منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 27 - 08 - 2012, 01:44 PM
 
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212





مقدمة

يمثل تاريخ المسيحية حقبة هامة من حلقات التاريخ القومى المجيد لمصر ، إلا أن عناية قدامى الكتاب والمؤرخين وحتى الحديثين منهم كانت هزيلة ، والأقباط أنفسهم قصروا فى تدوين تاريخهم ، فكان لهذا التهاون المعيب أثره الضار بفقدان العديد من جلائل الأعمال التى امتاز بها تاريخ مصر القبطى .

وعندما شرع الغرب فى دراسة التاريخ المصرى القديم ، وقد بهرتهم آثار الفراعنة وحضارتهم العظيمة التى خلبت عقولهم ، فكان اهتمامهم بها بالغا حتى حجب بريقها عن أبصارهم الحضارات الأخرى التى ترعرعت على ضفاف وادى النيل مثل مظاهر الحضارة القبطية ...

ومن أروع مظاهر الحضارة القبطية مثلا : تاريخ الرهبنة المصرية ! وأديرتها وزعمائها وآباء الكنيسة المصرية وكل ما يتعلق بهذا التراث الهائل الخالد ، والذى يجب أن يأخذ حقه من العناية والبحث الدقيق .

ينبغى أن نلفت أنظار الجميع بأن دراسة تاريخ العصر القبطى لا يعتبر مسألة طائفية بحتة ، بل هى دراسة قومية بكل معانيها ، وعلى الأخص فيما يتعلق بموضوع " إحياء تراثنا القومى " فى شتى مراحله ، ومما لا ريب فيه أن أعمال الرهبنة المصرية وزعمائها وتعاليم الآباء المصريين فى هذا المضمار من تاريخنا القومى هى من أعظم المخلفات التى جادت بها القرائح المصرية على العالم المتمدين أجمع .

كان للرهبنة المصرية دور بالغ الأهمية فى التأثير على المجتمع المصرى ، فى مجالات استراتيجية تهم الوطن المصرى ككل :



+ كان لزعماء الرهبنة وآباء الكنيسة دور كبير فى مناهضة الأستعمار وتحملوا أبشع صنوف العذاب والتنكيل بهم برباطة جأش ، كان للرهبنة دور كبير فى إيقاظ الروح القومية بين جموع الشعب ومناهضة الأستعمار البغيض ، كان لآباء الكنيسة نظرة ثاقبة حتى فى الأمور السياسية التى يغفل عنها القادة السياسيون ، ومازال هذا الدور قائما فى عهد قداسة البابا شنودة الثالث .

+ كان للرهبنة القبطية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية دورها الحاسم فى اقتلاع جذور الوثنية من مصر ! التى استمر تاريخها لقرون طويلة سبقت دخول المسيحية إلى أرض مصر .

+ كان للرهبنة القبطية دورها الأجتماعى والروحى فى اقتلاع الخرافات وأعمال السحر من عقول أبناء الوطن ، كانت الأديرة بمثابة المنائر المضيئة فى وسط جو عام يموج بالغموض والظلام ، كما قدمت الأديرة كل ما يحتاجه المواطن المصرى من علاج وطعام ، كانت الأديرة هى الملاذ الآمن لكل نفس تبحث عمن يهدىء من روعها ...

+ لا ننسى دور المكتبات ( بالأديرة) التى امتلأت بكتب وكتابات آباء الكنيسة ، فى شتى المجالات الدينية والروحية والفلسفية والعلمية ، .... والتى كان لها دور كبير كمرجع خاصة بعد احتراق مكتبة الأسكندرية فى القرن السادس الميلادى .

+ الثابت أن تلك الحقبة من التاريخ القومى متشعبة الأبواب ، متعددة الفروع والأدوار ، حافلة بكثير من عجائب الأخبار ونوادر المثل العليا وبدائع الكنوز العلمية والأدبية ، وتحتاج فى بحثها واستجلاء غموضها إلى جماعة وفيرة من الدارسين والباحثين والمؤرخين ، على أن يتضافروا جميعهم تحدوهم الغيرة والأخلاص والحماس ليظهروا تلك الحقبة فى الصور المشرفة الناصعة اللائقة بعظمتها ومجدها .

وقد يكون من بواعث نجاح تلك الدراسة وأبحاثها أن يتفرغ كل فريق من الباحثين والكتاب إلى فرع خاص منها فمنهم من يتولى اتمام دراسة تاريخ زعماء الرهبنة باستفاضة ، وعلى سبيل المثال : كالأنبا بولا ، والقديس أنطونيوس ، والأنبا شنودة رئيس المتوحدين ، والقديس باخوميوس ، والقديس مكاريوس الكبير ، ..... الخ ، على أن تصدر هذه الأبحاث فى سلسلة.كتب ومراجع مترابطة يسهل على أبناء الكنيسة دراستها بسهولة ويسر .
تمهيــــــد :

من هو الراهب المسيحى ؟
هو انسان يثقل قلبه بمحبة المسيح ..
فيغوص فى أعماقه الجوانية ، ويكتشف داخله عريسه وعرسه ويجد لقاءه مع محبوبه مستحيل وسط الناس وصخب المسئوليات المتلاحقة .
فيختار البعد عن الكل ليرتبط بضابط الكل .
لذا يختار السكنى فى الهدوء .. فى الجبال والصحارى والمغاير ،
من هنا نجده فى الموضع الجديد ،
يعطى أسم جديد ،
وثياب جديدة ،
فى بكر يوم جديد ، وبعد رقوده أمام باب هيكل الله يقوم آخذا بركة وأذن الجماعة التى يسكن بينها ... ليجد نفسه فى مواجهة باب الهيكل .... فمع أنه محب للاله إلا أنه يرتعد ويرهب الوقوف قدامه ... فيخرج بعد تناول القربان فى الصباح يحمل رهبة لله كل أيام حياته .
لذا يسمونه راهب لأنه يرهب الله : فى نومه ويقظته ، فى مشيه ورقوده ، فى صمته وحديثه ، فى خموله ونشاطه ، فى أكله وصومه ، فى ضعفه وفى نصرته

وما هى الرهبنـــة فى المسيحية
هى ليست رتبة فوق الأيمان المسيحى ...
إنما هى تطبيق للأيمان المسيحى ، وسلوك نحو الملكوت الأبدى ، وهى بذلك عشرة مع يسوع ، فتصبح ملامحها خاشعة لسمات العشرة الصادقة ليسوع .
الراهب يعيش الأعتزال ، وينكر الأنعزال ، ويقدس الجمال
فالرهبنة فى الراهب محب المسيح تضيف إلى روحه المجاهدة جمال .
وتعطى لجسده الممات جمال
وتكسو مسكنه البسيط بالجمال ...

القديس انطونيوس

مقدمة
من واجبنا أن نتساءل عن الثمار التى جناها الفكر الإنسانى من حياة الصحراء ، وهذه الثمار تبدو لأول وهلة قليلة إذا قيست بالعدد غير المحصى من الذين عاشوا فى البرارى القاحلة ، ومما يزيد فى ندرتها الظاهرية أن فطاحل المسيحية أمثال أثناسيوس الرسولى وباسيليوس وذهبى الفم لم يقضوا بها إلا فترة من الزمن ثم تركوا سكينتها وعاشوا فى صخب هذا العالم .
غير أن من يدقق النظر فى حياة النساك يجد أن الثمار التى جنتها الأنسانية من حياة الصحراء لا تقع تحت حصر . لأن أولئك النساك وإن لم يقدموا لنا كتبا مستفيضة تضارع ما كتبه فلاسفة المسيحية إلا أنهم قدموا لنا حياتهم مثلا حيا لإيمان راسخ وعقيدة ثابتة ويكفى للتدليل على صحة هذه الحقيقة التاريخية أن أحد هؤلاء النساك كان يملك نسخة واحدة من الكتاب المقدس ؛ فباعها ليوزع ثمنها على الفقراء ، ولما سئل عما فعل قال : " لقد نفذت الأمر الإلهى القائل ( بع كل ما لك وأعطه للفقراء ) " ... ولو أن العالم سار على منوالهم وأبدل القول بالعمل لتحول بين عشية أو ضحاها إلى جنة النعيم من جديد ، وهذه الحقيقة دليل ساطع على أن الذين اعتزلوا العالم وسكنوا الصحارى قد بلغ السلام أعماق نفوسهم فتذوقوا متعة الخلوة مع الله – وبالتالى كانت حياتهم المثل الفعلى لهذا السلام الذى ينبع من الداخل .
وهذه الصفة هى التى حببت الجماهير فيهم فتقاطروا عليهم ، ولم تلبث الصحارى أن تحولت إلى جنات من الخير والبركات تقدست بأنفاس لباس الصليب ،
وهكذا وجد الأنبا أنطونى أبو الرهبان نفسه محاطا بجمع غفير قطع عليه الخلوة التى كان ينشدها .
وأن البار الأنبا بولا – مع أنه يعد أول النساك – إلا أن الذى أنار السبيل أمام البشرية لحياة النسك فى عزلة الصحراء هو العظيم الأنبا أنطونى .
تمتاز كنيستنا القبطية الأرثوذكسية عن بقية كنائس العالم بالآتى :
(1) الفلاسفة العالميين الذين عملوا على دفع كل فرية توجه صوب عبادتهم المقدسة دفعا علميا قويا لا يوجد معه أى ثغرة للخصم يستند عليها .
(2) شهدائها الأبطال : الذين استعذبوا الموت حبا فى فاديهم ومخلصهم رب المجد يسوع ، عالمين أن : " الآم الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا " رو 8 : 18 .
(3) نشأة " الدعوة الرهبانية " فيها ، فما أن بزغ فجر القرن الرابع الميلادى حتى لمع فى سماء البرية ذلك الكوكب الوضاء : " الأنبا أنطونيوس " الذى اعتزل العالم مؤثرا الوحدة والأنفراد عاكفا على تقديم العبادة خالصة لله ، مجاهدا ضد العالم والجسد والشيطان ، وبقدر تجاربه وآلامه خرج منتصرا وظافرا !
لقد رأينا حياة النصرة الحقيقية من خلال جهاده الروحى .. رأينا أساليب محاربة العدو وحيله ..
لهذا نجد أن كل الكنائس شرقا وغربا تتخذ من القديس أنطونيوس أبا ومعلما ومرشدا .. يقول القديس أثناسيوس : " إننى أعد مجرد التذكر بأنطونيوس من جليل المنافع لنفسى ! . والوقوف على صفات أنطونيوس لمن اكمل السبل التى ترشد إلى الفضيلة " .
كم كان تأثير حياة القديس أنطونيوس عظيما فى النفوس ! لقد وصل القليل منها لمسامع القديس أغسطينوس فكان كافيا لأنتشاله من سقطته وانتقاله من حياة الشر إلى حظيرة المسيح القدوس !
قال القديس ايرونيموس : " انه لما ذهب أثناسيوس الرسول إلى رومية أخذ معه موجز سيرة القديس أنطونيوس الذى كان قد ألفه ، وأن أناسا كثيرين بعد أن قرأوا الخبر هجروا العالم وترهبنوا " .



حيـــــــاة كـــوكب البريـــــــــة

النشأة الصالحـــــة :
ولد الأنبا أنطونيوس حوالى عام 251 م ، فى بلدة تسمى قمن العروس ( إحدى قرى بنى سويف ) .. من أبوين تقيين مسيحيين فى عهد داريوس الملك ، وقد اعتنيا والداه كل الأعتناء بتربيته وتهذيبه ، حسبما تقتضى الوصايا الألهية واضعين نصب أعينهما قول الحكيم : " رب الولد فى طريقه فمتى شاخ أيضا لا يحيد عنه ، أبو الصديق يبتهج ابتهاجا ومن ولد حكيما يسر به " ( أم 23 : 24 ) .
حقا ، ما أحلى التربية وقت الصغر ، وما أعظم التهذيب فى الحداثة ، إن البيت هو المدرسة الأولى التى يتلقن فيها الطفل ما يكفى لصقل شخصيته واظهارها إما فى صورة ملك جليل ، أو فى هيئة شيطان رذيل !! ..
ما الطفل .. إلا وديعة طاهرة نتسلمها من الرب فإذا بواجبات تفرض على أبويه إزائه .. هو عجينة لينة تصاغ كيفما نريد .. منها نصنع تمثالا عجيبا جميلا .. ومنها نصنع شكلا مخيفا قبيحا .. ، فاذا فلتت الفرصة من والديه فعليهم أن يقدموا حساب وكالتهم .. ! .
من أمثلة العهد القديم أم موسى النبى ، التى سقت أبنها فى سنى حياته الأولى لبن الأيمان مع لبن ثدييها ، وهذبته حسب مخافة اللــــه ، ومع أنه لم يبق مع أمه سوى سنى الطفولة الا أن أربعين سنة كاملة سلخها فى قصر فرعون لم تكن لتغير من خلقه أو تحولـه ولو قيد أنملة عما تشبع به وقت الصغر !! .. وليس أدل على ذلك من أنه لما كبر " أبى أن يدعى أبن أبنة فرعون مفضلا بالحرى أن يذل مع شعب الله من أن يكون له تمتع وقتى بالخطية " ... وما الخطية هذه فى نظر موسى النبى ؛ هى شعوره بتميزه فى معيشته عن بقية أخوته العبرانيين ... الذين نظر إليهم فى أثقالهم وذلهم على يد المصريين .. ثم نراه يدافع عن العبرانى الذى من جنسه ويقتل المصرى ويطمره فى التراب .
عرف بولس الرسول قيمة التربية والتهذيب فى الصغر فقال يمتدح تلميذه تيموثاوس : " إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالأيمان الذى فى المسيح يسوع " ( 2 تى 3 : 15 ) .
وكم يدرك الآباء والأمهات عاقبة الأهمال وسوء التربية فى وقت الصغر عندما يعرضون لحياة عالى الكاهن الذى قضى لأسرائيل أربعين سنة ( 1 صم 4 : 18 ) .. لقد أهمل تربية ولديه حفنى وفنحاس اللذين سارا على حسب أهوائهما وعبثا ببيت الله ، واذ أراد عالى ردعهما فى وقت الكبر لم يستطع الى ذلك سبيلا وعندئذ جاءه رجل الله وقال له : " هكذا يقول الرب لما تدوسون ذبيحتى وتقدمتى التى أمرت بها فى المسكن وتكرم بنيك على لكى تسمنوا أنفسكم بأوائل كل تقدمات إسرائيل شعبى ، لذلك يقول الرب إله إسرائيل إنى قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامى إلى الأبد والآن يقول الرب حاشا لى ، فإنى اكرم الذين يكرموننى والذين يحتقروننى يصغرون هوذا تأتى أيام اقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ فى بيتك وترى ضيق المسكن فى كل ما يحسن به الى اسرائيل ......... وهذه لك علامة تأتى على ابنيك حفنى وفنحاس فى يوم واحد يموتان كلاهما وأقيم لنفسى كاهنا أمينا يعمل حسب ما بقلبى ونفسى وابنى له بيتا أمينا فيسير أمام مسيحى كل الأيام ويكون ان كل من يبقى فى بيتك يأتى ليسجد له لأجل قطعة فضة ورغيف خبز ! . " ( 1 صم 2 : 27 – 36 ) .
++ كبر أنطونيوس قليلا وما كاد يتم دور الطفولة حتى كان قد تعود على الذهاب الى بيت الله للصلاة فى كل أوقات العبادة ، دخل الكنيسة فطبعت محبتها فى قلبه وقال حقا : " ان الوقوف على عتبة بيتك خير من الجلوس فى خيام الأشرار " ( مز 84 : 10 ) . سمع كلام الحياة فقال ما أحلاه .. نظر إلى الصبية أترابه ورأى طريقهم المعوج فابتعد عنهم مؤثرا العزلة عالما أن : " المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة " ( 1 كو 15 : 33 ) .
وقد وهبه الله حكمة وفهما عظيمين حتى أنه كان يحفظ كلام الله بمجرد سماعه ! .
يقول عنه القديس أوغسطينوس : " إن انطونيوس الراهب المصرى الذى كان رجلا قديسا قد تعلم عن ظهر القلب كل الكتب المقدسة لمجرد سماعه الآخرين يقرأون وقد فهم كنة معانيها بالتأمل والأفتكار فيها مليا " .
وهكذا كان أنطونيوس :
" ينمـــــو فى النعمـــــــــة وفى معــــــرفــة ربــنـــــــا ومخلصنـــــــا يســـــوع المسيــــح " ( 2 بط 3 : 18 ) .


قســـــــوة الحـــيـــــــــاة ! ! :
" إن فرح العالم ليس فيه شىء يعتبر راهنا ثابتا ولكنه زائل جميعه ، وهو يشبه النهر الذى يجرى عند انسكاب الأمطار على الأودية فيظن من يراه أنه ثابت يدوم وهو بالحقيقة نهر مستعارة مياهه وتنتهى بغتة مع أنتهاء المطر ! . "
( يوحنا ذهبى الفم ) .
ما أن وصل الفتى أنطونيوس إلى الثامنة عشر من عمره حتى تعرض لتجربة وفاة والده ! وهنا كانت الصدمة ! بل هنا كانت التجربة ... انه يافع صغير وله أخت أصغر منه ، .. ولم يعتد مثل هذه الآلام ، كما أنه لا يقوى على تحمل أعباء العائلات بعد ، فماذا يفعل أنطونيوس ؟ .. لم تزده التجربة إلا إيمانا وثباتا ورسوخا
ولم يكد يفيق من تجربة رحيل والده حتى انتقلت والدته أيضا ، فحرم من الأثنين .. وعندئذ ازدوجت التجربة ! نظر فإذا به وحيدا ليس له فى البيت سوى أختا صغيرة ...
حرم من والده ؛ فحرم من التربية الأسرية والنصائح والأرشادات ، ووجد هذه الجوانب فى عطف والدته ومحبتها ورعايتها له ولأخته ، ثم شاءت الأقدار أن يحرم من والدته أيضا .. فأصبحا وحيدين ، إلا أن احساسهم بأبوهم السماوى لم يفتر ... وكذلك عوضتهم الكنيسة وارتباطهما بها عن حنان الأم وعطفها .. بل زادت عن الأم الجسدية بالبركات الروحية ، وكأنى بأنطونيوس وأخته يناجيان أباهما السماوى
" ..... إننا نعلم أن اسمك برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع " ( أم 18 : 10 ) .

+ + +

إن القديس أنطونيوس فى صدمته هذه يرينا كيف يجب على المؤمن الحقيقى أن يقبل التجربة بشكر دون أن تفل من عزمه أو أن تؤثر فى إيمانه إذ : " كثيرة هى بلايا الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب " ( مز 34 : 19 ) .
"... لأننى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى " ( 2 كو 12 : 9 ، 10 ) .
فى صفحات التاريخ نجد أن أعظم الرجال قد اجتازوا بين الضيق والألم :
فايديسون مخترع الكهرباء باع الجرائد والمجلات فى الشوارع والطرقات !!
وملتون الشاعر العظيم كتب أبلغ قصائده بعد أن فقد بصره !
وبيتهوفن وضع أعظم مقطوعة موسيقية وهو أصم !!

ومن شخصيات الكتاب المقدس :
أبونا يعقوب .. رأى باب السماء عندما كان هاربا وبلا مأوى من وجه أخيه عيسو .... وتحمل مشقة العمل مع خاله لابان لمدة أربعة عشر عاما من أجل راحيل المحبوبة .
ويوسف الصديق ... قبل أن يكون الرجل الثانى فى بلاط فرعون ... الذى أدار منطقة الشرق الأوسط فى سنوات القحط والجوع ... واجه اكثر من تجربة .... من تجربة إلقاءه فى بئر مهجور بيد أخوته ، إلى بيعه للأسماعيليين كعبد ... إلى رميه فى السجن بسبب ظلم زوجة فوطيفار له ...
لقد غرس الله بذور الدموع فى الأرض ليخصب بها مادة حياتنا ، إنه يحق بنا أن نشبه الألم واللوعة والحرمان والأضطهاد بجواهر ثمينة مختلفة يزدان بها تاج حياتنا ... إن التجربة هى للأنسان كالبوتقة للذهب تمحصه وتنقيه وتقوى الرابطة بينه وبين إلهه ، وحينئذ يناديه الرب من وسط التجربة قائلا : " لا تخف لأنى افتديتك ، دعوتك بإسمك أنت لى ، إذا اجتزت فى المياة فأنا معك ، وفى الأنهار فلا تغمرك ، إذا مشيت فى النار فلا تلدغ واللهيب لا يحرقك لأنى أنا الرب إلهك قدوس اسرائيل مخلصك " ( أش 43 : 1 – 3 ) .

ويسوع الذى تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين فى تجاربهم

وكما أن الزيتون لا يخرج زيته اللذيذ الطعم الذكى النكهة إلا بعد عصره ، هكذا المؤمن لن يصل إلى الكمال إلا بعد أن يعصر تحت الآلام ... هذه هى فوائد الألم ، والمسيحيون الذين جازوا فى التجارب وخرجوا منها بروح شكر ، يشهدون لهذه النتائج المباركة يقولون لنا إنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا بعد التذلل ، والآلام لها الفضل فى تحريرهم من خداع العالم وفك طلاسمه عن قلوبهم ، لها وحدها الفضل فى تجديد الأمور الروحية إلى نفوسهم ، وبطبيعة الحال مثل هذه الأختبارات لا يمكن أن تكون نتيجة غضب الله بل محبته ، ومهما يكن من حدة اللهجة التى يخاطبنا بها الله فإن صوته صوت أب ووراءه قلب أب ، وكل القصد منه أن يدفعنا للأحتماء به والألتجاء إلى شخصه ، والله الذى يعد الدودة وهو يستعمل كليهما فى بناء الأيمان فى القلب البشرى .

+ + +

نظر الفتى أنطونيوس إلى الحياة ومباهجها بعد فقد والديه فإذا بها سراب وخيال ... ولم ينفع الغنى والثروة التى يمتلكها والده فى أن تمنع الموت ، أو تعطى السعادة للأنسان ... ونظر وتأمل فى كل شىء حولـه فلم يرى من الحياة سوى :
" شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهوته " ......
برغم أن والده ترك له ثروة كبيرة إلا أنه :
+ كان ذا قلب مفتوح ، ذو بصيرة روحية ، حتى أنه لما شهد جثمان أبوه ، ناداه " أنت خرجت من العالم مرغما ، أما أنا فسأخرج منه بارادتى ! " .

أنطونيوس والمال :
" ما أعسر دخول ذوى الأموال المتكلين على أموالهم إلى ملكوت الله ! " ( مر 10 : 24 )
" لأنه لا يمكن للأنسان أن يخدم سيدين الله والمال !! . " ( مت 6 : 25 ) .
انتقل والدا أنطونيوس وتركا له ثروة طائلة إذ كانا من أغنياء عصرهما ، ترى هل ينمى هذه الثروة وهو يدرك " أن المال أصل لكل الشرور الذى اذا ابتغاه قوم ضلوا عن الأيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة ؟ ! " ( 1 تى 6 : 10 ) ... كم كان يخشى الفتى أنطونيوس أن تكون هذه الأموال سببا لفقد حياته الروحية الهادئة والنامية ... هل احتفاظه بالمال يتفق مع رغبته فى الوحدة والأنفراد والعبادة ؟
أليس الأحتفاظ بالمال دليل على أنه مازال ينظر إلى الحياة وملذاتها ومباهجها !
كان اتجاهه للوحدة والعبادة أقوى من كل إغراء ...
ان أشد ما كان يقلقه هو مصير ومستقبل أخته فى هذه الفترة من حياته ... ولكنها هى الأخرى توافقه على رغبته وتود أن تنذر نفسها للرب ! ... بقى بعد ذلك كيفية التصرف فى ماله ، لقد كان يدرك تماما قول السيد المسيح : " .... لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون ، بل اكنزوا لكم كنوزا فى السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضا " ( مت 6 : 19 – 21 ) . .....
وأيضا وضع أمام عينيه قول السيد المسيح له المجد : " .... لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون ... لكن أطلبوا أولا ملكوت الله وبره ، وهذه كلها تزاد لكم " ( مت 6 : 25 – 33 ) . ....
كان متأثرا بتلك الروح الواحدة أيام الرسل عندما كان الناس يبيعون حقولهم وبيوتهم ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أقدام الرسل ، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له إحتياج ،
تلك التعليمات الثمينة التى لمخلصنا الصالح .... وأعمال الرسل ... وتعاون المسيحيين الأوائل فى أمورهم المادية .. كانت نصب عينى الشاب أنطونيوس .
اضافة لذلك قول السيد المسيح : " ماذا ينتفع الأنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ، أو ماذا يعطى الأنسان فداء عن نفسه ؟ ! " ( مت 16 : 26 ) .
كم كان المال سببا فى هلاك كثيرين وفقدهم لحياتهم الأبدية ! يفقد الأنسان أقرب الناس لـه بسبب الطمع ومحبة المال ... خاصة ما يتعلق بالأعمال التجارية أو بالميراث ... ، وفى العهد القديم نجد أمثلة كثيرة لهلاك أناس أحبوا المال ... مثل :
عخان بن كرمى .... الذى أخذ لنفسه رداء شنعاريا نفيسا ومئتى شاقل فضة ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلا ، وطمرها فى خيمته ...... ، والنيجة لم يتمكن بنو اسرائيل من الثبوت أمام أعدائهم " ( يش 7 : 11 ، 12 ) . وكانت نهايته أن رجمه جميع الأسرائيليين مع ماله وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته .... وأحرقوهم بالنار وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة !!
وجيحزى تلميذ أليشع النبى : اذ ركض وراء نعمان السريانى مسرعا وأخذ منه وزنتى فضة فى كيسين وحلتى الثياب ثم أودعهما فى بيته دون علم سيده ...... كان حكم أليشع النبى أن يلصق به برص نعمان السريانى هو ونسله إلى الأبد ( 2 مل 5 : 25 – 27 ) .
وفى العهد الجديد مثل الغنى الغبى : الذى شعر بوفرة محصوله وكثرة خيراته ، فأراد أن يبنى ويوسع من مخازنه .... ( ليس لغرض معاونة الفقراء والمحتاجين .. أو لخدمة الكنيسة ) ... إنما ليستريح ويأكل ويشرب ويلهو .... ظانا أن عمره طويل ، فسمع ذلك القضاء المحتوم : " يا غبى فى هذه الليلة تطلب نفسك منك .. فهذه التى أعددتها لمن تكون ؟ ! " .
وحنانيا وسفيرة : إذ أرادا أن يوفقا بين السير حسب قانون التلاميذ الأولين وبين حبهما للمال ، باعا ملكا وأختلسا من الثمن وأتيا بجزء ووضعاه عند أرجل الرسل ، ... فكانت النتيجة موتهما عند أرجل الرسل وأمام الجميع . ( أع 5 : 1 – 12 ) .
صلى الشاب أنطونيوس إلى اللـــه أن يرشده ، وفى يوم الأحد ذهب إلى الكنيسة وهو واثق بأن الله سوف يرشده إلى الطريق الصحيح .... لقد كان الأنجيل فى ذلك اليوم عن الشاب الغنى الذى ذهب إلى رب المجد مستفسرا عما يوصله إلى الحياة الأبدية ، ... قال له السيد المسيح :
" إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى "
أدرك انطونيوس أن ذلك الشاب أصبح ضحية للمال الذى أستهوته محبته ... ، كما سمع أيضا – عن أوجه البر التى يجب أن تصرف الأموال فيها – وأهمها قول السيد المسيح لتلميذه القديس بطرس : " كل من ترك بيوتا أو أخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من أجل اسمى يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية " ( مت 19 : 29 ) .
إذ اعتبر انطونيوس من هذه الرسالة جوابا من الله لطلبته وكشفا منه تعالى عن الطريق المستقيم ، خرج من البيعة وقد وطد العزم على السير حسبما سمع حرفيا حتى لا يحرم من الكنز السماوى !
ما أعظمك يا أنطونيوس فى ثقتك بإلهك ! وما أحوجنا إليك الآن لتلقى على أغنيائنا عظة صامتة ، علهم يستطيعون تحديد موقفهم بإزاء المال حاسبين – مع الرسول – كل شىء نفاية ، ليربحوا المسيح !! . ( فى 3 : 8 ) .
لا يجب أن نستصعب موقف هذا القديس ، لأن محبة الله ملأت قلبه .... لننظر إلى الأرملة الفقيرة ، التى انتظرت حتى ألقى الجميع عطاياهم ... ثم تقدمت هذه المسكينة ماديا – الغنية روحيا – وألقت " فلسين " فى الخزانة ؟ هوذا الرب يكشف الستار عما فعلته ويقول : " الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة ! لأن الجميع من فضلتهم ألقوا وأما هذه فمن أعوازها ألقت ما عندها ، كل معيشتها !! " . ( مر 12 : 43 ، 44 ) . وزكا العشار حصل على الخلاص هو وأهل بيته عندما أعطى نصف أمواله للمساكين ، ورد أربعة أضعاف للذين أوشى بهم .... وربما يكون قد استدان لسداد هذا التعهد !
أجل ... إن الذى لا يقو على العطاء فى وقت الفقر لايمكن أن يعطى فى حالة الغنى ، والذى لا يقدم للـــه اليوم من ثروته الصغيرة ، يزداد بخلا وجشعا ومحبة للمال غدا إذا نمت ثروته وأصبحت كبيرة !! .

+ + +

هجـــــر العالــــم :
انتهى انطونيوس من توزيع أمواله ومقتنياته على الفقراء والمساكين ، وصمم على ترك العالم وهجر الحياة الدنيا ذاكرا أن : " محبة العالم عداوة للــــه " .
قام بضم شقيقته إلى أحد ديارات الراهبات ( * من الثابت تاريخيا أن ديارات العذارى قد وجدت منذ العصر الرسولى – أى أنها سبقت أديرة الرجال ) – وما أقسى تلك اللحظة التى ألقى انطونيوس فيها نظرة الوداع على شقيقته ... كانت لحظة قاسية على الطرفين ... لقد حرما من والديهما ، وهاهما الآن يفترقان ... ليس من اليسير أن تصبح فتاة صغيرة بين عشية وضحاها محرومة من رؤية شقيقها ومن عطفه ومحبته ، الآن يجمعهما محبتهما للسيد المسيح الفادى ... وتجمعهما روح العبادة .. ويجمعهما جوهر المحبة الخالصة .
اختلى انطونيوس وذهب يطلب الله فى البرية ... لقد كان هناك أناس آثروا العبادة على الأنغماس فى أمور الحياة الفانية ... وكانوا يقطنون أطراف المدن ملازمين على العبادة ، ويقتاتون من عمل أيديهم ..... لعل الأنبا أنطونيوس قد مر على هؤلاء واحدا بعد الآخر ليرى نظرة كل منهم للحياة وليدرب نفسه على التقوى العملية .
استقر انطونيوس فى بداية حياته الرهبانية عند أحد الشيوخ الوقورين ... هذا الشيخ هجر الدنيا منذ صباه ، وقضى أغلب سنى حياته فى تلك العزلة الجميلة ، جاءه انطونيوس يريد أن يتتلمذ له ... لا شك أن هذا الشيخ بين له وعورة الطريق ومتاعب العزلة ، ولكنه إذ رأى إصرارا من الفتى لم يكن بد من قبوله .
لقد تحصن أنطونيوس فى مشواره الروحى بأسلحة روحية هامة .. مثل :
أولا : الصلاة
كان يصرف الليل كله فى الصلاة ... كان يعلم أنها أول الأسلحة التى سوف ينتصر بواسطتها ، هى حبل الأتصال بينه وبين خالقه .. " فكل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين تنالوه ! " . ( مت 21، مر 11 ) .
لقد أوصانا رب المجد قائلا : " صلوا كل حين ولا تملوا " ( لو 18 : 1 ) .
ما أعظم قوة الصلاة .. هى مفتاح السماء ، بها استطاع إيليا أن يغلق السماء ويفتحها .. بالصلاة حول دانيال الأسود المفترسة إلى حيوانات مستأنسة .. بالصلاة انكسرت أقفال السجن وخرج بطرس وانفكت قيوده الحديدية .. كما تزعزعت أمام صلاة بولس أركان السجن وفتحت أبوابه العالية القوية !
الصلاة هى وليمة الكنيسة وهى حياة الملائكة
الصلاة هى صدى صوت حياة المسيحى مرتدا من الأرض إلى السماء
الصلاة هى مخزن القوة المقتدرة وملجأ الخاطىء الأثيم
الصلاة هى المن السماوى الذى يشبع وينعش ويبهج
الصلاة هى طريق المجد فى الفلك الروحى وهى عصفور الجنة
الصلاة .. هى نواقيس الكنيسة يدوى صوتها إلى ما وراء السحب !!
إذا كانت تلك بعضا من قوة وبركات الصلاة .. فعلينا أن نتقدم للرب بصلوات حارة بروح الأنسحاق ، وقلوب منكسرة .. وبكل تواضع حتى لا يرذلنا اللــــــه ، طالبين على الدوام قائلين :
" يارب علمنــــــا أن نصـــــلى "

( لو 11 : 1 ) .

+ + +

ثانيا : الصوم
لم يغفل أنطونيوس السلاح الثانى العظيم وهو " الصوم " بل مارسه وتمسك به وحاز قصب السبق فى ميدانه ، فقد ذكر عنه أنه كان يصوم أياما متوالية دون طعام ولا ماء ، ذلك لأنه يعرف تماما أن :
" هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشىء إلا بالصلاة والصوم " ( مر 9 : 29 )
والكتاب المقدس يبين لنا فائدة الصوم وقوته ، فأهل نبنوى نالوا عفوا من الله عندما صاموا ولبسوا المسوح ، وأول وصية كانت من الله لأبونا آدم هى الصوم .. فقد سمح له أن يأكل من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة ... أراد الله أن يدرب أبوينا آدم وحواء على الصوم والطاعة ... .
أدرك جماعة الرهبان والنساك قيمة الصوم .. مع الصلاة ، فنجد غالبيتهم يصومون أياما طويلة بدون طعام ، وعند الضرورة يأكلون القليل على قدر حاجة الجسم فقط .
والصوم هو حال السمائيين من الملائكة والقديسين ... فطعامهم هو التسبيح الدائم للــــه ، ونحن عندما نصوم فكأننا نشارك السمائيين حياتهم ونظامهم ... ويكون لنا فرصة حقيقية للصلاة والأندماج معهم فى التسبيح .

+ + +

ثالثا : الصدقـــــة
ذلك هو السلاح الثالث تقلده قديسنا العظيم فى خلوته ، كان يصرف أوقات فراغه فى العمل اليدوى ، وكان هذا يدر عليه ربحا بسيطا لا يستبقى منه سوى شيئا ضيئلا جدا ، أما الباقى فيوزعه على الفقراء والمحتاجين ، منفذا قول مخلصنا : " لا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه ، ويكفى اليوم شره " ( مت 6 : 34 ) .
31
الأنسان الذى يقدم للفقير صدقة فى الخفاء ... لا بد أن يكون إيمانه ثابتا قويا إذ هذه هى الديانة الطاهرة النقية ! ( يع 1 : 27 ) .
والمسيحيين الأوائل لم يتوانوا عن تقديم المساعدة لبقية الكنائس التى كانت تحتاج لمعونة بسبب الأضطهاد والضيق من سلب أموالهم ، ويظهر ذلك فى مساعدة كنيسة أنطاكية لفقراء أورشليم ، ( أع 11 : 27 ، 28 ) .
تلك الأسلحة الثلاث : صلاة ... وصوم ... وصدقة ... يحتاج إليها كل مؤمن يسير فى الطريق الروحى وحياة النمو .. .

+ + +

الحرب الأولى !!
لم تمض فترة كبيرة على تتلمذ الأنبا انطونيوس لذلك الشيخ المتوحد حتى ظهرت فضائله وشاع جميل صفاته ، فأنزلـه معلمه من نفسه منزلة كبيرة ونظر إليه نظرة ملؤها الرجاء والأمل وابتدأ يهتم به الأهتمام كله .... لاحظ هذا الشيخ الروحانى أن الأنبا أنطونيوس يحفظ ويتلى أمامه من فصول الكتاب المقدس بمجرد القراءة الأولى لها !
لم يهمل انطونيوس دراسة كلمة الله دواما ، بل فلنقل انها كانت تعزيته فى وحدته وفى أوقات فراغه ، وكان على الدوام يقول : " سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى " ( مز 116 : 105 ) " الوصية مصباح والشريعة نور " ( أم 6 : 23 ) – ودراسة الكتاب المقدس من أهم مستلزمات الأنسان المؤمن إذ بها : " يعرف الكتب المقدسة القادرة أن تصيره حكيما للخلاص بالأيمان بيسوع المسيح " ( 2 تى 3 : 15 ) .
نظر الشيطان إلى حالة الأنبا انطونيوس وفضائله فوجد أنه ينمو دواما فى النعمة والمعرفة ، ولكن أيتركه على هذه الحال ؟! لقد أدرك الشيطان أنه إذا ما نجح القديس فى رسالته هذه ، فسوف تتحول البرارى والقفار إلى جنات مقدسة تمتلىء بالعابدين ، وفى هذا ما فيه من خذلان وسقوط له ، فماذا يفعل ؟
تجربة الطعام :
تلك هى حملة الشيطان الأولى " تجربة الطعام " ... حاول الشيطان أن يذكر انطونيوس بملذات الطعام ، الذى كان يأكله فى بيت أبيه .. بالأضافة إلى مباهج الحياة .. نفس الحرب التى أمكن للشيطان أن يتغلب فيها على أبونا آدم وأمنا حواء ..! وصاحب السيرة إذ كان يعرف تماما " أنه ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( مت 4 : 4 ) ... انتصر على تلك التجربة بكل سهولة ، واستطاع أن يشتت هذه الحملة الأولى ، إذ كان يقول : " لقد تدربت أن أشبع وأن أجوع " ( فى 4 : 12 ) ...
" وقد تعلمت أن اكون مكتفيا بما أنا فيه ! ... " ( فى 4 : 11 ) .
وتجربة الطعام تجربة قاسية ، جرب بها اسرائيل عند خروجهم من أرض مصر بذراع رفيع ويد قوية ، فلم يقووا على تحملها .
هذا شعب جرب عن طريق الطعام وسقط ، لهذا جاء السيد المسيح وصام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة وتغلب على الشيطان ، ليعطينا أن نغلب نحن أيضا على المحاربات الروحية .
تجربة المال :
انتصر القديس فى تجربة الطعام ... حاول الشيطان أن يحمله على التفكير فى حالته الأولى ولكنه وجد عدم اهتمام من الفتى الذى كان يقول دواما : " أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام " . ( فى 3 : 13 )
ويذكر فى بعض الميامر أن الشيطان كان يكشف للقديس عن بعض الكنوز الذهبية التى واراها التراب لعله يتأثر ببريق الذهب ولمعانه وعندئذ يصبح على قاب قوسين أو أدنى من السقوط ، إلا أن انطونيوس كان يناجى نفسه عندما يرى مثل هذه الكنوز قائلا : " حد عنه واعبر " ( أم 4 : 15 ) . " إهرب لحياتك " ( تك 19 : 17 ) " إذ لا يمكن للأنسان أن يخدم سيدين الله والمال ! " ( مت 6 : 25 ) ، يفعل هذا وفى الوقت عينه يزيد فى تقشفاته وأماناته وسهره وصلواته ، وبذلك كتب له النصر فى هذه الحملة الثانية !!
وكم من أناس يغريهم الشيطان بمحبة المال فيسقطون ، تاركين كل شىء وراء ظهورهم عدا عبادتهم لأموالهم ، دون أن ينصتوا لقول الرسول : " هلم الآن أيها الأغنياء أبكوا مولولين على شقاوتكم القادمة ، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها العث ، ذهبكم وفضتكم قد صدئا ، وصداهما يكون شهادة عليكم ويأكل لحومكم كنار ، قد كنزتم فى الأيام الأخيرة ... قد ترفهتم على الأرض وتنعمتم وربيتم قلوبكم كما فى يوم الذبح " ( يع 5 : 1 – 5 ) .
لهذا حق للقديس أنطونيوس أن يحذر تلاميذه قائلا : " إن الراهب لا يكون راهبا صادقا ما لم يتمم قول المخلص للشاب الطالب الكمال : " إن أردت أن تكون كاملا اذهب بع مالك واعطه للمساكين " ( مت 19 : 21 ) .
مما يذكر عن الأنبا أنطونيوس أن شابا غنيا رغب يوما فى الزهد والعبادة ، فوزع جزءا من أمواله على الفقراء واحتفظ بالباقى لنفسه ، ثم ذهب ليتتلمذ للأنبا أنطونيوس الذى إذ علم بما فعله قال له : إننى لا يمكننى أن أقبلك راهبا إلا إذا ذهبت إلى المدينة وأحضرت مقدارا من اللحم وحملته فى ثيابك إلى ههنا ، ولرغبة الشاب فى متابعة القديس أطاع ، وما أن وضع اللحم فى جلبابه وسار به حتى ابتدأت الكلاب تنهشه والطيور الجارحة تحوم حولـه وتنقض عليه ، ولما وصل إلى القديس شرح له ما حدث فقال له :
" لقد حفظت لنفسك مالا وأردت أن تكون ناسكا زاهدا ، ولا يمكن يا ابنى الجمع بين الرغبتين ! لأن العابد الذى يسعى فى إحراز المال والسير مع العالم لا بد أن يصبح هدفا لأنياب الكلاب الجهنمية ومخالب الطيور الجحيمية ! "
وللحال قام الشاب بتوزيع كافة أمواله وعاش ناسكا زاهدا حقيقيا .

+ + +





تجربة الأهتمام بشقيقته :
بدأ الشيطان يشغل تفكير انطونيوس فى أخته والتفكير فى حالها وفى معيشتها .. أهى آمنة مطمئنة ؟ أهى فرحة مستريحة ؟ أم تعيش فى آلام ، وتسير بين أشواك ؟ !
تقبل أنطونيوس هذه الحملة بثبات تام ورباطة جأش ، متأكدا أنها وديعة مقدسة تسلمها رب المجد وهو كفيل بالعناية بها والمحافظة عليها إذ إن نسيت الأم رضيعها فأنا لا أنساكم يقول الرب ، وما دامت حياتها الروحية فى نمو وتقدم ، فهذا كل ما يبغيه أتباع السيد المسيح الذى يأمرنا قائلا : أطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم ( مت 6 : 33 ) .
وهكذا استراح تفكير انطونيوس عندما تذكر قول المخلص : " من لا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه فلا يقدر أن يكون لى تلميذا ؟ ! ( لو 4 : 26 ) إذن :
" دع الموتى يدفنون موتاهم ! " . ( مت 8 : 22 ، لو 9 : 60 ) .
الحرب الثانية :
" ان قلمى لم يسطر من فضائل القديس انطونيوس الكثيرة وتقشفاته الشاقة ... وحروبه وانتصاراته الباهرة إلا واحدا من مائة ! .. ولكن هذا المقدار كاف لأن تعلموا كيف تدرج رجل الله منذ نعومة أظفاره حتى نهاية أيام شيخوخته ، وكيف داس تحت أقدامه كل غواية شيطانية !! " ( أثناسيوس الرسولى ) .
خرج الأنبا انطونيوس من حربه الأولى مع الشيطان فائزا منتصرا ، غير أن انتصاره لم يمنعه من أن يتحصن اكثر فأكثر ، لعلمه أن عدوه أللدود لن يتوقف عن محاربته ومهاجمته ، ففضلا عن صلواته وأصوامه وعبادته كان يسهر جل الليل – إن لم يكن كله – ذاكرا : " إن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء ، مع السلاطين ، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر ، مع أجناد الشر الروحية فى السماويات " ( أف 6 : 12 ) .
الحملة الأولى : الشهوات الشبابية

بدأ الشيطان حملته الأولى بأن ترآى للقديس فى شكل نساء جميلات ... أو فى محاربات فكرية وأحلام ورؤى وغيرها .... تأمل القديس هذه الحروب وهنا تذكر قول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس : " أما الشهوات الشبابية فاهرب منها " – وهنا أمسك بترس الصلاة ، فلم يكد يبدأ بها حتى تلاشى من أمامه هذا المنظر الشرير ! .
ثمة مناظر كثيرة كهذه تتمثل للفرد فى كل يوم ، يغريه بواسطتها الشيطان على السقوط فى الخطية ، وخير مثل لنا نحتذيه فى هذا الصدد هو يوسف البار الذى إذ تجسمت الخطية أمام عينيه رفضها فى إباء وتعفف عظيمين ، قائلا : " كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله ؟ !" .
الحملة الثانية : الضرب والتعذيب

على اثر انتصار انطونيوس فى حملته الأولى هذه ، انتقل من مكانه واعتزل فى قبر قديم هو أشبه بمغارة صغيرة ، وهناك كان يصرف وقت فراغه فى عمل السلال من الخوص ، وعندما كان يعاوده صاحبه الذى كان يتعاهده بالطعام بين الحين والآخر ، كان يحمل عمل يدى القديس معه ليبيعه ويشترى بثمنه خبزا .
دهش الشيطان من قوة احتمال القديس وشدة تحصنه ، وفى ذات ليلة وثب عليه وابتدأ يضربه بكل قوته ! ، ولم يتركه إلا بعد أن خارت قواه وسقط على الأرض أشبه بميت منه بحى ! ...
وعندما جاء صاحبه ووجده على هذه الحال .. حمله وأوصله إلى كنيسة القرية المجاورة ... حضر الجميع ليروا القديس وكم كان الهم شديدا عندما أبصروه على هذه الحال ظانين أنه قد أشرف على الموت .
وبعد أن فتح عينيه .. وتذكر ما حدث طلب من صاحبه أن يعيده دفعة ثانية إلى المكان الذى كان فيه ، فرضخ صاحبه للأمر وتمم رغبته .
وما أن اختلى القديس أنطونيوس بنفسه حتى شرع يصلى بصوت الواثق المطمئن قائلا : ( مز 27 )
الرب نورى وخلاصى ممن أخاف !
الرب حصن حياتى ممن أرتعب ...
عندما اقترب إلى الأشرار ليأكلوا لحمى ...
مضايقى وأعدائى عثروا وسقطوا ...
إن نزل على جيش لا يخاف قلبى ...
وإن قامت على حرب ففى ذلك أنا مطمئن .............. "
الحملة الثالثة : الرعب والتخويف

تظاهر الشيطان للقديس أنطونيوس على شكل وحوش مفترسة يحاولون مهاجمته ... كل هذا والقديس فى مكانه لم يتحرك ! بل قال : " حتى شعور رؤوسنا محصاة أمامه " ( مت 10، لو 12 ) .
بدأ القديس يسخر من أبليس قائلا لهم : لو كانت لكم قدرة على إيذائى لكفى واحدا منكم لمحاربتى ! ... ثم رشم علامة الصليب ، فإذا بكل ما حدث كأنه لم يكن !!
إن روح التواضع التى عاشها القديس أنطونيوس غلبت الشياطين ، وهربت منه .
لقد عرف أثناسيوس الرسولى أن يرسم صورة خلابة لحياة معلمه العجيب أنطونى فى هذه الفترة فبين للعالم أجمع كيف تكتلت عليه الشياطين لعلهم يظفرون به ، فيدفعوه إلى العودة عن الطريق الذى أختطه لنفسه فسار وراءه الملايين ، فصور لنا أثناسيوس الرسولى كل تلك التجارب والحروب التى تعرض لها القديس أنطونى ، ولا يزال الناس يتأملون هذه الصورة التى صورها أثناسيوس لمعلمه فتخلب ألبابهم ويقفون أمامها حائرين متعجبين : إنها صورة غير المستطاع وقد أصبح مستطاعا ، وصورة الآيات والعجائب تحدث يوميا ، وخلف هذه الصورة الأخاذة يرن صوت أنطونى : " لا يزعمن انسان ترك العالم أنه أتى عملا عظيما ، فالعالم كله مقابل السماء والأبدية ليس سوى نفاية " .
ولقد وصف مؤرخ غربى هذه الفترة من حياة الأنبا انطونى بقولـه : " لقد تعرض القديس وهو فى خلوته الأولى لتلك المحاربات الشيطانية التى جعلت من حياته موضع السخرية للمتشككين ، والشفقة للمتساهلين ، والدهشة للمؤمنين المتيقنين من وجود عدو يزار كالأسد ومن قوة غير منظورة تنصر الكنيسة بلا أنقطاع ، ومن يتشكك فى هذه المحاربات إنما ينكر كل حادث خارق للطبيعة ويزدرى بشهادة عدد عديد من الناس الذين لا يتطرق الشك إلى قداستهم ، ولسنا هنا نحاول الدفاع عن هذه المحاربات الخارقة ، ولكن الذى لا يمكن الشك فيه مطلقا هو أن العيشة التى قضاها أنطونى ورهبانه المصريون هى انكار لكل الغرائز والميول الطبيعية . وهذه الحياة الخارقة للطبيعة التى عاشها هؤلاء الرهبان فى خطر مستديم ، وفى جوع وألم ، هى أعجب ما عرفه الأنسان ، وهم كانوا يتحملون كل هذه الضيقات والمخاطر من غير أن يمتدحهم إنسان – أى أنهم لم يطلبوا مجدا من الناس لأنهم عاشوا فى معزل عن الناس .
+ + إلى البريــــــــــــــة
كان نصر انطونيوس على الشيطان فى الحربين الأولى والثانية ، سببا فى ازدياد ثباته . ووثوقه فى سيده وفاديه يسوع المسيح ، لذا رغب فى ترك عزلته ، والتوغل فى البرية اكثر ليتمتع اكثر فأكثر بعذوبة العبادة وجلال الوحدة .
اجتاز انطونيوس نهر النيل ، وسار متكلا على قوة الله ، مرددا ما ذكره اشعياء النبى : " اجعل فى البرية طريقا ، فى القفر انهارا ، يمجدنى حيوان الصحراء ، الذئاب وبنات النعام ، لأنى جعلت فى البرية ماء ، انهارا فى القفر لأسقى شعبى مختارى هذا الشعب جبلته لنفسى يحدث بتسبيحى " ( أش 43 : 19 ، 20 )
وبعد فترة عثر على اطلال قصر قديم فطاب له المقام فيه ، وما أن دخله حتى هجرته الوحوش المفترسة والحشرات السامة التى كانت قد ملأته من قبل !
أعد القديس لنفسه مكانا فى داخل البرج ، وكان قد حمل معه من الخبز الجاف ما يكفى لسد حاجته ستة أشهر كاملة ، أما الماء فكان يستقيه من عين تنبع فى أحدى الصخور القريبة من المكان ، وهكذا عاش أعذب عيشة مجتهدا فى نسكه ومكثرا من صلواته وأصوامه وتقشفاته ..
البرية والكتب السمــائيــــة :
ودارس الكتب السماوية يعرف تماما ما للبرية من الأهمية ، إذ فيها تخرج أعظم الأنبياء ، فموسى كليم الله قبلما يرسل إلى الديار المصرية ليكون زعيما للأمة الأسرائيلية عاش مختليا مع ربه فى البرية حيث استمد منه تعالى قوة صنع المعجزات ، وتلقن أول درس عن سر التجسد المجيد عندما أبصر العليقة تشتعل بالنيران وأغصانها لم تحترق !
وإيليا النبى رجل الغيرة ، كان يسكن فى البرية أغلب أوقاته ، وهناك أعاله الرب بواسطة الغربان التى كانت تحضر له فى كل يوم قوته ( 1 مل 17 : 3 – 6 ) .
ويوحنا المعمدان ذكر عنه الكتاب المقدس انه : " يأكل جرادا وعسلا بريا ، وكان فى البرارى إلى يوم ظهوره لإسرائيل " ( لو 1 : 80 ) .
وشاول الطرسوسى قبلما يبدأ فى الكرازة بأسم السيد المسيح اعتزل العالم إلى البرية التى تسمى " العربية " حيث هناك تلقن أسرار الديانة المسيحية ، وأعاد دراسة " روح " الناموس ليصحح ما علق فى ذهنه من عبودية " الحرف ". وقد شهد عن نفسه قائلا : " ولما سر الله الذى أفرزنى من بطن أمى ودعانى بنعمته أن يعلن أبنه فى لأبشر به بين الأمم ، للوقت لم أستشر لحما ودما ، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلى بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضا إلى دمشق " ( غل 1 : 15 – 17 ) .
وفى البرية أعال الله شعب إسرائيل أربعين سنة ، وفوق أحد جبال سيناء لقنهم الشريعة الموسوية ثم أعطاهم إياها مكتوبة فى " لوحى العهد " بيده الإلهية .
والرب يسوع المسيح نفسه ، قبلما يبتدىء فى خدمته الجهارية ، خرج ليجرب من ابليس فى البرية ( مت 4 : 1 – 10 ، مر 1 : 12 – 13 ، لو 4 : 1 – 12 ) ... وهناك رسم لنا طريق الأنتصار ووضع فريضة الصوم المحيية ! ..
البرية والرهبنة القبطية
كان لهذه الأختبارات الروحية لحياة البرية التى سطرها الكتاب المقدس بين ثناياه ، أعظم التأثير فى قلوب آبائنا السابقين ، والذين لمسوا ما فيها من مزايا كثيرة ... حيث لم يجدوا مكانا أعظم منها من حيث الأبتعاد عن العالم مع الوحدة الكاملة ، فنزح كثيرون منهم إليها متفرغين فيها لتقديم العبادة الحقيقية ، مفضلين أن يذلوا أنفسهم فيها عن أن يكون لهم فى العالم تمتع وقتى بالخطية ..... ومن هنا نشأت فضيلة الرهبنة ! وعندما كثر الرهبان تحولت البرية المخيفة إلى أرض مقدسة تصعد فيها للرب فى كل وقت العبادة النقية والصلوات الحارة .
البرية والحياة الروحية

إن منظر القفر والأنفراد فيه سواء أكان بالأقامة أو بالطواف ، يوجد فى العبادة إحساسات وعواطف روحية تشعرهم كأنهم قريبين من الله ، وقليلون هم الذين يدركون لذة الحياة النسكية والتعلق بأهداب العزلة والتخلص من تكاليف هذه الحياة المضنية التى لا تزيد الأنسان إلا تعبا وشقاءا ، فهناك فى تلك العزلة لا يشغل الأنسان شاغل عن الصلاة والعبادة ودراسة الكتب المقدسة والتبحر فى العلوم والفنون والوصول إلى درجة سامية من العلم والتقوى ....
لقد اختار السيد المسيح الجبال العالية والبرارى الشاسعة للصلاة فيها مع تلاميذه ... أو لتعليم الجموع الغفيرة التى كانت تترسم خطواته .( مت 5 ، 14 ، ... ولو 9 : 10 ، 11 ، ويو 6 : 3 – 5 ) .
قال مار اسحق المتوحد : " السكون جوا يصلح لعمل الله ولأجل هذا قبض القديسون حواسهم أولا من العالم ، وبعد ذلك اهتموا باستعداد القلب بعمل الله الخفى لأنه إن لم يرتبط الجسد أولابعمل الفضيلة لا يتفاوض الفكر بفلاحة الفضيلة ، لأن الجسد المنفرد يصلح كثيرا لعمل الفضيلة لأن منه يقتنى ذهنا مجموعا وضميرا هادئا وافكارا غير مضطربة بمناظر العالم " .
انطونيوس والتعليم

لم ينعم طويلا بالخلوة التى تاقت نفسه إليها ، لأن صيته ذاع ، وفاح عبيره ، فتقاطرت عليه الناس من مصر أولا ثم من كافة أنحاء العالم ، وحين وصلت إليه أول جماعة منهم رفض أن يراهم ، ولكنهم اقتحموا الباب بقوة مندفعين نحوه بدافع غيرتهم لرؤيته ، والأغتراف من روحانيته ، والحصول على بركته ، ومن تلك اللحظة لم ينعم بالخلوة مع الله إلا فى فترات متقطعة ، وروض نفسه على استقبال الجماهير المتقاطرة عليه بوجه مضىء وابتسامة هادئة ، ولم يكتف بذلك بل كان يسأل عن احتياجاتهم ، ويشفى مرضاهم ، ويعزى الحزانى منهم ، ويهدىء النفوس الثائرة .
اعتاد القديس انطونيوس أن يترك عزلته بين الحين والآخر ليجتمع بتلاميذه العديدين ويلقى عليهم دروسه وارشاداته ، حاثا إياهم على النمو فى النعمة ، ومثبتا أقدامهم فى هذا الطريق الوعر – طريق الرهبانية الذى أرتضوه لأنفسهم طوعا واختيارا ، ومشددا عزائمهم على المضى فى جهادهم دون ضجر أو ملل ... وكثيرا ما يقص عليهم طرفا من جهاده ومحارباته ، لا لشىء إلا لينير السبيل أمامهم لئلا ينخدعوا بحيل الشياطين فيسقطوا ، وقد بلغ بعض هؤلاء التلاميذ قمة القداسة ، وصاروا ضمن القادة الروحيين الذين أناروا السبيل أمام الأنسانية المتطلعة نحو مجد اللـــــــه .
نقتطف هنا بعضا من أقواله التى ورد ذكرها فى كتاب بستان الرهبان ، وتاريخ الكنيسة القبطية للقس منسى يوحنا :
فى المحبة :
قال القديس يوما لتلاميذه : " أنا لا أخاف الله ! " فدهشوا وقالوا له وكيف ذلك ؟ فقال : " لأننى أحبه يا أولادى ، والمحبة تطرد الخوف إلى خارج ! " .
" لا خوف فى المحبة ، بل المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج ، لأن الخوف له عذاب ، وأما من خاف فلم يكتمل فى المحبة " ( 1 يو 4 : 18 ) .
فى التواضع

قال الأنبا أنطونيوس : أبصرت فخاخ الشياطين مبسوطة على كل الأرض فتنهدت وقلت : من يستطيع أن يفلت من كل هذا يارب ؟ فاتانى صوت من السماء قائلا : المتضعون يقلتون منها ! .. فقريب هو الرب من المنكسرى القلوب ويخلص المنسحقى الروح ( مز 34 : 18 ) .
عن دينونة الغير

قال : لا تدن أخاك ولو رأيته عاجزا عن تأدية جميع الفرائض لئلا تقع فى أيدى أعدائك إذ من أنت يا من تدين غيرك ؟ ! ( يع 4 : 12 )
عن الأحلام الشيطانية

جاء بعض الأخوة إلى القديس ليخبروه عن أحلام يرونها ليعلموا هل هى حقيقة أم من الشياطين ، فأوضح لهم القديس أن الشياطين ليس لهم سابق معرفة بالأمور ، وإنما إمكانياتهم ( كأرواح ) فهم سريعو التنقل فى الهواء ، فإذا علموا نية أحد فى الأتيان بأى أمر فأنهم يسرعون بالأخبار به قبل وقوعه ، وعندما لا ينفذ صاحب الفكرة ما أنتوى عليه .. هنا يكتشف كذب الشياطين ، لأن علم الغيب لله وحده .
وقال معزيا

كان القديس انطونيوس صديقا حميما لديديموس ( ناظر المدرسة اللاهوتية بالأسكندرية فى عصر القديس أثناسيوس الرسولى ) الذى فقد بصره ، وإذ صادفه عند ذهابه إلى الأسكندرية للدفاع عن الأيمان ووجده متألما أراد تعزيته فقال :
" إنى لمتعجب من حزنك على فقد ما تشترك فيه معك أحقر الحيوانات كواسطة للشعور بها ، ما دام لا شعور عندها غير البصر ، ولا تفرح متعزيا لأن الله خولك نظرا آخر لا يهبه تقدس أسمه إلا لمحبيه ، فأعطاك عينين كأعين الملائكة تبصر بهما الروحيات بل بواسطتهما عرفت الإله نفسه وسطع نوره أمامك فأراح دياجير الظلام عن عينى قلبك فاستنرت " .
ويقال أن ديديموس قد تعزى بهذا القول ، وكان يردده طيلة حياته
وقال منشطا تلاميذه
رد مع اقتباس
قديم 27 - 08 - 2012, 01:45 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

الشياطين يفزعون جدا من الصلوات والصوم والسهر والتقشفات ، لا سيما احتقار العالم والفقر الأختيارى وكسر حدة الغضب لأن هذه الفضائل تسحق رأس ابليس ، كما أن أسلحة محاربتنا لأعدائنا هى الأيمان الحى والسيرة النقية .
وقال لاظهار وسائل الأنتصار

" إن السلوك فى سبيل الفضيلة هو أفضل من فعل المعجزات ، والأنسان يستطيع أن ينتصر بسهولة على الشيطان إذا أخلص العبادة لله من كل قلبه بسرور باطنى روحى مستحضرا الله فى ذهنه كل حين لأن هذا النور يمزق ذلك الظلام ويزيل تجارب العدو سريعا ، ومما يفيدنا فى ذلك النظر إلى سير القديسين واقتفاء آثارهم فإن فيها تحريضا على الأقتداء بهم " .
تعاليم روحية ووصايا مقدسة

يا إبنى قبل كل شىء لا تعد نفسك شيئا ، فهذا هو والد الأتضاع ، والأتضاع يلد التعليم ، والتعليم يلد الأمانة ، والأمانة الرجاء ، والرجاء المحبة ، والمحبة الطاعة ، والطاعة تلد الثبات بغير تزعزع ، يا أبنى تعر عن الشر وألبس الوداعة ، واترك عنك العين الخبيثة واتخذ لك عينا بسيطة ، لا تتشبه فى الروحيات بمن هو أضعف منك بل بمن هو مختار أكثر منك ، لا تخف من شتائم الناس ، ابغض كل شىء يكون فيه خسران نفسك ، ولا تعدل عن مشيئة الله إلى مشيئة الناس ، لا تنم ولا تشتم أحدا ، لا تحسد من يتقدم بالظلم ، أجعل جميع الناس أعلى منك لكى يكون الله معك ، لا ترجع إلى ورائك فيما ابتدأت به من الأعمال الصالحة ، لا تمل من محبة الله واصبر فى كل ما تريد أن تصنعه ، فإن صبرت فإن الله يعضدك فى كل أعمالك ، لا ترجع إلى ورائك فى طريق وحدتك ، ابغض الحديث الباطل ، ضع جل اهتمامك بالفضيلة فلا تغفل ، ياابنى إن عملت بكل هذه فإنك ترى ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولم يخطر على قلب بشر . ( 1 كو 2 : 9 ) .
احتسب الذى هو دونك فى الفضيلة أنه مختار وأفضل منك فى النمو ، يا ابنى لا تضجر من الأفكار التى تأتى عليك ، واعلم أن الرب لا ينسى شيئا من أتعابك ، ومنها يكون لك النمو ونعمة الله تعضدك ، يا ابنى ليكن القوم الذين أحبوا الرب من كل قلوبهم وداموا فى العمل صورة ومثالا لك ، لا تستح لأن تطلب منهم ما يؤول إلى خلاص نفسك لأنهم قد تكلموا فى الفضيلة ، لا تتشبه بالذين يطلبون لذة الدنيا لأنهم لا يتقدمون أبدا ، بل تشبه بالذين كانوا تائهين فى الجبال والبرارى من أجل الله ( عب 11 : 38 ) فتأتيك القوة من العلاء ويطيب قلبك فى كل شىء تصنعه ولا ترجع إلى ورائك فى شىء من هذه الوصايا الإلهية فيعطيك الرب راحة القلب وتكمل كل ما أبتدأت به من الأعمال بسلامة .
ياأبنى لا تكن مهذارا فتبعد روح الله منك ، ولا تمل إلى الشر ولا تدن أحدا ، يا أبنى لا تكن مرائيا ولا كذابا ولا تتكلم بغضب بل ليكن كلامك بحكمة ومعرفة وحافظ على السكوت فهذه كانت صفات آبائنا الذين كانت شفاههم تقطر الحكمة .
يا أبنى كن متواضعا كل أيام حياتك ( 1 بط 5 : 6 ) وتمسك بكل شىء حسن ولا تسأل عن الأشياء الرديئة بل أجعل طريقك بعيدة عنها ، كن لين الكلام لأن المجد والهوان يتأتيان عن حب الرحمة ، تدرع بالأمانة ، يا ابنى لا تجعل قلبك رديئا بالتفكير فى الشر بل صيره صالحا واطلب الصلاح وتسامى فى جميع الأعمال الحسنة ، لا ترفع صوتك وإذا مضيت إلى أحد فليكن خوف الله فى قلبك واحفظ فمك لترجع إلى موضعك بالسلامة ، لا تكثر الكلام عند من هو اكبر منك ، يا ابنى حب آبائك الروحانيين الذين يهتمون بك لوجه الله اكثر من محبتك لآبائك الجسدانيين ، يا ابنى إذا جلست فى وسط الأخوة لا تكثر الكلام ، وإذا سئلت منهم عن أمر فقله باتضاع ، يا ابنى إذا شتمت فلا تبغض شاتمك ( مت 5 : 44 ) بل قل إنى مستحق إنى مستحق أن اشتم من جميع الأخوة ، وإذا أتى إليك أحد الأخوة فى أمر فواضع ذاتك فى كل شىء ، اسمع له لأجل الله ولا تتكبر ، إذا رتبك أبوك ( أى رئيس الدير ) لخدمة المرضى فاخدم بكل قلبك لتقبل الأجر مضاعفا من الله لسماعك وخدمتك ، إن وبخك أحد بسبب خطيئة وأنت برىء فتواضع لتنال الأكليل لا تنصت لتسمع الشر ولا تجازى الشر بمثله لأنه مكتوب إذا أنت لم تنتصر لنفسك فأنا انتصر لك قال الرب .
يا ابنى لا تكن متكبرا ولا تفتخر ، لا تصرخ بصوتك ولا تتكلم بسرعة لأنه مكتوب : أن كثرة الكلام لا تخلو من معصية ( أم 10 : 19 ) ، يا ابنى لا تبغض أحدا من الناس بل حب قريبك كنفسك ، يا ابنى اذكر من يكلمك بالتعليم الصالح واحفظ منه الوصايا لتحيا ويطول عمرك فى إرادة الرب ... يا ابنى اجعل لك تعبا قليلا بجسدك فى قلايتك وليكن قلبك متضعا وفمك ينطق بالحق ..


أنطونيوس والمعجزات
" إن الله قد جعل القديس انطونيوس فى مصر طبيبا قادرا على شفاء كافة الأمراض الروحية " ( أثناسيوس الرسولى )

+ + +

فى الفصل السابق دونا بعض الأقوال المأثورة والتعاليم النافعة التى سجلها التاريخ لكوكب البرية ، ولعل القارىء قد أدرك أن الكثيرين قد شغفوا بتعاليمه فكانوا يذهبون إليه دواما ليرتووا من جميل عظاته ، وإذا طبقت شهرته الآفاق وانتشر بين الناس ما حباه الله به من قوة صنع الآيات والمعجزات كان الكثيرون يسرعون إليه حاملين مرضاهم موقنين أن الرب سوف يهبهم الشفاء والبرء التام ببركته ...
كم من معجزات صنعها القديس لا يسع تدوينها أكبر الموسوعات ! لقد حفظ لنا التاريخ طرفا منها ، يعتبر كدليل على مقدار نعمته تعالى التى وهبها لعبده الأمين ، ولا غرو ، فقد قال السيد : " من يؤمن بى فالأعمال التى أنا أعملها يعملها هو أيضا ويعمل أعظم منها لأنى ماض إلى أبى ، ومهما سألتم بإسمى فذلك أفعله ليتمجد الآب بالأبن " ( يو 14 : 13 ، 14 ) .
وهناك العديد من المعجزات دونت فى ميامر القديس ، دونها : الأنبا أثناسيوس الرسولى والبطريرك ، والأنبا سيرابيون أسقف دندرة .
نبوءة الأنبا أنطونيوس عن الحياة الرهبانية :
ولقد تنبأ الأنبا أنطونيوس عما سيصادف الحياة الرهبانية من تغيير ، وذلك عندما أظهر له بعض تلاميذه دهشتهم من كثرة من عشقوا الحياة الرهبانية والعزلة والعبادة وممارسة الفضائل ، أجابهم والدموع تتناثر من عينيه :
" سيأتى يوم يشيد فيه الرهبان بنايات عظيمة فخمة وسط المدن وينعمون بلذة العيش ، ولا يعودون يمتازون عن أهل العالم بشىء سوى بثوبهم ! ومع ذلك فسوف يحافظ نفر منهم على روح الرهبانية ، ولهذا سيكون أكليلهم بهيا بقدر ما تسلم فضيلتهم من العثرات والشوك المحدقة بها ! " .
كما تنبأ عما حل بالكنيسة من جراء بدعة الآريوسيين فقال : " إن غضب الرب سوف يحل على الكنيسة وستكون عرضة لفساد قوم يشبهون الوحوش ! " – غير أنه عاد فقال : " ولكن لا يكتنفكم الأكتئاب من كل جانب لأن الرب وإن غضب علينا فسوف يرأف بنا ، وسيعود إلى الكنيسة سابق بهائها وسترون الذين احتملوا الأضطهاد يعودون مكرمين إلى مراكزهم ، وتعود الأفاعى إلى أجحارها ويسطع الأيمان الحقيقى بيسوع المسيح فى كل أقطار المسكونة ! " .

+ + +


الـــــراهب الأول :
ذكر فى ميامر القديس أنطونيوس أنه قد اعتراه الملل يوما اذ كان يصرف معظم وقته فى العبادة ، عندئذ سمع صوتا يناديه قائلا : " اخرج خارجا وانظر " فخرج انطونيوس واذ به يرى ملاكا متوشحا بزنار مثال الأسكيم ومتمنطق بمنطقة وعلى رأسه قلنسوة ، وكان جالسا يضفر خوصا ، وبعد فترة قام ليصلى ، وما أن انتهى من صلاته حتى عاد لعمله ثانية ، وهكذا صرف وقته بين الصلاة والعمل اليدوى ! ثم سمع القديس صوتا يقول له : " افعل هكذا يا أنطونيوس فتستريح ! " وللحال غابت عنه هذه الرؤيا السمائية ...
وفى هذه الحادثة ، ما يكشف الستار عن بعض حقائق هامة نعرضها فيما يلى :
زى الرهبانية
اتخذ الأنبا أنطونيوس من شكل الملاك الذى ظهر لـه زيا لنفسه ، فلبس القلنسوة والمنطقة والأسكيم ،والبسها أيضا لكل من تتلمذوا له وترهبنوا على يديه .
وعندما قصده الأنبا مكاريوس الكبير ، البسه القديس زى الرهبنة وأنبأه بما سيكون عليه فى مستقبل حياته ، وهذا إذ عاد إلى الأسقيط ، بدأ ينسج على المنوال عينه ، فكان كل من يذهب إليه بغية الرهبنة يرتدى هذا الشكل نفسه .
وحاليا يلبس الراهب عقب حفلة رسامته ، التى تتم قبيل القداس فى صبيحة يوم الأحد ، المنطقة والقلنسوة ، أما الأسكيم فلا يرتديه إلا الذين يتقدمون فى الحياة الروحية كثيرا ، كما يلبسه الآباء الأساقفة والمطارنة قبيل رسامتهم .
الراهب والعمل
اتضح للقديس انطونيوس من رؤياه وجوب صرف أوقات الفراغ فى عمل منتج مفيد ، فكان يقوم بعمل السلال من الخوص ويقتات من تعب يديه ، وهكذا فعل تلاميذه العديدين حتى لا يكونوا عرضة للأفكار الشريرة التى تعبث بعقولهم وقت الفراغ .
ووقت الراهب بالدير موزع بين العبادة والعمل والتعليم ، بالأضافة للخدمات الكنسية والعناية بالمرضى من الرهبان وخدمتهم .
وقد يتغير طبيعة الأعمال بالدير حسب تطور الحياة والوسائل المتاحة ، فأصبحنا نرى الآن بالأديرة زراعات واسعة ومساحات أشجار للزيتون وخلافه ، ويستعمل فى أعمال الزراعة الماكينات الحديثة والجرارات ، والأستفادة من المحاصيل إلى أبعد حد كتصنيع زيت الزيتون ، وتلبية احتياجات الكنائس من عصير الكرمة ، ...
ومن الأعمال الهامة للرهبان أعمال البحث فى العلوم اللاهوتية والدينية والتاريخية ، بالرجوع للمخطوطات ومراجعتها وإعادة طبعها ، ونشرها تحت إشراف رئيس الدير .
كما أن لبعض الرهبان خدمات تقدم للشعب خارج الدير ، وخارج الوطن لنشر حقائق الأيمان الأرثوذكسى القويم للعالم كله .
وكان للرهبنة القبطية الفضل فى نشر الرهبنة فى معظم دول العالم الغربى والشرقى .
أنطونى وبابوات الأسكندرية :
عاش الأنبا أنطونى سنين طويلة عاكفا على الصوم والصلاة وجدل السلال ، مجاهدا ضد المبتدعين ، مثبتا المؤمنين ، هاديا جميع الآتين إليه إلى سبيل السلام ، وقد منحه الله عمرا مديدا فرأى النور فى باباوية الأنبا ديونيسيوس ثم جاهد الجهاد الروحى خلال باباوية ستة من الأحبار الأسكندريين هم الأنبا مكسيموس ( البابا الأسكندرى الـ 15 ) ، فالأنبا ثيئوناس ، فالأنبا بطرس خاتمة الشهداء ، فالأنبا أرشيلاوس ، فالأنبا ألكسندروس ، فالأنبا أثناسيوس الرسولى .
القديس أثناسيوس
غاسل أقدام العظيم أنطونيوس

تحول قسطنطين الكبير إلى الأيمان المسيحى ليكون أول إمبراطور مسيحى فى العالم ، يبذل كل جهده من أجل تحويل هياكل الأوثان إلى كنائس ، ومساندة الكنيسة . لكنه إذ فتح أبواب قصره للأساقفة وبعض الكهنة انسحبت قلوب الكثيرين إلى القصر الأمبراطورى ، لم يترك الرب كنيسته تنسحب إلى قصور العالم وأمجاده فأعد العظيم أنبا أنطونيوس الذى سحب قلب الكنيسة إلى البرية ، لكى يدخل كل مؤمن إلى أعماقه ، ويتلامس مع ملكوت السموات القائم فيه ، من بين هؤلاء المؤمنين كان أثناسيوس الذى وإن كان لم يلتحق بالحياة الرهبانية لكنه تتلمذ على يدى العظيم أنبا أنطونيوس .
إن لمسات القديس أنبا أنطونيوس لم تظهر فى سلوك البابا أثناسيوس ولاهوتياته فحسب ، بل يمكننا القول بأنها بالروح القدس شكلت أعماقه أيضا .
إن كان البابا أثناسيوس قد سجل لنا كتابه المشهور Vita Antonii ( حياة أنطونيوس ) ، فإنه فى الحقيقة نقش سيرة معلمه وحياته فى قلبه وخلال حياته وسلوكياته وأفكاره .
هذه أمثلة قليلة لعمل الله الفائق فى حياة البابا أثناسيوس خلال تأثره بأبيه الروحى الأنبا أنطونيوس .
التأله والحياة الرهبانية

ظن البعض أن القديس أنبا أنطونيوس أب الأسرة الرهبانية قد استخف بالجسد وتجاهله ، وأن الرهبنة المصرية كان لها أثرها على الفكر اللاهوتى السكندرى ، الذى ركز على التأله .
سحب " التأله " قلب مدرسة الأسكندرية ، حيث يرى المؤمن حب الله العجيب الذى يشكل أعماق الأنسان ليحمل صورة خالقه ، ويقيم منه شريكا فى الطبيعة الإلهية .. لا يقف عند الأعماق بل ويرى فى الجسد ذاته كأنه يتحول تدريجيا إلى الطبيعة المجيدة التى يتمتع بها فى يوم الرب العظيم ، تصير حياة المؤمن أشبه برحلة يومية فيها ينطلق بكل كيانه نحو السماء ، جاذبا اخوته معه ليختبروا معه عربون السماء .
إن كانت الرهبنة المصرية قد حولت البرارى والقفار إلى فراديس ، والبشر إلى ملائكة ، فإن القديس أثناسيوس حتى فى حواراته اللاهوتية ، كانت غايته أن يحول كيان الأنسان إلى سماء جديدة متهلله بالله مصدر فرحها ومجدها .
من كلماته :
[ نتأله ، لا بشركتنا لجسد إنسان ما ، بل بقبولنا جسد الكلمة نفسه " ] .
، [ صار إنسانا لكى نصير نحن آلهة ] .
الأنبا أنطونيوس وروح الغلبة

الخط الواضح فى كتاب " حياة أنطونيوس " الذى سجله تلميذه البابا أثناسيوس هو صراع القديس مع الشياطين ، موضحا ما يحمله المؤمن الحقيقى من روح الغلبة والنصرة حتى على الشياطين والأرواح النجسة .
كان هذا المعلم العجيب قائدا خفيا لتلميذه الذى عاش أغلب حياته فى سلسلة لا تنقطع من الصراع ، لم يعرف فترات السلام الخارجى فى خدمته إلا القليل النادر ، وجاءت رسائله الفصحية السنوية تكشف لا عن نفس مرة من أجل مقاومة الكثيرين والمستمرة له ، بل عن اعتزاز حى بالجهاد المستمر مع رجاء صادق فى التمتع بنصرات لا تنقطع .
قيل لـه : " العالم كله ضدك يا أثناسيوس ! " وكانت إجابته التلقائية النابعة من خبراته اليومية ، " وأنا ضد العالم " . لم يكن هذا عن كبرياء أو تشامخ ، وإنما عن يقين فى إمكانيات الله العاملة فيه .
آمن القديس أثناسيوس أنه مختفى فى المسيح ، وما يمارسه إنما باسم المسيح ولحسابه ، يعمل عمل المسيح ، لهذا لم يدخل اليأس قط إلى قلبه ، ولم يحمل روح الفشل بل روح الغلبة والنصرة .
دبرت مؤمرات كثيرة ضده ، لكنه آمن بذاك الذى ينقذ العصفور من فخ الصيادين ، فى يقين بروح الغلبة بلا خوف ، إذ خطط الأريوسيون لتحطيمه .. انطلق إلى القسطنطينية ، وفى شجاعة انطلق إلى حيث مركبة الأمبراطور وأمسك بلجام الفرس ، ارتبك الكل قائلين : " من هو هذا المتجاسر ليوقف المركبة الأمبراطورية ؟ " وإذ عرف قسطنطين شخصه أعجب بشجاعته ودعاه ليجلس معه فى المركبة ويتحقق مما جاء من أجله .
لقد قضى أغلب حياته فى ضيق خارجى دون أن يفقد سلامه وإيمانه بنواله روح النصرة .
لقد دامت رئاسته 46 عاما ، قضى منها 17 عاما فى النفى :
( أ ) فى عهد قسطنطين ( 335 – 337 م ) فى تريف .
( ب ) فى عهد قسطنطيوس ( 339 – 346 م ) حيث زار روما .
( جـ) فى عهد قسطنطيوس ( 356 – 362 م ) حيث عاش فى برارى مصر .
( د ) فى عهد يوليانوس ( 362 – 363 م ) حيث عاش فى برارى مصر .
( هـ ) فى عهد فالنس ( 365 – 366 م ) حيث عاش فى برارى مصر .
اتهم فى مجمع صور عام 335 م بقتل الأسقف الميلاتى أرسانيوس ، وهتكه بتولية عذراء ، وتحطيم كأس الأفخارستيا الذى كان يستخدمه أسخيراس وظهر بطلان كل هذه الأتهامات .
الأنبا أنطونيوس وروح الفرح
يقول القديس أنبا انطونيوس أنه كما يحتاج الجسد إلى طعام يتقوى به ، هكذا تحتاج النفس إلى الفرح غذاء لها ، لقد اتسمت شخصية الأنبا انطونيوس بروح الفرح الدائم ، الأمر الذى أدهش كثير من المؤمنين والفلاسفة .
جاء إليه جماعة من المؤمنين وكانوا يسألونه وهو يجيب ، وظل أحدهم صامتا ، تعجب منه القديس أنبا أنطونيوس فسأله عن صمته مع أنه تكبد متاعب كثيرة لكى يأتى إليه ، أجابه الرجل : " رأيت يا أبى وجهك فعرفت الأجابة على كل أسئلتى " . هكذا رأى فى بشاشة وجهه المستمرة أيقونة السماء المتهللة ، فوجد أجابة على كل أسئلته خلال الفرح الذى يمارسه الأب أنبا انطونيوس فى المسيح يسوع .
كان لبشاشة وجه القديس أنبا أنطونيوس وهو فى ساحة الصراع مع عدو الخير أثرها العجيب على تلميذه القديس أثناسيوس ، إذ كتب عن معلمه :
[ كانت نفسه متحررة من كل اضطراب ، وكان مظهره الخارجى هادئا ، من فرح نفسه كان يحمل ملامح متهللة ، ومن حركات جسمه يمكن إدراك حال نفسه ، كما هو مكتوب : " القلب الفرحان يجعل الوجه طلقا ، وبحزن القلب تنسحق الملامح " ( أم 15 : 13 ) ...
كان أنطونيوس هذا معروفا ، فإنه لم يضطرب قط ، إذ كانت نفسه فى سلام ولم يتحطم قط ، لأن عقله كان فرحا ] .
الأنبا أنطونيوس وقلب الأمبراطور

تهلل الرهبان إذ سمعوا أن أول إمبراطور مسيحى – قسطنطين – قد بعث برسالة إلى أبيهم أنبا أنطونيوس ، وجاءوا يسألونه متى يجيب على رسالته . أما هو فلم يكن منشغلا بالرسالة ، بل قال لهم إنه سيجيب عليها عندما يجد وقتا مناسبا لذلك . عبرت الأيام ولم يجب أنبا أنطونيوس .... وأخيرا إذ ألح عليه الرهبان ليجيب على الأمبراطور من أجل أعماله العظيمة التى صنعها مع الكنيسة وقادتها ، أجابهم أنه مشغول بقراءة رسالة الله – الكتاب المقدس – وعندما ينتهى من الأجابة عليها سيكتب للأمبراطور .
هكذا تسلم البابا أثناسيوس من معلمه هذه الروح ، انه لا يهتم بأن يكون له موضع فى قلب الأمبراطور بل فى حضن الله ، لم يشته البابا أثناسيوس مجدا زمنيا ، ولا طلب أن تنفتح أبواب القصر الأمبراطورى أمامه ، لكنه كان مهتما بخلاص نفسه وخلاص أولاده الروحيين .
الأنبا أنطونيوس والبصيرة الداخلية

لم يلتحق القديس انبا انطونيوس بمدرسة الأسكندرية اللاهوتية ، لكنه كان متفاعلا معها ، وكانت هى متفاعلة معه .
زار القديس أنبا أنطونيوس عميد المدرسة فى أيامه القديس ديديموس الضرير أكثر من مرة ، وكانا يلتقيان معا حول مائدة الفكر اللاهوتى الروحى ، أو حول مائدة الحياة السماوية الحية .
سأل القديس أنطونيوس القديس ديديموس إن كان يتألم بسبب فقدانه بصره وإذ لم يجبه الأخير كرر السؤال للمرة الثانية ثم الثالثة ، فأظهر القديس حزنه على فقدانه البصر ، أما القديس أنبا انطونيوس فقال له : " إنى أندهش أن رجلا حكيما يحزن على فقدان ما يشترك فيه النمل والذباب والحشرات ولا يبتهج بالأحرى ( بالبصيرة الداخلية ) التى لا يتأهل لها إلا القديسون والرسل .
بهذه البصيرة التى يعتز بها الأنبا انطونيوس تطلع تلميذه إلى اللاهوتيات ليس كأفكار فلسفية للحوار ، بل كأدراك حى للمعرفة ، وتلامس مع الحق . لهذا لم ينشغل البابا أثناسيوس بالتعبيرات اللاهوتيات ، إنما اهتم بالمعنى .
الأنبا انطونيوس وانفتاح قلبه

لم يمارس أنبا انطونيوس الرهبنة كهروب من الناس ، بل كانفتاح القلب على الله محب البشر ، فبعد حوالى عشرين عاما من العزلة التامة ، انفتحت مغارته وشهد الكل انفتاح قلبه بالحب نحو كل البشر فلم يلتق فقط بالمشتاقين للحياة الرهبانية ، بل وبالفلاسفة والحكام ، لهذا قال له القديس هيلاريون من فلسطين : " سلام لك يا عمود النور ، المضىء للعالم " .
هذا هو قلب راهب متوحد يشتهى خلاص الجميع ، حتى الفلاسفة الوثنيين ، كم بالأكثر حمل تلميذه البابا البطريرك روح الحب والشهادة لأنجيل المسيح أمام الجميع ، لقد تعلم من معلمه أن يسلم قلبه بين يدى روح الله القدوس النارى ، الذى يلهب النفس بالحب الحقيقى .
كان قلبه ملتهبا بالحب ، يحمل الكنيسة على ذراعيه ليقدمها لمسيحه فى صلواته المستمرة ، وعندما التهبت نيران الأضطهاد زار الأسكندرية ليخدم المعترفين ويشجعهم أثناء محاكمتهم . نزل أيضا ليقف بجانب تلميذه أثناسيوس ، بل بجانب الحق الأيمانى فى الصراع ضد الأريوسية .
الأنبا أنطونيوس وحياة الخلوة

تلمذة القديس أثناسيوس على يدى الأنبا أنطونيوس قرابة ثلاثة سنوات بلا شك سحبت قلبه إلى حياة الخلوة والتأمل ، فإن كان الله لم يسمح له بالحياة الرهبانية الديرية أو التوحد ، لكنه مارس نسكه فى حياته الرعوية – وإذ سمح الله له بالضيقات كان يهرب إلى قبر والده أو يختفى فى منزل أو يصعد إلى بعض أديرة الصعيد . لم تكن هذه الفترات تمثل ضيقا ، بل تعكس عليه بهجة إذ يحقق أمنيته فى الخلوة والتأمل دون تجاهل لدوره الأبوى الرعوى .
الأنبا أنطونيوس وحياة السهر

تدرب البابا أثناسيوس على حياة السهر ، ورأى فى معلمه رجل صلاة يكرس كل حياته للعبادة ، لهذا وجد البابا سروره فى الصلاة والسهر ، فعندما حاول القائد سيرينوس القبض عليه كان البابا يقود شعبه فى خدمة ليلية للسهر ، كما أشار كثيرا فى كتاباته إلى حياة السهر والصلاة .
الأنبا أنطونيوس والحياة التقوية
إذ ذاق عذوبة الحياة التقوية فى عشرته للقديس أنبا انطونيوس لم يستطع أن يفصل بين اللاهوت والسلوك العملى ، وبين الأيمان والتقوى ، فالعقيدة المسيحية فى ذهنه تدفع الأنسان ليتمتع بالحياة التقوية فى الرب ، ومن كلماته :
[ الأيمان والتقوى حليفان وأختان ، من يؤمن بالله فهو نقى ، ومن يسلك بتقوى يؤمن بالأكثر ] .

مع الشهـــــــداء

لم تر أمة من الأمم من أنواع الأضطهاد ما رأته الأمة القبطية ، ولم تتحمل كنيسة من كنائس العالم أجمع ما تحملته كنيستنا الأرثوذكسية ! ... لقد قام الأباطرة الرومان ، الواحد تلو الآخر ولا هم لهم سوى التفنن فى طرق تعذيب المسيحيين والتنكيل بهم ، ومع هذا ، فقد خرج المؤمنون منتصرين فائزين ! " وبقدر ما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا !! " ( خر 1 : 12 ) .
دون بعض المؤرخين عدد مرات الأضطهاد التى مرت على المسيحيين منذ بدء المسيحية فى عشرة أدوار كالآتى :
الأول : سنة 64 م فى زمن نــيـرون .......... الثانى : سنة 95 م فى أيام دومتيان
الثالث : سنة 107 م فى زمن تراجان ...... الرابع : سنة 118 م فى أيام إدريان
الخامس : سنة 212 م فى زمن كاراكلا ..... السادس : سنة 235 م فى أيام مكسيميانوس
السابع : سنة 250 م فى زمن داسيوس ....... الثامن : سنة 257 م فى أيام فاليريان
التاسع : سنة 274 م فى زمن اوريليان ........العاشر : سنة 303 م فى أيام ديوكليتيان
كتب العلامة " زنوليانوس " : " إننا نتكاثر إذ تحصدوننا ، وإن دم المسيحيين لبذرة ‍ وإن لكم فيما تأخذونه علينا من عناد لعبرة ‍‍ . فمن ذا الذى يشهده ولا يتزعزع ثم لا يبحث عن السر فيه ؟ ومن ذا الذى يبحث فلا ينضم إلينا ، ومن ذا الذى ينضم إلينا ولا يتوق إلى العذاب والموت فى سبيل الحصول على النعم الإلهية كاملة ، والعفو شاملا ؟ ‍‍ .... ( ولد هذا العلامة بقرطجنة حوالى سنة 150 م وتعلم الحقوق وصار محاميا ثم اعتنق المسيحية عام 190 م ورسم قسا على قرطجنة ثم انتقل سنة 240 م ) .


الأنبا أنطونيوس وجهاده فى زمن الأضطهاد
عرف عن القديس أنطونيوس أنه لم ينزل فى مدة الخمسة والثمانين عاما التى قضاها فى البرية إلى الوادى على الأرجح سوى مرتين ؛ ولسباب ضرورية عندما شعر بأن اخوانه فى العقيدة الأرثوذكسية هنالك فى حاجة إلى هدايته ومساهمته فى تشجيعه عندما حاقت بهم المحن الكبرى التى حلت بالمسيحية فى أوائل عهدها بمصر .
أما المحنة الأولى فهى الأضطهاد المرير الذى أنزله الأمبراطور الرومانى مكسيمينوس بمسيحى مصر عام 311 م فلم ير القديس بدا من الخروج عن عزلته ليشد أزر المؤمنين ويقويهم فى أمانتهم لما بلغ الأضطهاد أشده ......
حدث فى فترة باباوية الأنبا أرشيلاوس أن سمع الأنبا أنطونيوس بإثارة الأضطهاد بعد أن نقض الأمبراطور مكسيميانوس عهده مع المسيحيين ، وتخييرهم بين التبخير للأوثان أو القتل ، فترك عزلته واخذ معه عددا من رهبانه وسافر إلى مدينة الأسكندرية عاصمة القطر المصرى يومئذ ، وهو يقول :
" فلأذهبن إلى الأسكندرية حيث نيران العذاب ، فإن سمحت النعمة الإلهية باستشهادى تجدنى مستعدا ، وإن لم تسمح بذلك أكون على أقل تقدير واقفا إلى جانب المضطهدين من أبناء القديس مرقس الأنجيلى الشهيد " .
وهناك أخذ على عاتقه مهمة زيارة المسيحيين وتثبيتهم على الأيمان القويم المستقيم . وتلك مهمة جد خطيرة ، إذ كان على القديس أن يتحدى الوالى ويعمل ضد رغبته ، ومع هذا تجده هادئا مطمئنا ‍‍ ، وإذ تسأله عن السبب يقول :" إن كان الرب معنا فمن علينا ؟ " ( رو 8 : 31 )
ابتدأ يذهب إلى السجون ويجتمع بمن فيها ويشوق إليهم الأستشهاد ليلحقوا بجيش المسيحيين الظافر ، واضعا نصب أعينهم فناء الحياة وزوالها ومذكرا أياهم بقول الكتاب : " وضع لكم لا أن تؤمنوا فقط بل أن تتألموا أيضا من أجل اسمه تعالى " ( فى 1 : 29 ) " وينبغى أن يطاع اللــــه أكثر من الناس ‍" ( أع 5 )
الأضطهاد أشده .
والمحنة الثانية وقعت عند استفحال هرطقة " آريوس " الأسكندرى فى أثناء حكم الأمبراطور قسطنطين الكبير ، فهبط أنطونيوس من الصحراء الشرقية إلى المدن المصرية عام 338 م لكى يساعد القديس أثناسيوس فى كفاحه الدامى ضد الهراطقة من أتباع آريوس المذكور ولا شك فإن شخصيته كانت من أكبر الدعائم فى رد المصريين إلى حظيرة الأيمان المسيحى الحق وكبت هذه الضلالة أو البدعة الجديدة

+ + +
  رد مع اقتباس
قديم 27 - 08 - 2012, 01:46 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

ما هى البدعة الآريوسية ؟ ومن هو آريوس ؟

نظرا لأهمية هذا الموضوع فإننا نفرد لـه موجزا عاما :

مجمع نيقية المسكونى

ما المقصود بالمجمع المسكونى ، والمجمع المكانى ؟

اولا : المجمع المسكونى : كلمة " مسكونة " تعود على الكرة الأرضية ، وعندما ينعقد مجمع ( اجتماع ) ويجتمع فيه ممثلون من كنائس الأرض شرقا وغربا ، ككنائس الأسكندرية وكنيسة روما .....الخ ، ويتخذ المجمع قرارات بإجماع الحاضرين ... فإن هذا هو المقصود به ( مجمع مسكونى ) .... وقرارات المجامع المسكونية ملزمة لجميع الكنائس ، وعادة ما يناقش فى هذه المجامع أمورا عقائدية ، أو هرطقات تخالف تعاليم الكنيسة مثل هرطقة أريوس ، أو مقدونيوس ، أو نسطور .... كما سنرى .

ثانيا : المجمع المكانى : تعنى بلغتنا الدارجة ( المحلى ) .. كأن ينعقد مجمع فى نطاق قطر واحد بحضور أساقفة هذا البلد ، أو عدد محدود منهم ، أى لا يحضره ممثلون عن كل كنائس العالم ، ويمكن مناقشة الموضوعات وقرارات المجمع المكانى فى مجمع مسكونى لاحق ، إذا كانت هناك مشكلة عقائدية تشكل خطورة على الأيمان على مستوى العالم المسيحى ، وغالبا فإن المجامع المسكونية قد سبقتها انعقاد مجامع مكانية لمحاولة احتواء الهرطقات التى ظهرت ، وعندما عجزت هذه المجامع المكانية عن رد هؤلاء الهراطقة عن غيهم استدعى الأمر عقد المجامع المسكونية



هناك ثلاث مجامع مسكونية انعقدت هى :

مجمع نيقية .................

ومجمع القسطنطينية ..................

ومجمع أفسس .........................

مجمع نيقية

المجمع المسكونى الأول
مقدمة : النزاع الأريوسى الذى وصم تاريخ المسيحية فى القرن الرابع ، اتخذ مرحلتين

المرحلة الأولى : ماقبل مجمع نيقية ، كان طرفا النزاع أريوس ومن انضم إليه من جهة ، والطرف الثانى بطاركة الأسكندرية البابوات : بطرس وأرشيلاوس وألكسندروس من جهة .
والمرحلة الثانية : تميزت بمحاولة الأباطرة فرض الأريوسية بالقوة ، وكان طرفا النزاع فيها الأباطرة وأساقفة أريوسيين من جهة ، ومن جهة مقابلة البابا أثناسيوس الرسولى وألأنبا انطونيوس ؛ وأساقفة أرثوذكسيين .
وهناك مرحلة ثالثة وأخيرة وهى تتضمن تحريم الأريوسية ونهايتها .
وقد انتهى أريوس والأريوسية وعاش الفكر الأثناسيوسى الأرثوذكسى معبرا عن الأيمان المسيحى الأصيل . وها هو العالم المسيحى كله شرقا وغربا يشعر بقيمة الدور البطولى الذى قام به القديس أثناسيوس ، محتملا كل صنوف العذاب والتشريد نحو خمسين سنة من الزمان ، إنه بطل مصرى عظيم وقف كالجبل الأشم صامدا أمام العواصف التى هبت عليه عاتية من الداخل والخارج ، ووقف فى وجه الأمبراطورية البيزنطية بملوكها المتعاقبين فى زمانه بكل ما لهم من سلطان وقوة وعنف وانتصر أخيرا وكان نصره هو نصر للمسيحية كلها .
شخصية آريوس : أجمع الكثيرون على أن آريوس ولد بليبيا ، والأرجح عام 270 م ، وبعد أن تعلم بها بعض الرياضيات والفلسفة والعلوم الدنيوية إلتحق بمدرسة أنطاكية ، فتأثر بآراء معلمه لوقيانوس المتطرفة فيما يتعلق بألوهية السيد المسيح .
وبعد أن أتم دراسته جاء إلى الأسكندرية ، ودرس بمدرستها اللاهوتية أيضا ، وأظهر نبوغا كبيرا مما جعله يسعى لنوال درجات الكهنوت ، .. ورسم شماسا ثم قسا بعد ذلك .
بعد سيامته قسا لاحظ البابا بطرس أنه يتعمد فى عظاته إنكار لاهوت السيد المسيح فنصحه كثيرا ، ولما لم يعدل عن آرائه ، عقد البطريرك مجمعا فى الأسكندرية حرمه فيه ومنعه من شركة الكنيسة .
على أن هرطقة أريوس لظهورها فى تلك الأثناء ، أى زمن اضطهاد دقلديانوس ومساعديه ، لم تنل قوة ولا أنتشارا فى أيام الأستشهاد ، لأنشغال الناس عنها بما هم فيه من ألوان العذاب البشعة . وعندما قبض على البابا بطرس حاول أريوس الحصول على الحل منه ، فرفض بل أوصى تلميذيه أرشيلاوس وألكسندروس – اللذين صارا بطريركين من بعده ، على التوالى – بعدم قبول أريوس لعلمه بشر هذا المبتدع .

( نلاحظ يا أحبائى أن الشيطان فى حروبه ضد الكنيسة وجد أن إثارة الحكام باضطهاد المسيحيين وتعذيبهم وسفك دمائهم لم تزد الكنيسة إلا صلابة وقوة وانتشار للأيمان بصورة أكبر فى العالم كله ، أى أن خطة الشيطان بتحريك أناس وثنيين وأباطرة وأشخاص من خارج الكنيسة لم تنجح فى هدم الأيمان القويم ، فلجأ إلى هذه الحيلة الماكرة وهى استعمال أناسا من المؤمنين ، بل ومن رجال الكهنوت أمثال آريوس وآخرين كما سنرى لضرب الكنيسة من الداخل ، وبث روح الشقاق والأنقسام داخل الكنيسة ، وقد نجح فى ذلك بالفعل مع الأسف ! – وما زال الشيطان حتى يومنا هذا يحاول تفتيت الكنيسة إلى طوائف وبدع للعمل على تدميرها ، ولكننا نثق أن يسوع المسيح الذى قال : " على هذه الصخرة أبنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقدر عليها " ... هو وحده القادر على حماية الكنيسة من هذه الحروب الشيطانية ) .
بعد استشهاد البابا بطرس أرجع خليفته البابا أرشيلاوس ، أريوس إلى عضوية الكنيسة بناء على طلبه ،وزاد بأن عهد إليه برعاية كنيسة بوكاليس أقدم كنيسة فى الأسكندرية ، ولما توفى البابا أرشيلاوس رشح أريوس نفسه لمركز البطريركية ، ولكن الإكليروس والشعب اتفقوا معا على انتخاب ألكسندروس .
أثار هذا الأختيار حفيظة أريوس وألتهبت فى قلبه نار البغضاء ، وأخذ يجتهد فى نشر مذهبه ، واستطاع أن يجذب حوله جماعة من أهل الأسكندرية من الذين وجدوا فى أسلوبه الوعظى والتعليمى تجديدا وابتكارا ، ومن الذين أعجبوا بتعاليمه ، لأنه حسب الظاهر قد بسط الأمور محاولا إقناعهم بأنه يحافظ على عقيدة التوحيد بجعله من السيد المسيح كائن مخلوق .

بدعـــــة آريـــوس :
يمكن إرجاعها إلى ضلالين أساسيين :
الضلالة الأولى : قوله أن الكلمة قد ولد ، والله الآب سابق ( فى وجوده ) على الأبن ( الكلمة ) .... أى أنه كان هناك زمن لم يكن الله فيه أبا ..... ، وإلا كان هناك أثنان " غير مولودين " بدون أصل ، مما هو مخالف لوحدانية الله ، إذن كان هناك زمن لم يكن فيه الكلمة موجودا ، ......... هذا أول الضلالين .
والضلالة الثانية : .... حسب اعتقاده بأن الأبن " مخلوق " ، وفى هذه الحالة فالكلمة ليس اللـــه .. !! ولا مساويا للآب ، ولا هو من جوهر الآب نفسه ، ولا وجود له إلا بإرادة الآب ، نظير كل خليقة أخرى ، ولا هو يدعى أبن الله إلا مجازا أو مبالغة فى الكلام ، ولن تكون هناك ولادة إلا عن سبيل التبنى اللائق بقداسة الكلمة ....

قبل أن نواصل الحديث فى هذا الموضوع نلفت النظر بأن جماعة شهـــــود يهوه ، يؤمنون بهذه الهرطقات ، وبأن المسيح مخلوق مثل سائر البشر وإن كان خلقه قد سبق خلق الملائكة ... !! .



نعود لموضوع أريوس :
بالرغم من أن الكنيسة فى تلك الحقبة التاريخية كانت تنعم بالسلام فى وجود الأمبراطور قسطنطين الكبير ، ابن الملكة البارة هيلانة .. واعلان المسيحية دينا رسميا للدولة الرومانية ، بعد سنوات طويلة من الأضطهاد الذى عانته المسيحية على يد الوثنيين واليهود ، وفى وسط هذا السلام الشامل حاول أريوس أن يثير الأضطهاد من جديد ، فذاقت من ويلاته كنيسة الأسكندرية والشعب القبطى الكثير والكثير ، وبصورة أقسى مما ذاقته بيد الخارجين عن المسيحية ، وعندما فشل أريوس فى إثارة الشعب ضد البابا ألكسندروس هجر الأسكندرية ولجأ إلى آسيا الصغرى ليكون قريبا من نصيره أوسابيوس النيقوميدى .

انعقاد مجمع نيقية :
انعقد هذا المجمع المقدس عام 325 م بآسيا الصغرى بمدينة نيقية ، بدعوة من الأمبراطور قسطنطين الكبير ، بسبب ظهور بدعة آريوس ، وقد حضر هذا المجمع المقدس ( ثلاثمائة وثمانية عشر ) أسقفا .

شخصيات عظيمة فى المجمع :
حضر المجمع شخصيات فى مصاف القديسين مثل البابا ألكسندروس بابا الأسكندرية ، وتلميذه الشماس أثناسيوس ... وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسة وعشرين عاما .
وحضر أيضا القديس مكاريوس أسقف أورشليم ، وأوستاثيوس أسقف أنطاكية ، وليونتيوس أسقف قيصرية الكبادوك ، وهيباثيوس أسقف غنغرة ، وأرشيلاوس أسقف لاريسا .
ويؤكد جميع المؤرخون أن الأساقفة قد منحوا آريوس وأتباعه مطلق الحرية للتعبير عن آرائهم .
ولقد وقع الأختيار على هوسيوس أسقف قرطبة ليرأس هذا المجمع ، بحكم كبر سنه ، برغم أنه كان أسقفا لمدينة متواضعة ، فجلس عن يمين الأمبراطور .

وبعد مداولات مستفيضة ثبت لآباء المجمع ما يتردى فيه هؤلاء المبتدعون من ضلال ، فقرروا أن يضعوا دستورا للإيمان وأن يضمنوه العقائد المهمــة بكل وضوح وجلاء ، ... وبخاصة عقيدة مساواة الأبن للآب فى الجوهر .
وهذا الدستور هو التراث الذى وضعه الشرق للمسكونة بأسرها ، ذلك لأن الآباء الغربيين الذين كانوا أعضاء فى هذا المجمع المؤلف من 318 أسقفا لم يتجاوز عددهم الستة أساقفة .
والدستور الذى تم وضعه فى هذا المجمع العظيم هذا نصه :
" بالحقيقة نؤمن بإله واحد ، الله الآب ضابط الكل ، خالق السماء والأرض ، ما يرى وما لا يرى .. نؤمن برب واحد يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للآب فى الجوهر ، الذى به كان كل شىء ، هذا الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ، ومن مريم العذراء ، تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطى ، تألم وقبر وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب ، وصعد إلى السموات وجلس عن يمين أبيه ، وأيضا يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات ، وليس لملكه انقضاء ................... "

وقرر الآباء : " أن جميع الذين يقولون عن الأبن أنه جاء عليه حين من الدهر لم يكن فيه موجودا ، أو أنه لم يكن له أثر فى الوجود قبل أن يولد ، أو أنه ولد من العدم ، أو أنه من غير جوهر الآب ، أو أنه مخلوق ومعرض للتحول والتبدل ، فالكنيسة الجامعة الرسولية المقدسة تعلن وقوعهم تحت طائلة الحرم .... " .

نتائج مجمع نيقية :
يعتبر مجمع نيقية حدثا تاريخيا هاما فى تاريخ العقيدة المسيحية ، لأن فيه تقرر مسكونيا أن الأبن مساو للآب فى الجوهر ، وبالنسبة لكنيسة الشرق بوجه عام وكنيسة الأسكندرية بوجه خاص فقد استطاعت كنيسة الأسكندرية من خلال هذا المجمع أن تحتفظ بمكانتها فى الكنيسة الجامعة ، واستطاع بطريرك الأسكندرية البابا ألكسندروس وشماسه أثناسيوس ، إعلان العقيدة السليمة والتمسك بها والدفاع عنها ، وبذا أظهر أولوية الشرق على الغرب .
مجمع نيقية حسم بعض الخلافات ووحد الكنيسة ، وفوض لبابا الأسكندرية تحديد موعد عيد القيامة ، ووضع قانون الأيمان النيقاوى الذى أضحى فيما بعد قاعدة الأيمان الأرثوذكسى لكل كنيسة ، .... وإن كانت قرارت مجمع نيقية لم تقض على الأريوسية تماما ، لأن آريوس لم يطع ، .. وقسطنطين نفسه تذبذب وخلفاؤه المباشرون كانوا أريوسيين ، إلا أن مجمع نيقية قد وضع حجر الأساس للإيمان القويم ، الذى يقوم عليه الأيمان الأرثوذكسى كما كان منذ البدء .... ، وعندما يخرج شخص أو صاحب بدعة فى أى عصر من العصور عن هذه القاعدة يتم وضع تفسيراته واجتهاداته أمام دستور مجمع نيقية ليتضح صحة هذا القول لأى شخص مبتدع أو منحرف عن المسار السليم للأيمان .
كما أصدر مجمع نيقية عشرين قانونا مهما .
البابا أثناسيوس والقديس أنبا أنطونيوس وجهادهما ضد آريوس :
بعد نياحة البابا ألكسندروس وارتقاء الأنبا أثناسيوس الكرسى المرقسى ، وبينما كان منشغلا بزيارة شعبه بالقطر المصرى ، علم أن أريوس عاد إلى الشغب فى الأسكندرية ، فبعث إلى معلمه الأنبا أنطونيوس برسالة طلب إليه فيها أن يغادر عزلته ويقصد مع رهبانه إلى الأسكندرية ليقف فى وجه آريوس وأعوانه ، فلم يسع الشيخ القديس إلا أن يلبى نداء باباه الذى هو تلميذه أيضا وبادر إلى مقر الرياسة المرقسية فى جماعة من أبنائه الرهبان وأخذوا يقاومون البدعة ومبتدعيها ، ولم يحرؤ أحد من خصومهم على الوقوف فى وجوههم .

نهــــاية آريوس :
استمر آريوس فى حربه ضد الكنيسة ، مستغلا دهائه فى تأليب الأمبراطور مرة ، أو طوائف الشعب مرة أخرى ضد البابا أثناسيوس، حتى تسبب فى صدور أمر من الأمبراطور بنفى البابا أثناسيوس إلى خارج البلاد .
وفى إحدى المرات بينما كان آريوس يجوب شوارع القسطنطينية شعر بمغص شديد دفعه إلى دخول إحدى المراحيض العامة حيث اندلقت أحشائه وانطرح على الأرض صريعا ، وما أن ذاع هذا الخبر حتى تنفس الناس الصعداء ، وداوموا على الصلاة والصوم حتى عاد أبيهم المحبوب الأنبا أثناسيوس إلى كرسيه ، بركة صلواته تكون معنا آمين .

على أبناء كنيستنا الأهتمام بتاريخ الحقبة التاريخية القبطية من تاريخ مصر ، والتى تعمد المؤرخون اسقاطها من تاريخ بلادنا ، إن اسقاط تاريخ الحقبة القبطية من تاريخ مصر لهو خطأ جسيم فى حق الشعب المصرى كله ، لقد كانت هذه الحقبة عظيمة الأهمية ليس فقط من الناحية الدينية والعقائدية بل ومن الناحية الوطنية والعلمية والفلسفية ، فلقد أنارت مكتبة الأسكندرية القديمة ربوع العالم بما حوته من الآف المجلدات والمراجع لتكون مرجعا لكل دارس ، فى مختلف العلوم ، كما أن تاريخ شهدائنا وما قدموه من تضحيات بدمائهم وعذاباتهم .... هى التى حفظت لنا كنيستنا وبقائها حية لهذا اليوم ، اضافة إلى تاريخ الرهبنة ومؤسسها الأنبا أنطونيوس ومنه انتقلت الرهبنة إلى بلاد العالم المختلفة ، تاريخ الرهبنة يشمل دراسة تاريخ الأديرة الباقية أو التى اندثرت ، وكل يوم نكتشف أجسادا للشهداء والقديسين تزخر بهم صحراء مصر ، مثل شهداء الفيوم الذين تم العثور على أجسادهم كاملة بدير الملاك غبريال بالعزب بالفيوم .

+ + +


الأنبا انطونيوس والغيرة على خلاص النفوس

والقديس أنطونيوس فى فعلته هذه ، يظهر لنا ما يجب أن يتصف به خدام الدين جميعا من " الغيرة على خلاص النفوس " باذلين فى سبيل ذلك كل مرتخص وغال ، ومضحين من أجله بالنفس والنفيس ، وليدرك الخادم أنه بذلك إنما يعمل على قيام مجد الله وتسبيحه من الجميع كما يعمل لخير القريب وتخليصه من الشر والمعصية وبالتالى من العذابات الجهنمية إلى التمتع بالأمجاد السمائية .
أجل ... ما اسعد ذلك الخادم الذى يهبه الرب نعمة العمل بغيرة على خلاص النفوس ، " فمن رد خاطئا عن طريق ضلاله خلص نفسا من الموت وستر كثرة من الخطايا " ( يع 5 : 20 ) .
القديس انطونيوس يرغب فى الشهادة

عندما سمع الوالى أن القديس انطونيوس ورهبانه قد حضروا إلى الأسكندرية وابتدأوا يطوفون فى الشوارع والمنازل والسجون لتثبيت المؤمنين وتشجيعهم على احتمال الآلام لينالوا حياة أفضل ، أمر بطردهم جميعا وعندئذ رجع الرهبان وبقى الأنبا أنطونيوس الذى كان يرغب من أعماق نفسه أن يتال أكليل الشهادة ، واستمر يباشر عمله هذا بجد ونشاط وعدم مبالاه .
ومن فرط شجاعته ، أنه ذهب يوما إلى أحد الأماكن التى كان الوالى مزمعا أن يسير منها ، وهناك جلس فوق مكان عال – ليراه الوالى – يعظ ويعلم غير أن الرب الذى أراد أن يبقى القديس فى الحياة الدنيا لخير أولاده الرهبان أغمض عينى الوالى عنه ! فبقى فى الأسكندرية يثبت المؤمنين حتى انقضى زمن الأضطهاد .

ولما أنتهت الأضطهادات عاد الأنبا أنطونى إلى خلوته فى الصحراء ، فخرج أهل الأسكندرية عن بكرة أبيهم ليودعوه وليعربوا عن حبهم له وتقديرهم إياه ، وكان يقول لهم :
" إنى لا أخشى الله ولكنى أحبه ، والمحبة تنزع الخوف خارجا وتطرده بعيدا " ( 1 يو 4 : 18 ) .
الهروب من الكبرياء

كثر تلاميذ الأنبا أنطونيوس ورواده ، ثم كثرت بالتالى العجائب والمعجزات التى أجراها الرب على يديه المباركتين ، وذاع صيته وانتشر فضله ونسكه فى كل مكان ، ومن الغريب أن يكون هذا سببا فى ضجر القديس وألمه ! لقد خشى أن يحاربه الشيطان عن طريق الغرور والكبرياء ، وفى الوقت عينه عاودته لذة الخلوة وحنين الوحدة ، فصمم على أن يغادر مكانه فى البرية إلى مكان آخر يستأنف فيه الأتصال الدائم بينه وبين الله .
أرشده الله إلى المكان الذى يستطيع أن يستقر به فى هدوء ، ودبر له بعض الأعراب الذين رافقوه إلى البرية الشرقية ، وسافر معهم مسيرة ثلاثة أيام كاملة ، وفى اليوم الرابع وصل إلى جبل عال وجد تحته نبع ماء عذب وبعض أشجار نخيل مبعثرة هنا وهناك ، فسر بهذا المكان ورغب أن يسكن به .
وفى المكان الذى وصل إليه القديس أخيرا ، أسس ديره العظيم الذى لا يزال قائما إلى الآن يزخر بآثاره وآثار أبنائه ويحمل أسمه الكريم .

أثناسيوس الرسولى وسيرة القديس أنطونيوس :
لما رأى الأنبا أثناسيوس الرسولى ( البابا الأسكندرى الــ 20 ) القديس أنطونى يحيط به تلاميذه وصفهم بقولـه : " لقد غصت الصحارى بصوامع الرهبان التى كانت تموج بساكنيها الذين كرسوا حياتهم لتسبيح الله وتمجيده صباح مساء ، وقد ارتبطت قلوبهم بالمحبة الخالصة فرسموا للناس صورة بارعة تبين لهم كيف يكون المجتمع حين يسوده السلام والوئام ؛ فحق لنا أن نقول مع الوحى الإلهى : " ما أبهى خيامك يا يعقوب ، مساكنك يا إسرائيل ، كأودية ممتدة ، كجنات على نهر ، كشجرات عود غرسها الرب ، كأرزات على المياة " ( عدد 24 : 5 – 6 ) .
ولما كان الأنبا أنطونى قد صقلته الصلوات والخلوة مع الله ففاضت النعمة الإلهية فيضانا غزيرا ، ولم يقتصر أثره على بلاده وقومه بل تعداهم إلى آسيا وأوربا ، فلم تنقض ثلاثون سنة على انتقاله إلى دار الخلود حتى عثر فى تريف ( على الحدود الفرنسية البلجيكية ) على نسخة من كتاب للبابا الأسكندرى أثناسيوس الرسولى يحوى ترجمة حياة هذا الناسك العظيم ، وقد تجمع فى المنزل الصغير الذى وجدت فيه هذه النسخة الثمينة بعض النساك الذين اتخذوا حياة أنطونى نموذجا لحياتهم النسكية ، وحدث ذات يوم أن خرج الأمبراطور قسطنطين الصغير للصيد ، فانتهز فرصة غيابه عن البلاط الأمبراطورى أربعة من رجاله ، وخرجوا للتنزه فى أنحاء المدينة ، وفى أثناء مسيرهم رأوا بيتا صغيرا يسكنه بعض النساك ، فدخلوه بلا استئذان ، وفى هذا البيت عثروا على تلك النسخة التى تحوى حياة أنطونى ، فأخذوا فى قراءتها ، ولم يلبث أثنان منهم أن انضما إلى ساكنى هذه الصومعة الحقيرة ، وهجرا حياة البذخ التى كانا يقضيانها فى القصر الأمبراطورى ، وكان ذلك سنة 378 م . ش .

+ + +

ردوا كثيرين إلى البر :
سيرة أنطونى وتوبـــة أغسطينوس :
أحرز الكتاب الذى ألفه الأنبا أثناسيوس عن حياة الأنبا انطونى أعظم انتصاراته – فقد كانت قراءته السبب المباشر فى اجتذاب أوغسطينوس من حياة البذخ والأستهتار إلى حياة النسك والقداسة ، ذلك أن صديقه بونتيتياس – أحد رجال البلاط الأمبراطورى – ذهب لزيارته ذات مساء ، وقص عليه سيرة أبى الرهبان ثم ترك له نسخة من سيرة هذا الناسك المصرى الجليل ، وكان أوغسطينوس فى أثناء ذلك الحديث يشعر بنشوة روحية عميقة ملآنة حنينا خفيا إلى تلك الحياة الممتلئة نعمة بالتكريس لله ، وكان خلال أثنى عشرة سنة يتنازعه عاملان : عامل الأستمتاع بما فى العالم من ملاذ ، وعامل ترك هذا العالم المتسلط عليه ، فأحس فى تلك اللحظة بأنه قد آن الأوان لأن يهجر العالم ، وعند ذاك قامت فى داخله معركة عنيفة بين المفاتن العالمية وبين رغبته فى التنسك ، ولقد وصف أوغسطينوس نفسه هذه المعركة الحامية فى كتابه " الأعترافات " تتلخص فى ما يلى : " ما أن بلغت مسامعى كلمات بونتيتيانوس حتى اضطربت نفسى واضطرم قلبى بنار آكلة ، وحالما غادر منزلى أخذت أناقش نفسى الحساب وألهبها بلاذع الكلام لتراخيها وانسياقها نحو المفاسد الدنيوية ، وقد ظللت فى محاربتها بلا هوادة إلى أن نجحت فى إخضاعها للأرادة الإلهية . ومع أن أوغسطينوس لم يعش عيشة أنطونى الصحراوية ، إلا أنه افتقد أثره فى السعى إلى اخضاع الأرادة الأنسانية للأرادة الإلهية متخذا شعاره ما قاله أنطونى عن الأمكانيات الأنسانية حيث قال : " لا يتوهمن انسان أن بلوغ الكمال بعيد المنال أو غريب عن الطبيعة البشرية ، فالناس يركبون البحار ليتمكنوا من دراسة الفلسفة اليونانية ، أما مدينة الله فهى داخل القلب البشرى ، والصلاح الذى يتطلبه الله كائن داخل كل فرد منا ، ولا يتطلب إلا أن نخضع ارادتنا للأرادة الإلهية " .
+ + وإذا كان بعض قاصدى أنطونى طرقوا بابه ليشفيهم من أمراضهم ، أو ليعزى قلوبهم ، فإن البعض الآخر قد قصد إليه ليعيش معه ويشاركه حياة النسك والتقشف فى وحشة الصحراء ، ولما كانت الأديرة لم تنشأ بعد ، فإن المتنسكين فى البرارى المصرية كانوا يعيشون فى مغاور تعرف بالصوامع – وكل منهم ينفرد فى صومعة ، وكانت هذه الصوامع متقاربة بحيث يتسنى للجميع أن يجتمعوا مساء السبت وصباح الأحد للصلاة معا . وقد شبه الأنبا أثناسيوس الرسولى هذه الحياة النسكية بالحياة الملائكية ، فكما أن الملائكة يرددون أناشيد التسبيح والتمجيد للعزة الإلهية ، كذلك كان أولئك النساك يقضون حياتهم فى تسبيح الله وتمجيده .
+ + ولم يضع الأنبا أنطونى نظاما للحياة النسكية ، ولم يطالب النساك إلا بالصلاة والتقشف والعمل اليدوى اقتداء بالسيد المسيح الذى كان يعمل بيديه نجارا ، وببولس الرسول الذى كان يعيش من صنع الخيام ، وعملا بارشاد الملاك الذى ألبسه الأسكيم .
+ + وقد حدد الأنبا أنطونى الساعات التى تقام فيها الصلوات وتنحصر هذه الصلوات فى تلاوة بعض المزامير ، ومقتطفات من أسفار العهد الجديد ، وبعض الصلوات التلقائية الفردية والجماعية ، وكان الجميع يعدون الصلاة هى الصلة بينهم وبين الخالق .
أما التقشف فقد قصد أنطونى به الأحتفاظ بالعفاف التام ، ولو أنه كان يرى أن اخضاع الأرادة الأنسانية للأرادة الإلهية أسمى مرتبة من التقشف المؤدى إلى اخماد الحواس الجسمية ، بحيث أنه كان يشعر بعطف شديد نحو من ينزلقون فى هاوية الخطية الجسدية ثم يتوبون توبة صادقة
+ + وإذا كان الأنبا أنطونى لم يضع نظاما للأديرة ، إلا أنه وضع زيا خاصا بالنساك .

فى سبيل الأيمان

قال القديس أنطونيوس : " العناصر تتلظى غيظا ، وكل الخليقة تتصدع غضبا من جراء جنون الأريوسيين ! وقد رأت أن ربها الذى به ولأجله صارت كل الأشياء أصبح مثلها محاكيا لها ! "
كثرت البدع والهرطقات فى ذلك العصر بصورة عجيبة ، وتملكت على أذهان البسطاء لما يبذله المبتدعون من مجهود فى سبيل نشر سمومها فى جسم الكنيسة ، وكم حاول هؤلاء أن يتصلوا بالقديس فى خلوته لينالوا بذلك حظوة لدى المؤمنين تمكنهم من نفث أضاليلهم ، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا .
لقد ذهبوا إليه مرارا غير أنه طردهم من أمامه واظهر للمؤمنين خبث نواياهم كما حذرهم من أن ينخدعوا فيسيروا وراءهم ، وما أعظم قول القديس لتلاميذه : " إن كلام المبتدعين والهرطوقيين أشد من سم الأفاعى ! " .

+ + +

وقد بلغت الجسارة بالأريوسيين أن يشيعوا بأن القديس انطونيوس يعتقد معتقدهم ويرى رأيهم ! وما أن وصل ذلك إلى مسمع القديس حتى خف ومعه بعض رهبانه إلى الأسكندرية ليزيل هذا اللبس ويكشف الستار عن نيات المبتدعين الخبيثة ويفضح ادعاءاتهم الكاذبة ، وسرعان ما تجمهر المؤمنون ليروا رجل الله انطونيوس الذى بدأ يخاطبهم قائلا :
" إن كنت قد جئت مرة ثانية من خلوتى لأظهر بينكم فذلك لكى أؤدى شهادة جلية لحقيقة إيماننا المقدس ، إنهم قد تجاسروا على الطعن بإلوهية مخلصنا وقالوا إنه كان خليقة بسيطة ، كلا ... إن ابن الله ليس هو خليقة ولم ينشأ من العدم بل كان منذ الأزل لأنه كان كلمة وحكمة الآب . ولهذا لا تشتركوا قط مع هؤلاء الأريوسيين المنافقين لأنه لا يمكن أن يكون اتحاد بين النور والظلام ، إنه لكفر أن يقال أنه وجد وقت لم يكن فيه الكلمة لأن الكلمة كانت دائما مع الآب .
إنكم مسيحيون لأنكم فى التقوى الحقيقية وفى الأيمان الحقيقى ، وأما الأريوسيين فانهم حينما يقولون إن كلمة الآب ابن الله هو مخلوق فأنهم لا يختلفون فى شىء عن الوثنيين الذين يعبدون الخليقة عوضا عن الخالق ، فصدقوا إذن أن كل الخلائق تغضب ضدهم لأنهم يجعلون فى عداد المخلوقات رب وسيد كل الأشياء التى هى كافة صنع يديه ، فاهربوا إذن من مخالطتهم فمن لا يحب يسوع المسيح فليكن محروما .
وكم كان وقع خطاب انطونيوس هذا عظيما فى نفوس سامعيه ، لقد جدد فيهم العزم على الثبات على الأيمان المستقيم حتى النهاية والعمل على مناضلة تلك البدعة الأريوسية الغريبة بل ألهب فى نفوسهم الشوق إلى رؤية راعيهم الأمين الأنبا أثناسيوس الرسولى التى أبعدت مكايد الأريوسيين بينه وبينهم .

+ + +

ومع صغر الفترة التى قضاها القديس فى الأسكندرية ، فى زيارته الثانية هذه ، إلا أنها كانت سبب بركة للكثيرين ، فكم من مرضى نالوا الشفاء ، وكم من شياطين خرجت صارخة ، بل كم من وثنيين هرولوا لمشاهدة القديس وسماع أحاديثه العذبة ، لقد آمن كثيرون منهم واعتنقوا المسيحية على يديه ...
قال القديس أثناسيوس الرسولى : " إن الذين أقلعوا عن أباطيل الوثنية واعتنقوا الدين المسيحى فى تلك الأيام القليلة قد أربى عددهم عمن اهتدى فى سنة كاملة ! " .
وكثيرا ما كانت الجموع تزدحم حول القديس لنيل بركته ، وإذ يسرع تلاميذه لأبعادهم ، كان يخاطبهم قائلا : " دعوهم يقتربون منى فليس هؤلاء أكثر عددا من الشياطين الذين يحاربوننى فوق الجبل ! " .
رسالة من قسطنطين !
" يجب ألا تتعجبوا من كتاب الملك لى ، فهو رجل يكتب إلى رجل آخر ، ولكن تعجبوا من أن الله قد خاطبنا بإبنه الوحيد " انطونيــــوس

مع ما كان يبديه الأنبا أنطونيوس من المغالاه فى العزلة والأنفراد ، إلا أن الرب كان يزيده ظهورا ! فسرعان ما سمع الجميع عنه وعن حسن عبادته وما يجريه الله على يديه من عجائب ومعجزات حدت بالكثيرين أن يحجوا إليه فى خلوته لطلب البركة ونوال الشفاء .
ومن الغريب أن يصل خبر القديس إلى قصر الملك قسطنطين الذى إذ وقف على فضائل انطونيوس أراد أن يشارك شعبه فى نوال بركته ، فكتب له خطابا رقيقا أظهر فيه احترامه العظيم لشخصه الكريم وطلب منه أن يمنحه وأفراد بيته البركة والدعاء ! .
وصلت رسالة الملك على أيدى رسله إلى القديس ، وما أن تليت على مسامع رهبانه حتى داخلهم روح الفخر والكبرياء وطفقوا يقولون : " ما أعظم معلمنا ! هوذا الملك يراسله ويطلب بركته ! " ولقد خشى القديس أن يجد الشيطان فى ذلك ثغرة يهجم منها على أولاده ، لذا أظهر عدم اهتمام برسالة الملك ، ولما أبدى الرهبان دهشتهم من موقفه هذا خاطبهم قائلا : " لا تتعجبوا لأن ملوك الأرض كتبوا إلينا ، ولا يجب على المسيحى أن يستعظم هذا الأمر ويندهش منه ، أما الأمر العجيب حقا والمذهل للعقول ، فهو أن الله كتب شريعته من أجل البشر وأرسلها على أيدى أصفيائهم ، وفى آخر الأيام خاطبنا فى إبنه الوحيد الذى يسمو بما لا يقاس على كل الملوك والسلاطين ! "
ولما أنطفأت حدة غرورهم وكبريائهم بعث برده إلى قسطنطين مبديا اغتباطه وسروره لأنه وعائلته قد اهتدوا لعبادة الاله الحى ، ثم أرشدهم ونصحهم على ألا يغالوا فى استعمال سطوة الملك وسلطانه طالبا منهم أن يضعوا نصب أعينهم دواما يسوع المسيح الملك الحقيقى والأبدى الوحيد ، وأن يكون العدل والحق رائدهم فى إدارة شئون رعيتهم ، ثم ختم رسالته بعد أن منحهم البركة وخير الدعاء .


الأنبا انطونيوس
حتمية روحية وكنسية !
تحت هذا العنوان نقتطف بعض الفقرات مما كتب د . راغب عبد النور :
على مذبح الحب الإلهى قدمت الكنيسة من أبنائها ملايين الشهداء ، ولم تبخل الكنيسة بأبنائها بلا تردد حين توفرت الأدلة أن اللقاء بالموت بكل أنواع التعذيب هو الوقود الباقى الذى يضرم نار الأيمان .... واستمر الحال بالكنيسة وبأفرادها ... وهى تعانى من الطرد والتشريد والمصادرة ... على مدىقرون حتى أنه غدا عسيرا أن نفصل بين الكنيسة والأستشهاد .
لكننا لا نتصور كنيسة تتوفر لها أسباب الأيمان الحى وسلطان الرسالة الشاهدة ، وهى فى نفس الوقت تنفصل عن حركة الأستشهاد ، وأمومة الكنيسة للشهداء ( لأننا نترنم لها بأسم أم الشهداء ) ليست أمومة موقوته بزمان محدد ولا هى أمومة تقبل التوقف أو التعطل أو الشلل ، كما كانت الكنيسة أما للشهداء هكذا ينبغى أن تكون فخورة بأبنائها الشهداءمن جيل إلى جيل .. وإلى يوم الدين . لذلك رتبت عناية الله الحى أن يظهر فى أفق الكنيسة نجم الأنبا أنطونيوس برسالته إبتداء من القرن الثالث الميلادى – وهذه الرسالة نعتبرها حتمية كنسية تحفظ للكنيسة صورتها ولقبها كونها " أم الشهــــــداء " .
إن الزمن الذى نضجت فيه رسالة الأنبا أنطونيوس وقد أصبح رجلا صاحب مدرسة تعليمية وتطبيقية من مدارس الأيمان .... هذا الزمن كان الحلقة التى تصل بين آخر اضطهاد فرضه الوثنيون على الكنيسة وبين عهد المسالمة بين الكنيسة والدولة .
بابتداء عهد المعايشة والمصالحة بين الكنيسة والدولة تربص بالكنيسة خطر شديد البأس وكان هذا الخطر قاسيا جدا على روحانية الكنيسة وحيويتها ، والعجيب إن كان أشد خطرا على رسالة الكنيسة من الأضطهاد رغم فظاعة الأخير ، فبعد أن كان المؤمنون يلتفون حول وديعة الأيمان يحافظون عليه ويدافعون عنه ويبذلون من أجله كل شىء حتى النفس ... غدا هذا الأيمان بابتداء عهد المعايشة – موضوع مناقشة وجدل ، ورفع الغطاء عن المقدسات – بغير خجل أو تحفظ – وكل إنسان أعطى لنفسه الحق أن يحلل وأن يفلسف وأن ينحاز إلى هذا الجانب أو إلى ذاك .
كان الأضطهاد بذاته ينطوى على نداء دائم أن يكون الأنسان ساهرا ، لأننا لا نعلم متى يأتى العريس ، فكل نفس عليها أن تستعد لملاقاة العريس ، وحسبهم من التعليم ما تعلمهم به الكنيسة وتدربهم عليه .
ورسالة الأنبا أنطونيوس كانت أيضا صرخة داوية ... صرخة تدعو كل نفس أن تنصرف إلى العبادة وإلى الجهاد من أجل الإيمان ، لأن الجهاد من أجل الأيمان وقت السلم لا يقل أهمية عن نظيره فى زمن الأضطهاد لئلا نركن إلى الفراغ العقلى والقلبى ونستحلى الرخاوة واللامبالاه ، ويترتب على ذلك ما يترتب من نتائج مفسدة لحياتنا الروحية .
وأظنه واضحا لكل عين متأملة ، أن المناقشات الحامية قد استهلكت وقتا طويلا من عمر الكنيسة بمجرد أن انتهى عهد الأستشهاد ، ولا نشك أيضا أن عددا وفيرا انصرفوا عن العبادة الحقيقية ليدخلوا فى متاهات المناقشات وخسرت النفس ثمار الروح من فرح وسلام .
إن الدعاوى الهرطوقية المختلفة ظهرت والأضطهاد مازال قائما واستمرت حتى ما بعد الأضطهاد ، لكن الكنيسة أثناء الأضطهاد لم يكن لديها وقت لتضيعه إنصاتا لهذا الداعية أو انسياقا وراء الآخر .
شاغل واحد انشغل به المؤمن أن يكون حنطة يطحنه الأضطهاد فيتقدم للسماء خبزا .
أما بعد الأضطهاد ابتدأ يظهر فى جو الكنيسة أثر الدعاوى الهرطوقية فكان أثرا مخربا ومدمرا ، فكان على الأنبا أنطونيوس أن يكلف نفسه مشقة السفر إلى الأسكندرية ليعلن على الملأ إيمانه المستقيم وليفضح خداع المخادعين وليؤيد خادم الأيمان الصحيح القديس أثناسيوس الرسولى .
لم يكن الأنبا أنطونيوس على جانب من الفصاحة أو مالكا لأسباب المنطق والقياس والأستطراد ... لكنه كان يملك روحا تمرست على العبادة وعلى الجهاد الروحى ، وقبل فى نفسه حكم الموت فأنعم الرب عليه بنعم الأعلان والتمييز فأستطاعت الرهبنة وهى تملك نعمة الأمانة أن تقف سدا أمام تيار الهرطقة كما استطاع أن يقف الأضطهاد ذات الوقفة قبل ذلك بزمان .
" فكنيسة الرهبنة إذا هى كنيسة الشهداء ، وكنيسة الأتقياء والمجاهدين هى أيضا أم للشهداء "

كلمـــــة "لأ" :
لماذا أسمينا الشهيد شهيدا ؟ ....
لأنه بكل شجاعة قال كلمة " لأ " فى الوقت المناسب وتحمل من أجل ( لائه ) كل أنواع التعذيب ، ونستطيع أن نسمى الأتقياء العابدين الأمناء حتى الموت وفى حدود الوزنات الموهوبة " شهــــداء " طالما يحافظون على كلمة " لأ " يقولونها فى الوقت المناسب ويتحملون من أجلها أنواع الحرمان والعناء .
ولا ننكر أن النداء الذى يحمل فى طياته وعودا بالهناء واللذة .... ؟ أحيانا يكون من الصعب على النفس أن ترفضه ، لكننا إذ نتمسك بالله وبالمواعيد ونقابل كل شىء بالرفض والهروب ، فلا شك أننا بذلك نحمل صليب ربنا وهو فى طريقه إلى الجلجثة .
ذبيحة العبادة العقلية :
وأشد من هذا النداء من زاوية الألحاح والتمسك – هو النداء الداخلى ... نداء الرغبات والأنعطافات والميول والدوافع والطبيعة والأنسان القديم .. ففى داخلنا يسكن عدونا الألد – وأشد الوحوش أفتراسا – هو عدو دائم السهر يحاربنا فى صحونا كما فى نومنا .... وحتى فى أحلامنا .
ورغم كل ذلك فالرب يستطيع أن يعطينا نصرة عليه ، ومبارك هو من الله الذى يستقبل من ربنا نعمة الجهاد والتصميم ويتمسك بالصليب سلاحا وعونا وملجأ فيقولها لعدوه الداخلى كلمة صريحة " لأ " لأن كلمة الرفض ستعنى الكثير من الألم والعميق من الجراحات .
وعلى ذلك يعتبر الأنبا أنطونيوس صاحب نداء اليقظة والعودة بالأفراد إلى شركة الكنيسة المجاهدة ومع أنه اختار لنفسه ولتلاميذه أكرب الطرق وأضناها " وهو بذلك لم يخرج عن حدود الأنجيل ولا أخترع جديدا على وصايا ربنا يسوع " ، إلا أن حياته وأسلوبه الصادق الأمين فى العبادة والجهاد انعكست آثارها على سائر المؤمنين فى العالم ، فغدا مركز إشعاع للتعليم المسيحى المستنير على كل المستويات وفى كل الأتجاهات .
إن عزلة الأنبا أنطونيوس بالصحراء ما هى إلا انعطاف كلى نحو الله – وليست تعاليا على الناس أو امتعاضا منهم .
الرهبنة ليست دعوة إنعزالية ، إنما هى دعوة كمالية نحو الأفضل ، ولسنا نذكر جديدا حين نقرر أن صداقة قوية ربطت بين الأنبا انطونيوس والأنبا أثناسيوس ، وهى صداقة أكدها وثبتها اتفاق العملاقين فى الروحيات ، وفى المسئوليات وفى الفكر والرأى ، وهناك رأى يرى أن:
" مدرسة الأنبا أثناسيوس اللاهوتية تستمد بعض أصولها من مدرسة الأنبا أنطونيوس التعبدية " .
وحــــدة الخدمــــة والمســـئولية :
إذا التقينا بالأنبا أثناسيوس ساعيا نحو الأنبا أنطونيوس فى الصحراء فى أغلب المرات التى تحرجت فيها الأمور بالنسبة له وبالنسبة للأيمان المستقيم ، كما رأينا الأنبا أنطونيوس وفى رفقته مجموعة من تلاميذه يتوجه إلى الأسكندرية ليعلن بوضوح إيمانه المستقيم ..... إيمان أثناسيوس وإيمان كنيسة الأسكندرية .
فالدعوة الديرية ليست دعوة إنفصالية عن رسالة الكنيسة ومن بعض الزوايا فهى عملية إعدادية لإنضاج الأحساس بالمسئولية نحو رسالة الكنيسة العامة .
ودليلنا على ذلك أنه بعد انتشار أديرة الرهبان على حافة وادى النيل ، كنا نرى سكان المدن عشية السبت من كل أسبوع يحملون نذورهم إلى الأديرة ثم ينتظمون جلوسا مستمعين لكلمة منفعة من أحد الرهبان القادرين على الوعظ والتعليم .
وفى بعض العصور غدت هذه الخدمة من مهام الدير ومسئوليته نحو سكان المدن القريبة منه ، وحسبنا دليلا على ذلك سيرة الأنبا شنودة المتوحد .... الرجل الذى برز فى عصره بأنه أفصح من خطب أو وعظ باللغة القبطية .
وحتى المتوحدين والسياح لا نستطيع أن نستثنيهم من هذه القاعدة ، فإن ارتباطهم الأيمانى بالكنيسة وخدمتها ظل موضوع مشغوليتهم رغم توغلهم فى دروب النسك والوحدة – ويخدمنا فى هذا المجال شاهدا على ما ذهبنا إليه قصة لقاء القديس الأنبا أنطونيوس بأول السياح القديس الأنبا بولا الطيبى .
فى هذا اللقاء المشهور جرى الحديث بين القديسين حلوا عذبا ثم كشف الأنبا بولا عما يشغله رغم أنه الرجل الذى أنفصل جسديا عن العالم منذ أربعين سنة ، فسأل عن حال الكنيسة ، وعن الأضطهاد وتساءل هل ما زالت توجد فى العالم عبادة غير عبادة الرب يسوع .
دور الرهبنة فى الرسالة التثقيفية :
مع بدء رسالة الأنبا انطونيوس الرهبانية فى القرن الثالث الميلادى ، انتشرت الرهبنة والأديرة فى داخل البلاد فى جميع المناطق ، على أن الرهبنة فى ذاتها كانت رسالة تثقيفية لروادها من الرهبان ، فإنهم بجانب الصلاة والعبادة والعمل اليدوى يلتزمون بكلمة الله قراءة وتأملات وترديدا .... وهذه القراءة كانت موضوع الدراسة واستخلاص المنفعة فى صوامعهم ، أو حين يجتمعون معا .
فظهرت بين الرهبان طائفة النساخ للكتاب المقدس وما يتصل به من تعليقات ودراسات ... وهى خلاصة رأى الجماعة فى شتى الموضوعات الكتابية .
وما هى إلا بعض عشرات السنين حتى كان لكل دير مكتبته الخاصة ، وهى مكتبة على كل حال لا يستهان بها .
كانت هذه المكتبات مرجعا لكل الموضوعات الروحية والعقائدية ، للأستفادة منها ، وللرد على بعض الهرطقات عند ظهورها ، وهذا النمو الأيمانى بجانب التطور التثقيفى ، بجانب التفرغ للعبادة والتعليم – جعل الدير غنيا بطائفة الشيوخ – طائفة العلماء الأتقياء ، وكانوا مرجعا للأحداث من الرهبان كما كانوا ملجأ للسائلين من أهل العالم .
ثم انتهى القرن السادس وأغلقت مدرسة الأسكندرية أبوابها وفتش الناس عن بديل فوجدوه متوفرا فى كل الأديرة !!
لا شك أن رب الكنيسة رأى أن مدرسة الأسكندرية سوف تتنازل عن رسالتها بختام القرن السادس ، فهو بنعمته هيأ خدمة أخرى تستطيع أن تملأ الفراغ بحيث لا يتعطل العمل التعليمى الكرازى ، ولا تكف الكنيسة عن عملية إعداد الرجال الأكفاء الأتقياء والعلماء الذين يشتهون العمل .

+ + +


تجربة تقود إلى اكتشاف :
تعالى القديس انطونيوس فى الفضيلة والتقوى ، وتسامى فى عبادته ونسكياته ، وقطع فى هذا المضمار شوطا كبيرا ، مؤثرا العزلة ، عاكفا على الصلاة ، ملازما الصوم ، مداوما على السهر ....
فكر انطونيوس يوما ، أنه أول من سكن البرية ، وأول من سلك طريق الرهبانية وانفرد للنسك والعبادة فى ذلك المكان البعيد ! وهنا ابتدأ الشيطان يجربه بتجربة المجد الباطل ويحاربه بالغرور والعظمة غير أن رحمة الرب قد أدركته ، ويده القوية قد انتشلته فخرج ظافرا منتصرا
وكثيرون قد جربوا بهذه التجربة القاسية ، غير أن قليلين هم الذين استطاعوا أن ينتصروا ! ولقد ذكر التاريخ الكنسى أن القديس مقاريوس الكبير قد جرب بذات التجربة وخالجه نفس الفكر وعندئذ كشف له الرب عن حسن عبادة وتقوى إحدى السيدات المترملات فى الأسكندرية ، وسمع فى الحال صوتا يناديه قائلا : " يا مقاريوس ، إنك لم تبلغ إلى الآن فضيلة امرأة أرملة تسكن مع بنيها فى الأسكندرية ، ويمكنك إن أردت أن تشاهد ذلك عيانا ! " – وهنا انقطع الصوت السماوى فاشتعلت نار الشوق والرغبة فى رؤية هذه القديسة ، فى نفس الأنبا مقاريوس
توجه القديس مع تلاميذه إلى الكنيسة فى الأسكندرية ، وفى نهاية الصلاة أبصر امرأة قد تخلفت عن بقية النساء عن التوجه لنوال البركة من الآب البطريرك ، ووقفت فى ورع وتقوى عظيمين تسكب نفسها أمام أيقونة السيدة العذراء ! طالبة من الرب أن يدركها وأفراد بيتها برحمته وعنايته ، وكانت تذرف دموعها مع كلماتها ! فظن القديس أن هذه المرأة واقعة فى تجربة قاسية فتقدم إليها وسألها عن حالتها فابتدأت المرأة تشرح له كيفية سيرها مع أبنيها وزوجتاهما بكل محبة واخلاص فى بيت واحد ومعيشة واحدة !
عندئذ أدرك القديس مقاريوس أن هذه المرأة هى التى أعلن له عنها ، ثم عاد إلى ديره وهو يقول : " حقا إن الرب يمنح العلمانى كما يمنح الراهب لأنه إنما ينظر إلى القلوب النقية والضمائر السليمة دون سواها
بين أول الرهبان وأول السواح

عندما خالج انطونيوس فكر العظمة ، وظن أنه أول من سكن البرية الداخلية ، أوحى إليه بأن : " فى هذه البرية داخلا منك إنسانا لا يستحق العالم وطأة قدمه ! " .
ولوقته قام متوكئا على عكازه وسار فى البرية راغبا فى الوصول إلى اكتشاف منسك هذا الرجل العظيم ، الذى أوحى إليه عنه ، سار يوما كاملا ولم يجد شيئا ، فجثا على ركبتيه وصلى طيلة ليلة طالبا من الرب الأرشاد والهداية . وعندما بزغ نور الفجر قام ليواصل سيره ، وما أن انحدرت الشمس للمغيب حتى أبصر ذئبة صاعدة فوق جبل فسار وراءها حتى غابت عن بصره ، وكان الليل قد أرخى سدوله ، فأبصر مغارة قريبة ، وأدرك أنها قد تكون ضالته التى يبحث عنها ! اقترب نحو بابها ، فشعر بيد تمتد وتغلق الباب دونه !
وهنا يكتب القديس أنطونيوس بنفسه مصورا ما جرى بينه وبين الأنبا بولا أول السواح فيقول :
" أما أنا فجثوت على الأرض وصرخت باكيا وقلت : إننى لواثق انك تعلم من أنا ومن أين جئت ولماذا أتيت ، ولا يخفى عليك إنى لا أذهب من هنا أو أبصرك ! فهل يمكن أن تطرد الأنسان يا من تقبل الحيوان ؟ ! إنى طلبتك وقد وجدتك وقرعت بابك لتفتح لى ، وإن لم تقبلنى فسأموت هنا ، وأقل ما يكون أنك تلحدنى بعد موتى .
" فأجابنى من داخل قائلا : ما من أحد يطلب إحسانا بانتهار ، بل ببكاء وتنهد ، فإن كنت قد أتيت إلى لكى تموت ، فلماذا تتعجب من إنى لا أقبلك ؟ ! "
وهنا انفتح الباب ! فتعانق القديسان طويلا ، ودعا كل منهما الآخر بإسمه ! ثم التفت الأنبا بولا للأنبا أنطونيوس وقال : إبصر الآن من فتشت عليه بعناء عظيم ، ها هى أعضائى قد وهنت من الشيخوخة وقد ابيضت لحيتى كلها ، وجف جلدى ! أنظر إنسانا يرتد إلى التراب سريعا ! .
من هو الأنبا بولا ؟
أولا : هو رجل الزهد والتقشف

يرجع أغلب المؤرخين أن الأنبا بولا ولد سنة 229 م فى الأسكندرية من أبوين غنيين ، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره أنتقل والده ووالدته أيضا بعد أن هذباه بآداب اللغتين اليونانية والمصرية وعوداه على الوداعة وخوف الله وممارسة الفضائل المسيحية .
لما أثار الملك داسيوس الأضطهاد على المسيحيين سنة 249 م تنازع مع أخيه على الميراث فعمد الأخير على أن يقدمه للقضاء ، وبينما كانا سائرين صادفا نعشا محمولا يشيعه القوم إلى مقره الأخير ، وإذ سأل بولا عنه ، أجابه أحد المشيعين قأئلا : " هذا كان من عظماء المدينة يا ولدى ! وكان له من المال والغنى الشىء الكثير ، وهو ذا قد تركه بأجمعه ، وها أنت تراهم يمضون به إلى القبر بهذا الثوب الذى عليه "
وهنا تنهدبولا وقال : حقا ، انه ليس فى العالم سوى شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهوته ! ( 1 يو 2 : 16 ، 17 ) وما المال إلا أصل الشرور ( 1 تى 6 : 10 ) ، ثم رجع من منتصف الطريق بعد أن ترك كل الميراث لأخيه .
خرج إلى خارج المدينة حيث أقام ثلاثة أيام كاملة يصلى إلى الرب فى قبر مهجور ليرشده إلى ما يرضيه ، وعندئذ أرسل له الرب ملاكه الذى أقتاده وأوصله إلى البرية الشرقية الداخلية وتركه هناك بقرب عين ماء وشجرة نخيل !
ثانيا : ثم هو رجل الجهاد والصبر !
بقى فترة ليست بقليلة يقتات من ثمر النخلة ويشرب من عين الماء ! إلى أن قيض الله له غرابا يأتيه بنصف خبزة فى كل يوم ، وظل سبعين سنة كاملة لم ير فيها وجه إنسان !
ولعل البعض ينكر أو يستغرب إعالة الرب لصفيه الأنبا بولا بواسطة الغراب ، غير أن فى كتاب الله ما يزيل دهشتنا واستغرابنا ، هوذا الرب عينه يأمر ايليا النبى قائلا : " انطلق من ههنا واتجه نحو المشرق واختبىء عند نهر كريت الذى هو مقابل الأردن فتشرب من النهر ، وقد أمرت الغربان أن تعولك هناك ، فانطلق وعمل حسب كلام الرب وذهب فأقام عند نهر كريت الذى هو مقابل الأردن وكانت الغربان تأتى إليه بخبز ولحم صباحا وبخبز ولحم مساء وكان يشرب من النهر ! " ( 1 مل 17 : 3 – 6 ) .
لقد ظل الأنبا بولا يجاهد سنوات هذا مقدارها ، وما كلت عزيمته ، ولا خارت قواه ، بل كان يذكر فى كل وقت إن " من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص " ( مت 10 : 22 ، مر 13 : 13 ) .... كم من ضيقات أحتمل ، وكم من تجارب قبل ، وأخيرا أضحى مثالا حيا يحضنا أن نشترك فى احتمال المشقات كجنود صالحين ليسوع المسيح ( 2 تى 1 : 8 ) .
ثالثا : وهو رجل الصلاة أيضا !
وليس هذا بعجيب ، لقد سكب نفسه فى صلواته ، فاختبر قوتها ودخل إلى أعماقها وتذوق لذتها وعذوبتها ! لذا استحق أن يذكر عنه للقديس انطونيوس انه : " بصلاته يرسل الرب المطر والندى على الأرض ، ويأتى النيل فى حينه !! " السنكسار 2 أمشير
نعم ما أعظم الصلاة ، وما أقوى تأثيرها ، لقد كان ايليا إنسانا تحت الآلام مثلنا وصلى ألا تمطر السماء ثلاث سنين وستة أشهر فلم تمطر ! ثم صلى أيضا فهطل المطر مدرارا ! ( يع 5 : 17 ) .
اهتمام الرب بقديسيه

وبينما كان القديسان يتباحثان ويتفاوضان إذا بغراب يطير إليهما ، حاملا فى فمه رغيفا كاملا تركه بين أيديهما ، فنظر الأنبا بولا إلى ضيفه وقال : مبارك الرب الذى أرسل لنا مأكلا ! .... لتعلم يا أخى أنه منذ 60 سنة يأتينى هذا الغراب كل يوم بنصف رغيف فقط ، واليوم أتى برغيف كامل من أجلك ، فشكرا لله الذى يهتم بقديسيه ! " .
أو ليس فى ذلك ما يذكرنا بقول النبى : " كنت فتى وقد شخت ولم أرى صديقا تخلى عنه ولا ذرية له تلتمس خبزا ؟! " ( مز 37 : 25 ) " فاطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم ! " ( مت 6 : 33 ، لو 12 : 31 ) .
وما أعظم ما ذكره بعض الرواه إذ قالوا : " إن القديسين بعد أن شكرا الرب لاعتنائه بهما جلسا على حافة الينبوع وشرع كل منهما يكلف صاحبه بكسر الرغيف ، فكان بولا يحجم عنه قائلا : " أنت ضيفى وعلى أن أكرم مثواك واحفظ لك حقوق الضيافة ! " فقال انطونيوس : " وأنت أبى إذ قد تقدمتنى فى العمر والزهد ! " ، ولبثا هكذا فترة أتفقا بعدها على أن يمسك كل منهما بطرف الرغيف ويكسراه سويا !!
ثم أخذا فى تناول طعامهما ، وطفقا يتحدثان بعظائم الله ...
وبعدئذ صرفا الليل كله فى الصلاة والسهر .
أنتقال الأنبا بولا السعيد

كان الأنبا بولا عظيما فى حياته ، بل كان مثلا حيا للعظمة الحقيقية كما تعرفها المسيحية ! كما كان عظيما أيضا فى مماته !
فى صبيحة اليوم التالى استدعى القديس بولا الأنبا أنطونيوس وقال له : " لقد أعلمنى الرب منذ زمن بعيد أنك مستوطن فى هذه البرية ، ووعدنى بأنك مزمع أن تزورنى وتوارينى التراب ، وها قد دنا أجلى ، والعناية الالهية لم تأت بك إلى هنا إلا لكى ترد التراب إلى التراب ، وها أنذا أطلب إليك أن تعود إلى ديرك وتأتينى بالرداء الذى أعطاك أثناسيوس البطريرك لتكفننى به "
وهنا تأثر انطونيوس كثيرا ، وبكى بكاء غزيرا وطلب منه أن يطلب من السيد لكيما ينتقل معه ويتحرر من قيود هذا الجسد الترابى ، وأما القديس بولا فخاطبه قائلا : " يجب أن تبقى مدة أخرى من أجل أخوتك !" . فقام الأنبا انطونيوس لأداء مهمته ، وقام الأنبا بولا لتوديعه ، وتعانق الأثنان والدموع تهطل من أعينهما ، فلقد كان هذا آخر عناق بينهما !!
ولكن من الذى أعلم الأنبا بولا بهبة القديس أثناسيوس الرسولى لأنطونيوس ؟ إن ذكره لم يأت قط طيلة حديثهما ، غير أن الله قد كشف له ، إذ : " سر الرب لخائفيه " ( مز 25 : 14 ) .
ولماذا يصر الأنبا بولا على أن يكون رداء أثناسيوس دون غيره كفنا له ؟ !
كان ذلك لسببين : أولهما : لكى لا يحزن أنطونيوس كثيرا إذا ما شاهد انتقاله بنفسه ، وثانيهما : لكى يبين للملأ عظم جهاد أثناسيوس وغيرته فى سبيل الأيمان الذى يتحدهما اتحادا كليا .

+ + +

عاد الأنبا أنطونيوس مسرعا إلى ديره ، فى الوقت الذى كان تلاميذه يبحثون عنه بجد واهتمام ، إذ قد أقلقهم غيابه المفاجىء هذا ، وسرعان ما تلاقوا فسأله الرهبان فرحين مغتبطين برؤيته : " أين كنت يا أبانا ؟... أما هو فقال : " قللوا من فرحكم ، فما أنا سوى رجل خاطىء شقى ، ولست مستحقا أن أدعى خادم الرب ، الآن عرفت أننى لست شيئا ! نعم ، لقد وجدت يا أولادى من هو أفضل منى ، ... لقد رأيت يوحنا المعمدان فى البرية ! ورأيت ملاكا يسكن فردوسا أرضيا ! .. طلب التلاميذ أن يزيدهم ايضاحا ، فأجابهم : " للكلام وقت ، وللصمت آخر " ثم أخذ الرداء ورجع إلى موضع الأنبا بولا ، راجيا أن ينظره دفعة أخرى قبل انتقاله ! .
سار انطونيوس ولم يكد يصل إلى مغارة القديس حتى أبصر جوقة من الملائكة تحمل نفس البار بولا إلى السماء فرحة متلانمة ! فجهش أنطونيوس بالبكاء رغم هذا المنظر المفرح ، ولما دخل المغارة وجده ساجدا على ركبتيه ووجهه إلى الأرض ويداه مبسوطتان بشكل الصليب ، فأخذه وكفنه بالرداء واحتفظ لنفسه " بمسح الليف " الذى كان يلبسه القديس بولا ، وكان أنطونيوس يعتبره دواما أثمن ذخيرة لديه ويرتديه فى الأعياد والأحتفالات الرسمية .
وإذ أراد أنطونيوس أن يوارى جسد القديس التراب ، تحير فيمن يحفر له القبر ، فتقدم إليه أسدين وأبتدأ يحفران حتى أكملا ثم غادرا المكان .
عندئذ وضع أنطونيوس الجسد فى مثواه الأخير بعد أن اختلطت صلواته بدموعه !
ثم عاد إلى ديره ، وقد اتخذ من حياة البار بولا خير عظة يلقيها على تلاميذه شارحا لهم نسكه وجهاده ومبينا قداسته وفضائله ، طالبا منهم العمل على الأقتداء به ، وما أجمل ما قاله : " إن فضائلى لم تكن إلا امتحانات بالنسبة إلى فضائل هذا القديس الناسك العظيم ! " .
قال القديس ايرونيموس يمتدح الأنبا بولا : اننى أسأل الأغنياء الذين لا يعرفون كمية ثرواتهم لزيادتها ، الذين يسكنون المنازل الواسعة المزدانة بالرسوم والألوان ، ماذا أعوز هذا الشيخ المقدس من كل غنى ؟ أنتم تشربون فى كؤوس من فضة وذهب ، وبولا هذا يطفىء عطشه بكف يده ! أنتم تلبسون البرفير وهو يتردى بثوب من النخيل ! غير أن الأمر لا يبقى هكذا دائما ، وهذه الحال ستنقلب إلى حال أخرى ، فها أن السموات انفتحت لبولا المسكين وأنتم ستهبطون إلى حيث كنوزكم ! هو قبر فى لحد ليقوم للمجد ، وانتم تدفنون فى قبور من الرخام والمرمر لتحترقوا إلى الأبد ! " .
الرقاد الأخير
خمس سنين بعد المائة ، سلخها الأنبا أنطونيوس فى جهاد مضنى ، سالكا أضيق الطرق وأكربها إذ كان يدرك أنها توصل فى النهاية إلى الحياة الأبدية ! ( لو 13 : 24 ) .
وقد اعتاد القديس كما رأينا ، أن يتفقد أبناءه بين الحين والآخر ، وكان الرهبان يرون أن أعظم الفرص فى حياتهم هى التى يلتفون فيها حول أبيهم ومعلمهم ، ولعلنا ندرك ذلك من سعيهم وراءه عندما سار إلى البرية الداخلية إذ لم يطب لهم المقام بعيدا عنه .
درس الوداع
وإذ دنا أجل القديس حدثته نفسه بقرب انتقاله من الحياة الحاضرة ، فاشتاق أن يرى تلاميذه ، فخرج إليهم ، وسرعان ما اجتمعوا كعادتهم ، كل يسرع لتقبيل يده لنوال بركته ، ثم أحاطوا به احاطة السوار بالمعصم ، وهنا ابتدأ فى القاء الدرس الأخير ، إنه درس الوداع ! الدرس الذى يود التلاميذ تأخيره ولو إلى حين ، لكن كان عليهم أن يسمعوه مرغمين ! فأذعنوا صامتين ومنصتين ، وقال القديس : " هذه يا أولادى زيارتى الأخيرة لكم ، ولا أظن إنى أراكم بعد فى هذه الدنيا ! إن الماية والخمس سنين تضطرنى إلى أن أنحل من هذا الجسد الفانى ! " .
أجهش الجميع بالبكاء ، وفى ألم وحسرة ابتدأوا يتذكرون تلك الفوائد الروحية الجليلة التى يجنونها من تعاليمه وتجاربه ، غير أن القديس اسكتهم وقال : " يا أولادى انى مغادركم ، غير أنى لا أنفك عن محبتكم ، مارسوا دائما أعمالكم المقدسة ولا تتراخوا قط ، احرصوا كل الحرص لئلا تدنس أنفسكم شوائب الأفكار ، اجعلوا الموت نصب أعينكم واجعلوا قيد أبصاركم حياة القديسين واقتدوا بهم ، اتبعوا طريق الحق شجعانا ، وحذار أن تشتركوا مع الأريوسيين المعروفين بكفرهم ونفاقهم وذميم أعمالهم ! اهربوا منهم كما تهربون من الطاعون ، لا تتعجبوا من مساعدة ومناضلة الحكام عن تعليمهم ، فهذه السلطة الوهمية التى اختلسوها لا بد أن تتلاشى ، وليكن ذلك محرضا لكم على أن لا تكون لكم علاقة بهم ...
" حافظوا بكل تقوى على تقليدات آبائكم واثبتوا فى إيمان السيد المسيح ، وعلى ما تعلمتم من الأسفار المقدسة ، واستماعكم الأرشادات التى ألقيتها عليكم أنا العبد القاصر "
قام القديس ليغادر المكان ، فودعه أبناءه الرهبان ببكائهم ، وشيعوه لا بنظراتهم بل بقلوبهم ، إلى صومعته الخاصة ، وهناك انفرد كعادته وابتدأ يصلى إلى الله طالبا منه بكل اتضاع أن يغفر له خطاياه ثم صلى من أجل تلاميذه ومن أجل الكنيسة ، ثم صلى من أجل العالم بأسره .....
ساعة الأنتقال
تعب قليلا فاستدعى تلميذيه الأقربين مكاريوس وأماتاس وأوصاهما قائلا : " إننى يا ولدى العزيزين منطلق فى طريق الآباء ، الرب يدعونى ، إنى مستريح الأرتياح كله للخطوة بالأتحاد به تعالى ، أذكركما واحضكما ألا تضيعان فى يسير من الزمن جنى أتعاب سنوات كثيرة ، ضعا نصب أعينكما أنكما قد ابتدأتما اليوم فيداد عزمكما وحرارتكما بحفظ الواجب ، أنتما تعلمان مكايد ابليس وقساوته ، ولا تجهلان ضعفه ، فلا تخافاه قط بل آمنا بيسوع المسيح ، لأن الأيمان الراسخ يهزم الأبالسة ، تأملا دائما فى التعاليم التى أرشدتكما إليها ، عيشا كأنكما مزمعان أن تموتا كل يوم واسرا دون انقطاع على نفسيكما واذكرا زوال الحياة التى هى فى تقلب دائم فتحرزا عاجلا ثواب السماء ، اهربا من سم أرباب الشقاق والبدع لأنهم أبدا أعداء صليب المسيح ، اجهدا النفس فى حفظ وصايا الله فبعد مماتكما يلقكما الجميع فى منازل السماء كأصدقاء ، فكرا بهذه الأشياء وتصرفا فيها بفطنة وتحدثا عنها ما استطعتما .
" ثم انى أناشدكما الله إذا خطرت لكما فى بال ، وجاء فى فكركما ذكر أبيكما ، وإذا شئتما أن تبادلانى مالى عندكما من خالص المودة ألا تحملا جسدى إلى مصر مخافة أن يصان ! . وهذا هو السبب الذى حدا بى أن أعود إلى هنا لكى أموت فى هذا هذا الموضع فأنتما إذ تدفنانى فى بطن الأرض وتروان التراب على جسد أبيكما ، احفظا وصيتى هذه ولا تدعا أحدا سواكما يعلم أين موضع دفنى ، ورجائى وطيد أنى أقتبل هذا الجسد يوم القيامة ..... بلا فساد .
" أما ثيابى فأنى أوزعها كما يلى ، أعطيا للأسقف أثناسيوس جلد الغنم والرداء الذى استلمته جديدا أرده إليه باليا ، أعطيا الأسقف سيرابيون جلد الغنم الآخر واحفظا لكما مسحى .
" استودعكما الله يا ولدى العزيزين ، إن انطونيوس يفارقكما بالجسد ولكنه لا يفارقكما بروحه ! " .
( الأنبا أثناسيوس الرسولى ، والأنبا سيراليون أسقف دندرة هما كاتبا سيرة القديس انطونيوس )

+++
  رد مع اقتباس
قديم 27 - 08 - 2012, 01:48 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

اللحظة الأخيرة
انتهى القديس من وصيته الأخيرة لتلميذيه ، فتقدما وعانقاه والدموع تتساقط من أعينهما والحزن مرتسم على وجهيهما ثم جثيا يصليان فى رهبة وخشوع !
هنا بسط القديس رجليه ورقد بالرب مقابلا الموت بابتهاج ، وكانت إسارات الفرح بادية على محياه ، وقد وافق انتقاله اليوم الثانى والعشرين من شهر طوبة سنة 356 م .
فابتدأ التلميذان فى توديع أبيهما قائلين :
وداعا يا أبا الرهبان وكوكب البرية !
وداعا يا من رسمت طريق الجهاد فى الحياة النسكية



وداعا يا من حولت البرية المقفرة إلى فراديس روحية
لقد حوربت فصبرت وجاهدت فانتصرت
تجمع الشياطين حولك فما استطاعوا أن يفلوا من عزمك !
وتجمهر الأبالسة ضدك فشتتهم بقوة ثباتك وإيمانك !
عشقنا العذوبة من أجلك وطاب لنا المقام بقربك ..
كنت لنا هاديا ، ولطلباتنا ملبيا ولجميع روادك طبيبا شافيا ...
وحتى فى آخر لحظاتك لم يتخل علينا بعظاتك وارشاداتك
وها نحن نعدك أن نسلك مسلكك ونسير على منوالك
محافظين على أوامرك حتى نلقاك فى سمائك
وداعا يا أبانا الحبيب ! ..... وداعا .... وداعا ..... !!


+ + +

ختمت حياة الأنبا انطونيوس الأرضية فانطلق توا إلى الراحة الدائمة ، حيث يتمتع بالأمجاد وينال عربون الجهاد ، " إذ طوبى للأموات الذين يموتون فى الرب منذ الآن ، نعم يقول الروح لكى يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم " ( رؤ 14 : 13 ) .
وما أعظم ذلك الأنسان الذى يقابل الموت بصدر رحب دون خوف ولا وجل مشاركا رسول الجهاد قائلا : " لى الحياة هى المسيح والموت ربح ، ولى اشتهاء أن انطلق واكون مع المسيح ذاك أفضل جدا " ( فى 1 : 21 ، 22 ) .
أين جسد القديس ؟ !
قام التلميذان مكاريوس واماتاس بتكفين جسد أبيهما ثم وارياه التراب ، محتفظين بوصيته فى ابقاء مكان قبره سرا مكتوما بينهما ! ووزعا تركته كما أمر قبل انتقاله بعد أن احتفظا لنفسيهما بمسحيه معتبرين أنهما أعظم ذخيرة من أبيهما تذكرهما بقداسته وبره وجهاده ونسكياته وتحفزهما على اقتفاء أثره والعمل بما سمعاه من درره .
ومن الثابت أن جسد الأنبا انطونيوس لا زال فى موضعه الذى دفن فيه فى الصحراء الشرقية حيث يقيم ديره الحامل اسمه الآن ، غير أن الكنيسة الغربية زعمت أن جسد القديس قد انتقل إلى الأسكندرية عام 527 م حيث بقى ما يقرب من 138 سنة نقل بعدها إلى مدينة القسطنطينية سنة 668 م ثم إلى فرنسا عام 1070 م حيث بنيت هناك كنيسة بديعة فى ابروشية غرنويل كرسها كاليستوس الثانى بابا روما بنفسه ووضع ذخائر القديس فيها " .
ونحن إذ نعرض لقولهم هذا نرى أنه منقوص من أساسه للأسباب الآتية :
أولا : يتبين لنا من وصية القديس انطونيوس لتلميذيه مكاريوس واماتاس حرصه الشديد على أن يبقى موضع قبره فى طى الكتمان وهاكم نص وصيته لهما كما دونها القديس أثناسيوس الرسولى معاصره وكاتب سيرته قال :
" إن كانت أفكاركما متعلقة بى وتذكراننى كأب فلا تسمحا لأنسان أن يأخذ جسدى وينقله إلى مصر لئلا يحفظونى ويدعونى فى بيوتهم حسب عادتهم .... فاحفروا قبرا وادفنانى فيه واخفيا جثتى تحت الثرى وحافظا على كلامى هذا كل المحافظة ولا تقولا لأحد أين وضعتمانى وسأبقى هنالك حتى قيامة الأموات ! وحينئذ آخذ هذا الجسد بلا فساد ! " ... ( سيرة القديس للأنبا أثناسيوس الرسولى ) – ولقد أثبت المدعين فى كتبهم نفس هذه الأقوال .
ونحن من ناحيتنا نستبعد قيام هذين التلميذين القديسين بإفشاء سر إئتمنهما عليه أبيهما أمام الله .
ثانيا : فى الوقت الذى ذكره المدعين لظهور جسد القديس فيه كانت الرهبنة فى مصر مزدهرة يانعة وكانت ديارات القديس نفسه زاخرة برهبانه ، وليس من المعقول أن يسمح هؤلاء جميعا لرجل غريب فى السطو والأستيلاء على جسد أبيهم .
ثالثا : كيف ينقل الجسد ويبقى فى الأسكندرية مدة 138 سنة دون أن يشعر الناس بالأمر ؟
رابعا : مع أن القديس الأنبا بولا أول السواح لم يوصى بإخفاء مكان قبره ، إلا أن الأنبا انطونيوس بعد ما دفنه قابل الأنبا أثناسيوس الرسولى البطريرك وأعلمه بالأمر فأرسل الأخير رجالا ليحملوا جسد الأنبا بولا إلى الأسكندرية ، غير أنهم رغم تحديد المكان بقى الرجال أياما كثيرة يبحثون دون جدوى ! وأخيرا ظهر الأنبا بولا للبطريرك فى رؤيا وأعلمه أن الرب لا يشأ ظهور جسده وإن رجاله سيتعبون عبثا ، فارسل الرسولى واستدعاهم ثانية .
فإذا كان هذا قد حدث حول جسد الأنبا بولا ، فما بالك بجسد انطونيوس ؟ !
خامسا : عندما نقل جسد القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية إلى مدينة البندقية فى القرن التاسع لم تتوانى الكنيسة ولا التاريخ قط عن إثبات ذلك والأعتراف به فى صراحة تامة ، فأين كانت الكنيسة والتاريخ عندما نقل جسد القديس انطونيوس ؟ إذا سلمنا جدلا برواية المدعين ! .
سادسا : أثبت كثير من الكتاب والمؤرخين دحض هذا الأدعاء الغربى نذكر منهم أثناسيوس الرسولى وسيرابيون أسقف دندرة وأبو صالح الأرمنى الذين أوضحوا أن جسد القديس مدفونا فى كنيسته الأثرية داخل الدير .
قال المتنيح القمص منسى يوحنا فى كتابه تاريخ الكنيسة القبطية ما نصه : " وقد دفن جسد القديس الطاهر أمام باب الهيكل القبلى بالكنيسة التى بناها فى حياته بإسم السيدة العذراء وسميت بعد ذلك بإسمه ولم نزل حتى اليوم تضم ذلك الجسد الكريم داخل دير عظيم شيد فى أيام الأنبا انطونيوس بجوار مغارته بجبل العربة " .
لقد اهتدى الكثيرون إلى الأيمان المسيحى من سيرة القديس العظيم وأبرزهم القديس أوغسطينوس الذى تأثر كثيرا على فرط ما سمع عنه وقال : " ها هوذا الأنام الجهلاء يختطفون السماء ونحن المفتخرين بالعلوم نستمر على الأرض مكبلين ! فلم لا نقتدى بهم ؟ ! " .
كان القديس العظيم الأنبا أنطونيوس :
رجل اعتزال عن العالم وغناه ومباهجه ....
وكان رجل احتمال ..
ورجل دخل من الباب الضيق ...
ورجل اتضاع ...
ثم هو رجل النصرة أيضا



مقتطفات من رسائل القديس أنطونيوس
هذه المقالات للقديس أنبا أنطونيوس ، بسيطة غاية البساطة ، وعميقة غاية العمق ، تتناسب مع كل قامة روحية :
- فالبعيد عن الله تحذره ثم تناديه بلطف وتشجيع منقطع النظير .
- والذى ابتدأ الطريق ولا يزال على السطح توعيه وتفتح بصيرته ، لينتقل بغاية السهولة إلى العمق .
- والذين اتخذوا طريقهم بحزم وعزم فهى ترقى بهم فوق الصعاب ، وتنير أمامهم مفاهيم جديدة ، تزيدهم إحساسا بالتقوى والغيرة ، وتلهب قلوبهم للأمساك بدرب القديسين .
إن هذه الرسائل هى دستور السعى فى طريق الخلاص ، وأنها تحمل روح أنطونيوس حقا وفعلا ، إن صدق هذا القول يتضح من القراءة والتأمل الروحى فى هذه الرسائل .
الرسالة الأولى : رسالة أنطونيوس المتوحد ورئيس المتوحدين إلى الأخوة بكل موضع :
" قبل كل شىء أهدى محبتكم السلام بالرب ..
على ما أرى ، أن النفوس التى تأتى إلى محبة الله سواء كانوا رجــالاأو نساءا ، هم ثلاث رتب
الدعوة الأولى : هناك الذين أتت إليهم الدعوة بناموس المحبة الذى فى طبيعتهم ، الذى غرسه فيهم الصلاح الأصلى ، عند خلقتهم الأولى ، وحين بلغتهم كلمة الله لم يشكوا مطلقا ، بل قبلوها باستعداد الطاعة ، كما كان أبونا ابراهيم رئيس الآباء : لأن الرب لما رأى أنه ليس بتوسط تعليم الناس تعلم أن يحب اللــــه ، بل من الناموس المغروس فى طبيعته منذ بدء خلقته ، ظهر له الله وقال : " أخرج من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أريك " ( تك 12 : 20 ) ، فخرج بدون تشكك واذ كان مستعدا لقبول الدعوة ، وصار مثالا لهذه الدعوة التى ما زالت ثابتة للذين يتبعون خطواته ، فهم إذ يجاهدون ساعين وراء مخافة الله بالصبر والهدوء يدركون المسيرة الصادقة التى للحياة لأن نفوسهم تكون مستعدة أن تتبع حب الله ، وهذا هو النوع الأول من الدعوة .
الدعوة الثانية : هى هذه ؛ هم الذين المكتوب يشهد لهم عن العذابات والآلام المعدة للأشرار ، والمواعيد المعدة لمن يسلك كما يحق فى خوف الله ، وبهذه الشهادات المكتوبة فى الناموس تتيقظ نياتهم ويطلبون الدخول فى هذه الدعوة ، كما يشهد داود حين يقول " ناموس الرب بلا عيب يرد النفوس ، شهادات الرب صادقة تعطى حكمة للبسطاء " ( مز 19 : 7 ) . وفى مكان آخر " إعلان أقوالك ينير ويفهم البسطاء " ( مز 119 : 130 ) ، ومثل هذا كثير لا نستطيع أن نذكره كله الآن .
الدعوة الثالثة : هناك نفوس كانت قلوبهم قاسية فى البداية وداوموا على فعل الخطية ؛ والله الصالح فى رحمته يطلق على مثل هذه النفوس المحن والشدائد للتأديب ، حتى يتذللوا ويعودوا إلى صوابهم ، ويرجعوا ويقتربوا ويدخلوا إلى المعرفة ، ويتوبوا بكل قلوبهم ، ويدركوا أيضا السيرة الصادقة التى للحياة ، مثل أولئك الذين تكلمنا عنهم من قبل .
هذه هى الدعوات الثلاثة التى بواسطتها تأتى النفوس إلى التوبة ، حتى تنال نعمة ودعوة أبن اللــــه .
والآن ، بالنسبة للذين دخلوا بكل قلوبهم ، واقتنوا فى نفوسهم بغضة لكل شهوات الجسد ، ثابتين بعزم مقابل كل الحروب التى تثور عليهم حتى يغلبوا ، أرى أنه قبل كل شىء يدعوهم الروح ويجعل الجهاد خفيفا عليهم ، ويحلى لهم أعمال التوبة ، ويعلمهم كيف ينبغى أن يتوبوا بالجسد وبالنفس ، حتى يبلغ بهم إلى التحول الكامل نحو الله خالقهم ، ويسلمهم أعمالا بها يغصبون نفسهم ويقمعون جسدهم حتى يتقدسا كلاهما ويدخلا معا إلى ميراثهم .
وأولا يتطهر الجسد بالصوم الكثير ، والسهر والصلوات ، والخدم التى بها يقمع الأنسان جسده ، ويقطع من نفسه كل شهوات اللحم . وروح التوبة تكون مرشدة له فى هذه الأمور ، وتختبره بواسطتها ، لئلا يجعله العدو يرجع إلى ورائه .
فى نهاية الرسالة الأولى :
يقول القديس أنطونيوس :
" .......... فإن أسلمت النفس ذاتها لله من كل قلبها ، فإن الله يتحنن عليها ويمنحها روح التوبة الذى يشهد لها على كل خطية ، لكى لا تدنوا منها مرة أخرى . ويظهر لها أولئك الذين يقومون ضدها ويطلبون أن يعوقوها عن أن تفصل نفسها منهم ، ويقاومونها بشدة لكى لا تثبت فى التوبة ، فإن احتملت وداومت على طاعة الروح الذى يشير عليها بالتوبة ، فإن الخالق يفاجئها ويتحنن على أتعاب توبتها ، ناظرا إلى أتعاب الجسد فى الصلوات الدائمة والصوم الكثير والتضرعات والهذيذ فى كلام الله ، والتجرد من العالم ، والتواضع والدموع ومداومة التذلل
حينئذ إذ يرى الله الرحوم تعبها وخضوعها يتراءف عليها ويخلصها ".

+ + +


الرسالة الثانيــــــة:
إخوتى الأحباء المكرمين : أنا انطونيوس أهديكم السلام فى الرب
حقا أيها الأحباء بالرب أنه ليس فى وقت واحد فقط يفتقد الله خليقته ، بل منذ بداية العالم فإن كل من يأتى إلى خالق الكل بناموس عهده المغروس فيهم ، يكون الله حاضرا مع كل واحد منهم بصلاحه ونعمته بالروح القدس .
أما بالنسبة للطبائع الناطقة الذين برد فيهم العهد ، وانطفأ إدراكهم العقلى ، حتى أنهم لم يعودوا قادرين أن يعرفوا نفوسهم بحسب حالتهم الأولى ، فعن هؤلاء أقول أنهم أصبحوا جميعا بلا عقل ، فعبدوا المخلوقات دون الخالق .
لكن خالق الكل افتقدنا ، بصلاحه ، بناموس العهد المغروس فينا ، لأنه جوهر خالد ، والذين استحقوا الله ، وسعوا بناموسه المغروس ( فيهم ) ، وتعلموا من الروح القدس ، وقبلوا روح البنوة ، هؤلاء استطاعوا أن يعبدوا خالقهم كما يجب ، الذين يقول عنهم القديس بولس : أنهم " لم ينالوا الوعد بسببنا – أى لئلا يكملوا بدوننا – ( عب 11 : 39 ) .
والله خالق الكل ، الذى لا يندم على محبته ، أراد أن يفتقد ضعفنا وحيرتنا ، فأقام موسى معطى الناموس ، الذى أعطانا الناموس مكتوبا ، ووضع لنا أساس بيت الحق ، الذى هو الكنيسة الجامعة التى تجعلنا واحدا فى الله ؛ لأنه أراد أن يردنا إلى خلقتنا الأولى . فبنى موسى البيت ، ولكنه لم يكمله بل تركه ومضى . فأقام الله جماعة الأنبياء بروحه ، فبنوا هم أيضا على الأساس الذى وضعه موسى ، ولكنهم لم يقدروا أن يكملوا البيت ، بل تركوه ومضوا مثله .
وجميعهم إذ كانوا متسربلين بالروح رأوا أن الجرح ليس له شفاء ، وأنه لا أحد من الخلائق يقدر أن يشفيه ما خلا الأبن الوحيد ، الذى هو عقل الآب وصورته ، والذى على مثال صورته صنع كل خليقة ناطقة . لأنهم علموا أن المخلص هو الطبيب العظيم ، فاجتمعوا معا جميعهم ، وتضرعوا بالصلاة من أجل أعضائهم أى من أجلنا نحن ، وصرخوا قائلين : " أليس بلسان فى جلعاد أم ليس هناك طبيب ، فلماذا لم يأت شفاء إبنة شعبى " ( أر 8 : 22 ) ، " داويناهم فلم تشف دعوها ولنذهب عنها " ( أر 51 : 9 ) .
ولكن الله فى محبته الحقيقية الغنية أتى إلينا ، قائلا بواسطة القديسين : " يا أبن الأنسان اتخذ لنفسك آنية السبى " ( خر 12 : 13 ) .
وهو " إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله ، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد ... وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه إسما فوق كل أسم لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة مما فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب " ( فى 2 : 6 – 11 ) .
فالآن أيها الأحباء ، ليكن هذا الكلام ظاهرا لكم ، أن الآب فى صلاحه لم يشفق على أبنه الوحيد لأجلنا بل أسلمه من أجل خلاصنا أجمعين ( رو 8 : 32 ) ،" فبذل ذاته لأجل خطايانا " ( غل 1 : 4 ) ، وآثامنا واضعته ، " وبجلداته شفينا " ( أش 53 : 5 ) ، وبكلمة قدرته جمعنا من كل الأقطار ، من أقصى الأرض إلى أدناها ، وصار قيامة لعقولنا ، ومحوا لخطايانا ، وعلمنا أننا أعضاء بعضنا للبعض .
فأطلب إليكم أيها الأخوة ، أن تفهموا هذا التدبير العظيم ، أنه تشبه بنا فى كل شىء ما خلا الخطية ( عب 4 : 15 ) ، والواجب على جميع الطبائع الناطقة الذين من أجلهم خاصة جاء المخلص ، أن يفحصوا المثال ويعرفوا فكره ، ويميزوا بين الخير والشر ، حتى يصيروا أحرارا بمجيئه ، فالذين قد تحرروا بتدبيره ، دعوا عبيدا لله ، وهذا ليس هو الكمال بعد ، بل فى وقته هو البر ، ويقود إلى تبنى البنين .
فى نهاية الرسالة الثانية :
يقول القديس أنطونيوس :
" ......... فليكن هذا الكلام ظاهرا لكم ، أيها الأحباء : أن الذى لم يستعد أن يقوم نفسه ولم يتعب بكل قوته ، ليعلم مثل هذا أن مجىء المخلص سيكون له للدينونة لأنه لقوم " رائحة موت للموت " ، ولقوم " رائحة حياة للحياة " ( 2 كو 2 : 16 ) . لأنه قد وضع لسقوط وقيام كثيرين فى اسرائيل ، ولعلامة تقاوم " ( لو 2 : 34 ) فأطلب إليكم ، أيها الأحباء ، بأسم يسوع المسيح ، أن لا تهملوا خلاصكم ، بل فليمزق كل واحد منكم قلبه لا ثيابه ( يوئيل 2 : 3 ) ، لئلا نكون قد لبسنا هذا الزى الرهبانى باطلا ، ونعد لنفوسنا دينونة ، لأنه الآن قد قرب الزمان الذى تمتحن فيه أعمال كل واحد منا .
ولشرح ما أقولـه ، هناك أشياء أخرى كثيرة لأكتبها لكم ، ولكنه مكتوب " إعط الحكيم فرصة فيزداد حكمة " ( أم 9 : 9 ) .
أهديكم السلام جميعا من الصغير إلى الكبير ، وإله السلام يحفظكم جميعا أيها الأحباء ، آمين .
الرسالة الثالثة :
إن الأنسان الناطق الذى أعد نفسه لكى يعتق بمجىء يسوع ، يعرف ذاته فى جوهره العقلى ، لأن الذى يعرف نفسه يعرف تدابير الخالق وكل ما يعمله بين خلائقه .
أيها الأحباء بالرب ، أعضائنا ، وشركاء الميراث مع القديسين : أطلب إليكم فى أسم يسوع المسيح ، أن يعطيكم الرب روح افراز ، لكى تدركوا وتعلموا عظم المحبة التى لى نحوكم ، وأنها ليست محبة جسدانية بل محبة روحانية إلهية .
لأنه بالنسبة لأسمائكم الجسدانية ؛ ما كان هناك حاجة لنكتب إليكم مطلقا إذ أنها زائلة ، إذا عرف الأنسان اسمه الحقيقى ، فهو ينظر أيضا أسم الحق . ولهذا السبب أيضا كان يعقوب يصارع مع الملاك طول الليل ، وكان أسمه ما زال يعقوب ؛ ولكن لما كان الصباح ، دعى أسمه إسرائيل ، الذى يعنى " العقل الناظر اللـــــه " ( تك 32 : 24 – 30 ) .
وأنا أعلم أنكم لستم تجهلون أن أعداء الفضيلة هم دائما يتآمرون على الحق ، ولهذا السبب ليس مرو واحدة أفتقد الله خلائقه ، ولكن منذ البدء كان هناك البعض ممن استعدوا أن يأتوا إلى خالقهم بناموس عهده الثابت فيهم ، إذ قد تعلموا أن بعبدوا خالقهم كما يجب .
ولكن لسبب كثرة الضعف وثقل الجسد والأهتمامات الشريرة جف الناموس المغروس فيهم ، وضعفت حواس النفس ، حتى أن الناس لم يقدروا أن يدركوا نفوسهم كما هى على حقيقتها بحسب خلقتها ، أى فى جوهرها عادم الموت الذى لا ينحل مع الجسد ، وهذا الجوهر لم يكن ممكنا أن ينعتق ببره الخاص . ولهذا السبب تعامل الله معهم بحسب صلاحه ، بكتابة الناموس ، ليعلمهم أن يسجدوا للآب كما يجب .
الله واحد ، أى بوحدانية الجوهر العقلى ، وينبغى أن تفهموا هذا أيها الأحباء ، أنه فى كل المواضع حيث لا يوجد الوفاق ، يشن الناس الحروب على أنفسهم ويقيمون القضايا فيما بينهم .
" ......... فمنذ الآن أيضا سنكف عن أن نطلب يسوع لأجل حاجات جسدية ، إن مجىء يسوع يعيننا لكى نعمل ما هو صالح ، إلى أن نبطل كل شرورنا ، وعند ذلك يقول لنا يسوع " منذ الآن لست أدعوكم عبيدا بل إخوة " ( يو 15 : 15 ) . وعندما نال الرسل روح التبنى ، حينئذ علمهم الروح القدس أن يسجدوا للآب كما يجب .
فى نهاية الرسالة الثالثة :
يقول القديس أنطونيوس :
" ...... أما أنا المسكين ، أسير يسوع ، فهذا الوقت الذى صرنا إليه جلب لى سرورا ونوحا وبكاءا ، إذ أن كثيرين من جيلنا لبسوا ثياب التقوى ولكنهم أنكروا قوتها ، فبالنسبة للذين أعدوا نفوسهم لكى يتحرروا بمجىء يسوع ، فأنا أسر بهؤلاء ، أما أولئك الذين يهتمون بأسم يسوع ومع ذلك يصنعون إرادة قلوبهم وأجسادهم ، فأنا على هؤلاء أنوح ، والذين تطلعوا إلى طول الزمان ، فخارت قلوبهم وطرحوا ثوب العبادة ، وصاروا وحوشا ( كالبهائم ) ، فلأجل هؤلاء أنا أبكى ، واعلموا إذن أن مجىء يسوع لمثل هؤلاء الناس سيكون دينونة عظيمة .
فهل عرفتم نفوسكم ، أيها الأحباء بالرب ، لكى تعلموا مقدار هذا الزمان وتستعدوا أن تقدموا نفوسكم ذبيحة مقبولة للـــــــــه .
يا أحبائى بالرب – إنى أكتب إليكم كأناس فاهمين ، يمكنهم أن يعرفوا نفوسهم ، فأنتم تعلمون أن من يعرف نفسه يعرف الله ، ومن يعرف الله يعرف أيضا تدابيره التى يصنعها لخلائقه .
وليكن هذا الكلام ظاهرا لكم ، أن المحبة التى لى من نحوكم ليست محبة جسدانية بل محبة روحانية إلهية ، لأن الله ممجد فى مجمع قديسيه ( مز 88 : 8 ) .
فأعدوا نفوسكم إذ لكم شفعاء يطلبون إلى الله لأجل خلاصكم ، لكى يسكب فى قلوبكم تلك النار التى جاء يسوع ليلقيها على الأرض ( لو 12 : 49 ) ، لتستطيعوا أن تدربوا قلوبكم وحواسكم لتعرفوا كيف تميزوا الخير من الشر ، واليمين من الشمال ، والحقيقة من الباطل . ولأن يسوع يعلم أن الشيطان يستمد قوته من أشياء العالم المادية ، دعا تلاميذه وقال لهم " لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض " ، " ولا تهتموا بالغد لأن الغد يهتم بشأنه " ( مت 6 : 19 ، 34 ) .
بالحقيقة يا أحبائى ، أنتم تعلمون أنه فى زمان اعتدال الرياح يتفاخر ربان السفينة ، ولكن فى وقت اشتداد الرياح المضادة العاصفة ؛ حينئذ يظهر الربان الماهر ، فاعلموا أى وقت نحن فيه الآن .
وبخصوص شرح كلمة الحرية كان لى الكثير لأقولـه لكم ، ولكن " اعط الحكيم فرصة ليزداد حكمة " ( أم 9 : 9 ) .
أهديكم السلام ، من الصغير إلى الكبير فى الرب ، آمين .

+ + +
  رد مع اقتباس
قديم 27 - 08 - 2012, 01:49 PM   رقم المشاركة : ( 5 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

الرسالة الرابعة :
انطونيوس يطلب لجميع إخوته الأحباء الفرح بالرب ، إنى لست أمل من تذكركم يا أعضاء الكنيسة ، وأريدكم أن تعلموا أن المحبة التى بينى وبينكم ليست محبة جسدانية ، بل محبة روحية إلهية ، لأن الصداقة الجسدانية غير ثابتة ولا باقية ، لأنها متحركة مع الرياح الغريبة .
كل من يخاف الله ويحفظ وصاياه ، هذا يكون عبدا لله ، وهذه العبودية ليست هى الكمال ، بل هى البر الذى يؤدى للتبنى ، ومن أجل هذا فإن الأنبياء والرسل ، والجماعة المقدسة التى أختارها الله ، وأئتمنهم على الكرازة الرسولية صاروا بصلاح الله الآب أسرى يسوع المسيح ، لأن بولس الرسول يقول " بولس أسير يسوع المسيح المدعو ليكون رسولا " ( أف 3 : 1 ، رو 1 : 1 ) . لأن الناموس المكتوب يعمل معنا فى عبودية صالحة إلى أن نصبح قادرين أن نسود على كل ألم ، ونصير كاملين فى الخدمة الصالحة التى للفضيلة بواسطة هذه الدعوة الرسولية .
لأنه إذا اقترب الأنسان إلى النعمة ، عند ذلك يقول له يسوع " لست بعد أدعوكم عبيدا بل أدعوكم أحبائى وإخوتى لأن كل ما سمعته من أبى أعلمتكم به " ( يو 15 : 15 ) .
لأن الذين اقتربوا من النعمة ، وتعلموا بواسطة الروح القدس ، عرفوا نفوسهم بحسب جوهرهم العقلى ، وفى معرفتهم لنفوسهم صرخوا قائلين " لأننا لم نقبل روح العبودية أيضا للخوف بل روح التبنى الذى به نصرخ يا آبا الآب " ( رو 8 : 15 ) . لكى نعلم بما أنعم به الله علينا " إن كنا بنين فنحن ورثة الله وشركاء ميراث مع القديسين " ( رو 8 : 17 ) .
فيا أخوتى الأحباء ، وشركاء الميراث مع القديسين ، ليست الفضائل بأجمعها غريبة عنكم ، بل هى لكم ، إذ لم تكونوا تحت الأثم من هذه الحياة الجسدية ، بل ظاهرين أمام الله ، لأن الروح لا يدخل ( يسكن ) نفس إنسان قلبه نجس ، أو فى جسد يخطىء . فلكونه قوة مقدسة ( قدوس ) ، فهو بعيد عن كل غش .
وأنا بالحقيقة – يا أحبائى – أكتب إليكم كأناس عاقلين ، استطعتم أن تعرفوا نفوسكم ، لأن الذى يعرف نفسه يعرف الله ، والذى يعرف الله ، جدير به أن يسجد له كما يجب .
يا أحبائى بالرب – اعرفوا نفوسكم ، لأن الذين يعرفون نفوسهم ، يعرفون زمانهم ، والذين يعرفون زمانهم يستطيعون أن يثبتوا ، ولا يضطربوا بألسنة متنوعة .
لأن آريوس الذى قام بالأسكندرية وذكر كلاما غريبا عن الوحيد الجنس ، الذى جعل إبتداءا للذى ليس له ابتداء ، ونهاية للذى هو فائق الوصف بين الناس ، وحركة للذى هو بغير حركة .
فإذا أخطأ إنسان لأنسان يطلبون من أجله إلى الله ، ولكن إن أخطأ إنسان لله فلمن يتوجهون بالطلبة من أجله ؟ ( 1 صم 2 : 25 ) . فهذا الأنسان ( أريوس ) قد جلب على نفسه قضية عظيمة ، وجرحا عديم الشفاء . فلو كان ذاك عرف نفسه ( حقا ) ، لما كان لسانه قد نطق بما ليست له به معرفة ، بل ظاهر أنه لم يعرف نفسه .
الرسالة الخامســــــة :
أنطونيوس يكتب لأولاده الأعزاء ، الأسرائيلين الأطهار فى جوهرهم العقلى ، ليست هناك حاجة لأن أدعوكم بأسمائكم الجسدانية التى تزول ، لأنكم أبناء الأسرائيليين ( حقا ) .
بالحقيقة يا أولادى ، إن محبتى لكم ليست محبة جسدانية ، بل محبة روحية إلهية . ومن أجل هذا لست أمل من الطلبة إلى إلهى الليل والنهار لأجلكم لكى تستطيعوا أن تعرفوا النعمة التى صارت لكم ، لأنه ليس فى وقت واحد افتقد الله خلائقه ( خليقته ) لكنه منذ بداية العالم يصنع تدبيرا لخلائقه ، وفى كل جيل ينبه كل واحد بالأوقات ( بالظروف ) المناسبة وبالنعمة .
فالآن يا أولادى ، لا تغفلوا عن أن تصرخوا النهار والليل إلى الله ، لتستعطفوا صلاح الآب ، حتى ينعم لكم بمعونة من السماء ، ويعلمكم حتى تعرفوا ما هو الصالح لكم .
بالحقيقة يا أولادى ، نحن قاطنون فى موتنا ، ومقيمون فى بيت اللص ، ومربوطون برباطات الموت ، فلا تعطوا من الآن " نوما لعيونكم ولا نعاسا لأجفانكم " ( مز 132 : 4 ) حتى تقدموا ذواتكم ذبائح لله بكل قداسة ، تلك التى لا يرثها أحد بغير تقديس .
بالحقيقة يا أحبائى فى الرب ، لتصر هذه الكلمة ظاهرة لكم ، أن تصنعوا الخير ، وهكذا تفرحوا سائر القديسين ، وتعطوا سرورا لخدمة الملائكة ، وفرحا لمجىء يسوع ، لأنهم لم ينالوا بعد النياح حتى هذه الساعة لأجلنا ، ولى أنا أيضا ، الشقى المسكين ، الساكن فى هذا البيت الترابى تعطون سرورا لروحى .
وبالحقيقة يا أولادى ، إننا إذا مرضنا وانحط حالنا ، فإن ذلك يكون حزنا لجميع القديسين ، فيبكون وينوحون لأجلنا أمام خالق الكل . ومن أجل هذا يغضب إله الكل على أعمالنا الشريرة ، بسبب تنهدات القديسين ، ثم أيضا تقدمنا فى البر يعطى سرورا لشعب القديسين فيداومون بكثرة الطلبات بابتهاج ومسرة أمام خالقنا ، وخالق الكل نفسه يفرح بأعمالنا بشهادة قديسيه فيفيض علينا مواهب نعمته بلا كيل .
فلكى تعلموا أن الله دائما يحب خلائقه – إذ أن جوهرهم غير مائت ولا ينحل مع أجسادهم – رأى أن الطبيعة الناطقة قد انحدرت جميعها إلى القاع ( الحضيض ) وماتوا جميعا وجف ناموس العهد المغروس ( الثابت ) فيهم . وبصلاحه افتقد البشرية بواسطة موسى ، وموسى أسس بيت الحق وأراد أن يشفى الجرح العظيم ، وأحب أن يردهم إلى الوحدة الأولى ، ولكنه لم يقدر أن يفعل ذلك ، وانطلق من بينهم ، ثم أن خورس ( جماعة ) الأنبياء بنوا على أساس موسى ، ولم يستطيعوا أن يشفوا الجرح العظيم من أعضائهم ، ولما رأوا أن قوتهم فشلت ، اجتمع كل جماعة القديسين معا فى واحد ، وقدموا الطلبة أمام خالقهم قائلين : " أليس بلسان فى جلعاد ؟ أم ليس هناك طبيب ؟ فلماذا لم يأت شفاء إبنة شعبى ؟ داوينا بابل ولم تشفى . دعوها ولنذهب عنها " ( أر 8 : 22 ، 51 : 9 ) .
فى نهاية الرسالة الخامسة :
يقول القديس أنطونيوس :
" ....... بالحقيقة يا أولادى ، أنا أتكلم إليكم كما لأناس حكماء ، لكى تفهموا ما أقوله لكم ، وهذا أنا أشهد به لكم : أنه إن لم يبغض كل واحد منكم كل ما يختص بالطبيعة الأرضية ، ويرفضها وكل أعمالها بكل قلبه ، ويبسط يدى قلبه إلى السماء نحو آب الكل ، فلن يستطيع أن يخلص . فإذا عمل هكذا كما قلت فإن الله يترآف عليه لأجل تعبه ، وينعم له بالنار غير المرئية لتحرق كل نجاسة منه فيتطهر جوهرنا الروحى . وعند ذلك يسكن الروح القدس فينا ، ويسوع يمكث معنا ، ونستطيع أن نسجد لله كما يجب ، ولكن طالما بقينا مصطلحين مع طبائع العالم ، فسنظل أعداء لله وملائكته وجميع قديسيه .
والآن أطلب إليكم باسم ربنا يسوع المسيح أن لا تهملوا خلاصكم ، ولا تدعوا هذه الحياة الوقتية تحرمكم من الحياة الأبدية ، ولا هذا الجسد اللحمى الفاسد يبعدكم من مملكة النور غير المنطوق به ، ولا هذا الكرسى الأثيم يفقدكم عروش القضاء الملائكية .
بالحقيقة يا أولادى ، إن قلبى مبهوت ونفسى فزعة ، كوننا جميعا نتلذذ ( بالأوجاع ) مثل قوم يسكرون من خمر جديدة ، لأننا كل واحد منا قد باع نفسه بحرية إرادته ، وتسلط علينا من حرية اختيارنا ( بحريتنا ) ، ولم نرد أن نرفع أعيننا إلى السماء لنطلب مجد السماء وعمل القديسين ونسير على آثار خطواتهم .
ولهذا إفهموا الآن ، أن السموات المقدسة أو الملائكة أو العروش أو الأرباب أو الشاروبم أو السارافيم أو الشمس أو القمر أو النجوم ، أو رؤساء الأباء أو الأنبياء أو الرسل أو ابليس أو الشيطان أو الأرواح الخبيثة أو أراكنة الهواء أو أى رجل أو أمراة ، ( هؤلاء جميعهم ) فى بدء خلقتهم هم من مبدأ واحد – الكل ، ما عدا الثالوث المقدس الكامل الآب والأبن والروح القدس ، ولسبب سلوك البعض الشرير ، كان يلزم أن يطلق عليهم أسماء كحسب أعمالهم . والذين نموا بزيادة مجدهم بزيادة " .

+ + +

الرسالة السادسة
( لأولاده الرهبان المقيمين بالفيوم يعرفهم فيها قتالات الشياطين ومعونات القوات المقدسة ويحثهم على الصبر وتكميل ما خرجوا إليه بسلام الرب آمين ) .
أنطونيوس إلى جميع الأخوة الأحباء بأرسينوى وأعمالها ، وإلى كل الذين معكم السلام
أنتم جميعا الذين أعددتم نفوسكم للتقدم إلى الله ، أحييكم فى الرب أيها الأحباء من الصغير إلى الكبير ، الرجال والنساء ، الأبناء الأسرائيليين الأطهار فى جوهركم العقلى .
بالحقيقة يا أولادى ، عظيمة هى البركة التى أتتكم ، لأنها نعمة عظيمة تلك التى حلت عليكم فى جيلكم هذا ، ويليق بكم من أجل الرب الذى افتقدكم أن لا تكلوا فى جهادكم حتى تقدموا ذواتكم ذبيحة لله بكل قداسة ، التى بدونها لا ينال أحد الميراث .
وبالحقيقة يا أحائى ، أنه لشىء عظيم لكم أن ينبغى أن تسألوا عن فهم الجوهر العقلى ، الذى ليس فيه لا ذكر ولا أنثى بل هو جوهر غير مائت له بدء وليس له نهاية ، ينبغى أن تعلموا أنه سقط كله معا إلى الفضيحة والذلة العظيمة التى أتت علينا جميعا ، لكنه جوهر غير مائت لا ينحل مع الجسد ، ولهذا السبب رأى الله أن جرحها عديم الشفاء ، ولأن الأمر كان هكذا خطيرا ، افتقد البشرية برحمته ، وبصلاحه بعد مرور أزمنة أعطاهم ناموسا ، وأعانهم بواسطة موسى معطى الناموس .
وموسى أسس له بيت الحق ، وأراد أن يشفى ذلك الجرح العظيم ، ولم يقدر أن يكمل بناء البيت
ثم أن خورس ( جماعة ) القديسين اجتمعوا معا وطلبوا من تحنن الآب من أجل مخلصنا لكى يأتى إلينا لأجل خلاصنا جميعا لأنه هو رئيس أحبارنا العظيم . وهكذا بمسرة الآب أخلى نفسه من مجده فهو الإله وأخذ شكل العبد ( فى 2 : 7 ، 8 ) ، وأسلم ذاته لأجل خطايانا ، وخطايانا واضعته ، وبجرحه شفينا جميعا . ( أش 53 : 5 ) .
لهذا يا أولادى الأحباء فى الرب ، أريدكم أنتعلموا أنه لسبب جهلنا أخذ شكل الجهل ، ولسبب ضعفنا أخذ شكل الضعف ، ولسبب فقرنا أخذ شكل الفقر ( المسكنة ) ، ولسبب موتنا لبس شكل مائت ، وهذه كلها صبر عليها من أجلنا .
" ....... بالحقيقة يا أحبائى بالرب ، أتكلم إليكم كما لأناس حكماء ، كيما تعرفوا كل تدابير خالقنا التى صنعها لأجلنا ، والتى أعطانا إياها بالكرازة الظاهرة والخفية ، لأننا ندعى ناطقين ، ولكننا لبسنا عقل الكائنات غير الناطقة . أم لستم تعلمون ما هى كثرة حيل وصنائع الشيطان وماذا تشبه ؟ لأن الأرواح الشريرة تحسدنا منذ أن علموا أننا نحاول أن نرى خزينا ، وبدأنا نطلب طريقا للهروب من أعمالهم التى يعملونها معنا . وليس فقط أننا نحاول أن نرفض مشوراتهم الشريرة التى يزرعونها بيننا ، بل إن كثيرين منا يهزءون بصنايعهم وهم يعلمون تسامح خالقنا ، وأنه فى هذا العالم قد أدانهم للموت وأعد لهم أن يرثوا جهنم لسبب غفلتهم . وأريدكم أن تعلموا يا أحبائى ، أننى لا أمل من الطلبة إلى الله عنكم بالليل والنهار ، لكى يفتح أعين قلوبكم ، لتنظروا كثرة شرور الأرواح الشريرة التى يجلبونها علينا كل يوم فى زماننا هذا ، وأود أن يعطيكم الله قلب معرفة وروح افراز ، لكى تستطيعوا أن تقدموا قلوبكم ذبيحة نقية أمام الآب فى قداسة عظيمة وبلا دنس ( بلا عيب ) .
" .......... وبالحق يا أولادى ، أقول لكم إن كل إنسان يسر بإرادته ، ويغلب من أفكاره ، وينشغل بالأمور التى تزرع فى قلبه ويفرح بها ، ويظن فى نفسه أنها أسرار عظيمة مختارة ، ويزكى ذاته فيما يصنعه ، فإن نفس ذلك الأنسان تكون مسكنا للأرواح الشريرة التى تشير عليه بالشر ، وجسده يكون مكمنا للأسرار الشريرة التى تختفى فيه . وعلى مثل هذا الأنسان تتسلط الأبالسة بقوة عظيمة ، لأنه لم يرذلهم أمام جميع الناس .
أما تهلمون أنه ليس لهم طريقة واحدة فى الحرب حتى نعرفها ونهرب منها ؟ فانظروا إنكم لن تجدوا إثمهم وخطاياهم ظاهرا جسديا ، لأنهم لا يرون جسديا . ولكن ينبغى أن تعلموا هذا أننا نحن نقدم أجسادنا لخدمتهم ، إذ أن نفوسنا تتقبل شرورهم ، وحين تقبلها تجعلها ظاهرة فى الجسد الذى نسكنه .
فى نهاية الرسالة السادسة :
يقول القديس أنطونيوس :
" ..... وأنا اتحدث إليكم يا أولادى كم لأناس حكماء . وبالحقيقة أنا خائف لئلا يدرككم الجوع فى الطريق فى المكان الذى يلزمنا فيه أن نصير أغنياء، لى اشتهاء ( رجاء ) أن أراكم وجها لوجه بالجسد ، ولكنى أتطلع إلى قدام لذلك الوقت الذى هو قريب حين نكون قادرين أن نرى نفوس بعضنا البعض وجها لوجه ، حيث يهرب الحزن والتنهد ويحل الفرح على رؤوس الجميع ( أش 35 : 10 ) . إن لى أمورا أخرى كثيرة كنت أريد أن أخبركم بها ، ولكن " اعط الحكيم فرصة فيزداد حكمة " ( أم 9 : 9 ) .
أهديكم السلام جميعا يا أولادى الأحباء بأسمائكم .
لرسالة السابعــــــة :
يا أولادى تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلنا افتقر وهو غنى لكى نستغنى نحن بفقره ( 2 كو 8 : 9 ) . أنظروا أن عبوديته جعلتنا أحرارا ، وضعفه قوانا ، وجهالته جعلتنا حكماء ، وأيضا موته يحقق قيامتنا . لكيما يكون بمقدورنا أن نرفع أصواتنا عاليا ونقول " إن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد ولكن الآن لا نعرفه كذلك بعد . بل فى المسيح كل واحد هو خليقة جديدة " . ( 2 كو 5 : 16 ، 17 ) .
بالحقيقة يا أحبائى ، أقول لكم بخصوص إيضاح كلمة الحرية التى بها قد تحررنا ، ما زال لى أمورا كثيرة لأقولها لكم ، ولكن لا يوجد وقت الآن لأعلمكم بها . الآن أنا أهديكم السلام جميعا يا أولادى الأحباء بالرب ، يا بنى اسرائيل الأطهار فى جوهركم العقلى ، حقا هذا يليق بكم ، يا من اقتربتم من خالقكم أن تجدوا خلاص نفوسكم بناموس العهد الثابت ( فيكم ) .
لأنه لسبب تعاظم الشر وتفاقم الأثم وجموح الأوجاع ، جف ناموس العهد المغروس وماتت حواس نفوسنا ، ولهذا لم نستطع أن نعرف عظمة الجوهر العقلى لسبب الموت الذى سقطنا فيه ، ولهذا فإنه مكتوب فى الأسفار الإلهية " كما فى آدم يموت الجميع خكذا فى المسيح سيحيا الجميع " ( 1كو 15 : 22 ) .
فالآن ، إذن هو حياة كل طبيعة ناطقة خلقت بواسطته كشبه صورته ، الذى هو نفسه العقل الحقيقى للآب ، وصورة الآب غير المتغيرة .
أما الخلائق المصنوعة على صورته فهى من جوهر قابل للتغيير ، لأن الشر دخل فينا وبه متنا جميعا ، إذ أنه غريب عن طبيعة جوهرنا العقلى ، لهذا بواسطة كل ما هو غريب عن الطبيعة جعلنا نفوسنا بيتا مظلما مملوء حربا .
وبهذا أنا أشهد لكم أننا فقدنا كل معرفة بالفضيلة ، ولهذا رأى الله ضعفنا أننا صرنا غير قادرين أن نكسو أنفسنا إستقامة الحق ، لهذا فهو فى صلاحه أتى ليفتقد خلائقه بخدمة قديسيه .
أطلب إليكم جميعا بالرب أيها الأحباء ، أن تفهموا ما أكتبه لكم لأن المحبة التى لى من نحوكم ليست محبة جسدية ، بل روحية إلهية ، لهذا أعدوا نفوسكم لتتقدموا إلى الرب ، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم ( يؤ 2 : 13 ) ، وأسألوا نفوسكم " بماذا نكافىء الرب عن كل ما صنعه معنا " ( مز 116 : 11 ) ، الذى حتى فى مسكننا هذا وفى مذلتنا ذكرنا بعظم صلاحه ومحبته غير المحدودة ، ولم يعاملنا بحسب خطايانا ( مز 103 : 10 ) ، بل جعل الشمس تخدمنا فى بيتنا المظلم هذا ، ورتب القمر والنجوم أيضا لخدمتنا مخضعا إياها ( جميعها ) للبطل الذى سوف يزول ( رو 8 : 20 ) ، وذلك من أجل قيام أجسادنا ، وقوات أخرى أيضا ، قوات خفية جعلها خداما لنا ، قوات لا نراها بعين الجسد .
فالآن بماذا نجيبه فى يوم الدينونة ؟ لأنه أى خير أعوزنا من عنده ولم يصنعه لنا ؟ ألم يتعب رؤساء الآباء من أجلنا أو الكهنة لم يعلمونا ؟ أو القضاة والملوك لم يحاربوا عنا ؟ ألم يمت الأنبياء من أجلنا ( بسببنا ) ، أو الرسل ألم يضطهدوننا لأجلنا ؟ بل ألم يمت أبنه الحبيب عنا جميعا ؟ .
والآن ، يجب علينا أن نعد نفوسنا أن تتقدم إلى خالقنا بطهارة ، لأن الخالق رأى أن خلائقه حتى القديسين لم يكونوا قادرين أن يشفوا الجرح العظيم الذى فى أعضائهم ( أى فى الناس ) ، ولهذا إذ هو أب الخلائق ، علم ضعف قلوبهم ، وأظهر رحمته نحوهم حسب محبته العظيمة ، ولم يشفق على أبنه الوحيد لأجل خلاصنا كلنا ، بل أسلمه لأجل خطايانا ( رو 8 : 32 ) ، وخطايانا واضعته وبجلداته شفينا جميعا ( أش 53 : 5 ) ، وجمعنا من كل الأقطار بكلمة قدرته ، إلى أن يقيم قلوبنا من الأرض ، ويعلمنا أننا أعضاء بعضنا البعض ( أف 4 : 25 ) .
فى نهاية الرسالة السابعة :
يقول القديس أنطونيوس :
والآن اعلموا إذن أن القديسين والأبرار لابسى الروح ، يطلبون لأجلنا دائما لكيما نتضع أمام الله ، ونلبس ثانية الثوب الذى كنا قد خلعناه عنا فى جوهرنا العقلى ، لأن الصوت القادم من عند الله الآب على الدوام للذين لبسوا الروح يقول لهم " عزوا عزوا شعبى يقول الرب أيها الكهنة ، تكلموا لقلب أورشليم " ( أش 40 : 1 ، 2 ) ، لأن الرب دائما يفتقد خليقته وينعم عليهم بصلاحه .
بالحقيقة يا أحبائى ، لأيضاح كلمة الحرية التى بها قد صرنا أحرارا ، هناك أمور أخرى كثيرة لأعلمكم بها ولكنه يقول " إعط الحكيم فرصة فيزداد حكمة " ( أم 9 : 9 ) ، فليمنحكم إله السلام نعمة وروح إفراز ، لتفهموا أن ما أكتبه لكم هو وصية الرب ، فليحفظكم إله كل نعمة أطهارا فى الرب إلى النفس الأخير ، وأنا اتضرع إلى الله دائما يا أحبائى بالرب لأجل خلاصكم جميعا . نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم آمين .
  رد مع اقتباس
قديم 27 - 08 - 2012, 01:49 PM   رقم المشاركة : ( 6 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

دير الأنبا انطونيوس :

فى حوار لقداسة البابا شنودة الثالث مع جريدة الأهرام بتاريخ 7 / 9 / 2003 ذكر قداسته :
دير القديس الأنبا انطونيوس هو أقدم دير فى العالم كله دون مبالغة ، لأن القديس الأنبا انطونيوس هو أول راهب فى العالم ويسمونه أب جميع الرهبان وأحيانا يسمونه أب الرهبنة ، لأنه أول راهب خرج من العالم وعاش فى طقس الرهبنة وجميع الذين أسسوا جماعات رهبانية أو أديرة رهبانية كانت القيادة الأولى من الأنبا انطونيوس ، حياته أو سيرته التى نشرها القديس أثناسيوس فى بداية العقد الرابع الميلادى كتابه " فيتا أنطونى " ، كان سبب انتشار الرهبنة فى روما ، ورحلة جوهان كسيان إلى أديرة مصر كانت سبب نشر الرهبنة فى بلاد فرنسا ، والذى نشر الرهبنة فى العراق وسوريا من تلاميذ الأنبا انطونيوس ، وكان الأنبا مقار الكبير الذى نشر الرهبنة فى وادى النطرون بمصر من تلاميذ الأنبا انطونيوس ، وكذلك الأنبا بيتنودا الذى نشر الرهبنة فى الفيوم . فالأنبا انطونيوس هو الراهب الأول ومؤسس الرهبنة فى العالم وديره من المزارات السياحية المسيحية ذات الشهرة على مستوى العالم ، ويتميز بوجود نبع ماء ينبع من صخر بالجبل وليست مياها باطنية .


موجز رسائل القديس أثناسيوس
عن حياة القديس أنطونيوس
أثناسيوس الأسقف إلى الأخوة فى الأرجاء الأجنبية
لقد دخلتم فى منافسة نبيلة مع رهبان مصر بعزمكم إما على مساوتهم أو التفوق عليهم فى التدريب فى طريق الفضيلة . إذ توجد الآن لديكم أديرة ، واصبح أسم الراهب يلقى احتراما عاما ، لذلك فمن البديهى أن جميع الناس سوف يحبذون هذا العزم الذى سيحققه الله استجابة لصلواتكم .
ونظرا لأنكم قد طلبتم منى أن أقدم وصفا عن طريقة حياة انطونيوس المباركة ، ولأنكم تريدون أن تعرفوا كيف بدأ نسكه ، وأى إنسان كان هو قبل هذا ؛ كيف ختم حياته ، وعما إذا كانت الأخبار التى تروى عنه صحيحة ، لكى تقتدوا أنتم أيضا به ، فاننى بكل استعداد قد قبلت تحقيق رغبتكم ، لأننى اعتبر أن مجرد ذكريات انطونيوس عون كبير لى أنا أيضا وأنا أعرف أنكم عندما تسمعون فإنكم – فضلا عن الأعجاب بالرجل – سترغبون فى الأقتداء بعزمه إذ ترون فى حياته أنموذجا كافيا للنسك لذلك فلا ترفضوا تصديق ما سمعتموه من أولئك الذين نقلوا إليكم الأخبار عنه ، بل اعتقدوا بالحرى أنهم إنما لم ينبؤكم إلا بأمور ضئيلة . لأنهم على أى حال يندر أن يكونوا قد أعطوكم تفصيلا عن موضوع جوهرى كهذا ، ولأننى كطلبكم استعدت من ذاكرتى قليلا من الظروف عنه ، وسأرسل إليكم كل ما أستطيع تذكره فى رسالة ، فلا تتوانوا عن سؤال من يبحرون من هنا ، لأنه إذا ما روى الجميع ما عندهم من أنباء فقد يتعذر أن يكون الوصف مطابقا للحقيقة ، ومن أجل هذا فاننى لدى استلام خطابكم كنت أرغب فى استدعاء رهبان معينين سيما الذين رافقوه كثيرا حتى إذا علمت منهم أية تفاصيل جديدة بعثت بها إليكم ، ولكن نظرا لأن موسم الأبحار قرب على الأنتهاء ، ونظرا لإستعجال حامل خطابكم لذلك أسرعت فى الكتابة إليكم عما أعرفه أنا شخصيا إذ رأيت انطونيوس مرارا وعما استطعت أن اتعلمه منه لأننى لازمته طويلا . وسكبت ماء على يديه ، وفى كل هذا كنت أذكر هذه الحقيقة أنه يجب أن لا يرتاب المرء إذا ما سمع كثيرا ، ومن الناحية الأخرى يجب أن لا يحتقر الرجل إذا ما سمع عنه قليلا .
( 1 )
أود أن تعلموا أن انطونيوس كان مصريا بمولده ، وكان والده من أسرة طيبة ، وكانا يمتلكان ثروة لا بأس بها ، ولأنهما كانا مسيحيين فقد تربى هو أيضا فى نفس الأيمان ، وفى الطفولة مع والديه لا يعرف شيئا آخر سواهما ، ولكنه بعد أن كبر وصار صبيا وتقدم فى السنين لم يطق أن يتعلم الحروف ولم يبال بأن يزامل الأولاد الآخرين بل كانت كل رغبته أن يعيش إنسانا بسيطا فى بيته كما كتب عن يعقوب ( إسرائيل ) وقد تعود حضور بيت الرب مع والديه ، ولم يكن طفلا بليدا ولا احتقرهما لما كبر ، بل كان مطيعا لأبيه وأمه ، مصغيا لكل ما كان يقرأ ، حافظا فى قلبه ما كان نافعا مما سمع ، ومع أنه كطفل نشأ فى حالة متوسطة فأنه لم يتعب والديه بطلب الأشياء الفاخرة ولا كانت هذه مصدر سعادة له ، بل قنع بما وجده ولم يطلب المزيد .
( 2 )
وبعد موت أبيه وأمه ترك وحيدا مع أخت واحدة صغيرة وكان عمره 18 أو 20 عاما ، فألقيت إليه مسئولية العناية بالبيت وبالأخت ولم يمض وقت طويل على وفاة والديه ( ستة أشهر ) حتى ذهب ذات يوم كمادته إلى بيت الرب ، وفى ذلك اليوم ناجى نفسه وتأمل وهو سائر كيف أن الرسل تركوا كل شىء وتبعوا المخلص ( مت 4 : 20 ) ، وكيف ذكر عنهم فى أعمال الرسل أنهم باعوا ممتلكاتهم وأتوا بأثمانها ووضعوها عند أرجل الرسل ، لتوزيعها على المحتاجين ( أع 4 : 34 ، 35 ) ، وكيف وضع لهم رجاءا عظيما فى السماء . وإذا كان يتأمل فى هذه الأمور دخل الكنيسة أثناء قراءة الأنجيل فسمع الرب يقول للغنى " إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء وتعال اتبعنى فيكون لك كنز فى السماء " ( مت 19 : 21 ) ، أما انطونيوس فكأن الفقرة قرأت له خصيصا ، وللحال خرج من الكنيسة وأعطى القرويين ممتلكات آبائه ، وكانت ثلاثمائة فدان من أجود الأراضى ، لكى لا تكون عثرة فى سبيله هو وأخته ، وباقى المنقولات باعها ، وإذ توفرت لديه أموالا كثيرة أعطاها للفقراء ، محتفظا بالباقى لأخته
( 3 )
دخل الكنيسة ثانية وسمع الرب يقول فى الأنجيل " لا تهتموا للغد " ( مت 6 : 34 ) ، فلم يستطع البقاء أكثر من ذلك ، بل خرج وأعطى تلك الأشياء أيضا للفقراء ، وإذ أودع أخته لبعض العذارى المعروفات الأمينات ، ووضعها فى دير ( ولعل المقصود بيت تسكنه العذارى ) لتنشأ فيه ، تفرغ للنسك خارج بيته محترسا لنفسه ومدربا ذاته بالعبر إذ لم تكن هنالك إلى ذلك الوقت أديرة كثيرة فى مصر ، ( والأرجح أن كلمة أديرة تعنى صوامع الرهبان ) – ولم يعرف أى راهب على الأطلاق أى شىء عن البرارى البعيدة ، بل كان على من أراد أن يحترس لنفسه أن يتدرب على النسك فى عزلة بجوار قريته .
ويسرد القديس أثناسيوس فى رسالته هذه قصة إقامة الأنبا أنطونيوس بجوار متوحد مسن عاش عيشة النسك منذ شبابه .
(4 )
( مراقبة الآخرين فى فضائلهم )
وإذ سلك انطونيوس هكذا أصبح محبوبا من الجميع ، وكان يخضع بإخلاص لكل من زارهم من الرجال الصالحين ، وعرف تماما أين كان يفوقه كل منهم فى الغيرة والنسك ، ....
لاحظ لطف هذا وصلاة ذاك بلا انقطاع ، وعرف تحرر هذا من الغضب ورقة ذاك ..
لاحظ هذا وهو يسهر وذاك وهو يدرس ، أعجب بهذا من أجل صبره وقوة احتماله وبذاك من أجل صومه ونومه على الأرض .
راقب باهتمام وداعة هذا وطول أناة ذاك . كما لاحظ تقوى الجميع نحو المسيح ومحبتهم المتبادلة ، وهكذا إذ امتلأ عاد إلى مكان نسكه ، ومن ثم جاهد لأبراز فضائل الجميع فى حياته ، لم يحاول منافسة نظرائه فى السن ، سوى فى هذا الأمر الواحد وهو أنه لم يشأ أن يكون أقل منهم فى الأمور الأسمى ، وهذا فعله بحيث لا يجرح شعور أى واحد ، بل جعلهم يسرون له وهكذا عندما رآه بهذه الحال كل أهل تلك القرية والأشخاص الصالحون الذين تودد إليهم صاروا يدعونه حبيب الله ، ورحب به البعض كإبن ، وغيرهم كأخ .
من ( 5 ) – ( 7 )
يسرد القديس أثناسيوس الحروب التى تعرض لها الأنبا انطونيوس من أجناد الشر الروحية ، فمرات عن طريق تذكيره بالغنى المادى وملذات وشهوات الحياة ، ومرات بظهورهم أمامه بأشكال مخيفة ، أو ببث روح اليأس فى قلبه حتى لا يكمل طريقه ، ولكنه فى جميع هذه الحروب كان يصارع الشياطين بالصلاة ورشم علامة الصليب ، وبالأتضاع كان يقهرهم ، يقول عنه القديس أثناسيوس :
....... وهو على الأقل لم يبال بالماضى بل كان يوما فيوما – كأنه فى بداية نسكه – يبذل مجهودا أشق نحو النمو ، مكررا لنفسه على الدوام قول بولس " أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام " وكان يذكر أيضا الكلمات التى قالها إيليا النبى : " حى هو الرب الذى أنا واقف أمامه اليوم " .. لأنه لاحظ أن النبى بقوله " اليوم " لم يخص الزمن الذى مضى بل سعى باهتمام كل يوم ، وكأنه على الدوام مبتدىء . لكى يجعل نفسه جديرا بالظهور أمام الله ، نقى القلب مستعد دائما للخضوع لمشورته ولـه وحده ، وقد تعود أن يقوللنفسه أن الناسك ينبغى أن يرى حياته فى حياة إيليا العظيم كما فى مرآة .
( 8 )
فى هذه الرسالة يوضح القديس أثناسيوس ارتحال الأنبا أنطونيوس إلى المقابر بعيدا عن الناس ، وعاش فى مغارة ولكن الشياطين لم تطق هذا التقدم الروحى واستمرت فى شن الحروب الروحية ضده .


+ + +




المـــراجــــع :

+ كوكب البرية ... ........... ( القمص كيرلس الأنطونى )

+ رسائل القديس أنطونيوس ...( اصدار دير القديس أنبا مقار )

+ حياة القديس انطونيوس ....... ( رسائل القديس أثناسيوس )

+ قصــــة الكنيسة القبطية ......... ( ايريس حبيب المصرى )
+ الأنبا أنطونـيـــوس ، حتمية روحيــة وكنسية .......
................ ( د . راغب عبد النور )
+ الرهبنـــــــــة ............................ ( للقس يوسف أسعد )
+ تاريخ الرهبنة الديرية فى مصر .. ، وآثارهما الأنسانية على العالم ، ...
( د . رءوف حبيب : مدير المتحف القبطى سابقا )
+ شخصية القديس أثناسيوس الرسولى والجو الكنسى ،

......... ........ .......... .... ( القمص تادرس يعقوب ملطى ) .

+ عصر البابا أثناسيوس الرسولى .... ، ( اعداد أمير نصر )
  رد مع اقتباس
قديم 01 - 10 - 2012, 07:45 AM   رقم المشاركة : ( 7 )
نونا بنت البابا Female
..::| VIP |::..

الصورة الرمزية نونا بنت البابا

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 58
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 36
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 8,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

نونا بنت البابا غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

ميرسى على الموضوع الجميل
ربنا يباركك
  رد مع اقتباس
قديم 01 - 10 - 2012, 08:55 AM   رقم المشاركة : ( 8 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,207

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

شكرا على المشاركة الجميلة
ربنا يباركك
  رد مع اقتباس
قديم 01 - 10 - 2012, 08:10 PM   رقم المشاركة : ( 9 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نونا بنت البابا مشاهدة المشاركة
ميرسى على الموضوع الجميل
ربنا يباركك
كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس
  رد مع اقتباس
قديم 01 - 10 - 2012, 08:10 PM   رقم المشاركة : ( 10 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Mary Naeem مشاهدة المشاركة
شكرا على المشاركة الجميلة
ربنا يباركك
كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس
  رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
اسخن كوكب في الفضاء ليس اقرب كوكب من الشمس
الأنبــا أنطونيوس العظيم!!!
الأنبــا أنطونيوس العظيم!!!
سيرة الـقـديـــس الأنبــا رويـــس
لأنانيــــــــــــــة _ لنيافــة الأنبــا بــولا


الساعة الآن 12:31 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024