِ، وَبِفَهْمِهِ بَسَطَ السَّمَاوَاتِ. 13 إِذَا أَعْطَى قَوْلًا تَكُونُ كَثْرَةُ مِيَاهٍ فِي السَّمَاوَاتِ، وَيُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. صَنَعَ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ، وَأَخْرَجَ الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ. 14 بَلُدَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ. خَزِيَ كُلُّ صَائِغٍ مِنَ التِّمْثَالِ، لأَنَّ مَسْبُوكَهُ كَذِبٌ وَلاَ رُوحَ فِيهِ. 15 هِيَ بَاطِلَةٌ صَنْعَةُ الأَضَالِيلِ. فِي وَقْتِ عِقَابِهَا تَبِيدُ. 16 لَيْسَ كَهذِهِ نَصِيبُ يَعْقُوبَ، لأَنَّهُ مُصَوِّرُ الْجَمِيعِ، وَإِسْرَائِيلُ قَضِيبُ مِيرَاثِهِ. رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. أول وسيلة للعودة إلى الله هو ترك الوثنية الباطلة [1-2]، رفض ما هو باطل وقبولالإله الحق [10]. أبرز أن الله فريد، وعظيم، ومهوب، سيد الطبيعة، ورب التاريخ، بينما عبادة الأوثان مجرد وهم، حيث يرتعب عابدوها من ظواهر الكواكب السماوية كما من قطعة خشب من عمل أيديهم، يقيمونها تمثالًا يتعبدون له، في حقيقتها أشبه باللعين (خيال المقاتة) التي يحركها الفلاح أينما أراد ليخيف الطيور، وهي في حقيقتها ليست إلا عصا جامدة، يضع عليها الفلاح ملابس بشرية. "هكذا قال الرب: لا تتعلموا طريق الأمم. ومن آيات السموات لا ترتعبوا، لأن الأمم ترتعب منها... أما الرب الإله فحق؛ هو إله حيّ وملك أبدي. من ُسخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه" [1-10]. جاءت كلمة "تتعلموا" في العبرية itlmadu وتعني "تصيرون تلاميذًا". وكأن العبادة في الحقيقة هي تلمذة، حيث يحمل التلميذ روح معلمه، فمن يتتلمذ للباطل يحمل روح البطلان، ومن يتتلمذ للسيد المسيح الحق، يحمل روحه وحقه فيه. إن كانت العبادة الوثنية قد اُنتزعت من الأرض إلى حدٍ ما، لكنها لا تزال ُتمارس في حياة الكثيرين. عندما يتعبد إنسان ما للمال أو محبة المجد الباطل أو العلم أو حب السلطة، متجاهلًا احتياجات نفسه إلى التعرف على الله والالتصاق به، يبحث بطريق أو آخر أن تشبع نفسه، فيقيم في هيكل الرب الداخلي آلهة غريبة عاجزة عن أن ُتشبع حياته وتنطلق بها إلى السموات. إنها تشبه الشجرة التي يقطعونها من الوعر، يقيم منها النجار بآلاته تمثالًا، ويزينونها بالذهب الذي يجلبونه من أوفاز والفضة من ترشيش، يتعبدون لها وهي عاجزة حتى عن الحركة، بل تحتاج إلى مسامير لتثبيتها وعدم سرقتها، وإلى أناس يحملونها، لا تقدر أن تتكلم. يسافر الإنسان إلى ترشيش لكي يجلب فضة يطرقونها، وإلى أوفاز يشتري ذهبًا ليزنونها. ُيلبسونها الإسمانجوني والأرجوان ليقدمونها في شكل ملوكي. لكنها مع كل ما تحمله من شكل جميل ومعادن نفيسة ومظهر ملوكي إلا أنها شجرة جافة، وقطعة خشب لا قيمة لها: "أدب أباطيل هو الخشب!" [8]، وكما يترجمها البعض "تمثال خشب، تعليم لا قيمة له!". إنها تماثيل لا حياة فيها ولا جدوى منها، تحتاج إلى من يعينها، لا أن تعين عابديها. لا وجه للمقارنة بين الله وبين الآلهة الأخرى، إذ يقول: "ليس مثلك!" [6]. أ. "أما الرب الإله فحق" [10]؛ من يلتصق به يصير حقًا ولا يدخل إليه البطلان، لهذا يقدم لنا السيد المسيح نفسه قائلًا: "أنا هو الحق" (يو 14: 6)، نقتنيه فنحمل الحق فينا، ولا يقدر الباطل أن يتسلل إلينا. أما من يلتصق بالآلهة الباطلة أو يتعبد لمحبة الأرضيات فيصير باطلًا، ولا يطيق محبة الحق (2 تس 2: 10). ب. "إله حيّ" [10]؛ كائن نتعامل معه في علاقة شخصية، نجد في الله الآب أبينا الذي يحملنا في أحضانه، ويتعامل معنا كبنين له، ونلتقي بالكلمة عريس نفوسنا الذي يُناجينا ونناجيه، وبروحه القدوس ساكنًا فينا، يقدسنا ويقودنا ويخبرنا بكل ما للابن إلخ. هذه هي علاقتنا بالله الحيّ. ج. "ملك أبدي" [10]؛ علاقتنا بالله ليست على مستوى زمني مؤقت بل علاقة دائمة إلى الأبد. يملك فينا لا ليسيطر علينا وإنما ليقيمنا ملوكًا، يهبنا شركة سماته فنصير خالدين ونعيش معه في مجده الملوكي إلى الأبد. أما من يعتزل الله، فتصير نفسه ُمستعبدة، تذلها الخطية وتحطم إرادتها. د. "إذا أعطى قولًا تكون كثرة مياه في السموات والأرض" [13]. قوته ليست استعراضًا لسلطانه، وإنما لخير خليقته، يهب النفس (السماء) والجسد (الأرض) كثرة مياه،أي فيض روحه القدوس (يو 7: 37-39)، ليحولنا في مياه المعمودية من القفر إلى فردوس مثمر! وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [المياه هي بدء العالم، والأردن هو بدء الإنجيل ]. ويقول العلامة ترتليان: [لقد أنجبت المياه الأولى حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة]. قديمًا "قال فكان"، إذ خلق العالم كله بكلمته، والآن يعطي قولًا،أي بكلمته يهبنا روحه القدوس الذي يجدد خلقتنا بنعمته. إنه خالقنا الذي يجدد خلقتنا! وكما يقول المرتل "هو صنعنا وله نحن شعبه" (مز 100: 3). ه. "صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه" [13]،أي قدم للإنسان كل احتياجاته المنظورة (البروق والمطر) وغير المنظورة (الريح وخزائنه)! يبرق فينا فيهبنا روح الاستنارة، ونكتشف أسرار حب الله وإمكانياته. ويهبنا عطية روحه القدوس كريحٍ تهبّ حيث تشاء ولا نعرف من أين تبدأ ولا إلى أين تنتهي (يو 3: 18). يحدثنا ماريعقوب السروجي عن بروق الاستنارة قائلًا: [المعموديةهي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها! المعموديةهي الطريق العظيم إلى بيت الملكوت، يدخل الذي يسير فيه إلى بلد النور!] و. "من لا يخافك يا ملك الشعوب؟! لأنه بك يليق" [7]. إن كانت الشعوب قد قاومته وقبلت الأوثان آلهة عوضًا عنه، لكنه يبقى في حقيقة الأمر "ملك الشعوب". هو "ملك العالم كله"، أرادوا أو لم يريدوا، نصرخ إليه كملكٍ مفرحٍ، قائلين: "ليأتِ ملكوتك!"، أما المقاومون فيخشون ملكوته ويرتعبون من سلطانه! ز. "من سخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه" [10]. إن كان الله بالنسبة لمؤمنيه كله عذوبة، يدخل معهم في عهدٍ أبوي، ويقدم إمكانياته لخلاصهم وبنيانهم، ففي عدله أيضًا لا تستطيع الأرض أن تقف أمامه، ولا تطيق الأمم غضبه! لا يحتمل الأشرار الالتقاء معه، لأنه كيف يمكن للظلمة أن تطيق النور؟! أو للباطل أن يشترك مع الحق؟! ح. الله هو المدافع عن شعبه بكونه "رب الجنود اسمه" [17]. لذا يليق بشعبه كجنودٍ تحت قيادته ألا يخافوا الآلهة الأخرى، هذه التي "في وقت عقابها تبيد" [15]. ط. الله واهب القوة والحكمة والفهم لأولاده المقدسين فيه. للعلامة أوريجينوس تعليق جميل على العبارة: "صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه بسط السموات" [12]. يرى أن من بين سمات الله ثلاث: القوة والحكمة والفهم. يهب القوة لجسدنا الترابي (الأرض)، والحكمة لنفوسنا (المسكونة التي يقطنها الثالوث القدوس)، والفهم لإنساننا الداخلي الذي على صورة آدم الثاني (السموات)، إنه يقول: [لنأخذ هنا ما يمكننا أن نطلق عليه ثلاث صفات من سمات الله، وهي: قوته وحكمته وفهمه. ينسب النبي إلى كل منها عملًا خاصًا: للقوة الأرض؛ للحكمة المسكونة؛ للفهم السموات. يقول: "صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السموات". بما أننا أرض،أي تراب، لأنه قيل لآدم: "أنت تراب"، فإننا نحتاج إلى قوة الله. وبدون قدرة الله لا نستطيع أن نقوم بأي عمل يفوق قدرات الجسد، لكننا ما أن نميت الأعضاء الأرضية، نقوم بالأعمال التي توافق إرادة الروح، يقول الرسول: "الروح يميت أعمال الجسد". إذا طبقت هذا الكلام "صانع الأرض بقوته" على الأرض الحقيقية، تجد في سفر أيوب: "أين كنت حين أسست الأرض... من وضع قياسها...؟!أو من مد عليها مطمارًا. علىأي شيء قرت قواعدها أو من وضع حجر زاويتها؟!" (أي 38: 4-6).أيأن قوة اللههي التي حافظت على الأرض في توازنٍ كاملٍ وعجيبٍ. انتقل أيضًا إلى المسكونة. إنني أعرف ما هي النفس المسكونة وماهي النفس الخالية. إذا كانت النفس لا تحمل الله، إذا كانت لا تحمل السيد المسيح الذي قال: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 23)، وإذا كانت لا تحمل الروح القدس، فإنها تكون خالية. لكنها تكون مسكونة حينما تكون ممتلئة من الآب والابن والروح القدس. توجد أمثلة عديدة في الكتاب المقدس، لوجود الآب والابن والروح القدس في نفس الإنسان. يطلب داود النبي في مزمور التوبة من الآب أن يمنحه هذه الأرواح: "وبروح مدبر عضدني"، "روحًا مستقيمًا جدده في أحشائي"، "روحك القدوس لا تنزعه مني". من هم هؤلاء الأرواح الثلاثة؟ الروح المدبر هو الآب، الروح المستقيم هو السيد المسيح الابن، والثالث هو الروح القدس. قلنا هذا لكي نوضح أن المسكونة لم تخلق إلا بحكمة الله. وذلك بما أن: "الحكمة تجعل الحكيم أقوى من عشرة حكام في المدينة"، وأيضًا: "لأن مزدرى الحكمة والتأديب شقي. إنما رجاؤهم باطل وأتعابهم بلا ثمرة وأعمالهم لا فائدة فيها" (حك 3: 11)، كما يقول سفر الحكمة لسليمان. وأيضًا، بما أن المسكونة قد أسست بحكمة الله، فليكن لنا نحن أيضًا الاشتياق أن يقيم الرب ويؤسس مسكونتنا التي ربما تكون قد سقطت. لأن هذه المسكونة التي لنا قد سقطت حينما جئنا في موضع الفساد، وسقطت حينما أخطأنا وابتعدنا عن الرحمة والحق، وكانت محتاجة أن ُتؤسس. الله هو الذي "أسس (أعاد تأسيس) المسكونة". فإذا أخذت كلمة المسكونة بمعناها الحرفي المادي، ابحث كيف يمكن أن نقول أن الله قد أعاد تأسيس المسكونة. هل سقطت المسكونة قبل ذلك حتى يعيد الله تأسيسها؟ أما إذا أخذت كلمة المسكونة بالمعنى الذي أشرت إليه قبلًا، وهو النفس البشرية، فإن كل من يوجد في هذه المسكونة يحتاج حتمًا إلى إعادة تأسيس. وإلا لما احتاج أحد إلى إعادة تأسيس لو لم يكن قد سقط قبل ذلك. من المؤكد أن كل الذين في هذه المسكونة سقطوا بسبب الخطية ثم أقامهم الرب وأعاد تأسيسهم. "إن الجميع ماتوا في آدم" هكذا سقطت المسكونة، واحتاجت أن تُؤسس ثانية حتى أنه "في المسيح الجميع يحيون" بذلك نكون قد قدمنا تفسيرًا مزدوجًا للمسكونة. لقد أوضحنا من جهة كيف أنه في كل إنسان تكون نفسه إما مسكونة أو خالية، ومن جهة أخرى أوضحنا معنى إعادة تأسيس المسكونة نفسها. "وبفهمه بسط السموات". لم يختبر إرميا كلمة "فهم" مع السموات اعتباطًا. تجد في سفر الأمثال العبارة: "الله في حكمته أسس الأرض وهيأ السموات بفهمه". إذًا يوجد عند الله فهم لن تستطيع أن تجده في أي موضع سوى في المسيح يسوع. فإن كل الصفات الإلهية تتمثل في السيد المسيح: هو حكمة الله؛ وهو قدرة الله؛ وعدل الله؛ والقداسة؛ والخلاص؛ وهو كذلك فهم الله. فمع كونه واحدًا مع الآب في الجوهر، إلا أنه يحمل أسماء متعددة تشير إلى أشياء مختلفة. إنك لا تستوعب نفس المعنى بخصوص السيد المسيح حينا تنظر إليه بكونه الحكمة وحينما تنظر إليه بكونه العدل. عندما تنظر إليه بكونه الحكمة تفهم من ذلك عِلْمِهِ بالأشياء الإلهية والإنسانية. وعندما تنظر إليه بكونه العدل تفهم من ذلك قدرته على إعطاء كل ذي حقٍ حقه. وإذا نظرت إليه بكونه القداسة فإنك تفهم من ذلك قدرته على تقديس كل المؤمنين بالرب والمكرسين له. وبنفس الطريقة أيضًا سوف تدركه بكونه الفهم، فهو العالم بالخير والشر وبما هو ليس خيرًا ولا شرًا. يوجد فصل بين الذين يسكنون السماء أو الذين يلبسون الإنسان السماوي وبين الشر، لأن الله في بسطه للسموات فصل بين الأشياء الفاسدة والأشياء الصالحة، حتى لا يتدنس الإنسان البار الذي يُعتَبَر سماءً. لذلك قيل: "وبفهمه بسط السموات". كيف إذًا تم بسط السموات؟ الحكمة هي التي تبسطها. تشير هذه الآية إلى كيفية بسط السموات بواسطة الحكمة: "لقد بسطت كلامي وأنتم لم تنتبهوا إليه". الأمر هنا يتعلق ببسط الكلام. بهذه الطريقة تم بسط السموات. وقد قيل أيضًا في المزمور: "الباسط السموات كشقة (كخيمة)" (مز 103: 2). كذلك نحن أيضًا، فإن نفوسنا التي كانت قبلًا منكمشة، سوف تُبسَط حتى تستطيع أن تستقبل حكمة الله. نرجع الآن إلى موضوعنا. فقد قلنا أن السموات خلقت بالفهم. وأن الذين لبسوا الإنسان السماوي هم أيضًا سموات. في الواقع إذ قيل للخاطئ: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يمكننا بالأولى أن نقول للبار: "أنت سماء وإلى السماء تعود"؟ كما يُقال أيضًا للإنسان الترابي الذي يحمل صورة الإنسان الترابي: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يقال لك إذا كنت تحمل صورة الإنسان السماوي: "أنت سماء وإلى السماء تعود؟" وكل إنسان منا له أعمال سماوية وأخرى أرضية. الأعمال الأرضية هي التي تؤدي إلى الأرض لأنها تحمل الطبيعة الأرضية، مثل ذاك الذي يكنز في الأرض بدلًا من أن يكنز في السماء. وعلى العكس، فإن أعمال الفضيلة تؤدي إلى المواضع التي تحمل نفس طبيعتها إلى السموات، فالإنسان الذي يكنز في السماء هو الذي يحمل صورة السماوي]. ى. يهب الله نفوسنا أيضًا من مياه الروح القدس، إذ قيل "إذا أعطى قولًا تكون كثرة مياهٍ في السموات" [13]، كأنه إذ يقيم ملكوته في داخلنا يجعلنا سمواته التي تفيض بثمر الروح حتى على الآخرين. ك. يصعدنا الله كسحاب من أقاصي المسكونة، أي يجتذبنا من أواخر الصفوف كما من أقاصي المسكونة، لا ليضعنا في مقدمة الصفوف، بل ُيصعدنا كسحابٍ مرتفعٍ، ننضم إلى سحابة الشهود القديسين (عب 12: 1). يقول العلامة أوريجينوس: [إننا نتساءل: كيف ُيصعد الله السحاب من أقاصي الأرض؟ [13] قلنا قبل ذلك أن القديسين كانوا سحبًا. لأن العبارة: "لقد بلغت حقوقك إلى السحاب" لا يمكنها أن تنطبق على السحب التي بلا نفس، ولكن حقوق الله تبلغ إلى السحب التي تنصت إلى أوامر الرب وتعرف أين تُسقط مطرها وأين تمنع المطر. توجد سحب يأمرها الله أن تمطر أو لا تمطر، وهي التي ُكتب عنها في إشعياء "سوف آمر السحاب ألا يسقط عليها مطرًا". أما بالنسبة للسحب المادية في هذا العالم، فإذا لم يكن هناك مطر فإن هذا لا يعني أن الله يأمر السحاب ألا يمطر على تلك البلاد، إنما سبب عدم نزول المطر هو عدم ظهور أية سحابة، كما هو مكتوب في سفر الملوك: ففي وقت الجفاف لم تظهر أية سحابة، ولكن حينما كان يجب أن ينزل المطر بحسب كلام إيليا ظهر السحاب في السماء وأعطى مطر. يوجد سحاب آخر يصدر إليه الأمر بألا يمطر حينما تكون النفس غير مستحقة للمطر، وهو ما تقول عنه الآية: "سوف آمر السحاب ألا يسقط عليها مطرًا". إذًا كل قديس يمثل سحابة. كان موسى النبي سحابة، وكسحابة كان يقول: "أنصتي أيتها السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي. يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي" (تث 32: 1-2). لو لم يكن موسى سحابة لما استطاع أن يقول ذلك. كسحابة يقول أيضًا: "كالطِّل على الكلأ، وكالوابل (الثلج) على العشب. إني باسم الرب أنادى". وبنفس الطريقة يقول إشعياء كسحابةٍ: "إسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم" (إش 1: 2). ولأن إشعياء كان سحابة وكان يدعو جميع الذين يتنبأون معه "سحابًا"، قال في نبوته: "سوف آمر السحاب ألا يُسقط عليها مطرًا". إن كنا قد فهمنا من هم السحاب، فلننتقل لنرى كيف أن الله "يصعد السحاب من أقاصي الأرض؟" كيف "من أقاصي الأرض؟" يقول المخلص: "إذا أراد أحد أن يكون أولًا فيكون آخر الكل وخادمًا للكل" (مر 9: 35). فهم بولس الرسول هذه الوصية وأصبح الأخير في هذا العالم، فيقول: "إني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخرين كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظرًا للعالم للملائكة والناس" (1 كو 4: 9). فإن قام أحد بتنفيذ وصية المخلص السابقة ووضع نفسه الأخير في هذا العالم يصبح سحابة. لا يُصعد الله السحاب من وسط عظماء هذه الأرض، ولا من وسط الحكام والرؤساء، ولا من وسط الأغنياء، لأنه: "طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات". أرأيت الآن كيف أن الله يُصعد السحاب من أقاصي الأرض؟ وبالتالي إن أردنا أن نصير سحابًا تبلغ إليه حقوق الرب، فلنصر آخر الكل، ولنقل بأفعالنا واستعدادنا: "فإني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخرين". وحتى إن لم أكن رسولًا، فإنه يمكنني أن أجلس في الصف الأخير حتى أن الله الذي يُصعد السحاب من أقاصي الأرض يُصعدني أنا أيضًا ]. ل. يهبنا برق الروح القدس الناري، ويغنينا من خزينة خزائنه، وكما يقول العلامة أوريجينوس: ["صنع بروقًا للمطر". يقول خبراء الطبيعة أن البروق تحدث نتيجة لاحتكاك السحب بعضها ببعض. نفس ما يحدث على الأرض بالنسبة للأحجار؛ فإذا ضربنا حجرين ببعضهما البعض تتولد نارًا، أيضًا حينما تصطدم السحب ببعضها أثناء العاصفة يحدث البرق. لذلك أيضًا غالبًا ما تكون البروق مصحوبة بالرعود التي تمثل صوت التصادم بين السحب: فالرعد يحمل صوتًا، والبرق يحمل ضوءً ونورًا. إن كنت قد فهمت هذا، تأمل الآن السحاب الروحي. كان موسى سحابًا، وكان يشوع بن نون سحابًا، فماذا حدث؟ تحدثت هذه السحب فيما بينها، ومن كلماتهم توّلد البرق. كان إرميا سحابًا، وكان باروخ سحابًا، ثم تحدثا مع بعضهما فجاءت البروق من كلماتهم معًا. ويمكنك إذا استطعت أن تستخرج من الكتاب المقدس أمثلة مشابهة عن كيفية حدوث البروق. ففي العهد الجديد أيضًا: بولس وسلوانس كانا سحابتين، وعندما تقابلا ظهرت بروق الرسالة. إذًا فإن الله "صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه". هل الرياح الأرضية موجودة في خزائن؟ كيف يمكننا أن نقول ذلك إن كنا في واقع الأمر لا نعرف ماهيمكونات أو طبيعة هذه الرياح التي تهب على الأرض؟ ومع ذلك فتوجد خزائن للريح، أي خزائن للأرواح: "روح الحكمة والفهم، روح الإرشاد والقوة، روح العلم والرحمة، روح مخافة الرب" "روح القوة والمحبة والنصح"، ويمكنك أنت أيضًا من خلال الكتاب المقدس أن تُكَوّن وتُعِد قائمة لهذه الرياح (الأرواح). هذه الأرواح موجودة في خزائن (كنوز)، فماهي هذه الكنوز؟ "فيه توجد الكنوز الخفية للحكمة والمعرفة". إذًا هذه الخزائن موجودة في السيد المسيح: ومنه أيضًا تخرج هذه الرياح، هذه الأرواح، لتصنع من الواحد حكيمًا، ومن الآخر مؤمنًا، ولتعطي لثالث معرفة، ولرابع محبة الله: "فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ، وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ، وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ" (1 كو 12: 8، 9). نحن أيضًا بنعمة الله، لنا رجاء أن نبلغ إلى هذه الخزائن. حيث توجد خزائن عديدة، فربما يكون هناك أماكن راحة مختلفة في خزائن الله، تبعًا للصف الذي سوف نوجد فيه في القيامة من الأموات. هذا ما أريد أن أقوله: ستكون القيامة من الأموات بحسب الصفوف، لأن الرسول يقول: "كل واحد إلى صفه (مكانه) الخاص". بما أن هذه الصفوف لا تكون مختلطة بلا نظام، فإن هذا الصف سيكون في خزينة من خزائن الله، والصف الآخر في خزينة أخرى لله، وهكذا الثالث والرابع. جميع هذه الخزائن توجد في خزينة واحدة، لذلك يقول بولس الرسول: "فيه توجد الخزائن الخفية للحكمة والمعرفة". كما أنه بامتلاكي اللآلئ الكثيرة استطعت من خلالها (ببيعها) أن أحصل على اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن، هكذا أيضًا يمكنني أن أبلغ إلى خزينة الخزائن، إلى رب الأرباب وملك الملوك، حينما أصير مستحقًا لنوال الأرواح الخارجة من خزائن الله، لأنه "أخرج الريح من خزائنه"]. هذا هو الإله الذي معرفته تقدم للنفس حكمة سماوية، أما عدم التعرف عليه فيجعلها في بلادة أو غباوة، لذا يقول: "بلَدَ كل إنسان معرفته" [14]. يكاد كل الأنبياء يشيرون إلى هذه الخطية وهي عدم معرفة الشعب لله (إش 1: 3؛ هو 4: 1، 6، ميخا 4: 12، عا 3: 12). يقصد بالمعرفة هنا العلاقة الشخصية القوية والعميقة مع الله عقلانيًا، وعاطفيًا، وسلوكيًا. يقول العلامة أوريجينوس: ["بَلُدَ كل إنسانٍ من معرفته" أو (صار كل إنسانٍ جاهلًا من المعرفة) . إن كان كل إنسانٍ قد صار جاهلًا من المعرفة، وبما أن بولس إنسان، فقد صار جاهلًا من المعرفة لأنه لم يكن يعلم إلا بعض العلم ويتنبأ بعض التنبؤ، صار جاهلًا من المعرفة، لأنه لم يرَ إلا في مرآة، في لغز (1 كو 13: 9، 12). لم يدرك ولم يرَ من الأشياء إلا جزءًا صغيرًا جدًا ]. [المعرفة التي كانت عند بولس لو قورنت بالمعرفة الأخرى التي في السموات،أي المعرفة الكاملة، تصبح جهلًا. لهذا السبب بَلُدَ كل إنسان من معرفته ]. لنلتصق بالله ونسلك كأولاد له، منصتين لقول الرسول بولس: "فأقول هذا واشهد في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضًا ببطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم" (أف 4: 17-18). هذا ما عناه إرميا النبي هنا! في ختام مقارنته بين عبادة الله الحيّ وعبادة الأوثان يؤكد أن الله لا يغير على مجده كمن هو في حاجة إلى من يتعبد له أو يمجده، وإنما لأجلهم هم. فإن كانوا قد خانوه إنما خانوا أنفسهم، لأنهم يحرمون أنفسهم من الله نصيبهم وأن يكونوا نصيبه! إنهم فقدوا معرفة الله العملية في حياتهم ففقدوا معرفتهم لأنفسهم كميراث الرب وجنوده. لهذا يوبخهم: "ليس كهذه نصيب يعقوب، لأنه مصوِّر الجميع، وإسرائيل قضيب ميراثه؛ رب الجنود اسمه" [16]. كثيرًا ما يتحدث الكتاب المقدس عن الله كنصيب شعبه (عد 18: 20؛ تث 32: 9، مرا 3: 24) وتغنى بذلك المُسبحون (مز 16: 5؛ 37: 26؛ 119: 57؛ 142: 6). 2. الخروج عن الأرضيات: 17 اِجْمَعِي مِنَ الأَرْضِ حُزَمَكِ أَيَّتُهَا السَّاكِنَةُ فِي الْحِصَارِ. 18 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «هأَنَذَا رَامٍ مِنْ مِقْلاَعٍ سُكَّانَ الأَرْضِ هذِهِ الْمَرَّةَ، وَأُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ لِكَيْ يَشْعُرُوا». 19 وَيْلٌ لِي مِنْ أَجْلِ سَحْقِي! ضَرْبَتِي عَدِيمَةُ الشِّفَاءِ! فَقُلْتُ: «إِنَّمَا هذِهِ مُصِيبَةٌ فَأَحْتَمِلُهَا». 20 خَيْمَتِي خَرِبَتْ، وَكُلُّ أَطْنَابِي قُطِعَتْ. بَنِيَّ خَرَجُوا عَنِّي وَلَيْسُوا. لَيْسَ مَنْ يَبْسُطُ بَعْدُ خَيْمَتِي وَيُقِيمُ شُقَقِي. 21 لأَنَّ الرُّعَاةَ بَلُدُوا وَالرَّبَّ لَمْ يَطْلُبُوا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لَمْ يَنْجَحُوا، وَكُلُّ رَعِيَّتِهِمْ تَبَدَّدَتْ. 22 هُوَذَا صَوْتُ خَبَرٍ جَاءَ، وَاضْطِرَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ لِجَعْلِ مُدُنِ يَهُوذَا خَرَابًا، مَأْوَى بَنَاتِ آوَى. يصور هذا القسم الهزيمة بواسطة العدو القادم بجيشه من الشمال كما لو حدث زلزال (اضطراب [22]) اهتزت له الأرض، ويوضح تأثيره على الشعب، والمفهوم اللاهوتي لهذه الهزيمة. للرجوع إلى الله لا يكفي ترك الوثنية، وإنما يتطلب انتزاع محبة الأرضيات من قلوبهم. الارتباط بالأرض يحوّل الإنسان بكليته إلى أرضٍ وترابٍ. "اجمعي من الأرض حزمك أيتها الساكنة في الحصار" [17]. هنا تصوير للأمر الذي يصدر للأسرى أن يحمل كل منهم الضروريات جدًا في حزمة ليضعها على رأسه، ويسير الكل مقيدين إلى السبي. هكذا يخرج الكل كعبيدٍ يحملون من أمتعتهم القليل في مذلة، بينما يستولى الجيش الغالب على أفخر ممتلكاتهم وأثمنها! هكذا الإنسان الذي قبل بإرادته أن يكون أسيرًا لمحبة العالم، يخرج كما من العالم في مذلةٍ، لا يحمل من كل ما اقتناه وتعبَّد له إلا القلة القليلة أو العدم ليخرج من العالم كأسير في مذلةٍ وعارٍ! كأنه يقول: إن كنتِ تشعرين أنكِ في حصار مرّ، وتحت التأديب، فالحل بين يديك. فُكِ أوتادك من الأرض، اقطعي ربطكِ منها، لكي يرتفع القلب مع الله في سمواته. "لأنه هكذا قال الرب: هأنذا رامٍ من مقلاع سكان الأرض هذه المرة (في هذا الوقت عينه)، وأضيق عليهم لكي يشعروا" [18]. لقد انتهى وقت الإنذارات المتكررة، وجاء وقت التأديب، لهذا يلقي الله بشعبه في السبي كمن ُيلقى بحجر من مقلاع، كأنه بلا قيمة، ويذهب بلا رجعة! هذا هو حال كل نفسٍ ترتبط بالأرض لا بخالقها، يحملها الخالق كما بمقلاع ليلقى بها خارج الأرض التي أوجدها لأجلها! من يتعبد للأرضيات عوض تقديم الشكر لواهبها يفقد حتى هذه الأرضيات! تعاتب مملكة يهوذا المنهارة بنيها الذين حطموها وهربوا، ورعاتها الذين صاروا في بلادة، قائلة: "خيمتي خربت وكل أطنابي ُقطعت، بنيَّ خرجوا عني وليسوا. ليس من يبسط بعد خيمتي ويقيم ُشققي" [20]. أخشى أن ينطبق علينا قول إرميا النبي [20]، بعدما نصير في الرب خيمة مقدسة نعود فنخربها، ونقطع ُربطها، فيتحول البنون العاملون لحساب الخيمة إلى طاقات للهدم. خراب الخيمة يشير إلى هلاك الجسد الذي خلقه الله صالحًا ليكون مع النفس مسكنًا لروحه القدوس. هو انحراف الإنسان ككل عن الحياة السماوية اللائقة به إلى حياة أرضية. لذا يقول الرسول بولس: "ولا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ماهي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رو 12: 2). 3. قبول تأديبات الرب: 23 عَرَفْتُ يَا رَبُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقُهُ. لَيْسَ لإِنْسَانٍ يَمْشِي أَنْ يَهْدِيَ خَطَوَاتِهِ. 24 أَدِّبْنِي يَا رَبُّ وَلكِنْ بِالْحَقِّ، لاَ بِغَضَبِكَ لِئَلاَّ تُفْنِيَنِي. 25 اُسْكُبْ غَضَبَكَ عَلَى الأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْكَ، وَعَلَى الْعَشَائِرِ الَّتِي لَمْ تَدْعُ بِاسْمِكَ. لأَنَّهُمْ أَكَلُوا يَعْقُوبَ. أَكَلُوهُ وَأَفْنَوْهُ وَأَخْرَبُوا مَسْكَنَهُ. "عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته. أدبني يا رب، ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني" [23-24]. كان إرميا النبي مقتنعًا بأن الشعب كان يمكنه - إن أراد - أن يصحح خطأه، لكنه لم يرد ذلك، فصار خطأه بلا علاج. لكي نرجع إلى الرب يلزمنا أن نفهم تأديبات الرب، فنصرخ: "أدبني يا رب لكن بالحق لا بغضبك..." يليق بنا أن نؤمن أن ذاك الذي خلق العالم لأجلنا من حقه أن يوجهنا، ويملك علينا، لا ليتسلط علينا، وإنما لكي يشكِّلنا، فنحمل صورته، ونصير على مثاله، ونتأهل أن نكون أولادًا له، نرث ملكوته ونشترك في أمجاده الأبدية. إنه يحزن على الإنسان الذي يرفض أن يقبل الله ميراثًا له، ويقدم حياته نصيبًا للرب، إنما يطلب غير الله نصيبًا. إنه يعاتبه، قائلًا: "ليس كهذه نصيب يعقوب، لأنه مصوِّر الجميع، وإسرائيل قضيب ميراثه، رب الجنود اسمه" [16]. كأن الله يؤكد أنه حتى في تأديباته لا يطلب ما لنفسه بل ما لبنيان شعبه ومجده. في ذهن إرميا النبي يحتاج الضعف البشري إلى العون الإلهي لمساندته، حيث يعجز الإنسان بذاته أن يستمر في مقاومته للشر وأن يسلك بالبر كل أيام حياته لذلك يقول: "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس، من يعرفه؟!" (إر 17: 9). ولعله يقصد أن الإنسان أشبه بالطين في يد الخزاف الذي يشكل الطين حسب الصورة التي في ذهنه (إر 18، إش 45: 9-13). تستخدم كلمة "أدبني" yissarفي مواضع كثيرة في العهد القديم عن العقوبة التي ُتقدم للإصلاح أو التعليم، وليس كمجازاة حسب ُجرم الخطأ لتحقيق العدالة. إذ يوجد نوعان من العقوبة: واحدة خلال الرحمة للتعليم "الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسر به" (أم 3: 12)؛ والثانية خلال العدل للقصاص وهي مدمرة: "القصاص مُعد للمستهزئين" (أم 19: 29). هذا وتستحق كل الأمم غير المؤمنة العقوبة كما تستحق مملكة يهوذا أيضًا ذات العقوبة لأنها: أ. لا تعرف الرب... عرفت مملكة يهوذا الرب بفكرها لا بحياتها. ب. لم ُتدع باسمه... صارت مملكة يهوذا أيضًا تدعو الحجارة والخشب آلهة لها. ج. تأكل أولاده ويفنوهم ويخربوهم، إذ ثارت مملكة يهوذا على رجال الله واضطهدتهم. من وحي إرميا 10 من يروى ظمأ نفسي؟! * من يروى ظمأ نفسي؟! من ينير ظلمتي؟! إلا أنت يا شمس البر، يا نور حياتي! * اعتزلتك يا حبيب، فعانيت من الشعور بالعزلة والحرمان! تركتك يا حياتي، فاقتحم الموت أعماقي! تجاهلتك يا قوتي، فامتلأت رعبًا! صرت كالقدامى في جهالة أخشى حركات الكواكب وظواهر السماء! في غباوة أخشى الطبيعة التي خلقتها لأجلي! صرت كطير يخشى اللعين (خيال المقاتة)! * لتبرق في داخلي، فأستنير وأتعرف على أسرارك! لتمطر في قلبي، فتجعل منه فردوسًا مثمرًا! ليهِب ريحك، فامتلئ بفيض نعمتك! * لقد تحطمت خيمتي، وانحلت رباطاتها! قل كلمة، فتصير خيمتي بيتًا مقدسًا لك! وتتحول أرضي الداخلية إلى سمواتك! قل لي: أنت سماء وإلى سماء تعود! * أعترف لك إنني تراب، وإلى تراب أعود، الآن حولني بتأديبات محبتك إلى سمواتك! اجعلني مسكنًا لك، ولتسكن أنت فيّ! كن نصيبي، وأكون أنا نصيبك يا شهوة قلبي. * أنت صانع الأرض بقوتك، جسدي هو أرضك محتاج إلى قوتك! يتقدس بروحك القدوس فيعيش في قوة ومجد! أنت مؤسس المسكونة بحكمتك، نفسي الخاوية تود أن تصير مسكونة، تسكنها أيها الثالوث القدوس، فتحمل حكمة إلهية فائقة! أنت باسط السموات بفهمك، من يحول ترابي إلى سماء غيرك؟! لا تقل لي: "أنت تراب وإلى تراب تعود". لكن بنعمتك وفهمك أيها القدوس قل: أنت سماء وإلى سماء تعود! فهمك حوَّل ترابي إلى السماء! * تعطي قولًا فتكون كثرة مياه في السموات، تأمر نفسي التي أقمتها لك سماءً، فتفيض من ثمر الروح، تسكب حبًا ووداعة ونقاوة كمطر على أرض الغير، تحول البراري إلى بساتين بفضل نعمتك فيّ! * تجتذبني يا إلهي كما من أقاصي الأرض، تضمني كما من أواخر الصفوف، لا لتقيمني في أوائل الصفوف فحسب، بل تجعل مني سحابة نيرة ترتفع فوق الأرضيات! حقًا: أنت الذي تصعد السحاب من أقاصي الأرض! * فيك نلتقي معًا كسحاب روحي، تخرج منا رعود وبروق، رعود صوتك الإلهي الساكن فينا، وبروق نورك الفائق أيها الساكن في نورٍ لا يُدنى منه! نعم تدخل بنا كما إلى خزينة خزائنك، وتفتح أمامك أبوابها فنعترف من فيض غناك، وننعم برياح عملك القدوس! بك نغتني أيها الغني السماوي! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 12 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() صراع إرميا النبي إرميا 11-20 في الأصحاحات [7 إلى 10] يعلن الله عن ضرورة الإصلاح الداخلي، فإنه لا يقبل عبادتهم من أصوامٍ وتسابيح وتقدمات وذبائح دون نقاوة القلب والحياة المقدسة في الرب. أما هذا القسم (11-20) فيحتوي على منطوقات نبوية تكشف عن الرسالة الخاصة بهزيمة الجيش وما يلحق البلاد من دمار. غالبًا ما نُطق بها في أيام الملك يهوياقين (605-598 ق.م.) . شملت هذه النبوات مراثٍ، إذ كانت نفس النبي مرّة، يصارع بين حبه الشديد لشعبه وتطلعاته النبوية الخاصة بهلاكهم بسبب الشر. لقد رأى شعبه الذي نشأ وترعرع خلال العهد الإلهي الذي ُقدم لهم بواسطة موسى على جبل حوريب بسيناء ينهار بسبب كسرهم للعهد. يقوم هذا العهد على اختيار الله لشعبه ورغبته في السكنى في وسطهم والالتصاق بهم لتقديسهم، فيصيرون خاصته، ويقدم نفسه نصيبًا لهم ومخّلصًا وسندًا وشبعًا لكل احتياجاتهم، مقابل هذا يلتزم الشعب بالأمانة والإخلاص في عبادتهم وسلوكهم ليتمموا إرادة الله فيهم بالطاعة لوصيته المملوءة حبًا! في الأصحاحين (11، 12) يوضح الله سر غضبه على خطاياهم ألا وهو نقضهم للعهد معه. فهو يريد أن تكون معاملاته مع شعبه على مستوى الأب مع بنيه، والعريس مع عروسه المحبوبة لديه، الساكنة معه في بيته [15]، وليس كسيدٍ آمرٍ ناهٍ. انصب دور الأنبياء، خاصة في العصور المظلمة على القيام بدور الوسطاء، يشفعون في الشعب بطلب مراحم الله ورفع غضبه عنهم، بكونهم ممثلين لهم. أما النبي الذي لا يكشف بوضوح خطة الله وإرادته، بل يداهن القيادات أو الشعب ليكسب ودهم أو مالهم، ولا يشفع فيهم، فهو نبي كذاب! أصالة النبوة جعلت إرميا في صراع مرّ بين صراحته ووضوحه في الكشف عن غضب الله على شعبه وما يلحق هذا من تأديبات قاسية تكاد تدمرهم وبين قيامه بدور الممثل للشعب أمام الله يشفع بقلبه الذي يذوب كالشمع ودموعه التي لا تجف! هكذا كان قلب إرميا النبي يتمزق! العهد المكسور يعتبر هذا الأصحاح مقدمة لهذا القسم، فيه يعلن أن الله وشعبه قد التزما بعهدٍ، فيه يقدم الله نفسه إلهًا لهم، يحميهم ويغنيهم، لكن ليس بدون التزام من جانبهم. 1. كسر العهد الإلهي: 1 اَلْكَلاَمُ الَّذِي صَارَ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ قَائِلًا: 2 «اسْمَعُوا كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ، وَكَلِّمُوا رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ. 3 فَتَقُولُ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ، 4 الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ آبَاءَكُمْ يَوْمَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، مِنْ كُورِ الْحَدِيدِ قَائِلًا: اسْمَعُوا صَوْتِي وَاعْمَلُوا بِهِ حَسَبَ كُلِّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَتَكُونُوا لِي شَعْبًا، وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلهًا، 5 لأُقِيمَ الْحَلْفَ الَّذِي حَلَفْتُ لآبَائِكُمْ أَنْ أُعْطِيَهُمْ أَرْضًا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا كَهذَا الْيَوْمِ». فَأَجَبْتُ وَقُلْتُ: «آمِينَ يَا رَبُّ». 6 فَقَالَ الرَّبُّ لِي: «نَادِ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ فِي مُدُنِ يَهُوذَا، وَفِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ قَائِلًا: اسْمَعُوا كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ وَاعْمَلُوا بِهِ. 7 لأَنِّي أَشْهَدْتُ عَلَى آبَائِكُمْ إِشْهَادًا يَوْمَ أَصْعَدْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، مُبْكِرًا وَمُشْهِدًا قَائِلًا: اسْمَعُوا صَوْتِي. 8 فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُمِيلُوا أُذُنَهُمْ، بَلْ سَلَكُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي عِنَادِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ. فَجَلَبْتُ عَلَيْهِمْ كُلَّ كَلاَمِ هذَا الْعَهْدِ الَّذِي أَمَرْتُهُمْ أَنْ يَصْنَعُوهُ وَلَمْ يَصْنَعُوهُ». 9 وَقَالَ الرَّبُّ لِي: «تُوجَدُ فِتْنَةٌ بَيْنَ رِجَالِ يَهُوذَا وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ. 10 قَدْ رَجَعُوا إِلَى آثَامِ آبَائِهِمِ الأَوَّلِينَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا كَلاَمِي، وَقَدْ ذَهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدُوهَا. قَدْ نَقَضَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتُ يَهُوذَا عَهْدِي الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ. 11 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا جَالِبٌ عَلَيْهِمْ شَرًّا لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، وَيَصْرُخُونَ إِلَيَّ فَلاَ أَسْمَعُ لَهُمْ. 12 فَيَنْطَلِقُ مُدُنُ يَهُوذَا وَسُكَّانُ أُورُشَلِيمَ وَيَصْرُخُونَ إِلَى الآلِهَةِ الَّتِي يُبَخِّرُونَ لَهَا، فَلَنْ تُخَلِّصَهُمْ فِي وَقْتِ بَلِيَّتِهِمْ. 13 لأَنَّهُ بِعَدَدِ مُدُنِكَ صَارَتْ آلِهَتُكَ يَا يَهُوذَا، وَبِعَدَدِ شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ وَضَعْتُمْ مَذَابحَ لِلْخِزْيِ، مَذَابحَ لِلتَّبْخِيرِ لِلْبَعْلِ. 14 وَأَنْتَ فَلاَ تُصَلِّ لأَجْلِ هذَا الشَّعْبِ، وَلاَ تَرْفَعْ لأَجْلِهِمْ دُعَاءً وَلاَ صَلاَةً، لأَنِّي لاَ أَسْمَعُ فِي وَقْتِ صُرَاخِهِمْ إِلَيَّ مِنْ قِبَلِ بَلِيَّتِهِمْ. إذ قارن في الأصحاح السابق بين عبادة الله الحيّ والعبادة الوثنية عاد بذاكرتهم إلى العهد الإلهي الذي قطعه الرب مع شعبه، حين دخل موسى في شركة مع الله لمدة أربعين يومًا، وقد التحف بسحابة القداسة السماوية وهو على قمة جبل سيناء. في ذلك الوقت لم يقف الرب عند عتقهم من عبودية مصر، وإنما أكّد لهم أنه يحقق لهم مواعيده لآبائهم، حيث يعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا [5]. الآن بعد أن تمت المواعيد الإلهية، وعاش الشعب في أرض الموعد زمانًا هذه مدته، صدر عليهم الحكم الإلهي بتأديبهم، وطردهم من الأرض ليعيشوا تحت السبي في مذلةٍ وعارٍ، لأنهم فضلوا عنه عبادة البعل. لقد أُعطاهم فرصًا كثيرة لعلهم يتوبون فلا يستوجبون السقوط تحت التأديب. أما وقد أصروا على عدم التوبة فحتمًا يُؤدبون، وإن صرخوا لا ُيسمع لهم، لأن صراخهم غير صادرٍ عن شعور بالخطأ، ولا لطلب التوبة، وإنما لمجرد إنقاذهم من التأديب. لقد ارضوا ضمائرهم وبطونهم بتقديم ذبائح لله، لا للمصالحة معه وتجديد العهد معه، ولا لإعلان حبهم له. بعد قرون طويلة تكرر الأمر في كنيسة كورنثوس حينما أساء الشعب استخدام الإفخارستيا وما يليها من وجبات الأغابي `agapy، إذ قيل: "فحين تجتمعون معًا ليس هو لأكل عشاء الرب، لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل، فالواحد يجوع والآخر يسكر. أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟ أم تستهينون بكنيسة الله وتخجلون الذين ليس لهم؟!" (1 كو 11: 20-22). "الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً: اسمعوا كلام هذا العهد، وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم" [1-2]. يرى البعض أن النبي يشير هنا إلى الملك يوشيا والشيوخ الذين أكدوا ولاءهم للعهد المُقام بين الله وشعبه على جبل حوريب بسيناء، العهد الذي سُجل في درج (كتاب)، وُوجد في الهيكل أثناء الإصلاح، وقد ارتبطوا به وتعهدوا أن يتمموا كلماته المكتوبة (2 مل 23: 3). فالحديث هنا موجه إلى مندوبين من قبل الملك. يرى العلامة أريجانوس أن الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب هو الكلمة الإلهي، إذ يقول: [إذا تأملنا في قصة مجيء ربنا يسوع المسيح كما وصفتها الكتب التاريخية، كان مجيئه في الجسد مرة واحدة فقط خلالها أنار العالم كله: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا". كان بالفعل "النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم، كان في العالم، وكوّن العالم به، ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله". مع ذلك يجب أن نعرف أنه جاء أيضًا قبل ذلك، وإن لم يكن بالجسد. جاء في كل واحدٍ من القديسين! كما أنه بعد مجيئه المنظور بالجسد يأتي إلينا أيضًا الآن. إن كنت تريد دليلًا على هذا، انصت إلى هذه الكلمات: "الكلام (الكلمة) الذي صار إلى إرميا من قِبل الرب قائلًا: اسمعوا". ما هي إذًا تلك الكلمة التي صارت إلى إرميا أو إلى إشعياء أو حزقيال أو إلى غيرهم من الأنبياء، من قبل الرب، إلا الكلمة الذي كان عند الله منذ البدء؟ بالنسبة لي ، لا أعرف كلمة أخرى للرب إلا التي قال عنها يوحنا الإنجيلي: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله". يجب علينا أيضًا أن نعرف هذا: كان مجيء الكلمة أيضًا على مستوى شخصي. لأنه ماذا يفيدني إن كان الكلمة قد جاء إلى العالم، بينما أنا لا أحمله؟ لكن على العكس، حتى لو لم يكن قد جاء بعد إلى العالم كله، وكنت أنا مثل الأنبياء، يجيء إليّ الكلمة. أقول مؤكِدًا أن السيد المسيح جاء إلى موسى وإلى إرميا وإلى إشعياء وإلى كل واحدٍ من الأبرار، وأن الكلمة التي قالها لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" تحققت بالفعل قبل مجيئه. كيف كان لهؤلاء الأنبياء أن ينطقوا بكلام الله إن لم يكن كلمة الله قد جاء إليهم...؟ ماذا نسمع نحن أيضًا من هذا (الكلمة) الكلام؟ "اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم". رجال يهوذا هم نحن، لأننا مسيحيون، وجاء المسيح من سبط يهوذا. إذا كنت قد أوضحت من خلال الكتاب المقدس أن كلمة يهوذا يُقصَد بها السيد المسيح، فإن رجال يهوذا في هذه الحالة لن يكونوا اليهود الذين لا يؤمنون بالسيد المسيح، وإنما نحن كلنا الذين نؤمن به. يخاطب الكلمة "رجال يهوذا" و"سكان أورشليم". يتعلق الأمر هنا بالكنيسة، لأن الكنيسة هي مدينة الله، ومدينة السلام، وفيها يتراءى ويعظم سلام الله المُعطي لنا، إذا كنا نحن أيضًا أبناء سلام. "اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم. فتقول لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل. ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم". مَن الذي يسمع أفضل لكلام العهد الذي أمر الله به الآباء؟ هل الذين يؤمنون به، أم الذين - بحسب الأدلة الموجودة عندنا - لا يؤمنون حتى بموسى حيث أنهم لم يؤمنوا بالرب؟ يقول لهم المخلص: "لو كنتم آمنتم بموسى لآمنتم بي أنا أيضًا، لأنه تكلم عني في كتبه، ولكن إن كنتم لا تؤمنون بكتاباته، فكيف تؤمنون بكلامي؟" إذًا لم يؤمن هؤلاء الناس بموسى، أما نحن، فبإيماننا بالسيد المسيح، نؤمن أيضًا بالعهد الذي ُأقيم بواسطة موسى، أي "العهد الذي أمرت به آباءكم"]. "ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد" [3]. هزيمة الشعب (أو انهيار أورشليم) لا تعني أن الله قد نقض العهد، وإنماهي إعلان إلهي عن عدم وفاء الشعب بشروط العهد، فسقطوا تحت اللعنة، كما جاء في سفر التثنية: "ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها" (تث 27: 26)، "إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك... يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك. في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم، وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض" (تث 28: 15، 25). إنها دعوة موجهة إليهم لمراجعة أنفسهم وتجديد الميثاق معه بالتزامهم بالحياة الأمينة والعبادة الحيّة، أو بمعنى آخر الطاعة للوصية. يؤكد إرميا النبي مرارًا أن الشعب هو كاسر العهد بفشله في الطاعة لله، مقدمًا الشهادة الواضحة لذلك في كل مدينة، بل وفي حياة كل فرد حيث انتشرت عبادة الأوثان بينهم، إذ يقول: "لأنه بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا، وبعدد شوارع أورشليم وضعتم مذابح للخزي للتبخير للبعل" [13]. صار الأمر خطيرًا للغاية، ولا مجال لإصلاحه إلا بقيام عهدٍ جديدٍ، وقد جاء هذا كمركز لنبوة إرميا الذي يفتح باب الرجاء (إر 31: 31-34). يتحدث هنا عن اللعنة التي يسقط فيها من لا يسمع كلام العهد الإلهي... هذه اللعنة حلت بالبشرية، لأنه لا يوجد من لم يكسر وصية إلهية؛ فجاء السيد المسيح يحمل عنها هذه اللعنة، وكما يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب "ملعون كل من عُلق على خشبة" (غلا 3: 13، تث 21: 23). يشرح لنا العلامة أوريجينوس كيف حمل مسيحنا اللعنة عنا قائلًا إن لدائرة اللعنة مدخلين، أحدهما كسر الوصية أو نقض الناموس، وقد، دخلت منه البشرية كلها، لأن الكل زاغوا معًا وفسدوا وأعوزهم مجد الله (مز 14: 3؛ 53: 3، رو 3: 12). والباب الثاني هو التعليق على خشبة (تث 21: 23)، وقد دخل منه السيد المسيح ليلتقي بنا هناك، لا عن طريق كسر الناموس، وإنما عن طريق التعليق على خشبة. لكن اللعنة لم تحتمله، ففجرها وكسر متاريسها، وحملنا معه من دائرة اللعنة إلى مجد أولاد الله المباركين. * ها أنتم ترون كيف يبرهن (الرسول بولس) أن الذين يلتصقون بالناموس هم تحت اللعنة، إذ يستحيل عليهم أن يتمموه (غلا 3: 10-11)، ثم كيف جاء الإيمان يحمل قوة التبرير... ما دام الناموس عاجزًا عن أن يقود الإنسان للبر، فالإيمان هو العلاج الفعّال الذي يجعل ما كان مستحيلًا بالناموس ممكنًا (رو 8: 3)... استبدل المسيح هذه اللعنة بلعنة أخرى "ملعون كل من عُلق على خشبة" (تث 21: 23). إن كان من يُعلق على خشبة ومن يتعدى الناموس كلاهما تحت اللعنة، وكان من الضروري لذاك الذي يحرر من اللعنة أن يكون حرًا منها، إنما يتقبل لعنة أخرى، لذلك قَبِل المسيح في نفسه هذه اللعنة الأخرى لكي يحررنا من اللعنة... لم يأخذ المسيح لعنة التعدي، بل اللعنة الأخرى، لكي ينتزع اللعنة عن الآخرين. "على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 53: 9). إذ بموته خلص الأموات من الموت، هكذا بحمله اللعنة في نفسه خلصهم منها. القديس يوحنا الذهبي الفم * كما أن المسيح بذاته لم يصر لعنة، إنما قيل هذا لأنه أخذ على عاتقه اللعنة لحسابنا، هكذا صار جسدًا لا بتحوله إلى جسدٍ، إنما اتخذ جسدًا من أجلنا وصار إنسانًا. البابا أثناسيوس الرسولي * صار خطية ولعنة لا لحسابه بل لحسابنا... صار لعنة لأنه حمل لعناتنا. القديس أمبروسيوس "ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد" [3].كأنه يقول يسقط تحت اللعنة من يكسر الناموس حتى إن كان مختونًا بالجسد، لأنه غير مختون الأذن. من ليس له الأذن المختونة يسمع بأذنيه الخارجيتين، فيكون لذلك صدى على النفس في الداخل، ولا يستجيب لكلمات العهد. أما من له الأذن المختونة فإنه يسمع ما يقوله الروح للكنائس (رؤ 3: 6). مثل هذا ليس فقط يُعتق من اللعنة، لعنة عدم الطاعة، وإنما يتمتع بالحياة المطوَّبة، حياة الطاعة في المسيح يسوع الذي تمم العهد الجديد بدمه، واهبًا إيانا روح الطاعة. إن كانوا قد سقطوا في اللعنة بسبب عدم الطاعة للعهد، فإن العيب ليس في الناموس بل في عدم ختان آذانهم، أما العهد فليس ثقيلًا، والوصية ليست مستحيلة. العهد ممكن وعذب، يحمل الملامح التالية: أولًا: عهد حرية يقول: "يوم أخرجتهم من أرض مصر" [4]، أخرجتهم من العبودية ليعيِّدوا بفرح وبهجة قلب (خر 5: 1). هو عهد خروج إلى حياة الحرية والفرح، فلماذا يكسرونه؟! هل يريد الإنسان العبودية؟! هذا هو العجب في الإنسان، فإنه كثيرًا ما يرفض وصية الله موضوع فرحه وبهجة قلبه، ليبذل كل جهده وطاقاته وأمواله في الفساد، ويعيش في مرارة العبودية الداخلية! يقول العلامة أوريجينوس: [إذًا لا تقع هذه اللعنة علينا نحن، وإنما تقع على أولئك الذين لم يسمعوا كلام العهد الذي أمر الله به الآباء، "يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد". نحن أيضًا، أخرجنا الله من أرض مصر، ومن كور الحديد، خاصة إذا فهمنا ما هو مكتوب في سفر الرؤيا، أن الموضع الذي صُلب فيه الرب يُدعى روحيًا سدوم ومصر (رؤ 11: 8). إذًا إن كان يدعى روحيًا مصر، فمن الواضح أنه لو فهمت ما هو مقصود بالبلد التي ُتدعى روحيًا مصر والتي كنت تعيش فيها قبلًا، تكون قد خرجت من أرض مصر، وُيقال لك أيضًا بعد ذلك: "اسمعوا صوتي واعلموا به حسب كل ما آمركم به" ]. ثانيًا: عهد راحة غاية هذا العهد أن ُيخرجهم كما من كور مصر، من وسط النيران ليدخل بهم إلى ندى راحته. عتقهم من المسخرين العنفاء، لا ليعيشوا في رخاوة بلا عملٍ، إنما لينالوا بركة العمل. بمعنى آخر خرجوا من كور المسخرين ليقبلوا العمل لحساب الله حسب إرادته، لا كثقلٍ يلتزمون به كرهًا، بل بركة من قبل الله. إذ يقول: "واعملوا به حسب كل ما آمركم به" [4]... يستبدل عمل السخرة المرّ بالعمل لحساب الله الممتع! "يقول كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد، قائلًا: اسمعوا صوتي" [4-5]. كور الحديد هي فرن ترتفع فيها الحرارة جدًا لصهر الحديد، الأمر الذي لا تحتاج إليه كثير من المعادن. بينما يُمكن صهر النحاس في درجة حرارة 800 ف.، لا يُصهر الحديد إلا عند درجة 1535 ف. استخدم حزقيال النبي ذات التشبيه، قائلًا: "من حيث إنكم كلكم صرتم زغلًا، فلذلك هأنذا أجمعكم في وسط أورشليم؛ جمع فضة ونحاس وحديد ورصاص وقصدير إلى وسط كور لنفخ النار عليها لسكبها كذلك أجمعكم بغضبي وسخطي وأطرحكم وأسبككم، فأجمعكم وانفخ عليكم في نار غضبى فُتسبكون في وسطها" (حز 22: 19-21). يشبه خروجهم من مصر كمن يخرج من النار، من كور الحديد، لا ليعيِّرهم بأنه خلصهم من النار، وإنما بعد إخراجهم يطلب الدخول معهم في العهد. كأن الله لا يستغل ضيقتهم ليأمر وينهي، وإنما ليدخل معهم خلال الحوار الودي في عهد أبوي مملوء حبًا. في هذا العهد يقدم نفسه إلهًا منسوبًا لأولاده: "فتكونوالي شعبًا، وأنا أكون لهم إلهًا" [4] هنا نلاحظ أنه عندما يتفاهم مع شعبه يدعوهم: "شعبي" ويدعو أعيادهم "أعيادي"، وسبوتهم: "سبوتي"، لكن إذ يصرون على العصيان يقول لموسى: "شعبك". * ما دامت مصر هي كور حديد (إر 11: 4، تث 4: 20) فهي تشير رمزيًا إلى كل مجالٍ أرضي. يليق بكل من يهرب من شر الحياة البشرية دون أن يحترق بالخطية أو يمتلئ قلبه بالنار ككورٍ أن يقدم تشكرات ليس بأقل من الذين يُختبرون بالنار كندى . العلامة أوريجينوس * يوجد وعد من الرب للذين يسمعون كلامه أنهم إذا فعلوا كل ما أمرهم به: "تكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا". ليس كل شعب يُدّعى شعب الله يكون بالفعل شعبًا لله. ألم يقل الله لذلك الشعب الذي كان يتظاهر بأنه شعب الله،: "إنكم لستم شعبي" لأنهم: "أغاظوني بإله آخر، أغاظوني بأصنامهم، فأنا أيضًا أغيظهم بأمة أخرى... غبية". أصبحنا نحن الآخرون شعبًا لله، وقد أعلن بر الله للشعب الذي سيأتي (سيولد)، أي للشعب القادم من الأمم. في الواقع وُلِد هذا الشعب فجأة، وقد قيل في النبي: "هل يُولد شعب مرة واحدة؟!"، نعم وُلد شعب مرة واحدة حينما جاء المخلص، وحينما آمن خمسة آلاف رجل في يومٍ واحدٍ بالإضافة إلى ثلاثة آلاف نفس في يومٍ آخر. يمكننا أن نرى شعبًا بأكمله مولودًا من كلمة الله يسوع المسيح. فقد وَلَدَت العاقر التي لم تكن قبلًا تُنجب، والتي قيل عنها: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المتوحشة (المتوحدة أو الوحيدة) أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1)، إنها وحيدة، لأنها كانت محرومة من الشريعة ومن الله، أما الأخرى ذات البعل، أي الأمة اليهودية، فكانت كما هو معروف تتخذ من الشريعة الإلهية زوجًا لها. بماذا إذًا يعدني الرب؟ "فتكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا". إنه ليس إلهًا للجميع، وإنما فقط للذين يهبهم نفسه مجانًا كإلهٍ لهم. كما قال لأحد الآباء: "أنا هو إلهك"، وقال لآخر: "سأكون إلهك"، وقال أيضًا عن آخرين: "سأكون لهم إلهًا". متى نصل نحن أيضًا إلى أن يكون الله إلهًا لنا؟ إن كنت تريد أن تعرف من هم الذين يكون الرب إلهًا لهم، يعطيهم شرف إضافة أسمائهم إلى اسمه، انظر قوله: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب". وقد علق السيد المسيح على هذا بقوله: "ليس هو إله أموات بل إله أحياء". من هو الإنسان المائت؟ الخاطئ، أو من لا يحمل في داخله الله القائل: "أنا هو الحياة"، وكل من يعمل الأعمال المائتة ولم يتب عنها حتى الآن. إذًا، بما أن الله ليس إله أموات بل إله أحياء، وبما أننا نعرف أن الإنسان الحيّ هو الذي يحيا بحسب كلام السيد المسيح ووصاياه ويكون دائمًا ثابتًا فيه، فلو أردنا أن يصير الرب إلهًا لنا، نترك أعمال الموت، حتى يتمم لنا وعده: "فتكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم أن أعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا". تأمل هذه الكلمات، فإن الرب يتحدث هنا كما لو لم يكن قد أعطاهم بعد هذه الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا. في الواقع الأرض التي أخذوها ليست هي التي كان يقصدها الله حينما قال "أرض تفيض لبنًا وعسلًا"، وإنما الأمر يتعلق بأرض أخرى قال عنها الرب في تعاليمه: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض". العلامة أوريجينوس ثالثًا: عهد يلتزم به الله بقسم لم يأتِ هذا العهد مصادفة، ولا يمثل أمرًا ثانويًا، لكنه موضوع يهم الله نفسه، فيقيم نفسه شاهدًا على العهد بقسمٍ. لم يقم خليقة سماوية أو أرضية للشهادة، ولا ائتمنهم على ذلك، بل أقسم بذاته أن يحقق وعوده، قائلًا: "لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم..." [5]، ليبث فيهم روح الثقة أنه يحقق لهم وعوده الصادقة والأمينة. رابعًا: عهد مبادرة بالحب يقول: "مبكرًا" [7]، وكأن الله هو المبادر بالحب، وهو الذي يبكر لتوقيع الميثاق، إنه لا يتأخر في تحقيق مواعيده. إن كان يتأخر فلأجل إعطائنا فرصة لرجوعنا إلى نفوسنا، ومراجعتنا لحساباتنا، وعودتنا إليه حتى لا نهلك، وكما يقول القديس بطرس: "لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة" (2 بط 3: 9). أمام هذا العهد الإلهي العجيب المملوء حبًا وحنوًا انحنى إرميا برأسه، بل وبكل كيانه ليردد مع آبائه "آمين يا رب" [5]. هذا ما سبق أن نطق به الشعب حين سمع بركات الطاعة للوصية وقبول العهد، ولعنات العصيان وكسر العهد (تث 27). في خضوع انحنى إرميا ليقبل من يد الله تأديباته لشعبه حتى إن بدت قاسية. "فأجبت وقلت: آمين يا رب" [5]. ما أعجب شخصية إرميا الرقيقة كل الرقة خاصة نحو شعبه، إذ جدران قلبه توجعه، ورأسه ينبوع ماء لا يجف من أجل ما حلّ بهم، وقد جاءت كلمة الرب إليه تعلن تأديباته الحازمة، فكانت كنارٍ محرقة محصورة في عظامه لا يطيقها (إر 20: 9)، كان لا بُد أن ينطق بها، وفي تسليمه الكامل وإدراكه لمراحم الله الكلي الحب قال: "آمين يا رب" [5]، وهو يتوقع خراب شعبه المحبوب لديه جدًا. لا نعجب إن رأينا الكنيسة المنتصرة قد اقتنت نفس الروح، هذه التي تدربت على دروس الحب، بل اقتنت في داخلها مسيحها كلي الحب، فإنه إذ دان الله الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها وانتقم لدم عبيده من يدها ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين، صرخت قائلة: "آمين هلليلويا" (رؤ 9: 1-3). نحن أيضًا إذ نصلي في كل يوم، قائلين من كل قلوبنا: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" تتحول صلواتنا إلى تسبحة مستمرة، خلالها يلهج قلبنا وفكرنا بالتسبيح: "آمين يا رب!" يقول العلامة أوريجينوس: [إجابة على قول الرب: "ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد"، يقول النبي: "فأجبت وقلت آمين يا رب"، ما معنى كلمة آمين يا رب؟ أي: "آمين يا رب أن الذي لا يسمع كلام هذا العهد يصير ملعونًا". "فقال الرب لي: نادِ بكل هذا الكلام في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم (وخارج أورشليم)" - إننا ننادى بكلام الرب حتى للذين هم في الخارج لندعوهم إلى الخلاص - "قائلًا: اسمعوا كلام هذا العهد واعملوا به... فلم يسمعوا... ولم يصنعوه. وقال الرب لي: توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم". ألا يجب علينا نحن بالأولى أن نتوب عن خطايانا، بكوننا رجال يهوذا، أي رجال السيد المسيح، كما سبق لنا القول. حيث يوجد بيننا أناس خاطئون وأناس يسلكون حسب الباطل، قال النبي: "توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم" "قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين"... لم يقل مجرد "آثام آبائهم" فقط، وإنما أضاف كلمة الأولين. قلنا أن هذا الكلام موجه لنا وللخطاة الموجودين بيننا. كيف رجع هؤلاء الخطاة لا إلى آثام آبائهم فقط، بل إلى آثام آبائهم الأولين؟ أليس لأن لنا نوعان من الآباء، منهما نوع فاسد. قبل أن نقبل الإيمان كنا أولادًا للشيطان، كما يوضحه الإنجيل "أنتم من أب هو إبليس"، وعندما آمنَّا صرنا أولاد الله. ففي كل مرة نخطئ، نرجع إلى آثام آبائنا الأولين. لكي نوضح أن آباءنا نوعان استعين بالمزمور 45، حينما يقول: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنيكِ وانسي شعبكِ وبيت أبيكِ"، إذ يقول لها: "اسمعي يا ابنتي" فهو أبوها، كيف إذًا يقول أب لابنته "انسي بيت أبيكِ"؟ لأن الآباء نوعان. انسي بيت أبيك، أي أبيك الأول؛ إذا عدت للخطايا بعد أن تكوني قد نسيتي بيت أبيك الأول، تكونين أنتِ المقصودة بهذه الآية: "قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين". قلت كان الشيطان أبانا، قبل أن يصير الله أبانا - إن لم يكن الشيطان أبانا حتى الآن - هذا نوضحه أيضًا من رسالة القديس يوحنا: "من يفعل الخطية فهو من إبليس (مولود من إبليس)" (1 يو 3: 8).وبما أن كل من يفعل الخطية مولود من إبليس، فإننا كنا مولودين من الشيطان عدة مرات حسب كل مرة نخطئ فيها. مسكين الإنسان الذي يولد من الشيطان بلا توقف، وطوبى لمن يُولد من الله باستمرار. لا أقول إن البار يولد من الله مرة واحدة فقط طوال حياته، إنما يولد من الله باستمرار في كل عمل صالح يقوم به... وعندما أوضح لك بخصوص المخلص، كيف أن الآب لم يلد الابن بطريقة تجعله (أي الابن) يحتاج أن يولد منه مرة أخرى بعد ذلك، إنما يلده باستمرار، هكذا أيضًا بالنسبة للإنسان البار. لنرى ما يخص مخلصنا: إنه يشع مجدًا، إشعاع المجد لم يحدث (لم يولد) مرة واحدة للأبد، وإنما طالما يتولد منه النور، فإن مجد الرب يشع باستمرار. مخلصنا هو حكمة الله؛ والحكمة هي "إشعاع النور الأبدي". فإذا كان المخلص مولودًا باستمرار من الآب، هكذا أنت أيضًا إذا كان عندك روح التبني، فإن الله يلدك باستمرار في المسيح يسوع عند كل عمل من أعمالك وعند كل فكر من أفكارك. هكذا بميلادك تصير ابنًا لله بلا توقف، مولودًا في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين]. "لأني أشهدت على آبائكم إشهادًا يوم أصعدتهم من أرض مصر إلى هذا اليوم مبكرًا، ومشهدًا، قائلًا: اسمعوا صوتي. فلم يسمعوا ولم يميلوا أذنهم، بل سلكوا كل واحدٍ في عناد قلبه الشرير. فجلبت عليهم كل هذا العهد الذي أمرتهم أن يصنعوه ولم يصنعوه" [7-8]. يعود بذاكرتهم إلى بدء إقامة العهد، حيث خانه الشعب منذ اللحظات الأولى، حين نزل موسى من الجبل يحمل معه لوحي العهد اللذين كتبهما الله بإصبعه. عوض السحابة المقدسة السماوية التي عاش فيها موسى أربعين يومًا نزل إلى جوٍ فاسدٍ حيث وجد الشعب يتعبد للعجل الذهبي، يسجدون له ويذبحون (خر 23: 7-8). عوض الموسيقى السماوية المبهجة للنفس سمع صوت غناء ورقص (خر 32: 18-19)، فلم يحتمل ذلك... ارتجفت يداه "وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل" (خر 32: 19). هكذا أعلن موسى النبي عن خيانتهم للعهد منذ اللحظات الأولى، وها هو إرميا يشهد على أبنائهم أنهم سلكوا طريق آبائهم: خيانة العهد. لعله أيضًا قصد بآبائهم أولئك الذين سلكوا في الشر قبل إصلاح يوشيا. "توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم" [9]. كسرهم للعهد ليس عن ضعفٍ مؤقت، ولا ثمرة إغراء خارجي، لكنه عن فتنة أو خطة مُحكمة وإصرار، وها هم يتشبهون بآبائهم الأولين في عصيانهم وكسرهم للعهد. أدى عدم الطاعة إلى "كسر العهد" مرارًا، لهذا حلت بهم الشرور كثمرٍ طبيعي لاعتزالهم الله الذي لم يتدخل إلى حين حتى يكتشف الشعب عجز الأوثان عن إنقاذهم، ويدركوا أنها آلهة باطلة لا حول لها ولا قوة. حتى إرميا نفسه كنبي صار عاجزًا عن الشفاعة عنهم. "هأنذا جالب عليهم شرًا لا يستطيعون أن يخرجوا منه، ويصرخون إليّ فلا أسمع لهم..." [11]. مع عجزهم عن الهروب من الضيقة (الشر) التي سقطوا فيها صرخوا لله لا للرجوع إليه بالتوبة، وإنما لمجرد مساندتهم، لهذا قيل "ويصرخون إليّ فلا أسمع لهم" [11]. تركهم يلجأون إلى الآلهة الغريبة ليدركوا عجزها، لهذا لم يسمع لهم، ولا سمح لإرميا النبي أن يشفع فيهم. "وأنت فلا تُصلِّ لأجل هذا الشعب، ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة، لأني لا أسمع في وقت صراخهم إليّ من قبل بليتهم" [14]. سبق فطلب منه ألا يصلي لأجلهم ولا يلح عليه (إر 7: 16). وقد رأينا أن الله ُيسر بأن يرى قلب إرميا متسعًا بالحب، وألا يكف عن الصلاة بلجاجة من أجل شعب الله. لكنه يريد تأكيد أن الأمر قد صدر بتأديبهم، وهو لخيرهم وخلاصهم، فلا يطلب النبي رفع التأديب عنهم. * قال لإرميا: "لا تُصلِّ لأجل هذا الشعب... لأني لا أسمع"، لا ليوقف صلاته (لأن الله يتوق مشتاقًا إلى خلاصهم)، إنما لكي يرعبهم. وإذ رأى النبي ذلك لم يتوقف عن الصلاة. القديس يوحنا الذهبي الفم يظهر ذلك بوضوح بقوله: "من قبل بليتهم" [14]؛ كأن الله لا يرفض صلواتهم أو طلباتهم، ولا صلوات النبي عنهم، لكن يلزم تركيزها على توبتهم ورجوعهم إليه، ونموهم روحيًا، لا عن رفع البلية عنهم!أظهر النبي شدة آلامه، إذ حلت به حالة احباط شديدة، لأنه عجز عن أن يدفع عن شعبه ما يحل بهم من انهيار، ولأنه غير قادر على الوساطة بالصلاة عنهم في هذا الأمر كما فعل موسى النبي قبلًا (تث 18: 15-22)، ليس عن ضعف في إرميا، وإنما لإصرار الشعب على العصيان. لقد تمررت نفس النبي حتى لعن يوم ميلاده (إر 20: 14). 2. ما لحبيبتي في بيتي؟! 15 «مَا لِحَبِيبَتِي فِي بَيْتِي؟ قَدْ عَمِلَتْ فَظَائِعَ كَثِيرَةً، وَاللَّحْمُ الْمُقَدَّسُ قَدْ عَبَرَ عَنْكِ. إِذَا صَنَعْتِ الشَّرَّ حِينَئِذٍ تَبْتَهِجِينَ. 16 زَيْتُونَةً خَضْرَاءَ ذَاتَ ثَمَرٍ جَمِيلِ الصُّورَةِ دَعَا الرَّبُّ اسْمَكِ. بِصَوْتِ ضَجَّةٍ عَظِيمَةٍ أَوْقَدَ نَارًا عَلَيْهَا فَانْكَسَرَتْ أَغْصَانُهَا. 17 وَرَبُّ الْجُنُودِ غَارِسُكِ قَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْكِ شَرًّا، مِنْ أَجْلِ شَرِّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتِ يَهُوذَا الَّذِي صَنَعُوهُ ضِدَّ أَنْفُسِهِمْ لِيُغِيظُونِي بِتَبْخِيرِهِمْ لِلْبَعْلِ». رفض الاستماع للشعب كما للنبي في أمرٍ ما لا يعني رفضه لشعبه، فهم بالنسبة له "المحبوبة" التي يريدها أن تقيم في بيته، لا أن تدنسه وتخربه. في وسط هذا المرّ يعاتبها مذكرًا إياها بمركزها الذي نالته خلال العهد الذي تحطمه بإرادتها، قائلًا لها: "ما لحبيبتي في بيتي؟! قد عملت فظائع كثيرة، واللحم المقدس قد عبر عنكِ. إذا صنعتِ الشر حينئذ تبتهجين" [15]. إن كنتِ تعتزين بالهيكل المقدس أنه في أورشليم، فإنكِ وأنتِ المحبوبةلي قد عملت فظائع كثيرة، من إقامة مذابح للأوثان وأصنام، وممارسة الرجاسات، وتقديم الأطفال محرقات للأوثان. هذا من جانب، ومن جانب آخر عوض تقديم الذبائح قدمتي لحمًا. إذ يقصد باللحم المقدس الذبائح التي ُتقدم في الهيكل، فإنها ليست في عينيه ذبائح للمصالحة أو محرقات حب، بلهي لحم للأكل، كما سبق فقال: "ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا" (إر 7: 21). وعوض التوبة عن هذه الشرور تبتهجين وتفتخرين بالشر! يكمل عتابه لمحبوبته، قائلًا: "زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك. بصوت ضجة عظيمة أوقد نارًا عليها فانكسرت أغصانها؛ ورب الجنود غارسك قد تكلم عليكِ شرًا من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد أنفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل" [16-17]. الضجة العظيمة هناهي ضجة الجيوش المعادية المجتازة البلاد. إنه في مرارة يؤدبها كما بنارٍ. كان تشبيه الشعب بزيتونة خضراء جميلة غرسها الله بنفسه مألوفًا، حيث كان شجر الزيتون مغروسًا في دائرة الهيكل. مصدر هذا التشبيه هو (مز 52: 10)، وقد اقتبسه الرسول بولس في (رو 9). هذه التي غرسها الرب تحترق بنارٍ لأنها اعتزلته ورفضت عمله فيها. إن كان الله لا يسمع لها ولا للنبي إرميا من أجل رفع التأديب، فإنه يقدم هنا الحجة تلو الحجة: أ. إن الشر صادر لا عن شعبٍ غريبٍ ليس له خبرة معه، بل عن حبيبته التي اقتناها لنفسه. فالإنسان لا يبالي كثيرًا بالشر الصادر عن غريبٍ أو عدوٍ، لكنه يُجرح حين يصدر ممن اقتناه لنفسه حبيبًا! وكما جاء في سفر زكريا عن السيد المسيح الذي جرحته أمته، أو جرحه تلميذه: "جُرحت بها في بيت أحبائي" (زك 13: 6). ب. الشر موجه إلى مقدساته، إلى بيته الذي فيه كان يجب أن يتقدسوا، إذ يقول: "ما لحبيبتي في بيتي؟!" [15]. من يقدر أن يعبر عن شرنا حينما ندنس هيكله الذي في داخلنا، فنحول إنساننا الداخلي من ملكوته إلى مركزٍ للخطية والشر، وعوض النور تحتله الظلمة؟! ج. إنه ليس بالشر العابر نتيجة ضعف، إنما "قد عملتِ فظائع كثيرة" [15]. خطايا عن عمد، برغبة شديدة ، وبكثرة! إنها ليست مجرد ضعفات نصرخ منها، لكنها فظائع كثيرة نصمم عليها! د. أفسدت العبادة التي كان يجب أن تكون سرّ مصالحة مع الله، لتصير أكلًا وشربًا؛ عوض الذبائح قدمت لحمًا للأكل [15]. ه. عوض التوبة عما ترتكبه تبتهج وتفتخر بشرها: "إذا صنعتِ الشر حينئذ تبتهجين" [15]. و. أفسدت عمله فيها، وحولت الجمال والإثمار إلى قبحٍ وعقمٍ. إذ يقول "زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك... رب الجنود غارسك" [16-17]. أعطاها اسمًا جميلًا، وقدم لها إمكانية الإثمار بوفرة، غرسها بيمينه، لكنها في شرها أصرت أن تدنس اسمها، وتعيش بلا ثمرٍ روحي. ز. تخضع الطبيعة له، فتأتي الزيتونة بثمارٍ كثيرة على كل فروعها، ورقها دائم الاخضرار العام كله، ُتقدم طعامًا ودواءً بزيت الزيتون، أما هي فعقيمة وجافة، جائعة ومريضة. ح. أخيرًا فإنها تفعل ذلك لا لبهجتها فحسب وإنما لإغاظة الرب. قدم لها الحب والخير، فردت عليه بالبغضة والشر، بهذا قدمت الشر لنفسها لا لله. "قد تكلم عليكِ شرًا من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد أنفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل" [17]. فما تكلم به الرب عليهم إنما هو ثمر طبيعي للشر الذي صنعوه ضد أنفسهم. تكررت العبارة "تكلم الله عليهم بالشر" ست مرات في إرميا (إر 16: 10؛ 26: 19؛ 35: 17؛ 36: 31؛ 40: 2)، كما جاءت مرة في (1 مل 22: 23). 3. اعترافات إرميا (إر 11: 18، 12: 6): 18 وَالرَّبُّ عَرَّفَنِي فَعَرَفْتُ. حِينَئِذٍ أَرَيْتَنِي أَفْعَالَهُمْ. 19 وَأَنَا كَخَرُوفِ دَاجِنٍ يُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُمْ فَكَّرُوا عَلَيَّ أَفْكَارًا، قَائِلِينَ: «لِنُهْلِكِ الشَّجَرَةَ بِثَمَرِهَا، وَنَقْطَعْهُ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، فَلاَ يُذْكَرَ بَعْدُ اسْمُهُ». 20 فَيَا رَبَّ الْجُنُودِ، الْقَاضِيَ الْعَدْلَ، فَاحِصَ الْكُلَى وَالْقَلْبِ، دَعْنِي أَرَى انْتِقَامَكَ مِنْهُمْ لأَنِّي لَكَ كَشَفْتُ دَعْوَايَ. 21 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَنْ أَهْلِ عَنَاثُوثَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ قَائِلِينَ: لاَ تَتَنَبَّأْ بِاسْمِ الرَّبِّ فَلاَ تَمُوتَ بِيَدِنَا. 22 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: «هأَنَذَا أُعَاقِبُهُمْ. يَمُوتُ الشُّبَّانُ بِالسَّيْفِ، وَيَمُوتُ بَنُوهُمْ وَبَنَاتُهُمْ بِالْجُوعِ. 23 وَلاَ تَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّةٌ، لأَنِّي أَجْلِبُ شَرًّا عَلَى أَهْلِ عَنَاثُوثَ سَنَةَ عِقَابِهِمْ». يدعو البعض هذه المراثي الشخصية لإرميا (إر 11: 18، 12: 6) "اعترافات إرميا" وإن كان البعض يراها "شكاوى إرميا". يرى البعض أن اعترافاته شملت الآتي: (11-18، 12: 6؛ 15: 10-12، 15-21؛ 17: 9-10، 14-18؛ 18: 18-23؛ 20: 7-12، 14-18). ويضيف عليها البعض العبارات: (إر 4: 19-21؛ 8: 18-23؛ 10: 19-23؛ 13: 17؛ 14: 17-18). ينفرد إرميا النبي بين الأنبياء في حفظه مجموعة من الصلوات تقدم نظرة غير عادية عن حياة النبي الداخلية، كما لم يقدمأي سفر نبوي مجموعة من الشكاوي مثل هذا السفر. حقًا لقد عانى الأنبياء من الشعب، لكنهم لم يقدموا تفاصيل مثل إرميا: صرخ موسى النبي إلى الرب قائلًا: "ماذا أفعل بهذا الشعب؟! بعد قليل يرجمونني" (خر 17: 4). وقيل عن صموئيل الذي تألم من الشعب الرافض له: "وصرخ إلى الرب الليل كله" (1 صم 15: 11)، لكننا لا نعرف بماذا كان يصرخ. واشتكى إيليا النبي الشعب لله فقال: "قد غرت غيرة للرب إله الجنود، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1 مل 19: 10). وعبر إشعياء النبي عن مرارة نفسه من جهة الشعب بعبارة فريدة: "إلى متى أيها السيد؟" (إش 6: 11). يرى بعض الدارسين أن اعترافات إرميا بصيغة الفرد نطق بها باسم الشعب كله، تعبر عن مرارة نفوسهم وسط الآلام، إذ كانوا يستخدمونها في العبادة الجماعية. إن كان إرميا النبي قد عبَّر في اعترافاته عن مرارة نفسه لكن لا يمكننا قبول ما يراه بعض الدارسين أن إرميا قد ظن أن الله لم يفِ بوعده بخصوص حمايته، إنما جاءت عباراته كبعض عبارات داود النبي التي يبدو كمن يطلب النقمة لنفسه، وقد سبق لنا الحديث عنها في شرحنا لسفر المزامير. إنها تعبر عن مشاعره البشرية كإنسان له ضعفاته يئن من شدة الألم دون أن يفقد ثقته في الله مخلصه. كما أنه لا يطلب نقمة شخصية، إنما يطلب تأديبًا لمقاومي كلمة الله التي يعلنها النبي. وأن ما نطق به هو نبوات تتحقق كثمرة لشرهم. يبدأ إرميا النبي اعترافاته، قائلًا: "والرب عَّرفني فعرفت. حينئذ أريتني أفعالهم" [18]. كشف له الرب عن المؤامرة التي دبروها لهلاكه، كشفها له ذاك الذي سبق فأكد له وهو بعد ولد: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب" (إر 1: 8). كشف له الرب عن خطتهم وأفكارهم وكلماتهم وأعمالهم من نحوه كما عن قلوبهم وما في أعماقهم، لأنه هو فاحص الكلى والقلب [20]. كأنه يقول إن كانوا في خداع قد خططوا سرَّا لقتلي، لكن في واقع الأمر خدعوا أنفسهم لأنهم لم يدركوا أن الله فضح خطتهم لي، وما فعلوه ليس لهلاكي بل لهلاكهم. ذلك كما انخدع فرعون عندما خطط لإبادة إسرائيل بقتله الأطفال الذكور، وانخدع هيرودس حينما ظن أنه قادر على منع ظهور المسيا المخلص بقتله أطفال بيت لحم الذكور. بمعنى آخر حسابات الأشرار خاطئة وخطيرة، لا على حياة الغير، بل على حياتهم، لأنهم لا يدركون إمكانيات الله الفاحص الكلى والقلب، والعارف بكل الأسرار الخفية، والقادر على تحويل شرورهم لبنيان ملكوت الله. يعلق العلامة أوريجينوسعلى العبارة السابقة مؤكدًا أن الله وحده هو المعلم. [إذا كان الكلام الموجود في الناموس والأنبياء والأناجيل والرسل، هو كلام الله، فإن من يتعلم من هذا الكلام، يجب أن يخص الله بلقب "معلم". لأن الذي ُيعَلِّم الإنسان المعرفة هو الرب، كما جاء في (مز 93: 10). يؤكد المخلص أنه يجب ألا نعطي لقب "معلم" لإنسان على الأرض: "فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد هو المسيح" (مت 23: 8-9). في الواقع، الآب الذي في السموات هو الذي يُعَلّم: إما بنفسه، أو بالابن السيد المسيح أو بالروح القدس، وأيضًا بواسطة بولس أو بطرس أو أي من القديسين الآخرين، بشرط أن يأتي روح الرب وكلمته ليُعَلِّما. لماذا قلت ذلك؟ لأن النبي يقول بالتحديد: "والرب عرَّفني فعرفتُ" أو "عرّفني يا رب فأعرِف". لأنني لن أعرف شيئًا إذا لم تُعرِفني أنتَ. عرفت لأنك عرَفتني "فحينئذ" سأرى "أفعالهم"، وأفهم سلوكهم ونياتهم]. لم يعرف إرميا النبي أعمالهم فقط، وإنما ما هو أعظم عرف مركزه الجديد، أنه صار رمزًا لحمل الله الذي يُساق للذبح من أجل خلاص الغير، فيترنم قائلًا: "وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح، ولم أعلم، انهم فكروا عليّ أفكارًا، قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها، ونقطعه من أرض الأحياء، فلا يُذكر بعد اسمه" [19]. كلمة "خروف" في العبرية هنا استخدمت 116 مرة في العهد القديم، كلها فيما عدا خمس حالات اُستخدمت كذبيحة، لذلك ترجم البعض كلمة "يساق إلى الذبح" أو "يُساق كذبيحة" مع أن الكلمة العبرية تعني الذبح العادي . حسبوه حملًا وديعًا، يقتلوه فلا يُذكر بعد اسمه، ولم يدركوا أنه رمز للسيد المسيح الذي بقتله يملك على القلوب، ويمزق بصليبه الصك الذي كان علينا ويجرد الرياسات والسلاطين ويشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في صليبه (كو 2: 15). صار رمزًا للسيد المسيح الذي قيل عنه: "والرب وضع عليه إثم جميعنا؛ ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أُخذ؛ وفي جيله من كان يظن أنه ُقطع من أرض الأحياء، أنه ُضرب من أجل ذنب شعبي" (إش 53: 6-8). يقول العلامة أوريجينوس: [يتكلم السيد المسيح عن نفسه: "وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح ولم أعلم". لم يذكر ما هو الشيء الذي لا يعلمه. فهو لم يقل: "ولم أعلم الخير" أو "ولم أعلم الشر" أو "ولم أعلم الخطية"، وإنما قال فقط: "ولم أعلم". بذلك ترك لك مهمة البحث عن الشيء الذي لم يعلمه. لكي تعرف ذلك الشيء، تأمل هذه العبارة: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21).معرفة الخطية معناها السقوط فيها، تمامًا مثل معرفة الحق أي ممارسته. من يتحدث عن الحق ولا يمارسه لا يعرف الحق ]. صار رمزًا للسيد المسيح، ليس فقط كحملٍ سيق إلى الذبح، ولكن كشجرة أيضًا يطلب الأشرار إهلاكها. بحسب الترجمة السبعينية "لنهلك الشجرة بجسدها" [19]. إذ قيل عن السيد المسيح: "اصلبه. اصلبه". طلبوا أن يهلكوه بالجسد على شجرة أو على الصليب. أرادوا قطعه، قائلين: خير أن يموت واحد عن الشعب. يقول العلامة أوريجينوس: ["إنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: هلم نلقى خشبًا في خبزه". إن كان اليهود قد صلبوه، هذا أمر مفروغ منه، ونحن نعلمه بكل تأكيد؛ ولكن كيف نربط بين هذا الأمر وبين العبارة: "إنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: هلم نلقى خشبًا في خبزه". إنه موضوع يصعب فهمه! خبز السيد المسيح هو الكلمة والتعاليم التي نتغذى بها، وحينما رآه اليهود يُعَلِّم بين الشعب أرادوا أن يفسدوا تعاليمه بصلبهم إياه، فقالوا: "لنلقي خشبًا في خبزه". إضافة صلب السيد المسيح إلى تعاليمه هي بمثابة إلقاء خشبٍ في خبزه. حينما اجتمع هؤلاء الناس فيما بينهم ليتآمروا عليه قالوا: "هلم نلقي خشبًا في خبزه". أما أنا فلي أيضًا - إلى جانب ذلك - رأى مختلف وهو: أن الخشب الُملقى في خبزه جعل هذا الخبز أكثر قوة وفاعلية. أذكر مثالًا لذلك من شريعة موسى: العصا "الخشب" المطروحة في المياه المرّة جعلتها عذبة (خر 15: 25). هكذا حينما أضيفت "خشبة" حب السيد المسيح إلى تعاليمه جعلت خبزه أكثر عذوبة ورقة. بالفعل قبل أن ضيف "الخشب" إلى "خبزه"؛ أي في فترة تعاليمه التي سبقت الصليب، لم تبلغ أقواله إلى أقصى المسكونة (مز 19: 5).لكن بعدما أخذ الخبز قوة من خلال "الخشب" المطروح فيه، بلغت أقوال تعاليمه إلى كل المسكونة. كان الخشب قديمًا رمزًا لمحبة السيد المسيح التي بها صار الماء المرّ عذبًا، لأنني أعتقد أن الناموس إذا لم يُفهم بالمعنى الروحي يكون "ماءً مرًا"، لكن بمجيء خشب صلب السيد المسيح ومجيء تعاليمه، أصبح ناموس موسى عذبًا وحلوًا]. ونقطعه من أرض الأحياء،فلا يُذكر بعد اسمه" [19]. ظنوا أن بقتله يقطعونه (السيد المسيح) من أرض الأحياء، فينساه العالم، ولا يُذكر اسمه بعد، ولم يدركوا أنه القيامة واهب الحياة، وأن بفعلهم هذا حوّل السيد أرضنا - وادي الموت - إلى أرض الأحياء، حيث اختبرنا قيامة النفس، القيامة الأولى، أو الحياة الجديدة في المسيح يسوع. يلاحظ أن تعبير "أرض الأحياء" لم ُيذكر في سفر إرميا سوى هنا، وقد ورد في مواضع أخرى في العهد القديم 13 مرة. استحقوا -كشجرة زيتون- أن تُحرق أغصانها الجافة التي بلا ثمر، لكنهم حكموا عليه أنه شجرة يجب إهلاكها، ولم يدركوا أنه بالشجرة التي يصدر عنها العفو، وينالون بر المسيح فيهم، يصيرون أغصانًا روحية ثابتة فيه. العجيب أن حمل الله سبق فاخبرنا: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب" (مت 19: 16)، تأكلنا الذئاب لتقطع ذكرانا أو ذكرى مسيحنا من أرض الأحياء، فإذا بالذئاب تتحول إلى خراف وديعة. كم حوّل الشهداء بدمائهم أو بشهادتهم للإنجيل العمل نفوس مضطهديهم إلى ملكوت سماوي؟! عوض أن يقطعهم الأشرار من أرض الأحياء تحولوا هم إلى حملان وديعة وانتقلوا من أرض الأموات إلى أرض الأحياء، يسكنها بر المسيح واهب الحياة! يقول العلامة أوريجينوس: [يضيفون بعد هذا القول: "ونقطعه من أرض الأحياء فلا يذكر بعد اسمه". قال عن ذلك: "إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير" (يو 12: 4).لو لم يكن قد صُلب المسيح ومات لبقيت حبة الحنطة وحدها ولم تكن الجموع قد أثمرت منه وتبعته. أما موته فأعطى ثمارًا تتمثل في جميع المسيحيين. إذا كان الموت قد جاء بكل تلك الثمار، فكم تكون بالأكثر القيامة؟!]. رفع إرميا قلبه نحو الله، قائلًا: "فيا رب الجنود القاضي العدل، فاحص الكلى والقلب، دعني أرى انتقامك منهم، لأني لك كشفت دعواي" [20]. سبق لنا الحديث عن طلبه الانتقام. يدعو الله "فاحص الكلى والقلب" [20]، أي يعرف شخصية الإنسان في أعماقها (الكلي) ومشاعره (القلب). تشير الكلى إلى الشخصية بأسرارها الخفية، لأنها العضو الأعمق في الجسم، والمحمية بالعظام، كثيرًا ما ترتبط بالقلب (إر 17: 10؛ مز 7: 10؛ 26: 2). * نضع ثقتنا فيه، إذ يعرف العواطف التي في خبايا نفوسنا عندما تتناغم معًا لكي ترضيه بكونه حاضرًا في كل عقل يراقبه ويتعهده، إذ هو فاحص القلوب والكلى (مز7: 9، إر 11: 20، 17: 10، رو 8: 27، رؤ 2: 23). العلامة أوريجينوس "لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين: لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بأيدينا. لذلك هكذا قال رب الجنود: هأنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف، ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكن لهم بقية، لأني أجلب شرًا على أهل عناثوث سنة عقابهم" [21-23]. يحاول الأشرار منع أولاد الله من الشهادة للحق، "قائلين: لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدِنا" [21]. وكما حدث مع القديسين بطرس ويوحنا إذ "دعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يُعلما باسم يسوع. فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا: إن كان حقًا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فأحكموا، لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا" (أع 4: 18-20). هكذا حاول أقرباؤه -أهل عناثوث- منعه من الشهادة للحق، وقد أصروا على قتله، فإذا بهم يفقدون بنوهم وبناتهم بالسيف كما بالجوع! يقول العلامة أوريجينوس: [يؤخذ اسم "عناثوث" بالمعنى الرمزي، وهو يشير إلى اليهود. "عناثوث" بحسب ترجمة الأسماء العبرية ُتترجم "مختار". كان الشعب اليهودي هو شعب الله المختار، وكان ملكوت الله أيضًا عندهم. بخصوص هذا الملكوت تحققت الكلمات: "إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره" (مت 21: 43). في هذا أيضًا تحققت الكلمات أن "أهل عناثوث" الشعب المختار، "يطلبون نفسه"، ليس نفس إرميا، إنما قيل عن السيد المسيح. "الذين يطلبون نفسك، قائلين: لا تتنبأ باسم الرب". لقد منع اليهود السيد المسيح من أن يعلم، "فلا تموت بأيدينا. لذلك هكذا قال رب الجنود: هأنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع". إنهم لم يهلكوا بالسيف في عهد إرميا وإنما الآن، بعد الخراب، حلّ الجوع عليهم، ليس جوعًا إلى الخبز ولا عطشًا إلى الماء، بل لسماع كلمة الرب (عا 8: 11). لم تعد تُقال بعد لهم العبارة التي كثيرًا ما تكررت: "هكذا قال رب الجنود". فالجوع يتمثل في أنه لم تعد توجد عندهم نبوات ولا حتى تعاليم. فقد نُزعت كلمة الرب من عندهم، وتحققت الكلمات: "فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ويهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب. القاضي والنبي والعرِّاف والشيخ. رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية" (إش 3: 1-3). لم يعد أحد من بينهم يستطيع أن يقول: "كبَناء حكيم قد وَضَعْتُ أساسًا" (1 كو 3: 10).لقد مضى البناءون وعبروا إلى الكنيسة، ووضعوا السيد المسيح "أساسًا" لها، وأولادهم أيضًا بنوا عليه ]. من وحي إرميا 11 عوض لعنة الناموس دخلت بي إلى حضن أبيك! * طوباك يا موسى، ارتفعت على جبل سيناء لتقضي أربعين يومًا وسط سحابة القداسة، تسمع تسابيح السمائيين، وتقبل لوحي العهد من يدّ خالقك! نزلت متهللًا، فقد وقَّع الله عهدًا مع شعبه، أعلنه بحب شديد وقسم! أقسم بذاته لا بخليقته السماوية أو الأرضية. أي عجب أعظم من هذا؟! * نزلت إلى أسفل الجبل: عوض سحابة القداسة، رأيت رجاسة ورقصًا! عوض تسابيح السمائيين، سمعت أغانٍ فاسدة! وعوض الالتقاء مع الله، شاهدت العجل الذهبي! لم تحتمل المنظر، فألقيت بلوحي العهد فانكسرا، معلنًا عن خيانة الشعب للعهد منذ اللحظات الأولى، وسقوطه تحت لعنة الناموس! * هذا هو حالي وحال اخوتي! لقد كسرتُ العهد، وعصيت الوصية الإلهية! فقدت ختان القلب والأذن، فلم أعد قادرًا على سماع الكلمة الإلهية! وأُغلق عليّ في لعنة كسر الناموس! * قبل تجسدك أيها الكلمة الإلهي قدمت ذاتك لأنبيائك! صِرتَ أيها الكلمة مع إرميا، تعمل فيه! لتأتٍ إليّ ولتسكن في أعماقي! لِتُقم عهدك الجديد معي! فأصير بحق من رجال يهوذا وسكان أورشليم! أنتَسِب للأسد الخارج من سبط يهوذا، وتصير أورشليم العليا موطني إلى الأبد! * نزلت إليّ يا قدوس، دخلت معي إلى اللعنة لا بكسر الوصية، إذ أنت هو كلمة الله، لكنك قبلت اللعنة، إذ ُعلقت على الصليب! دخلت معي، إذ صرت لعنة لأجلي، حاملًا لعناتي في جسدك، حطمت دائرة اللعنة وفجَّرت أبوابها، حملتني فيك، وانطلقت بي إلى سمواتك، عوض اللعنة دخلت بي إلى البركة! * في عتاب الحب تناجيني. ما لحبيبتي في بيتي؟! قبلتني مسكنًا مقدسًا لك، وجعلتني محبوبتك، تتحد معك، وتنعم بشركة مجدك! لكنني عملت فظائع كثيرة، أسأت إلى مقدساتك في داخلي، وعوض ذبيحة الصليب عشت في لهوٍ وملذات. أي عذر أقدمه لك يا مخلصي؟! * أقمتني زيتونة جميلة مغروسة في بيتك، عوض ثمر الروح حملتُ ثمار شهوات الجسد، واستحقت أغصاني التي التهبت بنار الشهوة نار التأديب! من ينقذني من نيران الشر إلا نيران روحك القدوس؟! من يرد لي جمالي وثمري فيك إلا نعمتك يا قدوس؟! اعترف لك إني خنت عهدك، هب لي أن تجدده في داخلي يا من حملت اللعنة عني! احملني إلى حضن أبيك واحفظني فيك! * ما أعذب عهدك يا شهوة قلبي، أخرجتني لا من عبودية فرعون، بل من عبودية إبليس، وقدمت لي لا أرضًا تفيض عسلًا ولبنًا، بل حضن أبيك، فردوسًا أبديًا. دخلت بي إلى الراحة عوض السخرة، راحة صليبك واهب القيامة، راحة شرف العمل معك بروح الجدية العذبة. تبكر إليّ وتشتاق أن أبقى معك في العهد الجديد الذي قدمته بدمك الثمين. هب لي أن أتمسك بعهدك، أعطني أن أستعذب وصيتك، امنحني الأذن المختونة فلا أعود أخون العهد بعد! * أعترف لك أيها الآب القدوس! رجعت إلى آثام آبائي الأولين العصاة! رجعت إلى عمل إبليس وملائكته الذين تبَنُّوني في الإثم! لأترك بيت أبي وأجري وراءكّ اقبلني ابنًا لك عوض عدو الخير! حرِّرني أيها الأب لأختبر بنوتي لك كل يوم! لتبقى بنوَّتي لك عاملة في لا يحطمها الشرير! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 13 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() أعداء في الداخل كانت جدران قلب إرميا توجعه من أجل شعبه الذي خان العهد الإلهي، وطلب قتل إرميا نفسه حتى لا يسمعوا لصوت الله. كان يشتاق أن يرجعوا إلى الله بالتوبة فيخلصوا مما سيحل بهم، لكنهم عوض الاستماع إليه قاومه حتى أهل بيته. 1. لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ 1 أَبَرُّ أَنْتَ يَا رَبُّ مِنْ أَنْ أُخَاصِمَكَ. لكِنْ أُكَلِّمُكَ مِنْ جِهَةِ أَحْكَامِكَ: لِمَاذَا تَنْجَحُ طَرِيقُ الأَشْرَارِ؟ اِطْمَأَنَّ كُلُّ الْغَادِرِينَ غَدْرًا! 2 غَرَسْتَهُمْ فَأَصَّلُوا. نَمَوْا وَأَثْمَرُوا ثَمَرًا. أَنْتَ قَرِيبٌ فِي فَمِهِمْ وَبَعِيدٌ مِنْ كُلاَهُمْ. 3 وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَنِي. رَأَيْتَنِي وَاخْتَبَرْتَ قَلْبِي مِنْ جِهَتِكَ. اِفْرِزْهُمْ كَغَنَمٍ لِلذَّبْحِ، وَخَصِّصْهُمْ لِيَوْمِ الْقَتْلِ. 4 حَتَّى مَتَى تَنُوحُ الأَرْضُ وَيَيْبَسُ عُشْبُ كُلِّ الْحَقْلِ؟ مِنْ شَرِّ السَّاكِنِينَ فِيهَا فَنِيَتِ الْبَهَائِمُ وَالطُّيُورُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «لاَ يَرَى آخِرَتَنَا». "أبر أنت يا رب من أن أخاصمك. لكن أكلمك من جهة أحكامك. لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ اطمأن كل الغادرين غدرًا. غرستهم فأصلوا، نموا وأثمروا ثمرًا" [1-2]. تشبه هذه الكلمات ما ورد في المزمور 37، حيث تعجب داود النبي كيف ينجح الإنسان الشرير في طريقه، لكنه عاد فاكتشف أنه كعشبٍ يظهر قليلًا ثم يجف. أما البار كالشجرة يبدو جافًا في الشتاء لكن يحل الربيع ويظهر الثمر المتكاثر، إذ يقول: "لا تغرْ من فاعلي الشر... فإنهم مثل العشب سريعًا يجفون، ومثل بقول الخضرة عاجلًا يسقطون" (مز 37: 1-2). ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله: [إنهم بلا قيمة، يعيشون على سطح التربة ولا يضربون بجذورهم في الأعماق. من ثم فهم (كالعشب) الأخضر في الشتاء، حين تبدأ شمس الصيف تحمَى يذبلون. الآن فصل الشتاء، لم يظهر مجدكم بعد، لكن إن كان لمحبتكم الجذور العميقة كأشجار كثيرة في الشتاء، يمضي الصقيع ويحل الصيف، يوم القضاء، حيث تذبل خضرة العشب ويظهر مجد الأشجار]. يرى البعض أن السبب في إثارة هذا التساؤل في هذا الأصحاح أنه في عام 809 ق.م. عندما سمع يوشيا الملك الاحتجاجات الشديدة التي وُجهت إليه نزل بجيشه لمهاجمة نخو فرعون مصر الذي كان يسير في الطريق المحاذى للشاطئ لاحتلال أرض الفرات، وكان قد احتل غزة وعسقلان وغيرهما من المدن الفلسطينية. التحم الجيشان في مجدون عند سفح جبل الكرمل، فانهار جيش يوشيا سريعًا، وأصيب الملك بجرح مميت (2 أي 35: 23). ُنقل إلى مركبة ثانية، وسرعان ما مات في هددرمون. حزن عليه الشعب كله، حتى صار ذلك مثلًا ومقياسًا لشدة الحزن (زك 12: 11-12). استغل الحزب المناصر للعبادة الوثنية موت يوشيا، قائلين: ماذا تجدي الديانة التي لا تستطيع أن تنجي أعظم مناصرٍ لها من كارثة كهذه؟! هنا نطق النبي بكلمات المرتل آساف (مز 73): لماذا تُنجح يا رب طريق الأشرار؟ يرى البعض أن هذه الكلمات نطق بها إرميا النبي حين دخل في ارتباكٍ شديدٍ، فقد وعده الله منذ بداية الطريق أن يجعل منه مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض (إر 1: 18)، لكنه ها هو يرى الأشرار ينجحون ويزدهرون، بينما يدخل هو في سلسلة من المتاعب والضيقات، لهذا وقف أمام الله يصلي إليه بل يعاتبه بقلبٍ منفتحٍ، في صراحة كاملة... دخل معه كما في ساحة القضاء يقدم احتجاجات المحبة. يلاحظ في هذه الاحتجاجات الآتي: أولًا: بقوله "أبر أنت يا رب من أن أخاصمك" [1]، يبدأ احتجاجه بروح الاتضاع، معلنًا منذ البداية أنه يتكلم من موقع اليقين أن الله بار، لا يخطئ، لكن أحكامه تبدو غير واضحة. فالأمر مجرد تساؤل وعتاب حب، يطلب فيه النبي أن ينير الله ذهنه ليدرك حكمته فيما يحدث. اقتبس النبي العبارة عن (مز 119: 137): "بار أنت يا رب وأحكامك مستقيمة". إن عدنا إلى النص نلاحظ أن الكلمة العبرية ل "أبر" [1] تعني "بارًا" و"بريئًا"، وهي التي استخدمت في (أم 24: 24) للتعبير عما يحدث في ساحة القضاء. وكأن الله في محبته قد أصدر أمره بتأديب شعبه مقدمًا حيثيات حكمه، لا لكي نقبل الحكم كأمرٍ حتمي، وإنما لندخل معه في حوارٍ ونحاججه. هذههي لغة تعامل الله معنا، لغة الحوار. أما نحن فباتضاع نصرخ: "أبر أنت يا رب من أن أخاصمك" [1]، أو كما يقول الرسول بولس: "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب؟! أو من صار له مشيرًا؟!" (رو 11: 33-34). لعل النبي يقول: "لقد رفعت شكواي للقضاء، لكنني اكتشفت أنك بريء!" هنا لا يظهر الله كقاضٍ بل كمتهمٍ، تتهمه النفس البشرية حينما تسقط في مرارة الضيق فتعود وتكتشف خطأها. هكذا يتقدم الديان إلينا كمتهمٍ، تاركًا لنا فرصة اتهامه لندخل معه في حوارٍ مفتوح، ونجد الفرصة لنتبرر به من أخطائنا. وكأن الديان البار يصير متهمًا، لكي يتمتع المتهم الحقيقي بالبراءة. خلال هذه المحاكمة اكتشف النبي خطأه، إذ ظهر أن الشعب مستحق للتأديب، بل وللموت، وأدرك ما قيل عن هذا الشعب: "لأن هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني" (إش 29: 13). هؤلاء هم المراؤون الذين يقدمون بكلماتهم ما ليس في قلوبهم، أو الذين ينطقون بكلمات الرب ولا يقبلون إرادته في حياتهم. عن هؤلاء يقول السيد المسيح: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات" (مت 7: 21). بهذا عرف النبي لماذا يؤدبهم الله. ثانيًا: واضح أن إرميا النبي قدم تساؤلاته في لقاءٍ خاصٍ مع الله وليس علانية، إذ يقول: "لكن أكلمك من جهة أحكامك" [1]. هنا روح الانفتاح والصراحة مع الحكمة؛ فإنه يليق بنا إن عبر بنا فكر عتاب مع الله ليكن ذلك في صلواتنا الخاصة وصرخاتنا الخفية، في حجرة قلبنا الداخلية، حتى لا نُعثر البسطاء، ولا يُسيء الآخرون كلماتنا! كن صريحًا مع الرب إلهك في لقائك الشخصي معه، وتحدث معه لكي يُعلن لك أحكامه، فتشهد له علانية في الوقت المناسب! ثالثًا: واضح من حوار إرميا السري مع الله بشأن أحكامه أمران، يدرك إرميا أن الله لديه الإجابة على تساؤلاته، وأنه مصمم أن يتعرف عليها ليكتشف حكمة الله ويعرف إرادته الإلهية وخطته من نحوه، لهذا يقول: "أبر أنت يا رب من أن أحاكمك" [1]. بمعنى آخر يليق بالمؤمن ألا يخجل من أن يسأل الله بكل صراحةٍ ووضوحٍ وُيلح في السؤال، لكن في ثقة ويقين أن الله لديه الإجابة، ولن يبخل بها عليه، يقدمها له في الوقت المناسب. رابعًا: إن كان إرميا يتعجب كيف ينجح الأشرار، لكن لا يخفي عليه أنهم غادرون غدرًا، وأن هذا الغدر يُعطي نجاحًا مؤقتًا ومزيفًا يليه هلاك وتدمير، كأنهم يغدرون بأنفسهم لا بالله ولا بالناس: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟! اطمأن كل الغادرين غدرًا" [1]. خامسًا: بينما يطمئن الغادرون ويظنون أنهم ناجحون ومثمرون ونامون بقدرتهم وحكمتهم وتخطيطهم البشري، إذا بالنبي يؤكد سلطان الله حتى على هؤلاء الغادرين، فإنه ما كان يمكنهم أن ينالوا هذا النجاح المؤقت إلا بسماح إلهي، إذ يقول: "غرستهم فأصلوا، نموا وأثمروا ثمرًا" [2]. ظاهرة خطيرة! لقد تأصلوا،أي صارت لهم جذور، ونموا وأثمروا، لكن ليس من ذاتهم، لأن الله هو الذي "غرسهم" ليأتوا بثمرٍ روحي صالح، واهبًا إياهم إمكانيات جبارة للعمل لحساب ملكوته، فإذا بهم يسيئون استخدام هذا الغرس وهذه الإمكانيات. ما لديهم من طاقات استخدموها للشر والتحطيمهي عطايا مقدسة أفسدوها بإرادتهم البشرية. إنها ظاهرة خطيرة، يضرم الأشرار مواهبهم بقوة، ويعملون بكل نشاط، فينمون في الشر بلا توقف، مجاهدين بروح الغدر والخداع، بينما يهمل أبناء الملكوت المواهب والإمكانيات الممنوحة لهم. وكما قال السيد المسيح "ابناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم" (لو 16: 8). سادسًا: إن كانوا غادرين، وإن كانوا قد أساؤا استخدام طاقاتهم ومواهبهم وإمكانياتهم، فعلة ذلك كله الرياء. يقتربون إلى الله بفمهم خلال العبادة، خاصة الصلوات والتسابيح، أما كلامهم الخفي وقلوبهم أو إنسانهم الداخلي مع مشاعرهم فبعيدة عن الله: "أنت قريب في فمهم وبعيد من كلاهم" [2]. كأن الرياء هو وراء كل فساد في حياتهم، إذ لهم صورة التقوى وينكرون قوتها (2 تي 3: 5). يرى العلامة أوريجينوسأن هذه العبارة تنطبق على الهراطقة، إذ يقول: ["أنت قريب من فمهم وبعيد من كلامهم"، يعرفون جيدًا أن ينطقوا اسم يسوع، لكنه ليس في داخلهم لأنهم لا يعترفون به بإيمان صحيح]. سابعًا: مقابل هؤلاء المرائين الذين ينطقون بغير ما يبطنون يقدم النبي نفسه كإنسانٍ ينطق بما يبطن، ويحمل في مظهره ما في أعماقه، وأن الله نفسه الفاحص الكلي والقلوب يشهد بذلك، إذ يقول: "وأنت يا رب عرفتني رأيتني واختبرت قلبي من جهتك" [3]. إذ عاش إرميا مع الله بروح الإخلاص بعيدًا عن الرياء استحق أن يكون موضوع معرفة الله ورؤيته. بمعنى آخر يتمتع إرميا بأن يعرفه الله معرفة المحبوب لديه والصديق الملاصق له، وأن ينعم بنظرات حبه واهبة السلام. إن كان الله قد عرَّف إرميا ما يحمله الناس من خداع وما يقدمونه من أفعالٍ شريرة ضده (إر 11: 18)، ففي المقابل يعرف الله أعماق إرميا ويراها ويختبرها بنفسه. ترجع هذه المعرفة إلى ما قبل خلقته، إذ جاءته كلمة الرب: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (إر 1: 5). ثامنًا: إذ كان إرميا النبي نقيًا في أعماقه، مخلصًا في تصرفاته، ما يتكلم به بلسانه يكشف عما في أعماقه، لذا كان نقيًا حتى في غضبه. إن غضب يشهد للحق الإلهي ويطلب توبة الساقطين ونموهم روحيًا. كيف يكون ذلك وهو يقول: "افرزهم كغنمٍ للذبح، وخصصهم ليوم القتل" [3]. في شرهم طلبوا قتله، فصار "كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح" (إر 11: 8). صار ذبيحة حب لأجل الله ولأجل اخوته، فتحول شرهم إلى خيرٍ، وها هو يطلب لهم أن ُيفرزوا للذبح. ربما يتساءل البعض: لماذا يطلب النبي إرميا ذلك لشعبه؟ لا يمكن تجاهل مشاعر النبي الباكي الرقيقة نحو شعبه، وذوبان كيانه الداخلي واعتصاره لأجلهم، فإنه لم ينسَ قط أنه راعٍ، لا يشتهي البلية (إر 17: 16) بل يطلب ما لصالح قطيع الله. فلماذا كان يطلب النقمة لنفسه؟ أ. تكشف كلمة الله عن الضعف البشري، فمع ما حمله النبي من حبٍ إلا أنه في لحظات ضعفه لم يحتمل الضغط المستمر ومقاومة الشعب له على مستوى القيادات الدينية، كما على مستوى رجل الشارع، بل حتى أسرته وأهل قريته خططوا للخلاص منه. إنه إنسان له ضعفاته، أما ربنا يسوع الذي غفر لصالبيه في أمرّ لحظات الألم (لو 23: 34)، فوهب مؤمنيه إمكانية الحب للأعداء والصلاة للمسيئين إليهم كما فعل اسطفانوس (أع 7: 60). ب. طلب النقمة لتأديب أسرته، لأنهم مستوجبون الموت. مارسوا العبادة بما يخالف الناموس، وحسبوا شركة إرميا في اصلاحات يوشيا للهيكل في أورشليم خيانة لهم. من جانب آخر، فإن عائلته وأهل قريته شعروا أن نبواته هيجت الشعب كله ضدهم، وأنهم صاروا في نظر الشعب في كل البلاد خونة للوطن بسببه، إذ أكد حدوث السبي، لذلك ثاروا ضده. فالانتقام الذي يطلبه إنما هو تأكيد أن الله - بالنسبة له - أولًا قبل أسرته وفوق كل علاقات بشرية. ج. ربما لم يكن بعد قد أدرك إرميا مفهوم الألم وتأثيره في خلاص الآخرين، لأنه لم تكن بعد قد ظهرت آلام مخلصنا، فكان يكره الألم. د. ربما خشى النبي إرميا من بطء قصاص الأشرار، فهو يتعجل التأديب، ليس للانتقام، وإنما لكي يُعْطَى طمأنينة للأبرار. ه. ما يطلبه من انتقام ليس رغبة داخلية في طلب الشر من نحوهم، إنما نبوة عما سيحل بهم لأنهم قالوا له: "لا تتنبأ باسم الرب" (إر 11: 21). تاسعًا: أصيب النبي بحالة إحباط بسبب طول أناة الله على الأشرار: "حتى متى تنوح الأرض وييبس عشب كل الحقل، من شر الساكنين فيها فنيت البهائم والطيور، لأنهم قالوا لا يرى آخرتنا" [4]. لم يكن يتعجل التأديب لينتقم لنفسه، إنما لأنه رأى الأرض نائحة، وعشب كل الحقل قد يبس، والبهائم والطيور فنت. بمعنى آخر إذ يتحول الجسد (الأرض) من اللذة بالخطية إلى فقدان الراحة والدخول إلى حالة غمٍ شديدة، ويفقد الإنسان كل ثمرٍ روحي حتى وإن كان كعشبٍ صغير، وتهلك طاقاته الجسدية (البهائم) والروحية (الطيور)... يصير في حاجة إلى تأديب إلهي يرده إلى صوابه ويحثه على التوبة. يقول العلامة أوريجينوس: ["حتى متى تنوح الأرض وييبس عشب كل الحقل من شر الساكنين فيها؟" يتحدث النبي هنا كما لو كانت الأرض كائنًا حيًا، يقول إنها تنوح من شر الذين يمشون فوقها. الأرض بالنسبة لكل واحدٍ منا إما نائحة بسبب شرنا، أو متهللة بسبب فضائلنا. وما يُقال بالنسبة للأرض يُقال بلا شك بالنسبة لكل الأشياء. بالمثل يمكنني أن أقول: إن الماء والملاك المسئول عنه يتهللان أو ينوحان؛ فيجب علينا أن نعرف أنه حتى يتم تنظيم وإدارة الكون كله يوجد ملاك مسئول عن الأرض، وآخر مسئول عن الماء، وآخر عن الهواء وآخر عن النار. ارتفع بعقلك لتتأمل النظام السائد عند الحيوانات والنباتات والكواكب السمائية؛ إذ يوجد ملاك مسئول حتى عن الشمس وآخر مسئول عن القمر وآخرين عن النجوم. هكذا كل هؤلاء الملائكة الذين يرافقوننا طوال حياتنا على الأرض، إما أنهم يفرحون لنا أو ينوحون عندما نخطئ. يقول إرميا إن الأرض تنوح بسبب الساكنين فيها: ويقصد بكلمة "أرض" الملاك الساكن فيها، إذ قيل: "أما الخشب المصنوع صنمًا فملعون هو وصانعه" (حك 14: 8)، ليس أن اللعنة تقع على الشيء الجامد نفسه، وإنما يُقصد بكلمة "صنم" الشيطان الساكن فيه، والذي يتخذ من "الصنم" اسمًا له. بنفس الطريقة أستطيع أن أقول إن "الأرض" يقصد بها الملاك المسئول عن الأرض، و"الماء" الملاك المسئول عن الماء، الذي كُتب عنه: "أبصَرَتَك المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. ارتعدت أيضًا اللجج. سكبت الغيوم مياهها أعطت السحب صوتًا. أيضًا سهامك طارت" (مز 77: 17-18)]. عاشرًا: إن كان النبي يئن من أجل مقاومة الناس له، فإن الله يكشف له عن نهاية شرهم، أو ثمر شرهم. لقد استهانوا بتحذيرات إرميا النبي لهم وصمموا على الشر قائلين في أنفسهم: "لا يرى آخرتنا"]4]. حتى هذا الفكر الصادر عن قلبهم المتعجرف وعدم إيمانهم كشفه الرب لإرميا. كأن إرميا في أمانته قد عرف فكر الرب وإرادته واستلم كلماته، كما عرف خطط الأشرار الخفية وتصرفاتهم ونياتهم الخفية كعطية قُدمت له من الله مُرسله! 2. كبرياء الأردن: 5 « إِنْ جَرَيْتَ مَعَ الْمُشَاةِ فَأَتْعَبُوكَ، فَكَيْفَ تُبَارِي الْخَيْلَ؟ وَإِنْ كُنْتَ مُنْبَطِحًا فِي أَرْضِ السَّلاَمِ، فَكَيْفَ تَعْمَلُ فِي كِبْرِيَاءِ الأُرْدُنِّ؟! 6 لأَنَّ إِخْوَتَكَ أَنْفُسَهُمْ وَبَيْتَ أَبِيكَ قَدْ غَادَرُوكَ هُمْ أَيْضًا. هُمْ أَيْضًا نَادَوْا وَرَاءَكَ بِصَوْتٍ عَال. لاَ تَأْتَمِنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ بِالْخَيْرِ. [5-6]. يرى البعض أن العبارات السابقةهي إجابة الله لإرميا النبي على تساؤله: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" [1]. فقد حملت الآتي: أولًا: كأّن الله يعاتب إرميا النبي قائلًا له: لماذا ضعفت أمام مقاومة الأشرار؟ لماذا لم تحتمل أول عاصفة من الاضطهاد؟ ألا تذكر كيف دعوتك ووعدتك إني أكون معك؟! فلماذا يتسرب اليأس إلى قلبك؟ لقد دخلت المعركة المقدسة بقلبٍ نقي، لكنها فوق إدراكك، لا تعرف أبعادها. انتظر لترى دوري، ولا تتعجل النتائج في حياتك، وفي حياة الشعب الذي تراه الآن شريرًا ومقاومًا لك ولي. إنك حتى الآن قد "جريت مع المشاة فأتعبوك"، لكنني أجعلك تبارى الخيل. أنت الآن في أرض السلام نسبيًا، إنني أسندك حينما تدخل في الأحزان الشديدة التي تجتاح الأرض ككبرياء الأردن. هذه معاملات الله معنا، لا يدفعنا دفعة واحدة لنباري الخيل، بل يختبرنا أولًا بالحري مع المشاة. لا يسمح لنا أن نلتقي بنهر الأردن في حالة فيضانه لمواجهة تياراته ولججه، بل أن ُنجرب أولًا في أرض السلام وسط أحبائنا. تكرر تعبير "كبرياء الأردن" أربع مرات في العهد القديم (إر 49: 19؛ 50: 44؛ زك 11: 3). من الناحية الروحية ينبغي ألا نرتئي فوق ما ينبغي (رو 12: 3)، أي ليعرف كل إنسانٍ قامته الروحية. كمثال لا نمارس ونحن بعد في بداية الطريق التداريب الروحية التي اختبرها النساك في نهاية طريقهم، بل نسلك بحكمة الروح. يلزمنا أن نبدأ الطريق مع المشاة، وعندما ننجح ندخل في مباراة مع راكبي الخيل. إن كنت منبطحًا على الأرض في ضعفٍ وأنت بعد لم تدخل المعركة، ماذا تفعل في كبرياء الأردن؟ التطرف حتى في الطريق الروحي خطير، إذ يلزمنا أن نعتمد على نعمة الله التي تبنينا في هدوء وبحكمة، وليس بانفعلات عاطفية عنيفة. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا المبدأ وهو أن لا يرتئي الإنسان فوق ما ينبغي، حاسبًا إياه رأس كل الفضائل، داعيًا إياه "اتضاع الفكر"، قائلًا: [هنا يقدم لنا الرسول بولس (رو 12: 3) أم كل الأعمال الصالحة، أي اتضاع الفكر، مقتديًا بسيده. فعندما صعد على الجبل وأخذ يقدم نسيجًا من الوصايا السلوكية قدم في المقدمة هذا الينبوع، قائلًا: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3). هكذا أيضًا بولس إذ يعبر من الجوانب التعليمية إلى الجوانب العملية يحدثنا عن الفضيلة بطريقة عامة، سائلًا إيانا أن نقدم (ذواتنا) ذبيحة عجيبة (رو 12: 1). وإذ يقدم صورة خاصة بها بدأ بالاتضاع كما من الرأس، مخبرًا إيانا: "لا يرتئي فوق ما ينبغي، بل يرتئي إلى التعقل" (رو 12: 3). يعني القول: لقد تسلمنا حكمة، لا لنستخدمها لكبريائنا، وإنما لنكون متعقلي الفكر. يقول هذا لا لنكون منحطين في الفكر، بل متعقلين، قاصدًا بالتعقل هنا الفضيلة العاقلة والصحية في الذهن]. بمعنى آخر، يقول الله لإرميا إن كنت تتساءل: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ فلتعلم أنك لاتزال في بداية الطرق الضيق. لكني أكون معك وأرتقي بك وسط الآلام، فتكتشف أسرار محبتي ومعاملاتي معك ومع شعبي. ثانيًا: قدم الله التساؤلات السابقة عوض إجابته على السؤال مباشرة، ليؤكد له أنه يعلم تمامًا ما بلغه إرميا من تعبٍ ومرارة، لكنه ليس منسيًا أمام الله. سيعطيه غلبة على المشاة، ويدخل به إلى المبارة بين راكبي الخيل، وسيرتفع به من نصرة إلى نصرة. بمعنى آخر يؤكد له الله اهتمامه به حتى وإن ثارت في نفسه تساؤلات تبدو كأنها عن ضعف إيمان. كأن الله يقول له: أنا أعرف أنك ولد كما سبق فاعترفت (إر 1: 6)، هادئ الطبع، ذو قلبٍ رقيق، لا تحتمل الضربات العنيفة، اعلم إنني لن أتركك. إني لست مثل إخوتك وأهل بيتك الذين يغدرون بك حتى إن نادوا وراءك بصوتٍ عالٍ وتكلموا معك بالخير [6]. إني أشاركك مشاعرك، وأدرك ضعفاتك، حتى وإن كنت عاجزًا عن مباراة المشاة، أو في معركة على أرض السلام. بهذا لا يُعاني إرميا من الشعور بالوحدة والعزلة أو الشعور بالنقص أو الفشل، لأن الله يرافقه حتى وإن فارقه العالم كله! ثالثًا: نشتم من هذه الكلمات تأكيد الله لإرميا ألا يحكم قبل الوقت. فإن انتظر يرى حكمة الله وأيضًا عدله الممتزج بالحب والرحمة! رابعًا: كأن الله يسأل نبيه إرميا ألا يضطرب بمثل هذه الأسئلة وهو يتطلع إلى بني قومه يقاومونه ويغدرون به، فإنه مُرسل لخدمة الشعوب كما سبق فأخبره: "جعلتك نبيًا للشعوب" (إر 1: 5). بمعنى آخر كأن الله يقول له: إني أتعجب أنك تتساءل في هذه الأمور الصغيرة، وأنا أرسلتك لخدمة الشعوب. عوض الانشغال بهده التساؤلات احرص على تتميم رسالتك العظيمة التي ائتمنتك عليها. ارتفع بنعمتي فوق الأمور التي تشغل بني البشر وذلك بإدراكك لمركزك الجديد الذي قدمته لك. خامسًا: بقوله "إخوتك أنفسهم وبيت أبيك" [5] يقصد كل أهل عناثوث (إخوته)، خاصة الأقرباء جدًا إليه (بيت أبيه). كأنه يقول له: لماذا تحتج عليّ قائلًا: لماذا تُنجح الأشرار؟ إن كنت أطيل أناتي عليهم فلا تنسى أنهم إخوتك وبيت أبيك حتى إن غدروا بك! أنا أحذرك منهم لكنني أؤدبهم لأخلصهم، فهم أقرباؤك! يترجم البعض كلمة "عالٍ" [6] ب "سكران" أو "ممتلئ سكرًا"، فالكلمة العبرية ترجمتها الحرفية هي "وزن ثقيل" أو "ممتلئ" (خاصة بالسُكر)... لهذا يرى البعض أن المعنى هنا هو أن أقرباء إرميا كانوا يسخرون به كإنسان ممتلئ سُكرًا، كما حدث مع التلاميذ حين قبلوا عطية الروح القدس، إذ قيل عنهم إنهم سكارى (أع 2: 13)، كما قيل هكذا عن حنة عندما كانت تُصلي بقلبٍ منسحقٍ (1 صم 12-15). هكذا كان أقرباؤه تارة يسخرون به، وكان في هذا رمزًا للسيد المسيح الذي اتهمه أقرباؤه حسب الجسد أنه مختل العقل (مر 3: 21)، وتارة يحاولون خداعه بكلمات معسولة، كما قبّل يهوذا سيده مسلمًا إياه للموت! 3. تدمير ميراث الله: 7 «قَدْ تَرَكْتُ بَيْتِي. رَفَضْتُ مِيرَاثِي. دَفَعْتُ حَبِيبَةَ نَفْسِي لِيَدِ أَعْدَائِهَا. 8 صَارَ لِي مِيرَاثِي كَأَسَدٍ فِي الْوَعْرِ. نَطَقَ عَلَيَّ بِصَوْتِهِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَبْغَضْتُهُ. 9 جَارِحَةٌ ضَبُعٌ مِيرَاثِي لِي. اَلْجَوَارِحُ حَوَالَيْهِ عَلَيْهِ. هَلُمَّ اجْمَعُوا كُلَّ حَيَوَانِ الْحَقْلِ. اِيتُوا بِهَا لِلأَكْلِ. 10 رُعَاةٌ كَثِيرُونَ أَفْسَدُوا كَرْمِي، دَاسُوا نَصِيبِي. جَعَلُوا نَصِيبِي الْمُشْتَهَى بَرِّيَّةً خَرِبَةً. 11 جَعَلُوهُ خَرَابًا يَنُوحُ عَلَيَّ وَهُوَ خَرِبٌ. خَرِبَتْ كُلُّ الأَرْضِ، لأَنَّهُ لاَ أَحَدَ يَضَعُ فِي قَلْبِهِ. 12 عَلَى جَمِيعِ الرَّوَابِي فِي الْبَرِّيَّةِ أَتَى النَّاهِبُونَ، لأَنَّ سَيْفًا لِلرَّبِّ يَأْكُلُ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. لَيْسَ سَلاَمٌ لأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. 13 زَرَعُوا حِنْطَةً وَحَصَدُوا شَوْكًا. أَعْيَوْا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا، بَلْ خَزُوا مِنْ غَلاَّتِكُمْ، مِنْ حُمُوِّ غَضَبِ الرَّبِّ». في هذا الأصحاح والأصحاح التالي توجد سبع مجموعات من النبوات، ست منها عن انهيار أورشليم، وواحدة (إر 11: 14-17) عن جيران يهوذا، قيلت غالبًا في أيام يهوياقيم (609-598 ق.م). أ. نبوة أولى (إر 12: 7-13): ضد أورشليم ميراث الله. ب. نبوة ثانية (إر 12: 14-17): نبوة عن الأمم المجاورة. ج. نبوة ثالثة (إر 13: 1-11). د. نبوة رابعة (إر 13: 12-14). ه. نبوة خامسة (إر 13: 15-17). و. نبوة سادسة (إر 13: 18-19). ز. نبوة سابعة (إر 13: 20-27). جاءت النبوة الأولى تركز على إسرائيل بكونه الميراث الخاص لله، فمنذ البداية قيل: "إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9). قدم الله لهم أرضه - أرض الموعد - نصيبًا، وقبلهم هم نصيبًا له. لكنهم افسدوا أرضه فصاروا مستحقين الطرد منها، وفقدوا سمتهم كميراثٍ للرب. هكذا ربط بين الشعب والأرض إذ يقول: "قد تركتُ بيتي، رفضت ميراثي، دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها... رعاة كثيرون أفسدوا كرمي... خربت كل الأرض" [7، 11]. يرى العلامة أوريجينوسأن المتحدث هنا هو الكلمة المتجسد الذي نزل إلى أرضنا ليدفع حياته في يد الأعداء ذبيحة لخلاصنا، إذ يقول: ["قد تركت بيتي. رفضت ميراثي. دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها" [7].لاحظ إذًا أن ذاك الذي هو في "صورة الله" (في 2: 6) جالس في السموات، وأنظر إلى بيته الذي يفوق السموات. لو أردت أن ترى أيضًا ما هو أعظم وأعلى من ذلك، فإن بيته هو الله "لإني في الآب" (يو 14: 11). "لقد ترك أباه وأمه" (مت 19: 5)، وترك أورشليم السمائية وجاء إلى الأرض، قائلًا: "قد تركت بيتي. رفضت ميراثي". كان ميراثه في الواقع في الأماكن التي توجد فيها الملائكة والصفوف التي توجد فيها القوات المقدسة. "دفعت حبيبة نفسي (نفسي الحبيبة) ليد أعدائها". لقد دفع نفسه لأيدي أعداء النفس، لأيدي اليهود الذين قتلوه، لأيدي الملوك والرؤساء المجتمعين ضده، فإنه "قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه" (مز 2: 2) ]. نقض الشعب العهد لكن الله حتى في تأديبه لهم، وقد قرر ترك بيته ورفض ميراثه ودفع الشعب للأعداء، يدعو شعبه "حبيبة نفسي" [7]. كأنه يقول إني مضطر أن أترك بيتي وأرفض ميراثي الثمين وأسلم حبيبة نفسي للعدو. قلبي منكسر من أجل هذا كله. متى يرجعلي بيتي مقدسًا؟! متى يعود إليّ ميراثي؟! متى ترجع إليّ حبيبة نفسي؟! في أمر لحظات الخطية، بينما يقوم الله بتأديبك، ينتظر عودتك لتكون بيته الروحي المقدس، ميراثه المحبوب لديه، عروسه حبيبة نفسه! ما دام يوجد نَفَس واحد فيك فهو يترجى عودتك، ويترقب رجوعك إليه كبيتٍ مقدسٍ وميراثٍ له وحبيبة نفسه ولو بالتأديب الحازم. في قوله هذا يقدم الله أيضًا إجابة لتساؤل النبي: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" [1]. أولًا: هؤلاء الذين تدعوهم أشرارًا هم في الحقيقة بيتي وحبيبتي والكرم التي غرستها بيديّ. حقًا صاروا أشرارًا وأفسدوا عملي فيهم وأساءوا استخدام عطاياي لهم. إني أطيل آناتي عليهم إلى حين، أؤدبهم في الوقت المناسب لعلهم يرجعون إليّ ويصيرون نصيبي بالإيمان الحيّ العملي! ثانيًا: إن كنتَ حزينًا عليهم لشرهم وقد صرخت بأن جدران قلبك توجعك من أجلهم، إنما تشاركني حزني على بيتي وحبيبتي وكرمي، ها أنا أقدم مرثاة على ما وصلوا إليه. ثالثًا: إن كنت تئن لأن أهل بيتك وأصدقاءك قد خانوك، فهم خانونى أنا خالقهم الذي جعلتهم بيتي وحبيبتي وكرمتي. جرحك ليس أكبر من جرحي! رابعًا: في المرثاة التي يقدمها الله على شعبه أوضح أنه ليس إرميا هو المعنى عندما يضايقه الشعب، إنما الله نفسه. فإرميا ليس محتاجًا إلى إجابة على أسئلته، بل محتاج إلى الله نفسه موضوع الاضطهاد. لقد قدم توضيحات كثيرة يكشف بها الله لإرميا أنه هو موضوع الاضطهاد وليس إرميا: أ. الأسد الذي يزأر في البرية لا ليجد فريسة وإنما ليخون إلهه: "صارلي ميراثي كأسدٍ في الوعر، نطق علىً بصوته، من أجل ذلك أبغضته" [8]. كثيرًا ما يُشبه الله بالأسد الذي يدافع عن شعبه، إذ قيل: "إن الرب يزمجر من صهيون، ويعطي صوته من أورشليم" (عا 1: 2)، ودُعي السيد المسيح: "الأسد الذي من سبط يهوذا (رؤ 5: 5)، وقيل عنه وهو على الصليب: "ربض كأسدٍ" (تك 49: 9). يتقدم المعركة كأسدٍ قادر على تحطيم عدو الخير الذي يجول كأسدٍ زائرٍ ليبتلعهم فريسة سهلة (1 بط 5: 8). ويود الله أن يقيم من كل مؤمنٍ أسدًا لا يخشى عدو الخير، بل يحمل روح إلهه، روح القوة. أما أن يسيء استخدام طاقاته ومواهبه فيوجهها ضد الله، عندئذ يُحسب كأسدٍ يزأر ضد من وهبه القوة، ضد الله خالقه ومخلصه، فيلقي بنفسه في دائرة غضب الله. هذا ما عبّر عنه بقوله: "من أجل ذلك أبغضته" [8]. بدقة عجيبة يعاتب الله شعبه قائلًا: "صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعر"، لقد أتيت به إلى أرض الموعد التي تفيض عسلًا ولبنًا، ليكون ميراثًا لي، فإذا بشره يحول أرض الموعد إلى وعرٍ وخرابٍ، ويستخدم عطاياي ضدي. ميراثي الذي اخترته لي صار ضدي! "نطق عليّ بصوته"، هذا الذي كان تحت عبودية فرعون لا يقدر أن ينطق بكلمة تحت جلدات المسخرين اللاذعة، أعطيته الحرية فرفع صوته ضدي! ب. ضبعة نهمة على فريستها، إذ يقول: "جارحة ضبع ميراثي لي" [9].قدمت لها أرضي ميراثًا لتنعم وتستريح، فإذا بها كالطير الجارح أو كالضبع الذي يهاجم الفريسة بنهمٍ! هجموا على ميراثي وافترسوه! حسبوه جثة ميتة! ج. طيور جارحة تجتمع حول الفريسة معًا كما في عيدٍ مفرح! "الجوارح حواليه عليه. هلم اجمعوا كل حيوان الحقل، إيتوا بها للأكل" [9]. في التشبيهات الثلاثة يبرز الله كيف تحول شعبه الذي يدعوه "حبيبة نفسه" إلى طبيعة مفترسة نهمة تتهلل بالشراسة والافتراس، تحتقر ميراثه وتحسبه جثة ميتة لا تستحق إلا الأكل! ما أبشع جحود الإنسان لله خالقه ومخلصه، ولعطاياه الفائقة! يقول العلامة أوريجينوس: ["صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعرٍ". انقلب هذا "الميراث" الذي أخذه على الأرض ضده مثل وحشٍ مفترسٍ، وتحول "ميراثه" إلى مجموعة من اليهود الشرسين الهائجين ضده مثل "أسدٍ في الوعر"... الآن أيضًا توجد أسود في الوعر يريدون أن يجدفوا على المسيح، كما يتآمرون على الذين يؤمنون به... "جارحة ضبع ميراثي لي"، ما زال يتنبأ على هذا الميراث: "جارحة ضبع ميراثي لي". جارحة الضبع من أشرس الحيوانات، تحوم حول المقابر لتفترس الجثث. "الجوارح حواليه عليه. هلم اجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل": بما أنهم قد وصلوا إلى هذه الدرجة، فإنني آمركم أيها الملائكة أن تذهبوا وتجمعوا كل الحيوانات المفترسة وأن تطرحوا أمامهم هؤلاء الناس. إذا كان الله لم يشفق على شعبه المختار، فكم بالأكثر لا يشفق علينا نحن أيضًا. إننا إذا لم ننفذ وصية الله وكلام الإنجيل سيقول من جديد: "هلم اجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل"، لكننا نتجرأ لنقول في صلواتنا: "لا تُسَلِم للوحش نفس يمامتك" (مز 74: 19)، أو "لا تسلم للوحوش المفترسة النفس التي تعترف لك بخطاياها". لنعترف إذًا بخطايانا تائبين عنها، فلا نُسلَّم للوحش، وإنما للملائكة القديسين الذين سيكونون بمثابة مرضعين لنا، يحملوننا على صدورهم، ويساعدوننا على العبور من هذا العالم إلى العالم الآتي في يسوع المسيح الذي له القوة والمجد إلى أبد الآبدين]. خامسًا: أوضح الله في مرثاته على شعبه هنا ما قد آل إليه هذا الشعب الخائن من "خراب"، فقد كرر هذا الكلمة خمس مرات في الآيات [10-13]، ليخلق جوًا من الحزن، معلنًا بذلك حزنه على شعبه، وعدم سروره بما حلّ بهم من تأديبات بسبب خطاياهم. هكذا قدم الله لإرميا سلسلة من الإجابات غير المباشرة على تساؤله: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" بطريقة تبعث في النبي روح الرجاء وتدفعه للجهاد والعمل لحساب إخوته في الرب، حتى إن سمح بتأديبهم! "رعاة كثيرون أفسدوا كرمي، داسوا نصيبي، جعلوا نصيبي المشتهى برية خربة!" [10]. يستخدم هنا تشبيه شعب الله بالكرمة، ويرجع ذلك إلى إشعياء (إش 5: 1-7)، وورد في إرميا (إر 6: 9؛ 5: 10). يقصد بالرعاة هنا الملوك ورجالهم ومشيريهم، والقيادات المدنية والدينية (إر 23: 1-4). إنه حزين عليهم لأنه عوض القيام بدور الرعاية للكرم قاموا بتخريبه، وتحويل حقله المشتهى إلى برية خربة. أعطى الله إسرائيل الأرض ميراثًا، ليصيروا هم ميراثه، وإذ أفسدوا الأرض بالعصيان تحولت من أرضٍ مقدسة إلى مقبرة جماعية لقتلى بلا عدد، تحمل دنسًا ونجاسة! يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "جعلوه خرابًا ينوح عليّ وهو خرب. خربت كل الأرض بسببي" [11]، قائلًا: [من هو ذاك الذي يقول: "خربت كل الأرض بسببي"؟ إنه السيد المسيح. من المؤكد قبل مجيء السيد المسيح كان هناك العديد من الخطايا بين الشعب، لكنها لم تكن كثيرة إلى درجة أن ُيسَّلَم الشعب للهلاك الأبدي، لكنهم حينما ملأوا كيل (كأس) آبائهم، لم يكتفوا بقتل الأنبياء واضطهاد الأبرار، قتلوا أيضًا مسيح الرب، فتمت بشأنهم الكلمات: "هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت 23: 37)، وهكذا فإنه "بسبب" السيد المسيح تحملوا هذا المصير وخربت كل أرضهم. إذا أردت أن تفهم الكلمات: "خربت كل الأرض بسببي"، بطريقة أكثر سموًا، انظر كيف خربت الأرض التي في داخلك حينما جاء السيد المسيح. ففي الواقع قد خربت حينما قمنا بإماتة الأعضاء الأرضية، فلم تعد الأرض التي في داخلنا تنتج الأعمال الأرضية، ولم تعد توجد عند البار أعمال الجسد التيهي فسق، نجاسة، شهوة، زنا، سحر إلخ. يقول المخلص أيضًا من جهته: "أتظنون إني جئت لأعطي سلامًا على الأرض؟! كلا، أقول لكم بل انقسامًا" (لو 12: 51).قبل مجيء المسيح لم يكن هناك انقسام على الأرض، لأن لم تكن للجسد شهوات ضد الروح ولم يكن للروح أن تشتهي ضد الجسد. لكن عندما جاء إلينا المخلص وعرفنا ما هي أعمال الجسد وما هي أعمال الروح، بهذه المعرفة حدث الانقسام الذي فصل بين الجسد "الأرض" والروح. ستتحقق الكلمات "خربت كل الأرض" حينما نحمل في جسدنا إماتة الرب يسوع، وحينما لا نحيا بحسب الجسد بل بحسب الروح، وحينما لا نزرع شيئًا في الجسد إنما نزرع كل شيء في الروح حتى لا نحصد فسادًا من الجسد، إنما نحصد بالروح حياة أبدية]. "زرعوا حنطة، وحصدوا شوكًا، أعيوا ولم ينتفعوا، بل خزوا من غلاتكم من حمو غضب الرب" [13]. زرعوا حنطة، لأن معهم شريعة الرب، كلمة الله الحية، لكنهم حصدوا شوكًا لأنهم لم يقدموها بالمفهوم الروحي، ولا عاشوا فيها، بل تمسكوا بالحرف، فعوض الحنطة حصدوا شوكًا. يقول العلامة أوريجينوس: [قيل للخطاة: "تزرعون حنطة وتحصدون شوكًا" [13]. لأنهم حتى إن كانوا يعرفون كلمات الله ويرددونها، إلا أنهم لا يعرفونها المعرفة الصحيحة ولا يعيشون بها ولا يؤمنون بها، بل ينطبق عليهم القول "تزرعون حنطة وتحصدون شوكًا". وينطبق هذا الكلام بصفة خاصة على الهراطقة الذين يقرأون الكتاب المقدس ويحصدون شوكًا، ليس شوكًا من الكتاب المقدس نفسه، إنما من طريقتهم في الفهم والتفسير]. 4. نبوة عن الأمم المجاورة: 14 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَلَى جَمِيعِ جِيرَانِي الأَشْرَارِ الَّذِينَ يَلْمِسُونَ الْمِيرَاثَ الَّذِي أَوْرَثْتُهُ لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ: «هأَنَذَا أَقْتَلِعُهُمْ عَنْ أَرْضِهِمْ وَأَقْتَلِعُ بَيْتَ يَهُوذَا مِنْ وَسْطِهِمْ. 15 وَيَكُونُ بَعْدَ اقْتِلاَعِي إِيَّاهُمْ، أَنِّي أَرْجعُ فَأَرْحَمُهُمْ، وَأَرُدُّهُمْ كُلَّ وَاحِدٍ إِلَى مِيرَاثِهِ، وَكُلَّ وَاحِدٍ إِلَى أَرْضِهِ. 16 وَيَكُونُ إِذَا تَعَلَّمُوا عِلْمًا طُرُقَ شَعْبِي أَنْ يَحْلِفُوا بِاسْمِي: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، كَمَا عَلَّمُوا شَعْبِي أَنْ يَحْلِفُوا بِبَعْل، أَنَّهُمْ يُبْنَوْنَ فِي وَسْطِ شَعْبِي. 17 وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا، فَإِنِّي أَقْتَلِعُ تِلْكَ الأُمَّةَ اقْتِلاَعًا وَأُبِيدُهَا، يَقُولُ الرَّبُّ». في وسط الظلام الدامس يشرق الله على البشرية بنور الرجاء، ليس فقط على شعبه، بل وعلى الأمم المجاورة إن عادوا إليه بالتوبة. إن كان الله يؤدب فهو لا يطلب عذاب البشرية بل نموهم، إذ هو "محبة"، لذا يقول: "عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم أفكار سلام لا شر" (إر 29: 21). هكذا يبعث الله روح الرجاء في إرميا، طالبًا منه عوض التساؤل: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ [1]، أن يتطلع إلى المستقبل ليرى شعبًا جديدًا من كل الأمم والشعوب يتمتع بالحياة الجديدة، حيث يتحول الأمم إلى الإيمان، كما حولت الأمم شعب الله إلى عبادة البعل. يكشف الله لإرميا الذي جعله نبيًا للشعوب (إر 1: 5) عن كنيسة العهد الجديد حيث يملك الله ومسيحه على الأمم (رؤ 11: 5). بهذا أعطى الله لإرميا قوة ودافعًا للعمل بنظرة مستقبلية مفرحة. من وحي إرميا 12 لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ * اسمحلي يا خالقي أن احاججك مع النبيين داود وإرميا: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟! لماذا نرى الأشرار متأصلين ونامين ومثمرين، وأولادك يئنون وسط الآلام؟! * أعترف لك بحبك يا جابلي، سمحت أن تدخل في المحاكمة وأنت ديان البشرية كلها. أنت أبر من أن أخاصمك. لكنني أدخل معك في مضطجعي لأتساءل سرًا. نفسي مرّة؛ من يهبها الراحة غيرك؟! نفسي تتساءل؛ من لديه الإجابة إلا أنت؟ * الآن عرفت لماذا تُنجح طريقهم، تطيل آناتك عليهم لعلهم يتوبون، عرفت أنهم مراؤون... لكنك ستؤدب وتنتظر رجوعهم إليك. * علمت أن شكواي تكشف عن ضعفي. إنني عاجز عن مباراة المشاة، إنني في بدء طريق الألم لا أحتمل غدر الأشرار. علمني أن أنتظر، ولتدربني فأباري الخيل. انبطحت في ضعف وأنا بعد في أرض السلام، علمني أن أنتصر في معركة الآلام كما في كبرياء الأردن، عندئذ لا أتساءل بل أدرك سر طول أناتك. * لماذا اشتكي الأشرار؟! وهم اخوتي وبيت أبي؟! لتطل يا رب بالأكثر أناتك عليهم! هم أكثر حاجة إلى حبك ومراحمك لتقتنيهم لك! اجتذبهم باللطف كما بالتأديب أيها العجيب في حكمتك! * لماذا اشتكي الأشرار؟! إنهم بيتك المرفوض لأنهم دنسوه! هم ميراثك الذي رذلته لأنهم نجسوه! هم حبيبة نفسك التي سلمت نفسها بشرها لعدوها! إنهم يحتاجون إلى رثاء حتى إن تأصلوا ونموا! * لماذا اشتكي الأشرار؟! إنهم لم يقصدوني بل قصدوك أنت فيّ! صاروا كأسدٍ في البرية يزأرون ضدك. صاروا كضبعة نهمة لا تكف عن الافتراس، صاروا كطيرٍ جارحٍ يجتمع معًا حول الطير الصغير يأكلونه كما في وليمة! صاروا كمن في خراب! كان يليق أن أبكيهم حتى على ما بدا عليهم من نجاح. * لماذا اشتكي الأشرار؟ إنهم غرسك، لكنهم أساءوا عطاياك. لقد نموا وأثمروا، لكن لحساب ملكوت الظلمة. لقد أفسدوا كل مواهبك. جدد طبيعتهم وردهم إليك، فإنك لا تزال تنتظر خلاصهم! استحق معهم التأديب، وأترقب عودتي وعودتهم إليك يا حامل خطية العالم كله! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 14 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() طلب الله من إرميا النبي أن يمارس عملًا ما كوسيلة إيضاح يقدم بها درسًا للشعب كما لإرميا نفسه، كما قدم له مثلًا كان شائعًا وسط اليهود، من خلالهما يرد الله على تساؤل إرميا السابق: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ (إر 12: 1)، وفي نفس الوقت يوضح أن ما سيحل بالشعب من تأديب علَّتَه شرورهم، خاصة الكبرياء، مؤكدًا المبدأ الكتابي: "قبل الكسر الكبرياء". استخدام العمل الرمزي لم يكن بالأمر الغريب بالنسبة لإرميا، وقد اعتاد الشعب في العهد القديم أن يسمع صوت الله خلال أعمالٍ رمزية. وجد إرميا متاعب وهو يُجاري المشاة، الآن ها هو يُباري الخيل (إر 5: 12)، يقف أمام الملك والملكة ويعلن مرثاة الرب عليهما، متحدثًا عن فقدان مملكة يهوذا مجدها. 1. منطقة من كتان: 1 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِي: «اذْهَبْ وَاشْتَرِ لِنَفْسِكَ مِنْطَقَةً مِنْ كَتَّانٍ وَضَعْهَا عَلَى حَقْوَيْكَ وَلاَ تُدْخِلْهَا فِي الْمَاءِ». 2 فَاشْتَرَيْتُ الْمِنْطَقَةَ كَقَوْلِ الرَّبِّ وَوَضَعْتُهَا عَلَى حَقْوَيَّ. 3 فَصَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيَّ ثَانِيَةً قَائِلًا: 4 «خُذِ الْمِنْطَقَةَ الَّتِي اشْتَرَيْتَهَا الَّتِي هِيَ عَلَى حَقَوَيْكَ، وَقُمِ انْطَلِقْ إِلَى الْفُرَاتِ، وَاطْمِرْهَا هُنَاكَ فِي شَقِّ صَخْرٍ». 5 فَانْطَلَقْتُ وَطَمَرْتُهَا عِنْدَ الْفُرَاتِ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ. 6 وَكَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لِي: «قُمِ انْطَلِقْ إِلَى الْفُرَاتِ وَخُذْ مِنْ هُنَاكَ الْمِنْطَقَةَ الَّتِي أَمَرْتُكَ أَنْ تَطْمِرَهَا هُنَاكَ». 7 فَانْطَلَقْتُ إِلَى الْفُرَاتِ، وَحَفَرْتُ وَأَخَذْتُ الْمِنْطَقَةَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي طَمَرْتُهَا فِيهِ. وَإِذَا بِالْمِنْطَقَةِ قَدْ فَسَدَتْ. لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ. 8 فَصَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلًا: 9 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هكَذَا أُفْسِدُ كِبْرِيَاءَ يَهُوذَا، وَكِبْرِيَاءَ أُورُشَلِيمَ الْعَظِيمَةِ. 10 هذَا الشَّعْبُ الشِّرِّيرُ الَّذِي يَأْبَى أَنْ يَسْمَعَ كَلاَمِي، الَّذِي يَسْلُكُ فِي عِنَادِ قَلْبِهِ وَيَسِيرُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدَهَا وَيَسْجُدَ لَهَا، يَصِيرُ كَهذِهِ الْمِنْطَقَةِ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ. 11 لأَنَّهُ كَمَا تَلْتَصِقُ الْمِنْطَقَةُ بِحَقْوَيِ الإِنْسَانِ، هكَذَا أَلْصَقْتُ بِنَفْسِي كُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَكُلَّ بَيْتِ يَهُوذَا، يَقُولُ الرَّبُّ، لِيَكُونُوا لِي شَعْبًا وَاسْمًا وَفَخْرًا وَمَجْدًا، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا. "هكذا قال الرب لي: اذهب واشترِ لنفسك منطقة من كتان وضعها على حقويك، ولا تدخلها في الماء... فصار كلام الرب إليّ ثانيةً قائلًا: خذ المنطقة التي اشتريتها التي هي على حقويك، وقم انطلق إلى الفرات واطمرها هناك في شق صخر... وكان بعد أيام كثيرة أن الرب قال لي: قم انطلق إلى الفرات Perath وخذ من هناك المنطقة التي أمرتك أن تطمرها هناك. فانطلقت وحفرت وأخذت المنطقة من الموضع الذي طمرتها فيه، وإذا بالمنطقة قد فسدت لا تصلح لشيء. فصار كلام الرب إليّ قائلًا... هكذا أفسد كبرياء يهوذا وكبرياء أورشليم العظيمة" [1-9]. كيف أمكن للنبي أن يسافر من أورشليم أو عناثوث إلى نهر الفرات بالعراق ذهابًا وإيابًا مرتين حيث تبلغ المسافة بينهما حوالي 350 ميلًا في الشمال الشرقي من عناثوث،أي تقطع الرحلتين معًا حوالي 1400 ميلًا؟ خاصة وأنه لا توجد هناك صخور يخفي فيها المنطقة، إنما يلزمه أن ينطلق إلى شمال كركميش ليجد صخورًا. يرى البعض أن الكلمة هنا Perath ربما يُقصد بها ينبوعًا في وادي فرح يُدعى "عين فرح" يبعد حوالي أربع كيلو مترات شمال شرقي عناثوث (يش 8: 23)، فإن نطق كلمة "فرح" Parah والفرات Perat متشابه . وحسب آخرون أن الحديث هنا رمزي لم يُمارس عمليًا، أو أنه مجرد رؤيا. يلاحظ في هذا المثل الآتي: أولًا: يشّبه الله شعبه بمنطقةٍ جديدة مُشتراه يلصقها النبي على حقويه دون أن يمسها ماء. وكما يقول الله نفسه: "لأنه كما تلتصق المنطقة بحقويّ الإنسان، هكذا ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا ليشعبًا واسمًا وفخرًا ومجدًا لكنهم لم يسمعوا" [11]. هكذا يقتني الله لنفسه الكنيسة -إسرائيل الجديد- لتكون منطقة ملتصقة به أو ثوبه الذي يرتديه. هذا الثوب الذي صار أبيضًا كالنور في لحظات تجلى رب المجد (مت 17: 2)، لأن بداخله شمس البر! مسيحنا يود أن يسكن فينا كثوبٍ له، فيُنيرنا ويقدسنا، نشهد لبهائه ومجده وقداسته! * ثيابه هي الكنيسة، لأنه إن لم يمسكها من يرتديها تسقط. في هذا الثوب كان بولس كما لو كان هُدبًا، إذ قال عن نفسه: "لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 9). في موضع آخر يقول: "لأني آخر الرسل". الهدب في الثوب هو آخر وأقل شيء فيه، لذلك فإن المرأة التي كانت تعاني من نزف الدم إذ لمست هدب ثوب المسيح برئت، هكذا الكنيسة التي جاءت من الأمم صارت صحيحة خلال تعاليم بولس الرسول. أي عجب في الإشارة إلى الكنيسة بالثوب الأبيض إن سمعت إشعياء النبي يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" (إش 1: 18)؟! القديس أغسطينوس * إن رأيت إنسانًا ليس فقط له فهم عميق للاهوت يسوع، إنما يفسر كل تعبيرٍ إنجيلي، فلا تتردد في القول بأن ثياب يسوع قد صارت بيضاء كالثلج. العلامة أوريجينوس * إن كنا نحن ثوب المسيح، فإننا نلبس عريه بإيماننا. انظره معلقًا عريانًا على الصليب بسبب حسد اليهود وغباوة الأمم (1 كو 1: 23)، ومع ذلك فإنه يلتحف بإيماننا وبمعرفتنا ومديحنا...نحن ثوب المسيح، حينما نلتحف باعترافنا بالإيمان، فإننا بدورنا نلتحف بالمسيح. القديس جيروم ويرى القديس جيروم في هذا الحدث نبوة ليس فقط عن السبي البابلي وإنما عن رفض اليهود للإيمان بالسيد المسيح، الذي يفقدهم بكونهم منطقته الكتانية التي فسدت بجحودها، فيقتني لنفسه منطقةً أخرى من الأمم يرتديها ولا يبقى عريانًا.* شعب الله ملتصقون به كما تلتصق ملابس الإنسان بجسده. لكن لأن هذه المنطقة السامية التي التحف بها الرب قد نُزعت وأُلقيت على الجانب الآخر من نهر الفرات ووُضعت في نقرة صخرة، وقد فسدت، فإن هذا الشعب قد سباه الأشوريون، فماذا يفعل الرب؟ إنه لا يبقى عريانًا، لا يمكن أن يبقى بلا منطقة، لا يبقى بلا غطاء. إذ ضاع الشعب الأول صنع لنفسه ثوبًا من الأمم. القديس جيروم سرّ بياض الثوب كالنور ونقاوته كالثلج هو السيد المسيح الذي يرتديه، أما إذا خُلع الثوب عنه، وُطمر في التراب، فلا يحمل إلا الطبيعة الترابية الفاسدة، وتظهر فينا الظلمة والفساد.ثانيًا: يقول العلامة أوريجينوس: [حينما يضع النبي المنطقة على حقويه يمثل الله الذي يحمل شعبه: "ألصقت بنفسي هذا الشعب يقول الرب". صار الشعب مثل المنطقة بالنسبة لله. لماذا صار مثل منطقة لله على حقويه؟ لنقرأ في سفر حزقيال ونعرف كيف أن الله يتنازل بطريقة أو بأخرى إلى المستوى المادي ليناسب فكر الإنسان، وكيف أنه من حقويه إلى تحت منظر نار، ومن حقويه إلى فوق منظر عقيق؛ ونحاول بعقلنا أن نفهم ما هو السبب في أن الجزء الذي من حقوي الرب إلى تحت منظر نار (حز 1: 27)]. ثالثًا: طلب الله من إرميا أن يشتري لنفسه منطقة جديدة من الكتان، وأن ينطلق بها إلى الفرات ويطمرها. ماذا كانت مشاعر إرميا حين وجدها قد فسدت؟! بلا شك كانت نفسه مرّة، اشتراها بفضته، وألصقها بحقويه إلى لحظات، وتكلف مشقة السفر إلى الفرات أكثر من مرة. وأخيرًا وجدها فاسدة لا تصلح لشيء! إنها ثمينة في عينيه! فكم بالأكثر تكون النفس ثمينة في عيني الله الذي اقتناها لنفسه بعد أن خلقها وأوجد كل العالم لأجلها، ولأجل خلاصها أرسل الناموس والأنبياء وأخيرًا تجسد الكلمة الإلهي وقدم دمه الثمين ثمنًا لتجديدها وخلاصها؟! أدرك إرميا أنه ما كان ينبغي عليه أن يتساءل حتى في داخل نفسه: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟! إنها نفوس ثمينة هلكت، يترقب الله خلاصها بكل وسيلة. رابعًا: إن كان الله قد جعل شعبه كمنطقة تلتصق به، فإن المنطقة تضم بقية الملابس معًا حول حقويّ الشخص. وكأن الله يريد من أولاده الذين يلتصقون به أن يضموا الآخرين معًا في الرب. غاية الله من اختيار شعبه أن يجتذبوا كل الأمم ليصيروا ثيابًا ملتصقة بالرب. خامسًا: طمر المنطقة الجديدة في التراب يكشف عن إفساد إمكانياتنا ومواهبنا بطمرها، أي عدم استخدامها لحساب ملكوت الله. إخفاء المنطقة في صخرة يشير إلى حالة الرعب التي حلت بيهوذا، فعوض الاشتياق نحو الالتقاء به كمخلص وعريس للنفس يهربون منه في خوف، طالبين الاختفاء في شقوق الصخور. عندما سقط آدم وحواء في العصيان هربًا من وجه الرب ليختفيا (تك 3: 8). كما قيل في سفر إشعياء: "ادخل إلى الصخرة واختبئ في التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته. ويدخلون في مغاير الصخور وفي حفائر التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض... ليدخل في نقر الصخور وفي شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب..." (إش 2: 10، 19، 21). والعجيب أن السيد المسيح يقدم نفسه "الصخرة" التي فيها نختفي ونحتمي، حيث فيه نتبرر ولا نُدان! نسمعه يقول: "هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة" (خر 33: 20-21). هناك نتمتع مع موسى النبي برؤية بهاء المجد الإلهي. سادسًا: ربما قصد نهر الفرات على وجه الخصوص ليشير إلى خطر الكلدانيين روحيًا وماديًا على شعب الله، إنه يوضح كيف يُفسد السبي البابلي هذا الشعب ويحطمه. سابعًا: أمره الله ألا يضع المنطقة في الماء، ليوضح رفض الشعب التطهير، أو عدم قبولهم المعمودية التي فيها يتمتعون بالموت والدفن مع المسيح ونوال الحياة الجديدة المُقامة. إن كانت المنطقة من الكتان تشير إلى النقاوة، لكن هذه النقاوة تفسد بدون الشركة مع المسيح المصلوب القائم من الأموات والتمتع بعمل الروح القدس الناري غافر الخطايا. وكما يقول الرسول: "ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في برّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا" (تي 3: 5-6). * كان ضروريًا أن يصعدوا بواسطة المياه لكي يصيروا أحياء، فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا ملكوت الله ما لم يخلعوا حالة الموت التي كانت لهم قبلًا... قبل أن يحمل الإنسان اسم "ابن الله" يكون ميتًا، لكنه إذ يتقبل الختم يُلقى عنه حالة الموت ويتمتع بالحياة. الختم إذن هو الماء الذي ينزلون فيه أمواتًا ويصعدون أحياء! الأب هرماس * مغبوط هو سرّ الماء الذي لنا، فبغسل خطايا العمى الذي أصابنا مبكرًا نتحرر وندخل إلى الحياة الأبدية. العلامة ترتليان * يُعطَى الروح القدس للذين يؤمنون ويولدون ثانية بغسل التجديد. البابا أثناسيوس الرسولي * بواسطة غسل الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس نصير أبناء الله. القديس باسيليوس الكبير المعنى الحرفي لعدم وضع المنطقة في الماء هو تأكيد أن المنطقة نظيفة جديدة لا تحتاج إلى غسلٍ بماء.ثامنًا: بالنسبة للمنطقة (بالعبرية ezor) يرى البعض أنها منطقة كتانية حول الوسط كان يرتديها الكهنة والأشراف الأغنياء، وقد رفض بعض الدارسين هذا المعنى وقالوا إنها تعني waistcloth عبارة عن لُباس skirt داخلي حول الحقوين يبلغ إلى منتصف الفخذين. يعلل البعض استخدام المنطقة كرمز ليهوذا بأن إرميا لم يتزوج (إر 16: 2)، فلو أنه تزوج لاستخدم رمز العروس المتحدة بعريسها كما فعل هوشع، لذلك أراد تأكيد التصاق الشعب بالله كالتصاق الإزار بالجسد. أما خامتها فمن الكتان، كثياب الكهنة (خر 28: 39). كانت ثياب هرون الكهنوتية للمجد (خر 28: 2). كأن الله أقام شعبه أمة كهنوتية أو ملكوتًا كهنوتيًا ممجدًا، لكنها بعصيانها فقدت السمة الكهنوتية ودخلت إلى العار، خاصة بجحدها رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا ربنا يسوع المسيح. ستائر الهيكل أيضًا ولباس الملوك من الكتان. فإن كانت مملكة يهوذا قد اتكلت على وجود الهيكل في أورشليم، وعلى أن سبط يهوذا ملوكي، فهوذا يرفض الله هيكله الذي تدنس، وينزع عن يهوذا السمة الملوكية حتى يأتي ابن داود ملك الملوك ويقيم هيكل العهد الجديد ويجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6). تاسعًا: طلب منه طمرها بجوار الفرات (أو عين فرح)، أي بجوار المياه المجانية التي تشير إلى عطية الروح القدس الواهبة التجديد والتقديس. وكأنه لا عذر لنا على فسادنا، لأن فيض النعمة الغنية مُقدم لنا مجانًا، وليس ببعيدٍ عنا! ربما قصد بالمياه أيضًا ما يفعله البابليون بهم، إذ قيل: "هوذا السيد يُصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة، ملك أشور وكل مجده، فيصعد فوق جميع مجاريه، ويجري فوق جميع شطوطه، ويندفق إلى يهوذا. يفيض ويعبر. يبلغ العنق، ويكون بشط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل" (إش 8: 7-8). فإن كان أشور (أو بابل) قد انطلق بكل قوته ليغرق يهوذا، إنما إلى حدود معينة، إذ لا يسمح له بهلاكها لأنها أرض عمانوئيل. بمعنى آخر يسمح الله بالتأديب، فتحل التجارب كالسيل الجارف لكي تبلغ أعناقنا، لكنه يحفظ الرأس (إيماننا بالسيد المسيح رأس الكنيسة) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك (لو 22: 32). تحدث إرميا النبي عن ضرب فرعون لغزة مشبهًا جيشه بالسيل الجارف الذي يملأ المدينة، ويغرق الساكنين فيها (إر 47: 2). عاشرًا: لا نجد أية عبارة تفتح بابًا للرجاء في العودة من السبي، لأن غاية المثل هو الكشف عن خطورة كبرياء يهوذا وأورشليم، وأنه لا مجال لتحطيم هذا الكبرياء سوى مذلة السبي البابلي. فُتح باب الرجاء في مواضع أخرى كما في (إر 29: 10-14)، إذ لا ينطق النبي بكل الحقائق في وقت واحد، إنما حسبما يناسب بنيان الجماعة أو النفس البشرية في ذلك الوقت. 2. مثل الزقاق الممتلئ خمرًا: 12 « فَتَقُولُ لَهُمْ هذِهِ الْكَلِمَةَ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: كُلُّ زِقّ يَمْتَلِئُ خَمْرًا. فَيَقُولُونَ لَكَ: أَمَا نَعْرِفُ مَعْرِفَةً أَنَّ كُلَّ زِقّ يَمْتَلِئُ خَمْرًا؟ 13 فَتَقُولُ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَمْلأُ كُلَّ سُكَّانِ هذِهِ الأَرْضِ وَالْمُلُوكَ الْجَالِسِينَ لِدَاوُدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَالْكَهَنَةَ وَالأَنْبِيَاءَ وَكُلَّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ سُكْرًا. 14 وَأُحَطِّمُهُمُ الْوَاحِدَ عَلَى أَخِيهِ، الآبَاءَ وَالأَبْنَاءَ مَعًا، يَقُولُ الرَّبُّ. لاَ أُشْفِقُ وَلاَ أَتَرَأَّفُ وَلاَ أَرْحَمُ مِنْ إِهْلاَكِهِمْ». "هكذا قال الرب إله إسرائيل: كل زقٍ يمتلئ خمرًا..." [12]. رأينا في [تفسير إرميا إر 12: 6] أن الكل كانوا يسخرون بإرميا، ينادون وراءه بصوت عالٍ (أو يسخرون به قائلين: يا ممتلئ سكرًا). هذا هو منطق العالم أن كلمة الرب أو الوصية هي أفيون الشعوب، كما ادعى الشيوعيون... أو أن السلوك بالروح هو سُكر أو هروب من الواقع العملي، ولم يدركوا أن الخطية هي المسكر الذي يحطم عقل الإنسان ويفقده وعيه، فيثور ضد إخوته، بل أحيانًا ضد الوالدين أو الأبناء. الخطية خاطئة جدًا، تحطم وتهلك... لهذا حينما يقول الرب: "لا أشفق ولا أترآف ولا أرحم من إهلاكهم" [14]؛ إنما يعني أنه يسلمهم إلى شهوة قلوبهم، ويتركهم لإرادتهم الشريرة فيتحطمون، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية ولا يُلزم أحدًا بالشركة معه. وكما يقول الرسول بولس: "لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي... لذلك أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم" (رو 1: 21-24). يشبّه حال الشعب بالزق الذي امتلأ خمرًا، وقد سبق لنا الحديث عن الخمر في الكتاب المقدس بكونه رمزًا لفرح الروح القدس الذي يملأ حياة الكنيسة ويبهج قلب كل عضو مقدس في جسد السيد المسيح، غير أن الخمر هنا لا يشير إلى فرح الروح القدس، وإنما إلى فاعلية الخطية في حياة الجماعة كما في قلب الإنسان. فكما يُشار إلى السيد المسيح بالأسد الخارج من سبط يهوذا بكونه الملك الذي يخلص شعبه هكذا يُشبه إبليس بالأسد من أجل شراسته وطبيعته المفترسة، هكذا الخمر يشير إلى ثمر الروح القدس المفرح كما إلى ثمر الخطايا المحطم. "فتقول لهم هذه الكلمات، هكذا قال الرب إله إسرائيل: "كل زقٍ يمتلئ خمرًا، فيقولون لك أما تعرف معرفة أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا؟!" [12]. يفضل البعض الترجمة السبعينية: "وإن قالوا لك: أما تعرف..." عوض: "فيقولون لك". وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على هذه العبارات، إذ يقول: ["فيقولون لك: هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا؟" إذا كان هؤلاء الناس قد أجابوا هكذا متمسكين بالحرف، ومتظاهرين أنهم يعرفون أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا، فهم في ذلك مخطئون، لأنه ليس صحيحًا أن "كل زقٍ يمتلئ خمرًا". توجد زقاق تكون مملوءة زيتًا أو أي سائلٍ آخر، ويوجد منها أيضًا ما تزال فارغة. إذًا هم مخطئون، ومع ذلك يجيبون: "هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا". سنشرح هذه الإجابة كالآتي: إن كان يوجد بين الزقاق واحد يمكن أن ُيقال عنه إنه زق جيد سُيملأ بخمر تناسب جودته، وهكذا الزق الفاسد ُيملأ بخمر تناسب فساده. نجد في الكتاب المقدس أمثلة عن أنواع الخمر المختلفة، فعن الخمور الرديئة الفاسدة يقول: "لأن من جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة عنبهم، عنب سم، ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل" (تث 32: 32-33). وعن الخمور الجيدة يقول: "يا لكأسك رّيًا" (مز 23: 5). كما تدعونا الحكمة للشرب من كأسها، قائلة: "هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها" (أم 9: 5). يوجد إذًا خمر سدوم ويوجد أيضًا خمر الحكمة. ُيقال كذلك: "كان لحبيبي كرم على أكَمة خصبة" (إش 5: 1). الكرم الذي يزرعه الله يسمى كرمة سورق (إر 2: 21) لأنها كرمة مختارة وجميلة المنظر. ويوجد أيضًا كرمة عند المصريين ضربها الله، إذ قيل: "أهلك بالبرد كرومهم، وجميزهم بالصقيع" (مز 77: 47). تأمل إذن، أن كل الناس في استطاعتهم الآن أن يمتلئوا بالخمر، من أجل ذلك أسميهم زقًا، وأقول أن الشرير منهم يمتلئ بخمر كرمة سدوم، وخمر المصريين، وخمر أعداء إسرائيل، بينما البار منهم بخمرٍ من كرمة سورق، وبالخمر التي ُكتب عنها "يا لكأسك رّيًا". يمكننا أيضًا أن نطبق هذه الكلمات على الرذيلة والفضيلة حتى نفهم أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا، لكن ينبغي أيضًا أن نعرف ما هي عواقب الرذيلة وعواقب الفضيلة: عقوبات للرذيلة، وبركات ووعود للفضيلة! لنوضح الآن من خلال كلمات الكتاب المقدس كيف أن العقوبات وأيضًا الوعود يشار إليها بالخمر: يقول الرب لإرميا: "خذ كأس خمر هذا السخط من يدي واسقِ جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها، فيشربوا ويترنحوا ويسقطوا" (إر 25: 15-16). أشار هنا إلى العقاب بخمر السخط. وإذا أردت أن ترى أيضًا كأس البركة التي يشربها الأبرار، يمكننا أن نكتفي بكلام سفر الحكمة: "اشربوا الخمر إلى أعددتها لكم". تأمل أيضًا السيد المسيح حينما صعد في عيد الفصح إلى العلية الكبيرة المعدة ليحتفل بالعيد مع تلاميذه، وأعطاهم كأس الخمر قائلًا لهم: "اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا، اصنعوا هذا لذكري"، ثم قال أيضًا: "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي" (مت 26: 37). لاحظ إذًا أن الوعد هو "كأس العهد الجديد"، والعقاب هو "كأس خمر السخط"، حيث يشرب كل واحدٍ بما يتناسب مع أعماله سواء الصالحة أو الشريرة. "كل زقٍ" سواء كان جيدًا أو فاسدًا سوف يمتلئ بالخمر التي تناسب طبيعته]. يرى البعض أن المثل الشعبي: "كل زقٍ يمتلئ خمرًا" [12] يعني أن مملكة يهوذا كالزق لا عمل له إلا أن يمتلئ بخمر غضب الله! هنا الخطورة، حيث يفقد الإنسان كل رسالة إيجابية خيّرة ليصير كأنه جاء إلى العالم ليحمل الغضب الإلهي، وليحطم الواحد الآخر! بمعنى آخر ليست الخطية أمرًا عارضًا في حياته، إنما هي أمر حيوي وأساسي، تشغل كل فكره وأحاسيسه وتملك على قلبه وكل أعضاء جسده، وتسيطر على تصرفاته الخفية والظاهرة. ماذا في داخل الكأس؟ "هأنذا أملأ كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم سكرًا. وأحطمهم الواحد على أخيه، الآباء والأبناء معًا يقول الرب" [13-14]. صار الرؤساء والشعب كزقاقٍ مملوء خمرًا، عوض أن يُستخدم للفرح صار للسكر. اقتناهم الله ليكونوا شعبًا خاصًا به، يُنسبون إليه وهو إليهم، مصدر فخرٍ ومجدٍ [11]، لكنهم صاروا سكرى بالغضب الإلهي، لا يصلحون إلا للدمار. لعله يقصد بالخمر الجيد الناموس، والجماعة كزقاق امتلأ بمعرفة الناموس، لكن رياءهم أفسد مفاهيمهم للناموس. فالناموس جيد، هم أساءوا استخدامه فصار لهم خمر غضب الله عوض خمر الناموس المفرح، إذ سقطوا في الكبرياء وهلكوا. يرى البعض أن كلمة "زقاق" في العبرية "nebel" تقارب من كلمة "جاهل" أو "ضيق الأفق" nabal. وكأن المثل اليهودي "إن كل زقاق يمتلئ" يشير إلى أن الملوك والكهنة والأنبياء الكذبة مع الشعب قد صاروا أغبياء يمتلئون من خمر غضب الله. لعل أخطر ما في الأمر أنه ليس فقط صارت القيادات الدينية والمدنية مثلًا سيئًا أمام الشعب إنما صار الآباء يسقون أبناءهم مسكرًا، فيقدمون لهم السُكر عوض التعقل، ويفقد الآباء كرامتهم وتعقلهم حتى في نظر أبنائهم. هذا بالنسبة للسُكر بواسطة خمور هذا العالم، فماذا إن أسكروهم بخمر غضب الله؟! في داخل الكأس ثمر الخطية أو العقاب الإلهي عن الخطية بكونه ثمرًا طبيعيًا، هذه يشربها الخطاة بلا محاباة، إن كان الإنسان ملكًا أو كاهنًا أو نبيًا أو واحدًا من الشعب. مركز الإنسان أو عمله الزمني أو الكنسي لن يعفيه من المسئولية، بل يُخضعه بالأكثر إلى ضرباتٍ أشد. وكما قال الرب: "من يعرف كثيرًا يُضرب أكثر". ويعلق العلامة أوريجينوس على النص الذي بين أيدينا قائلًا: [بسبب الخطاة الموجودين في أورشليم في ذلك الوقت وفي اليهودية، يوضح إرميا ما هو نوع الخمر الذي يملأ الله به الزقاق أي الخطاة... الله الذي يعاقب لا يشفق على أحدٍ، حتى إذا أخطأ النبي يُملأ بجميع تلك التهديدات التي ذُكرت، لن ينقذه من العقاب اسم "نبي". أيضًا ليس من يُدعى كاهنًا ويبدو أن له درجة أعظم وأعلى من الشعب يمكنه أن ينال اشفاقًا من الله حتى لا يعاقبه فيها على خطاياه. إذا أخطأ أحد من بين الكهنة -أقصد الكهنة المسيحيين- أو من بين اللاويين الذين يقودون الشعب - أقصد بهم الشمامسة - فإنه يُعَاقَب. لكن توجد أيضًا بركات خاصة بالكهنة يمكننا أن نراها بنعمة الرب عندما نقرأ سفر العدد، حيث تُذكَر هذه البركات فيه. "كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم" يقول الرب أنه يملأهم سكرًا، وسوف "أحطمهم الواحد على أخيه الآباء والأبناء معًا يقول الرب". لنفهم هذا أيضًا هكذا: أن الله يُجَمِّع الأبرار ويُفَرِّق (يحطم) الخطاة. لم يفرق الله الناس حينما كانوا يعيشون في المشرق (تك 10: 30)، أما عندما ارتحلوا عن المشرق وتحولوا عنه، وقال بعضهم لبعض: "هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء" (تك 11: 4) قال الله عنهم: "هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم"، فتبلبلت ألسنتهم وتبددوا على وجه كل الأرض (تك 11: 9). هكذا أيضًا بالنسبة لشعب إسرائيل، طالما كانوا لا يخطئون كانوا متجمعين في اليهودية، لكن إذ بدءوا يخطئون تفرقوا وتبددوا كل واحدٍ منهم في مكان من الأرض. يلزمنا أن نعلم أنه يحدث شيء مماثل بالنسبة لنا جميعًا. توجد كنيسة في السماء حيث جبل صهيون ومدينة الله الحيّ، أورشليم السمائية، هناك يجتمع كل المختارين والمطوبين في شركة بعضهم مع بعض، بينما يحصل الخطاة على عقابٍ إضافي يتمثل في عدم وجودهم مع بعضهم البعض. إني أعرف ملوكًا في هذا العالم يحبون استخدام "النفي إلى الجزر" كعقابٍ، وحينما يخطئ إنسان في مملكتهم، يقومون أيضًا بنفي عائلته إمعانًا في عذابه وعذابها، وفي النفي يقومون بتفريق وتشتيت أفراد العائلة: الزوجة في مكان، والابن في مكان، والابن الآخر في مكان، حتى أنه في وسط الكارثة، لا تستطيع الأم أن تطمئن على ابنها، ولا يستطيع الأخ أن ينعم بصحبة أخيه. لك أن تتخيل شيئًا كهذا بالنسبة للأشرار. يجب عليك أيها الخاطى أن تذوق هذه المرارة الشديدة الآن التي يوقعها الله بك، حتى ترتد عن طريقك فتخلص. ونفس الشيء بالنسبة لك أيضًا، فإنك لا تعاقب خادمك أو ابنك لمجرد رغبتك في ايذائه، وإنما لتصلحه من خلال الآلام، هكذا يقوم الله بإصلاح الخطاة الذين لا يرجعون من أنفسهم، بتوقيع الآلام عليهم، وإلا لما تابوا ولا رجعوا، وبالتالي أيضأ لما شُفوا. هذه الضربات التي تحل بنا هي نافعة لتعليمنا، كما يقول الكتاب: "بلا توقف بالألم والسوط سوف تتعلمين يا أورشليم"، كذلك فإن التفريق (التبديد) يزيد من القيمة التعليمية للألم، عندما نفرق الذين نعاقبهم كل واحدٍ بعيدًا عن الآخر لا يوجدون مجتمعين، لأنهم إذا اجتمعوا مع بعضهم تضعف قوة الألم من خلال كلمات التعزية التي يتبادلونها ليخففوا آلام بعضهم البعض. إذا كان يجب إضافة مبررٍ آخر للتفريق، إلى جانب ما سبق شرحه، فإليك أيضًا السبب: حينما يجتمع الأشرار معًا، لا يفكرون إلا في الشر ويعملون دائمًا على زيادته، وكذلك أيضًا الأبرار حينما يجتمعون لا يفكرون إلا في الخير. إذًا فإن نيّات الأشرار وأهدافهم التي تتشدد وتتقوى بوجودهم معًا تذوب وتتحطم حينما يتفرقون ويتشتتون. لذلك فإن الله في عطفه ورفقه بالخطاة يعمل على تفريقهم عن بعض حتى يقل شرهم ويتلاشى بدلًا من أن ينمو ويكثر]. كأس التأديب: "لا اشفق ولا أترآف ولا أرحم من اهلاكهم" [14]. تعثر بعض الهراطقة مثل الغنوسيين من هذه العبارة وأمثالها قائلين: "كيف يقول الرب هكذا: "لا أشفق، ولا أترآف، ولا أرحم" ونقول عنه أنه رحوم؟ يجيب العلامة أوريجينوس معلنًا عن أهمية التأديب حتى وإن بدى قاسيًا: [يعتمد الهراطقة على تلك الكلمات ويستندون عليها ليقولوا: انظروا ما يقوله خالق العالم ورب الأنبياء عن نفسه، فكيف يمكن إذًا أن يكون إلهًا صالحًا؟ إنني آخذ هنا مثلًا للقاضي الذي لا يشغل فكره إلا الصالح العام، وبالتالي يطبق القانون دون اشفاق على المخطئ، يعاقبه حتى يحمي باقي المجتمع. يمكنني بهذا المثال أن أوضح بطريقة مقنعة، أن الله في اشفاقه على البشرية كلها يرفض أن يشفق على عضوٍ واحدٍ من أعضاء الجسد في سبيل اشفاقه على الجسد كله. نفترض أن قاضيًا حدد لنفسه مهمة إقرار السلام للشعب الخاضع لقضائه وأن يحافظ على مصالحهم؛ حضر أمامه في المحكمة قاتل حسن المظهر وملامحه جذابة، وجاءت والدة هذا القاتل إلى القاضي تستعطفه وتسأله أن يشفق على ابنها ويرحم شيخوختها، وطلبت زوجة القاتل أيضًا الرحمة، كذلك أبناؤه التفوا كلهم حول القاضي يترجوه من أجل أبيهم... ما هو النافع للصالح العام؟ هل يرحمه القاضي أم لا؟ أجيب أنه إذا رحمه القاضي سيعود إلى خطئه؛ أما إذا لم يرحمه فإن القاتل يموت ويصبح المجتمع في حالة أفضل. نفس الشيء يقال بالنسبة لله: فإنه لو أشفق على الخاطئ ورحمه وذهب في إشفاقه هذا إلى درجة عدم معاقبته على خطئه، فمن من الناس لا يندفع في طريق الشر؟! مَن مِن الخطاة لن يزيد في شره ويتحول إلى الأسوأ؟ يمكننا أن نرى أشياءً مماثلة تحدث في الكنائس، فمثلًا إنسان يخطئ ثم يطلب أن يتناول من الأسرار المقدسة بعد ارتكابه الخطأ، إذا أشفقنا عليه سريعًا، بهذا نحث الشعب كله على فعل الشر وتزيد أخطاء الآخرين؛ لكن إذا عرف القاضي (الكاهن) مقدار الخسارة التي تلحق بالشعب في حالة السماح لهذا الشخص بالتناول والتساهل معه في خطئه، يجب عليه طرد هذا الخاطئ، ليس على سبيل الوحشية أو عدم الإحساس، وإنما لأنه يهتم به، ويهتم أيضًا بكل الشعب قبل أن يهتم به كفردٍ واحدٍ. إذًا فهو يطرد الفرد ليخلص الجماعة. أنظر أيضًا إلى الطبيب ولاحظ كيف إنه لو أشفق على المريض ولم يستخدم معه المشرط في الوقت المناسب، لو أشفق عليه ولم يعالجه بأنواع الأدوية الكاوية حتى يُجَنّبِه الآلام المصاحبة لهذه الأنواع من العلاج، كيف يتفاقم المرض وتزيد خطورته عن ذي قبل. أما إذا تقدم الطبيب في جرأة ولجأ إلى الاستئصال أو إلى الكي، ففي هذه الحالة يمنح المريض الشفاء، رغم أن المظهر الخارجي يوحي بأنه يرفض أن يشفق وأن يرحم المريض بتعرضه لكل هذه الآلام. كذلك الله، فإنه لا يمارس سلطة لمصلحة إنسانٍ واحدٍ، وإنما لصالح العالم أجمع. يدير ما في السموات وما على الأرض وما في كل مكان. يعمل لمصلحة كل العالم وجميع الكائنات؛ ويعتني أيضًا بمصلحة الفرد بشرط ألا تتعارض وألا تكون على حساب مصلحة الجماعة. من أجل ذلك أُعدت النار الأبدية وأعدت أيضًا جهنم والظلمات الخارجية، ليس لأجل الإنسان المعَاقَب وحده، بل ولمصلحة الجميع. إذا أردت أن أذكر لك مثالًا من الكتاب المقدس يشهد أن معاقبة الخطاة من أجل نفع الآخرين وتعليمهم، حتى ولو كنا يائسين من شفاء هؤلاء الخطاة أنفسهم، فإليك ما يقوله سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "اضرب المستهزئ فيتذكى الأحمق" (أم 19: 25). لم يقل أن الذي يُضرَب هو الذي يتذكى ويعود إلى عقله بسبب الضربات، إنما الأحمق بسبب الضربات الواقعة على المستهزئ يكف عن التمادي في حماقته ويصير عاقلًا. يتغير حينما يرى عقاب الآخرين. وكما أن سقوط إسرائيل كان فيه خلاص الأمم، كذلك أيضًا فإن عقاب البعض يكون فيه خلاص الآخرين. من أجل ذلك يقول الله في صلاحه: "لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم"]. ما هو الارتباط بين المثلين: المنطقة التي طُمرت والزق المملوء خمرًا؟ كلاهما فسدا، ولا يُمكن بعد استخدامهما، الأول يشير إلى الكبرياء محطم الإنسان، والثاني إلى السُكر بالخطية وعدم التعقل الروحي أو مراجعة النفس والتوبة... هذا ما يسببه كبرياء الإنسان وتشامخه، إذ يظن في نفسه حكيمًا وهو مخمور! لعله استخدم المثلين ليشير بالأول إلى جحد النفس لعمل السيد المسيح وبالثاني جحدها روحه القدوس. إن كان السيد المسيح يُشار إليه بالصخرة (1 كو 10: 4) والروح القدس بالسُكر الروحي (أع 2: 13-21)، عوض المسيح الصخرة يختبئ الإنسان في صخور هذا العالم فيصير كالمنطقة الفاسدة، وعوض السُكر بروح الرب يمتلئ بخمر غضب الله! 3. دعوة للتوبة: 15 اِسْمَعُوا وَاصْغَوْا. لاَ تَتَعَظَّمُوا لأَنَّ الرَّبَّ تَكَلَّمَ. 16 أَعْطُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ مَجْدًا قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَ ظَلاَمًا، وَقَبْلَمَا تَعْثُرُ أَرْجُلُكُمْ عَلَى جِبَالِ الْعَتَمَةِ، فَتَنْتَظِرُونَ نُورًا فَيَجْعَلُهُ ظِلَّ مَوْتٍ، وَيَجَعْلُهُ ظَلاَمًا دَامِسًا. 17 وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا ذلِكَ، فَإِنَّ نَفْسِي تَبْكِي فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةً مِنْ أَجْلِ الْكِبْرِيَاءِ، وَتَبْكِي عَيْنَيَّ بُكَاءً وَتَذْرِفُ الدُّمُوعَ، لأَنَّهُ قَدْ سُبِيَ قَطِيعُ الرَّبِّ. 18 قُلْ لِلْمَلِكِ وَلِلْمَلِكَةِ: «اتَّضِعَا وَاجْلِسَا، لأَنَّهُ قَدْ هَبَطَ عَنْ رَأْسَيْكُمَا تَاجُ مَجْدِكُمَا». 19 أُغْلِقَتْ مُدُنُ الْجَنُوبِ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ. سُبِيَتْ يَهُوذَا كُلُّهَا. سُبِيَتْ بِالتَّمَامِ. 20 اِرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْمُقْبِلِينَ مِنَ الشِّمَالِ. أَيْنَ الْقَطِيعُ الَّذِي أُعْطِيَ لَكِ، غَنَمُ مَجْدِكِ؟ 21 مَاذَا تَقُولِينَ حِينَ يُعَاقِبُكِ، وَقَدْ عَلَّمْتِهِمْ عَلَى نَفْسِكِ قُوَّادًا لِلرِّيَاسَةِ؟ أَمَا تَأْخُذُكِ الأَوْجَاعُ كَامْرَأَةٍ مَاخِضٍ؟ "اسمعوا واصغوا، لا تتعظموا لأن الرب تكلم" [15]. إذ يتكلم الرب يليق بيهوذا أن يحمل الأذن المختونة، فيسمع ويصغي لله بروح الطاعة، لا أن يتجاهل صوت الرب في كبرياءٍ وعصيانٍ.هكذا يكشف النبي عن خطورة الكبرياء، فإنه لا يعود يصير مصدرًا للفرح أو الشبع، بل للبكاء والحزن [17] بسبب ما يجره من دمار. يعلق العلامة أوريجينوس قائلًا: [يريدهم أن يسمعوا وأن يصغوا (يميلوا بآذانهم)، لا يكفيه أن يسمعوا فقط أو أن يصغوا فقط. كما يأمرهم ألا يتعظموا، يعلمهم ما يجب أن يفعلوه. ما هو إذًا السماع؟ وما هو الإصغاء...؟ "اصغوا": أي تَقبَّلوا الكلام في آذانكم؛ و"اسمعوا": أي تقبلوا الكلام في أذهانكم. بما أنه توجد في الكتاب المقدس بعض الكلمات الغامضة والأسرار الخفية كما توجد أيضًا بعضها ظاهر وبسيط في فهمه، أظن أنه بالنسبة للكلمات الغامضة قيل: "اسمعوا"، وللبسيطة قيل "اصغوا". بعد أن نكون قد سمعنا وأصغينا، يوصينا قائلًا: "لا تتعظموا"لأن "كل من يرفع نفسه يتضع" (لو 14: 11، 18: 14). حينما يقول المخلص لنا: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 29)، يعلمنا ألا نتعظم. لأنه إلى جانب شرور الناس الكثيرة، فإن هذه الخطية (التعاظم) منتشرة بيننا: تارة نتعظم ونتفاخر بدونأي سبب، وتارة من أجل شيء لا يستحق أي تعظم بالمرة، وتارة من أجل أن ما فعلناه يستحق بعض التعظيم، حتى في ذلك تعظمنا يصير مؤذيًا لنا... يوجد أناس يفتخرون بكونهم أبناء حكام وفي قدرتهم إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويفتخرون من أجل أمور تافهة لا طائل من ورائها، وبالتالي لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا. ويوجد من يفتخرون بأن لهم سلطان على إعدام الناس، ويفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه "ترقية" تمكنهم من الإحاطة برؤوس الناس. مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم (في 3: 19). آخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الأرضي. وغيرهم يفتخرون لأن لهم منزل جميل مثلًا، أو أراضٍ شاسعة. كل تلك الأشياء لا تستحق حتى أن تكون موضع اعتبار، ولا يليق بنا أن نفتخر بأي شيء منها. لكن يبدو لي بالنسبة لنا أننا نتعظم ونفتخر بأننا حكماء، أو أننا منذ عشرة سنوات مثلًا لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أيضًا بحمل القيود في أيدينا من أجل السيد المسيح، هذه الأشياء تدعو للتفاخر بحق. لكن حتى هذه الأشياء أيضًا، إذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نتفاخر بها. كان لبولس موضوع به يتعظم، أي رؤيته مناظر الرب وإعلاناته (2 كو 12: 1) ورؤى (أع 16: 10)، وعمل قوات وعجائب (رو 15: 19) واحتمال الآلام من أجل المسيح، ومن أجل الكنائس التي أسسها في غيرته لبناء كنيسة في كل موضع حيث لم يكن اسم المسيح معروفًا (رو 15: 20). كل هذه تمثل موضوعًا للتعظم. بحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، يبدو افتخار بولس الرسول أمرًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ مع ذلك بما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر حتى بتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع. من أجل هذا تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 7-9). إذًا يجب علينا ألا نتعظم ولا نتفاخر بشيء، لأن الكبرياء يصاحبه السقوط، كما يقول الكتاب: "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم 16: 18)]. يطالبنا ألا نتعظم بل نعطي لله مجدًا حتى لا نتعثر على جبال الظلمة... لنمجد الله لا بالكلمات بل بالحياة العملية، بالسلوك المتواضع في غير كبرياء، وبالحياة المقدسة المنيرة بالرب، فلا يكون للظلمة موضع فينا، ولا نتعثر! بالاتضاع الذي هو اتكال حقيقي على الله نكون جبالًا منيرة لا مظلمة. يقول العلامة أوريجينوس: [لنرى ماذا يوصينا الله أن نفعل: "اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة فتنتظرون نورًا". يريد أن من يعطي الرب مجدًا، يعطيه في وجود النور، لأن مجد الرب لا يمكن أن يُعلن حينما يأتي الظلام... "اعملوا ما دام النور فيكم". النور موجود فيك، طالما تحمل في داخلك السيد المسيح الذي قال عن نفسه "أنا هو نور العالم". طالما هذا النور موجود فيك اعطِ إذًا مجدًا للرب؛ لكن اعلم أن الظلام يمكن أن يأتي، يجب ألا تنتظر حتى يحل هذا الظلام، بل اعطِ مجدًا للرب قبل مجيئه. ربما يمكننا أن نفهم بوضوح هذا الموضوع إذا استعنا بكلام السيد المسيح: "اعملوا ما دام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل"؛ يقصد بالنهار وقتنا الحاضر، وبالظلام والليل انتهاء العالم وفناءه بسبب عقاب الأشرار. يقول عاموس النبي: "ويل للذين يشتهون يوم الرب. لماذا لكم يوم الرب هو ظلام لا نور؟!" (عا 5: 18). إذا عرفت كيف يكون الحزن والشقاء عند هلاك العالم، سيصيب الحزن تقريبًا معظم الجنس البشري الذين ُيعَاقَبون على خطاياهم، عندئذ تعرف أن الجو يصير معتمًا ومظلمًا فلا يستطيع أحد أن يمجد الله. لأن الله أوصى الأبرار قائلًا: "اذهب يا شعبي. ادخل إلى بيتك، واغلق عليك بابك، اختبئ قليلًا أو كثيرًا حتى ينتهي حمو غضبي". لنلاحظ أيضًا في تلك الكلمات أن الرب يقول: "قليلًا أو كثيرًا"، قليل بالنسبة لله، لكنه ليس كذلك بالنسبة للإنسان. كما يجب أن نعلم أيضًا أن الأشياء تكون قليلة وكثيرة بالنسبة للمخلوقات. آخذ مثالًا على هذا: بالنسبة للحيوانات قد تكون كمية الطعام قليلة إذا ما قيست بحجم أجسامهم أو كبيرة بالنسبة لقدرتهم على الأكل. كذلك ما يبدو قليلًا بالنسبة للإنسان البالغ يكون كثيرًا بالنسبة للطفل. هكذا كل زمان الحياة الإنسانية، حتى بالنسبة لشيخٍ مُسنٍ، ما هي إلا فترة قصيرة بالنسبة للعصر الحالي. نفس الشيء في علاقتنا بالله، فإن ما هو قليل بالنسبة لله يكون في نظرنا وبالنسبة لنا كثيرًا، والقليل عنده يماثل عصرًا بأكمله عندنا. "اعطوا الرب إلهكم مجدًا". كيف يمكننا أن نعطي الرب إلهنا مجدًا؟ لا نعطي الرب إلهنا مجدًا بمجرد ترديدنا بعض الكلمات والأصوات، إنما إذا أردنا تمجيده، فلنمجده بأعمالنا. مجده بضبط النفس، مجده بعمل الخير، بالحق، بالشجاعة والصبر والاحتمال، مجد الله بالقداسة وكافة الفضائل الأخرى... الإنسان البار يمجد الله، والشرير يهين الله؛ وذلك كما في حالة نبوخذ نصر، فلقد هدم هيكل الرب ودنسه، وبتعديه للناموس أهان الله، كما يقول الرسول]. ما هي جبال العتمة التي تعثرت فيها أرجلهم؟ لقد شبه الله الأشرار بمنطقة الكتان التي فسدت، وبالزق الممتلئ خمرًا، وهنا يتحدث عنهم كجبال مظلمة. سبق فرأينا في سفر حزقيال أن الله يدعو شعبه "جبال إسرائيل"، الجبال التي بلقائها مع الله استنارت به نور العالم، والآن إذ تعظمت في عينيّ نفسها صارت جبالًا مظلمة، لأنها اعتزلت عن سرّ استنارتها. يميز العلامة أوريجينوس بين جبال العتمة والجبال المقدسة في حديثه عن بلعام، إذ يقول إن بالاق قد جاء به إلى جبال الفتور، إلى خداعات الشياطين، لكن الرب نقله إلى جبال الله، إلى قمة الجبال (رأس الصخور عد 23: 9)، وإلى التلال المقدسة؛ هناك يرى شعب الله، ويدرك أسراره، [لأن إسرائيل (الروحي) يقع على الجبال المرتفعة وعلى التلال العالية،أي يعيش حياة فاضلة وصعبة، حيث لا نستطيع بسهولة أن نكون جديرين بالتطلع إليها أو إدراكها، ما لم نتسلق المرتفعات وقمم المعرفة، لهذا لم يلعنه الله. إن حياته عالية ومرتفعة، وليست دنيئة أو منحطة. لكن يبدو لي أن الله لا يقول هذا عن إسرائيل حسب الجسد، بل عن ذاك الذي يسير في الأرض وسيرته في السموات (في 3: 20)]. ["اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة". توجد جبال معتمة وجبال مضيئة، لكن بما أن النوعين هم جبال، فالاثنان أيضًا مرتفعان. تتمثل الجبال المضيئة في ملائكة الله والقديسين، والأنبياء، وموسى "الخادم" ورسل السيد المسيح، كل هؤلاء الجبال مضيئة، وأعتقد أن هذه هي التي كُتب عنها في المزامير: "أساساته في الجبال المقدسة". ما هي الجبال المعتمة؟ الذين يقيمون مرتفعات ضد معرفة الرب (2 كو 10: 5). الشيطان جبل معتم، ورؤساء هذا العالم المُجَنَّدون للتدمير والاهلاك أيضًا جبال معتمة؛ وحينما قال الرب لتلاميذه: "لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل" يقصد به جبلًا معتمًا وهو الشيطان. لأنه حينما أثيرت المناقشة بين السيد المسيح وبين تلاميذه بخصوص الشيطان الذي كان في الصبي، وحينما سأل التلاميذ المخلص قائلين: "لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه"؟ أجابهم: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل - أي لهذا الشيطان الذي تتناقشون بخصوصه - انتقل من هنا إلى هناك فينتقل". انتقل من "هنا"،أي من هذا الصبي، "إلى هناك" أي إلى مكانه الطبيعي في الهاوية. إذًا الذين يتعثرون لا يتعثرون على الجبال المضيئة إنما على جبال العتمة حينما يذهبون مع الشيطان وملائكته. "فتنتظرون نورًا"؛ إذا ما أعطيتم الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة. مما لا شك فيه، حتى إن حَلَّ الظلام، تنتظرون نورًا، هذا النور يصحبكم. قد يقول أحد الحاضرين: حتى هؤلاء الذين تعثر أرجلهم على جبال العتمة ينتظرون نور رحمة الرب بجانب تلك الجبال المعتمة. هذا أيضًا هو تفسير الكلمات: "فتنتظرون نورًا"]. بكى إرميا النبي شعبه الذي اختار بكبريائه الظلمة طريقًا له، إذ يقول: "اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة، فتنتظرون نورًا، فيجعله ظل موتٍ، ويجعله ظلامًا دامسًا؛ وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء، وتبكي عينيَّ بكاءً، وتذرف الدموع، لأنه قد سُبي قطيع الرب" [16-17]. يقصد بظل الموت Sal-mawet في العهد القديم الظلام الشديد، وتترجم أحيانًا "الظل العميق" كما في (مز 23: 4). يدخل إرميا إلى أماكن مستترة متضعة ليقدم الدموع من أجل قطيع الرب الساقط تحت سبي إبليس... إن كان قلبهم قد أصيب بالعمى فلا يدركون أنهم ينحدرون إلى الظلمة، إذا بقلب إرميا يتمزق حزنًا عليهم. أدرك إرميا النبي أنه لم يبقَ أمام القلب المُصاب بعمى الكبرياء إلا بصيص من النور، يتبدد حتمًا إن أصر القلب على عجرفته، فيصير في الظلمة يتخبط وليس من منقذٍ بعد! لقد جاءت اللحظات الحاسمة والخطيرة بعدها لا ينفع الندم! كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نصبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود على قلبه، فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله، فإذا به ُيلقى بنفسه في الهاوية، ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس. المعنى الحرفي للأماكن المستترة هو أن إرميا اضطر إلى الاختفاء من وجه الملك الذي رفض حكمة الرب. ما هذه الأماكن المستترة إلا أحشاء السيد المسيح محب البشر، ففيه إذ تدخل النفس لا تكف عن ذرف الدموع من أجل خلاص كل العالم! لقد دخل الرسول بولس هذه الأماكن المستترة إذ يقول: "لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم" (2 كو 2: 4). يرى العلامة أوريجينوسأن إرميا يبكي في أماكن مستترة، فقد خبأ الرؤساء والقيادات النبوات التي تشهد للسيد المسيح، فصار الناس في ظلمة عوض النور. كما يقول: ["وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة، ستبكي أنفسكم أمام الشدة". من بين الذين يسمعون، يوجد من يسمعون بطريقة مستترة ويوجد من لا يسمعون بطريقة مستترة. ما هو إذًا السمع بطريقة مستترة إلا ما تقوله الآية: "بل نتكلم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1 كو 2: 7). عندما اسمع الناموس، إما اسمعه بطريقة مستترة أو لا اسمعه بطريقة مستترة. فاليهودي مثلًا لا يسمعه بطريقة مستترة؛ لهذا يُختتن بطريقة ظاهرية، غير عالمٍ أن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا" (رو 2: 28)، أما الذي يسمع ويفهم الختان بطريقة مستترة فيكون مختتنًا في الخفاء". وإذا كان اليهود قد قتلوا السيد المسيح قديمًا، وهم مسئولون حتى يومنا هذا عن موته، فإن هذا حدث لأنهم لم يسمعوا الناموس ولا الأنبياء بطريقة مستترة. كذلك أيضًا بالنسبة لموضوع حفظ السبت، توجد بعض النساء حتى يومنا هذا لا تسمعن كلام الله بطريقة مستترة فهن لا يفعلن أي شيء في يوم السبت، كما لو كان السيد المسيح لم يأتِ إلينا ليحملنا من حرفية الناموس إلى كمال الإنجيل. لذلك حينما نقرأ الناموس والأنبياء نحذر لئلا نقع تحت عاقبة النبوة التي تقول: "وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة". إذا قرأنا أمثال السيد المسيح الموجودة في الإنجيل أمام إنسان من خارج الكنيسة لا يسمع بطريقة مستترة، لكن إن كان السامع هو أحد الرسل أو أحد أبناء الكنيسة، فإنه يقترب من السيد المسيح ويسأله ويتناقش معه حول غموض المثل، فيقوم السيد المسيح بتفسير المثل له: فيصبح هذا المستمع من السامعين بطريقة مستترة وبالتالي لن تبكي نفسه. لماذا لم يقل الرب: "ستبكون إن لم تسمعوا بطريقة مستترة" وإنما قال: نفسكم سوف تبكي"؟ يوجد بكاء خاص بالنفوس وحدها. لعل السيد المسيح أوضح لنا هذا النوع من البكاء حينما قال: "هناك يكون البكاء" وأيضًا: "ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لو 6: 25). يتحدث عن البكاء الذي يهددنا به النبي هنا حينما يقول: "إن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة"، لأنه حينما تأتي عليكم الشدة ستبكون و"ستذرف عيونكم الدموع لأنه قد سُبي قطيع الرب"... ]. يرى العلامة أوريجينوس في العبارة "إن لم تسمعوا في الخفاء" [17] أن مجد الإنسان خفي، معطيًا مثالًا لذلك موسى النبي الذي كان يغطي وجهه ببرقع إذ تمجد. ويقول داود النبي: "أظهرت ليغوامض حكمتك" (مز 50). أما وقد بكى إرميا بمرارة على قطيع الرب الذي يسقط تحت السبي، فإنه يقدم مرثاة على الملك الشاب والملكة أمه، فإنهما لن يخلصان من هذا المرّ، ولا يهربان منه. "قل للملك وللملكة: اتضعا واجلسا، لأنه قد هبط على رأسيكما تاج مجدكما، أُغلقت مدن الجنوب، وليس من يفتح. سُبيت يهوذا كلها، ُسبيت بالتمام" [18-19]. يشير العددان [18-19] إلى سبي الملك الشاب يهوياقين إلى بابل عام 598-597 ق.م. جاء في (2 مل 24: 8-17) ومعه أمه الملكة نحوشتا (2 مل 24: 8، 15)، حيث عانت يهوذا المتكبرة من صفعة قوية، وضاع رجاؤها. جاءت هذه المرثاة قصيرة تناسب الملك الذي لم يدم مُلكه سوى ثلاثة شهور . كان في الثامنة عشرة من عمره عند موت والده يهوياقيم، ولكن بعد ثلاثة شهور سُبي إلى بابل. بعد سنوات (سنة 562 ق.م.) حُرر لكن لم يُسمح له بالعودة إلى بلاده (إر 52: 31-34؛ 2 مل 25: 27-30). سقط التاج عن رأسيهما وضاع من بين أيديهما المُلك. واضح هنا أنه كان للملكة الأم دور رئيسي في إدارة المملكة في يهوذا، وكان لها سلطانها في أيام الملك آسا حتى تخلَّص منها (1 مل 15: 13). حين حلَّت الكارثة لم يجد الملك وأيضًا الملكة لهما ملجأ في منطقة الجنوب أو مدن نجبNegeb(القسم الجنوبي من يهوذا) المعروفة بخصوبتها ومدنها الكثيرة، لأن جيوش الغازين عزلت أورشليم عن مدن الجنوب حتى لا يجد سكان أورشليم مجالًا للهروب؛ أو لأن هذه المدن إذ أدركت الخطر الذي حلّ بأورشليم أغلقت أبوابها وخشت أن تفتحها حتى لقيادات يهوذا عند هروبهم. من الجانب التاريخي هددت آدوم مدن نجب ألا تقبل اللاجئين من أورشليم حتى يملك الغازون تمامًا. فعلت هذا إما لمصلحتها الشخصية حيث أرادت خراب يهوذا، أو لحساب البابليين، وقد وُجدت نقوش تؤكد ذلك. يرى البعض أن هذه المدن كانت مخازنًا للملك، لذلك حاصرها الأعداء لمنع وصول مئونة إلى أورشليم أثناء حصارها. يصور النبي ما حلَّ بأورشليم بواسطة بابل: "ارفعوا أعينكم وانظروا المقبلين من الشمال. أين القطيع الذي أُعطى لك، غنم مجدك؟ ماذا تقولين حين يعاقبك وقد علّمتهم على نفسك قوادًا للرياسة؟ أما تأخذك الأوجاع كامرأة ماخض؟" [20-21]. بعد تقديمه مرثاة على ما حلَّ بالملك وأمه الملكة بدأ يتحدث عن أورشليم كراعية وحارسة لقطيعها الممجد، فقد صارت بلا قوة لتحمي شعبها، قطيع الرب! يطالبها أن ترفع عينيها لترى أين قطيعها، فقد أُقتيد إلى السبي، وُتركت أورشليم خرابًا. عوض الاهتمام بقطيع الرب أقامت بشرها من البابليين قوادًا للرئاسة، يفترسون حملانها! صارت كامرأة ماخض، لا تلد ابنًا أو ابنة تفرح به أو بها، إنما تلد قيادات من الأعداء تحطم شعبها! عوض أن تلد حملًا تحتضنه تلد ذئبًا يفترس بنيها!! أو كما قيل في هوشع: "أفرايم تطير كرامتهم كطائر من الولادة ومن البطن ومن الحبل" (هو 9: 11)،أي صارت أورشليم عقيمة لا تحبل، رحمها بلا ثمر، بلا أبناء! هذه هي مسئوليتها! إنها لم تعد بالراعية ولا الحارسة لخراف الرب بل بشرها تقدم لهم ذئابًا تفترسهم! 4. ثمار الشر: 22 وَإِنْ قُلْتِ فِي قَلْبِكِ: «لِمَاذَا أَصَابَتْنِي هذِهِ؟». لأَجْلِ عَظَمَةِ إِثْمِكِ هُتِكَ ذَيْلاَكِ وَانْكَشَفَ عَنَفًا عَقِبَاكِ. 23 هَلْ يُغَيِّرُ الْكُوشِيُّ جِلْدَهُ أَوِ النَّمِرُ رُقَطَهُ؟ فَأَنْتُمْ أَيْضًا تَقْدِرُونَ أَنْ تَصْنَعُوا خَيْرًا أَيُّهَا الْمُتَعَلِّمُونَ الشَّرَّ! 24 « فَأُبَدِّدُهُمْ كَقَشٍّ يَعْبُرُ مَعَ رِيحِ الْبَرِّيَّةِ. 25 هذِهِ قُرْعَتُكِ، النَّصِيبُ الْمَكِيلُ لَكِ مِنْ عِنْدِي، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنَّكِ نَسِيتِنِي وَاتَّكَلْتِ عَلَى الْكَذِبِ. 26 فَأَنَا أَيْضًا أَرْفَعُ ذَيْلَيْكِ عَلَى وَجْهِكِ فَيُرَى خِزْيُكِ. 27 فِسْقُكِ وَصَهِيلُكِ وَرَذَالَةُ زِنَاكِ عَلَى الآكَامِ فِي الْحَقْلِ. قَدْ رَأَيْتُ مَكْرَهَاتِكِ. وَيْلٌ لَكِ يَا أُورُشَلِيمُ! لاَ تَطَهَرِينَ. حَتَّى مَتَى بَعْدُ؟» "وإن قلتِ في قلبكِ: لماذا أصابتني هذه؟ لأجل عظمة إثمكِ هُتك ذيلاكِ وانكشف عنفًا عقباكِ" [22]. يشير النبي هنا إلى تساؤلات الشعب المتكررة: لماذا أصابتنا هذه الويلات؟ والجواب المتكرر: هو ارتكابكم الشر، ورجوعكم عن الرب، وإصراركم على عدم التوبة. فالشر ليس من الله إنما مصدره إرادتكم الشريرة. أخطر ما وصل إليه هذا الشعب ليس السقوط في الخطية، فإن الله يعلم ضعف الإنسان، ويشتاق أن يخلصه من كل خطية ولا يدينه عليها، إنما الإصرار على ارتكاب الشر، فيشربون الإثم كالماء، ولا يشعرون بما هم عليه. يصيرون كالمريض الذي لا يبالي بالمرض ولا يشعر بخطورته، بالتالي لا يجد حاجة للذهاب إلى طبيب. مع كثرة الإثم وارتكابه بلا انقطاع صاروا يعترضون على تأديبات الله كأنها ظلم، حاسبين أنفسهم أبرارًا! سبق فأوضح خطورة الكبرياء، هنا يبرز خطورة الكذب (ربما يقصد به الاتكال على الآلهة الكاذبة) والرجاسات (التي تلازم العبادة الوثنية). بقوله "هتك ذيلاكِ" يعني أنها صارت عارية، وفي ذلك رمز للشهوات الجسدية في إباحية وبعنف، حيث تكشف عورتها للشر (لا 8: 6-19؛ 20: 17؛ تث 23: 1؛ 27: 20؛ إش 47: 3؛ نا 3: 5). كذلك كشف العقب بعنفٍ يرمز إلى الرغبة الشهوانية الجامحة. يرى البعض أن هذا التصوير يعني به أن أورشليم صارت كامرأة فاسدة، عرّت الخطية عورتها وكشفت جسدها في غير حياء! يبرز هنا خطورة الشر، فإنه يفسد طبيعة الإنسان، فيلتصق به الشر ليصير كجلد الكوشي أو رقط النمر، لا تتغير. الله لن يغلق باب مراحمه، لكن إسرائيل في كبريائه تحولت حياته إلى عصيان مستمر وخيانة له. بقوله: "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟!" [23] لا ينفي الحرية الإنسانية في اختيار طريق دون الآخر، فقد جاءت كل الكتابات النبوية تؤكد حرية الاختيار، بل وإرميا النبي نفسه إذ يدعوهم إلى التوبة يؤكد ذلك، إنما هذا النص يعني أمرين: أولًا: ممارسة الخطية خاصة إلى فترات طويلة وبصورة جماعية تمثل ضغطًا شديدًا على الإرادة فتسلبها حريتها، وتفقدها قدرتها على الاختيار. ثانيًا: الحاجة إلى عون إلهي أو إلى النعمة الإلهية لتقديس الإرادة وردّها إلى الحرية الداخلية المسلوبة. كمثالٍ يتحدث القديس جيرومعن إصرار شاول على تعقب داود للخلاص منه وإصرار داود على الاحتمال بطول أناة؛ قائلًا: ["هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطة؟!" [23]... هذا ما يقوله داود (أيضًا في المزمور السابع) فكما أن الكوشي لا يقدر أن يغير جلده، هكذا لم يستطع شاول أن يغير شخصيته. لقد سقط بين يديّ مرتين، وكان في استطاعتي أن أقتله. كان يمكنني أن أسفك دمه. لقد أردت أن أغلبه باللطف، لكن إرادته الشريرة بقيت غير منهزمة. كما لا يقدر الكوشي أن يغير جلده، هكذا لا يستطيع شاول أن يغير خبثه ]. الله وحده يقدر أن يغير طبيعتنا ويجددها لذلك يقول القديس جيروم: [الخصي الأثيوبي غيّر جلده بالرغم من قول النبي، وهو يقرأ العهد القديم وجد ينبوع الإنجيل (أع 8: 27-39)]. يرى John Guest ما لهذا المثل من أثر على الثقافة الغربية قائلًا بأن إرميا صار مشهورًا بسببه . إذ بلغوا هذا الحد، فامتزجت طبيعتهم بطبيعة الشر، وصارتا كأنهما طبيعة واحدة، جاء الثمر الطبيعي لذلك وهو: التحطيم! "فأبددهم كقشٍ يعبر مع ريح البرية. هذه قُرعتك، النصيب المكيل لك من عندي يقول الرب، لأنكِ نسيتنى، واتكلتِ على الكذب. فأنا أرفع ذيليكِ على وجهكِ، فيُرى خزيكِ، فسقكِ، وصهيلكِ، ورذالة زناكِ على الآكام، في الحقل، قد رأيت مكرهاتكِ. ويل لكِ يا أورشليم، لا تطهرين. حتى متى بعد؟!" [24-27]. يشبَّه الغزو البابلي بالريح الشديدة التي تهب فتحملهم كالقش في وسط البرية، ليس من يهتم بهم! من جهة يوضح أنه هو الذي يبددهم، لأن هذا هو نصيبهم الذي اختاروه. كالوا لأنفسهم الباطل، فصاروا باطلًا. يعود فيكرر الله لشعبه أن ما حلّ بهم ليس محض مصادفة، ولا لقوة بابل العظيمة، إنما لشر إرادتهم التي اختارت هذا النصيب. ومن جهة أخرى إنهم قش، ليس بينهم حنطة، تهب الريح لتعصف بالقش وتفرزه عن الحنطة... فلا لوم على الريح بل على يهوذا التي لم يُوجد فيها حنطة في ذلك الحين. لئلا تقول هذا نصيبي قد حتمه عليّ الرب، يؤكد بها: "لأنكِ نسيتني، واتكلتِ على الكذب" [25]. يرى البعض أن كلمة "كذب seqer تعني هنا بعض الآلهة الوثنية، ربما يكون البعل. إذ يُحسب الكذب زنًا روحيًا، له خطورته، حتى دُعي إبليس بالكذاب وأب الكذابين (يو 8: 44)، لهذا فإن ثمرة زناها الروحي أن تدخل في الفضيحة وُيرفع ذيلها، فتظهر عارية، لعلها تخجل فتتوب. عبّر عن الرجاسات الوثنية بالفسق والصهيل ورذالة الزنا، تمارس هذه الأمور علانية على التلال وفي الحقول المفتوحة، هناك حيث العبادة الوثنية. أخيرًا إذ رأى الغزو قد صار على الأبواب صرخ مترجيًا توبتهم، قائلًا: "حتى متى بعد؟!" . من وحي إرميا 13 لاختفي فيك يا صخرة حياتي! لأسكر بخمر روحك القدوس! * قبلتني كثوبٍ يلتصق بك، فأصير أبيضًا كالنور، لأنك أنت شمس البر، صخرة حياتي! لأختفي فيك، فأتقدس وأتمجد يا إكليل حياتي! * صرت كالزق المملوء خمرًا، امتلأت أعماقي بسخطك من أجل كبرياء قلبي! لتنزع عني خمر غضبك، وليسكن روحك القدوس فيّ، فأسكر بحبك ولا أطلب آخر غيرك يا شهوة قلبي! * حملني عصيإني إلى جبال العتمة! اظلمت عينا قلبي، فلم أعد أعاين بهاءك! أحاط ظل الموت بيّ... من ينقذني غيرك يا مخلصي؟ * احملني إلى جبالك المقدسة، إلى كلمتك واهبة الاستنارة، اراك تظلل بجناحيك عليّ، تقيمني من ظل الموت إلى ظلال صليبك واهب الحياة! ترفعني إلى القمم العالية فأعاين سمواتك، واشتهي شركة أمجادك! * لتُقم مرثاة على أعماقي، فقد تحطم مُلكي واُنتزع عزي. من يقيمني ملكًا إلا أنت يا ملك الملوك؟! من يجعلني كاهنًا روحيًا سواك يا أسقف نفوسنا؟! من يردني من السبي، ويدخل بي إلى العرش، إلا أنت يا رب الجنود؟! * أخيرًا أعترف لك: لقد فسدت طبيعتي، وصرت كالنمر يمتلئ جلدي رقطًا. لتغير طبيعتي، ولتجددها بروحك القدوس! أنت وحدك خالقي، تقدر أن تعيد خلقتي، وتمجدها فيك وبك يا إكليل نفسي! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 15 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() الشفاعة المرفوضة يكمل هذا الأصحاح الحديث عن التأديب بالقحط، حيث يؤكد الرب حتمية هذا التأديب بسبب إصرار الشعب مع القادة على الشر، رافضًا كل شفاعة عنهم، حتى إن قدمها موسى وصموئيل النبيين. * القحط والتطلع إلى العصر المسياني. 1. الشفاعة المرفوضة: "ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِي: «وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لاَ تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هذَا الشَّعْبِ. اِطْرَحْهُمْ مِنْ أَمَامِي فَيَخْرُجُوا." [1]. نحن نعلم أن شفاعة النبي لدى الله من أجل الشعب كانت عملًا أساسيًا في حياته، لذا أراد الله تأكيد صدق نبوة إرميا بالرغم من عدم قبول شفاعته في أمر رفع التأديب، لأنه وإن تشفع موسى وصموئيل النبيين لن تُقبل شفاعتهما في ذلك الحين، ولن يُسمح للشعب أن يقف أمامه. كأن عدم قبول شفاعة إرميا ليس علتها ضعف في شخصه أو في عمله، وإنما في إصرار الشعب على عدم التوبة. ذكر المزمور (مز 99: 6) موسى وهرون وصموئيل كشفعاء عظماء يستجيب الله صلواتهم. قدم لنا العهد القديم موسى شفيعًا في (خر 32: 11-14؛ 20: 34؛ 32: 30؛ عد 10: 13-19؛ 14: 13-19؛ تث 9: 26-29). كما قدم لنا صموئيل النبي شفيعًا في (1 صم 7: 5-11؛ 12: 19-25). قيل: "فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودًا ومطرًا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدًا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صلِ عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت... فقال صموئيل للشعب: لا تخافوا... وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أُعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 12). هكذا امتزجت صلواته وشفاعاته بتعليمه لهم ليعيشوا حسب العهد الإلهي. لم يكن هذان النبيان شفيعين فحسب، بل كانا أيضًا وسيطين في أقامة عهد بين الله والشعب. ذِكر هذين النبيين له معنى خاص بالنسبة لإرميا النبي، إذ كان يُنظر إليهما كنموذجين حيين لخدمته، حاسبًا نفسه خلفًا في سلسلة الأنبياء . وُصف إرميا في سفر المكابيين الثاني كشفيعٍ دائم: "فأخبرهم أيضًا برؤيا قد رآها وهي موثوق بها، فتشجعوا جميعًا. وهذه هي الرؤيا أن أحد رؤساء الكهنة، وهو شريف كريم صالح وفصيح، ومنذ حداثته منكب على كل فضيلة، وقد ظهر يمدّ يديه مستشفعًا لأجل الشعب. ثم ظهر شخص آخر بثياب فاخرة وبهيئة جميلة. فقال رئيس الكهنة إن هذا هو إرميا نبي الله، وهو محب لإخوته يشفع دائمًا لأجل الشعب والمدينة المقدسة" (2 مك 15). من محبة الله لهم أنه لا يشفق عليهم إلى حين، ولا يقبل شفاعة الأنبياء عنهم حتى يرد غضبه، لأنه يريد خلاصهم الأبدي بالرجوع إليه أولًا. إنه لا يطلب أن يرفع التأديب المؤقت مهما بدا قاسيًا، إنما يُريد مجدهم الأبدي. الله الذي يُسر بوحدتنا وصلاتنا لبعضنا البعض يرفض أحيانًا حتى شفاعة قديسيه متى رأى فينا تهاونًا بخلاصنا، فإنه لا يستطيع إنسان ما أن يفدينا. وكما يقول المرتل: "الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟" (مز 49: 7). حقًا إننا نُصلي لأجل بعضنا البعض، ونطلب صلوات القديسين عنا، لكن بروح الالتقاء مع المخلص نفسه كفادٍ وحيدٍ وفريدٍ. * يوجد بعض الناس يتكلون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّتهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله... "الأخ لن يفتدى، فهل يخلص إنسان؟" هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟! القديس أغسطينوس * لا تتطلع إلى أخٍ لخلاصك... بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، هو وحده قادر أن يقدم فدية لله عنا جميعًا... دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًا، الذي سفكه لأجلنا جميعًا... ليس لأنه سكن بيننا "في شبه جسد الخطية" (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج إلى تقديم فدية لله عن نفسه، ... فإنه "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش" (1 بط 2: 21) . القديس باسيليوس الكبير * وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: "الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟ كلا، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثالٍ ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير: "لا تصلِ لأجل هذا الشعب، فإنني لا اسمع لك". ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك، "وإن وقف موسى وصموئيل أمامي" [1] لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن توسل حزقيال يُقال له: "وإن وقف نوح ودانيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون..." وإن توسل البطريرك إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصى شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33) حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن فعل صموئيل ذلك ُيقال له: "لا تنح على شاول" (راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب يسمع ذات الإجابة التي قيلت لموسى: "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها" (عد 12: 14).* أوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيراننا، لأن "الأخ لا يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟"... لقد استجْدَت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدى أعذارًا لكنه يُدان . القديس يوحنا الذهبي الفم سبق أن تحدثنا عن طلب صلوات أو شفاعات الغير بدون التوبة في تعليقنا على: [إر 7: 16؛ 11: 14].إذ يتحدث العلامة أوريجينوس عن قوة الصلاة، يرى في ارتباط شخص صموئيل النبي بموسى النبي هنا يحمل معه ذات الرتبة، هذا الذي أدركت والدته أنها عاقر والتجأت إلى الله بالصلاة فوهبها إيّاه. يعلن هذا الحديث الإلهي عن عجز البشرية في التشفع في الخطاة حتى يأتي السيد المسيح. جاء في سفر حزقيال: "وطلبت من بينهم رجلًا يبني جدارًا ويقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أجد" (حز 22: 30). لقد جاء ربنا يسوع المسيح، الإنسان الكامل، الذي وقف في الثغرة يشفع في البشرية، وكما جاء في إشعياء: "فرأى أنه ليس شفيع، فخلصت ذراعه لنفسه وبره هو عضده" (إش 54: 16). يقول الرسول بولس: "وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو 15: 8). الآن إذ يرفض الله شفاعة أنبيائه عن الشعب يقول: "أطرحهم أمامي فيخرجوا" [1]. إنها تقابل قول إيليا النبي وتلميذه إليشع: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)، حيث يعني وجودهما أمام الله الذي يهبهما حضرته كسّر قوتهما؛ يثبتهما ويهبهما حالة القيام بغير انطراح أو سقوط. أما هذا الشعب وقد ارتبط بآلهة غريبة، ووضع ثقته فيها، ومسرته في الشهوات الجسدية والرجاسات، فلا يستحق الوقوف بل يبقى مطروحًا بلا عون، ويُطرد من الحضرة الإلهية... "لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأيّة شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!" (2 كو 6: 14-15). في القديم وهب الله شعبه الخروج exodus،لكي يخرجوا من عبودية فرعون منطلقين إلى الأرض التي تفيض عسلًا ولبنًا، حيث الشبع والحرية. الآن يطردهم من أمامه فيخرجوا exodus،لكنه خروج من حالة الحرية والشبع إلى العبودية لإبليس وشروره وإلى الفراغ. 2. التأديب: 2 وَيَكُونُ إِذَا قَالُوا لَكَ: إِلَى أَيْنَ نَخْرُجُ؟ أَنَّكَ تَقُولُ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: الَّذِينَ لِلْمَوْتِ فَإِلَى الْمَوْتِ، وَالَّذِينَ لِلسَّيْفِ فَإِلَى السَّيْفِ، وَالَّذِينَ لِلْجُوعِ فَإِلَى الْجُوعِ، وَالَّذِينَ لِلسَّبْيِ فَإِلَى السَّبْيِ. 3 وَأُوَكِّلُ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ، يَقُولُ الرَّبُّ: السَّيْفَ لِلْقَتْلِ، وَالْكِلاَبَ لِلسَّحْبِ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الأَرْضِ لِلأَكْلِ وَالإِهْلاَكِ. 4 وَأَدْفَعُهُمْ لِلْقَلَقِ فِي كُلِّ مَمَالِكِ الأَرْضِ مِنْ أَجْلِ مَنَسَّى بْنِ حَزَقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ فِي أُورُشَلِيمَ. 5 فَمَنْ يَشْفُقُ عَلَيْكِ يَا أُورُشَلِيمُ، وَمَنْ يُعَزِّيكِ، وَمَنْ يَمِيلُ لِيَسْأَلَ عَنْ سَلاَمَتِكِ؟ 6 أَنْتِ تَرَكْتِنِي، يَقُولُ الرَّبُّ. إِلَى الْوَرَاءِ سِرْتِ. فَأَمُدُّ يَدِي عَلَيْكِ وَأُهْلِكُكِ. مَلِلْتُ مِنَ النَّدَامَةِ. 7 وَأُذْرِيهِمْ بِمِذْرَاةٍ فِي أَبْوَابِ الأَرْضِ. أُثْكِلُ وَأُبِيدُ شَعْبِي. لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ طُرُقِهِمْ. 8 كَثُرَتْ لِي أَرَامِلُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ رَمْلِ الْبِحَارِ. جَلَبْتُ عَلَيْهِمْ، عَلَى أُمِّ الشُّبَّانِ، نَاهِبًا فِي الظَّهِيرَةِ. أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا بَغْتَةً رَعْدَةً وَرُعُبَاتٍ. 9 ذَبُلَتْ وَالِدَةُ السَّبْعَةِ. أَسْلَمَتْ نَفْسَهَا. غَرَبَتْ شَمْسُهَا إِذْ بَعْدُ نَهَارٌ. خَزِيَتْ وَخَجِلَتْ. أَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَلِلسَّيْفِ أَدْفَعُهَا أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ». "ويكون إذا قالوا لك: إلى أين نخرج؟ أنك تقول لهم: هكذا قال الرب: الذين للموت فإلى الموت، والذين للسيف فإلى السيف، والذين للجوع فإلى الجوع، والذين للسبي فإلى السبي" [2]. يتساءل الشعب: "إلى أين نخرج؟"، لا في انتظارٍ إلى إجابة، ولا رغبة في تصحيح الموقف، إنما في نوع من التذمر. يتم التأديب في إحدى الصور الأربع التالية: الموت أو السيف أو القحط أو السبي [2]. هذه الصور تكشف عن عمل الخطية: أ. أجرة الخطية موت (رو 6: 23؛ تك 2: 17؛ يع 1: 15)، "كما أن البر يؤول إلى الحياة، كذلك من يتبع الشر فإلى موته" (أم 11: 19). بارتكابنا الخطية نعزل أنفسنا عن القدوس مصدر حياتنا، فندخل إلى الموت، الذي أبطله السيد المسيح بصليبه واهب القيامة (1 كو 15: 26). ب. نسقط تحت سيف كلمة الله (عب 4: 12) الذي يضرب قلب المؤمن ليحطم الخطية ويجرح القلب بجراحات الحب. أما غير المؤمن فتصير كلمة الله التي للحياةهي بعينها للموت، يحطمه السيف، فيفقد سلامه الداخلي. ج. بالخطية تدخل النفس في مجاعةٍ وقحطٍ لا إلى الخبز المادي، بل إلى كلمة الله، فلا تجد شبعًا في الكلمة ولا عذوبة، وكما قيل: "هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أُرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب؛ فيجولون من بحرٍ إلى بحرٍ، ومن الشمال إلى المشرق يتطَوَّحون ليطلبوا كلمة الرب فلا يجدونها؛ في ذلك اليوم تذبل بالعطش العذارى الجميلات والفتيان" (عا 8: 11-13). هكذا تفقد النفس جمالها ونضرة شبابها لتدخل في قبحٍ وعجزٍ دائمٍ! د. أخيرًا بالخطية نسقط تحت سبي إبليس، نفقد حرية مجد أولاد الله. لهذا جاء السيد المسيح ليُنادي للمسبيين بالعتق، ويقتنيهم لنفسه مسبيين لا للعبودية، بل لحبه الفائق، وكما يقول الرسول: "سبي سبيًا وأعطى الناس كرامات" (أف 4: 8)، واهبًا إياهم شركة الأمجاد الأبدية، حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21). اختيار رقم 4 للتأديب يحمل معنى رمزيًا، إذ يشير إلى التراب أو إلى الأرض بكونها ذات أربع اتجاهات (شرق وغرب وشمال وجنوب)، وكأن ثمر الخطية هو أن يصير الإنسان أرضًا، لا يقدر أن يختبر السمويات. "وأوكل عليهم أربعة أنواعٍ يقول الرب: السيف للقتل، والكلاب للسحب، وطيور السماء ووحوش البرية للأكل والإهلاك. وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض" [3-4]. كأن الإنسان الذي يقبل الخطية في حياته يصير فريسة لأربعة أمور: فريسة للموت مع بشاعة الألم حيث تضربه الخطية كما بالسيف. فريسة للمهانة والخزي، حيث تسحبه الكلاب على التراب، إذ يلتصق القلب بالتراب ويصير ترابًا عوض تمتعه بالملكوت السماوي. وكما قيل: "عار الشعوب الخطية" (أم 14: 34). فريسة لطيور السماء، أي تفترسه الشياطين، خاصة شيطان الكبرياء. أخيرًا يصير فريسة لحيوانات البرية التي تشير إلى شهوات الجسد، فتحطمه الشهوات ولا يقدر أن يقاومها. إذ يسقط فريسة للموت الروحي، ويفقد الكرامة الحقيقية، وتنهشه الشياطين، وتحطمه شهوات الجسد لا يجد راحة أو استقرارًا، بل يصير في قلقٍ في كل ممالك الأرض! يصير مثل قايين الذي بسبب خطيته صار تائهًا على وجه الأرض. هذه الأنواع من التأديب تشير إلى معاناة جسدية واجتماعية ونفسية. فالسيف يشير إلى المعاناة الجسدية، حيث يُقتل الجسد، أما سحب أجسادهم الميتة بواسطة الكلاب ونهشها بواسطة طيور السماء وحيوانات البرية فيشير إلى المهانة الاجتماعية، حيث تشترك الطيور والوحوش في تحطيم كل ذكرى لهم! كان الدفن في مقابر الأسرة فيه تكريم للميت، أما أن يُترك الميت للكلاب والطيور والوحوش ففيه مهانة بالغة. وأخيرًا المتاعب النفسية إذ يُدفعون للقلق في كل ممالك الأرض. شعر القديس أغسطينوس بالجوع والعطش، فلجأ إلى الله واهب الشبع والسلام، مناجيًا إيّاه: [إلهي... لقد جعلت نفسي قادرة على أن تسع جلالك غير المحدود، لئلا يكون لها شيء يقدر أن يملأها سواك...! إلهي... إنك صنعتنا لأجلك... لذلك يبقى قلبنا مضطربًا، قلقًا، عديم الراحة على الدوام حتى يستريح بك]. ربما يتساءل البعض: لماذا يسلمهم الله للهلاك؟ فيجيب: "من أجل منسى بن حزقيا ملك يهوذا، من أجل ما صنع في أورشليم" [4]. كان حزقيا رجلًا صالحًا، طهّر الهيكل من الرجاسات الوثنية، لكن تبوأ ابنه عرش يهوذا سنة 693 ق.م. وهو ابن اثنتى عشرة سنة، واشتهر في أول ملكه بنشر العبادة الوثنية والرجاسات مع العنف وسفك الدماء، فصار الشعب أشر من الأمم (2 مل 21: 2-9). ذُكر على وجه الخصوص لأنه كان أشر ملوكهم، أو لأنه مَلَكَ أكثر من غيره، فلم يُنسَ بعد في أيام إرميا (2 مل 21: 10-15). هنا تظهر خطورة القائد، متى تنجس قلبه أفسد المجتمع، فتصير الصلوات (بغير التوبة) مرفوضة، حتى إن قدمها موسى أو صموئيل أو إرميا. لقد حلَّ غضب الله على الجماعة التي أفسدتها القيادة الشريرة. إن كان النبي قد ألقى بالضوء على خطايا الملوك وعائلاتهم لكنه أكد مشاركة الشعب لهم في خطاياهم، ومسئوليتهم المشتركة معهم، لم يُوجد إنسان واحد بار في يهوذا (إر 5: 1)، فلا يستطيع أحد أن يحتج بأنه هو شخصيًا لا يستحق التأديب. اشترك الكل في الرجاسات والارتداد عن الإيمان بقبولهم العبادة الوثنية جنبًا إلى جنب مع عبادة الله الحيّ. اشترك الكل في عار الأمة، إذ هم وارثون لأمة قاومت الله منذ بدايتها (إر 2: 5 إلخ). "فمن يشفق عليكِ يا أورشليم؟ ومن يعزيكِ؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟" [5]. هذا هو عمل الخطية الذي نراه واضحًا في حياة البشرية، الشعور بالعزلة والوحدة. ليس من يقدر أن يشارك الإنسان مشاعره الحقيقية ولا من يعزيه، حتى وإن اجتمع حوله المئات أو الألوف وربما الملايين؛ حتى وإن نال شهوة عالمية أو كرامة فائقة... ففي أعماقه لا يجد من يعزيه ويسأل عن سلامته أو يحييه. هذا ما دفع بعض الممثلين المشهورين الذين نالوا شعبية تقدر بالملايين إلى الانتحار. لأنهم إذ يفقدون الله مصدر تعزيتهم وسلامهم يدركون أن كل من هم حولهم لا يستطيعون أن يهبوهم شبعًا داخليًا، أو سلامًا حقيقيًا أو يحبونهم بإخلاص. هذا هو علة تزايد نسبة المرضى نفسيًا حتى في البلاد المتقدمة، بالرغم من تكاتف كثير من القوى لإشباع كل احتياجات الإنسان اقتصاديًا وعلميًا واجتماعيًا ونفسيًا... لكن يبقى أمر واحد وهو الاتحاد مع القدوس واهب السلام. يتساءل إرميا النبي: "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ [5].إن كنتِ لا تشفقين على نفسكِ، بل سلمتي أعماقك للسيف والجوع والسبي... قبلتي الموت والعار والمذلة، فمن يشفق عليكِ؟ من يقدر أن يعزيكِ؟ من يهتم بكِ ويسأل عن سلامتكِ؟ تأتي الإجابة كما في أغلب الأسئلة الواردة في هذا السفر: "المسيا المخلص!"، هو وحده يشفق على الخاطى، ويهتم به ويعزيه، ويرد له سلامه بعمل صليبه. لم يعد أحد يشفق على أورشليم، أعداؤها يشمتون فيها، وأبناؤها يهلكون، وأصدقاؤها يهربون أمام فادحة الخطر الذي لحق بها. لا تنتظر يا عزيزي أحدًا يشفق على أورشليمك الداخلية، إلا الله الآب الذي أحبك وأسلم ابنه الوحيد للصليب لأجل خلاص نفسك، فتترنم مع الرسول قائلًا: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!" (رو 8: 32). من يشفق عليك إلا السيد المسيح مخلصك، وكما يقول الرسول: "من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالأحرى قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا" (رو 8: 34). إن التقيت معه الآن بالتوبة تشفق على نفسك. لا تتنظر أبًا أو أمًا أو أخًا أو صديقًا يهتم بخلاصك، بل التقِ به، لأن نفسك ثمينة في عينيه، أعظم من كل العالم! من يعزيك ويهبك السلام الداخلي إلا الروح القدس الْمُعَزِّي، يبكتك على خطية ويقدم لك الغفران، يصالحك مع الآب في استحقاقات دم المسيح! يعلق العلامة أوريجينوسعلى هذه العبارة قائلًا: [نريد أن نفهم جميع تلك الكلمات المملوءة وعيدًا لأورشليم: "فمن يشفق عليك يا أورشليم؟! ومن يعزِّيك؟! ومن يميل ليسأل عن سلامتك؟! أنتِ تركتِني يقول الرب. إلى الوراء سرتِ، فأمد يدي عليكِ، وأهلككِ. مللتُ من الندامةِ. وأذريهم بمذراة في أبواب الأرض. أثكل وأبيد شعبي". لقد وَضَعَتْني هذه الكلمات في مأزق، وهو محاولة التوفيق بين صلاح الله ورفضه الرحمة لشعبه. أقدم مثالًا: لو أن ملكًا حكم على إنسانٍ في مملكته بأنه عدو له، فإنه لا يليق بأي شخص أن يُظهر تعاطفًا مع ذلك العدو أو يبدى أية شفقة عليه، وإذا فعل ذلك حُسب هذا إساءة إلى الملك وإلى أحكامه. إذا فهمت هذا المثل، أنظر إذن إلى الإنسان المحكوم عليه من قِبل الله من أجل خطاياه الكثيرة، ولاحظ أنه لا يحصل على أية شفقة من الملائكة، رغم أن وظيفة هؤلاء الملائكة هي خدمة الطبيعة البشرية ونجدتها وإنقاذها. لأنه ليس أحد من الملائكة حين يرى أن الله هو القاضي، وأن الذي حمى غضبه هو الخالق، وأن الخطايا وصلت إلى درجة ألزمت الله -إن صح هذا التعبير- الصالح على توقيع الحكم ضد الخاطئ... أن يشفق ولا أن يحزن ولا أن يطلب الرحمة أو السلام من أجل إنسانٍ مثل هذا. نفترض فعلًا أن أورشليم هذه - لأنها هي المقصودة بالمعنى الحرفي - هي التي أخطأت تجاه السيد المسيح، وعظمت خطاياها أمامه، حتى قال لها: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت 23: 37). وأن أورشليم هذه، هي التي أُهمِلَت وتُرِكَت من الله. وأن الملائكة الذين لم يتوقفوا عن مساعدة أورشليم، والذين من خلالهم سُلِّمت الشريعة لموسى، تركوا أورشليم وقالوا: إن خطاياها أصبحت عظيمة؛ لأن شعبها قتلوا السيد المسيح ووضعوا عليه الأيادي. وحينما كانت خطاياهم قليلة كان في إمكاننا أن نتشفع وأن نطلب من أجلهم، وكان في استطاعتنا أن نشفق على أورشليم، لكن الآن وبعد هذه الجريمة "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ "قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة" (مرا 1: 8). نعم لنفترض أن أورشليم هذه هي التي قيل لها: "فمن يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ؟" يجب علينا نحن أيضًا ألا نشفق على أورشليم ومصائبها، ولا نحزن على ما أصاب شعبها، لأنه: "بزلتهم صار الخلاص للأمم (لنا) لإغارتهم" (رو 11: 11). انتقل من التفسير الحرفي إلى التفسير الروحي، مُطَبّقًا ما قيل لأورشليم على النفس البشرية. بعدما أخذت التعاليم الإلهية أصبحت أورشليم، التي كانت قبلًا تُدعى "يبوس"... ثم تغير اسمها فيما بعد إلى أورشليم. يقال أن "يبوس" ترجمتها "مَدُوسة بالأَقدام". إذن، يبوس "النفس المدوسة بالأقدام" من قوات العدو، تغيرت وأصبحت أورشليم "رؤية السلام". بعدما صارت يبوس أورشليم أخطأت. إن "دست بأقدامك" دم السيد المسيح الذي للعهد الجديد، وإن سقطت في خطايا عظيمة، يقال عنك: "من يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ"، طالما وَصَلْتَ إلى حد خيانة مسيحك. كل واحدٍ فينا حينما يخطئ، خاصة الخطايا الجسيمة، يخطئ ضد السيد المسيح نفسه. "فكم عقابًا أشرّ تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّسَ به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟ (عب 10: 29). فإن دست ابن الله واستهنت بروح النعمة، من يشفق عليكِ ومن يعزيكِ؟ "ومن يميل ليسأل عن سلامتك"؟ إنه ابن الله، الذي خانه الخطاة، هو نفسه الذي سأل عن سلامنا؛ فمَن مِن بعده يستطيع أن يتشفع من أجل سلامنا؟ لندرك جيدًا أن "الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6). متى أدركنا تلك الكلمات وفهمنا معناها، يلزمنا أن نعمل كل ما في وسعنا لئلا يُقال عنا نحن أيضًا: "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ ومن يعزيكِ؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟"]. "أنتِ تركتيني يقول الرب. إلى الوراء سرتِ، فأمد يدي عليكِ وأهلككِ. مللت من الندامةِ" [6]. إن كان الله قد أخرجها من حضرته لتتقبل ثمر فعلها: الموت أو السيف أو الجوع أو السبي، فإنه لم يفعل هذا من عنده، إنما هي تركته وسارت متراجعة عنه، وقد طال انتظاره لرجوعها وأخيرًا سلمها لرغبتها، فسقطت تحت المرّ. لئلا يظن أحد أن الله يعاقب الشعب كله من أجل خطايا منسى الشخصية يوجه حديثه إليهم كعروسٍ له، قائلًا: "أنتِ تركتيني" [6]. لقد تحالفتي مع منسى وشاركتيه شره... وانتظرت عودتكِ لكنكِ تشبثتي بترككِ إيّاي. يترجم البعض "أنتِ تركتيني" هكذا "أعطيتني القفا" [10]، حيث تحمل معنى رفض سلطان الله عليها. بتركها الرب سارت كالعروس الخائنة التي تسير وراء رجلها متراجعة عنه، لا تريد الالتقاء أو الاتحاد معه. يُستخدم تعبير "الرجوع إلى الوراء" عن العدو المنهزم (مز 9: 4؛ 56: 10)، وكأنها دخلت في عداوة ضد الله فتركته، وأصابتها الهزيمة، وتقهقرت إلى الوراء. يمد الرب يده أو يبسطها لكي يحتضن النفوس الساقطة الراجعة إليه، يبسطها على الصليب ليضم العالم كله إليه، ويحمله إلى حضن أبيه كشعبٍ مقدسٍ وأمةٍ ملوكية تنعم بشركة المجد الأبدي. أما إن أصرت النفس على عنادها فيصير مدّ يد الرب لهلاكها عوض خلاصها، لأنها ترد الحب بالبغضة وطول أناة الله بالاستهانة. يقول العلامة أوريجينوس: ["أنتِ تركتِني يقول الرب، إلى الوراء سِرتِ". لأن مدينة أورشليم - التي تجعلنا نتذكر كل اليهود - تركت الرب، فقد قيل لها: "إلى الوراء سرتِ". كان هناك وقت فيه سارت أورشليم إلى الأمام وليس إلى الخلف، أما حاليًا فهي تسير إلى الوراء: "ورجعوا بقلوبهم إلى مصر". أما بالنسبة لمعنى السير إلى الوراء أو الامتداد إلى ما هو قدام، فنشرحه كالآتي: الإنسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام؛ أما الذي يُوجد في وضع مضاد للإنسان البار فإنه يتذكر ما هو وراء ولن يمتد إلى ما هو قدام. وبتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل لنا: "فلا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه". يرفض سماع السيد المسيح حين يقول: "تذكروا امرأة لوط". يرفض سماع السيد المسيح القائل: "الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله". وفي العهد القديم مكتوب أيضًا أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم: "لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك 19: 17)."لا تنظر إلى ورائك" امتد دائمًا إلى ما هو قدام؛ لقد تركت سدوم، فلا تنظر إذن إليها؛ لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك إليهما؛ "ولا تقف في كل الدائرة". حتى إذا أطعت الأمر الأول "لا تنظر إلى ورائك"، هذا غير كافٍ لإنقاذك إن لم تطع الأمر الثاني أيضًا: "لا تقف في كل الدائرة". إن بدأنا التقدم والنمو الروحي، يجب علينا ألاّ نتوقف في حدود دائرة سدوم، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل. إن أردت ألا تهلك مع أهل سدوم فلا تنظر أبدًا إلى ما هو وراء، ولا تقف في دائرة سدوم، ولا تذهب إلى أي مكانٍ آخر سوى الجبل، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص؛ الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين ]. يرى العلامة أوريجينوس في مدّ يد الرب إشارة إلى تجسد الكلمة، حيث مد الآب يده، أي أعلن عن ذاته بتجسد ابنه، مدّها بالحب ليحتضن العالم كله بذبيحته الفريدة. هكذا بالتجسد يمد الله يده لنا، فنقول مع القديس يوحنا: "فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1 يو 1: 2). بيده المبسوطة ينال المؤمنون الخلاص بينما يهلك الآشرار المصممون على عدم الإيمان، إذ قيل: "لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16). وكما قال السيد المسيح لغير المؤمنين: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22). أخيرًا إذ رفضوا يده الممدودة قال: "مللت من الندامة" [6]. وقد جاءت كلمة "مللت" بمعنى "تعبت"، كأن الله قد انتظر طويلًا لعلهم يرجعون، مشبهًا نفسه بالعريس الذي يمد يده لعروسه الخائنة مترقبًا عودتها، وقد طال انتظاره جدًا. لعل تعبه يشير إلى أنه في انتظاره لم يكن في موقفٍ سلبي، بل بذل كل الجهد لردها إليه كمن تعب، لأنه يرى هلاكها القادم حيث تلقي نفسها بنفسها فيه. فهو وإن سمح بتأديبها لكنه يتعب إذ يريد راحتها وفرحها وسلامها ومجدها وخلاصها الأبدي. يرى البعض أن بقوله "مللت من الندامة" [6]، يعني أن الله قد ملَّ من ندامة الشعب الباطلة، إذ يترددون متذبذبين بين الانغماس في الشر والدعاء لله. تأكيده "أمدّ يدي عليكِ" [6] يوضح أن ما سيحل عليها من أسر البابليين لها لا يرجع إلى قوة بابل وإنما إلى سماح الله لهم بذلك لتأديبها. فالسبي ليس ثمرة معركة بين بابل ويهوذا، إنما هو ثمرة سقوط وانحلال مملكة يهوذا واعتزالها إلهها رب الجنود، مصدر قوتها. وصفها كعروس خائنة متراجعة أو كمن جعل من نفسه عدوًا لله فتقهقر، ومع ذلك يعمل الله لرجوعها، قائلًا: "وأذريهم بمذراةٍ في أبواب الأرض. أثكل وأُبيد شعبي. لم يرجعوا عن ُطرقهم. كثرت لي أراملهم أكثر من رمل البحار. جلبت عليهم على أم الشبان ناهبًا في الظهيرة. أوقعت عليها بغتة رعدة ورُعبات. ذبلت والدة السبعة، أسلمت نفسها. غربت شمسها إذ بعد نهار. خزيت وخجلت. أما بقيتهم فللسيف أوقعها أمام أعدائهم يقول الرب" [7-9]. لا يستبعد أن تكون عبارة "أبواب الأرض" إشارة إلى مجدون بكونها الزاوية الشمالية الغربية من البلاد، دخل فيها وخرج منها جيوش كثيرة عبر التاريخ. أ. يشبههم بالمحصول الذي ليس فيه حنطة بل كالقش، متى قام المزارع بتذريتهم يحملهم الريح ويبددهم العاصف، هكذا تبددوا إلى بابل في السبي. لا يذريهم في الحقول بل "في أبواب الأرض"، ماذا يعني هذا؟ من كان حنطة يستحق الدخول إلى أبواب صهيون الحقيقية، ليكون في بيت الرب، أما من كان قشًا فيدخل في أبواب الهاوية (إش 38: 10). ب. يشبّه مملكة يهوذا بسيدة رفضت أن تكون ابنة لله، ففقدها وصار كمن هو محروم من ابنته. تفقد هي أيضًا رجلها وبنيها وُتحرم منهم، فتصير أرملة وثكلى. في الميثاق المبرم مع إبراهيم ويعقوب كان الوعد أن نسلهما يكون كرمل البحر (تك 22: 17؛ 32: 13)، الآن وقد حقق لهما الوعد كسَر الشعب الميثاق وتعرض الشباب للموت فصارت أراملهم أكثر من رمل البحر. ج. لا يحدث ذلك تدريجيًا إنما دفعة واحدة في وقت الظهيرة، حتى تصير الأم التي لها سبعة شباب أرملة، تفقدهم معًا فتشتهي الموت، تصير لها الظهيرة ظلامًا، وكأن النور يفارق عينيها. إذ يشير رقم 7 إلى الكمال، هذا يعني أنها أنجبت كل ما يمكن من الأولاد ولم تعد لديها قدرة بعد على الإنجاب، ومات الكل معًا، خاصة وأنها فقدت رجلها وترملت. هذا ما حوّل ظهيرتها إلى ظلمة! جاء في تسبحة حنة أم صموئيل: "حتى أن العاقر ولدت سبعة، وكثيرة البنين ذبلت" (1 صم 2: 5). وكأن إنجاب سبعة بنين يحمل علامات البركة (إر 4: 15)، وبالتالي فقدانهم في وقت الظهيرة يحمل معنى اللعنة. لعله يقصد أيضًا بالظهيرة أن الأرملة تفقد أولادها وهم في ظهيرة عمرهم، أي وهم شباب ناضرون، أو لأن نبوخذنصر سبي يهوذا وهو شاب في ظهيرة عمره. هذا وقد سباها بقوة كما في الظهيرة ولم يأتِ كلصٍ خائفٍ في الليل. بقوله: "غربت شمسها إذ بعد نهار" [9] تشير إلى حالة الحداد التي صارت فيها مملكة يهوذا، فقد لبست النساء الملابس السوداء بعد قتل الرجال والأولاد، حيث صار الكل أرامل، فصارت المدن في وسط النهار كأنها ليل دامس، لا يُرى فيها غير السواد. 3. انهيار نفسية إرميا إلى حين: 10 وَيْلٌ لِي يَا أُمِّي لأَنَّكِ وَلَدْتِنِي إِنْسَانَ خِصَامٍ وَإِنْسَانَ نِزَاعٍ لِكُلِّ الأَرْضِ. لَمْ أَقْرِضْ وَلاَ أَقْرَضُونِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَلْعَنُنِي. شعر إرميا النبي بالضعف الشديد، فمن جهة كانت كلمة الله كنارٍ في قلبه، لم يحتمل برقة مشاعره ما سيحل بشعبه من قحطٍ ودمارٍ، وحين التزم أن ينطق بها ظنه الشعب أنه قاسي القلب، عنيف، غير وطني. هنا اشتهَى إرميا لو لم يُولد. "ويل لي يا أمي، لأنكِ ولدتني إنسان خصام، وإنسان نزاع لكل الأرض. لم أقرض ولا أقرضوني، وكل واحدٍ يلعنني" [10]. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارات السابقة، قائلًا: [أما بالنسبة للكلمات: "ويل لي يا أمي..."، فإنني أعتقد أن تلك الكلمات لا تناسب أي نبي آخر ولا توافقه مثلما تناسب إرميا. لم تبدأ نبوة معظم الأنبياء إلا بعد زمنٍ معينٍ، فبعدما تابوا ورجعوا عن خطيتهم أقامهم الله ليتنبأوا، أما إرميا فكان يتنبأ منذ طفولته. ويمكننا أن نستعين بمثال من الكتاب المقدس؛ إن إشعياء لم يسمع من الله تلك الكلمات: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب" (إر 1: 5)، كما لم يقل إشعياء للرب: "إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" (إر 1: 6). بل حينما رأى الرؤية التي يقول عنها في نبوته، نظر وقال: "ويللي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (إش 6: 5)، ثم يقول بعد ذلك: "فطار إليّ واحد من السرافيم وبيده جمرة... ومس بها فمي وقال إن هذه قد مست شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك". إذن بعدما ارتكب إشعياء الخطايا ثم تاب عنها أصبح مستحقًا أن يأخذ الروح القدس ويتنبأ. تجد أشياء مشابهة بالنسبة لأنبياء آخرين. أما إرميا فلم يكن مثلهم: كان لا يزال في المهد حينما أخذ روح النبوة وتنبأ منذ الطفولة. لذلك عنه قيل: "ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض". لكن يقول أحد المفسرين الذين سبقوني في تفسير هذا النص كان إرميا يوجه هذه الكلمات ليس لأمه حسب الجسد، وإنما للأم التي ولدت الأنبياء. من هي التي ولدت الأنبياء إلا حكمة الرب؟ ذكر الإنجيل كذلك أبناء للحكمة: "والحكمة تبررت من جميع بنيها" (لو 7: 35). إذًا مكتوب: "ويل لي يا أمي (الحكمة) لأنكِ ولدتني إنسان خصام (محكوم عليه)". فمن أنا حتى لا أولد إلا ليكون محكومًا عليّ وأكون مُخاصمًا من الناس بسبب عتابي ولومي لهم، وبسبب تعاليمي التي أعلمها لكل سكان الأرض؟]. ويل لي يا أمي حديثه هنا لا يستلزم أن والدته كانت على قيد الحياة، وأنه يخاطبها، إنما يعلن بطريقة مجازية كيف أنه إن كان قد دُعي للخدمة وهو بعد في الأحشاء (إر 1: 5) رُفض أيضًا منذ البداية. إنها صرخة ليست موجهة إلى أمه بل إلى الله الذي دعاه للخدمة. يصور لنا إرميا النبي كيف عاش في جوٍ رهيبٍ، فقد تحالف الأنبياء الكذبة مع الكهنة ضده، وأثاروا الملك وكل القيادات حتى الشعب ضده، فضاقت نفسه فيه، وحسب يوم ميلاده كأنه يوم ويلٍ. إنسان نزاع لكل الأرض صار إرميا موضع نزاع العالم الذي حوله، ليس من يسنده ولا من يقبل كلمات الرب التي ينطق بها إلا تلميذه وكاتبه باروخ وربما قلة قليلة جدًا تكاد تضيع وسط التيارات المضادة. شعر أن الكل يلعنوه بدلًا من أن يباركوه، ليس من ينطق بكلمة بركة لأجل اخلاصه! دخلوا معه في خصومة، وقدموا ضده اتهامات لمحاكمته. كان إرميا رجل سلام لكنه إذ نطق بالحق تحول إلى رجل خصام، لأنه لم يكن ممكنًا أن يداهنهم على حساب خلاص نفوسهم وشركتهم مع الله. هذا هو إحساس الكثيرين عندما يخدمون الرب، فيجدوا عدو الخير قد هيّج العالم الذي حولهم ضدهم! ما حدث لإرميا رجل السلام يحدث لمن يكرز بإنجيل السلام، وكما يقول السيد المسيح: "لا تظنوا إني جئت لألقى سلامًا على الأرض؛ ما جئت لألقى سلامًا بل سيفًا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة شد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 34، 36؛ لو 12: 49، 51). إن كان إرميا قد هدد بالتأديبات الإلهية، لم يتكلم من واقع إنسان يعيش في حياة مترفة مدللة، وإنما كرجل آلامٍ وأتعاب، إنه مُجرب يعرف مرارة الألم. غير أننا نجد في هذه العبارة ظلًا لموقف السيد المسيح الذي وُلد كإنسانٍ وهو ابن العلي، فهاجت الممالك ضده، وتآمر الملوك والرؤساء معًا، وتحالفت قوى القيادات على قتله وأثاروا الشعب طالبين صلبه... حيث "اللعنة" (تث 21: 23؛ غل 3: 13). رأى المرتل بعين النبوة ثورة العالم ضد السيد المسيح، فقال: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل. قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه" (مز 2: 1-2). في هذا يحمل إرميا ظل السيد المسيح الذي قيل عنه: "لأنه في ما هو قد تألم مُجربًا يقدر أن يعين المجربين" (عب 2: 18). يقول العلامة أوريجينوس: [يذهب أطباء الأجساد إلى المرضى حتى إلى فراشهم ولا يَكُفون عن بذل كل جهدهم، كما تتطلب منهم مهنة الطب، ليشفوا المرضى. وهم في ذلك يرون مناظر فظيعة ويلمسون أشياءً تثير الاشمئزاز؛ وأمام أوجاع الآخرين لا يحصدون لأنفسهم سوى الأحزان؛ حياتهم غير مستقرة أبدًا. لا يوجَدون أبدًا مع أناسٍ أصحاءٍ، وإنما دائمًا مع المجروحين والمفلوجين والمصابين بالقروح والصديد والحميات وكل أنواع الأمراض. إن أردنا أن نمارس الطب، علينا أن نقوم بكل ما تتطلبه منا هذه المهنة التي اخترناها، نقوم بها بدون اشمئزاز ولا إهمال عندما نلتقي بأي نوع من أنواع المرضى الذين ذكرناهم... الأنبياء مثل أطباء الأرواح، يقضون كل وقتهم حيث يوجد المحتاجون إلى الشفاء، لأنه "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (لو 5: 31). ما يقاسيه الأطباء من المرضى المعاندين، يقاسيه أيضًا الأنبياء والمعلمون من الذين لا يريدون أن يُشفوا. يرجع سبب كراهية الناس لهم إلى فرضهم علاجًا يخالف ما يتمناه المرضى، يمنعون عنهم اللذات والشهوات التي يريدونها، لذلك يُصّر هؤلاء المرضى في عنادهم على عدم أخذ الأدوية المناسبة لمرضهم. يهرب المعاندون من الأطباء، بل وكثيرًا ما يسيئون إليهم ويهينوهم ويشتمونهم ويفعلون بهم كل ما يمكن أن يفعله الأعداء. يغيب عن ذهنهم أن الطبيب يأتي كصديقٍ وليس كعدوٍ. لا يرون سوى الجانب المؤلم من نظام العلاج واستخدام المشرط، دون أن يروا النتيجة التي تعقب الألم. يكرهون الأطباء كما لو كانوا لا يحملون إليهم سوى الآلام، ولا ينظرون إلى هذه الآلام كمرحلة من مراحل الشفاء. كان ذلك الشعب الذي يسمي نفسه شعب الله مريضًا، مصابًا بكل أنواع الأمراض. أرسل الله إليهم الأنبياء مثل الأطباء، أحدهم إرميا. وجه إرميا عتابه للخطاة راغبًا في رجوعهم عن طرقهم. كان ينبغي أن ينصتوا إلى هذه الكلمات، لكنهم اتهموا النبي أمام القضاة والحكام، فكان متورطًا في قضايا مستمرة، اتهمه هؤلاء الذين كان يقوم برعايتهم، أي الذين كان يوجه لهم كلمات نبوته، لكنهم لم يُشفوا بسبب عنادهم. أمام كل هذا كان إرميا يقول: "فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه، فكان في قلبي كنارٍ محرقةٍ محصورة في عظامي" (إر 20: 9). مرة أخرى يقول حينما يرى نفسه دائم التعرض للقضايا وللاهانات والشكاوى وشهادات الزور: "ويللييا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام". يريد أن يقول عن نفسه، أنه بدلًا من أن يدين الناس على خطاياهم، إذا به يُدان ويُحكم عليه، وبدلًا من أن يقاوم وينازع صار هو نفسه "إنسان نزاع لكل الأرض"]. [لا أستطيع أن أجد تفسيرًا لكلمتي: "لكل الأرض". لم يصر إرميا إنسان نزاع بالنسبة لكل الأرض، إلا إذا قلنا أن "كل الأرض" يقصد بها كل أرض اليهودية، لأن نبوة إرميا لم تصل إلى كل الأرض حينما كان يتنبأ. لكن أليس من الأفضل أن نفعل كما فعلنا في أجزاء سابقة، فنطبق هذا الكلام على السيد المسيح بدلًا من إرميا؟ توقفت في البداية عند الكلمات التي تقول: "أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس"، لم يفعل إرميا شيئًا من هذا كله، وإنما السيد المسيح هو الذي قلع ممالك الخطية وهدم أعمال الشر، وأقام بدلًا منها مملكة الحق والعدل في نفوسنا. هكذا أيضًا تصلح هذه العبارة لتطبيقها على السيد المسيح أكثر منها على إرميا، ففي نظري يوجد العديد من العبارات التي يمكن تطبيقها على المخلص، لا سيما تلك العبارة التي نحن بصددها "إنسان نزاع لكل الأرض"]. لم أقرض ولا أقرضوني أراد السيد المسيح أن يقرض البشرية حياته ويقترض حياتهم، يدخل معهم في ميثاق حب، يقبلونه ميراثًا لهم، ويقبلهم نصيبًا له، لكنهم رفضوا هذا الميثاق، وعوض الحب صار "كل واحدٍ يلعنني" [10]. ربما يقصد بقوله "لم أقرض ولا أقرضوني" [10]، أنه لم يدخل معهم في معاملات مادية، التي غالبًا ما تسبب نزاعات حتى بين الأقرباء والأصدقاء، لكنهم خاصموه بلا سبب. ليس لديه زوجة ولا أولاد لكي يترك لهم ميراثًا، إنما يزهد كل شيء، مع هذا كانوا يلعنوه! يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "لم أقرض ولا أقرضوني" أو "لم اصنع صلاحًا ولم يفعل لي أحد صلاحًا"، قائلًا: [بما أن المرضى لم ينصتوا إليه حينما نصحهم كطبيبٍ، قال: "لم أفعل صلاحًا"، وبما أنه كان يقرض أمواله الروحية، ولم يريد الذين كان يتوجه إليهم ليعمل معهم الخير وليجعلهم مدينين له بما يسمعونه منه الإصغاء إليه، قال: "لم أُقرض ولا أقرضوني"]. [يوجد في الواقع نصَّان مختلفان لتلك الآية: ففي النسخ التي تتطابق مع النص العبري: "لم أُقرض ولا أقرضوني"... كان إرميا يكرز بالكلمة، لكن لم ينصت أحد إلى كلامه. كان مثل طبيب يبدد أدويته بسبب عناد مرضاه الذين لا يريدون اتباع علاجه ولا أخذ أدويته. كطبيبٍ يقول: "لم أفعل صلاحًا ولم يفعل لي أحد صلاحًا". ربما يرجع سبب التناقض في هذه الآية (لأن إرميا فعل صلاحًا) إلى شعور الحب والوِدّ الذي يحمله الإنسان الذي عُمِلَ معه الصلاح تجاه الإنسان الذي عَمَل له هذا الصلاح. ينتج عن هذا أن الذي يَكرز بالكلمة يأخذ هو أيضًا صلاحًا من كلمته (أي يحصل على حب السامعين له). وكما هو مكتوب: "طوبى لمن يتكلم مع أذنٍ تسمع". أعظم صلاح يمكن أن يجنيه المعلم من السامعين له هو أنهم ينمون ويتقدمون حتى يكون له ثمر فيهم (رو 1: 13). إذ لم يحصل إرميا على ذلك الثمر (الصلاح) من اليهود، قال: "لم يفعللي أحد صلاحًا". يوجد أيضًا صلاح آخر يمكن أن يحصل عليه كل معلمٍ متى كان تلاميذه أذكياء. إذ يمكن للمعلمين أن يصبحوا أكثر قوة وتتناقل تعاليمهم بواسطة الناس إذا كان السامعون أذكياء ولا يكتفون بمجرد سماع التعاليم إنما يتفاعلون معها ويسألون أسئلة ويستفسرون عن كل جوانب التعاليم التي يسمعونها. لنفسر نفس الآية من النسخ الأكثر صحة "لم أصر مدينًا لأحد ولا صار أحد مدينًا لي". الإنسان الذي يعطي الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، الخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام (رو 13: 7)، والذي يؤدي جميع واجباته بصورة لا تجعله مدينًا لأحدٍ، والذي يكرم والديه كما يليق، ويكرم إخوته كما يليق بهم، ويكرم أولاده والأساقفة والكهنة والشامسة والأصدقاء ويعطي لكل إنسانٍ كرامته، مثل هذا الإنسان يمكنه أن يقول "لم أصر مدينًا لأحدٍ". أما عبارة "ولا صار أحدليمدينًا" أفسرها كالآتي: يقول إرميا: كنت أبحث عن مصلحتهم، كنت أحاول أن أعطيهم الغنى الروحي، أما هم فلم يقبلوا كلامي، بل رفضوه حتى لا يصيروا مدينين لي، بذلك "ولا صار أحد لي مدينًا". بذلك يكون من الأفضل للسامع أن يقبل المال الروحي المُقَدَّم من المعلم وأن يكون مدينًا، عن ألا يكون مدينًا ولا يستفيد من التعاليم]. 4. الله يسند نبيه: 11 قَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي أَحُلُّكَ لِلْخَيْرِ. إِنِّي أَجْعَلُ الْعَدُوَّ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ فِي وَقْتِ الشَّرِّ وَفِي وَقْتِ الضِّيقِ. شدد الرب إرميا، مؤكدًا له أنه تكفيه نعمته، ففي الضعف يتبين قوة الله. إنه فتيلة مدخنة يحولها الله إلى نار ملتهبة، وقناة صغيرة يجعل منها ينابيع مياه حية. بهذا يجعل منه الحديد الذي من الشمال، والنحاس الذي لا يقوى إنسان على كسره [11-14]. "إن قال الرب: إني أحِلَّك للخير. إني أجعل العدو يتضرع إليك في وقت الشر وفي وقت الضيق" [11]. يترجمها البعض: "قال الرب: "إني أقسم، إني أسلِّحك حسنًا"، أيأقدم لك سلاحًا تغلب به في المعركة التي أقامها الشعب ضدك، وصاروا كأعداء يطلبون نفسك. لا يعني هنا سلاحًا ماديًا، إنما هو سلاح رمزي، حيث يشعر الشعب بحاجته إلى إرميا الذي طالما أرادوا التخلص منه. ويترجمها آخرون: "إني خدمتك حسنًا". ربما تساءل إرميا: إن كان شعبي الذي لأجله أسكب كل حياتي ذبيحة حب، ومن أجله أبكى نهارًا وليلًا ويتوجع قلبي وتئن أحشائي قد دخل معي في خصام وصار يلعنني، فماذا يفعلبي العدو (بابل)؟ جاءت الإجابة من قبل الرب أن العدو سيتضرع إليه وقت السبي ويعامله بكل لطف أثناء الضيق. هذا ما حدث إذ طلب نبوخذنصر من القائد أن يعامل النبي بكل لطفٍ، ويترك له حرية الاختيار إن كان يبقى في بلده أو يذهب مع المسبيين. إذ تتحقق النبوة ويدرك الشعب الذي دخل في عداوة مع إرميا خطأهم، يلجأون إليه، طالبين صلواته عنهم. هل يقول السيد المسيح: "ويل لي..."؟ يقول العلامة أوريجينوس: ["ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض". لا يستطيعأينبي أن يقول "لكل الأرض". مع ذلك أعرف أناسًا يحبون ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، ويشفقون عليه من الكلمات السابقة ولا يقبلون أن تكون هذه كلمات الرب ينطق بهذا. من أجل ذلك رأيت من اللازم توضيح أنه ليس بالأمر الغريب أن يقول ابن الله "ويل لي" ]. [يجب أن نتحدث أولًا بشأن القول "ويل لي"، لأنها تبدو في نظر البعض غير ملائمة للسيد المسيح: أيمكن للمخلص الذي يشفق على الآخرين أن يقول "ويللي"؟ نوضح ذلك بشواهد من الإنجيل لا يمكن أن تنطبق على أحدٍ سوى السيد المسيح. كلمات الرثاء "ويل لي" ما هي إلا لإنسان يبكي، وقد بكى المخلص على أورشليم... قائلًا: "يا أورشليم يا أورشليم... إلخ." من الواضح أن نفس الشيء قاله المخلص في هذه الفقرة: "ويل لي لأني صرت كجنىَ الصيف، كخصاصة القطاف، لا عنقود للأكل، ولا باكورة تينة اشتهتها نفسي. قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس، جميعهم يكمنون للدماء" (ميخا 7: 1-2)، جاء في وقت الحصاد ليحصد قمحًا، فلم يجد سوى مجموعة من الخطاة الذين نموا وكثروا. نطق السيد المسيح بكلمات مشابهة حينما تحدث مع الآب قائلًا: "ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة (إلى الجحيم)" (مز 30: 9)، لماذا فعلت كل هذا الصلاح مع بني الشر؟ ما الذي فعلوه ليستحقوا دمي الذي سُفك من أجلهم؟ ما الفائدة من دمي ومن نزولي؟! لقد نزلت من السماء وجئت إلى الأرض وسلمت نفسي للفساد فلبست جسدًا بشريًا، فماهي الأعمال الصالحة التي عملها الإنسان حتى يستحق كل ذلك؟ "ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة؟! هل يحمدك التراب؟! هل يخبر بحقك؟!" في جميع هذه الأقوال نجد تشابهًا بينها وبين ما قاله المخلص: "ويللييا أمي لأنكِ ولدتني"، لا يقول ذلك بوصفه الإله أو المخلص، بل يقوله كإنسان. نفس الشيء حينما يقول: "ويل لي يا نفسي، قد باد التقي من الأرض". كانت نفسه نفسًا بشرية، لهذا اضطربت (يو 12: 27)، وحزنت (مت 26: 38)، لكن الكلمة الذي كان في البدء عند الله لم يضطرب، ولا يمكن أن يقول عن نفسه: "ويللي". لأن كلمة الله لا يموت أبدًا، الذي يموت هو الجسد الذي أخذه]. لماذا قال النبي: ويل لي يا أمي؟ يرى العلامة أوريجينوس إنها دعوة لكي نتألم مع الأنبياء فنطوَّب معهم! [الذين يطوبون الأنبياء ويتمنون أن يكون لهم نصيب معهم يلزمهم أن يتأملوا في الإعلانات النبوية ليكتشفوا سمو النبوات والأنبياء. عندما يتأملون في ذلك يقتنعون أنهم لو عاشوا حياتهم بنفس المقاييس التي اتبعها الأنبياء - رغم قسوتها بالنسبة لهم في هذه الحياة - ينعمون بالراحة والتطويب مع هؤلاء الأنبياء. توجد في الكتاب المقدس مواضع كثيرة يمكننا أن نجد فيها ما يدل ويشهد على سمو مكانة الأنبياء وقوتهم وحريتهم ويقظتهم وروحهم النشطة، ونرى أنهم لا يضطربون حينما يقعون في تجارب أو متاعب وذلك بسبب حريتهم واستقلالهم الداخلي، فبوصفهم أنبياء يقولون كلمة الله، ويوبخون الناس ويلومون الخطاة بكل صراحةٍ وبكل حزمٍ، حتى إن بدى هؤلاء الخطاة أقوياء وعنفاء جدًا. يمكننا أن نجد هذه الدلائل والشهادات في مواضعٍ عديدة، فإننا نجد في آيات هذا اليوم أيضًا بعضًا من تلك الدلائل. عاش إرميا النبي في وسط خطاة كثيرين جدًا، والدليل على ذلك حدوث السبي في عهده. لقد أنذر كثيرين ووبخ كثيرين ووجه كلامه إلى كثيرين وبسبب هذا كل حُكِمَ عليه من كثيرين، مما جعل كلماته تأخذ هذه النغمة. لنبدأ إذن بكلمات النبي نفسه لنرَى هل يوجد عنده القوة والنشاط والحرية واليقظة والجرأة وغيرها من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في النبي. "ويل لي يا أمي، لأنك ولدتني إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض": يقول النبي: آه يا أمي، لماذا جئتِ بي إلى العالم كرجلٍ محكومٍ عليه ورجل نزاع أمام كل الناس الذين على الأرض؟ هذا النبي مثله مثل إشعياء والأنبياء الآخرين، كان عليه أن يتمم وظيفته كنبي: يعلم وينذر ويوبخ. ويترتب على قيامه بهذه الوظيفة وإدانته للخطاة وحكمه عليهم أنه هو نفسه يُحكم عليه ويُحاكم مع الخطاة. إن كان يجب علينا أن نذكر كل ما الشعب بالأنبياء، فإليكم هذه الأمثلة: لقد رجموا واحدًا، وقتلوا آخر بين الهيكل والمذبح، ونشروا ثالثًا، أما إرميا فألقوه في جبٍ لأنه كان ينذرهم. أيضًا مخلصنا الذي سلك بالأخص مثل الأنبياء، بل وأفضل منهم، إذ هو رب الأنبياء فعلوا به هكذا. إن كان السيد المسيح قد جُلِد وصُلِب وأُسلِم من اليهود ومن رؤسائهم ومن رئيس هذا العالم، فلأنه قال لهم: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المرائين" وظل يردد هذه الكلمة "ويل لكم" في كل مرة يوبخهم على شيء. نحن أيضا، إن أردنا أن نصل إلى التطويبات التي وُعد بها الأنبياء نسلك مثلهم، بحيث أننا من كثرة كلامنا وإنذارنا للخطاة ووقوعنا تحت الحكم بسببهم نقول: "ويل لي يا أمي، لأنك ولدتني إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض". مع ذلك فإن هذه الكلمات يمكن أن تكون أكثر ملائمة إذا اعتبرنا أن المخلص هو الذي نطق بها. إن افترضنا أن النبي هو الذي نطق بها لن تكون صحيحة تمامًا بل تحمل شيئًا من المبالغة؛ فهو لم يصر إنسان نزاع "لكل الأرض". أما بالنسبة لمخلصنا نرى أن ربنا ومخلصنا يقف أمام الآب ليُحَاكَم معنا كلنا نحن البشر؛ خصوصًا بسبب تلك الكلمات: "لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت". نعم لقد حُوكم مع كل الناس. وأقول أيضًا: حُوكم وفُحِصَ هو أيضًا ووقف أمام الحكم لكي يدافع عن الحق، لا ليدين أو يتهم أحدًا]. مسيحنا يُحكم عليه فينا يقول العلامة أوريجينوس: ["لأنكِ ولدتني إنسان خصام (محكوم عليه) وإنسان نزاع لكل الأرض". أنظر إذًا إلى الشهداء في كل مكان كيف حُكِم عليهم ووقفوا أمام القضاة، ترى كيف أن السيد المسيح هو الذي كان يُحكَم عليه في كل واحدٍ من هؤلاء الشهداء. لأنه هو الذي يُحكم عليه في هؤلاء الذين يشهدون للحق (يو 18: 37). من أجل ذلك ترضى أن تكون مُتَّهَمًا ومحكومًا عليك حينما تراه يقول إنك لست أنت المسجون بل أنا، لست أنت الجائع، بل أنا. "لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، محبوسًا فأتيتم إليّ" (مت 25: 36). يكفي أن يُوضع إنسان مسيحي تحت الحكم، ليس بسبب أخطاء شخصية، وإنما لأنه مسيحي، عندئذ يُحكم على السيد المسيح لا عليه، بذلك أصبح السيد المسيح بالفعل إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض". في كل مرة يُحكم على إنسانٍ مسيحي يُحكم على السيد المسيح نفسه وليس فقط في قضايا من هذا النوع (أي الشهادة للحق). نفترض أن مسيحيًا أُتهم ظلمًا بأي شيء وحُكِم عليه باطلًا، ففي ذلك يكون السيد المسيح هو الذي حُكِم عليه باطلًا]. عدم الإيمان هو حُكم على المسيح يقول العلامة أوريجينوس: ["لأنكِ ولدتني إنسانٍا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض". إليك أيضًا طريقة أخرى لفهم هذه الآية. منْ ِمنَ الناس لا يحكم على عقيدة المسيحيين؟ منْ ِمنَ الشعوب لا يتفحصها بأساليب معقدة؟ منْ ِمنَ اليهود واليونانيين لا يتحدث عن المسيحيين؟ منْ ِمنَ الفلاسفة ومنْ ِمنَ الناس لا يتناقش في أمر المسيحية؟ السيد المسيح محكوم عليه ومقضي عليه في كل مكان، البعض يدينوه في حكمهم والبعض لا يدينوه. بالنسبة للذين لا يدينوه من السهل عليهم قبوله؛ يفتحون له الباب فيدخل (رؤ 3: 20)، وبالتالي يؤمنون به. إن لم يقبله الناس عند سماعهم عن التعاليم المسيحية، فإن عدم قبولهم له ما هو إلا إدانة للسيد المسيح واتهام ضده بأنه يُضل الناس ولا يقول الحق، طالما لا يؤمنون بتعاليمه. جميع الذين يرفضون أن يؤمنوا به يحكمون عليه ويدينوه، وجميع الذين تساورهم الشكوك من جهته - دون أن يرفضوا الإيمان - يتنازعون بشأنه. إذا حملت صورة السماوي وخلعت عنك صورة الترابي، لن تكون بعد ترابًا تدينه، ولا أرضًا يُدان فوقها، لن تكون أرضًا ينازعونه عليها]. قوة الله تزداد وتضعف فينا يقول العلامة أوريجينوس: ["وكل واحدٍ يلعنني" أو "ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني". يقول بولس الرسول عن المخلص إنه قد صُلب عن ضعف (2 كو 13: 4). كما يقول أيضًا إشعياء النبي عنه: "يا رب من صدق خبرنا؟! ولمن استعلنت ذراع الرب؟! نبت قدامه كفرخٍ وكعرقٍ من أرضٍ يابسة. لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكَمُستِّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبجراحاته شُفينا" (إش 53: 1-5). حمل ضعف خطايانا وحملنا نحن أيضًا، جاء إلى الذين يلعنوه، وحينما نزل من السموات ضعفت قوته أمام الذين يلعنوه، لأنه كما يقول الرسول: "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 7). "ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني". أحاول بنعمة الرب أن أقدم تفسيرًا أوضح لتلك الآية وأفضل مما سبق. "كان النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتيًا إلى العالم" (يو 1: 9). ابن الله هو النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم، وكل إنسانٍ عاقلٍ ينتمي إلى هذا النور الحقيقي، غير أن كل البشر عاقلون. كل البشر ينتمون إلى الله الكلمة، لكن بعضهم يرى أن قوة المخلص زادت والبعض الآخر يراها ضعفت. لو نظرت إلى نفسٍ وقعت فريسة للشهوات والخطايا ترى قوة المخلص تضعف، بينما لو نظرت نفسًا بارة وتقية، ترى قوة المخلص تثمر فيها من يومٍ إلى يومٍ؛ حينئذ يمكن تطبيق ما قيل عن السيد المسيح، على النفوس البارة: "وكان يسوع ينمو في الحكمة والعمر والنعمة أمام الله وأمام الناس". يقول الكلمة ابن الله: "ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني". إذا لعن أحد الابن الكلمة ينال عقابه على هذه اللعنة وعلى انتقاده تعاليم السيد المسيح، ويتمثل هذا العقاب في أن قوة السيد المسيح تضعف عند هذا الإنسان، بل وتُنتزع منه تمامًا. والعكس صحيح، إذا بَاركْتَ السيد المسيح وقبِلْته تنمو قوته وتزيد فيك ]. مسيحنا الشفيع في مضايقيه يقول العلامة أوريجينوس: ["فلتأتِ يا رب، إذا سلكوا بالاستقامة، ألم أقف أمامك في وقت شدتتهم؟" (إر 15: 11) LXX. "فلتأتِ يا رب": ما هي هذه التي تأتي؟ نضيف بقدر استطاعتنا بعض كلمات بعد "فلتأتِ" لنوضح معنى الآية. نقول: "يا رب، إذا سلكوا بالاستقامة فلتأتِ فيهم القوة التي ضعفت عندهم حينما لعنوني"، حتى بعدما نطقوا بالشر عليّ ثم تابوا، يسلكون في الطريق المستقيم ويتبعونه. يبرر موقفه حينما يتحدث عن الذين ينطقون عليه شرًا: "ألم أقف أمامك في وقت شدتهم؟" وقف السيد المسيح أمام الآب وقدم نفسه كفارة لخطايانا (1 يو 2: 2)، وتشفع من أجلهم في وقت شدتهم. إنه لا يقف أمام الآب بعد انتهاء شدتنا، بل أن "المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار" (رو 5: 6). "ألم أقف أمامك في وقت شدتهم وفي وقت ضيقتهم لأنقذهم من أمام وجه العدو": حتى في وقت ضيقتهم، وقت تعرضهم لمواجهة العدو، وقفت أمامك لكي أدافع عنهم. ومن هو هذا العدو إلا "إبليس خصمنا" (1 بط 5: 8)، الذي يضايقنا؟ من الواضح أنه في وقت عداوة الشيطان للإنسان وقف مخلصنا أمام الآب وصلى وطلب من أجلنا نحن المأسورين حتى يفتدينا من عبودية العدو ]. نزع النبوات (الكنوز) عنهم يقول العلامة أوريجينوس: [سواء كانت هذه الكلمات خاصة بالمخلص أو بإرميا، لأن إرميا يمكن أن ينطق أيضًا بهذا الكلام ويصلي من أجل الشعب في وقت شدتهم، فإن الرب يجيب بعدها على الشعب المُتهم من قِبَل النبي أو من قِبَل السيد المسيح، قائلًا: "هل يكسر الحديدُ الحديدَ الذي من الشمال والنحاس" أو "إن قوتكهيمثل الحديد والنحاس"، صلبة وعنيدة وجامدة؛ مثل هذه القوة تقطع وتقسم، لأنها ليست قوة لفعل الخير. "ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب لا بثمن بل بكل خطاياك" [13]. ما هي ثروات الخطاة التي يدفعها الله للنهب في مقابل كل خطاياهم؟ هل الثروات التي يجمعونها على الأرض؟ كل إنسان في الواقع يكنز لنفسه، إما على الأرض إن كان إنسانًا شريرًا، أو في السماء إذا كان إنسانًا صالحًا، كما يخبرنا الإنجيل (مت 6: 19-20). هل يقول لهذا الشعب: إنه بسبب خطاياكِ أدفع خزائنك وثرواتك للنهب، قاصدًا بتلك الثروات الأنبياء مثل إرميا وإشعياء وموسى؟! لقد نزع الله هذه الكنوز عن هذا الشعب، وقال من خلال السيد المسيح: "إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره" (مت 21: 43). هذه الأمة هي نحن، فقد دفع الله ثروات هذا الشعب (الأنبياء) إلينا. هم أُستؤمنوا على أقوال الله أولًا (رو 3: 2)، ثم أُستؤمنا نحن من بعدهم على هذه الأقوال؛ فقد نُزعت منهم وأُعطيت لنا. كذلك يمكننا أن نقول أن عبارة: "ملكوت الله يُنزع منكم وُيعطَى لأمة تعمل أثماره" التي قالها المخلص تحققت فيه. ليس أن الكتاب المقدس نُزِع منهم، بل أنهم حاليًا لا يملكون الناموس ولا الأنبياء لأنهم لا يفهمون ولا يُدركون المكتوب فيه. توجد عندهم الكتب، لذلك فإن ملكوت الله الذي يُنزع عنهم هو "معنى الكتب المقدسة". إنهم لا يهتمون بمعرفة أي شرح للناموس والأنبياء، لكنهم يقرءونه دون فهم. وبمجيء السيد الرب تحققت بالفعل النبوة التالية: "فقال اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب" (إش 6: 9-10؛ مت 13: 14-15). كما تحققت أيضًا نبوة إشعياء: "فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب، القاضي والنبي، والعراف والشيخ، رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية" (إش 3: 1-3). كل هذا قد نزعه الله منهم ودفعه لنا نحن الذين جئنا من الأمم... يقول: "لا بثمنٍ بل بكل خطاياكِ وفي كل تخومكِ"، كأنه يقول لهذا الشعب: أن خزائنك وثروتك أدفعها للنهب بسبب خطاياكِ التي ملأت كل تخومك، لأنه لا يوجد مكان عند هذا الشعب لم يمتلئ بالخطية. كيف لا تمتلئ كل تخومهم بالخطايا وهم الذين قتلوا الحق، بما أن السيد المسيح هو الحق، وقتلوا الحكمة، بما أن السيد المسيح هو الحكمة، وقتلوا العدل، بما أن السيد المسيح هو العدل؟ بحكمهم على ابن الله بالموت فقدوا كل ذلك الحق والحكمة والعدل. وحينما قام رب المجد يسوع من بين الأموات لم يظهر أبدًا للذين قتلوه... إنما ظهر فقط للذين آمنوا به، ظهر لهم وحدهم حين قام من الأموات. "وأُعبِّرُك مع أعدائك (وأخضعك للعبودية في وسط أعدائك) في أرض لم تعرفها، لأن نارًا قد اشتعلت بغضبي تُوقد عليكم" [14]. لقد أُخضع هذا الشعب بالفعل للعبودية في وسط أعدائه وفي أرض لم يعرفها. وبعد كلام التهديد هذا الموجه للشعب، يواصل إرميا أو السيد المسيح صلاته ويضيف إلى أقواله السابقة هذه الكلمات: "أنت يا رب عرفت. أذكرني وتعهدني وانتقم لي من مضطهديَّ. بطول أناتك لا تأخذني" أو "لا تكن طويل الأناة عليهم" (LXX). يمكن أن يكون إرميا هو الناطق بهذا الكلام، بما أنه اُضطُهِد من الذين كان يعاتبهم، وكان مكروهًا من الذين لم يقبلوا الحق. ويمكن أيضًا أن يكون مخلصنا هو المتكلم حيث أُضطهد أيضًا من هذا الشعب. ثم يضيف "ولا تكن طويل الأناة عليهم"، ماذا تعني هذه الكلمات؟ لقد كُنتَ دائمًا طويل الأناة أمام خطايا هذا الشعب، ولكن أمام كل هذه الجرائم التي تجرءوا وارتكبوها ضدي، فلا تكن طويل الأناة عليهم. بالفعل لم يكن الله طويل الأناة. لو نظرت إلى تاريخ عذاب هذا الشعب، أي تاريخ سقوط أورشليم وخرابها، وإلى الطريقة التي ترك بها الله هذا الشعب لأنهم قتلوا السيد المسيح، تدرك أن الله لم يستخدم طول أناته مع هذا الشعب! أو إذا شيئت فاستمع إلى هذا: أنه منذ السنة الخامسة عشرة لملك طيباريوس قيصر (أي منذ بداية عمل السيد المسيح وكرازته) (لو 3: 1)، وحتى وقت خراب الهيكل، لم يمضِ سوى 42 سنة فقط! وكانت تلك الفترة بمثابة "وقت" منحه الله للتوبة، خاصة توبة بعض الناس من ذلك الشعب، وهم اليهود الذين دخلوا إلى الإيمان بعد رؤيتهم للآيات والعجائب التي صنعها الرسل]. 5. سبي الشعب: 12 « هَلْ يَكْسِرُ الْحَدِيدُ الْحَدِيدَ الَّذِي مِنَ الشِّمَالِ وَالنُّحَاسَ؟ 13 ثَرْوَتُكَ وَخَزَائِنُكَ أَدْفَعُهَا لِلنَّهْبِ، لاَ بِثَمَنٍ، بَلْ بِكُلِّ خَطَايَاكَ وَفِي كُلِّ تُخُومِكَ. 14 وَأُعَبِّرُكَ مَعَ أَعْدَائِكَ فِي أَرْضٍ لَمْ تَعْرِفْهَا، لأَنَّ نَارًا قَدْ أُشْعِلَتْ بِغَضَبِي تُوقَدُ عَلَيْكُمْ». [12-14]. يرى البعض أن الحديد الذي من الشمال هو المستورد من منطقة البحر الأسود، وهو من نوع جيد، يُستخدم في صنع الأسلحة. كأنه يقول لمملكة يهوذا بكل قياداتها وشعبها: إن كنتِ تظنين إنك كالحديد، لكنك لا تقدرين أن تقفي أمام بابل التي جعلتها كحديدٍ قوي ونحاس. لا تستطيعين الوقوف أمام تأديبات الرب. لا تنفعك قوتك ولو كانت كالحديد، ولا ثروتك أو خزائنك، فإنها تُنهب بيد العدو... خطاياكِ تدفعك إلى يد العدو لتُساقي إلى أرض السبي، إلى أرض غريبة لم تعرفيها من قبل... هذا كله لأنكِ إقتنيتِ نار غضبي عوض نار محبتي! حينما يسلم الإنسان نفسه للخطية يفقد حتى ثروته وخزائنه، أي الفضائل الطبيعية، "لأنه كل من له يُعطَى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه" (مت 25: 29). من يترك الله يتركه الله للنهب فيفقد كل ما لديه. عمل الخطية هو أنه يسحبنا من أرضنا إلى أرض السبي، ينتزعنا عن أرض الحق لندخل إلى مذلة العبودية التي لا تعرف إلا العنف والكذب والخداع. بقوله: "هل يكسر الحديد الحديد الذي من الشمال والنحاس؟" [12] يعني أن نير بابل الذي وضعه على عنق يهوذا من الحديد لا يُمكن كسره... غير أنه في الوقت المناسب يعطيهم الرب رجاءً في كسر النير، إذ قال حنانيا النبي لإرميا النبي: "هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلًا: قد كسرت نير ملك بابل" (إر 28: 2). كما أخذ حنانيا النبي النير عن عنق إرميا وكسره، وتكلم أمام كل الشعب قائلًا: "هكذا قال الرب: هكذا أكسر نير نبوخذنصر ملك بابل" (إر 28: 10-11). في البداية لم يسمح بكسر النير لتأديب شعبه إلى حين، لكنه لا يترك شعبه هكذا، إنما يعطيهم الفرصة ليتمتّعوا برجاء الخلاص وتحريرهم من السبي البابلي. يرى البعض أن "الحديد" هنا يشير إلى إرميا في يأسه، فقد جعله الله أسوار نحاس ضد كل الأرض (إر 1: 18) لكنه إذ سقط في اليأس المُرّ صار كالحديد، فهل يظن أنه يستطيع أن يجابه بحديد يأسه الحديد الذي من الشمال والنحاس. وكأن الله يؤكد له أن اليأس لن يُقدم له حلًا للمشكلة، بل الالتقاء مع الله. فقدت مملكة يهوذا ثروتها وخزائنها هذه التي تدنست برجاسات وثنية، أما إرميا فكان الرب نفسه هو ثروته وكنوزه لا يقدر عدو ما أن ينهبها منه. سنعود إلى الحديث عن الثروة والخزائن فيما بعد إن شاء الرب [راجع تفسير إر 17: 3]. 6. تعزيات وسط الآلام: 15 أَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَ. اذْكُرْنِي وَتَعَهَّدْنِي وَانْتَقِمْ لِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ. بِطُولِ أَنَاتِكَ لاَ تَأْخُذْنِي. اِعْرِفِ احْتِمَالِي الْعَارَ لأَجْلِكَ. 16 وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي، لأَنِّي دُعِيتُ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ. 17 لَمْ أَجْلِسْ فِي مَحْفَلِ الْمَازِحِينَ مُبْتَهِجًا. مِنْ أَجْلِ يَدِكَ جَلَسْتُ وَحْدِي، لأَنَّكَ قَدْ مَلأْتَنِي غَضَبًا. 18 لِمَاذَا كَانَ وَجَعِي دَائِمًا وَجُرْحِي عَدِيمَ الشِّفَاءِ، يَأْبَى أَنْ يُشْفَى؟ أَتَكُونُ لِي مِثْلَ كَاذِبٍ، مِثْلَ مِيَاهٍ غَيْرِ دَائِمَةٍ؟ "أنت يا رب عَرَفْتَ. اذكرني وتعهدني وأنتقم لي من مضطهديَّ. بطول أناتك لا تأخذني. اِعْرِف احتمالي العار لأجلك. وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي. لأني دُعيتُ باسمك يا رب إله الجنود" [15-16]. كان إرميا النبي في حاجة إلى تعزيات سماوية وسط المُرّ الذي يعيش فيه، إذ كان محصورًا بين تطلعه إلى شعبه وهو يسقط تحت تأديبات قاسية وربما إلى هلاك أبدي إن أصر على شره، وبين مقاومة الكثيرين له. أما تعزيات الله فمصدرها الآتي: أ. أنه موضوع معرفة الرب يقول: "أنت يا رب عرفت" [15]. في وسط الضعف نشعر كأن الأمور تسير اعتباطًا بلا خطة، لكن إرميا أدرك بإيمانه أن الله يعرف كل شيء، وليس شيء خفيًا عنه. حياته وحياة البشرية كلها في يد ضابط الكل، الذي يعرف كيف يحول حتى المُرّ إلى عذوبة. "أنت يا رب عرفت" [15]. أنت يا رب تعرف مالا يخطر ببال أقرب الناس إليّ، وما لا أجسر على النطق به، وما أتحاشى أن أردده حتى في أعماق نفسي. أنت تعرف حبي لك ولشعبك. أنت تعرف مرارة نفسي وذوبانها لأجل خطايا بنت شعبي. أنت تعرف إني أحترق بنار كلمة التأديب. أنت تعرف ضعفي وعجزي التام عن تحقيق رسالتي! ماذا أفعل إن تركتني أعمل بطاقاتي ومشاعري البشرية؟! ب. موضوع تذكر الله ورعايته "اذكرني وتعهدني وأنتقملي من مضطهديّ" [15]. كثيرًا ما يشعر الإنسان بالعزلة، وإهمال الكل له، وعدم مشاركة أحد له، لكن يكفيه أن يجد الله نفسه يذكره ويتعهده ويدافع عنه ضد مضطهديه. يقصد بالمضطهدين هنا الأنبياء الكذبة الذين يدفعون الشعب إلى الهلاك. أما بالنسبة لنا فنرى في المضطهدين، ليس أبناء البشر، بل عدو الخير وأعماله الشريرة وحيله الخبيثة. في وسط آلامه ربما عانى إرميا إلى حين من الشعور بالعزلة، مع إحساسه أنه منسى من أحبائه، وموضع سخرية الأشرار. لكنه في يقين الإيمان يُشبع الله كل احتياجاته: يذكره ويتعهده وينتقم له. الله الذي عرفه وهو في البطن وذكره وتعهده وقدسه للعمل كنبي بين الشعوب يبقى يذكره ويتعهده وينتقم له حتى في أحلك اللحظات، ليس انتقامًا من أعداء شخصيين بل من مقاومي الحق الإلهي. في الأصحاح العشرين نرى فشحور الكاهن يضرب إرميا ويضعه في المقطرة، ولكن مسكين فشحور الذي صار اسمه "مَجُورَ مِسَّابِيبَ" (إر 20: 3) أي المخيف لنفسه ولمحبيه! ما فعله لم يُرعب إرميا بل ارتد على نفسه وعلى محبيه المساعدين له في مقاومته لكلمة الرب. ما نريد تأكيده أن الله يتذكرنا ويتعهدنا ويعمل بنا إن كنا به لا نرتعب ولا نخاف، لأنه هو عامل بمؤمنيه المتكئين عليه وسط تيارات العالم. التذكار هنا لا يعني مجرد تذكار لأحداث ماضية، إنما هو استرداد للأحداث الماضية بطريقة عملية معاصرة. وكأن إرميا يطلب من الله أن يذكر من الماضي ما يعرفه عن إرميا ليعمل في حياته الحاضرة ويُنجح رسالته. والتعهد هنا يعني "الافتقاد"، وهو افتقاد إلهي لا ليدين بل ليخلص خدامه العاملين حسب مسرته. ج. طول أناة الله لا يحمل إرميا النبي كراهية ضد إنسان، وإن طلب النقمة إنما يشتهي تأديب مقاومي الحق لأجل توبتهم ورجوعهمإلىالله... يشعر إرميا بضعفاته، لذلك لا يتحدث من موقع المعلم المتكبر أو الذي يشعر ببرٍ ذاتي، إنما من مركز الإنسان المحتاجإلى طول أناة الله، فيقول: "بطول أناتك لا تأخذني" [15]. في لحظات الضعف واليأس صرخ إرميا: "ويل لي يا أمي، لأنك ولدتيني إنسان خصام" [10]، لكنه إذ يكتفي بالله ويطلب منه أن يذكره ويتعهده...أي يعطيه قوة للعمل لحساب ملكوته يسأله ألا يتعجل أخذه من العالم حتى يحقق رسالته التي ائتمنه الله عليها، قائلًا: "بطول أناتك لا تأخذني" [15]. لنطلب شركة العار والآلام! يقول العلامة أوريجينوس: ["اعرف احتمالي العار لأجلك" [16] أو "اعرف إنني شُتمتُ من أجلك من الذين يرفضون كلامك" (LXX). لنفترض أن النبي هو الذي يتكلم، بالفعل كان محتقرًا من الناس بسبب ما كان يتكلم به، إذ كان الخطاة يرفضون سماعه؛ لذلك قال: "صرت للضحك كل النهار" (إر 20: 7). كان يُشتَم من أجل الكلام الذي كان يقوله الرب على لسانه، وكان يُصلي بسبب هذه الشتائم الواقعة عليه لكي ينقذه الله ويساعده، قائلًا: "اعرف إنني شُتمت من أجلك من الذين يرفضون كلامك". يضيف أيضًا طالبًا من الله: "أفنهم" [15] (LXX). نفترض أن إرميا هو الذي يقول "أفنهم"، وإن كنت أعتقد أن هذه الكلمة توافق بالأكثر السيد المسيح، حيث تحققت طلبته، فكان فناء عظيم لمنطقة أورشليم وللشعب، بعدما تآمروا على المخلص وقتلوه. إذ تألم الأنبياء كثيرًا بسبب توبيخاتهم للشعب، وبكونهم سفراء الكلمة حينما ينطقون بما يأمرهم به الله، من الضروري أن نذكّر السامعين ما هي حياة الأنبياء، وما هي الوعود التي أخذوها، وأيضًا نُذكّرَكُم أن الاختيار متروك لنا، فإن أردنا أن تكون لنا راحة في أحضان هؤلاء الأنبياء، يجب علينا - على قدر استطاعتنا - أن نعمل الأعمال التي عملوها. ما أريد أن أقوله لكم يتلخص في الآتي: كثيرًا ما نقول في صلواتنا: يا الله القوي، اعطنا أن تكون لنا شركة (نصيب) مع الأنبياء، اعطنا أن تكون لنا شركة مع رسلك، لكي نوجد مع ابنك الحبيب يسوع المسيح. لكننا لسنا ندرك ماذا نطلب، لأن هذا الكلام معناه: يا رب اعطنا أن نتألم كما تألم الأنبياء، اعطنا أن نكون مكروهين مثلهم، اعطنا أن نبشر بكلمات يضطهدنا الناس بسببها، اعطنا أن نسقط في مؤامرات كثيرة كما حدث للرسل. فإنه لا يليق بنا أن نقول: "اعطنا يا رب شركة مع الأنبياء"، ونحن لا نتألم مثلهم ولا نريد أن نتألم. لا يليق بنا أن نقول: "أعطنا يا رب شركة مع رسلك"، ونحن غير مستعدين أن نقول بكل صراحة مع بولس الرسول: "في الأتعاب أكثر، في الضربات أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مرارًا كثيرة" (2 كو 11: 23). إذ نريد أن يكون لنا نصيب مع الأنبياء، لننظر إلى حياتهم، وإلى ما قاسوه من أتعاب وآلام بسبب توبيخاتهم للشعب؛ "رُجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلًا بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين، مكروبين، مذلّين، تائهين في براري ومغاير وشقوق الأرض" (عب 11: 37-38). إذن لا عجب إن تعرضناإلى الافتراء والبغضة والاتهامات الباطلة، إن أردنا أن نحيا حياة الأنبياء. لا بُد أن نحتمل كل ذلك بفرح، فلا نتذمر ولا نتكلم بالشر على الذين طردونا أو على الذين أصدروا الأوامر باضطهادنا. فإن الرسل، هؤلاء الأبطال المدهشين الذين قاسوا آلاف الأتعاب من أجل الحق، كانوا يقولون: "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح" (2 كو 12: 10). يمكننا أن نذوق هذا السرور، لو أدركنا فقط أن كل هذه الاضطهادات التي نتحملهاهي من أجل المسيح وحده، ولو عرفنا أن سبب هذه الضيقات التي نتعرض لها هو السيد المسيح، وأننا نقدم أبطالًا للحق، يحكمون علينا لأننا سفراء كلمة الله (أف 6: 20). لنحاول نحن جميعًا، على قدر استطاعتنا، أن نحيا حياة الأنبياء والرسل، دون أن نهرب من الأتعاب، لأنه لو هرب المصارع من أتعاب المنافسة لن يتمتع بإكليل النصرة]. د. كلمة الله المفرحة وسط الآلام المُرّة، ومع إدراكه لكلمة الله التي تؤدب كان إرميا في يقين أنها مصدر فرحه وبهجة قلبه، إذ يقول: "وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يا رب إله الجنود" [16]. كلمة الله تهب رجاءً يفرح القلب. أكل إرميا النبي كلام الرب، إذ سبق فأعلن أن الله وضع كلامه في فمه (إر 1: 9). يشير الأكل هناإلى قبول الكلام أو قبول الدعوة للخدمة قبولًا تامًا، لذا لم يقل "تذوقته" بل "أكلته". اتحد بكلام الله فصار واحدًا معها، أو صارت الكلمات الإلهية جزءًا لا يتجزأ منه. جاء في سفر التثنية: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تث 8: 3). ويقدم لنا إشعياء النبي كلمة الله طعامًا وشرابًا للنفس (إش 11)، وصدر الأمر لحزقيال النبي أن يأكل الدرج الذي أعطاه الله إياه فكان في فمه كالعسل حلاوة (حز 2: 1-3). "فكان كلامكلي للفرح والبهجة" [16]، ارتبطت الكلمتان معًا في (إر 7: 34؛ 16: 9) بالعريس والعروس كما جاء عن العريس الكلمة: "في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش 3: 11). إن كان إرميا قد دُعي ليبقى غير متزوجٍ (إر 16: 2) إلا أنه بقبوله كلمة الله وغذائه بها صار له بهجة العرس على مستوى فائق، تتحد نفسه كعروس بالعريس السماوي. كلمة الله التي دخلت بهإلى الخصام، فصار في خزيٍ وعارٍ في أعين القيادات والشعب، جعلته في بهجة عرسٍ أبدي وفرحٍ فائق لا يُعبر عنه! أما ان إرميا قد دعي عليه اسم الرب [16] فيعني أنه صار في ملكيته، كما يُدعى اسمه على بيته المقدس (إر 7: 10). وكأن إرميا صار عروسًا روحية وبيتًا روحيًّا للرب. يقول العلامة أوريجينوس: ["وسيكون كلامكلي مصدرًا للفرح" [16] (LXX). إنه ليس مصدرًا لفرحي الآن، لكنه "سيكون". لأنه إذا كانت كلمتك الآن في الوقت الحاضر مصدرًا لسجني وآلامي واضطهادي ففي نهاية كل ذلك تكون مصدرًا لفرحي. "وسيكون كلامكلي مصدرًا للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يا رب إله الجنود". حتى إذا كان السيد المسيح هو المتكلم هنا، فإن اسم الآب قد دُعي عليه. "لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا" [17]؛ إذا حدث أن رأى النبي أن المحفل لا يضم أناسًا جادين بل مازحين، كان يتجنب الاشتراك فيه. يجب علينا أن نفهم الفرق بين محفل المازحين ومحفل الجادّين. فإن جماعة الجادين تفعل كل شيء بجدية وتحتكمإلىالمنطق في كل تصرفاتها، لها عقيدة جادة، وحياة جادة. لكن حينما تقوم الجماعة (المحفل) بترك الجدية اللازمة في الأمور الهامة، وتنصرفإلىحياة اللهو وإلى الأعمال الصبيانية التي لهذا العالم، وإلى الأعمال المتولدة من الرذيلة، تتحولإلى محفلٍ للمازحين. يقول النبي: "لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا، من أجل يدك جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا (خوفًا)". أمام الاختيارين: إما أن نجلس في محفل المازحين فنُغضب الله، أو نترك محفل المازحين برضانا فنُفرح الله. يقول إرميا: لقد اخترت أن أترك محفل المازحين وأن أكون صديقًا لك، بدلًا من أن أفعل العكس فأصير عدوًا لسعادتك (أي أكون سبب غضبك). مخلصنا أيضًا لم يجلس في محفلهم "محفل المازحين" لكنه قام وتركه، والدليل على هذا أنه قال: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا"، لقد ترك السيد المسيح محفل اليهود وأقام لنفسه محفلًا آخر هو كنيسة الأم]. ه. الالتقاء مع الله سر تعزيته أنه اعتزل مجالس الأشرار المازحين، الذين يطلبون الفرح الزمني المملوء مزاحًا ليجلس مع الله وحده، يبكي على خطايا الشعب ويحزن ويغضب بسبب هلاكهم، دون أن يفقد سلامه وبهجته. إذ يقول: "لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا، من أجل يدك جلست وحدي، لأنك قد ملآتني غضبا" [17]. إن كانت ثروة الملك ورجاله مع كل الشعب وخزائنهم قد دُفعت للنهب فافتقروا ودخلوا في ذلٍ وعارٍ مع مرارة، فإن ثروة إرميا النبي وخزائنه هي كلمة الله التي لا يقدر عدو أن ينهبها أو يسلبها منه، فيبقى وسط الآلام والمتاعب مملوء شبعًا وفرحًا! هذا هو كل ما تُرك لإرميا، كلمة الله، التي يراها القيادات والشعب حتى عائلته إنها كلا شيء، وكانوا يسخرون منه، ولم يدركوا أنها هي كل شيء! المزاح هو عدم الجدية في اهتمام الإنسان بخلاص نفسه وخلاص الآخرين، سواء في عبادته الخاصة أو العامة أو خدمته للغير. أخبروا هيرودس عن موقع ميلاد المسيح، لكنهم لم يفكروا في الالتقاء معه بجدية، بينما جاء المجوس من المشرق يعبرون مسافات طويلة في جدية ليلتقوا بمخلصهم! كان إرميا النبي جادًا لذلك كانت نفسه مُرّة من أجل خلاص إخوته... وهذا يهبه فرحًا داخليًا لا يُعبر عنه. قيل عن الإنسان المازح: "مثل المجنون الذي يرمي نارًا وسهامًا وموتًا، هكذا الرجل الخادع قريبه ويقول: ألم ألعب أنا؟!" (أم 26: 18). هكذا من يخدع أخاه تحت ستار المزاح يلقي بنارٍ في قلبه ليحرق ويبدد، ويصوب سهامًا لنفسه فيقتلها ويفقد كل حياة! استخدمت كلمة المزاح بالعبرية عن النساء اللواتي لعبن وقلن "ضرب شاول ألوفه وداود ربواتهِ" (1 صم 18: 7)، فكن يسخرن بالملك شاول مما أثار فيه حمية الحسد وفكر جديًا في قتل داود. هذا هو عمل المزاح القاتل والمثير للمتاعب! ورد في زكريا (زك 8: 5): "وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها"، فالمزاح من سمة الصبيان لا الناضجين. مجلس المازحين يعني مجلس المستهزئين بخلاصهم، في القيادات اليهودية في أيام السيد المسيح كانوا مجالس مازحين. مجلس المازحين هم جماعة الأنبياء الكذبة الذين نطقوا بغير الحق، وظنوا في ذلك بهجة وسلامًا، أما إرميا الناطق بالحق فبقى وحده، إذ تركه الجميع وحسبوه متشائمًا... أدرك غضب الله على شعبه فامتلأ حزنًا! من أجل يد الله جلس إرميا وحده وامتلأ بغضب الله، ويقصد بيد الله هنا الإعلان النبوي أو الكشف عن خطة الله... وكأن يد الله قد امتدت لتكشف لإرميا عن الحق الإلهي الذي رفضه الشعب، وما سيحل بهم من تأديبات كأنها حلت به هو شخصيًا. إنه يردد مع المرتل: "لأن سهامك قد انتشبت في، ونزلت عليّ يدك. ليست في جسدي صحة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي" (مز 38: 2-3). "جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا" [17] سبق أن رأينا في (إر 12: 6) أن عائلته قد دعته: "مملوء سكرًا"، وها هو يقول لهم: "إنني لست مملوء سكرًا، بل مملوءً بالغضب الإلهي، أحمله عنكم. إن ما يسكرني ليس الخمر بل رؤيتي للغضب الذي تسقطون تحته". "جلست وحدي" [17]. يرى العلامة أوريجينوس في هذه العبارة دعوة كتابية لكي تكون لنا الحياة المميزة الفريدة! ["جلست وحدي" [17]. ينبغي أن نتعلم من هذه العبارة عندما تكون هناك جماعة من الخطاة لا تحتمل أن ترى إنسانًا تقيًا يعيش في حياة التقوى، لهذا يليق بالإنسان أن يهرب من محفل الرذيلة، يفعل مثل إرميا الذي قال: "جلست وحدي"، ومثل إيليا الذي قال: "يا رب قتلوا أنبيائك وهدموا مذابحك وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي" (رو 11: 3). لكن إذا نظرت بطريقة أعمقإلى كلمات "جلست وحدي"، ربما تجد لها تفسيرًا أكثر عمقًا يليق بها. عندما نحيا مثلما يحيا جميع الناس، ولا تكون لنا حياة مستقلة خاصة ومميزة بالنسبة لباقي الناس، لن نستطيع أن نقول: "جلست وحدي"، إنما نقول: "جلست مع أناسٍ كثيرين". لكن - على العكس - إذا أصبحت حياتي مميزة بحيث يصعب على الناس تقليدها، لا يستطيع أن يشابهني أحد لا في أعمالي ولا في عقيدتي ولا في حكمتي، عندئذ يمكنني أن أقول "جلست وحدي". إذن يمكنك أن تقول هذه الكلمات، حتى ولو لم تكن كاهنًا أو أسقفًا وليس لك أية رتبة كنسية، ذلك حينما تحيا الحياة التي تمكّنك من أن تقول: "جلست وحدي"]. قوله: "جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا" [17]، ينطبق على السيد المسيح الذي دخل البستان وحده ليحمل غضب الله عنَّا، إذ يقول لتلاميذه "وتتركوني وحدي..." كما يقول: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت". جلس وحده في البستان لأنه حمل خطايانا على كتفيه. لنتشبه به فندخل معه في البستان وحدنا لكي نئن من أجل سقطات كل أحدٍ، ونحسبها سقطاتنا فنقول: "جلست وحدي لأنك قد ملأتني مرارة" [17](LXX) . يقول العلامة أوريجينوس: ["لأنني قد امتلأت مرارة" [17]. إن كان الطريق المؤديإلى الحياة ضيق وكرب (مت 7: 14) لا يمكنك أن تتمتع بأية عذوبة الآن، بل عليك أن تمتلئ بمرارةٍ في هذه الحياة. ألا تعلَم أن عيدك يُحتفل به على أعشاب مُرّة؟ يقول الكتاب المقدس أنه حينما تحتفل بالعيد لا بالعهد الإلهي أن تأكل فطيرًا على أعشابٍ مُرّة (خر 12: 8). ماذا يعني الكتاب حينما يؤكد أنه للاحتفال بأي عيدٍ خاص بالرب لا بالعهد الإلهي من أكل الفطير على أعشابٍ مُرّة؟ هلموا نبحث هذا الموضوع. موضوع "الفطير" سبق أن شرحه لنا بولس الرسول عندما قال: "إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق" (1 كو 5: 8). ينبغي أن يكون التفسير الذي أضيفه موافقًا ومناسبًا لتفسير الرسول ومكملًا له. يجب عليك أن تفهم ماهي الأعشاب المُرّة، حينما تربط بينها وبين كون الفطير "فطير الإخلاص والحق"؛ فبمجرد أن يكون عندك إخلاص وحق تجد أمامك أعشابًا مُرّة، وتأكل مع الأعشاب المُرّة فطير الإخلاص والحق. ينطبق هذا على بولس الرسول: فلأنه كان يأكل فعلًا فطير الإخلاص والحق، بسبب ذلك كان يأكل أيضًا "الأعشاب المُرّة". كيف كان ذلك؟ قال: "أفقد صرت إذًا عدوًا لكم لأني أَصْدُقُ لكم؟!" (غلا 4: 16). كيف كان يأكل أيضًا الأعشاب المُرّة؟ كان يأكلها كالآتي: "في كدٍ وتعبٍ، في أسهارٍ مرارًا كثيرة، في جوعٍ وعطشٍ إلخ." (2 كو 11: 27-28). ألا يعتبر ذلك كله "حقًا" مع أعشابٍ مُرّة؟ أو فطيرًا على أعشاب مُرّة؟ تقول الشريعة: "كلوا فطيرًا مع أعشاب مُرّة" ولم تقل: "كلوا فطيرًا مع أعشاب مُرّة حتى تمتلؤا وتشبعوا"؛ لذا فإن النبي قد فعل أكثر مما تتطلبه الشريعة، فهو يقول: "لقد امتلأت مرارة" ولم يقل: "قد أكلت مرارة"، أي: قد أخذت نصيبي من المرارة بما فيه الكفاية]. لماذا كان وجعي دائمًا؟! ["لماذا يكرهوني ويغضبون على دائمًا؟" (LXX) لقد عانَى إرميا من مضايقات كثيرة، وتألم بسبب الذين لم يريدوا أن ينصتوا للحق والذين كانوا أقوى منه هنا على الأرض فقط، لأن ملكوت الله ليس من هذا العالم بل من فوق. كما يقول المخلص: "لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود" (يو 18: 36). إذًا الذين كانوا يضايقون النبي كانوا يضايقونه في هذا العالم فقط. انظروا أيضًا الشهداء: يجلس القاضي على مقعده على منصة الحكم ليقضي ويحكم وهو في غاية الراحة، بينما يقف الإنسان المسيحي الذي "يحاكم السيد المسيح فيه"، وقد "امتلأ مرارة" وهو موضوع تحت رحمة إنسانٍ غير عادل ليُحكم عليه ]. "لماذا كان وجعي دائمًا؟! وجرحى عديم الشفاء؟! يأبى أن ُيشفي! أتكون لي مثل (جدول مياه) كاذب، مثل مياه غير دائمة" [18]. كثيرًا ما استخدم إرميا النبي اصطلاحات طبية، فقد شعر بخطورة المرض الذي أصاب شعبه (إر 6: 7؛ 8: 21-22؛ 20: 12، 15)، مظهرًا تعاطفًا شديدًا معهم. والآن يشعر بالجراحات قد أصابته هو، ربما بسبب شدة اضطهادهم له، فصار مريضًا وجريحًا، جرحه عديم الشفاء... إنه لا يعاتب الشعب الذي اضطهده، وإنما في مرارة نفسه ودالة الحب يعاتب الله الذي أرسله للخدمة، قائلًا له: "لماذا؟" ربما في جسارة يعاتبه: "أتكونلي مثل كاذب، مثل مياه غير دائمة"... فقد سخر به الكل، وبدى كأنه قد هُزم مع أن الله وعده بالنصرة والحماية الدائمة... بقوله "مثل" يؤكد إرميا أن الله لم يخدعه ولن يكون كمجرى ماء كاذب، لكن هكذا ظهر الله في عيني أعداء إرميا الذين عيروه. هذا ويمكن القول بأن ما نطق به إرميا هنا إنما نطقه باسم الشعب وهو يعاني من السبي، مؤكدًا لشعبه أنه لا يشمت فيهم بل يحسب جراحاتهم جراحاته وأمراضهم أمراضه. كأنه يقول: لن ينتهي وجعي إلا بانتهاء آلامكم، ولن يُشفي جرحي ما لم تُشفً جراحاتكم. هذا ما عبر عنه الرسول بولس قائلًا: "من يعثر وأنا لا التهب؟! من يضعف وأنا لا أضعف؟!" وقد عبر القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الحب العجيب نحو الغير، قائلًا: [لا نعجب من الرسول بولس في إقامته الميت، ولا تطهيره الأبرص، إنما نعجب من قوله: "من يضعف وأنا لا أضعف؟! من يعثر وأنا لا ألتهب؟!" (2 كو 11: 21). لو كان في قدرتك صنع آلاف المعجزات، فإنها لن تعادل هذا القول... كلماته هذه أثمن من اللآلئ]. جرح عديم الشفاء يعلق العلامة أوريجينوس على العبارات السابقة، قائلًا: ["جرحي عديم الشفاء. من أين يأتيني الشفاء؟" [18]. الذين يضايقونني يضربوني، وجرحي عديم الشفاء. يمكن أن تكون هذه العبارة نبوة عن صلب السيد المسيح، كما يمكن أن يكون المقصود بها كل الأبرار الذين يتحمل السيد المسيح فيهم جرحًا عديم الشفاء. أو يمكن أن يكون المقصود هو إرميا النبي نفسه لأنه قاسي أتعابًا وآلامًا كثيرة. يمكن أن يطبق النص على جميع هذه الحالات. من أين يأتيني الشفاء؟" إن كان السيد المسيح هو الذي يقول ذلك، فهو يتنبأ بذلك عن قيامته من الأموات بعد الجرح العديم الشفاء. "لقد صارت لي مثل مياه مضللة وغير مخلصة" ]. 7. الله يشدد إرميا النبي: 19 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «إِنْ رَجَعْتَ أُرَجِّعْكَ، فَتَقِفْ أَمَامِي. وَإِذَا أَخْرَجْتَ الثَّمِينَ مِنَ الْمَرْذُولِ فَمِثْلَ فَمِي تَكُونُ. هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْكَ وَأَنْتَ لاَ تَرْجعُ إِلَيْهِمْ. 20 وَأَجْعَلُكَ لِهذَا الشَّعْبِ سُورَ نُحَاسٍ حَصِينًا، فَيُحَارِبُونَكَ وَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ، لأَنِّي مَعَكَ لأُخَلِّصَكَ وَأُنْقِذَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ. 21 فَأُنْقِذُكَ مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ وَأَفْدِيكَ مِنْ كَفِّ الْعُتَاةِ». يجيب الله على إرميا بخصوص الأسئلة السابقة، قائلًا: "إن رجعت أُرجعك فتقف أمامي، وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون. هم يرجعون إليك وأنت لا ترجع إليهم" [19]. إن كان إرميا النبي قد شعر أن جرحه دائم وبلا شفاء، فإن الله يقدم له الحل أو الدواء، وهو: "إن رجعت أرجعك فتقف أمامي" [19]. كأنه يقول له: أنت لي، ولك حق الوقوف أمامي لتمتع بحضرتي وتحمل قوتي، لكنك بأفكار اليأس تراجعت عني قليلًا... إرجع إليّ، فإن مكانك ينتظرك، أشتاق أن أراك واقفًا أمامي، تتمم رسالتك التي دُعيت إليها وتتمتع بإكليلك الذي أعددته لك. تمس هذه الإجابة حياة كل مؤمن تراجع عن الله في ضعفٍ أو بسبب خطيته، لكن يبقى الله يدعوه للعودة إليه، فإن له موضعه في حضن الآب. بلا شك لم يتراجع إرميا عن رسالته تمامًا، فقد عاش مخلصًا لها، لكن ربما مرت به لحظات ضعف كإنسان. إن كان جرح إرميا في الواقع هو جراحات الشعب، حاسبًا كل ما يسقط تحته شعبه كأنه هو ساقط تحته، لذا يمكن تفسير قول الرب هنا هكذا. إن كنت تشعر بأن جراحات الشعب هي جراحاتك التي بلا شفاء، فإن توبتهم ورجوعهم كأنها توبتك ورجوعك أنت، لتقول مع المرتل: "يرد نفسي، يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه" (مز 23: 3). هذا هو سر تعزية إرميا: رجوع الناس إلى الله وحملهم روح الإفراز بين ما هو ثمين وما هو مرذول، أي التمييز بين كلمة الله (الحق) وكلام الأنبياء الكذبة، بهذا يقفون أمام الله وتصير أفواههم كفم الله نفسه، فيحسب كأن إرميا نفسه قد رجع إلى الله وصار كفم الله، يحمل كلمته كسفيرٍ له، يتحدث باسمه ويعلن إرادته. يقول الله لإرميا: "إن رجعت أرجعك فتقف أمامي" [19]، يصير إرميا كرئيس بيت إبراهيم الذي رجع إليه ومعه رفقة زوجة لإسحق ابنه. هكذا يريد الله منَّا أن نعود إليه دائمًا حاملين معنا عروسًا مقدسة لإسحق الحقيقي، ربنا يسوع المسيح. يقول العلامة أوريجينوس: [لأن الجراحات لا تبقى على الدوام إنما تعبر وتنتهي، "لذلك هكذا قال الرب: إن رجعتَ أُرجعك فتقف أمامي". هذه العبارة موجهة إلى الذين يدعوهم الرب إلى التوبة والرجوع إليه. لكن يبدو لي أن هناك شيئًا من الغموض في كلمة "أرجعك". فإنه ما من أحد "يرجع" إلى موضع لم يكن موجودًا فيه من قبل، لكن ارجاع الشخص أو الشيء يكون إلى مكانه الطبيعي. فعلى سبيل المثال، حينما يُبتر أحد أعضاء جسمي يحاول الطبيب أن يعمل له عملية إرجاع وإعادة إلى مكانه الأصلي. كذلك حينما يوجد مثلًا إنسان خارج وطنه، لأسباب عادلة أو ظالمه ثم يصدر الأمر برجوعه، فإنه يرجع إلى بلده. كأن الله يقول لنا هنا، نحن الذين بعدنا عنه: أنه إذا رجعنا إليه فسوف يرجعنا إلى مكاننا الطبيعي معه. هذه إذًا هي كلمات الوعد الإلهي لنا. وكما هو مكتوب في سفر أعمال الرسل: "إلى أزمنة رد كل شيء، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" (أع 21: 3)، ولإلهنا المجد الدائم إلى أبد الآبدين. آمين ]. "وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. إخراج الثمين من المرذول يعني إخراج نفوس مقدسة مبررة كانت قبلًا مرذولة بسبب خطاياها، فإنه ليس أعظم من أن يهتم إنسان بخلاص إخوته ويحولهم من الانحطاط بالخطية إلى التمتع ببر المسيح. * لكي تعرفوا كم هو أمر عظيم أن تربح خلاص الآخرين جنبًا إلى جنب مع خلاصك اسمع ما يقوله النبي في شخص الله: "وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. لكن ما هو هذا؟ من يقود قريبه من الخطأ إلى الحق أو من الشر إلى الفضيلة، مثل هذا الإنسان يتشبهبيقدر ما تسمح القوة البشرية... إنه يخلصهم من أنياب الشيطان. * إن تحدثت لأجل تصحيح قريبك يكون لك لسان كلسانه (المسيح) والله نفسه يقول: "وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. عندما يكون لسانك مثل لسان المسيح، عندما يكون فمك مثل فم الآب، عندما تصير هيكلًا للروح القدس.أي كرامة تعادل هذه الكرامة؟! حتى إن كان فمك مصنوعًا من الذهب أو الحجارة الكريمة فهل يتلألأ مثل الآن، عندما يشع بزينة الوداعة. ماذا نشتهي أكثر من فم لا يعرف أن يشتم بل يتدرب على أن يبارك؟ * تأملوا أية كرامة يسمو إليها من يحسب خلاص أخيه ذات أهمية قصوى، فإن مثل هذا الإنسان يتشبه بالله قدر إمكانية قوة الإنسان. اسمع ما يقوله الله خلال نبيه: "إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. ما يقوله هو أن من له غيرة على خلاص أخٍ ساقطٍ في طرق الإهمال، من يسرع ويخلص أخاه من أنياب الشيطان، مثل هذا الإنسان يمتثلبي قدر ما تستطيع القوى البشرية. ماذا يعادل هذا؟ هذا أعظم من كل الأعمال الصالحة. هذا هو قمة كل فضيلة. القديس يوحنا الذهبي الفم * لا يقف شيء ما مقابل النفس ولا حتى العالم كله.فإن قدمت كنزًا بلا حدود للفقراء، فلا يساوي هذا العمل تغيير نفسٍ واحدة. هكذا يقول الله: "إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. يا له من عمل صالح عظيم أن تترفق بالفقراء، ولكن ليس شيء يعادل انتزاعهم من الخطأ. من يفعل هذا يمثل بولس وبطرس . * أيَّة بركة لا يجتنيها ذاك الشخص الذي ينفع نفوسًا كثيرة يشفيها من الآن حتى مجيء المسيح؟! أقم حصنًا ضد الشيطان، فإن هذه هي الكنيسة. * إن تحدثت بما فيه إصلاح قريبك تنال لسانًا كذاك اللسان (لسان الله) . القديس يوحنا الذهبي الفم "وأجعلك لهذا الشعب سور نحاسٍ حصينًا، فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني معك لأخلصك وأنقذك يقول الرب. فأنقذك من يد الأشرار، وأفديك من كف العتاة" [20-21]. هنا يقدم الله لإرميا وعودًا بتجديد قوته. في (إر 1: 18) أقامه الله مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس، وهنا يجعل منه سور نحاس حصينًا لا تستطيع زوابع الأشرار أن تصدمه، ولا مقاومتهم أن تهزه. إنه ليس فقط ينقذه وإنما يفديه، أي يدفع عنه الدِّية ليحرره. هكذا يعطي الله لإرميا ضمانًا لسلامه ولحريته، بل ولمساندة الآخرين. إن كان الله قد أقام إرميا النبي ليبكت الخطاة فليذكر إرميا أنه هو نفسه محتاج إلى الخلاص والفداء! هذا ومن جانب آخر حين أعلن إرميا لله إيمانه أنه يذكره ويتعهده وينتقم له من مضطهديه [15]، جاءت الإجابة الإلهية: "أنقذك من يد الأشرار، وأفديك من كف العتاة!" كأن الله يجيبه: لا تتطلع إلى إمكانياتك البشرية المجردة، ولا تنظر على أعدائك، بل إلى عملي معك وبك وفيك... إني أنقذك من يد الأشرار وأفديك من كف العتاة. يحدثنا سفر إرميا النبي عن الرب بكونه الفادي من كف العتاة (إر 15: 21) والولي الذي له حق الفكاك (إر 31: 11)، الولي القوي (إر 50: 34). يذكرنا بالدور الذي قام به بوعز الذي قام بواجبه نحو راعوث، حيث قام وهو الولي بالفكاك، فتزوجها وأنجب منها وقدم من ممتلكاته لها ولنسلها. ويلاحظ في الولي الذي يقوم بالفكاك الآتي: أ. الولي الذي له حق الفكاك ذو قرابة. هكذا وهبنا ربنا يسوع المسيح حق القرابة له، إذ اشترك معنا في اللحم والدم نظيرنا (عب 2: 14). ب. أن يكون قادرًا أن يفدى ويخلص، وقد دفع ولينا دمه الثمين فداء عنا (مز 49: 8، كو 8: 9، مز 13: 46). ج. لم يشترِ بوعزِ الميراث فحسب بل اشترى راعوث، لا لتصير له جارية بل عروسًا تشاركه حياته، مكانها في أعماق قلبه. بهذا لم تعد الأرملة غريبة الجنس (الموابية) التي تلتقط من الحقل، وإنما العروس المتحدة معه التي تسكن في قلبه. صار لها لا سنابل الحق التي كان الحصادون ينسلونها لها، بل الحصاد كله، وصاحب الحصاد نفسه. صار بوعز غناها وثروتها. هكذا صار لنا مسيحنا غنانا. د. يلتزم الولي بالحماية، فهو يفدي ميراثه بالقوة (إش 63: 1-6؛ رؤ 14: 14-20)، هكذا يربط مسيحنا العدو ويخلصنا من العدو من قبضته (مت 12: 29) . من وحي إرميا 15 اذكرني، تعهدني، خلصني من العدو! * ما أعجب صلوات قديسيك وأنبيائك، لكنها لن تشفع لي ما دمت أعطيك القفا لا الوجه. إن شفع في موسى أو صموئيل أو إرميا، لا أنتفع شيئًا ما لم أرتمِ عند صليبك! * أعترف لك إني أستحق كل تأديب، فالخطية قتلتني، ودخلتبي كما إلى القبر. ضرب السيف في قلبي فجُرحت جرحًا مميتًا، أصابني الجوع، لأن بدونك لا تشبع نفسي. صرت كجثة ملقاة في الطريق، افترستها الشياطين كطيورٍ محلقة في السماء، ونهشتها حيوانات البرية بغير رحمة. سخرت بي الكلاب إذ سحبتني كما في التراب. * مَن يشفق عليّ يا إلهي؟! مَن يقدس أورشليمي الداخلية إلا روحك القدوس؟! مَن يعزيني ويسأل عن سلامتي إلا أنت يا مخلصي؟ تركتك... لكن مد يدك وردني إليك. إجذبني وراءك فنجرى! * صرت كأرملة فقدت رجلها وكل أبنائها السبعة في يومٍ واحد، تحولت ظهيرتها إلى ظلامٍ دامس. غطى الخزي وجهها، وفقدت كل رجاءٍ لها! * تعالَ يا عريس نفسي، تمم وعودك في، اذكرني... ليس من يسأل عني غيرك! تعهدني... ليس من يفتقدني سواك! قدم لي كلمتك... فهي وحدها بهجة قلبي! احفظني من مجلس المازحين، هب ليكل جدية واهتمام بالخلاص! * الهب قلبي بنار حبك، فأخرج من المرذول ثمينًا، ومن الخطاة أولادًا لك، وذلك بفعل كلمتك يا قدوس. ضع كلمتك في فمي، استذوقها، بل وأأكلها فأشبع بها، ويصير فمي مثلك! عجيبة هي أعمالك يا مخلصي! * لتُقم من ضعفي سور نحاسٍ لا يُقاوم، كن أنت حصني فلا يقدر العدو عليّ. أفدني بدمك الثمين من كف إبليس العاتي! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 16 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() منعه من الزواج إذ كانت الكارثة التي ستحل بالشعب مُرّة للغاية طلب منه ألا يتخذ لنفسه امرأة ولا يكون له بنون ولا بنات، لكي لا يقيم في بيت خاص به [1-4]، ولا يذهب إلى بيت حزن [5-7]، أو بيت وليمة [8-9]، بسبب السبي الذي يحل بالشعب. بهذا صارت حياة إرميا مرآة يرى من خلالها الشعب صورة عملية لما سيحل بهم من تأديبات إلهية وحرمان! وكأن الله قدم إرميا نفسه وسيلة إيضاح، يشهد بكلماته كما بسلوكه عن حكم الله عليهم. سيحل بالموضع ميتات ولا يوجد من يندب أو يدفن ولا من يعزى، وتنقطع أيام الفرح تمامًا، فلا يُسمع صوت عريسٍ ولا صوت عروسٍ. وقد قدم للشعب تعليلًا لحرمانهم من الفرح والتعزية، ليعود فيفتح أمامهم باب الرجاء، لا بالفرح بعودتهم من السبي، وإنما بتمتعهم بالخلاص في العصر المسياني. 1. حياة إرميا مرآة لحياة الشعب: 1 ثُمَّ صَارَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلًا: 2 «لاَ تَتَّخِذْ لِنَفْسِكَ امْرَأَةً، وَلاَ يَكُنْ لَكَ بَنُونَ وَلاَ بَنَاتٌ فِي هذَا الْمَوْضِعِ. 3 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَنِ الْبَنِينَ وَعَنِ الْبَنَاتِ الْمَوْلُودِينَ فِي هذَا الْمَوْضِعِ، وَعَنْ أُمَّهَاتِهِمِ اللَّوَاتِي وَلَدْنَهُمْ، وَعَنْ آبَائِهِمِ الَّذِينَ وَلَدُوهُمْ فِي هذِهِ الأَرْضِ: 4 مِيتَاتِ أَمْرَاضٍ يَمُوتُونَ. لاَ يُنْدَبُونَ وَلاَ يُدْفَنُونَ، بَلْ يَكُونُونَ دِمْنَةً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَبِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ يَفْنَوْنَ، وَتَكُونُ جُثَثُهُمْ أُكْلًا لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَلِوُحُوشِ الأَرْضِ. 5 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لاَ تَدْخُلْ بَيْتَ النَّوْحِ وَلاَ تَمْضِ لِلنَّدْبِ وَلاَ تُعَزِّهِمْ، لأَنِّي نَزَعْتُ سَلاَمِي مِنْ هذَا الشَّعْبِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الإِحْسَانَ وَالْمَرَاحِمَ. 6 فَيَمُوتُ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ فِي هذِهِ الأَرْضِ. لاَ يُدْفَنُونَ وَلاَ يَنْدُبُونَهُمْ، وَلاَ يَخْمِشُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلاَ يَجْعَلُونَ قَرَعَةً مِنْ أَجْلِهِمْ. 7 وَلاَ يَكْسِرُونَ خُبْزًا فِي الْمَنَاحَةِ لِيُعَزُّوهُمْ عَنْ مَيِّتٍ، وَلاَ يَسْقُونَهُمْ كَأْسَ التَّعْزِيَةِ عَنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ. 8 وَلاَ تَدْخُلْ بَيْتَ الْوَلِيمَةِ لِتَجْلِسَ مَعَهُمْ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ. 9 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا مُبَطِّلٌ مِنْ هذَا الْمَوْضِعِ، أَمَامَ أَعْيُنِكُمْ وَفِي أَيَّامِكُمْ، صَوْتَ الطَّرَبِ وَصَوْتَ الْفَرَحِ، صَوْتَ الْعَرِيسِ وَصَوْتَ الْعَرُوسِ. "ثم صار إليّ كلام الرب، قائلًا: لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكون لك بنون ولا بنات في هذا الموضع، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين في هذا الموضع، وعن أمهاتهم اللواتي ولدنهم، وعن آبائهم الذين ولدوهم في هذه الأرض: ميتات أمراض يموتون، لا يُندبون ولا يُدفنون، بل يكونون دمنة على الأرض، وبالسيف والجوع يفنون، وتكون جثثهم أكلًا لطيور السماء ولوحوش الأرض" [1-4]. يرى Holladay أن الآيات [1-9] تمثل قطعة شعرية، فيها يتحدث الله مع إرميا بخصوص حياته وحياة الشعب. آية 1 مقدمة. آية 2 أمر الله لإرميا : لا تتزوج. آية 3 تقرير الله عن الشعب: بخصوص الوالدين والأبناء. آية 4 تقرير الله عن الشعب: بخصوص الموت والدفن. آية 5 منع لإرميا من قبل الله: عدم المشاركة في الجنازات. آية 6 تقرير الله عن الشعب: ليس من يحزن على الموتى. آية 7 تقرير الله عن الشعب: لا يحزن أحد على ميته ولو كان أحد والديه. آية 8 منع لإرميا من الله : عدم المشاركة في الولائم. آية 9 خطاب موجه من الله للشعب: لا صوت للفرح، ليس من عُرس! وقد حمل الشعر تنسيقًا (Symmetrical patern) فإن وضعنا حرف "أ" عن الحديث بخصوص إرميا، "ش" بخصوص الشعب يكون تنسيق الآيات من 2 إلى 9 هكذا: ا ش ش؛ ا ش ش؛ ا ش. كما يلاحظ أنه في الآية 3 عندما تحدث عن الموت أخذ تنسيقًا شعريًا خاصًا، وذكر البنين، البنات، البنات، البنين، كما ذكر "في هذا الموضع" (مذكر) ثم "في هذه الأرض" (مؤنث). امتنع كلا من إرميا النبي والرسول بولس عن الزواج، لكن أهدافهما كانت مختلفة. امتنع إرميا النبي عن الزواج بأمر إلهي لكي لا تكون له زوجة وأبناء، أما بولس الرسول فامتنع اختيارًا لكي يكرس كل وقته وطاقاته للعبادة وخدمة الكلمة (1 كو 7: 7، 26، 32-34). امتنع إرميا عن الزواج حتى لا تعيش زوجته في مرارة حين يُقتل الأبناء بالسيف أو يُسبون إلى بابل، أما بولس الرسول فامتنع عنه لأن الوقت مقصر فلا يود أن يهتم كيف يرضي امرأته، بل كيف يرضي الرب. بأمر إلهي تزوج هوشع امرأة زانية، سواء كانت قد ارتكبت الزنا أو عبدت الأوثان (بكون عبادة الأوثان زنًا)، سواء كان زواجًا حقيقيًا أو مجرد رؤيا أو رمزًا. أما إرميا النبي فبأمر إلهي مُنع من الزواج حتى لا يكون له أبناء. الأول أعلن عن مدى فساد الشعب في علاقته بالله إلهه، والثاني أعلن عن ثمرة هذا الفساد. الأول كشف عن خيانة الشعب لله، والثاني عما سيحل بهم من هلاك، حيث تترمل النساء وتصير كل منهن ثكلي. الأول بحياته يعلن عن شوق الله إلى شعبه ليرجع إليه ولكن بدون خيانة زوجية، أما الثاني فيعلن بحياته عن حالة الموت التي تحل بالشعب بإصراره على الخطية. يظن البعض أن إرميا سبق أن تزوج وماتت زوجته بعدما أنجبت، وقد منعه الله من الزواج الثاني، بينما يرى آخرون أنه منعه من الزواج في عناثوث فقط، إذ قال له: "في هذا الموضع" [1]، وسمح له بالزواج في موضع آخر . على أي الأحوال إذ سلم الأنبياء الحقيقيون حياتهم بين يديّ الله تكلم بها على ألسنتهم وخلال حياتهم، فكانوا يتنبأون بالعبارات النبوية والرؤى والأمثال كما بحياتهم، نذكر على سبيل المثال: زواج هوشع بزانية (هو 1-3) يكشف عن خيانة الشعب لله وارتكابه الزنا الروحي بعبادة للأوثان وما يتبعها من رجاسات. عدم مشاركة حزقيال في جنازة زوجته (حز 24: 15-27) حيث لم يذرف عليها دمعة ولا نطق بكلمة حزنٍ يعلن عن تدمير الشعب، العروس المحبوبة لدى الله، دون أن تجد من يبكيها. عائلة إشعياء (إش 7، 8) تشهد للأحداث الخاصة بالشعب. فدُعي ابنه الأول شآرياشوب (تعني البقية سترجع)، ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون. وُدعى الابن الثاني مهيرشلال حاز (يعني أسرع إلى السلب أو بادر إلى النهب) ليؤكد أن أشور قادم سريعًا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذًا أورشليم، وفي نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لاتكاله على أشور، لا على الرب . * كان إيليا بتولًا، وكان كثير من أبناء الأنبياء بتوليين. قيل لإرميا: "لا تأخذ زوجة"، فإنه إذ تقدس في الرحم أُمر ألاّ يأخذ زوجة، لأن وقت السبي كان قد اقترب. يقول الرسول نفس الشيء بكلمات أخرى: "أظن أنه لأجل الضرورة الحاضرة حسن للإنسان أن يكون هكذا" (1 كو 7: 26). أية ضرورة هذه التي تنزع أفراح الزواج؟ إنه قصر الوقت، فيكون الذين يتزوجون كأنهم لا يتزوجون (1 كو 7: 29) . القديس جيروم كانت الأسرة الكبيرة في الشرق بوجه عام تُحسب مباركة من قبل الله (تك 22: 17؛ مز 127: 3-4)، كما يُحسب عدم الإنجاب عارًا وعلامة على غضب الله (تك 30: 1؛ 1 صم 1: 6-8)، والعزوبية أو البتولية أمرًا يسبب حزنًا (قض 11: 37). امتناع شاب مثل إرميا عن الزواج أمر مثير، لم يحدث بناء على رغبته وإنما طاعة لله واقتناعًا بأن نهاية يهوذا كانت قد اقتربت جدًا .بقوله: "ميتات أمراض يموتون" [4]، يعني معاناتهم من أمراض كثيرة بسبب الحروب بوجه عام، خاصة أثناء الحصار، كما بسبب الجوع، وأيضًا معاناتهم من الآلام والمتاعب، مع حالة من الرعب تؤدي بهم إلى الموت. يُعتبر عدم دفن الموتى وترك الجثث لكي تأكلها طيور السماء ووحوش البرية من أبشع أنواع اللعنات التي يسقط تحتها الإنسان (تث 28: 26)، يزيدها لعنة أنهم لا يجدون من يندبونهم أو يبكون عليهم. يمكن تصور المنظر هكذا أن الشوارع تمتلئ بالجثث بغير مبالاة، فتُترك طعامًا للطيور الجارحة والحيوانات المفترسة ولا يوجد من يبكي الموتى، لأنه لا يوجد من هو حيّ. "لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح، ولا تمضِ للندب، ولا تُعزهم، لإني نزعت سلامي من هذا الشعب يقول الرب الاحسان والمراحم" [5]. طُلب منه ألا يدخل بيت النوح marzeah، هذه الكلمة ظهرت مرة أخرى في (عا 6: 7) فقط، وهي من أصل Ugaritic تشير إلى اجتماع ديني لغرض جنائزي، فيه تُقدم مائدة في صالة حيث الشرب بشراهة مع تصرفات منحلة . تُستخدم في الأرامية عن ولائم الجنازات . لكن هنا كما في عاموس لا تستخدم بنفس الصورة التي كانت لدى الأمم. انسحاب إرميا النبي حتى عن المشاركة في ولائم الجنازات يشير إلى انسحاب الله نفسه ورجاله عن حياة الشعب الذي أعطاه القفا لا الوجه. يسحب الله عنهم أربعة أمور [5]: أ. يسحب سلامه، هنا كلمة "سلام" في معناها الواسع تعني أن تكون كل الأمور على ما يرام. تفقد الجماعة اتزانها وتدخل في حالة ارتباك روحي واجتماعي ومادي ونفسي، كما يدخل كل عضو فيها في ارتباك على كل المستويات. ب. يسحب انتسابه إليهم، فلا يصيروا شعبه بل يدعوهم: "هذا الشعب"، فيفقدون مصدر حياتهم وفرحهم وغناهم ومجدهم وحريتهم. ج. يسحب عنهم إحسانه، أي حبه وبركاته لهم، لأنهم لا يقبلوا هذا الحب ولا يتجاوبون مع بركاته ونعمه. د. ينزع عنهم مراحمه، فلا يشفق ما داموا مُصرين على العنف ولا يعرفون الرحمة. بانسحاب إرميا عن الحياة العامة يعلن انسحاب الله نفسه بسلامه وإحساناته ومراحمه فيسقطوا تحت اللعنة والحرمان والأمراض والخزي والموت! "فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض. لا يُدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم" [6]. هذه عادات خاصة بالحزن تمنعها الشريعة لأنها مرتبطة بعبادة الإله الكنعاني موت Mot (تث 26: 14؛ حز 8: 14؛ لا 19: 27-28؛ 21: 5؛ تث 14: 1). فكان الناس يخمشون أنفسهم أو يجرحون أنفسهم ويحلقون شعر رأسهم تمامًا وأيضًا اللحية، الأمر الذي يبدو أنه قد انتشر في إسرائيل على نطاق واسع (إر 41: 5؛ 47: 5؛ 48: 37؛ إش 15: 2؛ 22: 2، حز 7: 16؛ ميخا 1: 16 إلخ). هنا لا يصدر المنع كوصية، لأنه سبق فأوصاهم بذلك حين قدم لهم الشريعة، إنما يعلن عدم مشاركتهم في الجنازات حيث اعتادوا على ممارسة هذه العادات الوثنية. جاءت الكلمتان "يدفنون ويندبونهم" في صيغة الجمع بينما "يخمشون ويجعلون قرعة" في العبرية في صيغة المفرد، ربما لأن الدفن والندب تقوم به الجماعة، أما الخمش وجعل القرعة فيقوم بها أكثر الأموات قربى كنائب عن الكل. "ولا يكسرون خبزًا في المناحة ليعزوهم عن ميت، ولا يسقونهم كأس التعزية عن أبٍ أو أمٍ" [7]. لا تزال هذه العادة قائمة في مصر، خاصة في المدن الصغيرة والقرى، وهي أن يقدم المعزون طعامًا، خاصة الخبز، وبعض أنواع الشرب كالقهوة، علامة المشاركة والمحبة، حيث يلتزم أهل الميت بالأكل والشرب بدلًا من الامتناع عنهما كعلامة على الحزن الشديد، كما حدث مع داود الذي أصر على عدم الأكل حتى الغروب عند موت ابنه أبشالوم (2 صم 3: 35). وأيضًا كنوعٍ من المشاركة في اطعام القادمين من مناطق بعيدة من الأقرباء، فيقوم الجيران بإعداد الطعام لأقرباء الميت. في الطقس اليهودي المتأخر كان يُقدم كأس تعزية، وهو كأس خمر خاص يشربه رئيس الحزانى. يذكر سفر طوبيا (طو 4: 17) تقديم طعام للموتى، يوضع في القبر، وقد وُجد في مقابر للعبرانيين أطعمة توضع مع الموتى. يرى البعض أن عادة إحضار الطعام تقوم على النظرة إلى بيت الميت أنه دنس لذا يُعد الطعام خارجًا ثم يُحضر الأكل. جاء في سفر هوشع: "إنها لهم كخبز الحزن، كل من أكله يتنجس، إن خبزهم لنفسهم، لا يدخل بيت الرب" (هو 9: 4). "ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب" [8]. جاء "بيت الوليمة" هنا مقابل "بيت الحزن"، كما جاء في (جا 7: 22)، غالبًا ما يُقصد به الاحتفال بالعرس. هنا يمنعه من مشاركة أهل الوليمة في أفراحهم، فلا يدخل ليجلس معهم يأكل ويشرب، لكنه قد يدخل لكي يعلن كلمة الله ويحثهم على التوبة قبل أن يحل بهم التأديب. بمعنى آخر يطالبنا الله ألا نجامل إنسانًا على حساب الحق الإلهي وخلاص نفوسنا أو نفوس الآخرين. لنشارك الحزانى والفرحين، لكن من خلال الحق الإلهي ليتمموا إرادة الله، فلا نشاركهم بالأكل والشرب والكلمات المعسولة، إنما لكي نضع خلاص الله وتتميم إرادته أمام أعيننا. "لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل هأنذا مُبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفي أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس" [9]. هنا نبلغ إلى جوهر هذه القطعة الشعرية حيث يتحدث الله مع شعبه مباشرة. تحولت البلاد التي رفضت الله الحيّ إلى أشبه بمقبرة لا يُقام فيها ولائم مفرحة، ولا يُسمع فيها صوت طربٍ روحي ولا مراسيم زواج. إنها حالة النفس التي يريد الرب أن يقيم فيها ملكوته، ملكوت الفرح الحقيقي، مملكة النور، فإذا بها تصر أن تكون مملكة الظلمة والمرارة الفاقدة لكل بهجة قلب! هنا يلزمنا إلا نتجاهل موقف إرميا النبي الذي يتقبل حكمة الرب بتسليم كامل دون تساؤل: إلى متى يكون هذا؟ 2. اعتزال الحياة اليومية: 10 «وَيَكُونُ حِينَ تُخْبِرُ هذَا الشَّعْبَ بِكُلِّ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَكَ: لِمَاذَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَلَيْنَا بِكُلِّ هذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ، فَمَا هُوَ ذَنْبُنَا وَمَا هِيَ خَطِيَّتُنَا الَّتِي أَخْطَأْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِنَا؟ 11 فَتَقُولُ لَهُمْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ آبَاءَكُمْ قَدْ تَرَكُونِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَذَهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدُوهَا وَسَجَدُوا لَهَا، وَإِيَّايَ تَرَكُوا، وَشَرِيعَتِي لَمْ يَحْفَظُوهَا. 12 وَأَنْتُمْ أَسَأْتُمْ فِي عَمَلِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِكُمْ. وَهَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ وَرَاءَ عِنَادِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ حَتَّى لاَ تَسْمَعُوا لِي. 13 فَأَطْرُدُكُمْ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ لَمْ تَعْرِفُوهَا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ، فَتَعْبُدُونَ هُنَاكَ آلِهَةً أُخْرَى نَهَارًا وَلَيْلًا حَيْثُ لاَ أُعْطِيكُمْ نِعْمَةً. "ويكون حين ُتخبر هذا الشعب بكل هذه الأمور أنهم يقولون لك: لماذا تكلم الرب علينا بكل هذا الشر العظيم؟ فما هو ذنبنا؟ وما هي خطيتنا التي أخطأنا بها إلى الرب إلهنا؟ فتقول لهم: من أجل أن آباءكم قد تركوني يقول الرب، وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها وسجدوا لها، وإياي تركوا وشريعتي لم يحفظوها، وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم... فأطردكم من هذه الأرض إلى أرض لم تعرفوها أنتم ولا آباؤكم، فتعبدون هناك آلهة أخرى نهارًا وليلًا حيث لا أعطيكم نعمة" [10-13]. هذه العبارات [10-13] في الواقع هي مرثاة صغيرة في شكل أسئلة [10] يتبعها نطق بحكم على شعب يهوذا [11-13]. من الجانب الأدبي تستخدم هذه الطريقة في مواضع أخرىمثل (تث 29: 21-27، 1 مل 9: 8-9)، حيث تستخدم ثلاثة عناصر: أ. سؤال بخصوص حكم يصدر. ب. إجابة وتوضيح أن الحكم التأديبي بسبب جحود الشعب. ج. تقرير عن الكارثة التي بسببها أثير التساؤل. أُصيب ضمير هذا الشعب بالعمى فلم يعد يرى الحق؛ كما حلّ به الموت. ولم يعد يدرك حكمة الله، فدخلوا في تساؤلات تكشف عن عجزهم عن أن يسمعوا ويفهموا ويطيعوا [12]. كما يكشف عن محاولة تبريرهم لأنفسهم وإلقاء اللوم على الله عوض الاتضاع أمامه والاعتراف بخطاياهم. ومع هذا فإن الله في طول أناته لم يغضب بل أجاب على تساؤلهم، إذ يريد دائمًا الدخول في حوار مع الإنسان، والكشف عن الحق أمامه لأجل توبته، لكي يدركوا أن الله ليس بالآمر الناهي. يجيب الله على سؤال الشعب هكذا: أ. العقاب قادم لأن آباءهم تركوه (إر 2: 5، 13). ب. إن ما يفعلوه ليس بأفضل مما فعله آباؤهم، بل أشر. ج. لم ينتفعوا بخبرة آبائهم ومعاملات الله معهم. هذا لا يعني أن الله يدينهم من أجل آبائهم، وأنهم بلا عذر، إنما لأنهم سلكوا في ذات الطريق فصارت الخطية تمثل خطية جماعية تجتاز عبر العصور. غاية هذا القسم تأكيد أن العقوبة تتناسب مع نوع الخطأ، فقد عبدوا الآلهة الغريبة، لذا استحقوا أن يطردوا إلى بلادٍ غريبةٍ ليعبدوها هناك. لقد سحب الله الحقيقي بركته عنهم وفقد الشعب الأمان. حينما نصر على خطايانا، تطردنا خطايانا من الموضع الذي نحن فيه كأبناء لله. نُطرد من النور ومن الحضن الإلهي والمعرفة الإلهية لنخرج إلى أرض لا نعرفها، أي إلى الظلام وعدم المعرفة. تفقد النفس سعادتها التي تجدها في المعرفة الإلهية والخدمة الإلهية واختبار الحب الإلهي. بقوله "نهارًا وليلًا" يعلن أنهم يمارسون عبادتهم للآلهة الأخرى بإرادتهم، حتى في الليل، حيث لا يلزمهم أحد بذلك. 3. خروج جديد: "14 «لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ يُقَالُ بَعْدُ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، 15 بَلْ حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ وَمِنْ جَمِيعِ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدَهُمْ إِلَيْهَا. فَأُرْجِعُهُمْ إِلَى أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَهُمْ إِيَّاهَا." [14-15]. تَكَرَّر هذا القول في (إر 23: 7-8) مع اختلاف بسيط. يعلن الله هنا عن أمرين: أ. أن التأديب أو العبودية في أرض السبي أكثر مرارة مما كان في أرض مصر، حتى يكاد يفقد الناس رجاءهم في العودة إلى أرضهم. لذا عند عودتهم لا يعودوا يذكروا عمل الله معهم حين حررهم من مصر، بل عمله معهم حين حررهم من السبي. في مصر جاءت العبودية تدريجيًا، أما في بابل فجاءت دفعة واحدة، وبطريقة غير متوقعة. في مصر كان لهم أرض جاسان خاصة بهم، أما في بابل فلم يكن لهم أرض خاصة بهم، بل كانوا في وسط البابليين الذين كانوا يقومون باحتفالات للآلهة الوثنية ومواكب نصرة كغالبين على إله إسرائيل، وذلك لإغاظة المسبيين. في مصر كانوا خدمًا نافعين للمسخرين لهم، أما في بابل فكانوا موضع كراهية كمسبيين. ب. يقدم لهم أيضًا رجاءً أنهم سيعودون من السبي في خروجٍ جديدٍ، حتى متى سقطوا تحت قسوة التأديب لا ييأسوا، ولا يظنوا أن السبي هو النهاية، وإنما هناك عودة إلى أرض الموعد. تعبير "حيّ هو الرب" هو قسم كان يمارسه اليهود يشيرون به إلى الله إله الخروج من مصر (خر 3: 8، 17؛ 17: 3؛ 32: 1، 4، 6، 7، 8، 23 إلخ.) لكن إذ يختبروا خروجًا جديدًا يغيرون صيغة القسم. 4. الفرح بالخلاص المسياني: 16 «هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَى جَزَّافِينَ كَثِيرِينَ، يَقُولُ الرَّبُّ، فَيَصْطَادُونَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ أُرْسِلُ إِلَى كَثِيرِينَ مِنَ الْقَانِصِينَ فَيَقْتَنِصُونَهُمْ عَنْ كُلِّ جَبَل وَعَنْ كُلِّ أَكَمَةٍ وَمِنْ شُقُوقِ الصُّخُورِ. 17 لأَنَّ عَيْنَيَّ عَلَى كُلِّ طُرُقِهِمْ. لَمْ تَسْتَتِرْ عَنْ وَجْهِي، وَلَمْ يَخْتَفِ إِثْمُهُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. 18 وَأُعَاقِبُ أَوَّلًا إِثْمَهُمْ وَخَطِيَّتَهُمْ ضِعْفَيْنِ، لأَنَّهُمْ دَنَّسُوا أَرْضِي، وَبِجُثَثِ مَكْرُهَاتِهِمْ وَرَجَاسَاتِهِمْ قَدْ مَلأُوا مِيرَاثِي». 19 يَا رَبُّ، عِزِّي وَحِصْنِي وَمَلْجَإِي فِي يَوْمِ الضِّيِق، إِلَيْكَ تَأْتِي الأُمَمُ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَيَقُولُونَ: «إِنَّمَا وَرِثَ آبَاؤُنَا كَذِبًا وَأَبَاطِيلَ وَمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ. 20 هَلْ يَصْنَعُ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ آلِهَةً وَهِيَ لَيْسَتْ آلِهَةً؟». 21 «لِذلِكَ هأَنَذَا أُعَرِّفُهُمْ هذِهِ الْمَرَّةَ، أُعَرِّفُهُمْ يَدِي وَجَبَرُوتِي، فَيَعْرِفُونَ أَنَّ اسْمِي يَهْوَهُ. بعد أن تحدث عن الفرح بالعودة من السبي، دخل بنا إلى الفرح الحقيقي في العهد الجديد حيث قدم لنا السيد المسيح كلمة الخلاص خلال تلاميذه ويكمل هذا الفرح بالأكثر عندما تحملنا الملائكة إلى اللقاء مع الرب في اليوم الأخير، إذ يقول: "هأنذا أرسل إلى جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب فيصطادوهم، ثم بعد ذلك أُرسل إلى كثيرين من القانصين (صيادي حيوانات) فيقتنصوهم عن كل جبل وعلى كل أكمة، ومن شقوق الصخور. لأن عينيّ على كل طرقهم. لم تستتر عن وجهي، ولم يختفِ إثمهم من أمام عينيّ وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، لأنهم دنسوا أرضي، وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" [16-18]. التشبيه الخاص بدعوة صيادي سمك للصيد بين شعب يهوذا شائع كما في (حز 12: 13؛ 29: 4-5؛ عا 4: 2، حب 1: 14-17). وأيضًا صيادي الحيوانات الذين يصطادون حتى من شقوق الصخور كان معروفًا، كما جاء في (عا 9: 1-4). يقصد بالتشبيهين أن عيني الله تنظران إلى كل شيء حتى ما يبدو مخفيًا في وسط البحار أو في شقوق الصخور، وأنه لا بُد من المجازاة عن الشر أينما اُرتكب. يرى كثير من الدارسين أن تقسيم العدو الذي يسبي البلاد إلى صيادي سمك وصيادي وحوش، وذكره أنه يعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، إشارة إلى السبي على دفعتين عاميّ 598، 587 ق.م، بهذا السبي الذي تم على مرحلتين انتهت حياة الأمة تمامًا. الجزافون (صيادو السمك) والقانصون (صيادو الوحوش) الجازفون في رأي العلامة أوريجينوس هم تلاميذ السيد المسيح، صيادوا السمك، الذين اصطادوا النفوس ودخلوا بها إلى شبكة الكنيسة الملقاه في بحر هذا العالم لتعيش كالسمك الصغير مع السمكة الكبيرة "المسيح نفسه". أما القانصون فهم الملائكة الذين يجتذبون المؤمنين الذين صاروا كالجبال والأكمة وتمتعوا بشقوق الصخور فصار لهم حق اللقاء مع عريسهم السماوي في اليوم الأخير. يقول العلامة أوريجينوس: [في شبكة الرسل نموت لنحيا من جديد! مكتوب في إنجيل متى أن مخلصنا جاء إلى شاطئ بحر الجليل ورأي "سمعان وأندراوس أخوه يلقيان شباكهم في البحر، لأنهما كانا صيادين" ثم يضيف الكتاب أن المخلص حينما رآهما دعاهما قائلًا: "هلم ورائي فأجعلكما صيادين للناس". هذان تركا شباكهما وتبعاه. ثم وُجد أيضًا أخوان: يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي أبيهما يصلحان شباكهما. فدعاهما أيضًا ليكونا صيادين للناس. إذا نظرنا إلى الذين أعطاهم الرب موهبة الكلمة المجدولة مثل الشبكة، والمصنوعة من مجموعة كلمات متشابكة مع بعضهما البعض ومأخوذة من الكتاب المقدس، بحيث تأسر في شباكها نفوس السامعين، وإذا علمنا أن ذلك الأمر يستلزم تواضعًا كما يعلمنا السيد المسيح، لأدركنا أنه ليس في الماضي فقط أرسل الله صيادين للناس، إنما الآن أيضًا لا يزال يرسل الرب صيادين للناس بعدما يقوم بتعليمهم، حتى يخرجونا من البحر وينقذونا من مرارة أمواجه. لكن الأسماك التي تقع في الشباك تموت موتًا بلا قيامة وليس لها حياة بعد هذا الموت، أما الذين يسقطون في شباك صيادي السيد المسيح والذين خرجوا من البحر، يموتون هم أيضًا، لكنهم يموتون عن العالم وعن الخطية، بعد هذا الموت يحيون من جديد بواسطة كلمة الله ويأخذون حياة جديدة. أي أنك تخرج من البحر وتقع في شباك تلاميذ السيد المسيح، وعند خروجك تتغير نفسك، فلا تعد السمكة التي تعيش وسط الأمواج والخارجة من البحر لتموت، وإنما تتغير نفسك وتتبدل وتتحول إلى نفسٍ أفضل، بل وإلى نفسٍ إلهية. ويقول بولس الرسول: "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة تتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18). بما أن هذه النفس التي أُخذت من شباك الصيادين الذين أرسلهم السيد المسيح قد تغيرت ولم تعد بعد تعيش في البحر، لذا تعيش في الجبال، بحيث لا تعود تحتاج إلى صياد يصطادها من البحر، إنما تحتاج إلى نوع آخر من الصيادين البريين الذين يصطادون على كل جبلٍ وعلى كل أكمةٍ. عندما تكون قد خرجت من البحر وأُخذت في شباك رسل السيد المسيح، تَغَيرْ في نفسك واتركْ البحر وامحه تمامًا من ذاكرتك، ثم تعالَ إلى الجبال التي هي الأنبياء، وعلى الأكمة التي هي الأبرار، واقضِ هناك حياتك، حتى متى جاء موعد رحيلك من هذه الحياة، يرسل إليك صياديين من نوع جديد وهم الملائكة الذين يستلمون أرواح الأبرار، فهم مكلفون باستلام الأرواح الموجودة على الآكام وليس الأرواح المائتة المطروحة إلى أسفل. اعتقد أن هذا المعنى هو الذي كان يقصده النبي حينما قال في نبوته: "هأنذا أرسل إلى جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب فيصطادونهم ثم بعد ذلك أرسل إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة". إذ تتغير السمكة التي امسكها تلاميذ الرب، لتكف عن الحياة في البحر وتحيا في الجبال، فلا تحتاج بعد إلى صيادين يسحبونها من البحر، وإنما إلى نوع آخر من الصيادين اسمهم قناصين "يقتنصونها عن كل جبل وعن كل أكمة" [16]]. الصعود على الجبال المقدسة [إن أردت أن يأخذك القانصون احذر من أن تقضي حياتك مختبئا في هذه الأرض وعائشًا في التراب، بل ابحث عن الجبال. اصعد إلى الجبل الذي تجلي عليه السيد المسيح. اصعد إلى الجبل الذي قيل عنه: ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، ولما جلس تقدم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم قائلًا طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، وبقية التطويبات التي علمها لهم السيد المسيح على هذا الجبل ]. ["ثم أرسل بعد ذلك إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة ومن شقوق الصخور". غير مسموح لهؤلاء القانصين أن يصطادوا إلا على "الجبال" وعلى "الآكام" وفي "شقوق الصخور". كيف أفسر "شقوق الصخور"؟ ارجع إلى سفر الخروج وابحث فيه عن تفسيرٍ لذلك؛ أجد أن موسى النبي حينما أراد أن يرى الله، قال له الرب هذه الكلمات ليجيب على طلبه: "هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز. ثم أرفع يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يُرى" (خر 33: 21). إذا فهمت ما هي هذه الصخرة وما هي هذه الفتحة أو النقرة الموجودة فيها عالمًا كيف أن الذي يقف على الصخرة وينظر من خلال النقرة التي فيها يمكنه أن يرى الله لأمكنك أن تفهم ما هي الصخور العديدة وما هي شقوقها. ما هي إذن تلك الصخرة الفريدة من نوعها؟ "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح (1 كو 10: 4)"، وأيضًا: "وأقام على صخرة رجلي" كما يقول المزمور (مز 40: 2). ما هي إذًا النقرة الموجودة في الصخرة والتي تمكنا من رؤية ما وراء الله (فتنظر ورائي)؟ الصخرة هي السيد المسيح، والنقرة الموجودة فيها هي التجسد الإلهي، لأنه بمجيء السيد المسيح في الجسد أمكننا أن ننظر ما وراء الرب، أي الابن الكلمة. إلى الآن لم نتكلم إلاّ على صخرة واحدة ونقرة واحدة فقط، لذا انتقل من نقرة الصخرة إلى شقوق الصخور. فإنه بالنظر إلى جماعة الأنبياء أو الرسل أو الملائكة القديسين، يمكنني أن أقول أن كل المتشبهين بالسيد المسيح، يصيرون صخورًا كما أنه هو أيضًا صخرة. وكما أن المخلص له نقرة يمكننا من خلالها أن نرى ما وراء الرب، كذلك أيضًا كل واحدٍ منهم، يصنع في نفسه نقرة أو شقًا يمكننا من رؤية الله، ذلك من خلال "كلماتهم" التي ترشدنا إلى الرب. فموسى قدم لنا الناموس، وإشعياء قدم لنا نبوته، وإرميا قدم لنا كلمات أخرى للرب. لكن إذا حدث وكان المتكلم هو ملاك كما تقول الآية: "الملاك الذي يتكلم في"، ففي هذه الحالة أيضًا يكون عندي "صخرة" و"نقرة"، وأرى الله من خلال كلمات (نقرة) الملاك (الصخرة). أحتاج إلى مثال لأوضح كيف يمكننا أن نرى الله عن طريق ملاك. مكتوب في سفر الخروج: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نارٍ من وسط عُلِّيقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق"، ثم بعد ذلك، لم تقل له الكلمة: "أنا ملاك من عند الرب"، وإنما: "أنا إله إبراهيم إله إسحق وإله يعقوب" (خر 3: 6). إذن في هذه الحالة يظهر الله في صورة ملاك، وبالتالي يمكن رؤيته عن طريق الصخرة التي هي الملاك، كذلك عن طريق النقرة التي هي كلمات الملاك له. إذ تجهل متى يرسل الله إليك القانصين، يجب عليك ألا تنزل أبدًا من على الجبال، ولا تترك الآكام، ولا تخرج من شقوق الصخور، لأنك إن وُجدت خارجًا، يُقال لك مثل أهل العالم الموجودين خارجًا باستمرار: "يا غبي، هذه الليلة تؤخذ نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" يُقال لك نفس هذا الكلام إذا قلت في نفسك: "أهدم مخازني وابني أعظم منها، وأقول لنفسي: يا نفسي كلي وشربي لك خيرات كثيرة تكفيكِ لسنين كثيرة". أرأيت إذن كيف أن الإنسان الذي يعيش أسفل "الجبال" وأسفل "الآكام" وخارج "شقوق الأرض" يخطئ حتى في تقديره للخيرات، حاسبًا أن تلك الأشياء التي على الأرض خيرات. يظن أن القمح وكثرة الأشياء الأرضية تسمى خيرات، ولا يدرك أن الخيرات الحقيقية لا توجد في الأرض التي نزرعها وإنما في السماء، ولأنه حسب أن الخيرات موجودة في الأشياء الأرضية ظل يكنز كنوزًا على الأرض. لكن إذا اتبع أحد قول السيد المسيح وكنز كنزه في السماء، فلن يُقال له: "يا غبي، هذه الليلة تؤخذ نفسك منك"، بل يأخذه القانصون من على الجبال أو من على الآكام أو من بين الصخور ليقوده إلى حيث الراحة الأبدية في أحضان القديسين والأنبياء وكل المطوبين في المسيح يسوع. "لأن عيني على كل طرقهم"، أي طرق الأبرار الذين نتحدث عنهم.فإن عيني الرب مركزة على كل طرق الناس الذين يعيشون على الجبال وعلى الآكام وبين شقوق الصخور. "لم تستر عن وجهي" أو "لم يختبئوا من أمام وجهي"، أي أن الأبرار لا يختبئون من أمام وجه الرب، أما الأشرار فيختبئون. سمع آدم بعدما كسر الوصية صوت الرب يتمشى في الجنة فاختبأ، أما الأبرار فلا يختبئون، بل تعطيهم الحياة المقدسة في الرب ثقة يستطيعون من خلالها أن يقفوا أمامه، لأنه "إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه" (1 يو 3: 21-22). بالرغم من أن آدم قد أخطأ إلا أن خطيته لم تكن خطية فظيعة، لهذا اختبأ من أمام وجه الرب، أما قايين فكانت خطيته أكبر بكثير، إذ قتل أخاه، فماذا فعل؟ "خرج قايين من لدن الرب" (تك 4: 16). بالنظر إلى الحالتين نجد أن الاختباء من وجه الرب" يكون من أجل شرٍ أقل. في الواقع "الاختباء" دليل على خزي الإنسان من خطيته. إذًا فإن الأبرار "لم يختبئوا من أمام وجهي". حدث بعد ذلك أن هؤلاء الأبرار سقطوا في بعض الخطايا، ثم قام الصيادون المُرسلون من قبل الله بانتشالهم خارج خطاياهم أي من البحر. حتى لا يظن هؤلاء الأبرار أن انتشالهم مرة أخرى من الخطية وصعودهم ثانية إلى "الجبال"، يرجع إلى برهم أو قداستهم أو استحقاقهم يذكرهم الكتاب ويذكرنا نحن أيضًا بخطايانا السابقة، فيضيف قائلًا: "ولم يختفِ إثمهم من أمام عيني" [17] ]. يقول القديس جيروم أن اليهود المعاصرين له يفسرون صيادي السمك أنهم الكلدانيون، وصيادي الوحوش هم الرومانيون. غير أنه يمكن القول عن صيادي السمك أنهم المصريون الذين ارتبطوا بالنيل، وأن صيادي الوحوش هو البابليون، فإن كانت مملكة يهوذا تارة تلجأ إلى فرعون ضد بابل أو العكس، فإنه لن ينقذها هذا أو ذاك بل الرجوع إلى الله. وكأن إرميا النبي يحذرهم من الاعتماد على ذراع بشر. "وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، لأنهم دنسوا أرضي، وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" [18]. يرى البعض أن الكلمة العبرية misnehالتي تترجم عادة ضعفين double يمكن أن تفهم بمعنى معادل equialent. هذا التعادل يحدث بأنهم دنسوا أرض الله بالآلهة التي بلا حياة، وكأنها جثث ميتة، لذا سقط عابدوها في الموت وأُلقيت جثثهم على الأرض لتدنس الأرض عينها التي دنسوها أثناء حياتهم بعبادتهم للأوثان (راجع إش 47: 6). يقول العلامة أوريجينوس: [إن كلمة "أولًا" موجودة هنا فعلًا في موضعها الصحيح، لأن جزاء الإثم يكون "أولًا" ثم يأتي من بعده جزاء الخير. فإن الله لا يوزع الجزاءات بالترتيب العكسي. لأنه لو كان قد أعطى جزاء الخير أولًا لكان يجب أن تتوقف أعمال الخير حتى يمكننا أن نعاقب على الإثم. لكنه يُجازي الآن عن الخطية، حتى إذا انتهت الخطايا، تنتهي أيضًا عقوباتها، وبعد ذلك يجازي الله عن أعمال الخير. كذلك تجد في الكتاب المقدس أن الله يتحدث "أولًا" عن الأشياء التي تبدو أكثر حزنًا ثم يذكر بعد ذلك الأشياء الأفضل منها: "أنا أميت وأحيي، سحقت وإني أشفي" (تث 32: 39). "لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان" (أي 5: 18). لذلك فالإنسان الذي يفهم هذه الكلمات ويدرك معنى "عقاب الخطية أولًا" يمكنه أن يقول مع المرتل: "يا رب من يسكن في مسكنك، من يحل في جبل قدسك؟ السالك بلا عيب، والفاعل البر، والتكلم بالحق في قلبه، الذي لا يغش بلسانه ولا يصنع بقريبه سوءًا، ولا يحمل تعيير على جيرانه. فاعل الشر مرذول أمامه. ويمجد الذين يتقون الرب" (مز 14)] . يقدم الله تعليلًا لتأديبهم، قائلًا: "لأنهم دنسوا أرضي" [18]. ينسب الله القدوس لنفسه هذه الأرض التي وهبها لشعبه، لذا لاق بهم أن يسلكوا فيها كما يليق بصاحبها القدوس، فتكون أرضًا مقدسة، وتصير لهم آمانًا، وتقدم لهم احتياجاتهم، حسب وعده الإلهي: "فتعلمون فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملونها لتسكنوا على الأرض آمنين، وتعطي الأرض ثمرها، فتأكلون للشبع وتسكنون عليها آمنين" (لا 25: 18-19). يليق بكل ما ينسب للقدوس أن يكون مقدسًا: ملائكته وكل الطغمات السمائية، المؤمنون به، هيكله، الأواني المستخدمة فيها، المذبح إلخ. حتى الأرض التي يقدمها لشعبه! ويحسب الله كل تدنيس أو إفساد لقدسية هذه الأمور إهانة موجهة إليه شخصيًا! بمعنى آخر كل استهتار في بيت الرب الذي دُشن باسمه القدوس؛ كل تهاون بالهيكل المقدس، كل تدنيس لجسدك الذي هو هبته لك كهيكل لروحه القدوس... إنما هي خطية موجهة ضد الله. كثيرًا ما يتساءل بعض الشباب: لماذا يحسب الله الفكر الشهواني خطية؟ أو لماذا يُعتبر الزنا خطية ما دامت برضى الطرفين وليس من يصيبه ضررًا في المجتمع؟ الإجابة أن فكرك كما جسدك وجسد الغير هو مركز ملكوت الله القدوس، حتى الفكر الخفي الشرير إن قبلته بتهاونٍ وتراخٍ فيه إساءة إلى مقدسات الله. عندما يمر بك فكر شرير قل لنفسك: "لا تدنس أرض الرب المقدسة!" ربما بقول الله عن شعبه: "لأنهم دنسوا أرضي" [18]، يمكننا أن نفهم لماذا طلب الله من إرميا التوقف عن مشاركة الشعب في كل شيء. الأرض التي تدنست لا تستحق أن يقيم فيها رجل الله عائلة تستقى فيها، ولا أن يشارك الشعب في ولائمهم سواء في الأحزان أو الأفراح، بل يعتزل كل شيء! هكذا إذ ندنس أرض قلوبنا نُحرم من الحضرة الإلهية ومن شركة القديسين والسمائيين حتى نعود بالتوبة فنتقدس بعمل روح الله القدوس، نتحد مع الآب في ابنه، وتكون لنا شركة مع القديسين وننعم حتى بالعبادة مع السمائيين. "يا رب عزِّي وحصني وملجأي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون: إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل وما لا منفعة فيه. هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟! لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة، أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" [19-21]. يختتم هذا الأصحاح بقطعة شعرية رائعة تتحدث عن خلاص الشعب من السبي، وفي نفس الوقت عن خلاص الأمم وقبولهم الإيمان فتكون لهم معرفة حيَّة بالله مخلصهم. يكشف إرميا النبي عن عظمة خلاص الله، الأمر الذي يشد انتباه كل الأمم فيدركوا أن ما حدث لم يكن عن قوة بابل عندما سبت يهوذا ولا عن ضعفها عندما تحرر الشعب كله (إسرائيل ويهوذا)، وإنما هي خطة الله ضابط التاريخ، في يده كل أمور البشرية. يقوم الله بدور المدرس ليعلم الأمم بطلان العبادة الوثنية ويكشف لهم عن نفسه وعن قدرته واسمه لكي يختبروا الحياة معه. ُيلقب الله: "عزَّي (قوتي)، "حصني"، "ملجأي"، وهي عبارات وردت في المزامير (مز 18: 3-4؛ 28: 1-7؛ 59: 11، 18-19) وفي مواضع أخرى تعبر عن الثقة في الله العامل في حياة أولاده. لم يكن حلمًا لدى إرميا النبي أن تأتي الأمم من كل أطراف الأرض لتعترف ببطلان آلهتهم الوثنية، وتتعرف على الرب وعلى يده القوية وعلى اسمه، إنما كان ذلك نبوة عن الخلاص التي تتحقق بمجيء المسيا مخلص العالم كله. هنا نلاحظ تكرار كلمة "أعرف" ثلاث مرات، ربما إشارة إلى التمتع بالإيمان الثالوثي. أعلن إشعياء النبي عن هذا الحدث العجيب قائلًا: "عزوا عزوا شعبي... صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلًا لإلهنا. كل وطاءٍ يرتفع وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلًا، فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعًا، لأن فم الرب تكلم" (إش 40: 1-5). وقد اقتبس القديس مارمرقس هذا القول النبوي في بدء إنجيله (مر 1: 15). ويعلق القديس أغسطينوسعلى كلمات إرميا النبي: [هوذا الآن يحدث هذا؛ هوذا الأمم تأتي من أقاصي الأرض إلى المسيح تنطق بأمور كهذه نازعة عنها عبادة الأوثان! ]. يقول العلامة أوريجينوس: [هلموا لنرى ماذا تقول النبوة عنا: "يا رب عزي وحصني وملجأي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون: كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة" [19]. جاءت الأمم من أطراف الأرض. كيف "من أطراف الأرض"؟ يوجد على الأرض أناس أولون ويوجد أيضًا أناس آخرون. فمن هم هؤلاء الأولون؟ أولون على الأرض وليسوا أولين على كل شيء؟ هم حكماء هذا العالم وأغنياؤه. ومن هم الآخرون؟ "واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كو 1: 28). إذًا "تأتي الأمم من أطراف الأرض". كأنه يقول: إن تلك الأمم مكونة من الأدنياء والمزدرى بهم والجهال والناس الآخرين على الأرض. "ويقولون: إنما كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة": ليس أن يوجد أصنام صادقة عكس الأصنام الكاذبة المذكورة في الآية، إنما يقصد بها الأصنام عمومًا، التي بطبيعتها كاذبة ولا يوجد فيها منفعة]. "هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟! لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة، أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" [20-21]. يقول العلامة أوريجينوس: ["هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة؟!" [20]. لا يصنع الناس لأنفسهم آلهة من خلال التماثيل والأصنام فقط، لكنك تجد أيضًا أناسًا يصنعون لأنفسهم آلهة من خلال أوهامهم وتصوراتهم (الفلاسفة والهراطقة). عمومًا جميع الذين يصنعون لأنفسهم آلهة أخرى غير الرب، وخليقة أخرى مخالفة لترتيب العالم الذي أخبرنا به الروح (روح الله) ومخالفة للعالم الحقيقي، كل هؤلاء يصنعون لأنفسهم آلهة، ويعبدون عمل أيديهم. إذن كل الذين يصنعون لأنفسهم آلهة من الأصنام والذين يصنعونها من تصوراتهم الشخصية، يرفضهم الرب إذ قيل: "إذا صنع الإنسان لنفسه آلهة إذًا فهي ليست آلهة. لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة أعرفهم يدي وجبروتي". "هذه المرة"، ماذا يقصد ب "هذه المرة"؟ يقصد بها المجيء التالي للرب، خاصة لأنه يضيف بعد ذلك: "فيعرفون أن اسمي يهوه" ]. من وحي إرميا 16 دنسوا أرضي * هذه هي شكواك في كل العصور: "لأنهم دنسوا أرضي!" منعت إرميا من أن يقيم أسرة، تكون له زوجة وأولاد، وأن يشترك في ولائم الجنازات والأفراح، لأنه يعيش في أرضٍ لا تستحقه! هوذا إرميا يبكي، وجدران قلبه توجعه، يريد أن تتقدس أرض الله التي تدنست! * أخجل من أن أحدثك يا إله إرميا، نزلت إلى أرضي لتقيم ملكوتك المقدس في داخلي، قدمت لي دمك الثمين خلاصًا، وترثي دومًا لضعفاتي! تريد أن تضمني إليك، فأصير أهل بيت الله، أنعم بشركة القديسين، وبالتسبيح مع كل طغمات السمائيين! قدس أرضي، ففي غباوتي دنستها بإرادتي! * حسب مواعيدك الصادقة هب لي خروجًا جديدًا، ليس خروجًا من عبودية فرعون، ولا خروجًا من سبي بابل، بل تحررًا من سلطان الخطية الجبارة! حررني... قدسني... يا عزي وحصني وملجأي! * هب لي معرفتك الحقة يا قدوس، فانجذب إليك ويجري معي كثيرون نحوك! ضُمنا إلى ملكوتك أيها القدوس، ورد لأرضك قدسيتها! حول أرض قلبي إلى سمواتك! عوض الظلمة التي حلت في أشرق بنوركِ عليّ. تعالْ أيها الرب يسوع، أرضك في داخلي تترقب حلولك! * نعم، تعالْ يا مخلصي القدوس! هوذا نفسي وفكري، جسدي وأحاسيسي، قلبي وكل أفكاري، قد صارت أرضك المقدسة! تعال، واستلم أرضك فيّ، فلا تتدنس! روحك القدوس هو مقدسها وحارسها والعامل فيها! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 17 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() نبوات ما قبل السقوط قيادة جاحدة يرد في هذا الأصحاح أمور خاصة بأواخر أعمال إرميا، إذ أرسل صدقيا، آخر ملوك يهوذا، يسأل إرميا النبي إن كان يثور على ملك بابل، وكان يأمل أن تأتي الإجابة حسب هواه، وأن يسمع من إرميا كلمة تشجيع. لكن إرميا تكلم بشجاعة حسب قضاء الرب، ليس محاباةً لبابل، وإنما كواقعٍ يجب أن يدركه الملك والشعب، وهو أن التأديب الإلهي يحل بهم حتمًا، لذا طالب الشعب بالخضوع لملك بابل، وطالب الملك وأسرته بالتوبة. الملك صدقيا: صدقيا" اسم عبري معناه "يهوه برّ" أو "بر يهوه". هو آخر ملوك يهوذا، اسم والدته حميطل (2 مل 24: 18). أقامه ملك بابل بعد السبي الأول، وغيَّر اسمه من متنيا إلى صدقيا (2 مل 24: 17)، وكان عمره إحدى وعشرين سنة، وملك إحدى عشرة سنة (597-587 ق.م). كان يسأل إرميا لكي يستشير الرب، لكنه لم يصغِ إليه، لأنه كان ينتظر إجابة حسب هواه (2 أي 36: 12؛ إر 1: 2، 37) ولأنه كان بالأكثر معتمدًا على وعود فرعون مصر القوية وقد خطط مع رجاله كيف يتخلص من دفع الجزية لبابل(447)، وكأن سؤاله الرب كان أمرًا ثانويًا أو شكليًا. من جهة علاقته بالله، نجس الهيكل بالوثنية (2 أي 36: 14)، ولم يقضِ بالعدل كما نرى في هذا الأصحاح [11-12]. جاء إليه رسل من أدوم وموآب وعمون وصور وصيدا ليرسموا خطة موحدة للثورة على ملك بابل، لكنهم كانوا حلفاء غير أمناء. في البداية بعث صدقيا سفارة إلى نبوخذنصر غالبًا ليؤكد له ولاءه (إر 29: 3)، وفي السنة الرابعة لملكه ذهب هو إلى بابل (إر 51: 59)، وأخيرًا جسر على التمرد. وقد شجع عظماء يهوذا الملك على الثورة ضد بابل. كان الباعث على هذه الثورة هو جلوس ملك جديد على عرش مصر أراد أن يناهض بابل، فيسترد لنفسه بعض الأراضي التي كانت قبلًا خاضعة لمصر واغتصبتها بابل منها. ليس فقط من الجانب الروحي أو الإيماني قد أخطأ صدقيا في اتكاله على ذراعٍ بشري، أي على فرعون مصر، وإنما حتى من الجانب السياسي كانت النظرة خاطئة. فإنه قبل ذلك بحوالي قرن ونصف في أيام إشعياء النبي تقبلت يهوذا ينبوعًا لا ينقطع من الوعود المصرية عن المساندات العسكرية لتقف أمام الآشوريين (وبعد ذلك البابليين). إذ خشي المصريون على أنفسهم من خطر تدخل منطقة ما بين النهرين، وكانوا يودون استخدام يهوذا وإسرائيل كخط دفاعٍ لهم من الجانب الشمالي لمصر . كل هذه الوعود لم ُتجدِ شيئًا ولا قدمت حصانة ليهوذا أو إسرائيل، وكان يليق بالملك أن يضع ذلك في اعتباره. في اليوم العاشر من الشهر العاشر في السنة التاسعة لملكه عسكر ملك بابل أمام أورشليم وأخذ يبني حصونًا حولها، لكن قوتها حالت دون اقتحامها، فحاصرها البابليون، إلا أن تقدُم المصريين أرغمهم على الانسحاب إلى حين (إر 37: 5)، لكنهم ما لبثوا أن عادوا. وفي اليوم التاسع من الشهر الرابع في السنة الحادية عشرة لملكه نفذ القوت من العاصمة المحاصرة. في تلك الليلة غادر صدقيا الموقع مع كل رجاله، وتسلل بين القلاع البابلية، وهرب شرقًا نحو الأردن. لكن الجيش البابلي طارده وأدركه في سهل أريحا، فأُلقى القبض عليه وجاءوا به أسيرًا إلى نبوخذنصر إلى ربلة في شمال فلسطين. هناك حُوكم، فقُتل أولاده أمامه، واُقتلعت عيناه، ورُبط بسلاسل من نحاس، وسيق إلى بابل (2 مل 24: 17-20، 25: 1-7؛ 2 أي 36: 11-21؛ إر 39: 1-14)، وحُبس حتى موته (إر 52: 11). فيما يلي نص طلب صدقيا الملك من إرميا لسؤال الرب، وإجابة إرميا النبي عليه، وكان ذلك في عام 588 أو بداية 587 ق.م. 1. الملك صدقيا يطلب مشورة إرميا: "1 اَلْكَلاَمُ الَّذِي صَارَ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ، حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا فَشْحُورَ بْنَ مَلْكِيَّا وَصَفَنْيَا بْنَ مَعْسِيَّا الْكَاهِنَ قَائِلًا: 2 «اسْأَلِ الرَّبَّ مِنْ أَجْلِنَا، لأَنَّ نَبُوخَذْراَصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ يُحَارِبُنَا. لَعَلَّ الرَّبَّ يَصْنَعُ مَعَنَا حَسَبَ كُلِّ عَجَائِبِهِ فَيَصْعَدَ عَنَّا»" [1-2]. يرى يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن صدقيا الملك حين سمع كلمات إرميا صدقها، وشعر أن كل ما ينطق به هو حق وأنها لصالحه، لكن أصدقاءه غيروا فكره وانحرفوا به عما نطق به إرميا وألزموه أن يفعل حسبما يسرهم . على أي الأحوال تكشف هذه العلاقة بين الملك والنبي أيهما كان الأقوى وأيهما كان الأضعف . من الظاهر كان الملك في مركز القوة، وكان إرميا موضع سخرية من الأكثرين اليوم كله... أما في الواقع فكان الملك مرتعبًا غير مستقرٍ، محتاجًا إلى كلمة من إرميا تعطيه طمأنينة وسلامًا! أرسل الملك كاهنين هما فشحور بن ملكيا وهو غير فشحور بن أمير (إر 20: 1) وصفنيا بن معسيا. كانا كاهنين وموظفين عند الملك. كان فشحور يكن كل كراهية لإرميا ويُرجح أن والده ملكيا هو الذي ألقى إرميا في الجب (إر 38: 6). يرى البعض أن هذين الكاهنين كانا مشيرين للملك من الجانب المدني والديني، وكانا منحازين نحو فرعون مصر، يحثان الملك على التحالف مع فرعون ضد البابليين ، والحنث بالعهد الذي أقامه مع نبوخذنصر. طلب الملك من إرميا النبي: "اسأل الرب من أجلنا" [2]، ليس شوقًا إلى معرفة إرادة الله أو رغبة في الطاعة لله، وإنما رغبة في نوال إجابة من الله تتفق مع ما هم مصممون عليه. إنهم يخدعون أنفسهم، إذ يطلبون أن يسمعوا، لا صوت الرب، بل صوتهم هم على لسان الرب. كلمة "اسأل" daras هنا تعني عملية الكشف عن فكر الله، استخدمت كثيرًا في العهد القديم (تك 25: 22؛ خر 18: 15؛ تث 4: 29؛ 12: 5، 1 صم 9: 9؛ 1 مل 22: 5، 7-8؛ 2 مل 3: 11؛ 8: 8؛ 22: 13؛ إش 31: 1؛ 55: 6؛ 65: 10، هو 10: 12؛ عا 5: 4-6 إلخ). كان في ذهن صدقيا مناسبة سابقة عندما حوصرت أورشليم بواسطة سنحاريب والجيوش الآشورية عام 701 ق.م. (2 أي 23: 20-21؛ 2 مل 19: 35-36؛ إش 37: 36-37)، في تلك المناسبة قام الله بدور خطير حيث تشفع إشعياء النبي لديه، فانسحب سنحاريب. الموقف في ظاهره مشابه، وكان الملك يترقب حدوث معجزة أخرى، لكن هناك فارق بين الموقفين. في أيام سنحاريب كان حزقيا الملك وشعبه يطلبون الإصلاح ويبذلون كل الجهد للمصالحة مع الله، أما صدقيا وشعبه فكانوا رجال جحود وفساد! كان كل اهتمام الملك هو التخلص من المشاكل الساقط تحتها، بأن يصعد ملك بابل عنه، لا أن يتمتع بالسلام مع الله والدخول في مصالحة معه. كان حزقيا يسأل الله بقلبه، أما صدقيا فبشفتيه.كان قد خطط للثورة ضد بابل مع رجاله، وجاء سؤال الرب أمرًا شكليًا أو ثانويًا كما يرى بعض الدارسين. ثم إن كان صدقيا يعرف الله أنه صانع عجائب عبر الدهور [2]، فلماذا لا يرجع إليه بقلبه بل كانت معرفته معرفة عقلية بحتة، لا تمس حياته الداخلية ولا سلوكه، لا تقدم له نفعًا؟! من جانب آخر كان حزقيا قد اتكل تمامًا على الرب وانتظر عمله بيقين الإيمان، أما صدقيا فاتكأ على وعود فرعون القوية. أشار هنا إلى اسم ملك بابل: "نبوخذنصر" التي تعني "ليت (الإله) نابو Nabu يحمي الحدود"، أو "ليت نابو يحمي الابن" أو "ليت نابو يحمي البغل (الشخص العنيد). 2. إجابة إرميا: الله نفسه ضد يهوذا: 3 فَقَالَ لَهُمَا إِرْمِيَا: «هكَذَا تَقُولاَنِ لِصِدْقِيَّا: 4 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا أَرُدُّ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ الَّتِي بِيَدِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ مُحَارِبُونَ بِهَا مَلِكَ بَابِلَ وَالْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَكُمْ خَارِجَ السُّورِ، وَأَجْمَعُهُمْ فِي وَسْطِ هذِهِ الْمَدِينَةِ. 5 وَأَنَا أُحَارِبُكُمْ بِيَدٍ مَمْدُودَةٍ وَبِذِرَاعٍ شَدِيدَةٍ، وَبِغَضَبٍ وَحُمُوٍّ وَغَيْظٍ عَظِيمٍ. 6 وَأَضْرِبُ سُكَّانَ هذِهِ الْمَدِينَةِ، النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ مَعًا. بِوَبَإٍ عَظِيمٍ يَمُوتُونَ. 7 ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ الرَّبُّ: أَدْفَعُ صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا وَعَبِيدَهُ وَالشَّعْبَ وَالْبَاقِينَ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْوَبَإِ وَالسَّيْفِ وَالْجُوعِ لِيَدِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ وَلِيَدِ أَعْدَائِهِمْ وَلِيَدِ طَالِبِي نُفُوسِهِمْ، فَيَضْرِبُهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ. لاَ يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَشْفُقُ وَلاَ يَرْحَمُ». إذ كان صدقيا مرتعبًا بسبب العدو الخارجي الرّابض خارج أسوار أورشليم وجّه إرميا أنظاره إلى عدو داخل الأسوار هو فساد قلبه وقلوب من معه، الذي حوَّل الله إلى العداوة ضدهم. "فقال لهما إرميا: هكذا تقولان لصدقيا: هكذا قال الرب إله إسرائيل: هاأنذا أرد أدوات الحرب التي بيدكم التي أنتم محاربون بها ملك بابل والكلدانيين الذين يحاصرونكم خارج السور. وأجمعهم في وسط هذه المدينة" [3-4]. لم يذعن إرميا النبي لرغبة الملك ولم يسايره في شيء، بل كشف بشجاعة عما أعلنه الله له من جهة قضائه، أي الهلاك لجميع الذين يقاومون بابل حتى الملك وأهل بيته. لا يعني ذلك أن إرميا كان مُحبًا لبابل، بل أدرك أن بابل مع كل ظلمها وقساوتها يستخدمها الله - إلى حين - كأداة لتأديب شعبه العنيد والجاحد له. موقف إرميا هذا خلق عداوة شديدة لكثيرين من مواطنيه ضده، فاتهموه بالخيانة الوطنية. ويلاحظ في هذه الإجابة التالي: أولًا: جاءت الإجابة ليس حسب رغبة صدقيا، وإنما حسب قلبه المُبتعد عن الله، إذ يقدم الله للإنسان حسب قلبه إن كان مقدسًا أو تائبًا أم دنسًا ومتشامخًا. ثانيًا: تُستخدم كلمة "أرد" [4] على الوجه أو العينين حيث يحّول الشخص عينيه أو وجهه عن آخر (2 مل 20: 2). هنا المرة الوحيدة التي تُستخدم عن الأسلحة... وكأن الله يؤكد لشعبه أن نتيجة المعركة لا تتوقف على كمية الأسلحة أو قدرتها، وإنما على وجه الله الذي يديره نحو شعبه أو عنهم. فإن أداره عنهم، تفقد الأسلحة التي بين أيديهم قدرتها ورسالتها، وتتحول من الحماية ضد العدو إلى الاتجاه المضاد. كما أن كل الأمور تعمل للخير للذين يحبون الله (رو 8: 28)، هكذا كل الأمور تتحول للهلاك للذين يقاومون الله ويجحدونه، حتى الأسلحة التي في أيديهم تتوجه لهلاكهم لا لخلاصهم! عندما نتصالح مع الله تصطلح الطبيعة معنا، وتتحول كل الطاقات لبنياننا، وعندما نقاوم الله تحمل كل الأمور عداوة ضدنا. ثالثًا: مع ما يبدو في الإجابة من حزم شديد، حتى يصعب أن تجد فيها كلمة رجاء واحدة، إلا أنه يلقب الله "إله إسرائيل" ليبعث فيهم الرغبة في مراجعة أنفسهم، والتعرف على سبب تخلي الله عنهم، وهو الصانع عجائب في حياة آبائهم. رابعًا: يقصد بأسلحة الحرب فرق يهوذا العسكرية، التي كان يمكنها حتى تلك اللحظات أن تقوم بدور خارج الأسوار وتضايق الكلدانيين. ربما قصد بها جيوش الكلدانيين التي كانت ستجتمع في المدينة. هذا ويلاحظ أن تعبير "الكلدانيين" يُطلق على البابليين (2 مل 24، 25). هذا التعبير يشير في الأصل إلى فرق القبائل التي عاشت بين نهريّ الفرات ودجله، بين مدينة بابل والخليج الفارسي. في الوقت الذي فيه مارست الإمبراطورية الأشورية سلطانها على الجنوب كانت هذه القبائل هي مركز القوي المضادة للأشوريين. لقد ضّم الجيش البابلي جنسيات كثيرة بجوار الكلدانيين (إر 34: 1)، لكن حينما يُشار إلى الكلدانيين يُعنَى القوة البابلية التي حطمت الأشوريين. يصعب ترجمة كلمة "sarim" [4] هنا ب "الحصار" حيث لم يكن بعد قد بدأ، لذا تُترجم بالضغط الشديد. خامسًا: أكد لهم أن كل جهودهم للخلاص من الكلدانيين تنتهي حتمًا بالفشل. سادسًا: ما يرعبهم هو أن الجيش البابلي ليس إلا إحدى الوسائل التي يستخدمها الله ضدهم خارج أورشليم وداخلها. إذ صار الله نفسه عدوًا لهم يحتاج الأمر إلى مصالحة. إنه لا يصنع عجائب مع شعبه كعادته، وإنما وهو يوجه أسلحتهم ضدهم يقف بنفسه ضدهم. "وأنا أحاربكم بيدٍ ممدودة وبذراعٍ شديدة، وبغضبٍ وحموٍ وغيظٍ عظيمٍ. وأضرب سكان هذه المدينة، الناس والبهائم بوبأ عظيمٍ يموتون" [5-6]. النقطة الخطيرة أن الله نفسه هو الذي يحارب ضدهم، مستخدمًا الكلدانيين كوسيلة خاصة به. يحول أسلحة يهوذا إلى هلاكهم، كما يسمح بالوبأ والسيف والجوع أن يهلكهم هم وحيواناتهم... مهيأ كل فرصة للعدو أن يغلبهم! تُستخدم كلمتا "يد" و"ذراع" لتعنيا "قوة" الله كما في (تث 4: 34؛ 5: 15؛ 7: 19؛ 26: 8، 1 مل 8: 42، 2 مل 17: 26). هنا يبسط الله يده ليؤدب شعبه المُصر على العناد والجحود، مستخدمًا الأمم للتأديب. غير أن بسط اليد يشير إلى تجسد الكلمة، الذي يحل بيننا مستخدمًا كل وسيلة لخلاص العالم. حمل التأديب الإلهي عنا في جسده (إش 53: 4-6)، مستخدمًا الأمم كسفراء عنه، يشهدون لإنجيله الذي يعلن عن حب الله للعالم كله! إن كان إرميا قد عجز عن تقديم المصالحة بين الله وشعبه، فإننا قبلناها ببسط يده، أي بالتجسد الإلهي. كان دور النبي في ذهن صدقيا الملك أن يطلب ما هو لخير شعبه، ويعمل لحساب وطنه، مهما كلفه الأمر. فكان الأنبياء في أثناء الحروب يصلون إلى الله، ويشفعون في الشعب ليهبهم النصرة على الأعداء. لكننا نرى هنا إرميا يقف أمام الله ليجد أنه لا مجال للشفاعة عن شعبٍ قد صار الله نفسه عدوًّا لهم... لم يعد الأمر - في عينيه- هو الشفاعة عنهم لكي يتمتعوا بالخلاص من العدو، وإنما أن يجدوا طريق المصالحة مع الله، حتى وإن ظهروا في ضعف، خاضعين للعدو الظاهري، بابل! 3. نصيحة: الخضوع للتأديب الإلهي: 8 «وَتَقُولُ لِهذَا الشَّعْبِ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَجْعَلُ أَمَامَكُمْ طَرِيقَ الْحَيَاةِ وَطَرِيقَ الْمَوْتِ. 9 الَّذِي يُقِيمُ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ يَمُوتُ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ. وَالَّذِي يَخْرُجُ وَيَسْقُطُ إِلَى الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَكُمْ يَحْيَا وَتَصِيرُ نَفْسُهُ لَهُ غَنِيمَةً. 10 لأَنِّي قَدْ جَعَلْتُ وَجْهِي عَلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ لِلشَّرِّ لاَ لِلْخَيْرِ، يَقُولُ الرَّبُّ. لِيَدِ مَلِكِ بَابِلَ تُدْفَعُ فَيُحْرِقُهَا بِالنَّارِ. [8-10]. لم يعد أمام صدقيا ورجاله وكل الشعب إلا الاختيار بين أقل الأمرين مرارة: الاستسلام لبابل أو الموت. هذا ما فعلته الخطية بهم، إصرارهم على الخطية زمانًا طويلًا أفقدهم إمكانية التمتع بالحرية، ودخل بهم إلى ضرورة الانحناء إلى العبودية المرّة والسبي... ولكن إلى زمان، حتى يقدموا توبة صادقة، ورجوعًا حقيقيًا لله مخلصهم صانع العجائب. كانت الإجابة هي أن يشرب الملك ومن معه من السم الذي أعدوه لأنفسهم. جاءت هذه الإجابة تحطم كل أثر لإمكانية قبول إرميا أو احترامه وسط الكهنة أو القيادات المدنية أو الشعب. إذ بدت نصيحة إرميا كأنها استسلام لبابل، ورآها البعض خيانة وطنية وانحيازًا للعدو (إر 38: 17-21). قدم إرميا النبي ذات النصيحة أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، مؤكدًا للشعب أنه يلزمهم الخضوع للكلدانيين. لم يكن إرميا النبي يتكلم بمنطق الرجل السياسي أو العسكري، إنما منطق رجل الله الذي يوجه الكل نحو الخضوع للتأديب الإلهي كخطوة أولى نحو التجديد المقبل، كاعتراف مبدأي بالخطأ والرغبة في التوبة. جاءت مشورته هي أن يتجنبوا قتلهم بالخضوع في هدوء للبابليين، بدون مقاومة. حجته بسيطة وهي أن الله تخلى عن شعبه بسبب عدم ولائهم له وخيانتهم، لهذا صار سقوط أورشليم أمرًا حتميًا لا مفر منه. مع هذا عندما سقطت يهوذا سنة 587 ق.م. اختار أن يبقى في بلده ليعمل لحساب شعبه لتجديدهم في المستقبل (إر 40: 1-6؛ 42: 7-22). في سفر التثنية أعطى الله لشعبه حق الخيار بين طريقيْ الحياة والموت (تث 30: 15-19)، طريق الحياة هو الطاعة لإرادة الله (تث 30: 16)، إرادة الله هنا هي تأديبهم بتحطيم مدينتهم. حقًا إنها مدينة الله التي نسبها إلى نفسه (تث 12: 5؛ 2 مل 23: 8)، لكنها إذ تدنست بالأوثان والرجاسات، صارت هناك ضرورة لتحطيمها تمامًا لتقوم من جديد تحمل القداسة اللائقة به. من أراد الحياة فليطع الرب ويستسلم مؤقتًا للكلدانيين، حتى تتقدس المدينة بعد تحطيمها ويعودوا إليها. يبدو أن ما فعله إرميا هنا يشبه ما حدث بعد ذلك في كورنثوس، حيث أمر بولس الرسول بطرد ذاك الذي ارتكب الشر مع امرأة أبيه. لقد سلمه كما إلى الشيطان لهلاك الجسد مؤقتًا، وإذ قدم توبة أسرع الرسول يأمرهم بقبوله حتى لا يحطمه اليأس، فعاد مقدس النفس والجسد معًا! 4. الحاجة إلى التوبة: 11 «وَلِبَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا تَقُولُ: اسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ 12 يَا بَيْتَ دَاوُدَ، هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: اقْضُوا فِي الصَّبَاحِ عَدْلًا، وَأَنْقِذُوا الْمَغْصُوبَ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ، لِئَلاَّ يَخْرُجَ كَنَارٍ غَضَبِي فَيُحْرِقَ وَلَيْسَ مَنْ يُطْفِئُ، مِنْ أَجْلِ شَرِّ أَعْمَالِكُمْ [11-12]. جاء حديثه عن التوبة عمليًا، إذ بدأ بالملك بكونه القائد الأعلى للشعب والمسئول أمام الله عنهم، مؤكدًا أنه من بيت داود رجل الله، لذا يليق به أن يسمع لصوت الرب ويمارس التوبة العملية. يوجه هنا حديثه إلى بيت يهوذا الملوكي [11-12] كما إلى المدينة الملوكية، أورشليم [13-14]. يقصد بالبيت هنا [11- 12] الأسرة الملكية. يوضح الله للملك عمليًّا ما هي خطاياه، لكي يقدم عنها توبة عملية، وقد ركّزها في أمرين: أولًا: الظلم وتجاهل العدالة. ثانيًا: التأله والعجرفة. فمن جهة "الظلم وتجاهل العدالة" لا يكفي للملك أن يكون غير ظالمٍ، بل يلتزم بممارسة العدالة، وأن يبكر مسرعًا في تحقيقها. في الأصحاح الخامس يطلب الله من إرميا بل ومن كل السامعين أن يطوفوا في شوارع أورشليم وينظروا ويعرفوا ويفتشوا في ساحاتها لعلَّهم يجدون إنسانًا واحدًا يعمل بالعدل ويطلب الحق فيصفح عنها (إر 5: 1). إنه لم يجد... حتى جاء السيد المسيح نفسه، الله المتأنس، يقول: "لأني أنا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم" (إش 61: 8). المسئولية الرئيسية للملك هي الإسراع في ممارسة العدل "في كل صباح (مبكرًا)labboqer ؛ ذلك لأنه كانت العادة أن ينظر في القضايا في الصباح المبكر عند باب المدينة (عا 4: 4؛ مز 50: 17؛ مز 101: 8). فالملك كممثل لله وسفيره يلزمه أن يكون حارسًا للعدالة. لذلك طلب سليمان الحكيم في صلاته لله أن يهبه عقلًا رزينًا قادرًا على التمييز بين الخير والشر (1 مل 3: 9؛ 8: 32). وقد ركزت كثير من المزامير الملوكية على ممارسة العدالة ونزع الظلم (مز 45: 5-9؛ 72: 1-4، 12-14 إلخ.) مع الرحمة، حتى يترنم الملك مع داود قائلًا: "رحمة وحكمًا أغنى. لك يا رب أرنم... الشرير لا أعرفه. الذي يغتاب صاحبه سرًا هذا أقطعه... عيناي على أمناء الأرض لكي أجلسهم معي. السالك طريقًا كاملًا هو يخدمني، لا يسكن وسط بيتي عامل غش. المتكلم بالكذب لا يثبت أمام عيني. باكرًا أبيد جميع أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز 101). أثار الأنبياء هذا الموضوع، مطالبين الملك أن يحقق العدالة وينزع الظلم (عا 5: 11-13؛ إش 1: 17؛ مي 3: 9-12 إلخ.). لتحقيق العدالة بالنسبة للملك أهمية من جهة أنه علامة على الأمانة في تحقيق الميثاق الإلهي، إذ يُحسب شرط "ممارسة العدالة" التزامًا من جانب الملك مقابل تعهد الله بحمايته وإعطائه النصرة. ومن جانب آخر فإن الملك يحمل رمزًا وظلًا للمسيا الملك ابن داود الذي جاء ليحقق العدل (إر 23: 5-6؛ إش 9: 6-7؛ 11: 1-4 إلخ)، فإنه ينقذ الإنسان من الظالمين. إذ جعلنا السيد المسيح ملوكًا (رؤ 1: 6) يليق بنا نحن أيضًا أن نلتحف بالرحمة نحو إخوتنا، خاصة المتألمين والمحتاجين. ففي تعليق للقديس هيبوليتس على كلمات ربنا يسوع مع الأشرار في اليوم الأخير يقول: [حينئذ يسألون: "يا رب، متى رأيناك جائعًا أو عطشانًا أو غريبًا أو عريانًا أو مريضًا أو محبوسًا ولم نخدمك؟!" (مت 25: 44). يا رب، أما تعرفنا؟! أنت هو الذي خلقتنا، ووهبتنا الروح والنفس! إننا آمنا بك، ونلنا ختمك. نلنا معموديتك، واعترفنا بك إلهًا... صنعنا آيات باسمك، وأخرجنا شياطين! من أجلك امتنا الجسد، واحتملنا البتولية وسلكنا في العفة! من أجلك تغربنا على الأرض، وأنت تقول: لا أعرفكم، اذهبوا عني؟! يجيب الرب قائلًا: لقد خُتمتم بخاتم صليبي، لكنكم طمستموه بقساوة قلوبكم! نلتم معموديتي، لكنكم لم تبالوا بوصاياي! أخضعتم أجسادكم للبتولية، لكنكم لم تصنعوا رحمة، ولا أخرجتم البغضة نحو أخيكم من قلوبكم! لأنه ليس من يقول يا رب يا رب يخلص، بل الذي يصنع مشيئتي]. إن لم تهتم يهوذا بمعالجة حالات الظلم الاجتماعي الخطيرة السائدة في داخلها، تجد نفسها أمام حالة الغضب الإلهي الخطيرة [11]. كثيرًا ما يشبه إرميا النبي الحكم الإلهي بنارٍ لا تنطفئ (إر 4: 4؛ 17: 4، 27؛ 21: 12؛ 14؛ 43: 12؛ 49: 27). 5. أورشليم تؤله نفسها: 13 هأَنَذَا ضِدُّكِ يَا سَاكِنَةَ الْعُمْقِ، صَخْرَةَ السَّهْلِ، يَقُولُ الرَّبُّ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْنَا؟ وَمَنْ يَدْخُلُ إِلَى مَنَازِلِنَا؟ 14 وَلكِنَّنِي أُعَاقِبُكُمْ حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُشْعِلُ نَارًا فِي وَعْرِهِ (غابته) فَتَأْكُلُ مَا حَوَالَيْهَا. [13-14]. بقوله: "القائلة: من يقدر أن ينزل ضدك؟" يحمل أحد معنيين: أ. إما أن أورشليم تظن أن الله لن ينزل ليؤدبها، وكأنه في سمواته لا يبالي بها، ولا ينشغل بتأديبها، فما يهدد به إنما هو كلام! أو أنه لن يلحق بها. ب. ربما يعني أن أورشليم قد انحطت بالشر إلى الهاوية (أي 12: 13)، فصارت أسفل الأرض... في كلا الحالتين ظنت أورشليم أنها بعيدة عن طائلة قانون الله وتأديبه. جاءت كلمة "أنتِ" [13] بالمؤنث، فهو يحدث أورشليم، إذ ينظر إلى المدن كأمهات لسكانها، كما ينظر إلى القرى المحيطة بالمدينة كبناتٍ لها. لقد ألَّهت أورشليم نفسها، فظنت أنه لن يقترب منها العدو، ولا يلحق بها الله نفسه. إنها ملكة متربعة على الوادي، وصخرة قوية ليس من يحطمها! كانت أورشليم محاطة بالوديان العميقة من جهة الغرب والجنوب والشرق، لهذا لم تكن تحتاج إلى الدفاع إلا من جهة الشمال فقط. قيل: "أيتها المتربعة على الوادي" [13]. كما أن الله هو المتربع علىالشاروبيم (1 صم 4: 4، 2 صم 6: 2، 1 أي 13: 6، مز 80: 2، 99: 1) هكذا يريد أن تكون مدينته متربعة ومتوَّجة فوق كل الوديان. متى كان حالاًّ فيها كملك، يقيم منها ملكة، ويضع تابوت عهده الممثل لحضرته في الهيكل المقام في أورشليم مدينته. ربما بقوله "المتربعة على الوادي" يشير إلى شرها الذي أُعلن بوضوح في وادي ابن هنوم، والذي دعاه "وادي القتل"، فصارت ملكة، لا بقبولها الملك واتحادها معه، بل باحتضانها الفساد والشر، وارتباطها برجاسات وادي هنوم. لعله دعاها "المتربعة على الوادي" مقابل دعوة صور "المتربعة على مداخل البحر" (حز 27: 3)، إذ جعلت من نفسها إلهًا (حز 28: 2)، وكأن إرميا النبي يقول لسكان أورشليم لقد صرتم كنعانيين (إر 10: 17) تدعون مدينتكم "متربعة على الوادي" كما يدعو الفينيقيون مدينتهم "المتربعة على مداخل البحر". خطيتها هي الكبرياء والتشامخ، وكما جاء في المزمور: "رأيت المنافق يرتفع ويتعالى مثل أرز لبنان، وجزت فإذا ليس هو. التمسته فلم أجده مكانه" (مز 37: 35، 36). * التكبر والغرور والغطرسة والافتخار بعجرفة، هذه كلها لا تنبع عن تعاليم المسيح الذي علَّمنا الاتضاع، بل عن روح ضد المسيح الذي يوبخه الرب بالنبي القائل: "وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش 14: 13-14). الشهيد كبريانوس * كل من يتعاظم ينحدر.تعاظم قايين على أخيه هابيل فقتله، لُعن وصار هاربًا متشردًا في الأرض. أيضًا تعاظم أهل سدوم على لوط فأنزل الله عليهم نارًا من السماء وأحرقهم، وانقلبت المدينة عليهم. تعاظم أيضًا عيسو على يعقوب واضطهده، ونال يعقوب بكوريته وبركته. تعاظم أولاد يعقوب على يوسف، ثم عادوا فسجدوا أمامه في مصر. تعاظم فرعون على موسى وشعبه، فغرق فرعون وجنوده في البحر... الأب أفراهات يرى البعض أن عبارة "المتربعة على الوادي" [11] تشير إلى "الملك" حيث تقابل "ساكنة الوادي (العمق)" [13] التي تشير إلى الشعب، فقد صار الملك متربعًا على الوادي، يهتم بسلطانه، مستخدمًا كل عنف وضغط، عوض أن يمارس أبوّته وخدمته للشعب. تحولت الملوكية من أبوة وخدمة حانية، خاصة بالنسبة للمظلومين والأيتام والفقراء، إلى تسلطٍ وعنفٍ.يدعوها "صخرة السهل" ليؤكد لها أنها وإن كانت كالصخرة تحميها الطبيعة وتجعل منها مدينة محصنة يصعب على العدو أن يهزمها، مع ذلك تتم الهزيمة حتمًا! دُعي الله صخرة 33 مرة في العهد القديم، منها 16 مرة في سفر المزامير ، وكأن الله يريد من أورشليمه أن تحمل لقبه وتكون صخرة يحتمي فيها المؤمنون، حيث يجدون فيها الله ملجأ لهم وحماية. لكنها للأسف صارت عاجزة عن حماية نفسها، فصارت أشبه بأتون نارٍ تحترق فيه غاباتها. هنا يشبه اليهود بالأشجار التي تجمعت معًا، لكن الفساد ألهبهم بنارٍ محرقة. "ولكنني أعاقبكم حسب ثمر أعمالكم يقول الرب. وأشعل نارًا في وعره (غابته) فتأكل ما حواليها" [14]. الحديث هنا موجه إلى سكان أورشليم، ويرى البعض أنه موجه ضد القصر الملكي، الذي دُعي في (1 مل 7: 2؛ 10: 17، 21) "بيت وعر لبنان"، وذلك بسبب كثرة ما استخدموه من الأرز في تأسيسه، ودُعي في إشعياء (إش 22: 8) "بيت الغابة"، كما يُستخدم تعبير الغابة عن الهيكل (1 مل 6: 9-36) وتستخدم كلمة "الوعر" أيضًا كموضع تختبئ فيه حيوانات البرية (إر 5: 6؛ 12: 8). هنا نتصور "الموضع الخفي"، فبحرق الغابات لا تجد الوحوش مكانًا تختفي فيه... بالتأكيد لا يوجد في أورشليم ذاتها غابات، ولكن توجد على التلال التي حواليها. نختم هذا الأصحاح بعبارات القديس أغسطينوس: [لا يخدع إنسان نفسه ظانًا أنه لن يُعاقب بمراحم الله، إذ يوجد حكم. ولا يخاف إنسان يتغير إلى الأفضل من حكم الرب، متطلعًا أن الرحمة تتقدم الحكم! فإنه عندما يحكم البشر أحيانًا إذ يريدون تنفيذ حكمٍ صارمٍ يفقدون الرحمة. أما الله فلن يفقد حزم الحكم في سخاء الرحمة، ولا الحكم الحازم ينزع سخاء الرحمة ]. من وحي إرميا 21 لأسمع صوتك فأحيا! * طلب صدقيا الملك من إرميا أن يسمع صوتك، لكنه في أعماقه كان يطلب أن يسمع ما يهواه هو! يريد أن يسألك بشفتيه لا بقلبه، لم يطلب صوتك بل صوته هو! * طلب أن تصنع معه حسب كل عجائبك، فتخلصه من يد الكلدانيين أعدائه، ولم يدرك أنه إذ حول وجهه عنك حوّلت وجهك عنه! لم يدرك أنك تستخدم الكلدانيين لتأديبه! حولت حتى أسلحته إلى صدره، وسمحت للوبأ والسيف والجوع أن تهاجمه، فتحت أبواب أورشليم ليجتمع العدو فيها. هذا كله لأنه لم يسمع لصوتك! * كلمتك نور تكشف كل ضعفاتي، كنورٍ تبدد ظلمتي فأصير نورًا. أعترف لك إنني بغير عذرٍ لم أمارس العدل، لم أطلب الحق، ولا ترفقت بالمظلومين! في عجرفة ظننت إنني أهرب من الحكم الإلهي، وأنت في حبك تؤدب، تمزج عدلك بالرحمة! تؤدبني هنا بفيض رحمتك الغنية، وترحمني في ذلك اليوم العظيم خلال عدلك الإلهي العجيب! * مددت يدك لتؤدب أورشليم الشامخة، ظنت في نفسها صخرة الوادي، وحسبت نفسها ملكة متربعة على السهل، اتكلت على حصونها الطبيعية، لن يلحق بها عدو، ولا تلحق أنت بها، مسكينة هذه المتشامخة! حرمت نفسها من التمتع بفيض رحمتك أثناء تأديبها! * أورشليم مدينتك المحبوبة لديك جدًا، ï€* رفضت صوتك فتدنست، استحقت التحطيم تمامًا! في حبك لا تتركها، تود أن تردها إليها، لتعود فتقيمها من جديد مقدسة ومباركة، صخرة وعرش وملكة! يا لك من عجيب حتى في تأديبك أيها الكلمة الحقيقي! * مدّ يدك إليّ، لكن ليس بغضبٍ وحموٍ وغيظٍ عظيمٍ، بل ابسط حبك ورحمتك نحوي، فاستمع لصوت تأديبك! صوتك حلو وعذب، حتى في لحظات التأديب المرّة! * صوتك الحلو يحوّل حياتي إلى صخرة الإيمان، ففيك أحتمي! صوتك العذب يحوّل قلبي إلى عرشك الإلهي، ويقيم مني ملكة، أجلس عن يمينك، واتحد بك يا حكمة الله الحلو! صوتك يجعلني أورشليمك المحبوبة والمنتسبة إليك! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 18 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() حاجة الملك إلى التوبة إن كان الله قد أقام الملك على كرسي داود، فإنه يليق به كقائد أمين فيما وهبه الله أن يمارس التوبة بروح العدل والرحمة والاتضاع عوض الظلم والكبرياء، حتى لا يفشل، ويصير كعقيمٍ لا يجلس أحد من نسله على كرسي داود. يناقش هذا الأصحاح مصير ثلاثة ملوك طغاة ليهوذا، هم أبناء الملك يوشيا الصالح: يهوآحاز (شلوم)، ويهوياقيم، ويهوياكين (كنياهو)، ومصير مدينة أورشليم ومملكة يهوذا، حيث لا يعود يُقام ملك على كرسي داود بعد من نسلهم. 1. حديث صريح مع يهوآحاز: 1 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: انْزِلْ إِلَى بَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا وَتَكَلَّمْ هُنَاكَ بِهذِهِ الْكَلِمَةِ، 2 وَقُلِ: اسْمَعْ كَلِمَةَ الرَّبِّ يَا مَلِكَ يَهُوذَا الْجَالِسَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ، أَنْتَ وَعَبِيدُكَ وَشَعْبُكَ الدَّاخِلِينَ فِي هذِهِ الأَبْوَابِ. صدرت الأوامر الإلهية إلى إرميا النبي أن يكرز أمام الملك بحزمٍ شديدٍ وتهديد إلهي: "انزل إلى بيت ملك يهوذا وتكلم هناك بهذه الكلمة، وقل: اسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا الجالس على كرسي داود، أنت وعبيدك وشعبك الداخلين في هذه الأبواب" [1-2]. يبدو أن هذا الأمر الإلهي الخاص بحديث إرميا عند بيت الملك كان مبكرًا، في بدء خدمته، حيث حمل حديثه رجاءً في إعفاء الشعب مع الكهنة ورجاله من السبي إن تاب الجميع، قادة ورعية، كما هو واضح من القول: "لأنكم إن فعلتم هذا الأمر يدخل في أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه، راكبين في مركباتٍ وعلى خيلٍ؛ هو وعبيده وشعبه" [5]. جاء الحديث هكذا: أولًا: "انزل" ... لأن قصر الملك كان في أحد الوديان محميًا بالجبال الشامخة المحيطة به. دعوة الرب لإرميا أن ينزل تحمل معنيين: المعنى الأول أنه لا يخشى الملك بكل سلطانه كأنه عالٍ ومرتفع عنه، إنما يتطلع إليه كمن ينزل النبي إليه. إن إرميا كرجل الله يجد له مسكنًا في قلب الله، مرتفع فوق كل الأحداث الزمنية... عندما يلتقي بالملك إنما ينزل إليه ليحدثه. المعنى الثاني أن النزول يحمل الحب نحو النفس الساقطة، فيليق بأولاد الله ألا يتحدثوا بروح التشامخ، كأنهم جالسون على كراسي المعلمين المتشامخة، بل ينزلوا إلى كل نفس ليلتقوا معها كشركاء معها في الضعف، فتجد فيهم أشخاصًا يشاركونها آلامها وضعفها، فتقبل كلمة الرب. جاء في إحدى عظات القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالحقيقة أيها الإخوة إني كاهن الله، لأن الله أراد لي ذلك! إني خاطئ، معكم أقرع صدري! معكم أطلب الصفح! معكم أترجى مراحمه! أخبرونا أيها الرسل القديسون: هل بعد قيامة الرب من الأموات وثبوتكم بالروح القدس الذي حلَّ عليكم انقطعت عنكم الخطية تمامًا...؟! لننصت إلى إجابتهم حتى لا ييأس الخطاة... إن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم]. ثانيًا: يذكِّره بأنه الجالس على كرسي داود، الذي كان يحمل قلبًا كقلب الله، وقد نال من الله وعودًا، لذا يليق بنسله أن يحملوا روحه، ويعيشوا كما يليق بأبناء داود البار، ولا يكسروا العهد مع الله. هكذا يمكننا القول بأن الحديث هنا موجه إلى كل مؤمنٍ تمتع بالملوكية، إذ صرنا خلال اتحادنا بالسيد المسيح ابن داود أو بملك الملوك ملوكًا على يهوذا، حيث صارت نفوسنا وأعماقنا أرض يهوذا المحبوبة لدى الله مخلصنا، وقلوبنا أورشليمه المقدسة. لقد أقامنا ملوكًا (رؤ 1: 6) نحمل سلطانًا. لنا العبيد الذين هم أعضاء جسدنا ومواهبنا وحواسنا وقدراتنا التي قُدمت لنا من الله. متى كانت النفس ملكة تستطيع بروح الله القدوس أن تسيطر على كل ما في داخلها، كما على الجسد بكل طاقاته كعبيد يعملون معًا بانسجامٍ، ويسلكون في الطريق الروحي الملوكي. صارت نفس المؤمن ملكة لها شعبها الداخل من أبواب بيتها أو قصرها الملوكي، هذا الشعب هو الأفكار التي عبرت إلى أعماقنا خلال أبواب الحواس. فالحديث هنا موجه إلى الملك وعبيده وشعبه الداخلين في أبواب بيته، لأنه متى كان الملك مقدسًا أمكنه أن يقود العبيد (رجال القصر) والشعب في الطريق الإلهي المقدس. هكذا متى صارت النفس ملكة مقدسة يخضع لها بروح الرب الجسد والأفكار ليعمل الإنسان بكل كيانه لحساب ملكوت الله. ثالثًا: جاء النداء الأول للملك وعبيده أي رجاله وشعبه هو: "اسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا... أنت وعبيدك وشعبك الداخلين في هذه الأبواب" [2]. كلمة الرب هي وراء تقديس النفس والجسد، لأنها حيَّة وفعّالة! أما هذه الأبواب فهي ليست أبواب المدينة العامة، وإنما أبواب القصر الملكي، التي كان يدخلها رجال القصر والشعب الذين عوض طلب العدل استغلّوا روح الظلم الذي ساد الملك ورجاله لحسابهم الخاص. 2. أجروا حقًا وعدلًا: 3 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَجْرُوا حَقًّا وَعَدْلًا، وَأَنْقِذُوا الْمَغْصُوبَ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ، وَالْغَرِيبَ وَالْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. لاَ تَضْطَهِدُوا وَلاَ تَظْلِمُوا، وَلاَ تَسْفِكُوا دَمًا زَكِيًّا فِي هذَا الْمَوْضِعِ. 4 لأَنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ هذَا الأَمْرَ يَدْخُلُ فِي أَبْوَابِ هذَا الْبَيْتِ مُلُوكٌ جَالِسُونَ لِدَاوُدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ رَاكِبِينَ فِي مَرْكَبَاتٍ وَعَلَى خَيْل. هُوَ وَعَبِيدُهُ وَشَعْبُهُ. 5 وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لِهذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَدْ أَقْسَمْتُ بِنَفْسِي، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّ هذَا الْبَيْتَ يَكُونُ خَرَابًا. 6 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَنْ بَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا: جِلْعَادٌ أَنْتَ لِي. رَأْسٌ مِنْ لُبْنَانَ. إِنِّي أَجْعَلُكَ بَرِّيَّةً، مُدُنًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ. 7 وَأُقَدِّسُ عَلَيْكَ مُهْلِكِينَ، كُلَّ وَاحِدٍ وَآلاَتِهِ، فَيَقْطَعُونَ خِيَارَ أَرْزِكَ وَيُلْقُونَهُ فِي النَّارِ. 8 وَيَعْبُرُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ، وَيَقُولُونَ الْوَاحِدُ لِصَاحِبِهِ: لِمَاذَا فَعَلَ الرَّبُّ مِثْلَ هذَا لِهذِهِ الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ؟ 9 فَيَقُولُونَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا عَهْدَ الرَّبِّ إِلهِهِمْ وَسَجَدُوا لآلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدُوهَا. سبق فرأينا في الأصحاح السابق إبراز أن تحقيق العدالة، خاصة مع الغرباء والفقراء والمظلومين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم أو التمتع بحقوقهم، يمثل الدور الرئيسي في حياة الملك. "هكذا قال الرب: أجروا حقًا وعدلًا (sadaqa)، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة، لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دمًا ذكيًا في هذا الموضع" [3]. استغل الملك ورجاله الغير، خاصة الضعفاء والمحتاجين، على خلاف والده يوشيا الذي اهتم بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين. كما أن الخطية تحطم بيوت الملوك والشعب، هكذا العدل والبر يسندان الكل ويعطيان قوة وكرامة ومجدًا. "لأنكم إن فعلتم هذا الأمر يدخل في أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين في مركباتٍ وعلى خيلٍ. هو وعبيده وشعبه. وإن لم تسمعوا لهذه الكلمات فقد أقسمت بنفسي يقول الرب، إن هذا البيت يكون خرابًا" [4-5]. كان الاعتقاد السائد في يهوذا عبر الأجيال أن بقاء المُلك في سبط يهوذا من نسل داود علامة رضا الله وبركته وحمايته لشعبه، على خلاف مملكة إسرائيل التي انشقت وأقامت لها ملوكًا وأنشأت عاصمة (السامرة) عوض أورشليم. إن كان الله قد بارك يهوذا من أجل عبده داود، لكن إن لم يسلك نسله على منواله في علاقته بالله يفقدون هذه البركة. هذا مركز الفكر اللآهوتي السياسي عند إرميا. يعتمد استمرار البيت الملوكي، حتى إن نُسب لداود، على قبول الملك رسالة إرميا من كل القلب. بهذا فقط تبقى أبواب القصر الملوكي مفتوحة أمام الملك ورجاله وشعبه للدخول والخروج. "لأنه هكذا قال الرب عن بيت ملك يهوذا: جلعاد أنت لي، رأس من لبنان، إني أجعلك برية، مدنًا غير مسكونة" [6]. يشبه البيت الملكي وربما الملك نفسه بجلعاد، أي الجبل العالي، أو بقمة جبلٍ من جبل لبنان الشامخة، فإنه وإن ظن في نفسه أنه ثابت ومملوء أمانًا ليس من يقدر أن يهبط به من هذا العلو إلا أنه ينحدر ليصير كبريةٍ قاحلةٍ وكمدينةٍ خربةٍ لا يسكنها أحد. بقوله "جلعاد ورأس من لبنان" يشير إلى أن قصر الملك في منطقة غنية خصبة ومبهجة مثل جلعاد وجبل لبنان، وقد دُعي قصر سليمان "بيت وعر (غابة) لبنان" (1 مل 7: 2؛ 10: 17، 21). ارتباط جلعاد بقمة لبنان كما في زكريا (زك 10: 10) يشير إلى الغابات، كما قد يشير إلى "الشرق" و"الغرب"، أي يملك على الضفة الشرقية والغربية لنهر الأردن. كأن الله يعلن نظرته إلى القصر الملكي، أنه لا يزيد في عينيه عن شجرة في وسط غابة في جلعاد أو على قمة جبل لبنان، أو كحيوانٍ برِّى هناك... مع ما اتسم به القصر من جمال وفخامة لكن الله يبيده ويحطمه، بل ويحسب تحطيمه عملًا مقدسًا يتعهد به الأعداء بسماحٍ إلهي. لم يقل "إني أجعلك... مدينة غير مسكونة" بل "مدنًا"، لأن الخراب يشمل كل المملكة بمدنها، وليس أورشليم وحدها. "وأقدس عليكِ مهلكين كل واحدٍ وآلاته، فيقطعون خيار أرزكِ ويلقونه في النار" [7]. سبق لنا الحديث عن "تقديس" بابل كآلة إلهية لتأديب الشعب. هنا كلمة تقديس تعني "تكريس طاقاتها وإمكانياتها" أو تخصيصها، وكأن الله يضع في قلب بابل أن تكرس كل إمكانياتها البشرية والعسكرية لتحطيم الشعب الذي عصى الرب... إنها تعمل بغيرة لنوال سلطة وسلب إمكانيات ولا تدري أن الله هو الذي سمح لها بذلك، أو هو كرَّسها لهذا العمل. قلنا أيضًا إن بابل تحسب ذلك "حربًا مقدسة"، إذ تعتبر نصرتها هي نصرة لآلهتها على إله إسرائيل... ومع ذلك فمن أجل تأديب الشعب قبل الله ذلك!! هنا الصورة أخطر، لأن الله نفسه يدخل في حرب مع شعبه المتمرد، حاسبًا هذه المعركة "حربًا مقدسة"، لا ليهب نصرة لشعبه بل ليهلكهم حتى يتأدبوا. لما كان البابليون يحترفون قطع الأخشاب، لهذا يحطمون الهيكل بالفؤوس كأنهم يقطعون خيار الأرز، لا لينتفعوا به، وإنما لكي يلقونه في النار. كثير من الغرباء (goyim) إذ يعبرون بالمدينة يسألون: لماذا صنع الله هكذا بمدينته العظيمة؟ وتأتي الإجابة: كسروا العهد معه، وعبدوا آلهة أخرى وخدموها [8-9]. بسبب فساد الملك تفقد أورشليم، مدينة الله، سمعتها، بل وتكاد تفقد وجودها، فتصير برية خربة بلا ساكن. وبسبب عصيان يونان النبي فقد الكثيرون سلامهم إذ هاج البحر وثارت الأمواج، وألقى النوتية والمسافرون أمتعتهم في المياه. وعلى العكس الأنبا أنطونيوس بتقديس حياته في الرب حوّل البرِّية إلى فردوس يمتلئ بالعابدين الروحيين، بل وتشتهي الملائكة أن تتطلع إليها لتمجد غنى نعمة الله الفائقة. ما كنا نسمع عن كنيسة نيصص لولا القديس غريغوريوس أسقفها الذي جذب نفوسًا كثيرة إلى السمويات، كما أعطى القديس أغسطينوس لهيبو شهرتها. كل نمو روحي في حياتك هو لبنيانك وبنيان أسرتك وأصدقائك وكنيستك ومدينتك ووطنك، بل ولبنيان البشرية، وكل انهيار أو انحراف عن الطريق الملوكي يحطمك ويحطم من حولك، ويدفع بالعالم نحو الخراب! لا تستهن بدورك، كاهنًا كنت أم من الشعب، شيخًا أو شابًا أو طفلًا، رجلًا أو امرأة! 3. لا تبكوا ميتًا: 10 « لاَ تَبْكُوا مَيْتًا وَلاَ تَنْدُبُوهُ. ابْكُوا، ابْكُوا مَنْ يَمْضِي، لأَنَّهُ لاَ يَرْجعُ بَعْدُ فَيَرَى أَرْضَ مِيلاَدِهِ. 11 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَنْ شَلُّومَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، الْمَالِكِ عِوَضًا عَنْ يُوشِيَّا أَبِيهِ: الَّذِي خَرَجَ مِنْ هذَا الْمَوْضِعِ لاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَعْدُ. 12 بَلْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَبُوهُ إِلَيْهِ، يَمُوتُ. وَهذِهِ الأَرْضُ لاَ يَرَاهَا بَعْدُ. [10-12]. الميت المذكور هنا هو يوشيا الذي قُتل في معركة مجدو عام 609 ق.م. (2 مل 23: 29-30) بعد حكمٍ طويلٍ وحياةٍ صالحةٍ، مما يستوجب اشتداد الحزن والحداد. ولكن إرميا يقول هنا إنه يجب أن يشتد البكاء على الملك الجديد الشاب يهوآحاز بن يوشيا، الذي سبي بعد ثلاثة شهور وعشرة أيام بواسطة فرعون مصر نخو ولم يرجع منها فيما بعد. لقد تولّى يهوآحاز الحكم مع أنه كان الابن الرابع وليس البكر (2 مل 23: 34؛ أي 36: 1). ولعلّه أُختير لأنهم ظنوا أنه أقوى من أخيه البكر. لقد تولّى الحكم ظلمًا لذا لم يبقَ فيه، بل سُبي إلى مصر كما جاء في سفر التثنية: "ويردك الرب إلى مصر في سُفن في الطريق التي قُلت لك لا تعد تراها، فتُباعون هناك لأعدائك عبيدًا وإماءً وليس مَن يشتري" (تث 28: 68). يبدو أنه لم يُسبي معه أحد (2 أي 26: 4). الله يطلب من الشعب أن يبكوا يهوآحاز أكثر مما بكوا والده، بل أن إرميا نفسه قد بكاه (2 أي 35: 25). يوشيا ذهب إلى القبر في سلام وبكرامة، لا يحتاج من يبكيه، أما ابنه الشقي فتُحسب حياته كموته بلا كرامة، يعيش في السبي في مهانة. حقًا لقد جُرح يوشيا جرحًا مميتًا في موقعة مجدو، لكن مركبته حملته إلى بلده ليُسلِّم أنفاسه في مدينته المحبوبة لديه والمحبة جدًا له، يلتف حوله الشعب الذي خدمه لمدة ثلاثين سنة من حياته التي بلغت الثمانية والثلاثين. ليتنا نحن أيضًا نُسلِّم أنفاسنا الأخيرة في مدينتنا المحبوبة لدينا، أي ونحن قاطنون في ملكوت السموات، نُسلِّم نفوسنا في يد إلهنا الذي نكرس كل طاقتنا وحياتنا لحساب ملكوته. نقول مع الرسول بولس: "إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، إن عشنا وإن متنا فللرب نحن" (رو 14: 8). يلزمنا أن نكرم موت الصديقين ونشتهيه، بينما نشعر ببؤس حياة الأشرار. استطاع القديس بولس أن يقول عن موته: "أخيرًا قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبهلي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس ليفقط بل ولجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2 تي 4: 8). لم يكن موته مثيرًا للحزن بل للبهجة والفرح، لأنه يترقب المكافأة التي أُعدت له عن جهاده الحسن. إنه لا يعود الملك من السبي كما كان هو وشعبه يتوقعون. وقد أكَّد لهم الله أنه لن يعود ولن يرى أرضه بعد، لأنه لم يتمثّل بأبيه الصالح كما اعتدى على حق أخيه الأكبر. يدعوه إرميا النبي باسمه قبل تولِّيه الحكم "شلوم" وليس بالاسم الملكي "يهوآحاز"، ربما لأنه يُحسب كمغتصبٍ للحكم أو كمن لا يستحق الملوكية بسبب شره وفساد حياته. يُقدم لنا التاريخ البابلي قصة سبي يهوآحاز. ففي عام 609 ق.م. سقط آخر ملوك أشور Ashur-uballit تحت ضيقٍ شديدٍ في حاران بواسطة الجيوش الكلدانية(463)، فأسرعت مصر لمساندته خشية الخطر الكلداني الذي بدأ يظهر على مسرح التاريخ. جاء فرعون نخو إلى فلسطين وصارت منطقة فلسطين وسوريا في قبضته، وأقام قائده في ربله على بعد 47 ميلًا جنوب حامة. استدعى يهوآحاز لمقابلته، فأسره وأرسله إلى مصر. 4. الاعتداد بالذات (يهوياقيم): 13 « وَيْلٌ لِمَنْ يَبْنِي بَيْتَهُ بِغَيْرِ عَدْل وَعَلاَلِيَهُ بِغَيْرِ حَقّ، الَّذِي يَسْتَخْدِمُ صَاحِبَهُ مَجَّانًا وَلاَ يُعْطِيهِ أُجْرَتَهُ. 14 الْقَائِلُ: أَبْنِي لِنَفْسِي بَيْتًا وَسِيعًا وَعَلاَلِيَ فَسِيحَةً. وَيَشُقُّ لِنَفْسِهِ كُوًى وَيَسْقُفُ بِأَرْزٍ وَيَدْهُنُ بِمُغْرَةٍ. 15 هَلْ تَمْلِكُ لأَنَّكَ أَنْتَ تُحَاذِي الأَرْزَ؟ أَمَا أَكَلَ أَبُوكَ وَشَرِبَ وَأَجْرَى حَقًّا وَعَدْلًا؟ حِينَئِذٍ كَانَ لَهُ خَيْرٌ. 16 قَضَى قَضَاءَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، حِينَئِذٍ كَانَ خَيْرٌ. أَلَيْسَ ذلِكَ مَعْرِفَتِي، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 17 لأَنَّ عَيْنَيْكَ وَقَلْبَكَ لَيْسَتْ إِلاَّ عَلَى خَطْفِكَ، وَعَلَى الدَّمِ الزَّكِيِّ لِتَسْفِكَهُ، وَعَلَى الاغْتِصَابِ وَالظُّلْمِ لِتَعْمَلَهُمَا. 18 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَنْ يَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا: لاَ يَنْدُبُونَهُ قَائِلِينَ: آهِ يَا أَخِي! أَوْ آهِ يَا أُخْتِي! لاَ يَنْدُبُونَهُ قَائِلِينَ: آهِ يَا سَيِّدُ! أَوْ آهِ يَا جَلاَلَهُ! 19 يُدْفَنُ دَفْنَ حِمَارٍ مَسْحُوبًا وَمَطْرُوحًا بَعِيدًا عَنْ أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ. بعدما تحدث عن سبي يهوآحاز انتقل إلى الملك يهوياقيم الظالم والطماع والطاغية، وقد قضى 11 عامًا في ملكه. "ويل لمن يبني بيته بغير عدلٍ، وعلاليه (حجراته التي على السطح) بغير حقٍ (بظلمٍ)، الذي يستخدم صاحبه مجانًا ولا يعطيه أجرته. القائل: أبني لنفسي بيتًا وسيعًا وعلالي فسيحة، ويشق لنفسه كوى، ويسقف بأرز، ويدهن بمغرة" [13-14]. لا نسمع عن علاقة إرميا النبي بيوشيا الملك وابنه يهوآحاز، لكننا نسمع كثيرًا عن علاقته بالملك يهوياقيم الذي يتحدث عنه هنا [13-19]. فقد كان عدوًا لإرميا، منعه من قراءة نبواته ومزق السفر (إر 36). كان يهوياقيم الملك المستبد الدكتاتور، رفض إصلاحات أبيه الملك يوشيا، وكان منحازًا لفرعون مصر ومتكلًا عليه، إذ أقامه نخو سلفًا لأخيه يهوآحاز (2 مل 23: 34). عنَّفه إرميا النبي على كبريائه وظلمه خلافًا لأبيه يوشيا، ورفضه للعدل والبر (بغير حق sede). وقد جاء توبيخه للملك يتركز في النقاط التالية: أولًا: شغفه بإنشاء أبنية ضخمة فاخرة لإشباع ذاته ego، وقد نقل ذلك عن الدول المجاورة، خاصة مصر وبابل الشهيرتين بابنتيهما الفخمة. لم يتهمه إرميا النبي بالعبادة الوثنية، لكنه مارس الحياة المترفة المدللّة مع عجرفة وكبرياء. استخدم الأرز، أثمن أنواع الخشب، وقد دهنه باللون الأحمر البرتقالي أو القرمزي (sasar) أو الأزرق. ظهرت إلى النور في السنوات الأخيرة حفريات في رامة راحيل تشهد عن أبنية فخمة ترجع إلى نهاية القرن السابع ق.م. التي تحدث عنها إرميا النبي بخصوص أعمال يهوياقيم. شتان ما بين يهوياقيم ووالده يوشيا. الأول أقام بيتًا صالحًا، بينما أقام الثاني بيتًا فاخرًا فسيحًا. الأول بالبر أقام بيته، والثاني بغير عدلٍ ولا حقٍ (برٍ) أنشأه. خير لنا أن نعيش مع يوشيا في بيته القديم الصالح عن أن نقيم مع ابنه يهوياقيم في بيته الفخم المقام بغير عدلٍ ولا برٍ. استخدم القديس غريغوريوس النزينزي هذه العبارات الخاصة بسكنى الملك يهوياقيم في مبانٍ فخمة في حديثه ضد الأريوسيين الذين سطوا على الكنائس وتعقبوا رجال الله لقتلهم: [هؤلاء الناس لهم بيوت، أما نحن فلنا الساكن في البيت، لهم معابد، أما نحن فلنا الله، وبجانب هذا نحن أنفسنا هياكل حيَّة لله الحيّ، محرقات عاقلة، ذبائح كاملة، نعم آلهة خلال العبادة للثالوث. معهم البشر، ونحن معنا الملائكة، يندفعون بتهورٍ، ونحن لنا الإيمان، يهددون ونحن نصلي، يشتمون ونحن نحتمل، لهم ذهب وفضة ونحن لنا الكلمة النقية، بنوا لأنفسهم بيتًا وسيعًا وعلالي فسيحة، بيتًا مسقوفًا، وشقوا كوى (إر 22: 14)، لكن حتى هذه ليست أعلى من إيماني ولا من السموات التي أحملها قدامي]. يرى القديس أغسطينوس أن الأشرار يبنون المباني الشاهقة بروح الظلم، ظانين أنهم يهربون من العدالة الإلهية، أما أولاد الله فلا يجدون لهم ملجأ إلا فيه، إذ يقول: [إن كنت لا تستطيع الهروب من الله لأنه موجود في كل مكان، فاهرب إليه في الحال، حيثما وجدت اهرب. هوذا في طيرانك قد عبرت السماء، إنه هناك! إن هبطت إلى الجحيم، فهو هناك! أي صحاري الأرض تختار تجده هناك... إن كان يملأ السماء والأرض، فإنه لا يوجد موضع يمكنك أن تهرب إليه منه. لتنهِ تعبك ولتهرب إلى حضرته لئلا يدركك مجيئه!]. ثانيًا: يقول "الذي يستخدم صاحبه مجانًا ولا يعطيه أجرته" ليكشف عن أسلوبه الاستغلالي، واتباعه نظام السخرة المخفية. بقوله "صاحبه" يقصد "الشعب"، عندما أُقيم ملكًا في ظروف قاسية، إذ كان الملك ملتزمًا بدفع جزية باهظة لفرعون مصر (2 مل 23: 33-35)، عوض الاهتمام باحتياجات الشعب الزم الشعب ببناء قصره بطريقة مُبالغ فيها. هذا الشعب الذي كان يجب أن يُدعى صاحبه تحول إلى عبيد للملك، يعملون لحسابه بلا أجر، الأمر الذي حذرت منه الشريعة (لا 19: 13، تث 24: 14-15). كان يليق بالملك أن يحفظ هذه الشريعة، ويحميها وسط شعبه فلا يكون بينهم مستغلًا، فإذا به هو أول كاسرٍ لها. بهذا صار مثلًا سيئًا لشعبه وقدوة فاسدة. ثالثًا: جاء الفعل "يشق" بمعنى "يمزق". تُستخدم هذه الكلمة للثياب، أما هنا فتستخدم عن الكوى أو النوافذ، التي وهو يوسِّعها يمزق حياته كثوب، ويفقد الستر والكرامة ليصير كمن هو عريان وفي عارٍ. كما تُستخدم هذه الكلمة عن عيني الزانية حين توسعهما باستخدام المساحيق. وكأنه يربط النوافذ هنا بالزنا. ارتبط الترف في المساكن بحياة اللهو والزنا، وقد تحدث إرميا النبي عن الموت الذي يصعد خلال الكوى (إر 9: 20). صار الملك كالزانية التي توسّع عينيها بالمساحيق لتدخل بنفسها إلى الخطية فتموت! رابعًا: معاملته القاسية وظلمه للفقراء والمساكين. "هل تملك لأنك أنت تحازي الأرز؟! أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقًا وعدلًا، حينئذ كان له خيرُ؟! قضى قضاء الفقير والمسكين، حينئذ كان خير. أليس ذلك معرفتي يقول الرب؟! لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الذكي لتسفكه؟! وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما؟!" [15-17]. كأنه يقول له: [ليست المباني الفسيحة الفخمة هي التي تجعل منك ملكًا، ولا أخشاب الأرز الثمينة أو الزينة... فكر كيف عاش أبوك كملكٍ مكرمٍ. لقد أكل وشرب حسنًا، لكن هدفه هو الالتزام بمسئولياته الملوكية من تحقيق العدالة والبر في حياته وحياة شعبه. لم يكن ناسكًا، لكنه لم يكن نهمًا ومحبًا للملذات... لم يشغله أكله وشربه، وإن كان الله لم يحرمه من شيء. "أسلك كما يليق بك كملكٍ"، أو "حاول أن تكون ملكًا"، لا بالكبرياء والتشامخ حاسبًا نفسك كأرز لبنان المتشامخ، وإنما مقتديًا بأبيك الذي كانت له معرفة بالله بإجرائه العدل والبر، وقضائه للفقير والمسكين، فيكون لك الخير. لا تكن كالزانية التي تتزين بالمساحيق لتبدو عيناها واسعتان، وإنما بزينة العدل والبر والرحمة]. ماذا يعني بقوله: "أما أكل أبوك وشرب؟" إنه عاش في حياة بسيطة يأكل ويشرب، لا للذة والانغماس في الشهوات وإنما ليعيش كي يجري حقًا وعدلًا وسط الشعب، خاصة بين المظلومين، فصارت كل الأمور تسير حسنًا، أو "كان له خير". أما الربط بين عينيه وقلبه في قوله: "لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الذكي لتسفكه" [17]، إنما يعني أن سلوكه الخارجي يأتي متناغمًا مع شهوة قلبه الداخلية نحو ممارسة الظلم والقتل والطغيان. ففي أيامه قُتل النبي أوريّا (إر 26: 20-23). بأمانة كاملة تحدث إرميا النبي عن نهاية الملك يهوياقيم، قائلًا: "لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: لا يندبونه قائلين: آه يا أخي، أو آه يا أخت. لا يندبونه قائلين: آه يا سيد، أو آه يا جلالهُ. يُدفن دفن حمارٍ، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم" [18-19]. سبق فقال عنه "ويل لهذا الرجل" راجع [13]... وعلامة الويل الخارجية أنه بنَى قصرًا فخمًا بمال الظلم، ولم يجد جثمانه قبرًا يُدفن فيه، ولا من يبكيه. فكما لم يسمع لدموع المظلومين والمحتاجين، لا يجد من يسكب دمعة واحدة عليه. ليس من يندب قائلًا: "آه يا أخي، أو آه يا أخت؛ آه يا سيد أو آه يا جلالهُ." ماذا يعني بهذه الأسماء الأربعة (الأخ، الأخت، السيد، الجلالة)؟ أولًا: يرى البعض أن العبارة الأولى تصدر عن الحاضرين في الجنازة، ليس منهم من يقول للذين حوله: آه يا أخي، أو آه يا أختي، لأنه لا يشعر الرجال ولا النساء بالحزن على موت الملك. أما العبارة الثانية فيوجهها المشتركون في الجنازة نحو الميت، ليس منهم من يندب الملك كسيد أو صاحب جلاله. ثانيًا: يرى البعض أن العبارة الثانية تعني بالسيد الأب، وبالجلالة الأم أو السيدة. وقد وجدت في بعض النقوش الفينيقية عن الملك Azitawadda العبارة: [جعلني البعل أبًا وأمً]. وكأن الملك في اللغة التقليدية يتمم كل دور الأسرة كأبٍ وأمٍ وأخٍ وأختٍ. هنا لا يندب الحاضرون الملك لأنه لم يحقق شيئًا في حياته. لم يقم بدور الأخ أو الأخت أو الأب أو الأم. يُدفن دفن حمار، لا توجد له مقبرة لدفنه، بل يُسحب جثمانه إلى موضع القمامة خارج أبواب المدينة. يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس بأن نبوخذنصر قتله في أورشليم وترك جثمانه بلا دفن بعيدًا خارج أبواب المدينة. كيف يمكن التوافق بين ما ورد هنا عن موت يهوياقيم وعدم دفنه، وبين ما ورد في (2 مل 24: 6)، أنه رقد مع آبائه، مما يُشتم منه أنه قد دفن في مقبرة آبائه. يرى البعض أن ما ورد في (2 مل 24: 6) لا يعني بها دفنه إنما هي عبارة مستخدمة للتعبير عن الموت أيَّا كانت ظروفه. ويرى آخرون أن عبارة إرميا "يُدفن دفن حمار، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم" [18-19] تعبير مجازي عن حال الملك، فإنه وإن كان قد دفن رسميًا، لكنه كان في عيني شعبه كحمارٍ ميتٍ لا يستحق إلا إلقائه خارج أسوار المدينة. هذه هي مشاعر شعبه من نحوه في لحظات موته ودفنه! 5. ثمرة العصيان: 20 «اِصْعَدِي عَلَى لُبْنَانَ وَاصْرُخِي، وَفِي بَاشَانَ أَطْلِقِي صَوْتَكِ، وَاصْرُخِي مِنْ عَبَارِيمَ، لأَنَّهُ قَدْ سُحِقَ كُلُّ مُحِبِّيكِ. 21 تَكَلَّمْتُ إِلَيْكِ فِي رَاحَتِكِ. قُلْتِ: لاَ أَسْمَعُ. هذَا طَرِيقُكِ مُنْذُ صِبَاكِ، أَنَّكِ لاَ تَسْمَعِينَ لِصَوْتِي. 22 كُلُّ رُعَاتِكِ تَرْعَاهُمُ الرِّيحُ، وَمُحِبُّوكِ يَذْهَبُونَ إِلَى السَّبْيِ. فَحِينَئِذٍ تَخْزَيْنَ وَتَخْجَلِينَ لأَجْلِ كُلِّ شَرِّكِ. 23 أَيَّتُهَا السَّاكِنَةُ فِي لُبْنَانَ الْمُعَشِّشَةُ فِي الأَرْزِ، كَمْ يُشْفِقُ عَلَيْكِ عِنْدَ إِتْيَانِ الْمُخَاضِ عَلَيْكِ، الْوَجَعِ كَوَالِدَةٍ! بعد أن تحدث عن الملك يهوياقيم الشرير ومصيره، يوجه هنا خطابًا لأورشليم العاصية عاصمة مملكته، موضحًا ثمرة هذا العصيان الذي نشأت عليه منذ صباها: اصعدي على لبنان واصرخي، وفي باشان أطلقي صوتك، واصرخي من عباريم، لأنه قد سُحق كل محبيكِ. تكلمت إليه في راحتك. قلتِ: لا أسمع. هذا طريقك منذ صباك أنكِ لا تسمعين لصوتي" [20-21]. الأماكن المذكورة هنا من لبنان وباشان وعباريم هي مرتفعات حول أورشليم، يُسمع منها الصوت جليًّا من بعيد حتى يعم الخبر. لبنان في شمال أورشليم، وباشان في الشمال الشرقي منها، وعباريم في موآب في الجنوب الشرقي. ذُكرت عباريم في (عد 27: 12، تث 22: 49) كمكان استطاع منه موسى النبي أن يتطلع إلى أرض الموعد من بعيد ففرح وتتهلل، أما هنا فيطلب إرميا النبي منهم أن يصعدوا لينوحوا ويبكوا، كما سبق فصعدت ابنة يفتاح على الجبال ترثى حالها (قض 11: 37-38). ماذا يعني بالمحبين الذين سُحقوا؟ ربما يقصد الأمم المحيطة بهم المتحالفة معهم، وأيضًا مصر فإنها عوض مساندتهم تنسحق هي وتتحطم. وقد تكررت كلمة "المحبين" في (هو 2) خمس مرات، وربما قُصد بها آلهة الخصوبة التي زنت معها إسرائيل والتي توقعت أن تحميها وتحفظها وتهبها اثمارًا ونموًا. بعد هزيمة مصر في موقعة كركميش عام 605 ق.م. (إر 46: 2-12) استولى نبوخذنصر على كثير من الدول في المنطقة. بقوله: "هذا طريقك منذ صباكِ أنكِ لا تسمعين لصوتي" [21] يعني أن حركة العصيان لم تحدث فجأة في أورشليم، لكنها صارت أشبه بطبيعتها الملازمة لها منذ صباها. وقد أعطاها الرب فرصًا كثيرة للتوبة والرجوع إليه حتى امتلأ كأس شرها، لذا استخدم معها التأديب القاسي. إنه طويل الأناة جدًا، لكن إصرار الشعب على العصيان عبر الأزمنة بلا تغيير يستوجب التأديب الإلهي. لقد سبق فطلب منها أن تصعد على الجبال مع ابنة يفتاح تبكي عذراويتها وتنتحب مع صديقاتها، لكن شتان ما بينها وبين ابنة يفتاح. الأخيرة خرجت صديقاتها معها إلى الجبال للتعزية وإن كُنَّ لم يستطعن أن ينقذن حياتها من الموت. أما يهوذا فعوض خروج أصدقائها معها إلى الجبل أُخذن إلى السبي في خزي وعارٍ معها! "كل رعاتك ترعاهم الريح، ومحبوكِ يذهبون إلى السبي، فحينئذٍ تخزين وتخجلين لأجل كل شركِ" [22]. ربما قصد ب "رعاتك" ملوك يهوذا ورجالهم الذين كان يجب أن يرعوا الشعب، فصاروا في حاجة إلى رعاية من الخارج. لقد سقطوا تحت السبي عام 597 ق.م. (2 مل 24: 22-15)، فصارت أورشليم في خزي وعارٍ بلا رعاية، يرعاها الريح الباطل. لعله أيضًا يقصد بالرعاة هنا أولئك الذين كانت تظنهم رعاة لها، سواء ملوك الأمم المتحالفة معهم أو آلهتهم، فإنهم هم أنفسهم يحتاجون إلى رعاة، وقد صارت الريح هي راعية لهم، لا تقدم لهم إلا رياحًا مهلكة! إنها رياح شرقية تبدد الشعب (إر 18: 17). باتكالها على ملوك الأمم وآلهتهم قبلت الرياح المحطمة عوض روح الله القدوس الواهب الحياة والنصرة والنجاح، يهب على النفس فيحولها إلى مقدسٍ سماويٍ لا تستطيع كل قوات الظلمة أن تفسده. هكذا دفعها شرها إلى الاتكال على الذراع البشري والآلهة الكاذبة فتحطمت معهم! "أيتها الساكنة (المتربعة) في لبنان، المعشِّشَة في الأرز، كم يُشفق عليكِ عند إتيان المخاض عليك، الوجع كوالدة" [23]. يُقصد بالمتربعة في لبنان كما على عرش الذين يفتخرون بعلوِّهم المنيع، أو الذين يسكنون في قصورٍ فاخرةٍ مصنوعة من خشب الأرز اللبناني، أي يقصد المتعجرفين المتكبرين. فالاتهام الموجه ضد أورشليم هو أنها ألَّهت ذاتها، وحسبت نفسها فوق القانون. ظنت أن عشَّها على قمم جبال الأرز لا يقدر أحد أن يمسها بضرر. في شيء من السخرية يقول لها: "كم يُشفق عليكِ عند إتيان المخاض عليك، الوجع كوالدة؟!" بعد أن صار الريح هو راعيها، والسبي هو مسكن محبيها، فقدت عرشها وانحدر عشها من قمة الأرز، وصارت كامرأة في حالة ولادة، ليس من يشفق عليها، ولا من يعينها وسط آلامها! 6. تحطيم يهوياكين: 24 حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَوْ كَانَ كُنْيَاهُو بْنُ يَهُويَاقِيمَ مَلِكُ يَهُوذَا خَاتِمًا عَلَى يَدِي الْيُمْنَى فَإِنِّي مِنْ هُنَاكَ أَنْزِعُكَ، 25 وَأُسَلِّمُكَ لِيَدِ طَالِبِي نَفْسِكَ، وَلِيَدِ الَّذِينَ تَخَافُ مِنْهُمْ، وَلِيَدِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، وَلِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ. 26 وَأَطْرَحُكَ وَأُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى لَمْ تُولَدَا فِيهَا، وَهُنَاكَ تَمُوتَانِ. 27 أَمَّا الأَرْضُ الَّتِي يَشْتَاقَانِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، فَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَيْهَا. 28 هَلْ هذَا الرَّجُلُ كُنْيَاهُو وِعَاءُ خَزَفٍ مُهَانٍ مَكْسُورٍ، أَوْ إِنَاءٌ لَيْسَتْ فِيهِ مَسَرَّةٌ؟ لِمَاذَا طُرِحَ هُوَ وَنَسْلُهُ وَأُلْقُوا إِلَى أَرْضٍ لَمْ يَعْرِفُوهَا؟ 29 يَا أَرْضُ، يَا أَرْضُ، يَا أَرْضُ اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ! 30 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: اكْتُبُوا هذَا الرَّجُلَ عَقِيمًا، رَجُلًا لاَ يَنْجَحُ فِي أَيَّامِهِ، لأَنَّهُ لاَ يَنْجَحُ مِنْ نَسْلِهِ أَحَدٌ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَحَاكِمًا بَعْدُ فِي يَهُوذَا. "حيّ أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتمًا على يدي اليمنى فإني من هناك أنزعك" [24]. بدأ الحديث عنه بقسم من جانب الله لتأكيد تأديبه يهوياكين لإصراره على الشر: "حيّ أنا يقول الرب". كان يهوياكين مثل أبيه يهوياقيم شريرًا (2 مل 24: 8-17)، خلفه في الملك، وكان في بلده أورشليم. كان يمكن بالبر أن يعيش آمنًا كخاتمٍ ثمينٍ في يد الله، لا يقرب إليه أحد، لكنه بسبب شره انتزعه الله بعد ثلاثة شهور من ملكه وهو بعد في الثامنة عشر من عمره مع أهل بيته، وسبي عام 597 ق.م. إلى بابل، ليعيش غريبًا مسبيًا في حالة رعبٍ! حُرم الملك من وطنه ومن شعبه، فصار في مذلة داخلية مهما قُدم له من كرامة أو إمكانيات. جاء في سفر الملوك (2 مل 24، 25) عن يهوياكين أنه قد رُفع شأنه في بابل في أواخر حياته، لكنه بقى مسبيًا ولم يرجع إلى وطنه. ومع أنه كان له عدة أبناء (1 أي 3: 17)، فإن أحدًا منهم لم يجلس على عرش إسرائيل، لذلك حُسب عقيمًا. جاءت الكلمة العبرية المقابلة للختم لتعني إما ختمًا على شكل طوقٍ يُوضع حول العنق، أو كجزءٍ من خاتم في اليد، هنا اُستخدمت بالمعنى الثاني. يحمل الختم توقيع صاحبه، لذا يمثل حضرته. جاء في سفر النشيد (نش 8: 6) ليعني اتحادًا مملوء حبًا وعاطفة، وفي حجي (حج 2: 23) يشير إلى العظمة والقدرة حيث جعل الله زربابل ختمًا في يده. يدعوه إرميا النبي كنياهو وهو اختصار اسمه يهوياكين. ينتزع الله يهوياكين من يده ليضعه في يد العدو، إذ يقول: "وأسلمك إلى يد طالبي نفسك، وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذراصر ملك بابل وليد الكلدانيين. وأطرحك وأمك التي ولدتك إلى أرض أخرى لم تُولدا فيها، وهناك تموتان. أما الأرض التي يشتاقان إلى الرجوع إليها فلا يرجعان إليها" [25-27]. عوض أن يكون مكانه في يد الله حيث الحرية والمجد، يصير موضعه هو وأمه في السبي حيث العبودية والذل. لقد سُبيت نحوشتا بنت ألناثان (2 مل 24: 8، 15) مع ابنها الملك يهوياكين إلى بابل. فقد الملك عرشه، وأُلقي في أرض السبي كما في موضع القمامة خارج أبواب أورشليم، وصار كبواقي إناء خزفي مكسور لا قيمة له. لقد نادى الأنبياء الكذبةبأنه يرجع من السبي وذلك لكي يعطوا رجاءً لرجال الدولة والشعب ويسرونهم، فكان كثيرون يعتبرونه الملك الرسمي بالرغم من سبيه، لكن إرميا النبي في جرأة نطق بما تكلم به الرب. "هل هذا الرجل كنياهو وعاء خزفٍ مهانٍ مكسورٍ؟! أو إناء ليست فيه مسرة؟! لماذا طُرح هو ونسله وأُلقوا إلى أرضٍ لم يعرفوها؟! يا أرض، يا أرض، يا أرض، اسمعي كلمة الرب. هكذا قال الرب: اكتبوا هذا الرجل عقيمًا، رجلًا لا ينجح في أيامه، لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسًا على كرسي داود وحاكمًا بعد في يهوذا" [28-30]. لم يُطرد الملك وأمه إلى السبي فحسب، وإنما أُلقى كإناءٍ خزفي مُحتقر ينكسر، ليس من يبالي به، أو يهتم بإصلاحه، "ليس فيه مسرة". وكما جاء في هوشع: "الآن صاروا بين الأمم كإناءٍ لا مسرة فيه" (هو 8: 8). ربما شبهه بالإناء الخزفي المكسور، لأنه كاد أن يؤلهه الشعب ، فها هو قد صار كتمثالٍ خزفي مكسور، ليس فقط لا يستحق العبادة، بل يلزم الخلاص منه بإلقائه في وسط القمامة. بعد أن كان كخاتمٍ في يد الله، له تقديره الثمين في عيني الله وأمام السماء والأرض، صار ملقيًا كإناءٍ مكسورٍ ليس من يُسر به. وقد قيل عن مقاومي السيد المسيح: "تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزاف تكسرهم" (مز 2: 9)... هوذا الله المخلص يحطم بقضيب من حديد ذاك الملك المقاوم له. إن كان كنياهو قد صار وعاءً خزفيًا مهانًا مكسورًا ليست فيه مسرة، فلأنه التصق بالأرض فصار أرضًا، أما الذي يلتصق بالسماء فيصير سماءً. يرى القديس أمبروسيوس البشرية كلها كأوانٍ خزفية، لكن بعضها يتقبل الكنز السماوي، السيد المسيح نفسه، في داخله فيُنسب للسماء. * جميعنا أوان خزفية. إن كان أحدنا ملكًا فهو إناء خزفي، أو كان رسولًا فهو إناء. لهذا يقول بولس: "لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية" (2 كو 4: 7)... تكتِبْ الأرض (أسماء) الذين هم أبناء الأرض عليها في الأسفل. لهذا عندما اتهم اليهود الزانية كتب الرب يسوع بإصبعه على الأرض (يو 8: 6، 8)؛ أما الأبرار فلا يُكتبون على الأرض في الأسفل بل نقرأ عنهم. "افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات" (لو 10: 20). القديس أمبروسيوس إنه يُشهد الأرض ثلاث مرات أن تسمع وتصغي لحكم الله على الملك الذي لا يسمع لصوت إلهه، كيف أنه وإن أنجب أطفالًا (1 أي 3: 19) يُحسب عقيمًا، حيث لا ينجح أحد منهم في استرداد المُلك. ِبشره لم يسترح في حياته ولا من خلال نسله!* الذي وهو في حالة جهالة خاطئ "هو أرض ورماد"، أما الذي في حالة معرفة فإنه إذ يتشبه بالله قدر المستطاع فهو روحي ومختار. أما كون الكتاب المقدس يدعو الذين بلا حس وعصاة أرضًا فواضح بواسطة إرميا النبي الذي يقول عن يهوياقيم وإخوته: "يا أرض، يا أرض، ، يا أرض، اسمعي كلمة الرب. اكتب هذا الرجل كرجل محروم" [29-30]. القديس إكليمنضس الإسكندري من وحي إرميا 22ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني! * أصرخ إليك يا ملك الملوك: ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني! أرسلت إرميا إلى بيت الملك، يوبخ أبناء يوشيا: يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين، أبناء الملك البار ملوك طغاة، حطموا حياتهم، وأفسدوا المملكة، وأضاعوا كرسي داود! * وبخ إرميا الملك وعبيده وشعبه. ها أنا أعترف لك، إنني كملك روحي قد فسدت، أفسدت مواهبي وحولتها إلى عبيدٍ أشرار! دنست طاقاتي وحولتها إلى شعبٍ خائنٍ لإلهه! من يجدد حياتي وطبيعتي ومواهبي غيرك؟! * ظننت في نفسي كيهوآحاز، مرتفع كجبال جلعاد وقمم لبنان، ليس من يقدر أن يصعد إليّ ويحطمني! لقد قدست تأديباتك لتحولني إلى بريةٍ بلا ساكن! إني مستحق كل تأديب، لكن لا تتركني إلى النهاية! أولادك المقدسون مكرمون حتى في جراحاتهم وموتهم كيوشيا. أما الأشرار فيخزون حتى إن فلحوا ونجحوا! * بنى يهوياقيم لنفسه قصرًا لكن بغير بر. استغل شعبه لبنائه عوض أن يخدمهم. عاش طاغية لا يعرف العدل ولا البر. يبني الأشرار لأنفسهم قصورًا، وعند موتهم لا يجدون من يدفنهم. يطلبون ما لذاتهم، وفي موتهم لا يجدون من يبكونهم! قدسني بروحك القدوس، فيتسع قلبي حبًا وبرًا فيك! أحمل مجد ابنة الملك في داخلي، وفي رحيلي أتهلل متطلعًا إلى الإكليل الأبدي! مات يهوياقيم وُدفن كحمار، هب لي أن أموت مع الأبرار، فتتهلل نفسي بك! * تريدني خاتمًا في يدك أيها القدوس، لا تنتزعني من يدك كما انتزعت يهوياكين، لا تضعني في يد بابل، فأفقد حريتي وكرامتي فيك! ليس ليراحة إلا فيك، احملني إلى حضن أبيك، ارجعني إلى فردوس الحب فلا أعيش غريبًا عن وطني السماوي! ردِّني إلى أبيك، فأصير ملكًا! ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني... انقذني... خلصني... مجدني في الداخل أيها القدوس! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 19 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() في الأصحاح السابق تحدث إرميا النبي عن أبناء الملك يوشيا الأشرار: يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين، وجاء التأديب الإلهي أن يكون الأخير عقيمًا، ليس من نسله من يجلس على كرسي داود ملكًا (إر 22: 30)، وكأن مملكة يهوذا تفقد رعاية الملوك. أما في هذا الأصحاح فإنه يوبخ الرعاة الأنانيين والأنبياء الكذبة وكل القيادات الفاسدة، ليعلن أن الله يتسلم رعاية شعبه بنفسه. إنه لا يترك شعبه، بل يقوم بالعمل الرعوي، مقدمًا بره الإلهي برًا لهم، منطلقًا بهم إلى خروجٍ جديدٍ فائق. نبوات مملوءة رجاءً: في وسط التهديدات القاسية، حيث حان وقت التنفيذ يفتح الله أبواب الرجاء، مقدمًا ثلاث نبوات تحققت قديمًا على مستوى حرفي بتحرير الشعب وعتقه من السبي، وتحققت بصورة فائقة في كنيسة العهد الجديد. هذه النبوات الثلاث هي: أولًا: إن كان الله يبيد الرعاة الأشرار الأنانيين، فإنه لا يترك شعبه بلا راعٍ أو ملك أو قادة، بل يملك بنفسه عليهم، ويتولى شئونهم كراعٍ صالح يبذل ذاته عن شعبه. وخلال رعيته يقيم رعاة حسب قلبه، يعمل بهم وفيهم بروحه القدوس. ثانيًا: إن كان الله يدين الشعب مع القيادات على رجاساتهم، فإنه يقدم بره برًا لهم، يصير الرب نفسه بر شعبه، يسترهم فيه، ويغفر خطاياهم، ويبررهم، مقدسًا إياهم كأبناء له! ثالثًا: إن كان الله قد قدّس بابل لتحطيمهم، وكان ذلك ضروريا لتأديبهم، فإنه يتركهم إلى سنوات حتى يدركوا فشل كل ذراعٍ بشري اتكلوا عليه، ليقوم هو بنفسه بقيادتهم في خروجٍ جديدٍ أعظم من خروجهم من عبودية فرعون! 1. ويل للرعاة الأنانيين: 1 «وَيْلٌ لِلرُّعَاةِ الَّذِينَ يُهْلِكُونَ وَيُبَدِّدُونَ غَنَمَ رَعِيَّتِي، يَقُولُ الرَّبُّ. 2 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الرُّعَاةِ الَّذِينَ يَرْعَوْنَ شَعْبِي: أَنْتُمْ بَدَّدْتُمْ غَنَمِي وَطَرَدْتُمُوهَا وَلَمْ تَتَعَهَّدُوهَا. هأَنَذَا أُعَاقِبُكُمْ عَلَى شَرِّ أَعْمَالِكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. في الأصحاح السابق كشف إرميا، بأمرٍ إلهي، أخطاء ملوك يهوذا التي تتلخص في الآتي: * أنانيتهم على حساب علاقتهم بالله وشعبه. * اهتمامهم بالترف والحياة المدلّلة وسط الظروف القاسية التي عانى منها الشعب. * الكبرياء والتشامخ، كأنهم فوق كل قانون، لا يخضعوا حتى لشريعة الله. * الظلم، إذ كانوا طغاة، لا ينصفون حق الأرملة واليتيم والغريب والمظلوم. * اتكالهم على الذراع البشري، أي على الأمم التي تحالفوا معها، وعلى آلهتهم... لهذا قيل عن يهوياكين الذي أُسر إلى بابل:" (يكون) عقيمًا، رجلًا لا ينجح في أيامه، لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسًا على كرسي داود وحاكمًا بعد في يهوذا" (إر 22: 20). الآن يتحدث بصفة عامة عن القيادات السياسية خاصة في أيام صدقيا الملك التي أفسدت الشعب عوض رعايتهم والاهتمام بهم: "ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي يقول الرب. لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن الرعاة الذين يرعون شعبي: أنتم بددتم غنمي وطردتموها ولم تتعهدوها. هأنذا أعاقبكم على شر أعمالكم يقول الرب" [1-2]. تطلع إرميا النبي إلى الشعب بروح النبوة، ونظرهم يُقادون في مذلة إلى السبي. لقد اشترك الشعب مع الملك ورجاله في الشر، لذلك استحقوا التأديب؛ لكن الله يلقي باللوم أولًا وقبل كل شيء على القيادات التي تحولت من موقف الرعاية إلى التبديد والطرد. سمح الله بالسبي، بل وقدس بابل بكل طاقاتها كآلات في يده لأسر شعبه، وفي نفس الوقت فتح باب الرجاء لشعبه، وأعلن حنوه عليهم، مكررًا التعبير "غنم رعيتي"، "شعبي"، "غنمي". جاءت الكلمة العبرية في قوله: "لم تتعهدوها" paqad، تحمل معني واسعًا، مثل "يتعهد"، "يذهب لينظر"، "يهتم بـ"، "يشتاق إلى"، "يضع في اعتباره"، "يصغي إلى" إلخ. هكذا كان يليق بالرعاة أن تُمتص كل مشاعرهم وأفكارهم وطاقاتهم في شعبهم، فيصغون إليهم، ويهتمون بهم، ويشتاقون إليهم، ويبذلون حياتهم من أجلهم. 2. أنا أرعى غنمي: 3 وَأَنَا أَجْمَعُ بَقِيَّةَ غَنَمِي مِنْ جَمِيعِ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدْتُهَا إِلَيْهَا، وَأَرُدُّهَا إِلَى مَرَابِضِهَا فَتُثْمِرُ وَتَكْثُرُ. 4 وَأُقِيمُ عَلَيْهَا رُعَاةً يَرْعَوْنَهَا فَلاَ تَخَافُ بَعْدُ وَلاَ تَرْتَعِدُ وَلاَ تُفْقَدُ، يَقُولُ الرَّبُّ. الله الذي سمح بالتأديب الحازم لشعبه يلاطف ويتحنن، ويقيم رعاة من عنده يهتمون بهم. "وأنا أجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها، وأردها إلى مرابضها، فتثمر وتكثر. وأقيم عليها رعاة يرعونها، فلا تخاف بعد، ولا ترتعد، ولا تُفقد، يقول الرب" [3-4]. بينما يلقي باللوم على الرعاة الأشرار، خاصة الملوك، بكونهم بددوا غنمه وطردوها [2]، إذا به يقول هنا "الأراضي التي طردتهم إليها" [3]، فمن الذي قام بالطرد: الرعاة الأشرار أم الله؟ لقد سمح الله بطردهم كثمرة طبيعية لشر الرعاة وفسادهم. علة الطرد هم "الرعاة"، والذي قام بالطرد هو الرب كتأديب لازم لخلاصهم. يؤكد الله هنا رعايته لشعبه بنفسه، كما سبق فأعلن جدعون: "لا أتسلط أنا عليكم، ولا يتسلط ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم" (قض 8: 23). وترنم داود النبي متهللًا عندما أدرك رعاية الله له، ولشعبه، إذ قال بلسان الشعب كله: "الرب راعيّ، فلا يعوزني شيء..." (مز 23)، وأكد الرب رعايته لشعبه بنفسه في (حز 34: 1-16؛ ميخا 2: 12؛ إش 40: 11، يو 10: 1-18). خلال هذه الرعاية يتمتع الشعب بالبركات التالية: أولًا: عودة بقية الشعب من الأراضي التي طُردوا إليها. وهنا نلاحظ أمرين: أ. يجمع البقية الباقية من غنمه. ففي كل جيل توجد بقية قليلة أمينة للرب، سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعلٍ (رو 11: 4). هذه البقية يعمل بها ما هو أعظم مما فعله بالشعب كله! الله لا يهمه العدد، لكنه يطلب الخميرة الباقية المقدسة ليخمر بها العالم! جاء وقت لم يكن في العالم كله بقية باقية لحساب الرب سوى إبراهيم وربما معه سارة زوجته، نالا المواعيد، ومن خلالهما تباركت كل الشعوب والأمم. تحدث إرميا النبي عن البقية التي يود الله خلاصها (أصحاحات 24؛ 40-44)، وأيضًا إشعياء النبي (إش 1: 9؛ 37: 4)؛ وميخا (مي 4: 7؛ 7: 18). يقول إشعياء النبي: "لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" (إش 1: 9). وتحدث السيد المسيح عن هذه البقية الصغيرة الأمينة بكونها القطيع الصغير الذي يُسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 1). كما تحدث عنها بكونها الخميرة الصغيرة التي تخمر العجين كله (مت 13: 33؛ لو 13: 21). هذه البقية المختارة التي لأجلها يقصر الله أيام ضد المسيح (مت 24: 22). * أنظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلًا بتراخي الكثيرين. عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله، لأن كثيرين يدعون وقليلين يُنتخبون (مت 20: 16) . القديس يوحنا كاسيان وتحدث معلمنا بولس الرسول عن القلة القليلة من اليهود التي تقبل السيد المسيح في أواخر الأيام (رو 11: 25-32). ب. العودة إلى مرابض الغنم الآمنة من الأراضي التي طردوا إليها، فإنه إذ طُرد آدم وحواء من الفردوس كان الله يُعد لهما فردوسًا أعظم خلال ذبيحة آدم الثاني. تمر علينا لحظات فيها نظن أننا لا نتمتع بالمواعيد الإلهية، وأننا محرومون من كل شيء حتى من المرابض التي وهبنا الله إياها، لكن يبقى الله عاملًا، ليجمعنا معًا من أقاصي المسكونة، فنجد راحة في حضن الآب. ثانيًا: "فتثمر وتكثر": هذا هو مفتاح الأصحاح كله. فقد قُدم هذا الوعد لآدم وحواء في الفردوس، كما قُدم لإبراهيم ويعقوب اللذين من صلبهما جاء شعب الله... ماذا يعني هذا؟ أُعطي هذا الوعد الإلهي لآدم وحواء كثمرة ميثاق حب متبادل بين الله والإنسان، وتأكد الوعد من جديد حين دخل إبراهيم كأب المؤمنين في ميثاق جديد، وهكذا يبقى هذا الوعد ساريًا لكل من يقبل شروط الميثاق. ما قد حدث في أيام إرميا النبي هو أن القيادات السياسية، خاصة الملك، مع القيادات الدينية التي كادت تفقد كيانها الواقعي، وأيضًا الشعب قد كسروا الميثاق، ورفضوا العهد الإلهي، فصار عوض الوعد: "فتثمر وتكثر" الحكم الإلهي بالدمار والخراب. تعلق اليهود في ذلك الحين بآلهة الوثنيين الخاصة بالخصوبة، ظانين أن الارتباط بها يفيض عليهم بالخصوبة بالنسبة للبشر والبهائم وأيضًا النباتات، فإذا بهم يفقدون كل بركة، ويصدر الحكم "(تكون) عقيمًا" (إر 22: 20). الآن من يرد لهم الإثمار والإكثار؟ رعاية الله نفسه، إذ يتقدم السيد المسيح، كلمة الله، بصليبه ليسجل عهدًا جديدًا يوقعه بدمه نائبًا عنا، فيه نُحسب أبناء العهد، لنا روح الطاعة للآب... فننعم بالوعد الإلهي: "فتثمر وتكثر". لقد أثمر القديس بولس البتول باتحاده بالسيد المسيح، فصار له بنون كثيرون، ولدهم في قيوده بالإنجيل (1 كو 4: 15؛ فل 10)، يشاركونه المجد الأبدي والميراث السماوي. ثالثًا: مع تأكيده رعايته الشخصية لغنمه يقول: "وأقيم عليها رعاة يرعونها" [4]. إن كان قد ألقي باللوم على الرعاة الأشرار الذين عوض رعايتهم للشعب بددوهم، فإن الشعب أيضًا هو المسئول. إنهم إذ يسلكون في العصيان بإصرار يرسل الله رعاة حسب قلبهم، فإن رجعوا بالتوبة إليه يرسل لهم رعاة يرعونهم ولا يبددونهم. إنه يوجد تأثير متبادل بين الشعب والرعاة. رابعًا: إذ يستلم الله رعاية شعبه بنفسه، ويعمل أيضًا خلال رعاة يقيمهم للرعاية لا للتبديد، ينتزع عن الشعب الخوف والرعدة ولا يعودوا يُفقدون: "فلا تخاف بعد، ولا ترتعد، ولا تُفقد، يقول الرب" [4]. 3. الرب برنا: 5 «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقًّا وَعَدْلًا فِي الأَرْضِ. 6 فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا، وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيلُ آمِنًا، وَهذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا. إذ وعد بإقامة رعاة من عنده يعلن عن رعايته الشخصية لشعبه التي تحققت بمجيء المسيا، كلمة الله، الراعي الصالح. "ها أيام (بالتأكيد) تأتي يقول الرب، وأُقيم لداود غُصن بر، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلًا في الأرض. في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا، وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الرب برّنا" [5-6]. يتحدث عن الملك الذي طالما ترقبه رجال الله في العهد القديم، المسيا، ابن داود! يتحدث إرميا النبي هنا عن شخص الملك وسماته ودوره واسمه. قوله: "ها أيام تأتي" [5، 7] تعبير شائع لا يعني تحديد زمنٍ معين، إنما هو تعبير يشد الانتباه إلى إعلان له قدسيته وأهميته (إر 7: 32، 9: 25، 31: 31 إلخ). أولًا: يدعوه "غصن بر" [5]. دُعي السيد المسيح غصنًا سبع مرات في العهد القديم وقد قدمت هذه النصوص السيد المسيح كما قدمته الأناجيل الأربعة: * المسيح الملك (إنجيل متى): (إش 11: 1، إر 23: 5، 33: 15). * المسيح الخادم والعبد (إنجيل مرقس): (زك 3: 8) . * المسيح الصديق والإنسان (إنجيل لوقا): (إش 53: 1-2؛ زك 6: 12). * المسيح ابن الله الممجد (إنجيل يوحنا): (إش 4: 2) . دُعي السيد المسيح بالغصن للسببين التاليين: أ. لأن الغصن مرتبط بالأصل، فمع أنه رب داود لكنه من نسله، مرتبط به حسب الجسد. ب. صار بالحقيقة إنسانًا ينمو كالغصن. أُستخدم هذا اللقب "الغصن" في مجتمع قمران ليشير إلى المسيا الملك(477). وقد أُدخل إلى الصلاة اليهودية التي تُدعىEsreh Shemoneh (الثمانية عشر بركة): [ليبرز غصن داود عبدك سريعًا، وليتمجد قرنه بخلاصك]. في سفر إشعياء حُسب السيد المسيح كقضيب وغصن من يسى الذي عاش ومات قليل الشأن، قائلًا: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش 11: 1). والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدًا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقيران للغاية. بينما يتحدث في الأصحاح السابق عن ملوك يهوذا كأشجار لبنان الشامخة، إذا به يتحدث عن السيد المسيح، الملك المخلص، كغصنٍ متواضعٍ، لكنه "غصن بر". أراد باتضاعه أن يسحق الكبرياء محطم البشرية، وكما تقول عنه الكنيسة في جمعة الصلبوت: "أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة". ثانيًا: ملك ليخلص، ملك الرب بالصليب، لا ليسيطر، بل ليهبنا غفرانًا لخطايانا وشركة في الميراث الأبدي. على خلاف ملوك يهوذا في ذلك الحين الذين كانوا يملكون ليبددوا ويهلكوا، إذ يطلبون ما لنفسهم لا ما لشعبهم، فخسروا أنفسهم وشعبهم معًا! بقوله: "يملك ملك (بحكمة)" [5]. يعلن أن المسيا القادم هو ملك حقيقي يملك على القلوب، وليس كصدقيا الذي كان كدُمية يحركها الأنبياء الكذبة. ثالثًا: ينجح ويجري حقًا وعدلًا في الأرض. إذ تصير قلوبنا أرضه المقدسة، يملك عليها ليحقق فيها الحق الإلهي والعدل. ظن ملوك اليهود أنهم ناجحون، لكن إذ أقاموا مملكتهم بغير حقٍ ولا عدلٍ انتهت بالفشل، أما مسيحنا فينجح إذ يقيم مملكته في أعماقنا الداخلية، لا يقدر عدو أن يتسلل إليها. جاءت الكلمة hiskil لتعني "ينجح" أو "يعمل بحكمة"، فملكنا المسيح قدم لنا حكمة الصليب التي رآها اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 1: 2-25). أما نحن المخلصون فنرى في الصليب حكمة الله الفائقة إذ هو "قوة الله" (1 كو 1: 18). رابعًا: يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا. لقد وعدهم الأنبياء الكذبة بالسلام، لكنهم هم أنفسهم فقدوا سلامهم، أما الراعي الجديد، فهو ملك السلام، يدخل بنا إلى مملكته، إسرائيل الجديد، فنجد سلامًا وأمانًا فيه. خامسا: يدعى اسمه: "الرب برنا" Yahweh-sidqenn. أقام البابليون صدقيا ملكًا، لكنه أظهر أنه غير مستحق لهذا الاسم، لأن كلمة صدقيا Sidqi-yahu تعني "بري هو الله". فكان لزامًا أن يُطرد من المُلك ليقوم مكانه ملك جديد، لا يقيمه البابليون، ولا يأتي بذراعٍ بشري، وإنما بخطة إلهية هيأ لها الله عبر الأجيال، خلالها يقدم الملك المسيا بره الإلهي برًا لنا، فنترنم بحق ونحن ننعم برعايته، قائلين: "الرب برنا". نردد مع الرسول بولس: "لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ. وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (1 كو 1: 29-30). خلال رعاية السيد المسيح، كلمة الله، نصير كاللاويين والكهنة، ليس لنا نصيب في أرض الميراث، بل يكون الرب نفسه نصيبنا وميراثنا، ننعم به بكونه الحكمة والبر والسلام والفداء، نحمله فينا، ونختفي فيه. يعلن مجده في أعماقنا ويستر ضعفاتنا بدمه الثمين، فنتبرر في عيني الآب، ونحسب حكماء وأبرارًا وقديسين ومفديين! في جراءة إرميا النبي نرفض صدقيا الذي ملَّكه البابليون علينا، ونقبل صدقيا الجديد الذي أقامه الآب، والذي نزل إلينا بحبه الفائق يحمل ثقل خطايانا ويهبنا بره. لنرفض البر ذاتي (صدقيا القديم) ونحمل بر المسيح (صدقيا الجديد). ويلاحظ في الآيتين [5، 6] يتحدث عن شخص المسيح الملك ورعايته الفائقة دون فصل بينهما، فمن لا يتعرف على شخص المسيا لا ينعم برعايته، ومن لا يقبل رعايته لا يدرك أسرار معرفته. إنه إذ يعلن عن ذاته ويكشف عن شخصه إنما يقدم لنا عملًا رعويًا، نقتنيه فنشبع ولا نعتاز إلى شيء! * كما تفصلنا خطايانا عنه، هكذا يجتذبنا برّنا مقتربين إليه. قيل: "وأنت بعد تتكلم أقول: هأنذا" (انظر إش 58: 9؛ 65: 24). القديس يوحنا الذهبي الفم 4. خروج جديد: 7 لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ يَقُولُونَ بَعْدُ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، 8 بَلْ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَ وَأَتَى بِنَسْلِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ وَمِنْ جَمِيعِ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدْتُهُمْ إِلَيْهَا فَيَسْكُنُونَ فِي أَرْضِهِمْ». "ها أيام تأتي (بالتأكيد) يقول الرب، ولا يقولون بعد حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر، بل حيّ هو الرب الذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طردتهم إليها فيسكنون في أرضهم" [7-8]. بعد أن تحدث عن السيد المسيح كراعٍ يهبنا بره برًا لنا، قدم لنا عمله الخلاصي كخروجٍ جديد، لا من أرض مصر، وإنما من الأراضي التي طردنا إليها لنسكن في أرضنا. هذا الخروج في معناه الحرفي يشير إلى العودة من سبي بابل، وفي معناه الروحي هو رجوع البشرية إلى حضن الآب، موضع الراحة. لقد أكد ذلك بقوله "تأتي بالتأكيد" أو "حيّ هو الرب"، وقد سبق فاستخدم هذا التعبير إيليا وإليشع كنبيين إذ يضيفا تعبير: "الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)؛ كما نطق به سليمان ليصف به نفسه كملك (1 مل 2: 24)، وصدقيا الملك في حديثه مع إرميا بكون الله واهب الحياة (إر 38: 16)، كما نطق به داود النبي ليشهد لله مخلصه الشخصي بأسلوب ليتورجي (2 صم 4: 9؛ 1 مل 1: 29؛ مز 34: 23؛ 71: 23). 5. نبوات ضد الأنبياء الكذبة: 9 فِي الأَنْبِيَاءِ: اِنْسَحَقَ قَلْبِي فِي وَسَطِي. ارْتَخَتْ كُلُّ عِظَامِي. صِرْتُ كَإِنْسَانٍ سَكْرَانَ وَمِثْلَ رَجُل غَلَبَتْهُ الْخَمْرُ، مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ وَمِنْ أَجْلِ كَلاَمِ قُدْسِهِ. 10 لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ مِنَ الْفَاسِقِينَ. لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ اللَّعْنِ نَاحَتِ الأَرْضُ. جَفَّتْ مَرَاعِي الْبَرِّيَّةِ، وَصَارَ سَعْيُهُمْ لِلشَّرِّ، وَجَبَرُوتُهُمْ لِلْبَاطِلِ. 11 «لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالْكَهَنَةَ تَنَجَّسُوا جَمِيعًا، بَلْ فِي بَيْتِي وَجَدْتُ شَرَّهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 12 لِذلِكَ يَكُونُ طَرِيقُهُمْ لَهُمْ كَمَزَالِقَ فِي ظَلاَمٍ دَامِسٍ، فَيُطْرَدُونَ وَيَسْقُطُونَ فِيهَا، لأَنِّي أَجْلِبُ عَلَيْهِمْ شَرًّا سَنَةَ عِقَابِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 13 وَقَدْ رَأَيْتُ فِي أَنْبِيَاءِ السَّامِرَةِ حَمَاقَةً. تَنَبَّأُوا بِالْبَعْلِ وَأَضَلُّوا شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. 14 وَفِي أَنْبِيَاءِ أُورُشَلِيمَ رَأَيْتُ مَا يُقْشَعَرُّ مِنْهُ. يَفْسِقُونَ وَيَسْلُكُونَ بِالْكَذِبِ، وَيُشَدِّدُونَ أَيَادِيَ فَاعِلِي الشَّرِّ حَتَّى لاَ يَرْجِعُوا الْوَاحِدُ عَنْ شَرِّهِ. صَارُوا لِي كُلُّهُمْ كَسَدُومَ، وَسُكَّانُهَا كَعَمُورَةَ. 15 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ: هأَنَذَا أُطْعِمُهُمْ أَفْسَنْتِينًا وَأَسْقِيهِمْ مَاءَ الْعَلْقَمِ، لأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ أَنْبِيَاءِ أُورُشَلِيمَ خَرَجَ نِفَاقٌ فِي كُلِّ الأَرْضِ. 16 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: لاَ تَسْمَعُوا لِكَلاَمِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَكُمْ بَاطِلًا. يَتَكَلَّمُونَ بِرُؤْيَا قَلْبِهِمْ لاَ عَنْ فَمِ الرَّبِّ. 17 قَائِلِينَ قَوْلًا لِمُحْتَقِرِيَّ: قَالَ الرَّبُّ: يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ! وَيَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ يَسِيرُ فِي عِنَادِ قَلْبِهِ: لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ شَرٌّ. 18 لأَنَّهُ مَنْ وَقَفَ فِي مَجْلِسِ الرَّبِّ وَرَأَى وَسَمِعَ كَلِمَتَهُ؟ مَنْ أَصْغَى لِكَلِمَتِهِ وَسَمِعَ؟» 19 هَا زَوْبَعَةُ الرَّبِّ. غَيْظٌ يَخْرُجُ، وَنَوْءٌ هَائِجٌ. عَلَى رُؤُوسِ الأَشْرَارِ يَثُورُ. 20 لاَ يَرْتَدُّ غَضَبُ الرَّبِّ حَتَّى يُجْرِيَ وَيُقِيمَ مَقَاصِدَ قَلْبِهِ. فِي آخِرِ الأَيَّامِ تَفْهَمُونَ فَهْمًا. 21 «لَمْ أُرْسِلِ الأَنْبِيَاءَ بَلْ هُمْ جَرَوْا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ بَلْ هُمْ تَنَبَّأُوا. 22 وَلَوْ وَقَفُوا فِي مَجْلِسِي لأَخْبَرُوا شَعْبِي بِكَلاَمِي وَرَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيءِ وَعَنْ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ. 23 أَلَعَلِّي إِلهٌ مِنْ قَرِيبٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَسْتُ إِلهًا مِنْ بَعِيدٍ. 24 إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 25 قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالَهُ الأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَنَبَّأُوا بِاسْمِي بِالْكَذِبِ قَائِلِينَ: حَلِمْتُ، حَلِمْتُ. 26 حَتَّى مَتَى يُوجَدُ فِي قَلْبِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَنَبِّئِينَ بِالْكَذِبِ؟ بَلْ هُمْ أَنْبِيَاءُ خِدَاعِ قَلْبِهِمِ! 27 الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ أَنْ يُنَسُّوا شَعْبِي اسْمِي بِأَحْلاَمِهِمِ الَّتِي يَقُصُّونَهَا الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا نَسِيَ آبَاؤُهُمُ اسْمِي لأَجْلِ الْبَعْلِ. 28 اَلنَّبِيُّ الَّذِي مَعَهُ حُلْمٌ فَلْيَقُصَّ حُلْمًا، وَالَّذِي مَعَهُ كَلِمَتِي فَلْيَتَكَلَّمْ بِكَلِمَتِي بِالْحَقِّ. مَا لِلتِّبْنِ مَعَ الْحِنْطَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 29 «أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟ 30 لِذلِكَ هأَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَسْرِقُونَ كَلِمَتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. 31 هأَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِسَانَهُمْ وَيَقُولُونَ: قَالَ. 32 هأَنَذَا عَلَى الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ بِأَحْلاَمٍ كَاذِبَةٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَقُصُّونَهَا وَيُضِلُّونَ شَعْبِي بِأَكَاذِيبِهِمْ وَمُفَاخَرَاتِهِمْ وَأَنَا لَمْ أُرْسِلْهُمْ وَلاَ أَمَرْتُهُمْ. فَلَمْ يُفِيدُوا هذَا الشَّعْبَ فَائِدَةً، يَقُولُ الرَّبُّ. 33 «وَإِذَا سَأَلَكَ هذَا الشَّعْبُ أَوْ نَبِيٌّ أَوْ كَاهِنٌ: مَا وَحْيُ الرَّبِّ؟ فَقُلْ لَهُمْ: أَيُّ وَحْيٍ؟ إِنِّي أَرْفُضُكُمْ، هُوَ قَوْلُ الرَّبِّ. 34 فَالنَّبِيُّ أَوِ الْكَاهِنُ أَوِ الشَّعْبُ الَّذِي يَقُولُ: وَحْيُ الرَّبِّ، أُعَاقِبُ ذلِكَ الرَّجُلَ وَبَيْتَهُ. 35 هكَذَا تَقُولُونَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ وَالرَّجُلُ لأَخِيهِ: بِمَاذَا أَجَابَ الرَّبُّ، وَمَاذَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ. 36 أَمَّا وَحْيُ الرَّبِّ فَلاَ تَذْكُرُوهُ بَعْدُ، لأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ إِنْسَانٍ تَكُونُ وَحْيَهُ، إِذْ قَدْ حَرَّفْتُمْ كَلاَمَ الإِلهِ الْحَيِّ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِنَا. 37 هكَذَا تَقُولُ لِلنَّبِيِّ: بِمَاذَا أَجَابَكَ الرَّبُّ، وَمَاذَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ. 38 وَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ: وَحْيُ الرَّبِّ، فَلِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ قَوْلِكُمْ هذِهِ الْكَلِمَةَ: وَحْيُ الرَّبِّ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ قَائِلًا لاَ تَقُولُوا: وَحْيُ الرَّبِّ، 39 لِذلِكَ هأَنَذَا أَنْسَاكُمْ نِسْيَانًا، وَأَرْفُضُكُمْ مِنْ أَمَامِ وَجْهِي، أَنْتُمْ وَالْمَدِينَةَ الَّتِي أَعْطَيْتُكُمْ وَآبَاءَكُمْ إِيَّاهَا. 40 وَأَجْعَلُ عَلَيْكُمْ عَارًا أَبَدِيًّا وَخِزْيًا أَبَدِيًّا لاَ يُنْسَى». بعد أن قدم ثلاث نبوات مملوءة رجاءً من جهة إقامة صدقيا (بر الله) الجديد، حيث يصير الله برنا، فننعم برعاية الله الشخصية في ابنه يسوع المسيح، ينطق بخمس نبوات ضد الأنبياء الكذبة(481)، ربما كُتبت في أوقات مختلفة وُجمعت معًا لأنها تعالج موضوعًا واحدًا. النبوة الأولى 9-12: إدانتهم بسبب زناهم. النبوة الثانية 13-15: إدانتهم لأنهم كذبة. النبوة الثالثة 16-22: ينسبون كلماتهم للرب. النبوة الرابعة 23-32: يتكلون على أحلامهم. النبوة الخامسة 33-40: يطلبون وحيّ الرب بأفواههم لا بقلوبهم. النبوة الأولى [9-12]: إدانتهم بسبب زناهم. 9 فِي الأَنْبِيَاءِ: اِنْسَحَقَ قَلْبِي فِي وَسَطِي. ارْتَخَتْ كُلُّ عِظَامِي. صِرْتُ كَإِنْسَانٍ سَكْرَانَ وَمِثْلَ رَجُل غَلَبَتْهُ الْخَمْرُ، مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ وَمِنْ أَجْلِ كَلاَمِ قُدْسِهِ. 10 لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ مِنَ الْفَاسِقِينَ. لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ اللَّعْنِ نَاحَتِ الأَرْضُ. جَفَّتْ مَرَاعِي الْبَرِّيَّةِ، وَصَارَ سَعْيُهُمْ لِلشَّرِّ، وَجَبَرُوتُهُمْ لِلْبَاطِلِ. 11 «لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالْكَهَنَةَ تَنَجَّسُوا جَمِيعًا، بَلْ فِي بَيْتِي وَجَدْتُ شَرَّهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 12 لِذلِكَ يَكُونُ طَرِيقُهُمْ لَهُمْ كَمَزَالِقَ فِي ظَلاَمٍ دَامِسٍ، فَيُطْرَدُونَ وَيَسْقُطُونَ فِيهَا، لأَنِّي أَجْلِبُ عَلَيْهِمْ شَرًّا سَنَةَ عِقَابِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. لا يطيق الله القدوس الخطية، ولا يقبل الرجاسات، لهذا أعلن لإرميا النبي عن مصير هؤلاء الأنبياء الكذبة بسبب رجاساتهم وفساد حياتهم. تظاهروا في الخارج بالرقة والتقوى، لكنهم في أعماقهم كما في سلوكهم انحنوا للشهوات الدنسة والرجاسات. ارتبطوا بالكهنة ليسند كل منهم الآخر، فدنسوا العبادة في الهيكل الذي امتلأ برجاساتهم. يبدأ إرميا النبي النبوة، قائلًا: "في الأنبياء - انسحق قلبي في وسطي، ارتخت كل عظامي، صرت كإنسان سكران، ومثل رجلٍ غلبته الخمر من أجل الرب، ومن أجل كلام قدسه. لأن الأرض امتلأت من الفاسقين. لأنه من أجل اللعن ناحت الأرض، جفت مراعي البرية، وصار سعيهم للشر، وجبروتهم للباطل" [9-10]. تظاهر الأنبياء الكذبة بالرقة واللطف، فكانوا يقدمون طمأنينة مخادعة للملك ورجاله كما للجيش والشعب، مصورين إرميا كرجلٍ متشائمٍ ومحطمٍ لنفسية الشعب وخائنٍ للوطن... لكن في الواقع كان إرميا يهتز بكل أعماقه وكيانه من أجل شعبه. تطلع إلى الأنبياء الكذبة وبدأ ينطق بنبواته، لا في شماتة، ولا كرجلٍ بلا أحاسيس نحو شعبه ووطنه، وإنما كإنسانٍ يعتصر بكل كيانه من أجلهم. التهب قلبه بنارٍ، هذه التي صارت محصورة في عظامه (إر 4: 19-21؛ 20: 9). سبق أن قلنا أن القلب، كان في نظر اليهود مركز الفكر والإرادة. فانكسار قلبه في وسطه لا يعني مجرد اهتزاز عواطفه الجيّاشة، وإنما دخل كما في ارتباكٍ فكري وبلبلة في التخطيط والإرادة، لا يعرف ماذا يعمل أمام تلك الكارثة العظمى التي حلت على الأمة كلها. أما العظام فتشير إلى الهيكل العام الذي به يقوم كيان الإنسان، فمتى انهارت العظام يكاد يفقد الإنسان وجوده! وكأن الكارثة كادت أن تحطم كيان الشعب كله! إنها كارثة مصيرية بالنسبة للأمة كلها، كما بالنسبة لإرميا، وكما قيل: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي" (مز 22: 14). يرى البعض أن الفعل الذي تُرجم "ارتخت" يعني "يرف" أو "يطير"، وكأن إرميا قد صار كالطير لا يحتمل الاستكانة، بل صار يرف كالطير، طارت عظامه إلى فوق تتطلع إلى الأمة كلها لتدرك حالها في مرارة! هكذا انكسر قلب إرميا، وصارت عظامه ترف، ليس له موضع للراحة أو الاستقرار، "وصار كإنسان سكران ومثل رجل غلبته الخمر" [9]، وقد ارتبط السكر بالرعب والحزن كما في (حز 23: 33). امتلأت الأرض بالفاسقين [10]، إذ صارت عبادة الأوثان خاصة البعل منتشرة على قمم الجبال وفي الوديان وتحت كل شجرة، تلازمها الممارسات الدنسة كطقس ديني لكي تنعم الأرض بالخصوبة، في حيواناتها ومزروعاتها، لكن النتيجة كانت على خلاف ما توقعوا. امتلأت الأرض لعنة، وصارت نائحة، وجفت تمامًا كأنها برية (midbar) بلا ساكن. وصفها الرب هكذا: "لأن أمهم قد زنت... قالت: أذهب وراء محبيَّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربت. لذلك هأنذا أسيج طريقك بالشوك وابني حائطها حتى لا تجد مسالكها؛ فتتبع محبيها ولا تدركهم، وتفتش عليهم ولا تجدهم؛ فتقول: أذهب وأرجع إلى رجُلي الأول، لأنه حينئذ كان خير لي من الآن. وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت، وكثَّرت لها فضة وذهبًا جعلوه لبعلٍ" (هو 2: 5-8). يُقصد باللعنة التعبير عن غضب الله على شعبه المُعلن خلال حالة الجفاف أو الخراب التي تحل بالأرض. وكما يقول إشعياء النبي: "حزنت، ذبلت الأرض... والأرض تدنست تحت سكانها، لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي. لذلك لعنة أكلت الأرض وعُوقب الساكنون فيها... ناح المسطار، ذبلت الكرمة، أنَّ كل مسروري القلوب، بكل فرح الدفوف..." (إش 23: 4-8). لعل هدفه وهو إعلان أن الطبيعة نفسها التي خُلقت من أجل الإنسان قد فسدت بسببه، واحتاجت أن يفرغها الله ليجددها. تشير اللعنة التي حلَّت بالأرض التي جفت إلى جسد الإنسان الذي متى فسدت إرادته تحل اللعنة بجسده، فتتحطم قدراته وإمكانياته وتفسد أحاسيسه ومشاعره، ويصير الجسد أشبه ببرية بلا ساكن! حين نسمع وعد الله لمباركتنا: "أثمروا وأكثروا" نتلمس هذه البركة حتى في جسدنا، حيث تتبارك مواهبنا وقدراتنا، أما إذا حلَّت اللعنة فنفقد هذا الوعد الإلهي. حقًا قد يسعى الأشرار ويجاهدون كما بجبروت وقوة لكن "صار سعيهم للشر وجبروتهم للباطل" [10]. يخرجون من تعبهم فارغي اليدين، أو كما يقول الجامعة "فعرفت أن هذا أيضًا قبض الريح" (جا 1: 17)، "التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا 2: 11). "لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعًا، بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب. لذلك يكون طريقهم لهم كمزالقٍ في ظلامٍ دامسٍ، فيُطردون ويسقطون فيها، لأني أجلب عليهم شرًا سنة عقابهم يقول الرب" [11-12]. جاء الفعل "تنجسوا" يشير إلى مقاومة المقدسات وليس مجرد "عدم التقوى"، لهذا يُستخدم بالنسبة لمرتكبي الزنا غير المخلصين للمقدسات الإلهية، سواء للوصية الإلهية أو بيت الرب أو جسد الإنسان أو زوجته (أو زوجها). يرتبط هذا الاتهام بعبادة البعل، حيث يمارس عابدوا البعل طقوس جنسية للخصوبة كطريق الآمان والإنجاب والصحة. وقد سبق فرأينا لأنه عوض التمتع بالحياة دخلوا إلى الموت، وعوض الآمان صاروا في ارتباك خلال السبي، وعوض الإنجاب تحطموا. لقد قدموا طريق الرجاسات للكهنة الذين صارت لهم كمزالقٍ ينحدرون خلالها إلى ظلمة الفساد، وها هو ذات الطريق يصير كمزالقٍ للأنبياء الكذبة أنفسهم. يُطردون من أمام وجه الرب فينحدرون في طريقهم الذي أقاموه بأنفسهم، ويسقطون في شر أعمالهم. لقد طهر يوشيا الهيكل من العبادة الوثنية أثناء إصلاحاته عام 621 ق.م، لكن عادت الأوثان ورجاساتها بعد موته سنة 609 ق.م، في أيام يهوياقيم ويهوياكين وصدقيا. وقد قدم لنا حزقيال النبي صورة مؤلمة لما حلّ بالهيكل حيث أُقيم تمثال الغيرة في المدخل (حز 8: 5)، وُنقشت تماثيل حيوانات ودبابات على الحائط، وأعطى البعض ظهورهم للهيكل وهم يسجدون للشمس كإله (حز 8). هذه الصورة التي عبر عنها الرب بقوله لحزقيال النبي: "يا ابن آدم، هل رأيت ما هم عاملون؟! الرجاسات العظيمة التي بيت إسرائيل عاملها هنا لإبعادي عن مقدسي، وبعد تعود تنظر رجاسات أعظم" (حز 8: 6)، تكشف لماذا أرتبك فكر إرميا وكادت أن تحطمه نفسيًا وجسديًا. هذه المزالق المظلمة التي سقطت فيها القيادات الدينية في ذلك الحين؛ عوض أن يسندوا كل نفس للالتقاء مع الله، دفعت بهم إلى مملكة الظلمة. في قول الرب: "في بيتي وجدت شرهم" [11] استخدم الفعل بمعنى "اكتشفت" . اكتشف الله كحارسٍ لبيته جريمة فدُهش كيف تجاسر الكهنة والأنبياء على هذا الفعل الشرير في مقدساته التي ائتمنهم عليها. إنها كلمات عتاب مرّة يكررها الله في حديثه مع أولاده هؤلاء الذين نالوا نعمته المجانية وتحولوا إلى هيكله المقدس، ليعودوا فيرتكبوا الرجاسات فيه. إنهم يدنسون لا أجسادهم بل هيكل الرب، لأنها لم تعد ملكًا لهم بل اُشتريت بدمٍ ثمين! ائتمنهم الرب على بيته، كما يأتمننا على أجسادنا بكونها هيكله المقدس، لكي تكون طريقًا مقدسًا للتمتع بملكوت الله، أي ملكوت النور. أما هم فبشرهم صار طريقهم كمزالق في ظلام حيث الهلاك. وكما قيل: "أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام، لا يعلمون ما يعثرون به" (أم 4: 18-19)؛ "ليكن طريقهم ظلامًا وزلقًا وملاك الرب طاردهم" (مز 35: 6). صار طريقهم كالوحل "زلقًا"، عوض ارتفاعه نحو السمويات، ينحدر بالسالكين فيه إلى الوحل فيصير ترابيًا لا سماويًا. هذا هو ما فعلوه بأنفسهم، إذ يسقطون في الطريق الذي صنعوه: "يسقطون فيها" [12]، "الشرير يُطرد بشره" (أم 14: 32). النبوة الثانية [13-15]: إدانتهم لأنهم كذبة. 13 وَقَدْ رَأَيْتُ فِي أَنْبِيَاءِ السَّامِرَةِ حَمَاقَةً. تَنَبَّأُوا بِالْبَعْلِ وَأَضَلُّوا شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. 14 وَفِي أَنْبِيَاءِ أُورُشَلِيمَ رَأَيْتُ مَا يُقْشَعَرُّ مِنْهُ. يَفْسِقُونَ وَيَسْلُكُونَ بِالْكَذِبِ، وَيُشَدِّدُونَ أَيَادِيَ فَاعِلِي الشَّرِّ حَتَّى لاَ يَرْجِعُوا الْوَاحِدُ عَنْ شَرِّهِ. صَارُوا لِي كُلُّهُمْ كَسَدُومَ، وَسُكَّانُهَا كَعَمُورَةَ. 15 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ: هأَنَذَا أُطْعِمُهُمْ أَفْسَنْتِينًا وَأَسْقِيهِمْ مَاءَ الْعَلْقَمِ، لأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ أَنْبِيَاءِ أُورُشَلِيمَ خَرَجَ نِفَاقٌ فِي كُلِّ الأَرْضِ. في الاتهام الأول ظهر الأنبياء الكذبة أنهم متحالفون مع الكهنة في ممارسة الرجاسات فتدنسوا ودنسوا بيت الرب. هنا يظهر الأنبياء، خاصة الذين في أورشليم، أنهم قد تحالفوا مع الملك ورجاله ليبثوا روح الكذب والضلال وسط الشعب، فأساءوا قيادة شعب الله، وحولوهم إلى سدوم وعمورة، يحملون روح النفاق. "وقد رأيت في أنبياء السامرة حماقة. تنبأوا بالبعل وأضلوا شعبي إسرائيل. وفي أنبياء أورشليم رأيت ما يُقشعر منه. يفسقون ويسلكون بالكذب، ويشددون أيادي فاعلي الشر حتى لا يرجع الواحد عن شره. صاروا لي كلهم كسدوم وسكانها كعمورة. لذلك هكذا قال رب الجنود عن الأنبياء: هأنذا أطعمهم أفسنتينًا، وأسقيهم ماء العلقم، لأنه من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق في كل الأرض" [13-15]. يقارن هنا بين أنبياء مملكة الشمال (عاصمتها السامرة) وأنبياء مملكة الجنوب (عاصمتها أورشليم). الأولون جحدوا الإيمان، وأضلوا إسرائيل حيث تنبأوا باسم البعل. إنهم أنبياء كذبة لأنهم انحرفوا بالشعب عن عبادة الله، كاسرين العهد معه. هذا القول تقبله قيادات يهوذا وأيضًا الشعب، لأنهم يتطلعون إلى مملكة الشمال كدولة منشقة. لكن ما فعلته أورشليم ليس بأقل مما فعلته السامرة. إنها لم ترفض عبادة الله الحيّ لكنها خلطت هذه العبادة بالعبادة الوثنية ورجاساتها، فكسرت العهد مع الله، وصار حالها كحال السامرة، بل ربما أشر فالمملكتان لم تسلكا بولاء لله ولعهده، غير أن أنبياء أورشليم دنسوا الهيكل المقدس بزناهم وكذبهم. وهذا أخطر، إذ يقول: "رأيت ما يُقشعر منه" [14]. سقطوا في عبادة البعل مثلهم كمثل السامرة، لكن أضافوا إلى شرهم تدنيسهم للمقدسات الإلهية. هنا يربط بين الرجاسات والكذب، قائلًا: "يفسقون ويسلكون بالكذب" [14]. لأن الكل رفض الله الذي هو "القدوس" و"الحق"، وسلكوا بالكذب. بمعنى آخر لقد أخطأ الأنبياء الكذبة في حياتهم أو سلوكهم إذ مارسوا الفسق وأخطاؤا في تعليمهم فمارسوا الكذب. بهذا صاروا "كلهم" [14] في عيني الله كسدوم؛ يُقصد ب "الكل" أنبياء السامرة وأورشليم، أي الأنبياء الكذبة للمملكتين معًا. بنفس الروح يتحدث حزقيال النبي عن سكان أورشليم، قائلًا: "مخرجك ومولدك من أرض كنعان. أبوكِ أموري، وأمكِ حِثِّية" (حز 16: 3)، كما يقول: "إن سدوم أختك لم تفعل هي ولا بناتها كما فعلتِ أنتِ وبناتك" (حز 16: 48). قدم الأنبياء الكذبة بأفواههم الموت للشعب، لذا يقدم الله لهذه الأفواه السافكة للدماء أو القاتلة للنفوس الافسنتين مأكلًا، وهو نبات مر وسام، وماء العلقم شرابًا [15]. النبوة الثالثة [16-22]: إدانتهم لأنهم ينسبون كلماتهم للرب. 16 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: لاَ تَسْمَعُوا لِكَلاَمِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَكُمْ بَاطِلًا. يَتَكَلَّمُونَ بِرُؤْيَا قَلْبِهِمْ لاَ عَنْ فَمِ الرَّبِّ. 17 قَائِلِينَ قَوْلًا لِمُحْتَقِرِيَّ: قَالَ الرَّبُّ: يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ! وَيَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ يَسِيرُ فِي عِنَادِ قَلْبِهِ: لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ شَرٌّ. 18 لأَنَّهُ مَنْ وَقَفَ فِي مَجْلِسِ الرَّبِّ وَرَأَى وَسَمِعَ كَلِمَتَهُ؟ مَنْ أَصْغَى لِكَلِمَتِهِ وَسَمِعَ؟» 19 هَا زَوْبَعَةُ الرَّبِّ. غَيْظٌ يَخْرُجُ، وَنَوْءٌ هَائِجٌ. عَلَى رُؤُوسِ الأَشْرَارِ يَثُورُ. 20 لاَ يَرْتَدُّ غَضَبُ الرَّبِّ حَتَّى يُجْرِيَ وَيُقِيمَ مَقَاصِدَ قَلْبِهِ. فِي آخِرِ الأَيَّامِ تَفْهَمُونَ فَهْمًا. 21 «لَمْ أُرْسِلِ الأَنْبِيَاءَ بَلْ هُمْ جَرَوْا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ بَلْ هُمْ تَنَبَّأُوا. 22 وَلَوْ وَقَفُوا فِي مَجْلِسِي لأَخْبَرُوا شَعْبِي بِكَلاَمِي وَرَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيءِ وَعَنْ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ. ينطقون لا بإعلان من عند الرب، وإنما بوحي من قلوبهم الكاذبة، وينسبون كذبهم وخداعهم للرب نفسه. لذلك طلب الله من الشعب ألاّ يعطوا أذانًا لهم، ولا يدخلوا حتى في حوارٍ معهم، لئلا يصيروا هم أنفسهم "باطلًا nothingness". "هكذا قال رب الجنود: لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبأون لكم. فإنهم يجعلونكم باطلاَ. يتكلمون برؤيا قلبهم، لا عن فم الرب. قائلين قولًا لمحتقريّ: قال الرب: يكون لكم سلام. ويقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر. لأنه من وقف في مجلس الرب ورأي وسمع كلمته؟! من أصغى لكلمته وسمع؟!" [16-18]. يميز إرميا النبي بين الأنبياء الكذبة والنبي الحقيقي، موضحًا علامات النبي الحقيقي، وهي: أ. يحمل النبي الحقيقي سلام الله الداخلي بينما يُحرم الأنبياء الكذبة منه، وإن كانوا يدعون أنهم يهبونه للآخرين. يقول القديس كبريانوس: [يقدمون سلامًا الآن الذين ليس لهم سلام لأنفسهم. يعدون أنهم يردون المخطئين إلى الكنيسة، وهم أنفسهم رحلوا عنها. يوجد الله الواحد، والمسيح الواحد والكنيسة الواحدة]. ب. بينما ينطق الأنبياء الكذبة برؤى قلوبهم يصير النبي الحقيقي فم الرب. رأينا ان كلمة "قلب" في سفر إرميا تعني "العقل" أو "الإرادة"، فهم ينطقون بما تراه أفكارهم أو ما يريدونه، أما النبي الحقيقي فينطبق عليه القول: "مثل فمي تكون" (إر 15: 19). ج. يقدم الأنبياء الكذبة رجاءً كاذبًا لمحتقري الرب في قلوبهم، الذين يقول عنهم إشعياء النبي: "رذلوا شريعة رب الجنود واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل" (إش 5: 24)، مع أنه قيل: "جميع الذين أهانوني لا يرونها (أرض الموعد)" (عد 14: 23). يتحدثون مع معاندي الرب بكلمة سلام، أما النبي الحقيقي فينطق بالحق ولو كان جارحًا. إنهم "يقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر". لكن الله الفاحص القلوب يدينهم حسب شر قلوبهم وكما يقول القديس كبريانوس:[إنه ينظر إلى الإشياء الخفية والسرية ويتأمل الأمور المختومة، لا شيء يختفي من عيني الرب... إنه ينظر قلب كل إنسان وعقله، وسيدين ليس فقط أعمالنا بل وكلماتنا وأفكارنا. أنه يتطلع إلى الأذهان والإرادة ومفاهيم البشر جميعًا، في مخابئ القلب التي لا تزال مغلقة]. د. يتمتع النبي الحقيقي بالحضرة الإلهية: "من وقف في مجلس الرب؟!" [18]. هذه الحضرة العجيبة تتحقق على الأرض وسط شعبه المقدس. ما هو "مجلس الرب؟" يحل الله في وسط كنيسته المقدسة، في مجمع القديسين، فيقيم منها مجلسًا ينسبه إلى نفسه. وكما يقول المرتل: "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1). ه. يتمتع النبي الحقيقي بالاستنارة الروحية، إذ يقول: "ورأى" [18]، يتحدث من خلال رؤيته الروحية وخبرته الواقعية كقول القديس يوحنا الحبيب: "الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1: 1). و. له الأذن المختونة ليسمع ويطيع: "وسمع كلمته، من أصغى لكلمته وسمع؟!" [18]. بينما ينطق الأنبياء الكذبة بالكلمات المعسولة لمحتقري الرب وللعنيدين بقلوبهم. يرى إرميا النبي غضب الله كعاصفة نارية تهب على رؤوس الأشرار. هذا ما سمعه وهو في مجلس الرب، وأن هذه العاصفة لن تهدأ حتى يتحقق التأديب ويقيم الله مقاصد قلبه. عندئذ يفهم الأنبياء الكذبة ذلك، وإن كانوا لا يتراجعون عن شرهم. "ها زوبعة الرب. غيظ يخرج ونوء هائج. على رؤوس الأشرار يثور. لا يرتد غضب الرب حتى يجري ويقيم مقاصد قلبه. في آخر الأيام تفهمون فهمًا. لم أرسل الأنبياء، بل هم جروا. لم أتكلم معهم، بل هم تنبأوا. ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي، وردوهم عن طريقهم الرديء، وعن شر أعمالهم" [19-22]. لا يقصد هنا بقوله "في آخر الأيام" [20] معني أخرويًا (إسخاتولوجيا) وإنما قصد أنه "بعد ذلك"، أو عندما تعبر هذه الأيام ويحل وقت التأديب. مرة ثانية يوضح النبوة الصادقة التي تقوم على إرساله الله نفسه للنبي، وحديثه معه، مع تمتع النبي بالحضرة الإلهية والوقوف أمامه. بمعنى آخر هناك حاجة إلى لقاء صادق مع الله، وقبول إرسالية صادقة، والنطق بكلمات الرب بصدق. يقول الرب: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا" [21]. ماذا يعني بكلمة "جروا"؟ كانوا مسرعين، شغوفين نحو إعلان رسائلهم الخاصة، وذلك كإلحاحهم "حلمت حلمت" [25]. إنهم يعملون بقوة وبسرعة وبلجاجة لكن عملهم باطل، لأنه مملوء كذبًا، لا يدفع إلى التوبة بل إلى التهاون والاستهتار. الأنبياء الكذبة وإن أخذوا صورة الجدية في السرعة في العمل واللجاجة لكن ثمارهم تُظهرهم (مت 7: 16)، لا يدفعون الناس إلى التوبة وتغيير حياتهم. لننتفع نحن منهم فنخجل من تراخينا في الشهادة لمسيحنا وتقديم الحياة الإنجيلية ولكن ليس بروحهم حيث البر الذاتي وعدم التمتع باللقاء مع المخلص والوجود الدائم في حضرته والاختفاء في وصيته! يقول: "في آخر الأيام تفهمون فهمًا" [20] وكما يقول القديس إيريناؤس: [لأن كل نبوة بالنسبة للبشر مملوءة غموضًا. ولكن إذ يحين الوقت، وتتحقق النبوة، تصير واضحة ومكشوفة]. النبوة الرابعة [23-32]: يتكلون على أحلامهم. 23 أَلَعَلِّي إِلهٌ مِنْ قَرِيبٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَسْتُ إِلهًا مِنْ بَعِيدٍ. 24 إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 25 قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالَهُ الأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَنَبَّأُوا بِاسْمِي بِالْكَذِبِ قَائِلِينَ: حَلِمْتُ، حَلِمْتُ. 26 حَتَّى مَتَى يُوجَدُ فِي قَلْبِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَنَبِّئِينَ بِالْكَذِبِ؟ بَلْ هُمْ أَنْبِيَاءُ خِدَاعِ قَلْبِهِمِ! 27 الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ أَنْ يُنَسُّوا شَعْبِي اسْمِي بِأَحْلاَمِهِمِ الَّتِي يَقُصُّونَهَا الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا نَسِيَ آبَاؤُهُمُ اسْمِي لأَجْلِ الْبَعْلِ. 28 اَلنَّبِيُّ الَّذِي مَعَهُ حُلْمٌ فَلْيَقُصَّ حُلْمًا، وَالَّذِي مَعَهُ كَلِمَتِي فَلْيَتَكَلَّمْ بِكَلِمَتِي بِالْحَقِّ. مَا لِلتِّبْنِ مَعَ الْحِنْطَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 29 «أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟ 30 لِذلِكَ هأَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَسْرِقُونَ كَلِمَتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. 31 هأَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِسَانَهُمْ وَيَقُولُونَ: قَالَ. 32 هأَنَذَا عَلَى الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ بِأَحْلاَمٍ كَاذِبَةٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَقُصُّونَهَا وَيُضِلُّونَ شَعْبِي بِأَكَاذِيبِهِمْ وَمُفَاخَرَاتِهِمْ وَأَنَا لَمْ أُرْسِلْهُمْ وَلاَ أَمَرْتُهُمْ. فَلَمْ يُفِيدُوا هذَا الشَّعْبَ فَائِدَةً، يَقُولُ الرَّبُّ. يحاول الأنبياء الكذبة أن ينسبوا أنفسهم لله بكل الطرق، منها أنهم يتحدثون عن احلامٍ يدعون أنها من قبل الله. لا يعني إرميا النبي هنا "الأحلام" بمعناها الحرفي، إنما كتعبير مجازي، إذ يخدعون الناس بادعاءات وهمية أشبه بالأحلام غير الواقعية التي يقدمونها ويعطون لها تفاسير من عندياتهم، حاسبين هذه الأحلام انها كلمة الرب، وهي بعيدة كل البعد عنها. أحيانًا يستخدم الله الأحلام لتقديم رسالة إلهية كما حدث مع يوسف الشاب وهو في بيت أبيه، وأيضًا عندما فسّر الحلمين في السجن لرئيس السقاة ورئيس الخبازين، وأخيرًا فسّر أحلام فرعون. دانيال النبي أيضًا فسّر أحلام بعض الملوك، لكن بصفة عامة يتحدث الله مع شعبه خلال رجاله، خاصة الأنبياء، وليس خلال الأحلام. بدأ الحديث بتوبيخ الأنبياء الكذبة الذين يدعون أن الله يتحدث معهم بالأحلام، معلنًا أن الله الساكن في الأعالي يتطلع إليهم ويدرك كذبهم. "ألعَلِّي إله من قريب يقول الرب، ولست إلهًا من بعيدٍ؟! إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة، أفما أراه أنا يقول الرب؟! أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب؟!" [23-24]. لعلَّه بهذا يوبخهم لأنهم يحسبون الله كالبعل، محدود في حجمه وفي موضع سكناه، غير قادرٍ على إدراك ما يحل بالأماكن المستترة. يسكن الله في السماء في الأعالي، وكأن الأرض كلها صغيرة بالنسبة له، يراها بكل خطاياها، ولا يقدر أحد ما أن يختفي عنه. وفي نفس الوقت يملأ السماء والأرض، أينما هرب إنسان يجد الله حاضرًا... فهو بعيد ومنزه عن كل الخليقة، وقريب جدًا وملاصق لها. بمعنى آخر يقول: الله منزه عن كل التصرفات التي يمارسها الكذبة، هو في الأعالي يعرف ويرى كل شيء، وهو قريب يود أن يلتقي الكل به! يؤكد النبي أن الله عالٍ عن الأرض، بعيد كل البعد عن أفكارهم الأرضية الترابية، هو يدرك كل أسرارهم، أما هم فلا يدركونه. ليتخلوا عن التراب الذي التصقوا به، فيرفعهم بروحه إلى سمواته، ويكشف لهم إرادته، بهذا تُنتزع عنهم صفة "الكذب". أخيرًا جاءت هذه العبارات متناغمة مع كلمات المرتل: "يا رب قد اختبرتني وعرفتني... كل طرقي عرفت، لأنه ليس كلمة في لساني إلاَّ وأنت يا رب عرفتها كلها... أين أذهب من روحك؟! ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت..." (مز 139). الله بعيد عن الأشرار، قريب من المتواضعين الذين يطلبونه من كل قلوبهم. * لو كان من جهة المكان هو بعيد عنا، لكنت تشك حقًا، لكنه إن كان حاضرًا في كل موضع لذاك الذي يجاهد، وقريب للغيور، فإنه يقول مع النبي: "لا أخاف شرًا لأنك معي"(مز 23: 4) . * ليتنا لا نستمر في الشر، ولا نيأس من المصالحة، بل لنقل نحن أنفسنا: "أقوم وأذهب إلى أبي"، ولنقترب إلى الله. فإنه هو نفسه لن يبعد عنا، وإنما نحن الذين نبتعد عنه. نقرأ: "أنا هو الله من قريب ولست إلهًا من بعيد" . مرة أخرى ينتهرهم على لسان النبي: "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبيني" (راجع إش 59: 2) . القديس يوحنا الذهبي الفم * لأن قوة الله حاضرة دائمًا، متصلة بنا، تعمل للفحص والنفع والتعليم. القديس إكليمنضس الإسكندري * إنه في كل موضع هذا الذي لا يحده مكان. لا تتركه، فيكون معك. إن أردت أن تأتي إليه فلا تتباطأ... فإنه يأتي إليك وأنت في مكانك، إن كنت تؤمن وتحب! القديس أوغسطينوس * مخيف هو ملئه للمسكونة، فلا يوجد موضع يهرب من عمل الله حتى بالطيران إلى السماء، أو بدخول الهاوية، أو بالهروب إلى أقصى الشرق، أو الإغلاق على أنفسنا في الأعماق ونهايات البحر. القديس غريغوريوس النزينزي * الإنسان الذي ينتفع بالصلاة يصير مستعدًا أن يختلط بروح الرب الذي يملأ العالم كله، والذي يملأ الأرض كلها والسماء، القائل بالنبي: "أما أملأ أنا السموات والأرض؟ يقول الرب" (إر 23: 24). العلامة أوريجينوس * إننا لا نأتي إليه جميعنا بنفس الطريق، بل يأتي كل واحدٍ حسب قدرته (مت 25: 25). إما نأتي إليه مع الجماهير فينعشنا بالأمثال لهذا الهدف وحده: لئلا نخور في الطريق (مت 15: 32؛ مر 8: 3) من الأصوام الكثيرة. أو أننا نجلس دومًا بلا انقطاع عند قدميه، متحررين لأجل هذا وحده: لكي نسمع كلمته دون أن نرتبك قط بالخدمات الكثيرة، بل نختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع عنا (لو 10: 39-42). بالتأكيد الذين يقتربون إليه هكذا ينالون من نوره أكثر. العلامة أوريجينوس يتساءل العلامة أوريجينوس أين رحلت رفقة لتطلب الرب (تك 25: 24)،ما دام الرب في كل موضع (إر 23: 24)؟ * أظن أنها لم ترحل من موضع إلى آخر، بل عبرت من حياة إلى حياة أخرى، من عملٍ إلى عملٍ، ومما هو صالح إلى ما هو أفضل. إنها انطلقت من الأشياء المفيدة إلى ما هي أكثر فائدة، وأسرعت مما هو مقدس إلى ما هو أكثر قداسة. العلامة أوريجينوس يكمل حديثه كاشفًا كذب هؤلاء الأنبياء: "قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: حلمت حلمت. حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب؟! بل هم أنبياء خِداع قلبهم. الذين يفكرون أن يُنسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه، كما نسيَ آباؤهم اسمي لأجل البعل" [25-27]. يهاجم هنا ما يدعيه الأنبياء من رؤيتهم أحلامًا يفسرونها على أنها رسائل سماوية للأسباب: أولًا: كذبهم، إذ يقول كل منهم: "حلمت. حلمت"، ويتنبأون خلالها كذبًا. ثانيًا: ينسبون ما يتنبأون به للرب، وهذا أخطر، لأنهم ليس فقط يكذبون، لكنهم يتسترون تحت اسم الله وهم يكذبون. ثالثًا: شغل موضوع الأحلام أفكار الشعب حتى نسوا الله ووصاياه. نسى آباؤهم الله خلال عبادتهم البعل، أما هؤلاء فنسوا الله خلال انشغالهم بالأحلام، لا همّ لكل شخص إلا أن يروي أحلامًا أو يشتهي أن يسمع عن أحلام إخوته. بماذا يقيِّم إرميا النبي هذه الأحلام؟ يقارن الأحلام بكلمة الله، كالتبن بجانب الحنطة، يلزم فرز هذه عن تلك. "النبي الذي معه حُلم، فليقص حُلمًا، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق. ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟! أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب؟! وكمطرقة تحطم الصخر. لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يسرقون كلمتي من بعضهم البعض" [28-30]. أحلام الأنبياء الكذبة كالقش يجب فرزها من كلام الرب، أي من الحنطة. ليس للأحلام فاعلية، أما كلمة الرب فكنارٍ تحرق الشر في القلب، وتلهبه بنار الحب الإلهي، وكمطرقة تحطم القلب الحجري لتجعله قلبًا لحميًا. بمعنى آخر كلمة الرب هي طعام (حنطة)، يشبع النفس، كما يغير طبيعتها، تنقيها كما بنارٍ، وتحطم كل فسادٍ فيها. بقوله: "ما للتبن مع الحنطة؟!" [28] يؤكد ضعف الأحلام في مواجهتها أو مقاومتها لكلمة الرب. إنها تشبه تبنًا أو عصافة لا تقف أمام ريح غضب الله. إنها تحترق أمام كلمة الله النارية وتتحطم بمطرقتها. يكشف إرميا عن جانب آخر خطير في حياة بعض الأنبياء الكذبة؛ أنهم أحيانًا لا ينطقون بكلمات كاذبة، ولا يدّعون أنهم يروا أحلامًا، إنما يسرقون كلمة الرب من بعضهم البعض [30]. يشير التبن إلى الأشرار والحنطة إلى أولًاد الله. وكما يقول القديس جيروم: [إن كان إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء والرسل لم يكونوا بلا خطية، وأن كان أفضل أنواع الحنطة به تبن ممتزج به، فماذا يُقال عنا نحن الذي كُتب عنا: "ما هو التبن للقمح يقول الرب؟" (إر 23: 28) ومع ذلك فالتبن يُحفظ للحرق المقبل، كما أن الحنطة في الوقت الحاضر ممتزجة مع القمح في نموها...]. ماذا يعني بسرقة كلمة الرب؟ إننا ننطق بكلمة الرب كأننا قد اختبرناها دون أن نسمع لها أو نمارسها في حياتنا، إنما نسرقها من أفواه الآخرين أو كتاباتهم. لهذا يليق بنا لكي لا نُحسب لصوص الكلمة أن نمارس ما ننطق به، أو نجاهد بإخلاص في ممارستنا إياها. ربما يقصد بسرقة كلمة الرب أن بعض الأنبياء الكذبة أرادوا أن ينطقوا بكلمة الرب، لكن فساد قلوبهم وسلوكهم دفعهم إلى تحريف الكلمة حسب أهوائهم الداخلية. ولعله أراد توضيح أن الأنبياء الكذبة غير أمناء ولا مخلصين حتى فيما بينهم، إذ يسرقون بعضهم البعض، فكيف يكونوا أمناء في تقديم الكلمة صادقة للشعب؟ أو أنهم فقراء في المعرفة، ليس لهم ما ينطقون به، فكل واحدٍ يسرق من الآخر، مدعيًا أنه يرى أحلامًا مباشرة من الله. بمعنى آخر فإنهم حتى وإن سرقوا كلمة الرب، لكن خلال هذه السمات التي سبق أن تحدثنا عنها يقدمونها بطريقة غير صادقة، ويحولونها لخدمة أغراضهم الشخصية. يختم حديثه عن الأنبياء المدعين أنهم أصحاب أحلام إلهية أو عن سارقي الكلمة، قائلًا: "هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال، هأنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة يقول الرب، الذين يقصونها، ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم، وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم. فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب" [31-32]. بقوله "ياخذون (أو يستعملون) لسانهم ويقولون: قال" [31] يعني أنهم يستخدمون كلماتهم الشخصية في شكل حديث إلهي ويقولون: "قال الرب...". للمرة الثالثة يؤكد الرب: "هأنذا على (ضد) الأنبياء" الذين يبشرون بالأحلام الباطلة [30-32]. إنهم مخادعون ولا منفعة منهم [32]. النبوة الخامسة [33-40]: يطلبون وحي الرب بأفواههم، لا بقلوبهم. 33 «وَإِذَا سَأَلَكَ هذَا الشَّعْبُ أَوْ نَبِيٌّ أَوْ كَاهِنٌ: مَا وَحْيُ الرَّبِّ؟ فَقُلْ لَهُمْ: أَيُّ وَحْيٍ؟ إِنِّي أَرْفُضُكُمْ، هُوَ قَوْلُ الرَّبِّ. 34 فَالنَّبِيُّ أَوِ الْكَاهِنُ أَوِ الشَّعْبُ الَّذِي يَقُولُ: وَحْيُ الرَّبِّ، أُعَاقِبُ ذلِكَ الرَّجُلَ وَبَيْتَهُ. 35 هكَذَا تَقُولُونَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ وَالرَّجُلُ لأَخِيهِ: بِمَاذَا أَجَابَ الرَّبُّ، وَمَاذَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ. 36 أَمَّا وَحْيُ الرَّبِّ فَلاَ تَذْكُرُوهُ بَعْدُ، لأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ إِنْسَانٍ تَكُونُ وَحْيَهُ، إِذْ قَدْ حَرَّفْتُمْ كَلاَمَ الإِلهِ الْحَيِّ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِنَا. 37 هكَذَا تَقُولُ لِلنَّبِيِّ: بِمَاذَا أَجَابَكَ الرَّبُّ، وَمَاذَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ. 38 وَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ: وَحْيُ الرَّبِّ، فَلِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ قَوْلِكُمْ هذِهِ الْكَلِمَةَ: وَحْيُ الرَّبِّ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ قَائِلًا لاَ تَقُولُوا: وَحْيُ الرَّبِّ، 39 لِذلِكَ هأَنَذَا أَنْسَاكُمْ نِسْيَانًا، وَأَرْفُضُكُمْ مِنْ أَمَامِ وَجْهِي، أَنْتُمْ وَالْمَدِينَةَ الَّتِي أَعْطَيْتُكُمْ وَآبَاءَكُمْ إِيَّاهَا. 40 وَأَجْعَلُ عَلَيْكُمْ عَارًا أَبَدِيًّا وَخِزْيًا أَبَدِيًّا لاَ يُنْسَى». أخيرًا يتظاهر هؤلاء الأنبياء أحيانًا بالرغبة في التعرف على وحي الرب بينما بقلوبهم يطلبون وحي أنفسهم. تسلل هذا الداء إلى الكهنة في غير مبالاة، فسقطوا في خطية أخطر وهي الرياء والخداع حتى في معاملاتهم مع الله ورجاله. "وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلًا: ما وحي الرب؟ فقل لهم: أي وحي (ثقل)؟! إني أرفضكم هو قول الرب. فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول وحي (ثقل) الرب أعاقب ذلك الرجل وبيته. هكذا تقولون الرجل لصاحبه، والرجل لأخيه: بماذا أجاب الرب؟ وماذا تكلم به الرب؟ أما وحي الرب فلا تذكروه بعد، لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرفتم كلام الإله الحيّ رب الجنود إلهنا. هكذا تقول للنبي: بماذا أجابك الرب، وماذا تكلم به الرب. وإذا كنتم تقولون: وحي الرب، فلذلك هكذا قال الرب من أجل قولكم هذه الكلمة وحي الرب، وقد أرسلت إليكم قائلًا: لا تقولوا وحي الرب. لذلك هأنذا أنساكم نسيانًا، وأرفضكم من أمام وجهي أنتم، والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها. وأجعل عليكم عارًا أبديًا وخزيًا أبديًا لا يُنسى" [33-40]. جاء الحديث هنا يدور حول كلمة "وحي a mass" التي تُستخدم بمعانٍ كثيرة؛ وهي مقتبسة من الفعل nasa، معناها "يرفع" أو يحمل"، فيكون الاسم معناه "حمل burden" أو "ثقل". أُستخدم في العهد القديم ليعني ثقلًا يصدر عن سيد أو إله أو من حيوانات أو بشر، وهنا يعني الالتزام بثقل المسئولية القيادية أو الدينية، أو السقوط تحت ثقل حكم الله، لكن أحيانًا تستخدم كتعاليم نبوية أو وحي نبوي. هنا يقصد بها الوحي. كثيرًا ما تكررت كلمة "ثقل" في هذه القطعة، إذ تطلع الأنبياء الكذبة والكهنة والشعب إلى كلمة الرب باحتقار واستخفاف وحسبوها ثقلًا، ترعبهم وتخيفهم، كانت ثقيلة على نفوسهم كما يقول القديس جيروم. إذ يسأل الأنبياء الكذبة أو الشعب: ما هو وحي (ثقل) الرب؟ تأتي الإجابة: "أي وحي؛ إني أرفضكم هو قول الرب" [33]، يترجمها البعض: "أنتم هو الثقل (الوحي) إني أطرحكم (أرفضكم)"؛ وكأنه يقول: ليست كلمة الرب ثقلًا، بل أنتم بخطاياكم تمثلون ثقلًا وتستحقون الطرح خارجًا! مرة أخرى يقول: "لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه (ثقله)" [36]، وكأن الله يؤكد إن كلمته ليست ثقلًا، إنما كلمات الإنسان هي التي تحطمه كثقل على نفسه! إنه يطالبهم: "لا تقولوا وحي الرب" [38]، ربما لأنه يرفض استخدام هذه الكلمة massaالتي استخدموها للتعبير عن مشاعرهم نحو كلمة الرب كثقل؛ أو أن الله بهذا يوبخهم: لماذا تطلبون تعاليم الرب وقد أقمتم أنفسكم آلهة، يسمع كل واحد لتعليمه الذاتي لا لصوتي، تطلبون أن تسمعوا تعاليمي وأنتم تهينونها برفضكم إياها؟! لقد نسوا صوت الرب حتى إن طلبوه بأفواههم، لذلك يقول: "هأنذا أنساكم نسيانًا" [39]. لم يطيقوا سماع صوت الرب، لهذا جاءت الثمرة: "أرفضكم من أمام وجهي" [39]. أهانوا الكلمة الإلهية واحتقروها، لهذا يرفض الله المدينة التي حسبها قبلًا مدينته المقدسة، والتي وهبها لهم ولآبائهم، ويسكب عارًا وخزيًا عليهم [40]. من وحي إرميا 23 ليمت صدقيا القديم! وليحيا صدقيا الجديد! * هب لي يا رب جراءة إرميا فأصرخ: ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعية الرب، ويل لصدقيا الذي أقامه البابليون! وليحيا الراعي الجديد: "الرب برنا"! ليمت صدقيا القديم، البر الذاتي الذي أنسبه لله كذبًا، وليحيا صدقيا الجديد في، ويهبني بره برًا لي! لقد بدد بري الذاتي طاقاتي التي هي غنم الرب، لتملك أيها المسيح الراعي الصالح في، وتجمع غنمك في! * نعم! لترعى أعماقي، ولتجمع حواسي وأفكاري وكل طاقاتي، إنها غنمك! لتردها من أرض الذل والسبي إلى مربضها! لقد تاهت في وسط غربة هذا العالم! لتفتح أبواب سمواتك أمامها، ولتقدسها بروحك القدوس لحساب ملكوتك، فأستقر وأستريح في أحضان أبيك! هناك لا أخاف، ولا أرتعب، ولا أفقد شيئًا! هناك أمتلئ سلامًا أبديًا فائقًا! * تعال أيها الملك الحقيقي، صدقيا الجديد، لتملك في أعماقي، ولتنجح، ولتجري حقك وبرك. حوّل أرضي إلى ملكوتك. أنطلق بي، لا من فرعون مصر إلى أرض الموعد، وإنما من ذاتي الطاغية إلى أورشليمك السماوية! هب لي أن أختبر الخروج الجديد! * ليهلك الأنبياء الكذبة الذين تحالفوا مع صدقيا الشرير، سلكوا في الفسق وكذبوا، ادعوا النبوة، وجروا وراء الأحلام الكاذبة، شغلوا قلوب البسطاء عنك بخزعبلاتهم الشريرة. تركوا كلمتك الحية، وتمسكوا بالأوهام، عوض الحنطة أكلوا القش! تركوا كلمتك النارية، ورفضوا مطرقة حبك، ويل لهم فقد طلبوا وحي أنفسهم! * هب لي أن أقتنيك، واشترك في مجلس الرب القدوس الحق! فلا يجد الفسق له في مكانًا، ولا يقدر الكذب أن يتسلل إلى أعماقي، لا أعيش على أحلام واهية، ولا أنشغل إلا باسمك أيها الحق السماوي! أطلب كلمتك بشفتي كما بقلبي، تلهب أعماقي بنار حبك، وتضرب بمطرقة على خطاياي، تسندني فأخلص! كلمتك ليست بثقيلة، بل مبهجة وممتعة! ما أعذبك وما أعذب كلمتك! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 20 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() يرى البعضأن هذا الأصحاح يمثل ختامًا للدرج الذي أملاه إرميا على كاتبه باروخ عام 604 ق.م.، وأن وضعه الأصلي بعد الأصحاحات العشرين الأولى. ففي ذلك الحين أقام نبوخذنصر نفسه سيدًا على منطقة الشرق الأوسط من مصر إلى الميصة (ما بين النهرين). وأدرك إرميا أنه قد هبَّت الريح القادمة من الشمال على يهوذا وأورشليم فعلًا، وهي تحرك الجيش البابلي. في هذا الأصحاح يقدم لنا النبي ملخصًا لخدمته خلال الثلاث وعشرين عامًا السابقة كنبيًا للشعوب، هذه الخدمة التي رفضها الجميع، كما سبقوا فرفضوا خدمة الأنبياء السابقين له. 1. تاريخ النبوة: 1 اَلْكَلاَمُ الَّذِي صَارَ إِلَى إِرْمِيَا عَنْ كُلِّ شَعْبِ يَهُوذَا، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِيَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، هِيَ السَّنَةُ الأُولَى لِنَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، 2 الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ إِرْمِيَا النَّبِيُّ عَلَى كُلِّ شَعْبِ يَهُوذَا وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ قَائِلًا: 3 «مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَشَرَةَ لِيُوشِيَّا بْنِ آمُونَ مَلِكِ يَهُوذَا إِلَى هذَا الْيَوْمِ، هذِهِ الثَّلاَثِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً، صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَيَّ فَكَلَّمْتُكُمْ مُبَكِّرًا وَمُكَلِّمًا فَلَمْ تَسْمَعُوا. كل الأحاديث النبوية التي سبق فألقاها إرميا إما أنها لا تحمل تاريخًا بالمرة أو تحمله بطريقة عامة كالقول: "في أيام يوشيا" (إر 3: 6)، أو "في بدء حكم يهوياقيم" (إر 26: 1)، لكن هنا وفي بعض الأحاديث التي أُلقيت فيما بعد وضع تاريخًا محددًا لها كما في (إر 28: 1؛ 32: 1؛ 36: 1؛ 39: 1 إلخ) . "الكلام الذي صار إلى إرميا عن كل شعب يهوذا في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا. هي السنة الأولى لنبوخذنصر ملك بابل. الذي تكلم به إرميا النبي على كل شعب يهوذا وعلى كل سكان أورشليم قائلًا" [1-2]. يرجع تاريخ الفقرة إلى عام 605 ق.م. في السنة الرابعة لملك يهوياقيم التي دارت فيها معركة كركميش الفاصلة، ونتيجة هذه المعركة تم طرد المصريين، واستولت بابل على يهوذا لتصبح جزءًا من إمبراطوريتها (2 مل 24: 1). الادعاء بوجود خطأ في التواريخ حيث أن السنة الرابعة من حكم يهوياقيم في [1] هي نفسها المُشَار إليها بأنها السنة الثالثة من حكم نفس الملك في دانيال (دا 1: 1)، مبني على سوء فهم للطرق القديمة في الشرق لترتيب التواريخ الزمنية. ففي فلسطين في القرن السابع قبل الميلاد كانت تُحسب سنة تبوء الملك للعرش إنها السنة الأولى في الحكم، بينما في بابل كانت هذه السنة تحسب مستقلة ثم يتبعها السنة الأولى من الحكم الفعلي. وهكذا احتسب إرميا هذه السنة طبقا للنظام المعمول به في فلسطين بينما اتبع دانيال النظام المعمول به في بابل. السنة الرابعة لحكم يهوياقيم (506 ق.م.) هي ذات السنة التي فيها أملى النبي إرميا نبوات على باروخ الكاتب، وقد قرأ الدرج أمام الملك (إر 36: 1-26). وإذ أحرقه الملك؛ فأُعيد كتابة درج جديد وصار نواة لتجمعات نبوات إرميا النبي (إر 36: 27-32). القطعة التي بين أيدينا (إر 25: 1-14) إما أنها ملخص للدرج أو مقدمة له تُقرأ قبل قراءة الدرج. وتعتبر هذه السنة نقطة تحول خطيرة في تاريخ يهوذا بعد هزيمة فرعون نخو بواسطة البابليين. حذفت الترجمة السبعينية التعليق المختص بنبوخذنصر. "من السنة الثالثة عشرة ليوشيا بن آمون ملك يهوذا إلى هذا اليوم هذه الثلاث والعشرين سنة صارت كلمة الرب إلى فكلمتكم مبكرًا ومكلمًا فلم تسمعوا" [3]. إذ يعتبر إرميا النبي أن خدمته بدأت في السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا سنة 627 ق.م. يتساءل البعض إن كان هذا التاريخ هو بداية أول رسالة تسلمها من الله لإعلانها على الشعب، أم أنه تاريخ ميلاده حيث دُعي للخدمة وهو بعد في بطن أمه. على أي الأحوال بدأ إرميا خدمته مبكرًا جدًا. الفترة من السنة الثالثة عشرة ليوشيا حتى السنة الرابعة من يهوياقيم تضم 23 عامًا، منها 19 عامًا في أيام يوشيا و4 أعوام في أيام يهوياقيم، بالإضافة إلى 3 شهور مُلك يهوآحاز. 2. تأكيد الدمار: 4 وَقَدْ أَرْسَلَ الرَّبُّ إِلَيْكُمْ كُلَّ عَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ مُبَكِّرًا وَمُرْسِلًا فَلَمْ تَسْمَعُوا وَلَمْ تُمِيلُوا أُذُنَكُمْ لِلسَّمْعِ، 5 قَائِلِينَ: ارْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيءِ وَعَنْ شَرِّ أَعْمَالِكُمْ وَاسْكُنُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاكُمُ الرَّبُّ إِيَّاهَا وَآبَاءَكُمْ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ. 6 وَلاَ تَسْلُكُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِتَعْبُدُوهَا وَتَسْجُدُوا لَهَا، وَلاَ تَغِيظُونِي بِعَمَلِ أَيْدِيكُمْ فَلاَ أُسِيءَ إِلَيْكُمْ. 7 فَلَمْ تَسْمَعُوا لِي، يَقُولُ الرَّبُّ، لِتَغِيظُونِي بِعَمَلِ أَيْدِيكُمْ شَرًّا لَكُمْ. 8 «لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ لَمْ تَسْمَعُوا لِكَلاَمِي 9 هأَنَذَا أُرْسِلُ فَآخُذُ كُلَّ عَشَائِرِ الشِّمَالِ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَإِلَى نَبُوخَذْرَاصَّرَ عَبْدِي مَلِكِ بَابِلَ، وَآتِي بِهِمْ عَلَى هذِهِ الأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِهَا وَعَلَى كُلِّ هذِهِ الشُّعُوبِ حَوَالَيْهَا، فَأُحَرِّمُهُمْ وَأَجْعَلُهُمْ دَهَشًا وَصَفِيرًا وَخِرَبًا أَبَدِيَّةً. 10 وَأُبِيدُ مِنْهُمْ صَوْتَ الطَّرَبِ وَصَوْتَ الْفَرَحِ، صَوْتَ الْعَرِيسِ وَصَوْتَ الْعَرُوسِ، صَوْتَ الأَرْحِيَةِ وَنُورَ السِّرَاجِ. [4-10]. يُلَاحَظ في العبارات السابقة الآتي: أولًا: هنا يوجه إرميا التماسه إلى عامة الشعب وليس للطبقة الحاكمة فقط. ثانيًا: يؤكد إرميا النبي أن ما نادى به خلال الثلاث وعشرين سنة لم يكن بالأمر الجديد، فقد سبق وأرسل لهم الله أنبياء منذ وقتٍ مبكرٍ ينذرهم بذات الرسالة. فمن جانب ليس لهم عذر بسبب مقاومة الأنبياء الكذبة له. لو كان إرميا هو النبي الفريد في حمل هذه الرسالة لتشككوا، لكن سبقه إشعياء النبي وغيره، فما هو عذرهم؟! ومن جانب آخر، فإن الله تمهل عليهم سنوات هذه عددها لعلَّهم يرجعون إلى أنفسهم ويتوبون، لكنهم عوض التوبة استهانوا بطول أناة الله ولطفه، ظانين أن الله يهدد ولا يؤدب! ربما أراد النبي تأكيد استمرارية خدمته لهم، فقد قضى من عمره هذه السنوات الطويلة دون أدنى استجابة من جانبهم، وقد بقى وسيبقى يعلن كلمة الله لهم بلا ملل! ثالثًا: بقوله "عمل أيديكم" [6]ربما يشير إلى صنع التماثيل أو الأوثان التي يصنعونها ثم يتعبدون لها، وقد تشير إلى الشر الذي يرتكبوه، وكأن شرهم قد تمثّل في عبادتهم للأوثان كما في تصرفاتهم الشريرة وسلوكهم الرديء. رابعًا:يقدم الحكم على يهوذا باسم "رب الجنود" [8] الذي يستدعي كل عشائر الشمال وسكانها ضد يهوذا. هنا يقوم الرب كقائد جنود لا للدفاع عن شعبه بل لتأديبهم، مستخدمًا نبوخذنصر عبدًا له يتمم إرادته. إنه ليس عبدًا له لأنه متعبد له، وإنما بكونه أداة في يد الرب... يقيم به حربًا مقدسة ضد شعبه! خامسًا: الإشارة لعشائر الشمال [9] هي إشارة للطبيعة المعقدة للإمبراطورية الأشورية وخليفتها الإمبراطورية البابلية. سادسًا:يؤدب يهوذا وكل الشعوب التي حواليها، ربما لأنها اتكلت عليها وأخذت بمشورتها عوض الاتكال على الرب واستشارته. يجعلهم في حالة رعب (دهشًا) وخرابٍ تامٍ، وينزع عنهم كل علامات الحياة، من أفراح وزيجات وصوت طحن الغلة (الأرحية) والنور، كأنهم يصيرون في حالة موت: أحزان وفقدان للعائلات، وعدم وجود طعام، مع ظلمة! يصيرون كمن هم في قبورٍ قابضة بلا حياة. بجانب هذا يسقطون تحت العبودية حيث تسبيهم بابل 70 عامًا. يرى البابا أثناسيوس الرسوليأن النبوة هنا قد تحققت بالأكثر لا في السبي البابلي بل في سبيهم بجحد الإيمان بالسيد المسيح المحيي. * عندما جاء الرب ووجد إسرائيل بلا ثمر لعنهم خلال معجزة شجرة التين التي قال عنها: "لا يكون منكِ ثمر بعد" (مت 21: 19). بسرعة انتهت شجرة التين هذه بلا ثمر حتى تعجب تلاميذه عندما رأوها قد جفت، بهذا تحققت كلمات النبي (إر 25: 10). البابا أثناسيوس الرسولي سابعًا: يقول: "آتي بهم على هذه الأرض"... ماذا يعني هذا؟حين يرفض الشعب الالتصاق بالسماوي يتركهم ليلتصقوا بالأرض فيصيرون أرضًا، لا سماء. لهذا عندما جاء مسيحنا السماوي ليردنا من سبينا، فتح بدم ذبيحته طريق السماء الملوكي، فلا يُقال عنَّا: "آتي بهم على هذه الأرض"، بل آتي بهم إلى السماء عينها. لهذا يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن الإفخارستيا كرحلة إلى السماء، قائلًا: * كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة . * أُهرق هذا الدم فاتحًا طريق السماء!. * مادمنا قد صرنا سمائيين، وحصلنا على ذبيحة كهذه، فلنخف! يليق بنا ألا نستمر في زحفنا على الأرض، ومن يريد منَّا ألاَّ يكون بعد على الأرض، فإنه يستطيع الآن... إذ نقترب من الله نصير في السماء، بل ماذا أُريد من السماء إن كنت أرى رب السماء وصرت أنا نفسي سماءً...؟! أقصد لنتمثل ببولس الذي وهو على الأرض يقضي حياته في السماء . القديس يوحنا الذهبي الفم هذا هو حال النفس التي تدخل إلى حالة عداوة مع الله ورغبة في الاستقلال عنه، هذه التي لا تستجيب لصوت الرب على أفواه أنبيائه. إنها تفقد اتحادها بالله مصدر حياتها، فتُحسب ميتة، أما علامات الموت فهي: أ. يجعلها دهشًا، أي في حالة رعب، لا لأسباب خارجية، وإنما لفقدان الرب مصدر السلام. ترتعب من لا شيء، وتهرب إلى حيث لا تدرى. ب. تصير صفيرًا، يستهزئ الكل بها، لأنها انهارت تمامًا، وصارت مثلًا رديئًا، يسخر بها الجميع. ج. حلّ بها الخراب الأبدي، لا طريق للإصلاح إلا الإقامة من الأموات... تحتاج إلى ذاك الذي يحيي ويخلص من الموت! د . تفقد الفرح الداخلي: لا يُسمع فيها صوت الطرب وصوت الفرح... لا تحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، ولا شركة مع السمائيين المسبحين بلا انقطاع! ه. تحرم من روح الأسرة أو الحياة الكنسية الجماعية، فيبيد منها صوت العريس وصوت العروس! تسيطر الـ ego على النفس فتحرمها من حياة الشركة والاتحاد مع الغير في الرب، فلا تعرف العائلة الإلهية حيث يتقدم الرب عريسًا لكل النفوس التي هي عروسه الواحدة! و. تفقد طعامها الروحي، حيث يبيد صوت الأرحية، فلا يطحن فيها حنطة طعامًا للناس ولا شعيرًا طعامًا للحيوانات. تفقد النفس طعامها، ويفقد الجسد مجده الداخلي... ويدخل الإنسان بكليته في مجاعة لكلمة الرب وحرمان من الطعام الأبدي! ز. يحوط بها ظلام الجهل وعدم المعرفة حيث "لا نور سراج". تفقد بصيرتها الداخلية، ونور عينيها، فلا تعاين الأمجاد المعدة لقديسي الرب. إصلاح مثل هذه النفس يحتاج إلى تدخلٍ إلهي، لتتمتع بالعتق من سبي الخطية والعودة إلى الأصحاح الأحضان الإلهية، حيث تنعم بالحياة المقامة المجيدة. تجد الله نفسه سر سلامها ومجدها وفرحها وشبعها الدائم واستنارتها. 3. مدة الدمار: 11 وَتَصِيرُ كُلُّ هذِهِ الأَرْضِ خَرَابًا وَدَهَشًا، وَتَخْدِمُ هذِهِ الشُّعُوبُ مَلِكَ بَابِلَ سَبْعِينَ سَنَةً. 12 «وَيَكُونُ عِنْدَ تَمَامِ السَّبْعِينَ سَنَةً أَنِّي أُعَاقِبُ مَلِكَ بَابِلَ، وَتِلْكَ الأُمَّةَ، يَقُولُ الرَّبُّ، عَلَى إِثْمِهِمْ وَأَرْضَ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَأَجْعَلُهَا خِرَبًا أَبَدِيَّةً. 13 وَأَجْلِبُ عَلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلَّ كَلاَمِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَيْهَا، كُلَّ مَا كُتِبَ فِي هذَا السِّفْرِ الَّذِي تَنَبَّأَ بِهِ إِرْمِيَا عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ. 14 لأَنَّهُ قَدِ اسْتَعْبَدَهُمْ أَيْضًا أُمَمٌ كَثِيرَةٌ وَمُلُوكٌ عِظَامٌ، فَأُجَازِيهِمْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ وَحَسَبَ عَمَلِ أَيَادِيهِمْ». [11-14]. هذه هي المرة الأولى التي يُشار فيها إلى مدة السبي البابلي بكونها سبعين عامًا، يحسبها البعض إما منذ بدأ النبي حديثه عن السبي سنة 604 ق.م. أو عندما تم ترحيل أول دفعة إلى السبي سنة 597 ق.م.، أو عند ترحيل عدد ضخم سنة 587 ق.م. يقول Keil بأن رقم 70 ليس رقمًا تقريبيًا، بل هو رقم تاريخي دقيق، نبوة دقيقة عن السبي. هذا يُفهم مما ورد في (2 أي 36: 21-22) حيث قيل: "وفي السنة الأولى لكورش ملك فارس لأجل تكميل كلام الرب بفم إرميا نبَّه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداءً في كل مملكته وكذا بالكتابة قائلًا: هكذا قال كورش ملك فارس إن الرب إله السماء قد أعطاني جميع ممالك الأرض وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من جميع شعبه، الرب إلهه معه، وليصعد". وجاء في دانيال: "في السنة الأولى من ملكه (داريوس) أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم..." (دا 9: 2). يرى كثير من المفسرين ومؤرخي الكتاب المقدس أن فترة السبعين عامًا هي ما بين السنة الرابعة ليهوياقيم (606 ق.م) حتى السنة الأولى لملك كورش وتسلُّطه على بابل عام 536 ق.م. يحسبونها تاريخيًا هكذا. - و43 = مُلك نبوخذنصر. - و2 عامان = ابنه أويل مرودخ. - و4 أعوام = Neriglissor - و9 شهور = Labrasarchad - و17 عامًا = Naboned - 1 عام = (كسور بين كل ملك وآخر). - و2 عامان = بدء ملك داريوس. ____________ 9 و69 سنة يتفق هذا مع حسابات الكتاب المقدس: - و7 أعوام = عهد يهوياقيم (من السنة الرابعة حتى الحادية عشرة). - و3 شهور = عهد يهوياكين. - و37 عامًا = من سبي يهوياكين حتى جلوس أويل مرودخ [(راجع 2 مل 25: 27-30) "في السنة السابعة والثلاثين لسبي يهوياكين ملك يهوذا في الشهر الثاني عشر في السابع والعشرين من الشهر رفع أويل مرودخ ملك بابل في سنة تملكه رأس يهوياكين ملك يهوذا من السجن وكلمه بخير وجعل كرسيه فوق كراسي الملوك الذين معه في بابل..."]. - و9 و23 = حتى سقوط بابل. - و2 = العامان الأولان لداريوس. _______ - 70 عامًا تمامًا. مع دقة الرقم بحسب حسابات مفسري الكتاب والمؤرخين، يحمل رقم 70 معني رمزيًّا وهو كمال العمل الإلهي في حياتنا الزمنية. رقم 7 يشير إلى الكمال، ورقم 10 يشير إلى الحياة الزمنية التي يجب أن تحكمها الوصايا العشرة، لذلك فإننا وإن كنَّا كمن في السبي ننتظر كمال المجد الأبدي لنصير بالحق الملكة السماوية شريكة المجد... فإننا خلال أعوامنا السبعين ننعم بعمل الله الدائم، حيث يهيئنا بروحه القدوس لنحمل صورته فنصير العروس الملكة الحرة. أعوامنا على الأرض يُرمز لها برقم 70 حيث نتلمس كمال عمل الله الخلاصي لأجلنا حتى ننطلق إلى سمواته. * عندما ينتهي كل الزمن نعود إلى مدينتنا، كما عاد هذا الشعب بعد سبعين عامًا من السبي البابلي. لأن بابل تشير إلى هذا العالم. حيث أن "بابل" تعني "ارتباكًا"... هكذا كل شئوننا البشرية مرتبكة، هذه التي لا تُنسب لله. في هذا الارتباك، في هذه الأرض البابلية أُسرت صهيون. ولكن "عندما ردَّ الرب سبي صهيون صرنا مثل المستريحين" (مز 126: 1)، أي أننا نفرح بتقبلنا التعزية. القديس أغسطينوس يُلاحظ أن السفر المذكور في [13] هو أصل النبوة التي دمرت على يد يهوياقيم (إر 22: 36) و"الأمم الكثيرة" في [14] هما مادي وفارس اللذين اخضعا بابل تحت حكم كورش عام 539 ق.م.4. ملخص النبوات ضد الأمم: الله ليس إله إسرائيل وحده، بل إله كل الشعوب، يهتم بالجميع، وها هو يرسل إرميا نبيه "نبيًّا للشعوب". كما يبادر الله ببركاته على شعبه لا ليحرم الشعوب الأخرى، بل ليهيئ الكل خلال الخميرة المقدسة للتمتع بفيض نعمته، هكذا يبدأ هنا بتأديب شعبه بسبب إصرارهم عل عدم التوبة، بهذا تكون البداية لتسقط أمة وراء أمة تحت ذات التأديب، ما دام ليس هناك رجوع إلى الله بالتوبة... وأخيرًا يسقط العالم كله تحت التأديب حتى بابل اليد المستخدمة للتأديب! هنا إعلان صارخ عن فساد الطبيعة البشرية والحاجة إلى تدخل إلهي لإقامة طبيعة جديدة تتجاوب مع خالقها! 15 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: «خُذْ كَأْسَ خَمْرِ هذَا السَّخَطِ مِنْ يَدِي، وَاسْقِ جَمِيعَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ أُرْسِلُكَ أَنَا إِلَيْهِمْ إِيَّاهَا. 16 فَيَشْرَبُوا وَيَتَرَنَّحُوا وَيَتَجَنَّنُوا مِنْ أَجْلِ السَّيْفِ الَّذِي أُرْسِلُهُ أَنَا بَيْنَهُمْ». 17 فَأَخَذْتُ الْكَأْسَ مِنْ يَدِ الرَّبِّ وَسَقَيْتُ كُلَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ إِلَيْهِمْ. 18 أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا وَمُلُوكَهَا وَرُؤَسَاءَهَا، لِجَعْلِهَا خَرَابًا وَدَهَشًا وَصَفِيرًا وَلَعْنَةً كَهذَا الْيَوْمِ. 19 وَفِرْعَوْنَ مَلِكَ مِصْرَ وَعَبِيدَهُ وَرُؤَسَاءَهُ وَكُلَّ شَعْبِهِ. 20 وَكُلَّ اللَّفِيفِ، وَكُلَّ مُلُوكِ أَرْضِ عُوصَ، وَكُلَّ مُلُوكِ أَرْضِ فِلِسْطِينَ وَأَشْقَلُونَ وَغَزَّةَ وَعَقْرُونَ وَبَقِيَّةَ أَشْدُودَ، 21 وَأَدُومَ وَمُوآبَ وَبَنِي عَمُّونَ، 22 وَكُلَّ مُلُوكِ صُورَ، وَكُلَّ مُلُوكِ صِيدُونَ، وَمُلُوكِ الْجَزَائِرِ الَّتِي فِي عَبْرِ الْبَحْرِ، 23 وَدَدَانَ وَتَيْمَاءَ وَبُوزَ، وَكُلَّ مَقْصُوصِي الشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا، 24 وَكُلَّ مُلُوكِ الْعَرَبِ، وَكُلَّ مُلُوكِ اللَّفِيفِ السَّاكِنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، 25 وَكُلَّ مُلُوكِ زِمْرِي، وَكُلَّ مُلُوكِ عِيلاَمَ، وَكُلَّ مُلُوكِ مَادِي، 26 وَكُلَّ مُلُوكِ الشِّمَالِ الْقَرِيبِينَ وَالْبَعِيدِينَ، كُلَّ وَاحِدٍ مَعَ أَخِيهِ، وَكُلَّ مَمَالِكِ الأَرْضِ الَّتِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. وَمَلِكُ شِيشَكَ يَشْرَبُ بَعْدَهُمْ. 27 وَتَقُولُ لَهُمْ: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: اشْرَبُوا وَاسْكَرُوا وَتَقَيَّأُوا وَاسْقُطُوا وَلاَ تَقُومُوا مِنْ أَجْلِ السَّيْفِ الَّذِي أُرْسِلُهُ أَنَا بَيْنَكُمْ. 28 وَيَكُونُ إِذَا أَبَوْا أَنْ يَأْخُذُوا الْكَأْسَ مِنْ يَدِكَ لِيَشْرَبُوا، أَنَّكَ تَقُولُ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: تَشْرَبُونَ شُرْبًا. 29 لأَنِّي هأَنَذَا أَبْتَدِئُ أُسِيءُ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهَا، فَهَلْ تَتَبَرَّأُونَ أَنْتُمْ؟! لاَ تَتَبَرَّأُونَ، لأَنِّي أَنَا أَدْعُو السَّيْفَ عَلَى كُلِّ سُكَّانِ الأَرْضِ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. [15-29]. * عندما سمع النبي هذا لم يرفض، لم يقل على مثال موسى: أسألك يا رب، إني لست مستحقًا، أرسل آخر. إذ كان محبًا للشعب ومفكرًا في الأمم المعادية أنها تُقتل وتسقط بشرب الكأس، قبل كأس الخمر بفرح، ولم يعلم أن أورشليم كانت من بين كل الأمم. القديس جيروم يُستخدم الكأس عن مصير شخصٍ أو أمةٍ كنبوة عن مستقبلٍ مفرحٍ جدًا كما في (مز 23: 5) أو مؤلمٍ للغاية، وقد دعى السيد المسيح آلامه لحساب البشرية كأسًا (مت 26: 39). هنا يرمز كأس الخمر للغضب الإلهي، وقد استخدمت في (حب 2: 16؛ إش 51: 17، 21-22 ؛ حز 23: 32-34، إر 13: 12 الخ؛ 19: 12؛ مرا 4: 21؛ مز 65: 5؛ 75: 9؛ حب 2: 15؛ زك 12: 2 إلخ).كان الالتزام بشرب الكأس إجراء يُستخدم لاختبار براءة الشخص أو جرمه. وقد جاء في (عد 5: 11-31) يقدم الكاهن للمرأة المُتهمة بخيانة زوجها ماءً مقدسًا في إناءٍ خزفي ويضع عليه من غبار مسكنها... ثم يقدم لها ماء اللعنة، فان كانت قد تنجست يدخل ماء اللعنة المرّ فيورم بطنها وتسقط فخذها وتصير المرأة لعنة في وسط شعبها. الكأس التي يقدمها هنا إرميا النبي للشعوب هو السيف الذي تُضرب به هذه الشعوب فتترنح كالسكارى بلا وعي من هول الحدث، يفقدون عقولهم ويصيرون كالمجانين. يتساءل البعض: كيف قدم إرميا للملوك كأس غضب الله؟ هل قام برحلة لملوك وشعوب مختلفة؟ أم قدم الكأس لسفرائهم في أورشليم؟ إنه لم يتسلم كأس خمرٍ من يد الله بل كأس السخط الإلهي لا ليشربوه بأفواههم فتترنح أجسادهم، إنما هو كأس غير مادي يحمل غضبًا لا تشربه الأجساد. العمل الذي قام به إرميا هو رسالة تؤكد حقيقة السخط الإلهي على الشر والأشرار المصرين على شرهم، يعلنها النبي في أورشليم أمام الملك والشعب، وتبلغ إلى الملوك والشعوب المحيطة. في سفر إشعياء إذ يؤكد الله لأورشليم أنها تشرب من كأس غضبه الذي أعدته بعصيانها، إنما إلى حين، إذ يقول: "انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه ثقل كأس الترنح، شربت، مصصت... لا تعودي تشربينها في ما بعد... استيقظي، استيقظي، إلبسي عزِّك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم" (إش 51: 17، 22؛ 52: 1). ويلاحظ هنا: 1. كل الشعوب المذكورة في الأصحاحات (46-51) مدرجة هنا ماعدا دمشق. لقد دعي إرميا نبيًا للشعوب (إر 1: 5). 2. أعطى الكأس أولًا لأورشليم ثم لمدن يهوذا وملوكها ورؤسائها [18]، فإذ لهم معرفة أكثر من غيرهم يستحقون التأديب قبلهم. 3. يأتي بعد ذلك بالأمم الوثنية، مبتدأً بفرعون ملك مصر وعبيده ورؤسائه وكل شعبه [19]، لأن أورشليم قد اعتمدت على فرعون وجيشه للدفاع ضد بابل، لذا يستحق الكأس بعد يهوذا مباشرة. 4. بعد مصر يتجه نحو الجنوب شرقي وغربي يهوذا، أمة فأمة، ففي [20] نجد عوص وبلاد فلسطين شرقي مصر وعلى حدودها. ذكر ملك عوص [20] موطن أيوب (أي 1: 1 ؛ مراثي 4: 21) الواقعة في عبر الأردن، إما في حوران جنوب دمشق أو في المنطقة الواقعة بجوار أدوم في شمال الجزيرة العربية وعلى حدود مصر. 5. يسقط تحت التأديب "كل اللفيف" مع فرعون وعبيده ورؤسائه... وقد ذُكر "اللفيف" في (خر 12: 38؛ نح 13: 3) ليصف الجماعة المختلطة الخارجة من مصر مع الإسرائيليين. عادة يُقصد باللفيف أية جماعة مختلطة من أجناس متباينة ترتبط بشعبٍ واحدٍ وتسكن بينهم كجماعة غريبة. 6. مثلت فلسطين بالمدن الرئيسية: أشقلون وغزة وعقرون وأشدود (يش 13: 1؛ 1 صم 6: 4)، ولم تُذكر المدينة الخامسة جت، ربما لأنها كانت قد انهارت في ذلك الوقت ، أو لأنها لم تعد بعد عاصمة لمملكة مستقلة لهذا لم تُذكر أيضًا في (عا 1: 6؛ صف 2: 4، زك 9: 5). 7. يتجه بعد ذلك نحو الشرق في [21] حيث ممالك أدوم وموآب وبني عمون، وفي [22] يتجه نحو الغرب حيث الفينيقيون ومستعمراتهم. 8. في [23-24] نجد القبائل العربية في الصحراء الممتدة من فلسطين إلى الفرات. ددان [23]: شعب كوشي في جنوب العربية، جاء عن كوش بن حام (تك 10: 7). جاء في (تك 25: 3) أنه من نسل إبراهيم عن قطورة بعد موت سارة. ليس صعبًا أن نفهم هذا الارتباط إن تذكرنا النسب بين العربية وكوش [20]. كانوا رجال تجارة (إش 21: 3؛ حز 27: 1، 20؛ 38: 13؛ أي 6: 19) يقطنون جنوب الأدوميين (إر 25: 23؛ 49: 8). لا يزال الاسم باقيًا في ديدان جنوب غربي تيماء. أما ددان الحديثة فهي "العُلا" واحة في وادي القرى شمال الحجاز. "تيماء" قبيلة عربية تسكن في المناطق الصحراوية وراء حاران (تك 25: 15)؛ و"بوز" قبيلة عربية من نسل ناحور أخو إبراهيم (تك 22: 21) تقطن على الطريق السياحي من دمشق إلى مكة، ما بين تبوق ووادي القرى. 9. ثم أقصى الشرق في [25] عيلام ومادي، بعد ذلك يذكر ملوك الشمال القريبين والبعيدين، وأخيرًا كل ممالك الأرض [26]. 10. إن كان الله يستخدم بابل للتأديب، فيعطيها أن تسيطر على العالم كله في ذلك الحين فإنه يعود فيحاكمها على شرها بعد ذكره كل ممالك الأرض، وقد دُعيت هنا "شيشك" [26] وهو اسمها الشفري (إر 51: 41). ربما لكي لا يثير السلطات البابلية ضده. يرى Keil أن الأصل العبري يعني "يغطس"، وكأن التهديد هنا أن بابل تغطس ولا تعود تقوم بعد. 11. أوضح إرميا النبي أن الجميع يشربون من هذه الكأس حتى النهاية [27]، وإن رفضوا فسيشربونه بغير إرادتهم [28]. ليس من يستعفي من شرب هذا الكأس؛ فإن كان الله قد سمح لشعبه أن يشربه، فكيف لا تشربه بقية الشعوب [29]؟! 30 وَأَنْتَ فَتَنَبَّأْ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ، وَقُلْ لَهُمْ: الرَّبُّ مِنَ الْعَلاَءِ يُزَمْجِرُ، وَمِنْ مَسْكَنِ قُدْسِهِ يُطْلِقُ صَوْتَهُ، يَزْأَرُ زَئِيرًا عَلَى مَسْكَنِهِ، بِهُتَافٍ كَالدَّائِسِينَ يَصْرُخُ ضِدَّ كُلِّ سُكَّانِ الأَرْضِ. 31 بَلَغَ الضَّجِيجُ إِلَى أَطْرَافِ الأَرْضِ، لأَنَّ لِلرَّبِّ خُصُومَةً مَعَ الشُّعُوبِ. هُوَ يُحَاكِمُ كُلَّ ذِي جَسَدٍ. يَدْفَعُ الأَشْرَارَ لِلسَّيْفِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 32 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هُوَذَا الشَّرُّ يَخْرُجُ مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ، وَيَنْهَضُ نَوْءٌ عَظِيمٌ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ. 33 وَتَكُونُ قَتْلَى الرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ الأَرْضِ. لاَ يُنْدَبُونَ وَلاَ يُضَمُّونَ وَلاَ يُدْفَنُونَ. يَكُونُونَ دِمْنَةً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ». 34 وَلْوِلُوا أَيُّهَا الرُّعَاةُ وَاصْرُخُوا، وَتَمَرَّغُوا يَا رُؤَسَاءَ الْغَنَمِ، لأَنَّ أَيَّامَكُمْ قَدْ كَمَلَتْ لِلذَّبْحِ. وَأُبَدِّدُكُمْ فَتَسْقُطُونَ كَإِنَاءٍ شَهِيٍّ. 35 وَيَبِيدُ الْمَنَاصُ عَنِ الرُّعَاةِ، وَالنَّجَاةُ عَنْ رُؤَسَاءِ الْغَنَمِ. 36 صَوْتُ صُرَاخِ الرُّعَاةِ، وَوَلْوَلَةِ رُؤَسَاءِ الْغَنَمِ. لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَهْلَكَ مَرْعَاهُمْ. 37 وَبَادَتْ مَرَاعِي السَّلاَمِ مِنْ أَجْلِ حُمُوِّ غَضَبِ الرَّبِّ. 38 تَرَكَ كَشِبْل عِيصَهُ، لأَنَّ أَرْضَهُمْ صَارَتْ خَرَابًا مِنْ أَجْلِ الظَّالِمِ وَمِنْ أَجْلِ حُمُوِّ غَضَبِهِ. [30-38]. 1. في أسلوب شعري تتغير الصورة إلى منظر أسدٍ مزمجرٍ (عا 1: 2؛ هو 11: 10). هنا يختلف التشبيه عن النصوص الأخرى، فإن صوت الزئير لا يخرج من صهيون ولا من أورشليم بل من الأعالي من مسكنه المقدس في السموات، لأن التأديب لا يصدر ضد الأمم الوثنية فحسب، بل ضد شعبه أيضًا ومدينته. 2. يزأر الله ليؤدب البشرية المُصرَّة على العصيان؛ زئيره يشبه صياح المحاربين. 3. يُسمع زئيره وسط الرعود (خر 19: 16) ؛ وفي العاصف (إر 23: 19؛ عا 1: 2، يؤ 4: 16). يحذرهم الرب من التباطئ فالكارثة تنتشر بسرعة من أمة إلى أمة، دون تحديد لأسماء الأمم، كعاصفة قوية تهب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها [32]. 4. يصرخ كالدائسين العنب. 5. أما الرعاة أو سادة القطيع فيُطلب منهم أن يولولوا ويصرخوا ويتمرغوا في التراب [34]، فقد صاروا ككباشٍ مشتهاة للذبح خلال التأديب والمرارة. جاء في الترجمة العربية "كاناء Sشهيkeele " أما في الترجمة السبعينية فهي "ككباشٍ kikli مشتهاة". 6. يدخل الرب في خصومة قانونية ليحاكم كل البشرية [31]. كأنه وهو الديان لا يحكم على الشعوب، بل يسلمهم إلى القضاء، لكي يعطيهم فرصة للدفاع أو التوبة. 7. يحذرهم أيضًا من السلام الكاذب، إذ يظنون أنهم في وسط مراعي السلام يمارسون سلطانهم كرعاة ورؤساء، ولم يدركوا أن الأسد قادم، ومراعيهم تتحول إلى خراب، ويسقطون تحت السيف بسبب الغضب الإلهي. من وحي إرميا 25 نفسي مُرّة من كأس السخط يا إله كل الشعوب! * تمررت نفس إرميا نبي الشعوب، فقد سلمه الله كأس السخط لتشرب منه كل الأمم! تشرب منه يهوذا مع كل الدول المحيطة، حتى بابل العظيمة تتجرعه بعد سبعين عامًا من مجدها! ليتني أشارك مشاعر نبي الشعوب، قائلًا: نفسي مرّة من كأس السخط يا إله كل الشعوب! * بعد جهاد دام ثلاث وعشرين عامًا بلا ثمرٍ وبغير مللٍ، وبعد كفاح أنبياء كثيرين سابقين، تطلع إرميا إلى كأس السخط الذي تشربه كل البشرية! رآه كأس غضب الله ضد الشر، أعده الإنسان بنفسه، هو من عمل يديه! * رأى إرميا الشعوب تُساق إلى السبي البابلي، إلى أرضٍ غريبةٍ وبلدٍ غريبٍ. رأى مذلَّة النفس المسبية التي خلقها الله لتنعم بكمال مجد الحرية. خرجت إلى أرض غريبة إذ صارت هي نفسها أرضًا! أرادها الله لها أن تكون سماءً يقطنها بنفسه، فاختارت أن تكون أرضًا تمتلئ بوحل هذا العالم الغريب! * صارت دهشًا، في رعبٍ، لفقدانها إلهها مصدر سلامها! ترتعب من لا شيء، وتهرب وليس من ملجأ! تركت إلهها صخرة حياتها وملجأها! * صارت صفيرًا، يستهزئ الكل بها! العروس المختارة، الملكة التي تجلس في السمويات، صارت عارًا وخزيًا للجميع! * حلّ بها الخراب التام، دخلت إلى الموت، أو دخل الموت إلى أعماقها، من يقدر أن يقيمها ويرد لها الحياة؟! * فقدت روح الفرح والطرب، لم تعد تشرب من خمر الروح المفرح، ولا تجد أحضان العريس المفتوحة لها! توَقَّف قلبها عن التهليل، ولسانها عن التسبيح! صارت الشركة مع السمائيين لها خيالًا! وصار لها ملكوت الله المفرح بلا وجود! * لا يُسمع في داخلها صوت الأرحية حيث تطحن الغلال! من أين تأتي بالغلال، وقد صارت جنتها وحقولها براري؟! كيف تشبع الغير هذه التي تنهار جوعًا؟! تقرأ الكتاب المقدس فلا تنعم بالكلمة الإلهية! لا تجد النفس قمحًا روحيًا! هوذا قد حلَّت بها مجاعة كلمة الرب! * لا يوجد بها نور سراج! حلّ بها ظلام الجهالة، وانطمست عيناها الداخليتان عن رؤية كل ما هو إلهي! دخلت كما إلى ظلمة القبر بلا رجاء! * الآن أصرخ إليك يا إله كل الشعوب: متى تنتهي سنوات السبي السبعين؟! لتأتِ بنفسك يا كلمة الله، يا محرر النفوس؟! فيك وحدك تجد كل الشعوب مجد حرية أولاد الله! * عوض الرعب أجدك أنت سلامي، فيك اختفي يا صخرة قلبي وملجأ حياتي! أنت هو قوتي... أنت هو خلاصي! * عوض الصفير أجدك مجدي الأبدي! تقيمني عروسًا وملكة، بتولًا طاهرًا مع أبناء كثيرين، حيثما حللت يا حمل الله خذني معك، إلى مجدك الأبدي! إلى حضن أبيك! * عوض الخراب التام والموت أجدك حياتي! أنت قيامتي وبهجتي! بك تقوم نفسي لترى شركة المجد الداخلي! بك يقوم جسدي ليحمل طبيعة جديدة! لقد متُّ مع آدم الأول لأقوم معك يا آدم الثاني! * عوض الكآبة تسقيني خمر حبك! أنعم بفرح الروح، ولا يقدر أحد أن ينزعه عني! أعماقي تتهلل بك، جسدي ولساني وكل كياني يسبحون! ترتفع أعماقي مع السمائيين لترنم بلا انقطاع! أعرف شركة القديسين فتصير حياتي عيدًا مستمرًا! * عوض الجفاف الشديد تقيم في داخلي أرحية، تطحن كلمة الله (الغلال) في أعماقي، ينعم بها الكل فيشبعون ولا يجوعون! نعم لتتحول كلمتك في أعماقي إلى طعامٍ روحي لكل جسدٍ ونفسٍ! * عوض الظلام يُعلن روحك القدوس في، هو نور ونار! لينر أعماقي وليحرق الأشواك الخانقة لنفسي! ليحوّلني إلى سراجٍ منيرٍ، فأسمع صوتك لي: "أنتم نور العالم!". |
||||
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أرميا النبي |
أرميا النبي |
تفسير سفر نشيد الأنشاد - للقمص أرميا بولس |
تفسير إنجيل يوحنا - للقمص أرميا بولس |
تفسير سفر الرؤيا لأبونا أرميا بولس |