منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 02 - 07 - 2014, 02:43 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
لقاء وإهداء

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
*إلى أبي الحبيب القمص بيشوي كامل..
الذي غيَّر نظرتنا للصليب من مجرد ظلمٍ وقهرٍ إلى حب وفخار..
الذي فجَّر لنا طاقات الحب اللانهائية من جنب المصلوب..
الذي جثا تحت أقدام الصليب فارتوى، ثم روى نفوسنا العطشى..
*منذ ثمانية وثلاثين عامًا أقبلتُ إلى الإسكندرية، وبشغف زائد ركضت إلى كنيسة مارجرجس باسبورتنج، وفي أول لقاء مع أبونا بيشوي (الذي طالما سمعتُ عنه) سلَّمت عليه وشدَّدت على يده، ولوقته أدرك أنني أُريدُ أن أقول له شيئًا، فشدَّ على يدي..
التقيت معه، وأعطاني الله حسب اشتياقات قلبي، إذ صار (أبونا بيشوي) أب اعترافي، وقد أوصاني بتدريبين، نجحتُ في أحدهما وفشلتُ في الآخر.. راق لي التدريب الأول كثيرًا وهو كتابة تأملاتي اليومية حول آية من آيات الكتاب المقدَّس، وفشلتُ في التدريب الثاني وهو التأمل لمدة عشرة دقائق يوميًا في صورة يسوع المصلوب..
هل كان قلبي أغلظًا إلى هذه الدرجة؟!..
وهل مازال هكذا؟!..
همست لأب اعترافي بإحساسي، فلم يثقل عليَّ..
*واليوم، وبعد مرور عشرات السنين اسمح لي يا أبي أن أُهديك روايتي هذه، فهي من نبع فيضك.. مُلتمسًا منك أن تمسحها بيدك المباركة التي بها شدَّدتُ على يدي من قبل، لكيما يلتقي إلهك المصلوب عنا بالقارئ عبر السطور والمشاعر والأحاسيس، وليفجر في قلوبنا طاقات الحب التي أودعها إيانا..
وإلى اللقاء يا أبي..
صلِ من أجل ضعفاتي وزلاتي وخطاياي الكثيرة.
رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 02:44 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

تقديم القس مقار فوزي

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
تقديم لقدس أبي الحبيب القس مقار فوزي:
*أبونا المتنيح القمص بيشوي كامل كاهن كنيسة مارجرجس باسبورتنج هو مدرسة للصليب. وقد حاول جاهدًا إدخال كل أولاده لهذه المدرسة، وبالفعل هو الذي علَّمنا التأمل في الصليب، وجراحات المصلوب.. وقد عاصر الكاتب أبونا بيشوي وتتلمذ على يديه، ولذلك فإنني أعتقد أن هذا الكتاب هو نتاج وثمرة لتلك التلمذة..
*يجمع هذا الكتاب بين القصة وأحداث الصليب، والتأملات والمعاني الروحية، مما يحمل القارئ إلى عمق الأحداث، ويتيح له الفرصة كاملة للتفاعل مع هذه الأحداث الخطيرة التي تمس حياتنا الروحيَّة ساعة بساعة، ولذلك أدعوك أيها القارئ الحبيب أن تقرأ هذا الكتاب.. أرجو أن تقرأه بروح التأمل، والخشوع، والجلوس تحت أقدام الصليب..
*ويمكنك أيضًا أيها القارئ الحبيب بعد أن تفرغ من قراءة هذا الكتاب بالكامل، أن ترجع إليه في أوقات أخرى لتقرأ منه فصل أو أكثر، لأن مراحل الصليب كبيرة جدًا، وأحداث الصليب ضخمة للغاية، فهي تهذب وتصقل النفس السائرة في درب الصليب..
*نشكر الله كثيرًا على هذا الكتاب القيّم، والذي اتخذ شكل الرواية إلى حد ما، وحمل لنا دفء المشاعر وحرارة الكلمة، وفيض الأحاسيس، وبذلك يمكن إضافته إلى الكتب الروحية القليلة التي كُتبت عن الصليب..
*نطلب من الرب يسوع المصلوب أن يكون هذا الكتاب سبب بركة وتوبة ولقاء مع المصلوب.. وأن يعوض الكاتب الذي يتعب كثيرًا في كتاباته (موسوعة اقرأ وافهم) منتظرًا الأجر السمائي من الله فقط.
ببركة وصلوات مارمرقس والأنبا بطرس
وصلوات أبينا قداسة
البابا شنودة الثالث
القس مقار فوزي
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 02:47 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

الفصل الأول: إلى المنتهى

أورشليم مدينة الملك العظيم متألقة على ربوة عالية مثل عروس مزينة لرجلها، تحيطها الأسوار المنيعة، وتتزاحم وتتناثر على أرضها البيوت المنخفضة والتي لا تتعدى الدورين، وشوارعها غالبًا ضيقة، ماعدا بعض الأحياء الراقية التي حوت في أحشائها بعض القصور مثل قصر رئيس الكهنة وبعض الشخصيات الهامة، ولكن ما يُميّز أورشليم عن أي مدينة أخرى أنها ضمت في أحضانها هيكل رب الصباؤوت حيث تقدم الذبائح لله العلي، وخارج الهيكل يستحيل على أي إنسان يهودي أن يُقدم ذبيحة لله، ومن أجل هذا جاء يهود الشتات من مصر وروما وأسبانيا وشتى بقاع الأرض للاحتفال بعيد الفصح وعيد الفطير، فقد حتمت الشريعة على كل ذكر يافع أن يصعد إلى أورشليم ليترآى أمام الله في مثل هذه الأعياد، حتى لو كان يعيش بعيدًا عن أورشليم واحتاج لثلاثة أشهر للوصول إليها، وكان هناك اعتقادًا سائدًا لدى اليهود وهو أن المسيا الآتي إلى العالم سيخلصهم في عيد الفصح، فبالإضافة إلى أن عيد الفصح يحمل ذكرى النجاة من الموت والخلاص من العبودية المرَّة، فهو يحمل أحلام بني إسرائيل في ظهور المسيا الذي يعيد إليهم حريتهم المفقودة ويخلصهم من الاحتلال الروماني، وعيد الفصح هذا العام له طعم خاص لدى بني إسرائيل، لأن البشارة بيسوع نبي الجليل صانع المعجزات العجيبة انتشرت وعمَّت البلاد، فلعله هو المسيا المنتظر؟! ولعله يصنع خلاصًا في عيد هذا العام..
ولم تتسع المدينة للوافدين، ومحظوظة هي الأسرة التي تجد لها حجرة صغيرة أو ركن على أحد الأسطح داخل المدينة، أما الذين ليس لهم مكان فقد أعدُّوا أنفسهم،إذ أحضروا معهم الخيام التي راحوا يقيمونها خارج الأسوار فوق المروج الخضراء، ويقع عبء حفظ النظام والأمن وسط مئات الألوف على بيلاطسوالي اليهودية، الذي اضطر إلى ترك قصره في قيصرية والإقامة في أورشليم، كما أستدعى بعض الكتائب العسكرية للمساعدة في حفظ النظام بالإضافة لآلاف الجنود المعسكرين بأورشليم وبالأخص في قلعة أنطونيا.. كان بيلاطس يقيم كل عام في جناح من قصر هيرودس،أما هذا العام فبسبب الخصام الذي شب بينهما، فقد أقام في قلعة أنطونيا المشرفة على الهيكل.
وكان هناك مناجاة من الشعب نحو يسوع نبي ناصرة الجليل.. هل سيأتي إلى العيد؟! لقد أظهر من القوة والقدرة والجبروت ما لم يظهره أحد من قبل حتى البحر والرياح يطيعانه، وبالأمس القريب - منذ عدة أيام - نادى لعازر من مدينة الأموات بعد موته بأربعة أيام، فنفض الميت تراب الموت واستقام مجيبًا النداء وخرج من القبر مربوطًا، فقال للذين حوله من التلاميذ حلوه ودعوه يمضي، واليوم الأحد دخل يسوع المدينة بموكب عجيب وديعًا متواضعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان ففرشوا ثيابهم على الطريق، وحمل الكثيرون سعف النخيل وأغصان الزيتون وهتفوا له " هوشعنا.. هوشعنا في الأعالي.. مبارك الآتي باسم الرب.. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب.. أوصنا في الأعالي " حتى الأطفال لم يكفوا عن الفرحة والهتاف فارتجت المدينة أورشليم، ولكن عندما دخل الهيكل لم يسرَّ به، لأنه تحوَّل من بيت للتوبة والصلاة والتماس وجه الله إلى مكان لتجارة المواشي والخراف والحمام بحجة تقديمها للذبائح، وجلس تُجار العملة يمارسون عملهم، وبرع حنَّان رئيس الكهنة الأسبق في تقسيم وإدارة المكان، فكل شبر في فناء الهيكل له قيمته، وغضب السيد ورفع سوطه فارتعب الجميع وفروا من أمام وجهه هاربين، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وهو ينتهرهم بشدة " مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص".. لقد طهَّر الهيكل، ولم يدع أحدًا يجتاز بمتاع، وجلس يُعلّم الخراف التي بلا راعٍ لها، ويشفي المرضى. أما حنَّان وقيافا رغم الحقد والغل الذي ملأ قلوبهم مع بقية القيادات الدينية، لكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن يتعرض له أو يراجعه فيما عمله.. كل ما فعلوه أنهم تهامسوا فيما بينهم.. من أين له هذا السلطان..؟! العالم كله ذهب ورائه.. لابد من القضاء عليه في أسرع وقت ممكن. أما يسوع فقد أمضى يومي الاثنين والثلاثاء يُعلّم طوال النهار في الهيكل حتى عاد للهيكل قدره ومجده، وبالليل كان يبيت في قرية بيت عنيا مع تلاميذه، ورغم أن الحاقدين حاولوا أن يصطادوه بكلمة ليحكموا عليه لكن دون جدوى.
كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
اليوم الخميس (الكبير) وبالأمس حدثت خيانة في أورشليم لم ترَ المدينة مثلها من قبل.. لقد ذهب يهوذا تلميذ يسوع وأحد الاثني عشر تلميذًا إلى رؤساء الكهنة الذين كانوا قد أصدروا منشور مجمع السنهدريم "من يعرف أين يسوع فليدل عليه".. يا للعار.. لقد ذهب يهوذا من ذاته يعرض عليهم أن يُسلّم إليهم يسوع في المكان المناسب وفي الوقت الملائم، وفي ذات اليوم الذي فاحت فيه رائحة الخيانة فاحت فيه أيضًا في بيت عنيا رائحة الطيب، إذ خلال جلسة هادئة للمعلم وتلاميذه، أذابت مريم أخت لعازر مشاعرها في قارورة طيب كثير الثمن اشترتها بتحويشة العمر، وسكبتها على رأس المعلم الذي أعاد لها أخيها من الموت، وهي لا تعلم أنها بهذا الطيب كانت تُكفّن يسوع وهو مازال حيًّا، بينما عاد يهوذا من حيث كان، ولو سأله المعلم: من أين يا يهوذا؟ لأجاب كذبًا: لم يذهب تلميذك إلى هنا أو هناك..
سألا بطرس ويوحنا المعلم: أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح؟
فالمعلم ليس له أين يسند رأسه، وتلاميذه تشبهوا به، إذ تركوا بيوتهم وأسرهم وتبعوه.. كان الفصح يجمع شمل الأسرة الواحدة، وكوَّن المعلم مع تلاميذه أسرة من طراز جديد لا تقوم على رباط الدم إنما تقوم على وحدانية الروح الواحد، ولهذا حق لهم أن يأكلوا الفصح معًا، ولكن أين وليس لهم مقرًا على هذه الأرض؟
لم يشأ يسوع أن يجيبهم بصراحة أمام يهوذا الذي يتحيَّن فرصة لتسليمه، ولذلك أجابهم بلغز خُفيَّ عن يهوذا، حيث قال لهما: " اذهبا إلى أورشليم وإذا دخلتما المدينة تجدان إنسانًا حاملًا جرة ماء. أتبعاه إلى البيت حيث يدخل.. وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أن وقتي قريب. أين المكان حيث آكل الفصح مع تلاميذي. فيريكما علية كبيرة مفروشة فهناك أعدَّا لنا ".
وكانت هذه علامة كافية لأن الذي اعتاد حمل الجرار النسوة والشابات، وقال يهوذا في نفسه: ما معنى قول المعلم أن وقتي قريب..؟! هل يشعر بروحه أن نهايته قد صارت وشيكة.. ربما تكون هذه إرادة الله وعليَّ أن أُتمّمها سريعًا.. ليساعدني الله لإتمام هذه المهمة الشاقة.
كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
والآن نحو السادسة مساء وهوذا المعلم العالم بالخفايا يقطع الرحلة مع تلاميذه العشرة من بيت عنيا إلى البيت الذي سيصنع فيه الفصح الأخير.. تقدم يسوع المسيرة طويل القامة، ممشوق القوام، وقد فرقَ شعره من منتصف الرأس، وتدلَّت خصلات شعره على منكبيه، وجهه يشرق بالحبِ كشمس لا تغرب، وعيناه سوداويتان تموجان بالنشاط والحيوية.. إنه حقًا أبرع جمالًا من بني البشر، وسار المعلم في صمتٍ، فالصليب يدق الأبواب، وغدًا ستقطر دمائه على أراضي أورشليم وخارجها.
سارت الجماعة في الطريق الترابي من بيت عنيا قاصدة، أورشليم وتعفرت أقدامهم بتراب الطريق، ومروا على الخيام التي تكاد تكون متلاصقة، ورائحة الطعام تتصاعد وتنتشر، والفتيات يلعبن، والنسوة يثرثرن، وجلس الرجال يتسامرون، وأكثر ما شدَّهم هو الحديث عن أمجاد المسيا الآتي، فالنسر الروماني الجاثم على مدينتهم جعلهم أشد ظمأ للحرية وأكثر اشتياقًا للمسيا، ودخلت الجماعة إلى شوارع أورشليم التي رُصفت بالحجارة، وقد ازدحمت جدًا، ورغم أن يهود أورشليم يشعرون بالاستعلاء على يهود الشتات الذين قد يعرفونهم من ملابسهم، ولكن الفرحة بالعيد عمَّت الكل، فصارت القلوب منشرحة والوجوه مستبشرة، ومع أن اليهود قد اعتادوا عدم التحديق في وجوه الغرباء، ولكن شهرة نبي الناصرة لفتت الأنظار فصارت النظرات تلاحقه.. ألعله هو المسيا؟! ولو كان المسيا لِمَ خذلنا يوم الأحد الماضي ولم يُنصّب نفسه ملكًا علينا؟!
ونظر المعلم إلى تلك المدينة التي طالما أحبها نظرة الحب والإشفاق، فكم أغدق عليها من حبه وحنانه ولكنها رفضته بجفاء، فأعطته القفا لا الوجه، والتزم المعلم جانب الصمت، فهو لا يريد أن يبيح بمشاعره الخفية لخواصه المحبوبين حتى لا يُحمّلهم ما لا يحتملون، فهو معلمهم وأبوهم ورجاؤهم وكل شيء في حياتهم بعد أن تركوا كل شيء - فعلًا كل شيء - وتبعوه. أما التلاميذ الذين يتابعون الأحداث، وتصلهم الأخبار تباعًا، يعلمون أن غضب القيادات الدينية لن يهدأ حتى يدخل في مواجهة دموية مع معلمهم، وقد يفضل غالبًا التصفية الجسدية كعادتها، وبدأوا يشعرون أن هناك عاصفة عاتية تقف على الأبواب، ولكنهم لم يتصوَّروا أنهم في هذه اللحظات يقفون على أعتاب هذه العاصفة، فهل سيستخدم السيد سلطانه الذي أخضع به من قبل البحر الهائج، وهل سيعصف بهذه العاصفة الهوجاء؟!
ولم يكن للتلاميذ القدرة على رؤية سطانئيل وهو يُجيّش جيوش الشر من شياطين ويهود ورومان، في جلبة وضوضاء ومظاهر زيطة وهيصة، يمنُّون أنفسهم بالصيد الثمين الذي أوشك على السقوط بين أيديهم، ولم يسمع التلاميذ الشرير وهو يتنهد قائلًا:
متى أقبض على روحه وأُودعها سجن الجحيم؟
لكم أتعبني وأجهدني هذا الإنسان.. هل تصل به الجرأة إلى طرد ملائكتي من سكنى البشر؟!
نعم.. لم أنجح للآن في إسقاطه في خطية واحدة بالفعل ولا بالقول ولا بالفكر، ولكن بعد قليل سيكون في قبضتي، ومن يفلت من قبضتك ياسطانئيل؟!
ولم يكن للتلاميذ قدرات خارقة تميزهم عن غيرهم، بل كانوا من بسطاء الناس،ولكل منهم ميوله الخاصة، ومعظمهم من صيادي السمك بالجليل، وإن كانوا يفتخرون بمهنتهم في جليلهم، ولكن يهود أورشليم يتأففون منهم إذ يحملون رائحة السمك وأعشاب البحر في ثيابهم المبتلة. أما في هذا اليوم فإنهم جميعًا يرتدون ملابس العيد وتنساب لحاهم على صدروهم، وتنسدل شعورهم على أكتافهم، وغالبًا لكل منهم أكثر من اسم. كان فيهم بطرس وشقيقه أندراوس، ويعقوب ابن زبدي ويوحنا شقيقه، كما إن هناك أسماء مشتركة، فاثنان منهم باسم يعقوب هما يعقوب بن حلفا ويعقوب ابن زبدي، واثنان باسم سمعان هما سمعان بطرس وسمعان القانوي..
وكان من الاثني عشر وأكبرهم سنًا "يهوذا الإسخريوطي" الذي كان يبدو دائمًا قلقًا متوترًا، وهو أمين الصندوق الذي يحتفظ ببعض الأموال في الصندوق ويخفي بعضها في كيس يحفظه بين طيات ملابسه، وللأسف فإن يهوذا صرف جل اهتمامه في الأمور المالية من إيرادات ومصروفات وأرصدة، وفي زحمة اهتماماته لم يهتم بتعاليم المعلم، فبدأت الخطية تزحف نحوه شيئًا فشيئًا.. فلم يشعر بها، أو قل أن الشيطان نسج شبكته حول ذاك التلميذ المهم فتلة فتلة، فصارت الخطية في قلب يهوذا كحيَّة رقطاء رابضة تحت صخرة تفرز سمومها حتى أسودَّ ذاك القلب الأبيض الذي اختاره يسوع تلميذًا له، ولم يسعَ يهوذا للتحرر من تلك الخطية، بل انصرف تمامًا عن تعاليم سيده، وإن سمعها بحكم تواجده في صحبة القديسين فأذن من طين والأخرى من عجين، وصار التلميذ يتحاشى النظر في عيني معلمه.
وكان من الاثني عشر أيضًا " بطرس " أكبر الرسل بعد يهوذا، واسمه سمعان باريونا أو سمعان بن يونا، ودعاه المعلم صفا أي صخرة وباليونانية بطرس، وهو دائمًا التلميذ الغيور على معلمه وعلى إخوته، يتمتع بصوت جهوري وقلب متسرع يقوده دائمًا إلى الاندفاع، حتى أن معلمه الرقيق رقة نسمة الربيع اضطر ذات مرة أن يزجره بشدة قائلًا " اذهب عني يا شيطان ".
ومن بين الاثني عشر عشارًا يُدعى " لاوي "، وكان مثل أي عشار آخر قاسي القلب مستبيح لأموال الأرامل واليتامى، وعندما التقى به المعلم منذ ثلاث سنين قال له " أتبعني " فترك مكان الجباية وتبعه، وأعطاه اسمًا جديدًا " متى "، ورغم أنه تعلَّم في مدارس الربانيّين فأجاد القراءة والكتابة والرياضيات، إلاَّ أن السيد لم يشأ أن يوكل إليه أمانة الصندوق.
أما " توما " فهو قلقًا بعض الشيء، يعتمد على المحسوسات والأدلة الملموسة في أمور حياته، ويتمتع توما بروح المغامرة، حتى أنه عندما سمع أن لعاز قد مات والمعلم سيذهب إلى اليهودية حيث مكمن الخطر قال: لنذهب إلى هناك، لنموت معه.
أما أصغر التلاميذ فهو " يوحنا " الذي كان ملاحقًا ملاصقًا لمعلمه في خطواته وفي جلساته، في حركاته وسكناته، ودائمًا عيناه ترنو إلى المعلم فتترأى له الأزلية مع الأبدية، فيقف مشدوهًا أمام السرمدية، وقد يكون يسوع قد كُشف له بعض الأسرار، فسر الله لخائفيه.
ووصلت الجماعة إلى بيت أرسطوبولس والد مرقس، وخرج رب البيت مع مريم زوجته وابنه مرقس يلاقون المعلم وتلاميذه بالبشاشة والترحاب، وصعد المعلم مع تلاميذه العشرة إلى العلية الكبيرة المفروشة حيث كان بطرس ويوحنا قد سبقا وأعدَّا كل شيء، وكان من شروط أكل الفصح أن يتراوح العدد بين عشرة وعشرين نفسًا، وهذا ما توفر لهذه الجماعة فهي ليست في حاجة إلى الانضمام لجماعة صغيرة أخرى، وكان الفصح يُذبح بعد غروب شمس يوم 13. نيسان أي في الساعات الأولى لليوم الرابع عشر، لأن اليوم اليهودي يبدأ من غروب شمس اليوم السابق وينتهي بغروب شمس اليوم، وبسبب أهمية عيد الفصح صار شهر نيسان - وكان يُدعى قبل السبي بشهر أبيب - أول شهور السنة العبرية، ويقابل الجزء الأخير من شهر مارس والجزء الأول من شهر أبريل، وفي هذا العام كان اليوم التالي لعيد الفصح هو يوم السبت، لذلك انقسم اليهود إلى قسمين، قسم الفريسيّين المدقّقين الذي حافظوا على ميعاد الفصح ليكون غدًا الجمعة 14 نيسان، وذبحوا الفصح بعد غروب شمس 13 نيسان، وفي هذا الوقت أكل المعلم الفصح مع تلاميذه. أما الصدوقيون ومن بينهم رؤساء الكهنة فقد احتفلوا بعيد الفصح يوم السبت 15 نيسان، وذبحوا الفصح بعد غروب شمس 14 نيسان في الوقت الذي سيملك فيه السيد على عرشه، وكان الفصح يُذبح بين العشائين.
والآن هوذا الحمل قد ذُبح ووضع في سيخين متعامدين ويشوى على نار هادئة، ورائحة الشواء تعبق المكان.. رفع بطرس ويوحنا الحمل من على النار ووضعاه على المائدة، وهتفت الجماعة " الرب إلهنا إله واحد "، وجلسوا حوله فجلس يهوذا أكبر التلاميذ سنًا على يمين المعلم طبقًا للطقس السائد حيث كان يجلس الابن الأكبر والممثل الشرعي للأب عن يمينه. أما يوحنا بن زبدي أصغرهم سنًا فجلس عن يسار المعلم، فكان أقربهم إلى نبضات قلبه، ويبدو أنه قد حدثت مشادة بين يهوذا وبطرس عمن هو أحق بالجلوس عن يمين المعلم، ويبدو أن الفضة التي زواها يهوذا في جيبه ثمن الخيانة لم تحرق ضميره ولم تكسر نفسه.. آه لو تأمل ذاك التلميذ في قطعة من الفضة المسبوكة ربما عاد إلى وعيه، فقد نُقش على أحد وجهي العملة غصن زيتون علامة السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مجمرة رمز العبادة وأسفلها "أورشليم المقدَّسة".. فأين السلام والعبادة وأورشليم المقدَّسة من الخيانة المرَّة؟! إنه يصبوا إلى مكاسب الأرض ويود لو يحتفظ بنصيبه السمائي، وهيهات له هذا..!! تصوَّر أنه سيتمتع بالمال الحرام مع ميراث السماء، ولم يتصوَّر أن يومه أصبح وشيكًا على المغيب، ونجمه بات قريبًا من الأفول. أما يوحنا فقد رَكَن إلى رُكن وهو مستريح البال، فلا يوجد من ينافسه عليه.
وكانوا في القديم يأكلون الفصح وهم وقوف وأحقاءهم مشدودة ليتذكروا لحظات انطلاقهم من أرض العبودية. أما الآن فأنهم يأكلونه وهم متكئون علامة على أنهم مَلكوا أرض الموعد، وكان على المائدة طبق به محلول الملح والخل تُغمس فيه الأعشاب التي تُذكّرهم بعبودية فرعون، وصَحفة بها حساء من فواكه التين والبلح الأحمر وقشور القرفة، وجميعها بلونها الأحمر يذكرهم بالأجر (الطوب الأحمر) الذي كان يصنعونه في مصر تحت وطأة رؤساء التسخير.
وهنا، والآن نقطة اللقاء بين الرمز والمرموز إليه، فالرمز الذي ظل نحو خمسة عشر قرنًا منتظرًا رفع صوته أخيرًا ليرحب بالمرموز إليه: أأتيت الآن يا حمل الله الحقيقي؟!.. كم انتظرناك قرون وقرون؟..
كنا أنا وأخوتي نشير إليك، ولكن لم يفلح أحد منا قط أن يؤدي رسالتك في الخلاص ومغفرة الخطايا.
وشكر الحمل الحقيقي الحمل الرمز الذي أدى واجبه حتى هذه اللحظة قائلًا: بعد ساعات أجوز نيران الألم وعذابات الصليب، ويُصفى دمي قطرة قطرة فيرضى الآب عن البشرية.. أتدري أيها الحمل.. أنك ذُبحتَ بجرة واحدة من شفرة حادة فما كدت تشعر بالألم، أما أنا فإنني سأتحمل الألم إلى أقصى مداه.. أتعلم أيها الحمل الوديع.. أن كل من يسوقه قدره إلى الصليب يشتهي من كل قلبه أن تُقبض روحه قبل أن يدق مسمار في جسده، أما أنا فسأتحمل عذابات الصلب التي لا تطاق.. النيران التي اختبرتها أيها الحمل وأنت مذبوح سأجوز فيها وأنا حي..
ثم التفت يسوع لتلاميذه وقال لهم:
شهوة اشتهيت أن آكل معكم هذا الفصح قبل أن أتألم. إني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى آكله جديدًا في ملكوت الله..
وبحسب التقليد السائد أمسك المعلم بالكأس الأول من عصير الكرم، وشكر الله على ثمار الحقل، وأعطى تلاميذه قائلًا:
مبارك أنت الإله الأبدي الذي فديت الشعب. مبارك ملك الوجود، خالق ثمار الكرم.
ثم خلط الكأس بالماء، بينما تقدم يوحنا أصغر الموجودين بالسؤال التقليدي للمعلم:
لماذا يا معلم تختلف هذه الليلة عن أي ليلة أخرى؟
فقص يسوع قصة التحرُّر من عبودية فرعون والفداء بالدم، ولكنه قصَّها بطريقة جديدة جعلت أندراوس يتذكر قول معلمه يوحنا المعمدان عن يسوع " هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله " وسبَّحت الجماعة الجزء الأول من الهاليل (مز 113، 114).. وشكر المعلم، ثم قدَّس الكأس الثانية، وبعد هذا أخذ المعلم كسرتين من الخبز وكسر الأولى ووضعها على الثانية وشكر الله الذي أخرج القمح من الأرض، ثم مرَّر كسرة الخبز على الأعشاب المرة وغمسها في حساء الفاكهة وأكلها، وأخذ قطعة صغيرة من لحم الحمل فأكلها، وتبعه تلاميذه كل منهم ينتزع نصيبًا من لحم الحمل ويأكله، وعظم منه لا يكسر، وبين الحين والآخر يزدرد كل منهم بعض الأعشاب المرة.
وكان من المفروض أن يتقدم أحد الخدام أو أصغر الموجودين بطست في يسراه وإبريق في يمينه للجماعة ليغسلوا أيديهم ويستكملوا طقس الفصح، ولكن التلاميذ فوجئوا بالمعلم ينهض من العشاء يخلع ردائه، ويأخذ منشفة يئتزر بها.. أمسك الأبريق وصب الماء في المغسل، وحمل المغسل إلى تداوس أقرب واحد منهم، وركع أمامه يطلب منه مدَّ رجليه، فأطاع تداوس في خجل، وراح يسوع يفك سيور الصندل، وأمسك بالقدمين المتسختين بتراب الأرض وغسلهما بالماء الدافئ وجفَّفهما بالمنشفة، ورغم أن يوحنا حاول القيام بهذا العمل إلاَّ أن المعلم لم يسمح له بذلك قط.. ومن يطيق ومن يحتمل أن السيد يركع أمامه كعبد ليغسل أقدامه؟! كل منهم يأبى هذا ولكن أين المفر؟! ما عدا يهوذا الذي مدَّ قدماه بدون استحياء إذ ماتت فيه الحياة، وأمسك السيد بقدمي يهوذا يربت عليهما في حنان بالغ وكأنه يريد أن يقول له " أقبل قدميك لا تُلقي بنفسك في الهلاك.. يا يهوذا يا إبني.. أنا سائر في درب الموت بإرادتي.. فلماذا تجلب على نفسك حكم الموت يا يهوذا؟!..وغسل يسوع أقدام يهوذا رغم علمه في أي طريق سعت هاتان القدمان الليلة الفائتة..!! آه إنها أقدام ضمير قد مات.
أما بطرس الذي فاض قلبه بالحب لسيده فإنه لم يتململ مثل بقية إخوته من الآباء الرسل. بل منع رجليه عن السيد قائلًا:
يا سيد أنت تغسل رجلي..؟! هذا أمر مستحيل.
يسوع: لست تعلم الآن ما أنا أعمل يا بطرس، ولكنك ستفهم فيما بعد.
بطرس: لا أستطيع.. لن تغسل رجلي أبدًا.
يسوع: إن كنت لا أغسلك يا ابني فليس لك معي نصيب..
وبسرعة خاطفة مدَّ بطرس قدميه ويديه وأحنى هامته وهو يقول: كلاَّ يا سيد كلاَّ.. ليس رجلي فقط بل أيضًا يديَّ ورأسي وكل جسدي.
يسوع: الذي قد أغتسل ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله.
وإذ كان يسوع عالم بالخفيات قال: وأنتم طاهرون وليس كلكم.. إنه نداء ليهوذا الذي تخلى عن طهارته علَّه يهرب من الظلمة التي غشت حياته، ويفئ إلى نفسه ويتوب فيعتق مما هو فيه..
وبعد هذا أخذ يسوع رداءه واتكأ قائلًا: أتفهمون ما صنعت بكم؟
فصمتوا ولم يجب أحد، وتعلَّقت أعين التلاميذ ببطرس بعد أن تكلم معه المعلم عن ارتباط هذا العمل بالنصيب الصالح، ولكن ولا بطرس أدرك ما يجري، ولهذا لم يكن لديه لا إجابة ولا نصف إجابة.
فقال يسوع: أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالًا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا. فتململ يهوذا قائلًا في نفسه: مالنا وشغل الخدم والعبيد؟
ثم أردف يسوع قائلًا:
الحق الحق أقول لكم أنه ليس عبد أفضل من سيده ولا رسول أعظم من مرسله.. الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم، لأن من هو أكبر؟.. الذي يتكئ أم الذي يخدم؟. أليس الذي يتكئ؟ ولكن أنا بينكم كالذي يخدم.. أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي. إن عملتم هذا فطوباكم إن عملتموه..
كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
حدث هذا بينما وقف " لوسيفر " مشدوهًا وشياطينه قد اعترتهم الحيرة، لأنه استعصى عليهم فهم فكر الاتضاع، فنظروا باشمئزاز وقال لوسيفر لملائكته: ألم أقل لكم أنه مجرد عبد، ولا يزيد عن كونه عبدًا، ولذلك قام بعمل العبيد.. أليس حسنًا أننا حركنا حبيبنا يهوذا ليبيعه بثمن عبد.. آه أيها العبد.. إنني في لهفة من أمرك.. عندما تقطر دماءك.. دماء العبيد على صليب العار.. لن تستطيع فكاكًا يا يسوع من فخ الصليب الذي أعدَّدته بحكمتي!!
واضطرب يسوع بالروح، ولأول مرة يفتح ملف التلميذ الخائن المرائي، ويتنهد قائلًا: الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني..
حقًا كان المعلم يعلم أن يهوذا سارق ولص يسلب الأموال التي تضعها السيدات الثريات في الصندوق، ولكنه ستر عليه طويلًا سترًا يفوق الوصف، وربما همست بعض النسوة في أذن بطرس بما يجري، ولعل بطرس لفحه بنظرات الريبة والشك، حتى توقع الخائن أن المعلم سيطالبه بتسليم حساب وكالته، مع أن المعلم قد مكَّن له الحب إلى درجة تفوق الخيال، وإزاء حديث المعلم صمَّ يهوذا أذناه وكأنه لم يسمع شيئًا، أو كأن الموضوع لا يخصه، وبدا الذئب في ثياب الحملان، وتناسى أنه بالأمس سعى إلى رؤساء الكهنة يعرض عليهم تسليم حمل الله، وهم فرحوا به جدًا وأعطوه ثلاثين من الفضة، فعاهدهم على تسليمه، ولاسيما أنهم أقنعوه بأنه من المستحيل أن يكون يسوع هذا الذي ينادي بمحبة الأعداء هو المسيا.. إنه يود لو يُضيّع الأمة ويخرب الهيكل.. آه لو همست يا يهوذا في أذن سيدك بأنك أنت الذي اتفقت مع القيادات الدينية على تسليمه، لخلصك سيدك من الفخ الذي أمسك بك، ولكن للأسف الشديد فإنك يا يهوذا اتخذت من هيروس مثلًا أعلى لك، ذاك الذي من أجل الأقسام ذبح المعمدان.
أما التلاميذ الأطهار فقد وقع عليهم الخبر وقوع الصاعقة، فاغتموا وأصابهم الأسى والأسف والحزن العميق، وكلمات يسوع الرزينة المؤثرة ترن في آذانهم، ففقدوا الثقة في أنفسهم، لأن ثقتهم في معلمهم فاقت ثقتهم في أنفسهم، ونظروا إلى بعضهم البعض نظرات الحيرة والتساؤل، ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراض ولا بطرس ذاته، فما دام يسوع قال هذا فلابد أن يحدث هكذا.. تُرى مَن منا سيسلمه؟!
ورفع يعقوب بن حلفا إصبعه في مذلة وانكسار قلب قائلًا: هل أنا يا رب؟
وصمت المعلم، وصمته هذا لم يمنع بقية التلاميذ من طرح ذات السؤال: هل أنا يا معلم؟.. هل أنا يا سيد؟!.. هل أنا يا رب؟!.. عجبًا لتلاميذ بسطاء يشكُّون في أنفسهم ولا يشكُّون في أخيهم الذي كان لصًا، وتبًا لك يا يهوذا لأنك وأنت صانع هذا الأمر بعينه تركت أخوتك يتعذبون في شكوكهم، وكان بإمكانك أن تريحهم وتربح نفسك.. لماذا يا هذا دفعت بنفسك في زمرة القديسين وأنت لست بقديس؟! ومالك تضع نفسك في مجمع الأطهار وأنت لستُ بطاهر؟!
بل وأكثر من هذا أن يهوذا ظنها تسلية، فكل واحد يقول له: هل أنا يا رب؟ والمعلم صامت لا يجيب، وإذ ملأ الشيطان قلبه وغطى الرياء حياته، قرَّر أن يسأل ذات السؤال مع استبدال كلمة يا رب بكلمة يا سيد، فقال: هل أنا يا سيد؟
ولا عجب فإن الخطاة " يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم. ويقولون الرب لا يبصر إله يعقوب لا يلاحظ" (مز 94: 6، 7).
وكان لابد للسيد أن يجيب، لئلا يظن يهوذا في جهله أن المعلم يجهل أمره، وإذ أراد المعلم أن تصل الإجابة إلى يهوذا فقط دون بقية التلاميذ حفاظًا على مشاعره. صمت قليلًا ثم همس في أذن يهوذا الجالس عن يمينه دون أن يسمعه أحد: أنت قلت.
ولم يلحظ أحد من التلاميذ ما قاله المعلم ليهوذا الذي تصنَّع الاتزان والهدوء، وكأنه أصم لم يسمع صوت المعلم، وتساءل يهوذا في نفسه: ألعل أحد رآه بالأمس وهو يدخل إلى قصر قيافا، وأخبر المعلم بما كان؟!
وتململ بطرس في جلسته، فهو لابد أن يعرف من الذي سيسلم سيده.. أنه على استعداد تام للفتك به وليكن ما يكن، فأي عار أن يخون التلميذ معلمه؟! ومع انفعالاته هذه، فإنه لم توآته الشجاعة ليسأل المعلم عمن هو، فمنذ قليل أسكته المعلم عندما احتج على غسل الأرجل، فآثر بطرس الصمت كمدًا، ولكنه لم يحتمل، فأومأ للتلميذ الصغير الجالس عن يسار المعلم، وفهم يوحنا وأطاع، وهمس في أذن معلمه: من هو يا رب؟
ولم يشأ المعلم أن يرد ليوحنا سؤالًا، ولم يشأ أيضًا أن يعرف بطرس من هو، ولا يريد أن يفضح يهوذا أمام الجماعة، فبحكمته الإلهية ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، إذ همس في أذن يوحنا دون أن يسمعه أحد: الذي يغمس يده معي في الصَّحفة هو يُسلّمني.
وقد كان من أدب التلاميذ أنهم متى لمحوا يد السيد تتجه إلى الصَّحفة رفعوا أيديهم، أما يهوذا إذ سكنه شيطان الكبرياء كان يزاحم معلمه في الصَّحفة، وربما يكون الشيطان قد صوَّر له أنه هو الأحق برئاسة هذه الجماعة، وصمت يسوع حتى ازدرد يهوذا ما في فمه، ولكي يؤكد ليوحنا ذات المعلومة همس في أذنه قائلًا: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه..
وإذ كان الطقس يُفرض أن رب العائلة يغمس لقمة في صَّحفة الفاكهة ويعطيها للابن الأكبر أو أكبر الحاضرين، فعل يسوع هكذا، وغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الذي أنتفخ ونفش ريشه أمام أخوته، وكأنه يقول لبطرس الذي طمع في مكانه منذ قليل: أنظر تقدير ومعزَّة وإحترام المعلم لي.. فمن أنت حتى تطمع في مكاني ومكانتي؟!
وكان الشيطان يغوي ويناوش يهوذا من الخارج، أما بعد اللقمة فقال لوسيفر لأحد أتباعه العتاولة: أدخل إلى يهوذا، فهوذا قلبه مكنوسًا مزينًا، فتربع على عرش قلبه، وشكّل فكره، وأجعل نظراته زائغة، وأفقده القدرة على التركيز.. هوذا أنت تعرف مهامك.
أما يوحنا ففهم وأدرك.. تأثر جدًا وتأسى في نفسه.. ختم على الأمر ولم يفصح، واجتهد كثيرًا حتى لا تفضحه مشاعره، وقال في نفسه: ياللهول.. يهوذا الذي وهبه السيد سلطانًا على الشياطين، حتى كان يطردها ويزجرها وينتهرها، يبيع نفسه للشيطان، ويصير مأوى للشياطين ولكل روح نجس.. يالحزن النفس وكسرة القلب!!
يسوع: ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان.
إنها محاولة أخيرة لعل يهوذا يرجع إلى نفسه، ويدرك الأمور على حقيقتها.. إن ابن الإنسان سيمضي كما هو مكتوب، بحسب مشورة الله المحتومة.. نعم هذا سيتم يا يهوذا.. سيتم سواء سلمتني أو لم تفعل، فلماذا تزج بنفسك ياتلميذ في طريق الخيانة البشعة؟!!
وإن كان العرف والتقليد يُجرّم اعتداء الإنسان على صاحبه الذي أكل معه في صحفة واحدة، فكم وكم بتلميذ عاش مع معلمه ثلاث سنين يأكل ويشرب وينام معه..؟! لكم جرح يهوذا معلمه!! " لأنه ليس عدو يُعيّرني فأحتمله. ليس مبغضي تعظم عليَّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور" (مز 55: 12 - 14).. " أيضًا رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي رفع عليَّ عقبه" (مز 41: 9).. إن رؤساء الكهنة لم يطلبوا منك يا يهوذا أن تسلمني، لأنه لم يخطر على بالهم أن تلميذًا يخون ويبيع معلمه بثمن عبد.
ونظر يسوع بعين المستقبل القريب فإذ يهوذا صديقه الذي عاشره أكثر من ثلاث سنوات مُعلقًا مشنوقًا، فتنهد كمن هو في كمدٍ، وكمن أصابته خسارة جسيمة وقال: كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد..
والتقطت أذان يهوذا هذه العبارات التي تذيب الفؤاد، وسمع أبواق التحذير التي دوَّت عاليًا لكيما توقظه قبل فوات الأوان، ولكن مازال يهوذا يراوغ، فقال في نفسه: ربما بلغته أنباء أن أحد المقربين إليه سيسلمه، ولكن لعله لا يعرف من هو بالضبط.. غير أن نظرات يهوذا صارت زائغة، واشتد ارتباكه أكثر مما كان يبدو في أشد المواقف حساسية.
ولنا أن نتساءل: مادام يسوع يعلم أن يهوذا سيخونه فلماذا خلقه..؟! لقد خلق الله يهوذا حرًّا مريدًا، ومقابل هذه الحرية عليه أن يتحمل مسئولية تصرفه، فكان يمكن ليهوذا أن يكون تلميذًا مخلصًا مثل بقية أخوته، ولكنه أختار أن يكون خائنًا، وباع سيده.
وإن تساءل أحد: مادام تسليم يهوذا لمعلمه قد ساهم في خطة الخلاص.. فلماذا يُدَان؟.. يُدان لأن ما فعله هو شر، وقصد منه يهوذا الإساءة لسيده، ولم يقصد على الإطلاق خلاص البشرية، فهو مسئول عن جرمه.
وقال يسوع بصوت مسموع: يا يهوذا.. ما أنت فاعله فأفعله بأكثر سرعة.
وقال بطرس في نفسه: أما زال المعلم يُميّزه عنا حتى أنتفخ علينا؟! ألعله قد أرسله في مهمة عاجلة لشراء احتياجات العيد..
وقال تداوس في نفسه: لعل المعلم يكون قد أرسله في مهمة تخص الفقراء.
وأدرك يهوذا أن المعلم يعرف الأمر كله، وأن كل أوراقه صارت مكشوفة، فتضايق جدًا، وشعر كأن شيطانه يلف حبلًا حول رقبته، ويخنقه، لذلك أدار ظهره للجالسين وانطلق كالسهم الطائش، بنظرات زائغة ويدان مرتعشتان، وعقل فقد اتزانه، ويده على جيبه تتحسَّس الكيس الجلدي الخفي وبه ثمن الخيانة.. خرج يهوذا وكان الوقت ليلًا، فغاص في ظلمة الليل البهيم منطلقًا إلى بيت قيافا حيث طريق الهلاك - متقولش مركّب في رجليه عجل.
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 02:50 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

الفصل الثاني: وكان الوقت ليلًا


ترك يهوذا جماعة القديسين وخرج، وكان الوقت ليلًا، والساعة نحو الثامنة والنصف مساءًا.. شقَّ يهوذا طريقه لا يلوي على شيء إلى بيت رئيس الكهنة، وإذ عرفته البوابة، فهو زائر الأمس الذي أبهج رؤساء الكهنة، لذلك أسرعت بفتح الباب، ودعته يمرَّ إلى الوكر.. تقدم أحد الخدام لينظر من القادم، وإذ عرفه طلب منه الانتظار لحظات حتى يخبر رئيس الأحبار بقدومه.
ووقف يهوذا، أو قل وقف الشيطان الساكن في يهوذا قلقًا مضطربًا يرى في هذه اللحظات دهرًا، حتى جاء الخادم يدعوه للدخول، وما أن رأى قيافا حبيبه يهوذا حتى أخذه بالأحضان والقبلات مرحبًا به: أهلًا صديقي العزيز.. أسد (سبط) يهوذا، وبطل يعقوب.. ماذا تطلب في هذه الساعة من الليل؟
وقال الخادم في نفسه: عجبًا لهذه المحبة الفياضة، وهي وليدة يوم وليلة؟! هل حقًا هذه محبة أم أنها زيف ورياء؟!
يهوذا: إن المعلم مع تلاميذه في بيت أرسطوبولس.. تُرى هل هذا هو المكان المناسب والوقت الملائم لإتمام المهمة يا سيدي؟ ألا ترى معي أن هذا المكان أفضل من بيت عنيا؟
وهمهم قيافا قائلًا: بالطبع.. بالطبع يا يهوذا، فالمسافة من بيت عنيا إلى أورشليم تأخذ وقتًا أطول ربما يسمح لأتباعه بالتحرك لإنقاذه.. إنها لفتة رائعة منك أيها البطل الهمام.. لعل رب الهيكل يباركك، ولتحل بركتي وبركة آبائي عليك يا إبني.
وكان قيافا منهمكًا في التفكير بصوت يكاد يكون مسموعًا: إن هذا الناصري فعل ما لم يفعله أحد قبله.. من يتجرأ ويطرد تجار الهيكل ويقلب موائد الصيارفة؟..!! إن ذلك الرجل الجليلي لا يستحق أبدًا أن يعيش.. يريد أن يشعلها حربًا طائفية بين أتباعه الذين يربو عددهم من ثمانية آلاف نفس وبين الغيورين على مجد الهيكل.. وماذا تكون نتيجة هذه الحرب الدموية لو حدثت إلاَّ تَّدخل الرومان واحتلالهم للهيكل، وربما أقاموا فيه أصنامهم النجسة؟!
وعاد ينظر إلى يهوذا قائلًا: ليكافئك الله يا يهوذا يا جرو الأسد على صنيعك معنا.. استرح الآن يا ابني وأنا سأتصرف في الأمر. أما عيني يهوذا فلا تستقران ولو للحظة واحدة.. إنهما يجولان في كل اتجاه في حركات سريعة.. ينتقلان من الأرض الفسيفساء بألوانها الزاهية، إلى الجدران التي تزينت بالمصابيح النحاسية اللامعة التي أخذت شكل الحيات والحمام، إلى الكراسي الضخمة التي وُضعت عليها الأرائق الوثيرة المحشوة بريش الطيور..
وإذ كان قيافا رئيس الكهنة يقطن ذات القصر الذي يقطنه حماه حنان، لا يفصل بينهما سوى دهليز، أرسل أحد الخدام يستدعي حنان رئيس الكهنة الأسبق الداهية المحنَّك الذي يخشى الكل شره حتى هيرودس، كما إن بيلاطس يعمل له حسابًا، وبالرغم من أن "فاليروس جراتوس" والي اليهودية السابق قد عزله من منصبه كرئيس للكهنة، لكنه عجز أن يحد من نفوذه الذي تخطى حدود فلسطين، ومازال هو المسيطر الأول على كل أمور الهيكل والشعب، ولاسيما المعاملات المالية والتجارية. كما أن له عيونًا في كل مكان، وبينما كانت الشريعة تأمر بأن يبقى رئيس الكهنة في منصبه طوال حياته، فإن الولاة الرومان لم يلتزموا بهذه الشريعة، إنما باعوا المنصب لمن يدفع أكثر، وعلى كلٍ فإن رئاسة الكهنوت لم تخرج عن عائلة حنان بن شيث، عائلة الرشوة والدسائس، لمدة نحو خمسة وخمسين عامًا بدأها حنان منذ العام السابع للميلاد وحتى سنة 14 - 15م.. ثم ابنه اليعازر لمدة سنة واحدة (16 - 17م) والآن يوسف قيافا زوج ابنة حنان (17 - 36م) {ثم أولاد حنان الأربعة يوناثان لمدة سنة (36 - 37م) ثم ثاوفيلس (37 - 41م) فمتياس (41 - 44م) وآخرهم حنان بن حنان (44 - 62م)}.
وأيضًا قام قيافا باستدعاء بعض أعضاء مجلس السنهدريم للتشاور في الأمر، حتى يكون العمل جماعيًا وليس فرديًا، وسريعًا ما جاء حنان، وتبعه عدد ليس بقليل من أعضاء مجلس السنهدريم.. دار حوار طويل واحتدم النقاش وأُحيكت المؤامرة:

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
حنان: يا سادة.. أرجو أن تفهموني جيدًا، فهناك فرق شاسع بين القبض على يسوع بمعرفتنا، وبين تسليم تلميذه له، فتلميذه هو أقدر الناس في الحكم عليه، ولولا أنه ضال ومُضل لما قام تلميذه يهوذا بتسليمه للقضاء.
دبارياس: حقيقة بعد الاستقبال الحافل يوم الأحد الماضي الذي ارتجت له المدينة بات من الخطورة ترك مثل هذا الإنسان.. شكرًا لأدوناي إن حماس الجماهير قد برد كثيرًا، بعد أن أضاع يسوع الفرصة السانحة في إعلان ملكه، وخيَّب رجاء الجماهير في إعلان مملكة إسرائيل، مع إن عواطف الكثيرين مازالت متأججة تجاهه، وهو مازال قادرًا على تحريك كل الشعب في أي طريق يريد.
الأسخريوطي: لقد هتفنا له يوم الأحد حتى بحت أصواتنا، علَّه يُحقّق أحلام إسرائيل، ولكنه خذلنا، وترك الجماهير الثائرة تهدأ شيئًا فشيئًا وتنصرف شيئًا فشيئًا، ولم يشأ أن يحركها بأصبعه لتشعلها ثورة حارقة تأكل بيلاطس وكل جنوده، ويعلن قيام مملكة إسرائيل، لقد تأكدت أنه ليس هو المسيا كما كنا نظنه، ولذلك أتيت لأسلمكم إياه، فكل ما يهمني هو مجد يهوه ومدينة أورشليم ومملكة إسرائيل.
ميزا: لننتظر.. ربما يعود وينفخ نار الثورة ضد روما.
قيافا: كلاَّ يا ميزا.. إن الناصري الذي ينادي بمحبة الأعداء لا رجاء فيه على الإطلاق، ولو أن هناك رجاءًا فيه لنفخنا فيه من روحنا.
الأسخريوطي: لا أدري كيف يمكن لإنسان ينادي بالمحبة والتسامح مع الأعداء أن يقيم لنا أمجاد داود وسليمان؟!
دبارياس: حيث إنه يهيج الشعب فهو يستحق الموت.
سابس: بعد أن كشف الناصري عورتنا أمام الشعب، وبعد أن صبَّ علينا ويلاته، وأودعنا مذبلة التاريخ، ليس ببعيد عليه أن يحرك الجماهير ضدنا، وفي لحظات نصير جميعًا في خبر كان.. لقد أمسى الأمر بالنسبة لنا هو موت أو حياة.
سارباس: مثل هذا الإنسان كان لا يجب أن يعيش.
حنان: العيب كل العيب في الشعب الجاهل الذي لا يفهم الناموس.. أليس مكتوبًا أن المسيا يخرج من بيت لحم من قرية داود؟ فمال المسيا بيسوع الناصري الذي خرج علينا من الناصرة؟ أمن الناصرة يخرج شيء صالح؟!
سمعان الأبرص: لا أدري كيف نحكم بالموت على إنسان قالوا عنه أنه بار؟
حنان: وهل نسيت يا سمعان أنه كسر السبت مرات ومرات.
قيافا: ألاَّ تدرك يا سمعان معنى إدعائه بأنه ابن الله..؟! إنه يجعل نفسه معادلًا لله. معاذ الله..
سابس: إن كان بارًا يا سمعان أو لم يكن، فهو مستحق كأس الحمام، لأنه لم يحفظ شريعة آبائنا.
سابتل: فلنقاصه ونؤدبه حتى لا يكرز ضدنا في المستقبل.
ريفاز: اجعلوه يعترف بذنبه أولًا ثم عاقبوه.. لنظل نلاحقه حتى نصطاده بكلمة ضد قيصر أو ناموس موسى أو الهيكل، ثم نحكم عليه بالعدل.
رحبعام: لقد ذهبت إليه مع بعض أصدقائي وأحبكنا له الشباك حبكة لا يمكن الخروج منها، وسألناه سؤالًا محددًا حتى إذا أجاب بالإيجاب أو بالنفي سقط في الفخ.. قلنا له " يا معلم نعلم أنك صادق وتُعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس"..
وهزَّ ريفاز عمامته مسرورًا: هو في كلام أحلى من كده يا رحبعام؟ وماذا عن السؤال؟
رحبعام: قلت له " قل لنا ماذا تظن أيجوز أن نُعطي جزية لقيصر أم لا؟ ".
ريفاز: يا له من فخ مُحبَك يا رحبعام.. ومن يفلت منه..؟! لو قال "نعم " لثار الرأي العام ضده، ولو قال "لا " لثبتت عليه تهمة الخيانة للسلطات الرومانية..
رحبعام: ومن الطبيعي أنكم جميعًا تعلمون النتيجة النهائية.
نبراس: لقد نظر إلينا يا ريفاز نظرة الفاهم بما يدور في رؤوسنا وما يعتمل في نفوسنا وقال "لماذا تجربونني يا مرأؤون! أروني معاملة الجزية.. لمن هذه الكتابة؟ أنها لقيصر.. إذًا أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".. لقد أبكمنا بذكائه الحاد، فليُطرَح في هاوية الشقاء.
يوشافاط: ولا ننسى أننا قد أرسلنا من قبل رسلًا ليحضروه، فعادوا إلينا بخفي حنين يخبروننا بأنه لم يتكلم قط إنسان هكذا، فربما يسحر من سنرسلهم للقبض عليه بكلامه الجذاب كما سحر أولئك.. هل تذكرون، عندما قال "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن "؟.. ماذا فعل الشعب؟
حنان: نعم يا يوشافاط.. رفعوا حجارة ليجرموه لأنهم غاروا غيرة الرب، أما هو فقد جاز في وسطهم.. إذًا لنحذر جدًا لئلا يجوز هذه المرة أيضًا.
الأسخريوطي: لكنني سمعته اليوم بأذناي يتحدث عن موته، وأنه ماض كما هو مكتوب عنه، وقال لهم أن واحدًا منكم سيسلمني. إذًا هو يعلم جيدًا أنه ذاهب إلى نهايته المحتومة.
سوباط: أرى أن الشرائع لا تحكم على أحد بالموت بدون فحصه ومحاكمته ومنحه الفرصة الكاملة ليدافع عن نفسه.
نيقوديموس: إن شريعتنا الغراء لا تصرح بالحكم على أحد ما لم تأخذ أقواله وتتأكد من أفعاله أولًا.
روسمتين: وما فائدة الشريعة إن لم تُحفَظ؟
إن الموقف حساس للغاية وفي منتهى التعقيد يحتاج إلى ألف حساب وحساب، حتى لا تحدث مذبحة عظيمة، قد نكون نحن أول ضحاياها.. لا ننسى أن قرار مجمع السنهدريم الأخير الذي اتفقنا عليه بالإجماع هو تأجيل القبض على يسوع حتى تسنح لنا الفرصة بعد العيد.. لا يمكن القبض عليه إلاَّ في غيبة عن الجماهير.
قيافا: حقًا كان هذا قرارنا بالأمس يا روسمتين، ولكن أستجد في الأمر جديد، وهو تعاون يهوذا معنا، ووعده بأن يُسلّمه لنا هذه الليلة بدون ضجة ولا ضحايا.
يهوذا: نعم يا سيدي.. أرى أن الوقت مناسب جدًا لتسليمه للقضاء عليه دون أية ضجة أو جلبة وبدون ضحايا، فبينما الشعب مشغول جدًا اليوم في الاستعداد للعيد، سأضع يسوع بين أيديكم.. أتعهد لكم بذلك.
إناس: لا يجب الحكم أبدًا على إنسان بالموت ما لم نسمع أقواله.
سابتل: أنا مع إناس في رأيه، وأرى أن نلتزم جانب الأمان، ونؤجل القبض عليه لحين انصراف أتباعه بعد الأعياد - خليها تعدي على خير -
حنان: وما أدراكم أن الفريسة ستظل حبيسة الأسوار بعد فترة الأعياد.. ألاَّ يمكنه الهروب إلى صور وصيدا؟!
ميزا: ربما نلقى مقاومة أثناء القبض عليه.. تُرى هل يستخدم سلطانه..؟! تُرى هل يُنزِل نارًا من السماء فتأكل من نرسلهم إليه؟!
قيافا: كفاك تخريفًا يا ميزا.
يوسف الرامي يتساءل متعجبًا: أيهما أسهل.. إقامة ميت بعد أربعة أيام أم إماتة أحياء؟!
ويحتد قيافا: أصرت من أتباعه أيها الرامي؟
يوسف: كنت واقفًا عند قبر لعازر..
حنان: إطمئن يا يوسف إننا سنقتل الأثنين معًا يسوع والعازر. سنرسلهما للموت، وإن كان أحدهما يقدر على القيامة من الموت، فليقم ونحن جميعًا سنؤمن به.
وإحتد يوسف الرامي: سيدي.. إن لم يكن أحد يدافع عن الإنسان البريء فهذا عار علينا.
ميزا: إن كان بارًا فلنسمع منه وإن كان مجرمًا فلنطرده.
هارين: سواء كان بارًا أو لم يكن، فحيث أنه هيج الشعب بكرازته فهو يستحق الموت.
يوطفار: حيث إن هذا الإنسان خدَّاع فليطرد من المدينة، ولا يسمح له بدخول أورشليم قط، ويُحرَم من رؤية هيكلنا العظيم إلى الأبد.
يوشافاط: نعم يا يوطفار، وإن ضُبط في أورشليم ثانية أو داخل الهيكل فليسجن مدى الحياة.
أنولوميه: عجبًا.. لماذا إنتظرنا كل هذه المدة ولم يُحكم عليه بالموت؟
رحبعام: يا سادة إسرائيل.. لنا شريعة وبحسب شريعتنا يجب أن يموت.
قيافا: ألم أقل لكم من قبل أنه الأجدر أن يموت إنسان واحد عوضًا عن الآمة ولا تهلك الأمة بأسرها.
يورام: نعم يا سيدي.. فهو العاصي الذي يستحق الموت حسب الشريعة.
سارباس: انزعوا عنه الحياة.. انزعوه من الدنيا.
يورام: تمهلوا قليلًا.. لو فشلت خطتنا هذه المرة، فربما يُعلن نفسه المسيا الآتي إلى العالم، ويثير الآلاف من أتباعه، وتحتدم المعركة حامية الوطيس، ولاسيما أن المدينة تعج بالغرباء المتعطشين للثورة بسبب وبدون سبب فتزهق أرواح الأبرياء، وتكون الفرصة للرومان ليعملوا سيوفهم في جسد أمتنا.. فلنتعقل يا إخوتي لنتجنب مكامن الخطر.
الأسخريوطي: اطمئنوا يا سادتي.. فإنني حقيقة شعرت أن روحه تجنح هذه الليلة نحو الموت.. فلماذا لا تصدقونني؟!
رحبعام: سيدي قيافا.. وما رأي الوالي في هذا الأمر؟
قيافا: لقد قصدناه من قبل ليقبض عليه فأبى وخذلنا، فهو لا يريد أن يُدخِل نفسه في مشاكل أخرى خاصة بشعبنا، لأن المشكلة القادمة ستكون نهاية ولايته.. لن يتورط في ذبح يسوع كما ذبح هيرودس يوحنا، وشعبنا الجاهل يا قوم يجل يسوع هذا أكثر من يوحنا قدسية.. إنهم يظنون أن الناصري ليست لديه أطماعًا في ملك أرضي.. على كلٍ لابد أن نشرك معنا السلطات الرومانية أولًا: حتى نُوهِم الشعب بأن بيلاطس هو الذي قبض على يسوع، وثانيًا: أننا عاجزين عن قتل الناصري لأن ليس لدينا سلطة لإصدار أحكام الإعدام، وأنني أرى أن ننتهز هذه الفرصة.. آه لو أضعناها، فقد لا نجدها ثانية.

وأخيرًا استقرت الآراء على ذهاب قيافا إلى بيلاطس لاستطلاع رأيه، فإن وعد بتقديم المعونة وتسهيل إجراءات المحاكمة بحيث يرفع الناصري على صليبه قبل غروب شمس الغد فليتم القبض عليه، وإلاَّ فليتم الانتظار إلى فترة ما بعد الأعياد.

والساعة الآن العاشرة مساء، وهوذا قيافا ينطلق كالسهم لا يلوي على شيء.. إلى قلعة أنطونيا، بينما وقف يهوذا يرتعد ولا يعرف لماذا سرت الرعدة في جسده بهذا الشكل، فيبذل قصاري جهده لضبط نفسه من الرعشات الشيطانية التي انتابته، وأخذت نظراته تنتقل بين الخدم الذين يروحون ويجيئون وبعض شيوخ السنهدريم، وكلما نظر إلى حنان يبتسم له الثعلب ابتسامة عريضة، وحضر رئيس حرس الهيكل مع بعض جنوده، وقطع الصمت صوت حنان مجلاجلًا: يا يهوذا يا ابن الأكابر.. أنت أعظم شاهد على ضلالات ذاك الجليلي.. ألم تسمعه وهو يقول قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.. لابد أن تشهد للحق أمام مجمع السنهدريم العظيم.
الأسخريوطي: ليس هذا فقط يا سيدي، إنما قال لنا " أنا في الآب والآب فيَّ " و" أنا والآب واحد ".
وهزَّ حنان رأسه وعبث بلحيته: نعم.. أنت أعظم شاهد في التاريخ يا يهوذا.. ألم أقل لك؟.. بك سنقضي على ضلالة العصر، بل وكل عصر بحسبما أرى يا ابني.
وأحنى يهوذا هامته ملتحفًا بزي الاتضاع، وفي داخله يشعر أنه سمى إلى عنان السماء بفعل كلمات الثناء، وأنه صار بطلًا في عيون الرؤساء.. شعر بالراحة الكاذبة وهو يتحسَّس الفضة في جيبه ثمن المثمن، وكان هناك نوعان من الفضة.. الفضة المسبوكة التي سبكت منذ سمعان المكابي سنة 143 ق.م وتدعى بالشاقل، والفضة الخام التي يتم التعامل بها بالوزن، وتذكَّر يهوذا ما حدث بالأمس إذ وزنوا له الفضة، ولم يدرك أن فعلته الشنعاء هذه قد عاينها زكريا النبي منذ مئات السنين فقال "فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة" (زك 11: 12) ولم يدرك يهوذا أيضًا أن الثلاثين من الفضة هي ثمن عبد إذ نطحه ثور فمات حسب قول الشريعة " إذ نطح الثور عبدًا أو أمة يعطي سيده ثلاثين شاقل والثور يُرجم" (خر 21: 32) وهوذا بنو إسرائيل ينطحون العبد المتألم، ويدفعون فديته ثلاثين من الفضة.
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 02:53 PM   رقم المشاركة : ( 5 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

مشروع المياه النقيَّة

كان بيلاطس البنطي فظًا قاسيًا جشعًا، ولهذا لم يدم السلام بينه وبين اليهود، وبيلاطس هذا هو الوالي الخامس على اليهودية منذ أن أخضعها بومبي للحكم الروماني سنة 63 ق.م وصيرها مستعمرة رومانية، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى، وكان اختيار الوالي يتم غالبًا من رتبة الفرسان، حيث يقتصر عمله على ضبط المقاطعة وحفظها من أعمال الشغب، بالإضافة إلى تحصيل الجزية لصالح الإمبراطورية، وهكذا اُختير بيلاطس الذي انحدر من أسرة محاربة، فخرج للدنيا فارسًا، وانخرط في جماعة الفرسان، وخدم في ألمانيا تحت إشراف "جرمانيكوس"، وعندما انتقل إلى روما التقى بـ"كلوديا بروكلا" حفيدة الإمبراطور "أوغسطس قيصر"، فوقعت في حبه وتزوجت به، وكلوديا هذه ابنة غير شرعية لكلوديا ابنة أغسطس قيصر وزوجة "طيباريوس قيصر"، فكان لزواج بيلاطس من كلوديا الفضل في تعيّنه واليًا على اليهودية والسامرة سنة 26م، وكان رئيسه المباشر هو الحاكم الروماني لسوريا، وحصل بيلاطس على امتياز لم يحصل عليه غيره من الولاة الرومان إذ سُمح له باصطحاب زوجته معه إلى قيصرية، غير أن بيلاطس هذا كانت تنقصه الفطنة والحنكة السياسية.
كان يجلس في هذه الليلة الباردة أمام المدفأة، يتسامر مع زوجته كلوديا صاحبة الفضل في وصوله إلى هذا المنصب.
كلوديا: بيلاطي.. لماذا لم ننزل هذا العام في قصر هيرودس، فإنني كنت أفضل الإقامة فيه عن هذه القلعة الكئيبة التي تموج بالضباط والجنود.
بيلاطس: لقد أردت تقديم خدمة جليلة لهذا الشعب الجاهل، فأحضرت مهندسًا من الإسكندرية وآخر من أنطاكية، لوضع تصميمات لمشروع المياه النقيَّة، لمد أورشليم بكميات وافرة من المياه المتوفرة بالينابيع جنوب المدينة.. بدأ العمال في شق القناة من بركة سلوام إلى داخل المدينة نحو خمسة وعشرين ميلًا، وعقدتُ عدة اجتماعات مع أعضاء السنهدريم للتصرف في التمويل اللازم، ولاسيما أنني أُمهد أيضًا عدة طرق لخدمة المدينة، منها الطريق الساحلي والطريق الآخر الذي يصل بين الأردن وأريحا، وأنشأت عدَّة حمامات في السامرة التي لم يكن بها حمامًا واحدًا، ونظير هذه الأعمال العظيمة كان من المفروض أن يقيم لي هذا الشعب تمثالًا في وسط أورشليم، ولكنهم لم يلقوا بالًا ولم يهتموا بتدبير التمويل اللازم بحجة أن المياه من مطالب الجسد.. فلماذا إذًا الاغتسالات الكثيرة التي يقومون بها..؟! في هيكلهم يا كلودي إناء كبير يضعون فيه المياه اللازمة لتنظيف الذبائح، ولذلك قلت في نفسي مادامت المياه تُستخدم في الهيكل، فعلى الهيكل تحمل عبء التمويل، ولكنهم اسهجنوا قولي هذا.. طلبت منهم قرضًا على أن يتم سداده من ضريبة تُفرض على سكان أورشليم لمدة عام فرفضوا أيضًا.. كان أحد أحبارهم متحمسًا لمشروع القناة فهجم عليه خمسة من الإرهابيين ومزقوا جسده بالسكاكين، ولذلك لم يكن أمامي حل آخر.
كلوديا: وما هو الحل الذي رأيته يا بيلاطس؟
بيلاطس: تتبعت أخبار ضريبة الهيكل التي تفرض على يهود الشتات في آسيا ومصر والفرات، وللأسف فقد وصلت جباية مصر إلى الهيكل دون أن أتمكن من وضع يدي عليها، أما جباية آسيا فقد احتجزتها في قيصرية، وأمرت "ماركيوس" أن يهاجم ضريبة الفرات متى وصلت إلى أورشليم، وبدلًا من إدخالها للهيكل يدخلها إلى هذه القلعة، وأحسن ماركيوس التصرف، إذ أتم هذه المهمة بدون إزهاق روح واحدة، وبهذا حصلنا على المال الوفير مع كثير من الحُلي الذهبية والمجوهرات التي أرسلها يهود الشتات لتزيّين الهيكل.
كلوديا: يا لك من داهية يا بيلاطي!!
بيلاطس: ولكن هؤلاء اليهود الأغبياء لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل أثاروا حشدًا كبيرًا لاسترداد الجباية، ولكنني سبقت وأعددتُ العدة لمثل هذا الموقف، حيث ضاعفتُ الحراسة على هذه القلعة، كما دفعتُ بنحو ألف رجل من رجالي بملابس مدنيَّة يخفون سيوفهم بين طيات ملابسهم، وصاروا يهتفون مع الهاتفين ضدي، وعندما طلَّلت عليهم من البوابة وحاولت أن أُفهمهم أن هذه الأموال ستعود إليهم في شكل خدمات، وإن المياه النقيَّة ستصل إلى عقر مدينتهم لأول مرة. ثم أمرتهم بالانصراف، ازدادوا صراخًا، وراحوا يقذفون القلعة بالأحجار، ويقذفونني بأفظع الشتائم، ويصبون عليَّ اللعنات، ولم يكن هناك مفرًا من المواجهة، فأمرت بدق الطبول وإذ برجالي المندسين بينهم يشهرون سيوفهم وينقضون عليهم، فصُدموا وأصيبوا بذعر كبير، وركضوا يحتمون بالهيكل، فأمرت رجالي بالكف عنهم بعد أن سقط منهم قتلى كثيرون.
كلوديا: يا لك من داهية يا بيلاطي!!
بيلاطس: جاء حنان وقيافا يطلبان مقابلتي، فرفضت لقاءهم لأنهم هم الذين أثاروا هذه الجموع ضدي، وتسببوا في هذه المذبحة، فأرسلوا وفدًا يشكونني إلى القيصر.. أعلنت قانون الطوارئ في أورشليم وحظرت التجول ومنعت الاجتماعات المشبوهة، وعندما قبضنا على أحد شبابهم المتهور، وكان شابًا عنيدًا قوي الحجة جهوري الصوت قد أتى من طرسوس، نصحناه بالبعد عن هذه المهاترات حتى لا يُعرّض نفسه للموت.. قبضنا أيضًا يا كلودي على عدة فرق من الشباب الطائش الذين كتبوا على جدران المنازل والقلعة عبارات مستفزة ضدي وضد القيصر.
ثم وفد الكثير من يهود الجليل إلى أورشليم، وعندما علموا بما كان من أمر الجباية ومصادرتها احتجوا وثاروا ثورة عارمة، وعندما صاروا يهتفون أمام هذه القلعة أرسلت إليهم مُحذّرًا، ولكنهم لم يكفوا عن بذائتهم.. أمرتُ الجنود فأعملوا فيهم السيوف، وعندما هربوا إلى فناء الهيكل كان رجالنا أسبق منهم إذ سلكوا السرداب من القلعة وظهروا في فناء الهيكل.. كان مع الجليليين بعض الحيوانات التي سيقدمونها ذبائح، فاختلطت دمائهم بدماء ذبائحهم.. أما من نجا منهم فقد عاد إلى الجليل في نفس اليوم يخبر ملكهم أنتيباس بما كان، فغضب أنتيباس مما حدث، ولذلك نحن يا كلودي هذا العام في هذه القلعة ولم نذهب لنقيم في قصر هيرودس مثل كل عام، مع أنني عندما علمت أنه حلَّ في أورشليم أرسلت إليه بعض الجنود لحراسة قصره.
كلوديا: بيلاطي.. لماذا لا تحاول أن تكون سياسيًا أكثر من أن تكون عسكريًا حتى تتجنب شكاوي اليهود؟
بيلاطس: إن هذا الشعب يجهل ما هو لخيره يا كلودي.. لقد بلغ سكان المدينة نحو خمسين ألفًا، وفي الأعياد يصل أعدادهم إلى مئات الألوف، فمن أين لهم بالمياه التي تكفيهم ليشربوا ويغتسلوا.. إنني فكرت في مصلحتهم، واعتبرتُ مشروع المياه هذا مشروعًا قوميًا يجب أن يُموّله الشعب الذي يستفيد منه، ولذلك فعلتُ ما فعلتُ.
كلوديا: لكنك يا بيلاطي تفرح بإذلالهم وكسر أنوفهم.. ألاَّ تذكر مشكلة البيارق؟ وكيف حاصرونا في قيصرية لعدَّة أيام؟
وهنا أقبل أحد الحراس يخبر الوالي بأن قيافا رئيس كهنة اليهود في انتظاره أسفل القلعة..
بيلاطس: وماذا يريد في هذه الساعة من الليل..؟! دعه ينتظر..
ومدَّ بيلاطس ساقيه وأسند رأسه للخلف وأستمر في حديثه مع زوجته.. أوه.. ماذا كنت تقولين يا كلودي؟.. مشكلة البيارق..
إنني كنت سياسيًا بارعًا فيها، وأنتِ تعلمين أنني أصدرت أوامري بدخول البيارق وإقامتها على أسوار القلعة ليلًا، وفعلًا دخل الجنود تحت ستار الليل يحملون الألوية التي ترتفع فوقها صور ثلاثة من القياصرة وهم طيباريوس قيصر، وجدكِ أوغسطس قيصر ويوليوس قيصر، ووضعوها فوق أسوار القلعة، وفي الشرفات، ومن الطبيعي أن تُرى من الهيكل.. كان ذلك عن قصد حتى يرونها ولا ينسون أنهم تحت الحكم الروماني العظيم، وعليهم أن يخضعوا لسطوة القيصر وممثله الشرعي الذي هو أنا، ويكفون عن عنادهم وهياجهم وثوراتهم.. لقد قصدت كسر أنوفهم التي طالت وشمخت..
ومع بزوغ نور الصباح يا كلودي كان أحد كهنتهم يستعد لتقديم ذبيحة الصباح، وإذ به يلمح تلك البيارق فصرخ صرخة مدوية كأن خنجرًا اخترق قلبه، ولم يمض وقتًا طويلًا حتى كان قيافا يدق باب القلعة مطالبًا ماركيوس بإنزال البيارق وإبعادها عن مرمى البصر.. أجابه ماركيوس بأدب جم موضحًا له أن الأمر ليس في سلطته إنما في سلطة الوالي ذاته، فرد عليه قيافا بحدة، وأعلمه أن مجلس السنهدريم عقد جلسة طارئة وقرَّر رفع الأمر إلى القيصر رأسًا بسبب هذه الاستفزازات.
وفي ساعات قليلة أحتشد الآلاف من رجال اليهود يحملون العصي والأحجار، يعلنون نقمتهم ليس على السلطات الرومانية فحسب، بل وعلى رؤساء كهنتهم، متهمين إياهم بالتسيب والتساهل معنا، فتصدى لهم قيافا وأعلمهم أنهم سيرسلون للوالي احتجاجًا شديد اللهجة، وسيرفعون للقيصر تقريرًا يطالبون فيه بتنحيتي، وطلب منهم ترشيح من يمثلهم لمرافقة وفد السنهدريم إلى قيصرية، فاستطاع قيافا بخبث أن يوجه ثورة الشعب ضدي وينجو هو وأقاربه..
وجاءوا إلى قيصرية.. مسيرة تعد بالآلاف، حتى سدُّوا منافذ القصر والشوارع المؤدية إليه كما أبصرتِ بعينيكِ يا كلودي، وشعرت أن أقل تحرش بهم كفيل بوقوع مذبحة رهيبة.. التقى بي حنان وقيافا واليعازر بن حنان يلتمسون الخروج من المأزق حرصًا على مراكزهم وسط الشعب الهائج إلى الدرجة التي يستحيل ضبطها، وأكدوا القول بأن قيصر روما يتفهم أمورهم الدينيَّة، وقد أوصاني بعدم إستفزاز الشعب في عقيدته.. طلبت من قيافا أن يصرف الشعب لحين التصرف في الأمر، ولكنه قال إن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يهدئ من روع الشعب على أمل إصلاح الأوضاع سريعًا.. ظلت الجماهير قبالة القصر كما رأيت يا كلودي عدة أيام، وهم يزدادون إصرارًا وصلابة، فلو أنني أذعنت لمطالبهم وأمرت رجالي بإنزال البيارق لصرتُ لقمة سائغة في أفواههم، ولاتهموني بالضعف والجبن، ولو كنت قد استخدمت القوة فإن الأمر لن يصل هذه المرة إلى حد إلقاء اللوم عليَّ من قبل القيصر، بل قد يصل الأمر إلى إقالتي من منصبي.
وعندما حاولت أن أتفاوض معهم لم يكفوا عن الصراخ وصاروا مثل مجانين، بينما أحاط بي كهنتهم كحزام أمان لي.. أعطيت الإشارة لضباطي ليغادروا المكان مع قواتهم ليعلموا أنه ليس في نيتي استخدام العنف ضدهم، فهدأت ثورتهم بعض الشيء.. وتحدثت إليهم موضحًا بأن القيصر لا يرغب في التدخل في شئونهم الدينية، وأنني أنا شخصيًا أحترم مشاعرهم، وإن رفع البيارق مجرد إجراءًا إداريًا كما هو متبع في كل مكان يخضع لسلطة قيصر، وطالبتهم بالانصراف، فعادوا إلى جنونهم وقذفوني بأبذأ السباب والشتائم، ولم أتمالك أعصابي، وكان لابد من الرد السريع والرادع، فأعطيت الإشارة لجنودي فانطلقوا يشهرون أسلحتهم وانقضوا على الجموع، ولكن الأمر الذي أثار ذهول الجنود أن واحدًا من اليهود لم يتحرك من مكانه، وأيضًا لم يظهروا أي نوع من المقاومة.. لم يرتعد أحدهم من بريق السيوف، بل انحنى أحد قادتهم أمام أحد الجنود يطالبه بأن يذبحه ذبح الشاه صارخا " الموت أهون علينا من رؤية هذه البيارق تشرف على الهيكل " وأصاب موقفهم هذا جنودنا بالشلل التام، وعندئذ أسرعت بالتدخل.. أشرت لرؤساء كهنتهم أن يتبعوني، وأبلغتهم كم كان تأثري لهذا المشهد الرائع.. شعب يموت عن عقيدته.. فشكرني رؤساء الكهنة، وأنتِ تعلمين يا كلودي نهاية القصة الأليمة.. أصدرت أوامري بإنزال البيارق، ومع هذا فإن هيرودس أنتيباس قد أستغل هذه الفرصة وأبلغ القيصر بما كان مع شيء من المبالغة والتضخيم، وقد أرسل إليَّ القيصر يشكرني، فهو يعرف كفائتي في التغلب على مثل هذه المشاكل، ومع ذلك فإنه وبخني على إثارة مشكلة بلا داعٍ في منطقة بهذه الحساسية من العالم..
كلوديا: أتمنى لك يا بيلاطي حظًا سعيدًا.. لتعطيك الآلهة حكمة وحنكة، ولا تنسَ الدروس الثلاث: جباية الهيكل، والبيارق، ومشكلة اللوحات المنذورة التي أقمتها في قصر هيرودس وهو على مقربة من هيكلهم، فلم يطيقوا أن يروا التقدمات تقدم للآلهة الرومانية بجوار معبدهم، مما دفعهم للشكوى للإمبراطور طيباريوس قيصر..
بيلاطس: نعم يا كلودي.. لن أتغافل توبيخ قيصر، وأعلم تمامًا أن الحادثة الرابعة مع هذا الشعب اليهودي الملعون ستكون بمثابة النهاية لأيامي في منصبي هذا.
كلوديا: لقد بذلتُ مجهودًا كبيرًا في تسوية المشاكل السابقة، والفضل كله يرجع إلى سيدات روما من أسرتي الإمبراطورية.
بيلاطس: أعلم هذا يا كلودي.. لقد قررت الحفاظ على منصبي، ولن أهتم بأحد قط أكثر من نفسي، حتى لو كان القيصر نفسه..
وهكذا تغافل بيلاطسقيافا الذي كان ينتظره عند باب القلعة. أما قيافا الذي اعتراه القلق فقد أخذ يصرف وقته في التأمل في هذه القلعة تارة، وفي الهيكل تارة أخرى، هذه القلعة الجاثمة على صدر الهيكل، والتي بناها هيرودس الكبير -محل قلعة حنانئيل التي عاصرت أرميا النبي- بطول مائتي متر وعرض مائة متر وارتفاع يزيد عن خمسة وعشرين مترًا، وأسماها باسم صديقه الروماني "مارك أنطوني" ولذلك عُرفت باسم "قلعة أنطونيا" وينحدر من هذه القلعة الملعونة سردابًا يصل إلى رواق الأمم بالهيكل، ففي حالات اندلاع الشغب يندفع الجنود الرومان في ثوان إلى فناء الهيكل، وبالقلعة أماكن تكفي لإقامة كتيبة رومانية كاملة بالدور الأرضي، بينما يقيم بالدور العلوي الوالي، حيث الصالات والأروقة المتسعة، أما عن أسوأ مكان في القلعة فهو السجن الصخري الرهيب الكامن مثل الجب أسفل القلعة.
ولكم يشق على الإنسان اليهودي الاقتراب من هذه الأماكن، أما دخولها فممنوع عليه منعًا باتًا لكي لا يتنجس، حتى أن بعض المجرمين والقتلة من اليهود الذين يقودهم حظهم العثر إلى سجن القلعة، لا يشغلهم ما سيلاقونه من أهوال بقدر ما يشغلهم الاشمئزاز من دخول هذا المكان النجس، وكأن جرائمهم الشنيعة لا تدنسهم بقدر ما تدنسهم هذه الأماكن التي يسكنها الأمم الغلف..
أما الهيكل فيظهر في هذه الأيام المقدَّسة مزينًا بأبهى صوُّره، فأضواء المصابيح الكثيرة التي تضئ رواق سليمان يَلمع ضوءها بالخارج، والنقش الضخم لعنقود العنب الذهبي على جدار الهيكل الخارجي ينكسر عليه ضوء القمر الفضي الهادي فتراه غاية في الروعة، ولكن توتر قيافا الزائد يمنعه من التمتع بهذا المنظر الرائع.. كيف يتغافله الوالي وهو رئيس الكهنة المبجل، ويتباطئ عليه إلى هذه الدرجة؟! ولكن هذا هو بيلاطس، الذي لن يتغير سلوكه حتى يُقال من منصبه.. إنه يتحيَّن الفرصة لإذلال اليهود ورئيس كهنتهم، واضطر قيافا إلى دفع المزيد للحارس ليعود إلى بيلاطس ثانية.
وجاء الحارس إلى بيلاطس الذي كان منهمكًا في الحديث مع زوجته كلوديا، يخبره بأن رئيس كهنة اليهود مازال مرابضًا بباب القلعة، ويود لقائه في أمر عاجل ومُلح، فنهض بيلاطس وهو يقول: ماذا يظن قيافا؟! وهل الوالي الروماني بمسئولياته الجسيمة وانشغالاته الكثيرة رهن إشارته، يطلبه في أي وقت يشأ فيجده تحت تصرفه؟! وهبط بيلاطس درجات السلالم الرخامية إلى مدخل القلعة حيث يقف رئيس كهنة اليهود، الذي ما أن رأى طلعة بيلاطس حتى رسم ابتسامة صفراء عريضة على شفتيه، قابلها بيلاطس بمثيلتها.
بيلاطس: ما الأخبار يا رئيس؟

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
قيافا: لا أشك يا سيدي إنك تتبعت أخبار يسوع الناصري، ودخوله إلى أورشليم يوم الأحد الماضي، وكأنه قيصر روما العظيم، ولاشك أنك تعلم جيدًا أنه أصبح مصدر الخطر الوحيد في هذه المدينة الآمنة، فقد يشعل نيران الثورة ضد كل شيء، ضدكم وضدنا، ولذلك رجوناك أن تقبض عليه وتحاكمه، ولكنك تركت الأمر لنا، والليلة نحن بصدد القبض عليه ومحاكمته أمام مجمع السنهدريم الموقر.. لقد رصدت عيوننا يسوع في أحد منازل أورشليم، وهو في حالة نفسية متردية كما أخبرنا بذلك تلميذه يهوذا، وهو الآن في معزل عن الآلاف من أتباعه، ولذلك فنحن نضمن القبض عليه في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، دون أدنى خسائر في الأرواح.
بيلاطس: وما هو العائق إذًا يا رئيس؟
قيافا: أولًا نلتمس من سماحتك مساعدتنا في هذا الأمر، بإرسال أحد الضباط مع جنوده ليساعدنا في القبض على إنسان مارق خارج عن القانون.
بيلاطس: ليكن لك.. وما هو الطلب الآخر؟
قيافا: بعد انتهاء محاكمته بمعرفة مجلسنا الموقر، نلتمس من سماحتكم التغاضي عن الإجراءات الإدارية، فلا يوجد وقت لتقديم اسمه وجريمته للحصول على تصديقكم أولًا قبل عرضه عليكم، فهذا الأمر يحتاج لعدَّة أيام، والوقت الآن مُقصّر والأيام شريرة، لذلك نأمل أن تعفينا من هذه الإجراءات الإدارية، والسماح بعرضه مباشرة عليكم.
تبسَّم بيلاطس ابتسامة حقيقية إذ شعر بسلطانه على هذا الشعب العنيد، وداعب قيافا قائلًا: ولكن كيف تقول عن هذه الأيام المقدَّسة لديكم أنها أيام شريرة؟
قيافا: طالما يسوع على قيد الحياة، فأنه كفيل بتحويل أيامنا المقدَّسة إلى أيام شريرة.
بيلاطس: اطمئن يا قيافا أن سيف العدالة الرومانية سيأخذ مجراه.
قيافا: هل يمكنني الحصول على وعد منكم للاهتمام بالأمر، وإنهاء المحاكمة في أقصر وقت ممكن، قبل فترة الأعياد؟.. إننا لا نقدر أن نتنبأ بما يمكن حدوثه؟ فقد يشعل أتباعه ثورة عارمة تأتي على الأخضر واليابس.. علينا وعليكم..
بيلاطس: تقصد علينا وعليكم.. الأخضر واليابس..
قيافا: المحصلة واحدة.
بيلاطس: اطمئن يا قيافا فإن العدالة الرومانية ستأخذ مجراها.
قيافا: معذرة سيدي، عند حضورنا صباح الغد لن نتمكن من دخول دار الولاية بسبب استعدادات الفصح، فنلتمس من سماحتكم الخروج إلينا.
وهز بيلاطس رأسه مبديًا موافقته على مضض..
وقفل قيافا عائدًا إلى من ينتظرونه على أحر من الجمر، وعاد بيلاطس إلى المدفأة حيث زوجته كلوديا، وهي كأي امرأة يدفعها الفضول لكشف المستور، ظلت في صمتها تنتظر أن يخبرها بيلاطسها بما كان، وتجاهل بيلاطس الأمر، وعاد يُكمِل حديثه الذي قطعه قبل لقائه بقيافا.. أما كلوديا فدفعها فضولها للسؤال المباشر: بيلاطي.. تُرى لماذا جاء قيافا في هذه الساعة من الليل؟!
بيلاطس: أنت تعرفين يا كلودي موضوع يسوع الذي يدعونه نبي ناصرة الجليل.
وتبسَّمت كلوديا وكأنها تسمع أخبارًا سارة، وقالت: لقد أقام العازر شقيق مريم ومرثا بعد موته بأربعة أيام.. وبعد أن كان قد أنتن..!! تُرى ابن مَن من الآلهة هذا يا بيلاطي؟
بيلاطس: أنهم يريدون محاكمته.
كلوديا: وأي شر عمل..؟! ما هي الشكاية التي يقدمونها عليه؟.. أيحاكمونه لأجل إحساناته معهم ومعجزاته التي بلا عدد، وقد عمت الربوع؟!!
بيلاطس: هذا هو الشعب الجاحد.. لا تفهمين كيف يفكر!! ولكن يسوع الذي كشف عورة رؤساء كهنتهم وبقية القيادات المتعصبة لن يفلت من براثنهم.
كلوديا: تُرى الذي شفى المرضى بكلمة من فيه، وأقام الموتى، يعجز عن حماية نفسه من هؤلاء..؟! وهل ستوافقهم على شرهم يا بيلاطي..؟! وهل ستيسر لهم ما تصبوا إليه نفوسهم الحاقدة؟!!
بيلاطس: كلاَّ يا زوجتي العزيزة كلودي.. سأبذل قصارى جهدي حتى تأخذ العدالة الرومانية مجراها، على أن لا تؤثر هذه المشكلة على منصبي ومستقبلي.
كلوديا: أنني أذكر يوم رأيته مع الكساندر ضابط المخابرات ورجلك الأول.. " لقد فوجئنا بحشد كبير من الناس يتدافعون أمامنا ويتدفقون في اتجاه البحر.. ولم يلحظ وجودنا أحد منهم.. وكان هؤلاء يهودًا من كل نوع ومعظمهم من الرجال الأقوياء المخلصين، كما كان بينهم بعض المرضى والمقعدين، منهم من كان يزحف ومنهم من حمله أصدقاءه المقربين، وكلهم كانوا يشيرون إلى قارب يسير بمحاذاة الشاطئ، في البداية ظننتهم غاضبين لكن الكساندر أخبرني أنهم ينادون على يسوع الذي كان هناك في القارب، ويرجونه أن يأتي ويُعلّمهم، وكانوا يتكلمون بالآرامية التي لا أعرفها.. وعندما رسا القارب عند البيت الريفي رأيت الناس يندفعون بسرعة نحو الشاطئ، وأستأذن الكساندر للذهاب وراءهم، فطلبت منه أن يصحبني فذهبنا معًا. لا تخف فإن معنا حراسة كافية. بعد نصف ساعة وجدنا الشاطئ يموج بالجماهير، وكان يسوع واقفًا على ربوة عالية يعظهم ويُعلّمهم، وفي المؤخرة كانت هناك جماعة من وجهاء أورشليم، عندما رآهم الكساندر همس في أذني بأنهم جواسيس من أورشليم جاءوا يراقبون ويسمعون، ثم تركني ومضى ليتحدث معهم.
لقد رأيت الواعظ بوضوح، وهو شخص ملئ بالثقة في نفسه مترفع ومخيف. في البداية كان الناس في هرج ومرج، كما كانت هناك مقاطعة لكلامه ارتفعت بين الصفوف الخلفية التي لم تكن سامعة، ولكنه أسكتهم ببضع كلمات، وكأنه قائد يلقي الأوامر على رجاله فينفذون. وكان كلامه يدل على أنه واثق من أن الجميع سيذعنون له في كل ما يقول.
ثم بدأ حديثه هادئًا، وشيئًا فشيئًا رفع صوته حتى صار واضحًا ومسموعًا عند الجميع.. وقليلًا قليلًا بدأ صوته يخفت حتى صمت في خشوع وكأنه لا يشعر بهذا الحشد الهائل الملتف حوله. فسرت همهمة بين الجماهير لكن في غير غضب وحاولوا التقدم نحوه إلى الأمام، وكان الكساندر شاخصًا إليه لا يقدر أن يحول بصره عنه لدرجة أنه لم ينتبه إلى أسئلتي التي كنت أوجهها إليه.. ثم ألتفت إليَّ وقال أنه يجب أن يوافيكَ بتقرير.
وفجأة حدث شيء غريب إذ رفع يسوع يده وقال شيئًا بصوت عال، فتدافع الجميع نحوه ثم جلسوا كلهم على العشب في حلقة كبيرة من حوله فيما عدا أولئك الرجال الجواسيس - أنهم لم يتحركوا من أماكنهم وظلوا واقفين، وأنا واثقة من أنه سبق لي رؤية بعضهم يذهبون إلى السنهدريم.
بعد ذلك نادى يسوع على بعض الأشخاص الواقفين قريبًا معه فأحضروا له خبزًا كسره إلى كِسر.. ثم أعطى الكِسر لهؤلاء الرجال وهم بدورهم راحوا يوزعون منها على الناس الذين راحوا يأكلون، بينما كان الواعظ يواصل الحديث، وكم تمنيت لو كنت أستطيع أن أفهم ما يقول.. وعندما لاحظ الناس أنه على وشك ترك المكان هاجوا وماجوا والتفوا حوله. وكان بعضهم يحملون في أيديهم النبابيت والسكاكين والعصي، وراح بعضهم يصيح مهددًا، والبعض الآخر يبكي متنهدًا، بينما سقط كثيرون عند قدميه.. وفي تلك اللحظة لم يكن الكساندر معي لأنه في شبه غيبوبة وسمعته يُردّد الكلمات {ملك.. ملك إسرائيل.. ملك اليهود. المسيا} ولا أعرف ما تعنيه هذه الكلمة الأخيرة (المسيا) لكنك تعرف معناها بلا شك..
وقد استطعت أن أُلاحظ أن يسوع كان يَرُدَ الجماهير عن نفسه ولا يصغى إلى أقوالهم، ثم أبعدهم عنه ببعض الكلمات والإشارات وأنا واثقة من أنه كان يوضح لهم أنهم قد إرتكبوا خطأً جسيمًا فيما فعلوا. أنه دائمًا عند رأيه.. فأقام الراكعين عند قدميه وألزم الآخرين بإنزال أسلحتهم. وكان في ذلك اللحظة جريئًا وحاسمًا. ثم أخذ طريقه نحو البحر وحاول بعضهم منعه من الرحيل فلم يفلحوا، ولهذا بدت على وجوههم إمارات الخيبة والفشل، وعندما قلت لألكساندر أنه غضب عليهم لأنهم نادوا به ملكًا عليهم، أجابني أنه رفض أن يملك عليهم لعلمه أن هذا سيكون بداية النهاية له.
قبل أن يصعد يسوع أسرع إليه رجال أورشليم وتحدثوا معه حديثًا قصيرًا.. وأعتقد أن هؤلاء كانوا متحيرين وربما خائفين أيضًا، أما هو فلم يظهر عليه أي أثر للخوف، فقد كان يتحدث كمن عنده الاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات والوقوف حتى في وجه العالم بأسره.. وقد علمت أنهم كانوا يتوعدون يسوع لأن عيونهم كانت مثبتة عليه وهو في القارب.. "(1).
وكان بيلاطس ينصت لزوجته باهتمام وهو يتصفح ملفًا ضخمًا بين يديه ثم أخرج إحدى أوراقه وقال: هذا هو التقرير الذي قدمه لي الكساندر، وقرأ منه " الأمر في الجليل متوقف على كلمة واحدة منه لكنه لا يقولها، والجميع هنا في حيرة من أمره حتى وهم منجذبون إليه. لقد شفى مرضى كثيرين من حالات يُصعب البت في صحتها، وكانوا الناس من حوله كالطين في يد الفخاري، لا أحد يعترض أو يعارض. لكن حدثت مصادمات بينه وبين كل من الكتبة والكهنة. فهو يهاجمهم ويهاجم ناموسهم (يقصد تقليداتهم) بعنف شديد، لقد كان مرعبًا ومسهبًا في أقواله ضدهم، وبهذا يهدم كل ما للكهنة من سلطان وتسلط على شعب اليهود، ولاشك في أن هذا سوف يثير حفيظتهم عليه، لأنهم لن يغفروا له هذا وسيقتلونه عندما يرون أن الجماهير قد بدأت تنصرف عنه، وتوجد دلائل كثيرة تشير إلى أن الناس قد بدأوا فعلًا ينقلبون عليه لأنه خيب آمالهم فيه وصدَّهم بشدة عندما ظنوه ملكهم الجديد ومخلصهم المنتظر، وعندما رفض أن يملك عليهم كطلبهم وتركهم ومضى عبر البحر راحوا يشيعونه بنظرات ملؤها السخط والغضب.. أنه يهاجم السنهدريم "(2).
كلوديا: والآن جاء قيافا ليضع تقرير الكساندر موضع التنفيذ.
بيلاطس: وهذا ما علينا مواجهته غدًا يا كلودي..
وبعد إنتهاء الجلسة أوت كلوديا إلى فراشها، وصورة يسوع رجل الفضيلة والقوة لا تفارق مخيلتها.. لماذا يحتج عليه بنو شعبه ويريدون أن يودعونه الموت؟! وظلت تذكر ما سمعته بالأكثر من يونا زوجة خوري وكيل هيرودس التي كانت تَّتبع خطوات يسوع.. أنه يُجسّم الفضيلة في أسمى صورها.. فلماذا يريدون أن يذبحوا الفضيلة؟!!
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 03:11 PM   رقم المشاركة : ( 6 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

الفصل الرابع: سر التقوى

عودة إلى العلية.. فبعد أن فارق يهوذا الخائن جماعة القديسين واختفت رائحة الخيانة تألق وجه يسوع بنور سمائي وقال: الآن تمجَّد ابن الإنسان وتمجَّد الله فيه.. إن كان الله قد تمجَّد فيه فإن الله سيمجده في ذاته ويمجده سريعًا. يا ولادي أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد..
وأمسك المعلم برغيف من الخبز، ووضعه على راحة يده، ورفع عيناه نحو السماء، وبارك وشكر وقسم وأعطى التلاميذ الأطهار سر التقوى قائلًا: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور عنكم يعطى لمغفرة الخطايا.
فأخذ التلاميذ وأكلوا وهم في حالة تأمل وانسكاب، وهمس متَّى في أذن فيلبس: لنحذر يا أخي لئلا يُجرّبنا الشيطان قائلًا أن هذا ليس بجسده، فمادام يسوع قال هذا فهو هكذا..
ثم أخذ المعلم كأس عصير الكرمة ورفع عينيه نحو السماء وشكر وبارك وأعطى تلاميذه الأطهار قائلًا: خذوا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يسفك عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا..
فتناول التلاميذ الكأس وأخذوا يرتشفون منها واحدًا تلو الآخر، وهمس فيلبس في إذن متى قائلًا: لنحذر يا أخي لئلا يُجرّبنا الشيطان قائلًا هذا ليس بدمه، فما دام يسوع قال هذا فهو هكذا.
وتساءل متى في نفسه: ما علاقة ما يحدث الآن بقول أشعياء النبي " من أجل أنه سكب للموت نفسه" (أش 53: 12)؟! ثم إن النفس في الدم هكذا قال الناموس " نفس الجسد في الدم" (لا 17: 11)، فكيف نشرب الدم؟!
ثم التفت يسوع إلى تلاميذه وأمرهم قائلًا: اصنعوا هذا لذكري {وفي الأصل اليوناني للذكرى " أنا منسيس " ليس كذكرى لأمر غائب بل كذكرى حاضرة وفعالة، فلا يتذكر التلاميذ أو خلفاؤهم ما فعله يسوع كأمر مضى وانتهى، بل كحقيقة حاضرة وفعالة}.
وتذكَّر متى العهد الجديد الذي تحدث عنه أرميا النبي " ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب" (أر 3: 31، 32).

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
وهمس يوحنا لبرثلماوس: أتذكر يا أخي قول يسوع للجموع في كفر ناحوم " أنا هو خبز الحياة.. من يقبل إليَّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا.. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.. إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم.. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه ".
قال برثلماوس: نعم يا يوحنا أذكر ذلك اليوم، ويومئذ ارتد كثير من التلاميذ، فقال لنا المعلم: ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا، فقال بطرس: إلى أين نمضي يا رب وكلام الحياة الأبدية عندك.
وسأل توما يعقوب: قل لي يا يعقوب. إن كان الذي أكلناه جسد يسوع والذي شربناه دمه، فكيف يأكل هو جسده ويشرب دمه؟
يعقوب: لقد أكل المعلم خبزًا عاديًا، ثم قال لنا بعد هذا " خذوا كلوا هذا هو جسدي "، ففي هذه اللحظة صار الخبز جسدًا له، وهكذا مع عصير الكرمة يا توما، ولا تنسى يا توما أنه مادام يسوع قال هذا فلابد أن يكون هكذا.
ولم يدرك أحد من التلاميذ أن يسوع يكسر جسده بيده الآن قبل أن يكسره الرومان بالصليب غدًا، ولم يدرك التلاميذ أنهم بهذا الطقس قد أقاموا أول قداس في العالم كله في أول كنيسة في العالم أجمع، ولم يدرك أحد منهم أيضًا أنهم في هذه اللحظات يختمون العهد القديم بعصر الآباء وعصر الناموس، وأنهم يقفون على أعتاب العهد الجديد عهد النعمة والحرية ومجد أولاد الله.. " كان يسوع، في حب سماوي عجيب، يقدم جسده المكسور ودمه المسفوك لأحبائه. إنها ساعات قليلة، ويكسر جسده.. دقائق ويُسفك دمه.. لكنه "مقدمًا" وهب ذاته مؤكدًا أنها ذبيحة حب لا نهائي.. ما أروع يسوع وهو ممسك بالكأس يقدمها بكل حب وسرور لأحبائه.. كانت الشموع تضئ العلية وإذا بوجه يسوع ينعكس على وجوه التلاميذ، وإذا بالكأس ترتسم في كل مكان..
في صمت وخشوع كان التلاميذ يحدقون في سيدهم وقد تسمرت عيونهم عليه، وأخذوا يتناولون الخبز ويشربون من الكأس وهم في مزيج من الرهبة والذهول، كانت هناك تفاعلات خفية تجري في أعماقهم، وتساؤلات كثيرة تخطر على عقولهم، لكنهم فوق كل شيء، كانوا يشعرون وكأنهم يُحلّقون في أجواء سماوية عليا، فهاهم يشاهدون أشياء لم ترها عين ويسمعون كلمات لا يمكن أن تخطر على قلب بشر" (3)
وفي نهاية التناول سبَّحت الجماعة بالمزامير.. كل هذه الآلام لم تمنعهم من التسبيح..!! سبحوا في خشوع وتأثر بالغ، وهكذا ستفعل جماعة يسوع من جيل إلى جيل إذ تُحوّل العذابات والآلامات إلى تسابيح وألحان تشفي النفس العليلة.
وبعد أن قدم يسوع جسده ودمه لتلاميذه الأطهار أتجه إليهم بالحديث الوداعييطمئنهم ويشجعهم قبيل هبوب العاصفة العاتية: لا أترككم يتامى.. إني آتي إليكم.. سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب أنتم تؤمنون بالله فآمنوا به.. أنا أمضي لأعدَّ لكم مكانًا. وإن مضيتُ وأعدَّدتُ لكم مكانًا آتي وآخذكم إليَّ حتى حيث أكون تكونون أنتم أيضًا وتعلمون حيث أن أذهب وتعلمون الطريق.
توما: يا سيد لسنا نعلم أين تذهب؟ فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟
يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.
فيلبس: يا سيد أرنا الآب وكفانا.
يسوع: أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس. الذي رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت أرنا الآب. ألست تؤمن إني أنا في الآب والآب فيَّ..
وأصغى سطانئيل لهذا الحديث فأرتعب هو وشياطينه: تُرى من يكون هذا..؟! هل يمكن أن يكون هو كلمة الله..؟! من هو هذا الذي في الآب والآب فيه إلاَّ الابن الأزلي بأزلية الآب..؟! ومن هو صورة الآب والذي يراه يرى الآب سوى الأمونوجينيس..؟! ولو هو كلمة الله هل يمكن أن ينحني ويغسل الأقدام؟..!! هذا مستحيل.. إني لا أفهم، بل أكاد أن أجن.. وصرخ سطانئيل صرخة مدوية: أكاد أن أجن يا يسوع..
بينما يسوع يُكمل حديثه: بعد قليل لا يراني العالم أيضًا وأما أنتم فترونني. إني أنا حي فأنتم ستحيون.
يهوذا (ليس الإسخريوطي): يا سيد ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر لنا ذاتك وليس للعالم؟
يسوع: بعد قليل لا تبصرونني. ثم بعد قليل أيضًا ترونني لأني ذاهب إلى الآب.
فقال التلاميذ بعضهم لبعض: ما هو هذا الذي يقوله لنا؟ بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني، ولأني ذاهب إلى الآب.. ما هو هذا القليل الذي يقول عنه؟.. لسنا نعلم بماذا يتكلم.
يسوع: أعن هذا تتساءلون فيما بينكم، لأني قلت بعد قليل لا تبصروني ثم بعد قليل أيضًا ترونني. الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوَّل إلى فرح. المرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل فلا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح لأنه قد وُلِد إنسان في العالم. فأنتم كذلك عندكم الآن حزن، ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينتزع أحد فرحكم منكم.. قد كلمتكم بهذا بأمثال ولكن يأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضًا بأمثال.
فيلبس: هوذا الآن تتكلم علانية.
نثنائيل: لستَ تقول مثلًا واحدًا.
يعقوب: الآن نعلم أنك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد.
توما: لهذا نؤمن أنك من عند الآب خرجت.
يسوع: الآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي.. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم..
ثم أخذ يسوع يجذب الأنظار نحو المحبة: وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا.. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض.. هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم. ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أُوصيكم به.. بهذا أوصيكم أن تحبُّوا بعضكم بعضًا.
ثم أخذ يكشف لهم عن الاضطهادات التي ستلاقيهم قائلًا: إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم.. سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة فيها يظن أن كل من يقتلكم أنه يُقدِم خدمة لله.. الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح.. هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي.
تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء مخاطبًا الآب السماوي: أيها الآب قد أتت الساعة. مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا.. أنا مجَّدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته..
ثم أخذ يطلب من أجل خواصه الأطهار: من أجلهم أنا أسأل. لست أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتني لأنهم لكَ.. وكل ما هو لي فهو لكَ، وما هو لك فهو لي.. أيها الآب القدوس أحفظهم في اسمك.. حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك. الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلاَّ ابن الهلاك.. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.. قدّسهم في حقك. كلامك هو حق، ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم.. أيها الآب البار العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أرسلتني وعرَّفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 03:13 PM   رقم المشاركة : ( 7 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

الفصل الخامس: صراع البستان

وبعد أن ختم يسوع صلاته ألتفت إلى تلاميذه في عزيمة وإصرار قائلًا لهم: ليفهم العالم أنني أحبُ الآب وكما أوصاني الآب هكذا أفعل. قوموا ننطلق من ههنا.
وترك يسوع العلية، يتبعه تلاميذه الأمناء وهم لا يعلمون إلى أي مكان يتجهون، ولكن في حب ورضى يخضعون، وبلغت الساعة نحو الحادية عشر والنصف مساءًا، ورغم توافد مئات الألوف إلى أورشليم للاحتفال بالأعياد إلاَّ أن المدينة ظهرت في تلك الساعة وكأنها مدينة أشباح، إذ خلد الجميع للنوم في تلك الليلة القارصة البرودة، ماخلا أعدادًا صغيرةً متناثرةً جلسوا يصطلون ويتسامرون، وكل ما يشغلهم موعد ظهور المسيا الذي بات قريبًا على الأبواب، ليقيم مملكة إسرائيل.. مملكة المجد والفخار، وبينما أقفرت الشوارع من العابرين فيها لم تعد تسمع سوى أصوات فرقعات نعال جنود الحراسة، وأما الهيكل فهو يقظ بحراسه الذي ينتشرون في أربعة وعشرين موقعًا بجوار الأبواب والأفنية، جميعهم من الكهنة واللاويين.. كل نقطة حراسة بها عشرة لاويين مع كاهن واحد، وعندما يمر قائد الحرس يسمع صوت جندي الحراسة وهو يؤدي له التحية صارخًا " يا قائد حرس الهيكل. سلام لك".
وسارت جماعة القديسين يتقدمها يسوع في سكون الليل الرهيب، وإذ أدرك التلاميذ أن العاصفة الشيطانية تدق الأبواب خافوا وخيّم الحزن الأسود عليهم، فلم يعد هناك ولا همسات الرجال معًا.. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.. هوذا موكب القائد الذي أوشك على اقتحام أرض المعركة، وبقدر ما كان حزن وخوف التلاميذ عظيمًا، كانت جيوش الشياطين تعج بالبهجة والسرور، هؤلاء الذين تجمعوا بالآلاف يتَّتبعون ذاك الموكب الأليم، ولوسيفر رئيسهم يرتب كل الأمور بحكمة بالغة حتى لا يفلت منه أمرًا ما كبيرًا كان أم صغيرًا.
وبينما كانت الجماعة تعبر الباب الشرقي إلى خارج أسوار المدينة، إذ بقافلة قادمة من مصر، يتصدرها عم يعقوب الذي يحرص على الحضور إلى أورشليم كل عام في مثل هذا الوقت، وهو يحكي لهم في تلك اللحظات عن ظهور شخص فريد منذ ثلاث سنين، وعن معجزاته العظيمة التي لم يصنعها أحد من قبل، ومن المنتظر أن يصنع فداءًا لإسرائيل في هذا العيد.. التقت القافلة الداخلة إلى أورشليم مع الجماعة الخارجة من أورشليم، وتبادلوا التحية، ولم يفطن أحد من رجال القافلة ولا عم يعقوب الذي كلت عيناه أن الشخص موضع حديثهم هو هو السائر أمامهم مع تلاميذه الأطهار.
أما خارج الأسوار فقد لمعت الأنوار المتناثرة من الخيام المتزاحمة وكأنها أضواء شموع صغيرة، وسلكت الجماعة طريق وادي قدرون على الجانب الشرقي من أورشليم بين المدينة وجبل الزيتون، فالخارج من أورشليم يجد جبل الزيتون على يمينه وأسوار أورشليم على يساره، وفي وادي قدرون هذا مجرى مائي ضيق يمتلأ بالمياه أثناء فترة الأمطار ويُدعىَ باسم قدرون أو النهر الأسود نظرًا لاختلاط مياهه بالقاذورات والمخلفات التي يلقيها سكان أورشليم فيه، وفي القديم عندما صنعت معكة أم آسا الملك تمثالًا لعبادته دقَّ آسا هذا التمثال وأحرقه في وادي قدرون (2 أي 15: 16) وعندما أزال حزقيا الملك مذابح الأوثان التي انتشرت في أورشليم طرحها في وادي قدرون هذا (2 أي 30: 14) كما إن يوشيا الملك الصالح أخرج من هيكل الرب الآنية التي صنعها الشعب للبعل واجتاد السماء، والساربة، وأحرقها في وادي قدرون (2 مل 23: 4، 6) فوادي قدرون يحمل رائحة عبادة الأصنام النجسة، وهوذا ابن الله يخوض معركة تحرير الإنسان المسكين من عبادة الشيطان المرذولة، ودُعي الوادي باسم وادي قدرون كما يقولون وادي النيل في مصر، وهذا الوادي تجده جافًا معظم أيام السنة فيما عدا فصل تساقط الأمطار.
والتفت يسوع إلى تلاميذه وقال لهم بصوت آسيف: كلكم ستعثرون وتشكُّون فيَّ في هذه الليلة. مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل.. وكأن المعلم أراد أن يعلن لهم عن أمرين معًا الأول هو ضعفهم وهروبهم، والثاني هو صفحه عنهم ومغفرته لهم، ولهذا فإنه أعطاهم وعدًا باللقاء في الجليل. ولمعت أمام متى على الفور نبؤة زكريا النبي " أستيقظ يا سيف على راعيَّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود أضرب الراعي فتتشتَّت الغنم" (زك 13: 7) لم يكن وقع كلمات يسوع على التلاميذ بالأمر السهل، ولاسيما أنه كان قد أخبرهم منذ قليل بأن منهم سيخرج الخائن الغادر الذي يسلمه للموت، والآن يقول أن جميعهم سيشكُّون فيه!!
وإذ رقب المعلم بعينه الإلهية حركات لوسيفر والتماسه من الله، أردف القول قائلًا: سمعان سمعان هوذا الشيطان قد طلبكم ليغربلكم كالحنطة، ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت أخوتك.
لقد ابتهج الشيطان باقتناص يهوذا أيما بهجة، فأخذ يناور ليقتنص البقية ولاسيما بطرس، وهكذا سيظل الشيطان يهاجم بشراسة أولئك الذين يحملون كنوزهم ويبحرون تجاه الملكوت، ولكن هيهات له، لأن الراعي الصالح لن يترك النفوس الأمينة فريسة للعدور الشرس.
واضطربت نفس بطرس داخله، ولم يعرف كيف يجيب ولا يدري ماذا يقول، فمادام يسوع قال هذا فلابد أن يكون هكذا، ومع هذا فإن بطرس لم يطق الصمت فاندفع قائلًا: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا.. لا في هذه الليلة الليلاء ولا في غيرها. إني أضع نفسي عنك.وأجابه يسوع بلغة العالم بكل شيء: "أتضع نفسك عني؟ الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات ".
وإذ استكثر بطرس على نفسه السقوط في خطية الشك، فإذ بالسيد يعلن له أنه سيسقط في خطية أشد وأصعب وهي خطية الإنكار.
وتنهَّد بطرس من أعماقه قائلًا: لا.. لا.. ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك.. إني مستعد أن أذهب معك إلى السجن وإلى الموت..
وهكذا همهمَّ بقية التلاميذ بمثل هذه الكلمات.. هذا مستحيل!! كيف ننكرك؟..!! نحن معك حتى الموت..
ثم قال يسوع: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟
التلاميذ: لا يا رب.
يسوع: لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتري سيفًا، لأني أقول لكم أنه ينبغي أن يتم فيَّ هذا المكتوب وأُحصى مع آثمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء.
التلاميذ: يا رب هوذا هنا سيفان.
وكان هذان السيفان مجرد سكينتان كبيرتان كانتا مع بطرس ويوحنا لإعداد خروف الفصح.
يسوع: يكفي.
وكأنه يريد أن يقول لهم: أنني أحدثكم عن سيف الروح الذي يساعدكم في حروبكم الروحيَّة ضد الشيطان الذي طلب أن يغربلكم، وأنتم تتكلمون عن سيوف مادية.. وماذا يفعل سيفان في يد حفنة من صيادي السمك في مواجهة جنود الهيكل وجنود الرومان والخدم والعبيد والغوغاء..؟! هل أنا غاوي أرميكم في التهلكة؟!، وما الداعي للسيف المادي إن كنت أنا سأسلم نفسي للموت بإرادتي وأتمّم المكتوب " وأُحصى مع آثمة".. أنظروا أنني لا أتكلم عن سيف مادي يفصل الرقاب عن الأجساد، ولهذا سترونني بعد قليل أمر بطرس برد سيفه إلى غمده، فهل أدعوكم إلى شراء سيف مادي وأنهيكم عن استخدامه؟!
والآن هوذا أقدام الجماعة تطأ أعتاب جبل الزيتون، وما أشبه الليلة بالبارحة، فمنذ نحو ألف عام صعد داود حافيًا باكيًا مطاردًا من ابنه شالوم مُغطى الرأس وأحبائه يبكون معه، وهوذا التاريخ يعيد نفسه، فهوذا ابن ورب داود يسير مع تلاميذه من أورشليم إلى جبل الزيتون.. وكان التلاميذ يسيرون في إعياء، فمنذ استيقاظهم في الصباح الباكر في بيت عنيا، وحتى هذه الساعة المتأخرة لم ينعم أحدهم بالنوم، وقد قارب الليل على الانتصاف، بالإضافة إلى الإرهاق النفسي الشديد نتيجة الصدمات المتلاحقة التي تعرَّضوا لها، وإحساسهم القوي بأنهم مزمعون أن يدخلوا في عاصفة هوجاء قد تطيح بكل شيء.. كل شيء..، ورغم أن المسافة من العلية إلى جبل الزيتون لا تزيد عن كيلو مترًا واحدًا فإنها كانت ثقيلة عليهم جدًا، حتى تمنى كل منهم أن يجد له ملاذًا أمينًا فيلقي بنفسه وينام نومًا عميقًا، ويهرب من ذلك الكابوس المرعب.
وأخيرًا وصلت الجماعة إلى بيت القصيد حيث " بستان جثسيماني " وهو عبارة عن حديقة متسعة ملكًا لأرسطوبولس، حيث تنتشر أشجار زيتون، وبها بيتًا ريفيًا يكفي لمبيت مجموعة كبيرة.. لقد إعتاد أغنياء اليهود أن يكون لهم حدائق خارج المدينة يروحون فيها عن أنفسهم، وكلمة " جثسيماني " كلمة آرامية، معناها معصرة الزيتون، ويقع البستان عند السفح الغربي لجبل الزيتون، ويرتفع هذا البستان نحو 140 قدمًا عن أورشليم، فمن السهل على الإنسان أن يعاين الجانب الشرقي للهيكل بحجارته الضخمة التي تثير الدهشة والإعجاب، ومنذ أيام قلائل أشار أحد التلاميذ للمعلم قائلًا: أنظر يا معلم هذه الأحجار وهذه الأبنية؟ فأجابه يسوع: أتنظر هذه الأحجار وهذه الأبنية؟.. لا يُترَك حجر على حجر إلاَّ وينقض.
وتأمل يوحنا معصرة الزيتون وبقايا حبات الزيتون التي كانت تُعصر بين حجريها المستديرين، فيجري دمها أقصد زيتها في المسار الصخري حيث تمتلأ الآنية بالخير، ولاحظ يوحنا نظرة يسوع للمعصرة، فارتسمت أمام عينه نبؤة أشعياء التي نطق بها منذ سبعمائة عام " قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرُشَّ عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي" (أش 63: 3).
لقد اختار يسوع بستان أرسطوبولس ليكون موقع القبض عليه، وليس بيته، حتى لا يسبب إزعاجًا وحرجًا لأهل البيت، فإنه جاء ليحل أتعاب وأوجاع الآخرين، وليس العكس، كما إنه أخذ على عاتقه أن يحمل الصليب بكل تضحياته وفضائحه - ما أحلى رِقتك يا يسوع وما أجمل لطفك..!! حتى وأنت في أشد الآلام لا يفوت عليك أمورًا صغيرة كهذه -، وأيضًا شاء المعلم أن يلاقي العدو وهو في حالة صلاة حارة عميقة وصراع، وليس في حالة راحة واسترخاء، وطالما شهد هذا البستان ساعات حلوة وذكريات عطرة للتلاميذ مع معلمهم، فلعلَّ يهوذا عندما تقوده أقدامه إلى هذا الموضع يراجع نفسه ويُغيّر موقفه!!
" وفي الليل انطلق السيد المسيح قائد المعركة ضد قوات الظلمة، ليذهب إلى أرض المعركة، معلنًا خروجه للصليب.. ذهب في خطة مرسومة ينتظر موكبًا متواطئًا مع الظلام. كان ينتظر يهوذا مع موكب الظلمة كمن في شبه موعدٍ معه، وفي مكانٍ معروفٍ لديه. لم يتهرب السيد المسيح من موكب الظلمة.. خرجوا بمصابيح ليلقوا القبض على يسوع، آدم الثاني، مع إن القمر كان كاملًا. لقد ظنوا أنه ربما يختبئ بين الأشجار كما اختفى آدم الأول في جنة عدن وراء الشجر من وجه الله.. جاء الموكب مستعدًا، لعلهم خشوا من خسوف القمر لذلك حملوا المشاعل والمصابيح، وخشوا أن يُوجد مع تلاميذه أسلحة، لذلك جاءوا مسلحين مستعدين للدخول في معركة. ليس عجيبًا أن نجد ذات الفكر عبر العصور، فيتهم العالم الكنيسة بأنها تريد أن تقيم دولة داخل دولة، مع أن أسلحتها روحية، ومملكتها ليست من هذا العالم" (4).
وعند باب البيت الريفي الذي اعتاد يسوع التردد عليه من قبل مع تلاميذه، قال لثمانية منهم: اجلسوا أنتم هنا حتى أمضي وأصلي هناك، ففي القديم عندما كان قلب إبراهيم مفعمًا بمشاعر عميقة ومعه ابنه الذبيح إسحق، قال للغلامين بروح الرجاء "اجلسا أنتما هنا.. وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما" (تك 22: 5).. لقد خشى المعلم على تلاميذه الثمانية من رؤيته في حزنه وكآبته، فأشفق عليهم وتركهم في البستان - ما أعظم لطفك يا يسوع!! - وأما بطرس وإبني زبدي الذين عاينوا أمجاده في التجلي فهم أقدر على تحمل رؤيته في هذا الضعف دون أن يهتز إيمانهم به.. توغل بهم في البستان، وصرَّح لهم قائلًا: نفسي حزينة جدًا حتى الموت.. والنفس هي مركز المشاعر والأحاسيس والعواطف البشرية، فهي تحزن وتفرح، وتصح وتمرض، وابن الله في تجسده اتخذ طبيعة بشرية كاملة من روح وجسد ونفس، - فلا يحق لك يا أبوليناريوس أن تدَّعي أن الله في تجسده أخذ جسدًا بدون روح بشرية، ولا يحق لكما يا فلنتينوس وأوطاخي أن تدَّعيا أن الله في تجسده اتخذ جسدًا شبحيًا أو خياليًا، فجميع الآلام كانت محسوسة عنده.. نفسيَّة وجسديَّة -.
ثم قال لهم: أمكثوا هنا وصلوا.

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
إنه يعلمهم فائدة شركة القديسين وقت التجربة.. حقًا إن النفس المثقلة بالحزن تلتمس العزاء من صديق مخلص يشاركها المشاعر ويقتسم معها الأحزان.. دخل يسوع مع تلاميذه إلى البستان وكأنه داخل إلى هيكله، فترك ثمانية منهم كأنهم في الدار الخارجية، واصطحب ثلاثة وطلب منهم الصلاة وكأنهم يؤدون خدمة القدس، ودخل هو داخل الحجاب إلى قدس الأقداس حيث سكب نفسه أمام الآب كذبيحة حيَّة من أجل خلاص البشرية.. لقد انفرد عن تلاميذه الثلاث مقدار رمية حجر، وجثا على ركبتيه، وانسكب في صلاة عميقة، بلجاجة ودموع وصراخ مصليًا: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك..
يا أبتاه.. فمهما تكاثفت السحب ونشر الضباب ظلاله، لا يجب أن ننسى أن الله هو الأب الحنون.
وأخذ يدهش ويكتئب..
عندما خشى يعقوب أب الآباء الموت وأن يباد هو وكل ماله على يد أخيه عيسو المستبيح،عبر مخاضة يبوق، وأجاز كل من معه الوادي " وبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر" (تك 32: 24) وهوذا الآن يعقوب الجديد قد انفرد عن الكل، ودخل في صراع مع قوات الظلمة.. هوذا أيوب الجديد يصرخ في صمته " ليت كربي وُزِن ومصيبتي رُفِعت في الموازين جميعها. لأنها الآن أثقل من رمل البحر.. لأن سهام القدير فيَّ وحُمتها شاربة روحي. أهوال الله مصطفة ضدي" (أي 6: 2 - 4).. ولعل ما حدث مع ابرآم " وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقفة عليه" (تك 15: 12) كان رمزًا لما يحدث الآن.
الآن بدأت حلقة الصراع الرهيب.. هوذا الحيَّة القديمة تزحف لكيما تلدغ نسل المرأة لدغة الموت، وعلى نسل المرأة أن يسحق رأسها..
الآن بدأت حلقات الصراع الرهيب بين يسوع وقوات الظلمة " غمر ينادي غمرًا عند صوت ميازيبك. كل تياراتك ولججك طمت عليَّ" (مز 42: 7)..
الآن بدأت السحب تتجمع وتُشكّل ضبابًا كثيفًا..
الآن بدأت العاصفة العاتية تهب على المعلم..
الآن تجمعت كأس خطايا البشرية على مرّ السنين والأيام، ومن ثقل الحمل الذي وُضِع عليه خرَّ بوجهه على الأرض فتعفرت جبهته المقدَّسة بتراب الأرض.. في القديم عندما فقد أيوب أولاده " خرَّ على الأرض وسجد" (أي 21: 2) هوذا الآن أيوب الجديد يخرَّ على وجهه لأن الشيطان قد سبى أولاده..
الآن يقول: غطى الخزي وجهي..
الآن يبدو أمام الآب كخاطئ وكأثيم مغطى بالخطايا الثقيلة وغارق في الذنوب الشنيعة والآثام الفاضحة.. له صورة اللص القاتل الزاني المستبيح الخائن الجاحد المتكبر قاسي القلب الكذاب.. الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا، فصارت السماء بالنسبة له مثل نحاس والأرض كرصاص، وكأن صلواته القوية ودموعه لا تخترق حُجب السماء.. من قبل عندما قال "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة.. أيها الآب مجد أسمك " جاءت الإجابة فورية، وسُمع صوت الآب من السماء قائلًا " مجَّدتُ وأُمجّد أيضًا " أما الآن فبالرغم من أنه يتألم " نفسي حزينة جدًا حتى الموت " وينسكب في الصلاة، إلاَّ أن عليه أن يصلي ثانية وثالثة.
جثا يسوع على ركبتيه ثم خرَّ على وجهه، يحارب قوات الظلمة كإبن الإنسان الطاهر القدوس الذي بلا خطية وليس للشيطان شيء فيه ولكنه ارتضى أن يحمل خطاياي وخطايا العالم كله.. جثا كإنسان بلا معونة من اللاهوت يصارع لوسيفر وكل قواته، ولوسيفر يلوح له بسلاح الموت، وهو صامت صامد لا يتراجع عن موقعه ولا عن موقفه قيد أنملة.. هنا في جثيماني تدور معركة حامية الوطيس بين يسوع الطاهر القدوس حامل خطايانا، وبين جيوش وحشود رهيبة وأشباح لا حصر لها، حتى صار يسوع محصورًا وسط أمواج عاتية، تجتاحه تيارات جبارة، ودوامات عنيفة، ومع كل هذا فقد وضع في نفسه أن يتحمل كل شيء من أجل نجاة البشرية حتى لو أسلم ذاته لسلطان الظلمة عدة ساعات تبدأ من الآن وتنتهي بلفظ أنفاسه على الصليب.
عجبًا.. هوذا الشهداء الذين قاسوا الأهوال لم يحزنوا كحزنه.. لماذا؟ هل هو أضعف منهم؟ كلاَّ، لكن السبب أن هؤلاء ينالون تعذيات السماء، أما يسوع فقد رفض أية تعزية حتى يأخذ العدل الإلهي حقه بالكامل.. أنه ذبيحة المحرقة التي يجب أن تُحرق بالكامل لإرضاء العدل الإلهي.. ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم اللتان يجب أن تُحرقا بالنار.. لقد أصرَّ أن يشرب الكأس حتى الثمالة.. إن نبؤات داود التي نطق بها منذ ألف عام تتحقق الآن " اكتنفتني حبال الموت وسيول الهلاك أفزعتني. حبال الهاوية حاقت بي. أشراك الموت انتشبت بي" (مز 18: 4، 5) " يمخض قلبي في داخلي وأهوال الموت سقطت عليَّ. خوف ورعدة أتيا عليَّ وغشيني رعب. فقلت ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح" (مز 55: 4 - 6).. حقًا أن ابن الإنسان يجوز في هذه اللحظات ما جاز فيه يونان النبي وهو في جوف الحوت " قد اكتنفتني مياه إلى النفس. أحاط بي غمر. ألتف عشب البحر برأسي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي" (يون 2: 5، 6) إن ابن الإنسان يُعصَر الآن في معصرة الغضب الإلهي عوضًا عن كل إنسان خاطئ أثيم.. دخل رجل الآلام في معصرة غضب الله ليس بلاهوته، لأن اللاهوت منزَّه عن الألم، بل بناسوته، ولم يكن هذا المنظر الفريد ليسوع مألوفًا لدى التلاميذ.. سمعوا تأوهاته وأناته، لأنه أراد أن يُسلّم للكنيسة ضرورة الصلاة العميقة وقت حلول التجارب والمصائب، ولمعت أمام التلاميذ عبارة يسوع التي قالها منذ قليل " بعد قليل لا ترونني " وأحسوا أنهم أمام كابوس مرعب، فأخذوا يتهامسون:
-ما هذا الذي يحدث؟!
-لماذا يتألم السيد هكذا؟!
-هل سيتركنا؟!
-كيف تكون الحياة بدونه!.. أنها الضياع بعينه.. أنها الشقاء بذاته.. أنها العناء كل العناء.
ومع همساتهم وتساؤلاتهم وتوقعاتهم وأحزانهم تهاونوا في تنفيذ وصية المعلم، فضربهم عدو الخير بالنعاس وأطبق أجفانهم.. ومن يقدر أن يفتحها..؟! ثقلت رؤوسهم ودخلوا في نوبة من التثاؤب والنعاس.. نام التلاميذ رغم أنهم سمعوا معلمهم يمدحهم منذ قليل ويشجعهم " أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي" (لو 22: 28).
ويعود المعلم للتلاميذ فيجدهم نيامًا، فلم يقدروا أن يثبتوا معه كما ثبت أتباع داود مع مليكهم المُطارد من ابنه، ويعاتب يسوع تلاميذه: أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟!
حقًا الآلام الرهيبة التي يجوز فيها الراعي الصالح لم تمنعه من افتقاد قطيعه وإسداء النصح لهم: اسهروا وصلوا لئلا تعثروا.. فالصلاة هي التي تسد كافة الثغرات التي يعبر منها عدو الخير للنفس.
وعاد يسوع إلى صلاته وآلامه وصراعه، وللأسف عاد التلاميذ إلى نومهم هربًا من الواقع المخيف.. عاد يسوع يصارع قوات الظلمة: يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت.. فالإرادة البشرية رغم أنها تأبى الذل والهوان والعار والفضيحة، فإنها مع هذا ستظل خاضعة للإرادة الإلهية.. وبدأ الصليب يلقي بظلاله على نفسه الطاهرة، فكيف يمكن للقدوس أن يحمل أدناس الخطاة؟!
كيف يحمل الطاهر نجاسات الفسقة والزناة؟!
كيف يحمل البار عار الأثمة؟!
كيف يحمل الصادق الأمين كذب الكاذبين ونفاق الأفاقين؟!
كيف يُحسب الذي هو أنقى من السماء مع اللصوص والقتلة وعبدَّة الشيطان..؟! إن قوات الظلمة تشن هجومًا عارمًا على نفس الحبيب بغية تحطيمه بالصليب، وهو لا يكفَّ عن لجاجة الصلاة..
كيف يبدو وكأنه القاتل والزاني والسارق والخائن والمتكبر والكذَّاب والمنافق والعاصي والأثيم.. لقد تجمعت عصارة كل الخطايا المتشابكة المتلاحقة المرَّة لكل البشر في كل زمان، وعليه أن يتجرعها، وأصعب ما في هذه الكأس هو أن الآب يحجب وجهه عنه..
لقد كانت هذه الكأس ماثلة أمام عينيه دائمًا، فعندما تقدم يعقوب ويوحنا يطلبان أن يكونا واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره في ملكه قال لهما " أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا. فقالا له نستطيع" (مر 1: 28) وها هوذا ذات التلميذين يعقوب ويوحنا اللذان أبديا استعدادهما لحمل الصليب ناما في أول الطريق، ولم يدركا معاناة السيد.. حقًا ما أشدَّ هذه المحنة القاسية يا يسوع التي لم يقدر أن يدركها أقرب الأقرباء إليك فوقعوا فريسة للنوم، وصار النعاس لذيذًا في أجفانهم الثقيلة، وتناسوا حتى الصلاة الربانية الني علمتهم إياها من قبل " أبانا الذي في السموات.. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير".. وتناسوا تحذيراتك " اسهروا إذًا وتضرعوا في كل حين لكي تُحسبوا أهلًا للنجاة " ولم يتوقعوا أن نتيجة نومهم هذا ستظهر بعد قليل عندما يفرون من على المسرح تاركين معلمهم للموت..
وعاد المعلم إلى تلاميذه ثانية قائلًا لبطرس: يا سمعان أنت نائم؟ أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ أهكذا.. أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟.. اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
وكأنما يريد أن يقول لبطرس: أأنت الذي ستضع نفسك عني، وتسلم نفسك للموت من أجلي، ولا تقدر أن تصلي معي ساعة واحدة..؟!
وكأنه أراد أن يقول لتلاميذه: ألم أقل لكم أن الشيطان طلبكم لكي يغربلكم.. ألم أوصيكم أسهروا وصلوا حتى تُحسبوا أهلًا للنجاة؟!!
ثم أردف يسوع كلامه قائلًا: أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف.
حقًا أن الروح تجذب الإنسان إلى السماء بينما الجسد يشده للهاوية..
وعاد يسوع إلى صلاته وتضرعاته ودموعه، ورغم برودة الليل القارصة لارتفاع جبل الزيتون عن مستوى البحر كثيرًا، فإن قطرات العرق صارت تتصبب من جبينه بلون الدم، وهي حالة نادرة الحدوث، فلا تحدث إلاَّ عند انفجار الشعيرات الدموية المحيطة بالغدد العرقيَّة عندما يكون الإنسان في قمة الانفعال فيندفع هذا مع ذاك.. الدم مع العرق.
وظهر في الأفق ملاك أنار المكان حول المعلم بنور سمائي رائع.. سجد الملاك لجابله، وأخذ يسبحه ويباركه ويقويه قائلًا: لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد يا عمانوئيل إلهنا وملكنا.. إنه رب الملائكة ولا يتحرك ملاك إلاَّ بإذنه، فهو الذي سمح لهذا الملاك بالظهور وقت الضيقة الشديدة، ليُعلّمنا أنه متى انسكبنا في صلواتنا وقت الضيقة فإن الملائكة تحوطنا.. أما يسوع فلم يكف عن الجهاد في الصلاة.
عجبًا.. كيف يتألم الطاهر القدوس إلى هذه الدرجة؟!
كيف يصرخ ويصلي ويبكي؟!
لقد دخل يسوع في حزن وبكاء وصراخ ودهش واكتئاب، لا احتجاجًا على إرادة الآب لأنه خاضع لإرادته، وليس تراجعًا عن مشوار الصليب لأنه قبله بإرادته، وهل ننسى أنه عندما طلب منه بطرس أن يتخلى عن الصليب قال له المعلم " أذهب عني يا شيطان".. فلماذا الصلاة والبكاء؟!
إنها المشاعر الإنسانية، لأنه شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، فالآلام النفسية الواقعة على يسوع هي آلام حقيقية، لأنه آخذ طبيعة بشرية حقيقية، ولذلك كان الحزن والبكاء والألم والصلاة والصراع الرهيب مع قوات الظلمة التي غطت المكان بغمامة سوداء.. هوذا رئيس هذا العالم قد أتى بقواته الغازية مُجردًِا قواته للهجوم على يسوع.. وكم كانت تلك الآلام النفسية قاسية حتى كادت تقتل يسوع قبل الصليب..
وكان الجو باردًا، وسكتت الريح تشارك جابلها آلامه، ولا يُسمع في الأفق إلاَّ صوت ناي حزين ينفخه أحد رعاة الأغنام الساهرين، ينعي زوجته التي ماتت وتركت له ثلاثة أطفال.. نهض يسوع من تراب الأرض وأقبل على التلاميذ قائلًا: ناموا الآن واستريحوا.. قد أتت الساعة وهوذا ابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب. هوذا الذي يسلمني قد اقترب..
وكأنما يريد أن يقول لهم: ناموا الآن إن قدرتم أن تناموا..
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 03:15 PM   رقم المشاركة : ( 8 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

غوغاء وعبيد

عودة إلى قصر رئيس الكهنة.. عاد قيافا إلى قصره، حيث حنان وشيوخ اليهود في لهفة من أمره.. أخبرهم بما كان وكيف تحمَّل صلافة بيلاطس الذي تركه منتظرًا أسفل القلعة لمدة طويلة، وهو عاجز عن دخول القلعة حتى لا يتنجس، وبيلاطس يهمله وكأنه كم مهمل، وبعد أن استمعوا إلى قيافا تساءلوا: هل سيقبضون على يسوع بمفرده أم سيقبضون على الجماعة كلها؟
حنان: إن الوقت مُقصّر، ولو قدمنا اثني عشر شخصًا للمحاكمة بقصد قتلهم أو قتل بعضهم، فلابد أن المحاكمة ستستغرق وقتًا طويلًا، ونحن نريد أن ننجز.
قيافا: إذًا لنقبض على التلاميذ ونودعهم السجن، وبعد الخلاص من معلمهم نؤدّبهم ونطلقهم، ومتى ضربنا الراعي فلابد أن تتشتَّت الرعية.
وأقبل بعض جنود الهيكل، وألحَقَ قيافا بهم أشد وأقوى عبيده وخدامه، وبعد قليل حضر قائد المئة الروماني مع عدد ليس بقليل من الجنود، وحملة المشاعل، لكيما يكبح جماح الثورة المسلحة التي يقودها يسوع مع تلاميذه ضد روما كما نما إلى علمه، وانضم إلى الموكب بعض شيوخ الشعب، وأولاد حنان رؤساء الكهنة، وتحرَّك الموكب الذي جمع المتناقضات معًا، فالصدوقيون جنبًا إلى جنب مع بقية الفريسيين رغم التطاحن والاختلاف العقيدي بينهما (فمعظم الفريسيون فضلوا ترك عملية القضاء على يسوع للصدوقيين) والسادة مع العبيد، والشيوخ مع الغوغاء، واليهود مع الرومان.. اجتمع الكل على هدف واحد، ألا وهو موت يسوع.. تسلَّحوا بسيوف وعصي، وأحاط بهم حملة المشاعل والمصابيح، وتقدمهم يهوذا الإسخريوطي قاصدًا بيت أرسطوبولس حيث يسوع هناك. بينما لبث قيافا وحنان وبقية الأعضاء يتشاورون، ويتأسون لأنهم لم يقبضوا على يسوع منذ بدء كرازته وقبل أن يذهب العالم كله وراءه وقال قيافا: أتصدق أن بعض الفريسيين، بل وبعضهم من أعضاء مجلس السنهدريم يتعاطفون معه ويصدقون تجاديفه.
حنان: ملعون هو الشعب الذي لا يفهم الناموس.
وسار الموكب يضم نحو خمسمائة شخصًا على امتداد عشرات الأمتار، يتقدمهم حملة المشاعل إلى بيت أرسطوبولس، ولبث يهوذا يقرع الباب في هذه الساعة المتأخرة من الليل، بل هي الساعة الأولى بعد منتصف الليل، يحيط به موكب الموت، واندفع أحد الجنود يدك باب العلية دكًا، وما أن فتح أحد الخدم الباب إلاَّ واندفع الخائن، يصحبه قائد الجند الروماني، ورئيس حرس الهيكل اليهودي إلى العلّية.. تطلعوا فإذ بالعليّة خاوية.. تبادلوا النظرات لبرهة.. أصبح الصمت سيد الموقف.. يسوع ليس في العلّية، فأين هو؟!
أتُرى انطلق إلى بيت عنيا مثل كل ليلة؟!
أيعقل أن يكون قد هرب من أورشليم وعاد إلى الجليل؟!
وأحس يهوذا بخطورة الموقف، إذ بعد أن قلب الدنيا رأسًا على عقب، لم يجد يسوع.. هل علم يسوع بالمؤامرة فذهب إلى مكان لا يعلمه أحد؟..!! إذًا لقد فشل في مهمته، وعلم في نفسه أن الموقف لن يتوقف عند رد الفضة، بل سيجر عليه إهانات كثيرة، ولا يستبعد أن ينتقموا منه عوضًا عن يسوع، فهذه نفوس متعطشة للدماء.. فليكن أي دم يُسفك!! ودارت الدنيا به، وغاص يهوذا في تفكير عميق. ثم تصنع الشجاعة قائلًا: لنذهب إلى جبل الزيتون، ربما يكون قد ذهب هناك ليصلي كعادته.
صمت قليلًا، ثم أردف قائلًا: إن لم نجده نسرع إلى بيت عنيا حيث يبيت هناك.
وصمت برهة وقد تاه صوته، وكأنه يحادث نفسه: فإن لم نجده، فسأذهب وراءه إلى الجليل وأقنعه بالعودة إلى أورشليم، ولو بعد فوات العيد.
وقال يهوذا في نفسه: إن لم أقدر أن أقنعه بالعودة، فعلى الأقل أنجو بجلدي من هذا الموقف الخطير الذي وضعتُ نفسي فيه.
وحدث هرج ومرج في بيت أرسطوبولس، واستيقظ الجميع يستطلعون الأمر، وأدركوا أن الأوامر قد صدرت للقبض على يسوع، ولكنهم لم يفهموا سر تواجد يهوذا معهم..؟! انطلق مرقس، وقد هبَّ لوقته من النوم متسربلًا بإزارًا يستر عريه كما يفعل بعض أهل الشرق، انطلق كالسهم إلى البستان ليحذر المعلم.
وتحرك يهوذا ولم ينطق ببنت شفة، وخلفه قائد المئة وقائد حرس الهيكل، والموكب كله يتبعهم.. انطلق يهوذا صوب جبل الزيتون، ولم يكتفِ بدور المرشد السري، إنما إذ ملأ الشيطان قلبه حقدًا على يسوع من جانب، ولكيما يؤكد للجميع ولاءه لهم من جانب آخر، التفت إلى الجمع قائلًا: عليكم باليقظة يا إخوة، والهجوم المباغت على يسوع، وتوخي الحذر أثناء القبض عليه لئلا يفلت منكم.. وأما أنا فسأسهل عليكم هذه المهمة الشاقة.. سأقبّله وأحيطه بذراعيَّ، فأعطل حركته، حتى تحيطوا به سريعًا..
وأوصاهم كثيرًا ألا ينسوا العلامة مؤكدًا لهم: الذي أُقبّله هو هو أمسكوه وأمضوا به بحرص..
كل هذا الحقد وهذا الغل في قلبك يا يهوذا؟.. ولماذا..؟!
إنه غل الشيطان الذي سمحت له أن يسكنك يا مَنْ كنت تلميذًا للعَلِيّ!!
قاد يهوذا الموكب عبر وادي قدرون إلى جبل الزيتون، يتقدمهم حملة المشاعل، ويحيط بهم حملة المصابيح، ولم يكتفوا بضوء القمر الذي يرخي سدوله، بل حملوا المشاعل بنورها الوهاج المتراقص، والمصابيح بإضاءتها الثابتة، لئلا يختبئ يسوع في كهف أو حديقة، فمن خلال هذه وتلك يكشفون ستار الظلام، والحقيقة إنه لا ضوء القمر، ولا نور المشاعل، ولا ضوء المصابيح، استطاع أن يبدد ظلمة القلوب ولا دجى النفوس، فالكل يسعى بجد واجتهاد للقبض على يسوع نور العالم.. الجنود بسيوفهم يسعون لإرضاء قادتهم والعبيد بعصيهم يسعون لإرضاء سادتهم على حساب يسوع الذبيح.. لم يعد الأبالسة يتحملون رؤية يسوع الوديع البريء متواضع القلب، ولم تعد البشرية الساقطة تحتمل يسوع الطاهر القدوس الرقيق، فاجتمعت البشرية مع الأبالسة.. اجتمع الأشرار مع الوحوش الضارية لينقضوا على الحمل الوديع الهادئ..
وصار رؤساء الكهنة ينفثون سمومهم في الجمع، مُشوّهين صورة يسوع البار.. إنه عدو الله وعدو روما، ورغم أن الكل في حالة تحفز، ولكن بعض الهمسات تفلت من أفواه بعض الخدم! أتدرون قوة يسوع وجبروته؟!.
طرد من ساكن القبور آلاف الشياطين.. شفى المفلوج منذ 38 عام..
أسكت البحر الهائج.. أقام الميت بعد أربعة أيام..
احذروه يا سادة، فالأمر ليس سهلًا والمهمة شاقة..
ألعلك يا يهوذا تقودنا إلى الهلاك؟!!
وفي الجانب الآخر كان التلاميذ الثمانية يجلسون في البيت الريفي بالبستان، وسرى الحديث بينهم عن الأيام السالفة الصعيبة منذ دخولهم أورشليم، وكيف تردت الأحوال وساءت. فالمؤامرات تُحبك، والمشاورات تتم في الخفاء، واجتماعات السنهدريم في يقظة ونشاط، وحديث المُعلّم في هذه الليلة الليلاء كم كان مرًا، وكيف أن أحدهم سيسلمه، وبطرس سينكره، وإنهم سيشكَّون فيه ولن يروه مجددًا.
وكان التلاميذ يتوقعون أن السيد سينهي صلاته، ويعود إليهم لينطلقوا جميعًا إلى بيت عنيا، فإذ بهم يفاجئون بشاب يجري لاهثًا نحوهم، وبصوت متهدج وكلمات متقطعة يسألهم أين المُعلّم؟.. أين هو؟.. إن الأمر جد خطير.
توما: ما الخبر يا مرقس.. استرح قليلًا، ثم أخبرنا ما الذي أتى بك إلى هنا في مثل هذه الساعة؟!
مرقس: جنود الرومان.. حرس الهيكل.. رؤساء الكهنة.. خدم وعبيد وغوغاء يبحثون عن يسوع، يريدون القبض عليه.. يطلبون القضاء عليه..
فيلبس: أجلس يا مرقس.. استرح.. فإن أحدًا لا يقدر أن ينال من يسوع شيئًا.
مرقس: سيقبضون عليه، ويقودونه للموت..
توما: أن السيد ذهب ليصلي، فلماذا نزعجه..؟! اجلس يا مرقس.. إن الصباح رباح، فإنهم لن يعرفوا مكاننا.
مرقس: لقد لمحت يهوذا بينهم.
صاح التلاميذ: إذًا يهوذا هو الخائن.. هو الذي سيُسلّم سيده.. تبًا لكَ يا يهوذا.. تبًا لكَ يا يهوذا..
وإذ بيسوع يقف أمامهم وخلفه بطرس وابني زبدي، وقبل أن ينطق أحدهم بكلمة تحذير، قال يسوع لمرقس: أنا عالم يا حبيبي بكل شيء.. هوذا الذي يسلمني قد أقترب.. قوموا ننطلق من هنا..
وكانت الساعة الواحدة من صباح يوم الجمعة، ووصل موكب الغوغاء والعبيد في هياج عظيم (في هيصة وزيطة وفرح العمدة) حطموا باب الحديقة مندفعين تجاه البيت، ويهوذا دليلهم، فهو الخبير بكل شبر في المكان، وإذ بالموكب يفاجأ بظهور إنسان جليل يخطو خطوات ثابتة تجاههم، وفوجئ الجمع بيهوذا يسرع نحو هذا الشخص، فاردًا جناحيه، محتضنًا إياه، مرحبًا به: السلام يا سيد.. وطبع على وجهه قبلته الغاشة، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى، فهكذا تعود التلاميذ عند غياب أحدهم ولو لفترة بسيطة، أن يُقبّل المُعلّم عند رجوعه كنوع من الدالة. أما يهوذا فقد أساء استخدام هذه الدالة.

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
وتفرَّس يسوع في وجه يهوذا مليًا: لِمَ جئت يا صاحب..؟! أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!
وكم من معاني عميقة تخبئها تلك الكلمات بين طياتها؟!
كيف جئت؟!..
أجئتَ كصاحب..؟! فما هذه الجلبة والسيوف والعصي؟!..
أجئتَ كعدو..؟! فما معنى هذه القبلة..؟!
ألم تقرأ من قبل " غاشة هي قبلات العدو" (أم 27: 6).
فلماذا يا صاحب صارت قبلاتك غاشة هكذا؟!.. ألم أحذرك..؟!
أتستخدم القبلة وهي أسمى معاني الحب والإخلاص والوفاء والصداقة في أدنى مظاهر الغدر والخيانة والجحود والتآمر والإغتيال..؟!
إن قبلتك يا يهوذا لهي انتهاك لحرمة التلمذة، وحرمة الصداقة، وحرمة الأمانة، وحرمة الحب والوفاء..
أتريد أن تؤكد يا يهوذا أن أعداء الإنسان أهل بيته؟!
لم يكن هناك ثمة سببًا واحدًا حقيقيًا يدعوك لتسليمي، بينما يا يهوذا عديدة هي الأسباب التي تحتم عليك أن تكون أمينًا..
ألم أختارك من الاثني عشر..؟!
ألم أصادقك..؟! ألم أُقدم لك كل حب وإخلاص..؟!
ألم أُوكل لك أمانة الصندوق..؟!
ألم أحافظ على مشاعرك..؟!
ألم أغسل رجليك يا يهوذا؟!..
عجيب أنت يا صاحب " لأنه ليس عدو يعيّرني فاحتمل. ليس مبغضي تعظَّم عليَّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب إلى الجمهور." (مز 55: 12 - 14).. عجيب أنت يا يسوع في دعوتك ليهوذا بالصاحب.. إنك في أشد اللحظات ضراوة تُعلّمنا ألاَّ نقذف من أفواهنا حممًا وجمر نار.
حقًا إن هذه القبلة الغاشة لهي أشد إيلامًا عليك يا يسوع الرقيق اللطيف لطف نسمة الربيع.. حقًا إنها أشد إيلامًا من طعنة الخنجر " ألين من الزيت كلماته وهي سيوف مسلولة" (مز 55: 21) " من هو الخروف الذي قَلَبَ نفسه ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح" (5).. ألا ترى يا يهوذا إن قبلتك الغاشة ينطبق عليها المثل اليوناني " التقبيل شيء والمحبة شيء آخر " والمثل اللاتيني " في الفم عسل وفي القلب مرارة " والمثل المصري العامي " في الوش مرآية وفي القفا سلاية".. الأمر العجيب رغم أن المُعلّم وهو يعلم أن يهوذا لن يستفيد من نصائحه هذه، إلاَّ أنه لم يكفَّ عن إسداء النصح له، فما لم يستفد منه يهوذا يستفد منه الآخرين عبر السنين والأيام.. ألا تدرك يا يهوذا أن كل كلمات الحب والإخلاص والوفاء التي بذلها المُعلّم لك، وأنت تقابلها بجحود وبلادة، ستشتعل نارًا في صدرك!!
"فإن البعض يعتقدون أن يهوذا أراد بفعلته هذه أن يدفع السيد المسيح إلى مغامرة وطنية. فلقد كان يعتقد أن يسوع هو حقًا المسيا المنتظر القادر على سحق الأعداء وطرد الغزاة. لهذا كانت توقعاته من شمشون عصره، عندما يلتف حوله الأعداء، إنه يقوم ويبددهم أو يطلب أن تنزل نار من السماء فتهلكهم. كان يهوذا واثقًا من نجاح خطته وأنه بهذه الطريقة يصل إلى السلطة والغنى والجاه. لكن سرعان ما تحطمت آماله عندما أسلم يسوع يديه في هدوء للقيود.
ما أعجب يسوع.. أنه أعظم من أن يُقحَم في مغامرة ما أو أن يستغله إنسان.. كان يهوذا في ذهول، لا يستطيع أن يدرك السر الذي دفع يسوع ليسلم نفسه، لكن هل كان لذلك القلب الأثيم أن يعرف أهداف تلك المحبة السامية وطرقها؟!!!
هكذا جاء الصليب مفاجأة ليهوذا، بل أن المفاجأة شملت الشياطين أنفسهم. لم يتخيلوا أن يسوع قد أحب البشرية إلى هذا الحد. كانت كل توقعاتهم أنه عندما يواجه الصليب لابد وأن يهرب..
إستيقظ يهوذا من غفلته ورأى يسوع كما لم يرى من قبل.. وإذا بيسوع يناديه بصوت كله رقة وحب قائلًا " يا صاحب لماذا جئت.. أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟! " كان صوت يسوع رقيقًا ومع ذلك كان له وقع السياط، فالمحبة مهما كانت لطيفة في أسلوبها لكنها لابد وأن تبرز الحقيقة كما هي. هناك رأى يهوذا سيده يشع بالحب والطهر، وفي نفس اللحظة رأى نفسه في أعماق الشر والنفاق" (6).
وجرت الأحداث بطريقة غير متوقعة وغير مألوفة، فعوضًا عن أن تبحث الشرطة عن المتهم، سعى يسوع البار نحوهم.. فوجئوا جميعًا بوقوفه أمامهم رابط الجأش مرفوع الهامة في جلال ملوكي، فتسمروا في مكانهم برهة، وتداعي إلى خاطرهم يسوع رجل المعجزات، ونسوا وصية يهوذا لهم بالهجوم المباغت، أو قل إن اللحظة التي سيُسلّم فيها السيد نفسه لم تحن بعد.
وإذ بيسوع يلتفت إليهم، ويسألهم بصوت قوي، ردَّد صداه الآبد: من تطلبون؟
ورغم أنهم تأكدوا من قبلة يهوذا أن السائل هو هو المطلوب، ولكن الربكة والخشية أصابتهم، فلم تمهلهم الجرأة ليقولوا له: إننا نطلبك أنتَ.. لم يجرؤ أشجعهم أن يهمَّ بالقبض عليه، إنما جاءت الإجابة غريبة، تنم عن مدى هذه الربكة وتلك الخشية، فقالوا: يسوع الناصري.
وإذ بيسوع يزيح الستار قليلًا عن عظمة ومجد لاهوته، مُعلنًا عن ذاته: أنا هو..
فإذ بالجمع، كل الجمع يرتبك ويجزع.. والذين في المقدمة تقهقروا مرتعدين، وشلتهم المفاجأة فلم يتمكن أحدهم من أن يركض، مُطلقًا ساقاه للريح. بل انطرحوا على بعضهم البعض.. سقطوا على الأرض من صغيرهم إلى كبيرهم، بما فيه رؤساء كهنتهم، وقائد حرس الهيكل، وحتى قائد المئة الروماني المغوار الذي طالما خاض غمار الحرب الضروس سقط، لأن رهبة يسوع غشتهم.. " وإذ قال إنه هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض، لا حول لهم ولا قوة، كمن هزهم رعد شديد أو صعقهم برق. كان يمكنه أن يأمر الأرض فتنشق وتبتلعهم كما حدث مع قورح وواثان وجماعتهما (عد 16: 49).. بهذا أكد للكل أنه سلَّم نفسه للموت بكامل إرادته" (7) ويقول القديس أغسطينوس " إنه إن كان قد فعل ذلك عندما أُلقي القبض عليه ليُحاكَم، فماذا يفعل عندما يأتي لكي يُحاكِم" (8).
جاء الباطل يقبض على الحق فانكفأ على وجهه مثلما سقط داجون أمام تابوت العهد، لأن الحق لم يسمح للباطل حتى هذه اللحظة أن يتمكَّن منه..
أما آلاف الشياطين الذين صاحبوا الموكب في جلبة وضوضاء، وكأنهم جنود أغوار في حلبة القتال، فإنهم فروا هاربين سريعًا، ولم تنجح أوامر سطانئيل الصارمة وصيحاته وصرخاته في لمْ شملهم.
وكانت الفرصة سانحة تمامًا لكي تهرب لحياتك يا يسوع لو أردتَ.. لكنك لم تفعل، لأنه لأجل هذه الساعة قد أتيتَ، فظلَّلت واقفًا بجلالك وجمالك.. بشموخك وكمالك..
إذًا.. هل ستُسلّم نفسك إليهم يا يسوع؟
نعم..
إذًا.. لماذا أسقطتهم تحت قدميك؟!
لكي لا يفتكوا بأولادي التلاميذ، ولا يقبضون عليهم بحسب مشورة قيافا.
وظل يسوع واقفًا حتى نهضوا ولملموا شتات أنفسهم وجمعوا شملهم، ولكيما لا يظن أحد أن يسوع ارتفع في هذه اللحظة إلى السماء وأسقط شبهه على آخر، أعاد ذات السؤال: من تطلبون؟
وإذ وطأة يسوع خفت عليهم هذه المرة فأجابوه: يسوع الناصري.
يسوع: قد قلت لكم أنا هو.. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون.
لم يتحدث إليهم يسوع بلهجة التوسل والرجاء، إنما بلهجة القوة والأمر ووضع الأمور في نصابها، ولم يكن لأحد خيار آخر، بالرغم من أنهم مكلفون بالقبض على الجماعة كلها، لكنهم أطاعوا بلا جدال ولا نقاش، خشية يسوع الذي كشف منذ لحظات عن قوته وسطوته، فلا الجنود الذين تعودوا الطاعة العمياء لقادتهم، ولا العبيد الذين يلتزمون بأوامر أسيادهم، جرأ أحد من هؤلاء أو أولئك أن يخالف أوامر الملك المسيح الذي يحفظ قطيعه الصغير.. إنه الراعي الصالح المتكفل بسلامتهم، ومن أجلهم يبذل ذاته.
عجبًا يا ربي وإلهي ولماذا تركت الباطل يتمكَّن منك..؟! عندما أرادوا أن يخطفوك ليجعلوك ملكًا انصرفت عنهم والآن تُسلم لهم ذاتك لكيما يذبحونك!!
وهمس يسوع: لكيما أطلق الذين قبض عليهم الموت من أولادي، وأرسلهم إلى الحرية.. من أجلهم سأسلم الآن نفسي، فيظن الموت أنني مثلهم فيبتلعني، وحينئذ سأشق بطنه وأقوم، وفي يدي أولادي الذين سبق وأبتلعهم بل والذين يتجرأ ويبتلعهم فيما بعد..
وكان ملخس هو أول من اندفع وأمسك بيسوع بكل وحشية، فهو عبد ضخم البنية مفتول العضلات، ولم يتمالك بطرس نفسه، ولاسيما أنه عاين من لحظات قوة يسوعه، فاستل سيفه وضرب ملخس ضربة هوجاء بغية الإطاحة برأسه، ولكن ملخس أشاح برأسه بعيدًا عن سيف بطرس الذي أطاح بأذنه اليمنى..
بينما صاح بقية التلاميذ: يا رب.. أنضرب بالسيف؟
وفي هذه اللحظة كان من الممكن أن تحدث مذبحة يتحول فيها التلاميذ الأحد عشر إلى أشلاء متناثرة، ولكن مازال يسوع - وكما هو دائمًا - سيد الموقف وضابط الكل، فأمر بطرس: رد سيفك يا بطرس إلى غمده، فأنا لم آتِ لأهلك وأقتل وأذبح إنما جئت لأخلص.. ألاَّ تعلم أن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون.
إنها وصية يسوع الأبدية لأتباعه في كل آن ومكان، ولذلك يستشهد شهداء يسوع ويُذبحون، لكنهم سيفًا لا يحملون، وبغضة لا يكنون، ودمائهم تأتي بثمر كثير.. حقًا وحقيقة، لم يكن يسوعنا يومًا غازيًا فاتحًا يفرض دينه بقوة السيف، ولم يفرض إتاوة ولا جزية على أحد، ويقول المثل اللاتيني "لا يمكن أن تُفرض الديانة بالقوة، لكنها تتطلب الدفاع عنها لا بالقتل بل بالموت".
ثم أردف يسوع القول لبطرس: الكأس التي أعطانيها الآب ألاَّ أشربها.. أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدّم لي أكثر من أثنى عشر جيشًا من الملائكة، فكيف تكمل الكتب أنه ينبغي أن يكون.
أُنظر يا بطرس أنت لك فكرك وأنا لي فكري.. لك نظرتك ولي نظرتي..
أنت تظن أنني قُهرت أمام هذه الوحوش. أما أنا فإنني أتسلّم هذه الكأس من يد الآب الذي سرَّ أن يسحقني بالحزن.. أنهم لا يرون يا بطرس صورتي الإلهية، إنما يرون الآن خطايا البشرية وآثامها التي حملتها على منكبيَّ..
ألا تذكر يا بطرس أن ملاكًا واحدًا قتل كل أبكار مصر، وملاكًا واحدًا قتل مائة خمسة وثمانين ألفًا من جيوش سنحاريب..؟! فما بالك بجيش كامل من الملائكة..؟! وما بالك بإثنى عشر جيشًا من هؤلاء الملائكة..؟! وأعلم يا بطرس، إنه لو هبط إلى أرضنا هذا العدد المهول فإن السماء ستظل عامرة بالملائكة.. فكم هو عدد الملائكة يا بطرس؟!..!! أنا هو رب الملائكة ولا أشأ أن أدافع عن نفسي بغية خلاصك وخلاص إخوتك، وأرفض أن يدافع أحد عني لينصر دين الله..
يا ملائكة السماء.. أتصفون لي مشاعركم حينذاك؟..!!
بلا شك أنكم أردتم الاندفاع كبطرس، ولكن ليس الملاك الخاضع الملتزم بأوامر سيده مثل بطرس، ولذلك التزمتم بأوامر بارئكم..
أي آلام جُزتم فيها يا ملائكة السماء وأنتم ترون سيدكم في هذه الصورة المذرية من أجل خلاص البشرية؟..!!
حقًا إنكم تفرحون بخاطئ واحد يتوب، ولكن كان لابد أن يجوز سيدكم هذه الساعات الحالكة لكيما يهيئ للخاطئ إمكانية العودة.
كان ملخس القوي الجبار يركع ويتلوى من الألم محاولًا وقف النزيف المتدفق، وإذ بيسوع الحاني يتحنَّن وينحني ويلتقط أذن ملخس ويضعها مكانها، حتى إن أعظم جراح في العالم يستحيل عليه أن يكتشف أن هذا الجرح ابن ليلته، بينما أخذ رؤساء الكهنة يردّدون بلا وعي: إنه ساحر.. ساحر عظيم.. مهما كان سحره، فإن القانون سيأخذ مجراه.. لن تقف العدالة مكتوفة الأيدي.
وإذ بقائد المئة ورئيس جند الهيكل يتجرأن ويمسكا بذراعي يسوع بعنف ويلويانهما خلف ظهره، وتتشابك أيدي الغوغاء تجذب ملابسه بفظاظة، بينما قدم أحدهم الحبال التي أحضرها فربطوا يسوع الذبيح وأوثقوه حتى لا يستطيع فكاكًا.. لم يفهم هؤلاء العصاة أنه سلَّم نفسه بإرادته..
والحقيقية أن فزعهم وذعرهم قد انعكسا على عنفهم وقسوتهم في شد الوثاق.. أوثقوه كمن نالوا نصرة عليه، ولعلهم خشوا أن يصنع معجزة فيفلت من أيديهم، لذلك أحكموا الوثق جدًا. يقال أنه إذ سلم نفسه أرادوا ضمان السيطرة عليه فقيدوه بعنفٍ شديدٍ، حتى كاد الدم يخرج من أطراف أصابعه. أوثقوا يديه خلفه، ووضعوا قيودًا حديدية في رقبته وصاروا يجرونه. بدأت سلسلة العذابات والإهانات بكل وسيلة ممكنة.. ما كان يمكنهم أن يوثقوه لو لم يوثق نفسه بقرون المذبح بحبال الحب الفائق، كحمل ليُقدَم ذبيحة عن العالم. لم يدركوا أنه قد رُبط عوضًا عنا نحن الذين تربطنا حبال آثامنا (أم 5: 22) ونير العصيان (مرا 1: 14).. وإذ صار مسيحنا خطية من أجلنا قبِل أن يُربط بالحبال لكي يحررنا من قيودنا. صار تحت القيود لننعم نحن بالحرية" (9).
وتنهد يوحنا: اليدان اللتان أشبعت الآلاف.. اليدان اللتان شفتا الأمراض، وفتحتا أعين العميان، وأخرجتا الشياطين، وأراحتا التعابى تشدُّ بالوثق هكذا..!!
لماذا يا رب.. لماذا؟..!!
لأجل محبتي لك يا يوحنا أنت وإخوتك.. لأجل حبي للبشرية في كل مكان وزمان..
وبعد أن تمكن الحشد من الأسد الخارج من سبط يهوذا استأسدوا، وتذأبوا وتنمَّروا، فصاروا وحوشًا كاسرة تحتقن عيونهم بنظرات الشر والغل والغدر، وتناسوا ما كان منذ لحظات، ولو شاء يسوعك لجعلهم مثل العصافة في وجه الريح العاصف، ولجعل سيوفهم قشًا، وعصيهم كلا شيء..
وانطلقت تعليقاتهم في سخط وسخرية: هوذا الذي فتن المسكونة كلها.. هوذا الذي طرد الشياطين ببعلزبول..
أما بالنسبة للتلاميذ فكأن الحياة كلها توقفت عند هذه اللحظة الرهيبة.. وتسللوا سريعًا، وفي خضم الأحداث أطلقوا سيقانهم للريح لا يلوون على شيء.. تبعثروا، وهرب كل منهم في اتجاه، هذا من اتجاه، وذاك من آخر، ورعبة الموت تطاردهم، أما أشجار الزيتون الكثيفة فقد سترت عليهم، وفلول الشياطين الذين فروا هاربين من ميدان الصراع منذ لحظات، عادوا غازين يكرون ويزعجونهم، ونجح بعضهم في تشكيك التلاميذ في شخصية وهوية يسوع، وتساءل التلاميذ: تُرى ماذا يجري في هذه الليلة الغبراء؟!
كيف يترك المُعلّم نفسه للغوغاء ليقبضوا عليه؟!
أليس هو المسيا الذي سيمكث معنا؟!
ولو كان هو المسيا لماذا لم يُنزِل نارًا من السماء ويحرقهم كما فعل إيليا؟!
لماذا لم يخسف بهم الأرض خسفًا؟!
وتحقق فيهم القول الإلهي " كلكم تشكُّون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أضرب الراعي فتتبدد الرعية"..
ألم يقل لهم المعلم منذ قليل: هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي؟!
وهرب التلاميذ في طريق مخالف للطريق الذي أتى منه الجنود.. لقد أقبل الجمع من وادي قدرون. أما التلاميذ المذعورين فقد فروا في الاتجاه الصاعد إلى جبل الزيتون، حيث يقع بيت عنيا على أكتافه، ولاحظ بعض الشباب مرقس وهو يسرع بالهرب، فأسرعوا يمسكون بتلابيبه، فأفلت من الآزار وجرى عريانًا وسط ضحكات وصيحات الجمع التي اختلطت بضحكات الشياطين.
أما يسوع فعاتب رؤساء الكهنة وأتباعهم: كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أُعلم ولم تمسكوني. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة..
وكأنه يريد أن يقول لهم: يا جند الهيكل وقائدهم.. ألم أكن معكم كل يوم في الهيكل أُعلم ولم تلقوا عليَّ الأيادي؟!
لو كان هناك خطأ في تعليمي، أو في سلوكي، فكيف تركتموني يا رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب إلى هذه اللحظة؟!
إن تعليمي يشهد لي أنني لم أكن يومًا لصًا ولا شريرًا ولا مثير فتنة.. فعلآم كل هذا؟!
لم أخرج إلى البراري لأتزعم جماعة ثائرة إنما كنتُ تحت أبصاركم في الهيكل وأمام الكل.. فلماذا لم تلقوا عليَّ الأيادي نهارًا جهارًا؟! ولماذا مجيئكم إليَّ في هذه الساعة من الليل؟!
ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة..
حدث من قبل في مدينة الناصرة أنهم قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز في وسطهم ومضى.. وحدث ذات مرة أن رؤساء الكهنة أرسلوا بعض الخدام ليمسكوه فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين وقال هؤلاء لهم: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان.. وحدث ذات مرة أنهم رفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا.. وكان يعلم كل يوم في الهيكل وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه. ولم يجدوا ما يفعلون لأن الشعب كله كان متعلقًا به يسمع منه.. أما الآن فهو يسلم نفسه بإرادته لأيدي الخطاة..
من قبل تقدم إبليس ليجرب ابن الإنسان وهو على جبل التجربة، فهزمه ابن الإنسان هزيمة ساحقة، فماذا فعل إبليس؟.. لقد تركه إلى حين.. فما هو مقدار هذا الحين؟ أنه أكثر من ثلاث سنوات. أما الآن فقد عاد إبليس بعد أن أعدَّ العدة ورتب أوراقه..
نجح في إثارة حقد وغل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وكل القيادات الدينية بلا استثناء..
ونجح في غزو قلب يهوذا تلميذه..
ونجح في تأليب الشعب ضده..
ونجح في زرع الخوف في قلب بيلاطس البنطي..
فجاءت ساعة الشر، وسلَّم يسوع ذاته لسلطان الظلمة، ولكن ليس لوقت طويل، فلن تستمر الظلمة على الصليب أكثر من ثلاث ساعات، ولن يُوسد جسده الطاهر في القبر أكثر من ثلاثة أيام ثم تأتي النصرة الباهرة، وتتلألأ أضواء القيامة بلا توقف إلى أبد الآبدين.. فصبرًا يا قلبي صبرًا.
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 03:20 PM   رقم المشاركة : ( 9 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

من يطلق حنان مِنْ سجنه؟

وكانت نحو الساعة الواحدة والنصف صباح يوم الجمعة، فربطوه وأوثقوه بالحبال، وساقوه بتلك الجبال، بينما أخذ قائد المئة كعادته في قبضه على المجرمين يلطمه على وجهه لطمات قوية، بقصد إذلاله، وحتى يُشعِره بأنه صار أسيرًا لا حول له ولا قوة، فقد فَقَد حريته وإرادته وكل شيء.. وما رآه الأنبياء منذ مئات السنين هوذا يتحقق في هذه اللحظات..
ألم يقل صاحب المزمور " وسلَّم للسبي عزّهُ وجلاله ليد العدو" (مز 78: 61)؟!
أولم يتنبأ النبي الإنجيلي قائلًا " كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (أش 53: 7)؟!..
أولم يبكيه النبي " مسيح الرب أُخذ.. الذي قلنا عنه في ظله نعيش بين الأمم" (مرا 4: 20)؟!
وتقدم الموكب، وجند الرومان مع جند الهيكل يحيطون بيسوع. أما رؤساء الكهنة مع الكتبة والفريسيين فقد ساروا في ذيل الموكب، وكأنهم أبرياء مما يجري الآن، إذ ترتسم على وجوههم ابتسامة وبراءة الأطفال، وقد انشرحت قلوبهم لنجاح خطتهم هذه المرة في القبض على مُعلّم الناصرة بدون أية خسائر في الأرواح.. أما يهوذا فأين موقعه الآن..؟! منذ لحظات كنت يا يهوذا تقود الموكب، والجميع أعينهم مشدوهة نحوك، يسيرون بسيرك، ويقفون لوقفتك، يسرعون بإسراعك، ويبطئون لإبطائك. أما الآن فقد صرت كمُ مُهمل.. وما أنت يا تلميذ إلاَّ ورقة قد استهلكها الشيطان واحترقت.. سلبك الشيطان أغلى ما تملك، والآن يصرخ في وجهك: فلتذهب إلى الجحيم يا يهوذا.. هل غطى الآن الخزي وجهك..؟! أم أنك بدأت تشعر بالخزي الذي طرحته قبلًا عنك؟!
وفعلًا بدأ الخزي يغطي وجه يهوذا، أو قل بدأ يشعر بهذا الخزي..
وهل فكرت يا صاحب أن تختبئ وسط أشجار البستان كما فعل أبوك آدم من قبل؟!
وسار الموكب في جلبة وضوضاء، تحفَّه تعليقات القادة والرؤساء التي لا تنتهي:
-ألم يكن الأجدر به أن يهرب إلى ساحل صور وصيدا؟!
-لو التجأ إلى ناصرة الجليل، لوجد رجالًا شجعانًا يزودون عنه، ليسوا مثل تلاميذه الذين فروا مذعورين..
-كيف يجرؤ على مهاجمتنا في عقر دارنا؟!
-أيدخل قفص الأسود ويكون في مأمن على حياته؟!
-وأين يذهب من أقوياء باشان؟!
-الويل كل الويل لمن صبَّ علينا الويلات..
-الشكر كل الشكر ليهوه الذي حفظ جماعته من ضلال هذا الرجل، وسحره..
ودخل الموكب إلى مدينة أورشليم التي دخلها يوم الأحد الماضي، وكان الفارق عظيمًا بين هذا الدخول وذاك الآخر.. وأيما فارق؟!
في الدخول الأول كان راكبًا على أتان.. أما الآن فهو يسير أسيرًا مُوثَقًا بالحبال..
في الدخول الأول كرَّموه كملك ظافر.. أما الآن فإنه كأحد اللصوص المجرمين يلطمونه ويركلونه..
في الدخول الأول أحاطت به الجموع والتلاميذ يهتفون له.. أما الآن فقد هرب الكل وتركوه وحيدًا..
في الدخول الأول ارتجت له المدينة.. أما الآن فالمدينة تغط في نومٍ عميق..
في الدخول الأول فرشوا له الثياب.. أما الآن فيمسكونه كلص من ثيابه ويسوقونه..
في الدخول الأول حملوا له أغصان الزيتون وسعف النخيل.. أما الآن فقد رفعوا عليه السيوف والعصي..
في الدخول الأول هتفوا له " أوصنا يا ابن داود".. أما الآن فإنهم يتهامسون ضده..
في الدخول الأول دخل إلى الهيكل وطهره.. أما الآن فيدخل إلى بيت رئيس الكهنة ليعطي حسابًا عن تطهيره للهيكل..
ودخلوا إلى المدينة من باب الضأن، لأنه هو الذبيح الأعظم، قاصدين قصر رئيس الكهنة عبر شوارع يعز عليك مشاهدة أحدًا من المارة فيها، وإذ وصلوا إلى بيت القصيد، انصرف قائد المئة الروماني مع جنده مشكورين بعد أن أدوا المهمة المُكلَفين بها، والحقيقة أنه بحسب الأصول المتبعة كان من المفروض أن يصطحب قائد المئة يسوع إلى دار الولاية رأسًا، ولكن لحاجة في نفس أبناء يعقوب ترك القائد الروماني الفريسة للذئاب اليهودية..


كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
St-Takla.org Image: Jesus Christ at the home of Annas the High Priest
صورة في موقع الأنبا تكلا: السيد المسيح في بيت حنان رئيس الكهنة
وصل الموكب إلى قصر حنان رئيس الكهنة. كما قطن قيافا ذات القصر لأن زوجته طلبت ألاَّ تفارق بيت أبيها بعد زواجها.. وبين الجانب الذي يقيم فيه حنان والآخر الذي يقيم فيه قيافا تقع الصالة التي خُصّصت لاجتماعات السنهدريم بعد أن أغلقت السلطات الرومانية مبنى السنهدريم الواقع جنوب قصر حنان، وقد حوى هذا القصر العديد من الحجرات المتسعة والصالات الفسيحة، مما يعكس حالة الغنى الفاحش، ويعد هذا القصر بالنسبة للإنسان اليهودي هو أهم مكان بعد الهيكل، فارتفاع شأنه هو رفعة لشأن كل يهودي، وهذا القصر بالذات يزداد في أهميته عن أي قصر لرئيس كهنة آخر، لأنه ضم في أحشائه رأسي الأفعى حنان وقيافا، وكان هناك حكمة من محاكمة يسوع في هذا المكان بالذات، وفي تلك الساعة بالذات، وهي إبعاده عن مؤيديه من الجماهير الذين تعدى عددهم ثمانية آلف نفس.
وكانت نحو الساعة الثانية صباحًا، عندما فتحت بوابة القصر الضخمة على مصراعيها، ودخل موكب العبد المتألم، وللوقت حدث هرج ومرج بين حرس الهيكل والخدم والعبيد والجواري، وبالرغم من أن رئيس الكهنة الرسمي في هذه السنة هو قيافا إلاَّ أنهم قادوا يسوع إلى حنان كنوع من الالتزام الأدبي، وكان حنان لا يزال يحظى بالاهتمام الأكبر من الكل، فهو الوحيد الذي بذكائه ودهائه ظل محتفظًا بسطوته، وجمع بين أصابعه جميع الخيوط، فلا تحدث صغيرة ولا كبيرة في الهيكل إلاَّ وحنان صانعها، وكم كان طمعه وجشعه يقودونه في إدارة شئون الهيكل، إذ كان يدبر كل شيء بعقل التاجر الجشع، وكل شبر في فناء الهيكل يساوم عليه مع أصحاب العملة وتجار الأغنام والحمام، فنجح نجاحًا باهرًا في تحويل بيت الصلاة إلى مغارة لصوص.. وكم كانت نقمة حنان على يسوع الذي حوَّل مغارة اللصوص إلى بيت صلاة..
يسوع هذا الذي نبه قلوب الغيورين إلى أطماع حنان، وفضح سلوكه أمامهم، فاشتعل قلب حنان حقدًا وغلًا عليه..
يسوع هذا الذي وقف بسلطان، فلم يدع أحد يجتاز بمتاع، وصار يُعلّم الشعب، ويشفي المرضى، فأحب الناس يسوع أكثر من هؤلاء الكهنة المزيفين..
يسوع هذا الذي وضع هؤلاء في قفص الاتهام، وصبَّ عليهم الويلات نهارًا جهارًا، ورغم سعة حيلة حنان ودهائه البالغ، إلاَّ أنه وقف عاجزًا عجزًا لم يختبره من قبل أمام يسوع هذا، فكرهه حنان من كل قلبه، وطردت تلك الكراهية من جفونه النوم، ولاسيما في هذه الليلة ليلة الحسم، وبالرغم من البرودة القارصة وكبر سن الشيخ العتيق في الشر، فإنه أثر أن يترك الفراش الوثير وظل يقظًا مترقبًا وصول يسوع إلى هذا الوكر.
توقف الموكب قليلًا في فناء القصر، ودلف رئيس جند الهيكل إلى حيث حنان، ليقدم تقريرًا شفهيًا عن أحداث القبض على يسوع، وكيف سقطوا جميعهم أمامه، وكيف أطاح أحد أتباع يسوع بأذن ملخس، ولكن يسوع هذا أعاد الأذن المقطوعة في التو واللحظة، ولكن حنان الذي أغلق عقله أمام أي فكر آخر باستثناء موت يسوع لم يهتم بهذا التقرير. بل فرح وسرَّ لأن عملية القبض تمت في سلام بدون إراقة دماء، وهوذا يسوع في قبضته الآن، وعلى الفور أرسل يستدعي من يمكن إستدعائهم من أعضاء مجمع السنهدريم، ودلف حنان إلى إحدى الصالات المتسعة يتبعه أبناؤه من رؤساء الكهنة وبعض الفريسيين وشيوخ الشعب الذين شاركوا في القبض على يسوع، وجلس من جلس، ووقف من وقف، وتصدَّر حنان الجلسة، آملًا أن تسير الأمور على ما يرام حتى يتمكن من القضاء على معلم الجليل العنيد، بالقانون والشرعية الدينية.
ودفعوا بيسوع أمام حنان وانفتحت عينا حنان تحدقان يسوع بنظرات فاحصة، تلك النظرات التي يفحص بها رئيس الكهنة الحملان التي تُعرَض عليه عشية عيد الكفارة العظيم، للتصديق على سلامتها، وحتى يمكن تقديمها كذبائح مقبولة في عيد الكفارة.
ووقف يسوع.. شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، وبحسب التقرير المقدَّم من معاصريه نراه " إنسان بقوام معتدل ذو منظر جميل للغاية، له هيبة بهية جدًا حتى من نظر إليه يلتزم أن يحبه ويخافه، وشعره بغاية الاستواء متدرجًا إلى أذنيه ومن إلى كتفه بلون ترابي إنما أكثر ضياء.. وفي جبينه غرة كعادة الناصريين، ثم جبينه مسطوح دائمًا بهيج ووجهه بغير تجاعيد بمنخار معتدل وفم بلا عيب..
وأما منظره فهو رائع وعيناه كأشعة الشمس، ولا يمكن لإنسان أن يحدق النظر في وجهه نظرًا لطلعة ضيائه. فحينما يوبخ يرهب ومتى أرشد أبكى، ويجتذب الناس إلى محبته. تراه فرحًا وقد قيل عنه ما نُظر قط ضاحكًا بل بالحري باكيًا، وذراعاه ويداه هما بغاية اللطف والجمال. ثم أنه بالمفاوضة يأسر الكثيرين. وإنما مفاوضته نادرة، وفي وقت المفاوضة يكون بغاية الاحتشام فيختال بمنظره وشخصه أنه هو الرجل الأجمل. ثم أنه من جهة العلوم أذهل مدينة أورشليم بأسرها لأنه يفهم كافة العلوم بدون أن يدرس شيئًا منها البتة.. فكثيرون أن يرونه يهزأون به ولكن بحضرته وبالتكلم معه يرجف ويذهل. وقيل أنه لم يُسمع قط عن مثل هذا الإنسان في التخوم.. ويقال أنه ما أحزن أحد قط بل بالعكس يُخبر عنه أولئك الذين عرفوه واختبروه أنهم حصلوا منه على إنعامات كلية وصحة تامة" (10).
وبينما كان حنان يعبث بلحيته، وهو يتأمل يسوع الأسير ويطيل النظرات، لاحظ الهدوء الذي ارتسم على وجه يسوع، ورباطة جأشه في موقف صعب كهذا يدعو للرعدة والاضطراب.. كان حنان يظن أنه يعرف كل شيء عن يسوع لأنه عرف موطنه وتلاميذه وتعاليمه وذكائه الحاد وشجاعته النادرة ونظراته المؤثرة وخدمته الباذلة المجانية ومعجزاته التي ليس لها مثيل، وتأثر حنان تأثرًا بالغًا، لأن شابًا يهوديًا بمثل هذه المميزات الفذة يُعرّض حياته للخطر بسبب عناده.. آه لو كان معنا ولم يكن علينا لدفعنا به إلى مركز القيادة، ولأطلقناه قائدًا مغوارًا في وجه روما، ضد الاستعمار الروماني الجاثم على صدورنا، ولكن لا فائدة تُرجى، وهل يفيد البكاء على اللبن المسكوب..؟! فعلى هذا العنيد أن يدفع ثمن عناده.
وقف يسوع يُحاكم المحاكمة الأولى أمام حنان، وهي بالطبع ليست محاكمة رسمية، لأن الذي يجريها ليس ذو صفة رسمية.
تنهد حنان وقال ليسوع: لقد جذبت العالم كله وراءك، وصرتَ تقدم للشعب الفتاوى والأحكام، وأنت لا تحمل أي درجة كهنوتية ولا تعليمية، ولستَ من اليهودية بل من الجليل، وأنك تأكل مع الخطاة والزواني، وتكسر الوصية الرابعة وأنت أعلم بجزاء من يكسر السبت.. بل أنك جعلت نفسك ابنًا ليهوه، وأثرتَ الشعب ليهتف لك، وفعلتَ ما فعلت يوم الأحد الماضي.. ناهيك عن أخطائك القاتلة الكثيرة..
ثم رفع حنان صوته قائلًا:
والآن قل لنا أيها المسيح من هم تلاميذك؟ كم عددهم، من هم الاثني عشر؟ ومن هم السبعين الآخرين؟.. ما هي تعاليمك؟ وما هو هدفك الذي تصبوا إليه؟
يسوع: أنا كلمتُ العالم علانية. أنا علَّمتُ كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائمًا، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.. لماذا تسألني أنا؟ أسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا..
لقد أراد يسوع أن يبرر تلاميذه من أي تهمة كانت، وآثر أن يتحمل المسئولية كاملة لذلك قال "أنا قلتُ.. أنا علَّمتُ.. قلتُ أنا " وكأنه يريد أن يقول له أيضًا: أنظر يا حنان إلى السرية التي غلَّفتم بها جريمتكم، بينما النور لا يخشى شيئًا.. إنني كنت أجاهر بتعليمي في العلن وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.. حقًا إن العلنية التي افتخر بها يسوع تدين التخابرات السرية لرؤساء الكهنة مع يهوذا ومع الرومان " أنا الرب وليس آخر. لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مُظلم.. أنا الرب مُتكلّم بالصدق مُخبر بالاستقامة" (أش 45: 18، 19).
وأمام هذا المنطق القوي وتلك البراءة المُعلَنة خسأ حنان وخجل، وشعر الشيخ العجوز بالامتهان، واهتزت عمامته مع كرامته، وعاد يعبث بلحيته، ولا يدري ماذا يقول أمام هذه الطلاقة واللباقة والفصاحة، ومع هذا فإنه تماسك حتى لا يظهر بمظهر المتعدي على الأسير قبل أن يحكم مجمع السنهدريم الموقر عليه.
وأحس أحد الخدام بمدى الحرج الذي أصاب رئيسه، وأن هذا الشاب قد أودعه سجنًا أدبيًا لا يستطيع منه فكاكًا، فهاج وأراد أن ينقذ رئيس كهنته، فما كان منه إلاَّ أن لطم يسوع على وجهه لطمة قوية، وهو يقول له: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟
يسوع: إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء. وإن حسنًا فلماذا تضربني؟
لم يثُر يسوع ولم يندفع ولم يلعن، إنما أراد أن يُلقّن هذا الخادم درسًا علَّه يفيد البشرية، لتراعي أبسط مبادئ العدالة لِمن هم رهن المحاكمة، ولم يقصد يسوع هنا أن يدافع عن نفسه إنما قصد أن يقول لهذا الإنسان: لماذا ترتكب هذه الخطية الشنعاء؟!
وما هي مصلحتك في هذا؟
ولماذا تزج بنفسك إلى نار جهنم؟!
إن كنتُ قد تكلمتُ رديًا فأقصى ما يمكنك عمله، هو الشهادة فقط على الرديء، وليس لك أن توقع عليَّ العقوبة..
وحار الخادم أمام هذا المنطق، ودخل في قفص الاتهام الأدبي مع سيده.. وكان من المفترض أن تأخذ النخوة حنان فيتدخل ويشكم خادمه، ويطرده شر طردة، لأنه بتصرفه الغبي هذا أساء إلى سيده وهو لا يعلم، فمن يدافع عن من..؟! هل الخادم يدافع عن رئيس الكهنة أم أن رئيس الكهنة يدافع عن خادمه..؟! ولكن حنان تدنى إلى الدرجة التي أرتضى فيها أن يدافع عنه الخادم في قضية باطلة. ثم يا حنان من الناحية الأدبية أنت مسئول عن سلامة أسيرك مادام في قبضتك، فتعدي هذا الخادم على الأسير يُعتبر تعدي عليك يا حنان شخصيًا، ولكن إذ تبلدت مشاعر ذاك الحنان مرَّر الموقف، ولم يشأ حتى أن يلقي باللوم على هذا الخادم الشرير، وأمر بإرسال يسوع إلى قيافا.
  رد مع اقتباس
قديم 02 - 07 - 2014, 03:22 PM   رقم المشاركة : ( 10 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,049

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب

شهود الزور

الساعة تقترب من الثالثة صباحًا من يوم الجمعة، والجند يدفعون بيسوع موثقًا من بيت حنان إلى بيت قيافا، ولم يستلزم هذا منهم إلاَّ هبوط عدَّة درجات، وعبور الدهليز، وصعود عدَّة درجات مماثلة، والخدم يتبعونهم.. القصر كله يقظ وقد جافى النوم عينيه فلا الرجال ولا السيدات ولا الخدم ولا العبيد ولا الإماء ذاقوا النوم في تلك الليلة، فهي ليلة ليست مثل كل ليلة.. هناك من يذهب وهناك من يئيب.. الخدم والعبيد يذهبون في مأموريات عاجلة، وأعضاء السنهدريم يتوافدون، واحد يلو الآخر، وكذلك شهود الزور يتدفقون على القصر، والكل مشغول بقضية مُعلّم الجليل الرجل المعجزة قاهر الموت، وبينما الخدم والعبيد يحاولون اختلاس النظرات لذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر، فإن سيدات القصر يستجدين الأخبار منهم.. أنه يُحاكم أمام سيدنا حنان.. لقد لُطِم على وجهه.. أنه يُقاد إلى سيدنا قيافا..
وإذ كانت الليلة شديدة البرودة، تجمَّع بعض الخدم في الفناء حول النار يصطلون، ورغم انتشار المصابيح في الطرقات والردهات، ولكن من لي ليُبدّد ظلمة تلك النفوس، فلا النار ولا النور بوسعيهما أن يقشعا الظلمة عن تلك النفوس الظمأى لدم الناصري.
ومرقس الذي انطلق إلى بيته عريانًا، عاد سريعًا وقد ارتدى ملابسه إلى بيت رئيس الكهنة، ودلف في غفلة من البوابة إلى القصر، وأيضًا يوحنا الذي استجمع شجاعته جاء ودخل علانية لأنه كان معروفًا لدى الخدم، إذ كان يُحضر الأسماك الطازجة والمميَّزة إلى هذا القصر، وبعد قليل همس مرقس في أذن يوحنا: إنني لمحت بطرس يحوم حول القصر.
فذهب يوحنا وكلم البوابة بدالة فأدخلت بطرس إلى القصر رغم أنه شخص مجهول بالنسبة لها. بل ربما شكت فيه إنه أحد أتباع المتهم.
وكان قيافا قد رتب أوراقه للحكم على مُعلّم الجليل بأي تهمة تفضي إلى القتل، ولكيما يكون انعقاد مجمع السنهدريم صحيحًا، يجب ألاَّ يقل عدد الأعضاء المجتمعين عن ثلث الأعضاء، وبالفعل نجحت مساعي حنان وقيافا في استدعاء أكثر من هذا العدد في تلك الساعة بفضل الإلحاح والترجي، فكان هناك رؤساء الكهنة حنان وأولاد الخمسة وقيافا سبعة رجال من أعضاء المجلس الموقر، وجميعهم من " الصدوقيين " نسبة لصادوق الكاهن الذي خصه الملك سليمان برئاسة الكهنوت دون أبياثار (1 مل 2: 35) وقد انحدروا إلى الدرجة التي أنكروا فيها القيامة والملائكة والأرواح وحياة الدهر الآتي، ولذلك اضطربوا من يسوع الذي جاء يكلمهم عن القيامة والدينونة والحياة الأخروية، وقد سبق وأرسلوا له يسألونه في مثل المرأة التي تزوجت بسبعة أخوة الواحد بعد موت الآخر، فقال لهم "تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله لأنهم في القيامة لا يُزوّجون ولا يتزوَّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء وأما من جهة قيامة الأموات أما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل. أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. ليس الله إله أموات بل إله أحياء" (مت 22: 29 - 32) وهكذا اقتصر رجاء الصدوقيين على هذه الحياة الأرضية وصرفوا اهتماماتهم نحو التراب والترابيات..
كيف يجبون جباية الهيكل ويحصلون على العشور ويحلبون الشعب؟!
كيف نسوا الفقراء وتركوا المحتاجين وأهملوا الغرباء، وصرفوا ببذخ على أنفسهم، فعاشوا عيشة الملوك؟!
كم كان لديهم من عبيد وخدام وإماء، وأجزلوا العطاء لروما ليلبثوا في مناصبهم أطول فترة ممكنة؟!
إنهم بالحقيقة يمثلون الطبقة الأرستقراطية في المجتمع اليهودي، وانشغالهم بالثراء والسياسة صرفهم تمامًا عن الاهتمام بأمور الدين والأخلاق الحميدة، وترجع أهمية طائفة الصدوقيين ليس إلى عددهم بل إلى خطورة مناصبهم، وكانوا يركزون على سلطة وسلطان الهيكل ويرفضون كل ما هو جديد.
أما "الفريسيون" أي المعتزلون أو المفروزون، فقد أطلق عليهم الصدوقيون هذه التسمية نظرًا لاعتزالهم عن المجتمع، وكان الفريسيون يشعرون أنهم مميَّزون لدى الله عن بقية اليهود بسبب تدقيقهم واعتزالهم عن الأمم، وقد اهتموا بالوعظ وتفسير الناموس، ولذلك اكتسبوا شعبية تفوق تلك التي لرؤساء الكهنة الصدوقيين، وكان الشعب يضع ثقته فيهم، وتقلد الفريسيون سلطة القضاء بمجمع السنهدريم، وتمسكوا بالتفسير الحرفي للناموس، فلا عجب أن نسمع عن مشادة بين مدرستي "شماي" ومدرسة "هاليل" بسبب تحليل أو تحريم البيضة التي وضعتها الدجاجة في يوم سبت، وبينما كانت مدرسة هاليل تحرّم أكل هذه البيضة، فإن مدرسة شماى كانت أكثر تسامحًا فسمحت بأكلها، ونسمع عن مجادلة حول الإنسان الذي يتعرض للحرق يوم سبتٍ، هل يحل له إطفاء ملابسه المشتعلة..؟! وانتهى الرأي إلى تحليل إطفاء ملابسه الداخلية فقط التي تستر عريه، أما بقية الملابس فيتركها تحترق، وكانوا يعتبرون أن لبس الحلي أو الأسنان الصناعية أو حمل الأطراف الصناعية يكسر السبت لأنه نوع من الأحمال المحرمة، وقتل البرغوث يكسر السبت لأنه نوعًا من الاقتناص..
وبينما كان الفريسيون على خلاف شديد مع الصدوقيين، فإنهم ارتبطوا بعلاقة وثيقة مع الكتبة، وكان للفريسيين تقليداتهم التي دعوها "تقليدات الشيوخ" ورفعوا من شأنها إلى درجة الناموس، فهم يعتبرون أنفسهم معلموا الطقوس، وظنوا أن الله يبارك اليهود لكونهم أولاد إبراهيم، ولذلك وبخهم يوحنا المعمدان قائلًا لهم " يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم أن لنا إبراهيم أبًا. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (لو 3: 7، 8) وكان منهم غمالائيل معلم الناموس وتلميذه شاول الطرسوسي، ونيقوديموس وسمعان الأبرص عضوي مجمع السنهدريم.
وهاجم هؤلاء الفريسيون معلم الناصرة واتهموه أنه يخرج الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين، وأنه بصنعه المعجزات والأشفية في يوم السبت يكسر السبت، ولاسيما عندما قال للمفلوج أحمل سريرك وأمشي.. فكم غضبوا عليه حينئذ..؟! ولاموا على المسيح، لأن تلاميذه لا يصومون، بينما كانوا هم يصومون يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فيوم الخميس تذكارًا لصعود موسى للجبل لاستلام الشريعة، ويوم الاثنين تذكارًا لنزوله من الجبل. وانتقدوا معلم الناصرة انتقادًا مرًا بسبب أكله مع الخطاة والعشارين والزواني، وكثيرًا ما جربوه ليصطادوه بكلمة ويحكمون عليه. أما المعلم فقد وبخهم على ريائهم قائلًا " أنتم الآن أيها الفريسيون تنقُّون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافًا وخبثًا. يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا.. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تعشرون النعنع والسَّذَاب وكل بقلِ وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم مثل القبور المختفية والذين يمشون عليها لا يعلمون" (لو 11: 39 - 44) ولذلك لك أن تتصوَّر يا صديقي مدى نقمتهم على يسوع، فكم يشتهون أن يشفوا غليلهم عندما يروه مُعلقًا على خشبة العار؟! وإن كان معظمهم قد آثر الانسحاب من حلقة الصراع الأخيرة تاركين مهمة القضاء على يسوع للصدوقيين ومشايعيهم.
أما "الكتبة" فكان عملهم نسخ الأسفار المقدَّسة وتفسيرها، وعُرِفوا باسم السفريم، وهي مشتقة من كلمة سفر أي سجل أو كتاب، وكان الكتبة يعتبرون أنفسهم معلموا اللاهوت، وكان بعضهم أعضاءًا في مجمع السنهدريم، ونال بعضهم رتبة "رابي" Rabbi، وبعضهم نالوا الرتبة الأعلى "رابوني" Rabboni، وألتزم الكتبة بالتفسير الحرفي للناموس وتشدَّدوا في حفظ تقاليد الشيوخ، ولذلك ارتبطوا بصلة وثيقة مع الفريسيين.
وقاوم الكتبة معلم الناصرة، فلقد كان دائم التوبيخ لهم " على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون. فأنهم يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس.." (مت 23: 1-7) وبالتالي فإن هؤلاء الكتبة كانوا ناقمين على مُعلّم الناصرة يتمنُّون من كل قلبهم الخلاص منه.
وكان هناك أيضًا طائفة "الناموسيين" الذين اهتموا بدراسة ناموس موسى من الجهة القانونية، فهم معلموا القانون ويعتبرون أنفسهم حماة الشريعة مثل الكتبة والفريسيين، ورفضوا مثلهم بشارة يوحنا المعمدان، وكرازة يسوع، وحاولوا اصطياده بكلمة، وقال أحدهم للمُعلّم عندما وبخ الفريسيين: يا مُعلّم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضًا فقال لهم "وويل لكم أنتم أيها الناموسيون لأنكم تُحّملون الناس أحمالًا عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم. ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم.." (لو 11: 46 - 48).
كما ضم المجمع اليهودي طوائف أخرى شتى أقل أهمية مثل "الأسينيون" الذين عاشوا حياة البتولية والنسك والتقشف و"الهيردوسيون" الذين يوالون العائلة الهيرودسية، و"الغيورون" الذين لا يعترفون بسلطة أحد من الشعب ولكنهم يعتبرون بسلطة الله فقط، ومنهم سمعان الغيور، وكانوا يقاومون الرومان بحماس وغيرة شديدة.

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
أما "مجلس السنهدريم" فهو يمثل السلطة الأعلى في المجتمع اليهودي بكل طوائفه وفئاته، وجاءت تسمية السنهدريم من "سنهدريم" Sunhedrion أو "سنهدرين" Sunhedrin والكلمتان من الكلمة اليونانية "سندريون" Synedrion أي محكمة، ويرجع تاريخ هذا المجمع إلى زمن موسى النبي عندما اختار سبعين من شيوخ إسرائيل ليعاونوه في احتياجات الشعب وأعمال القضاء بحسب مشورة حماه يثرون، ولذلك فإن اليهود قد حافظوا على نفس العدد سبعين شيخًا بالإضافة إلى رئيس الكهنة الذي يمثل موسى، ويبلغ عدد أعضاء الهيئة العليا للمجمع ثلاثة وعشرين عضوًا من الواحد والسبعين.
اجتمع مَنْ تَجمَّع من أعضاء المجلس الموقر في صالة الاجتماعات الخاصة بهم، والساعة تجاوزت الثالثة صباحًا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي اجتمع فيها المجلس بشأن هذه القضية، فقد طُرحت قضية يسوع على مائدة البحث في هذا المجلس الموقَّر مرة ومرات، أرسلوا خدامًا ليحضروه من قبل ولكنهم عادوا قائلين " ما سمعنا أحد قط يتكلّم بكلامه " ومرة أخرى أرسلوا أُناسًا ليصطادوه بكلمة فيحكموا عليه، ولكنهم باءوا بالفشل الذريع، ومنذ أيام قليلة كان هناك اجتماعًا موسعًا بسبب إقامة لعازر من الموت، وإيمان عدد كبير من اليهود مؤكدين أنه ليس أحد يقدر أن يعمل هذه المعجزة إن لم يكن الله معه، حتى الذين كانوا يخشون السلطات الدينية المستاءة من يسوع لم يعودوا يخشون شيئًا، بل اجتاحتهم الشجاعة وأقرُّوا المعجزة مؤكدين أن هناك أمرًا ما يفوق الطبيعة يخص يسوع، وقد عمَّت الأخبار أورشليم ومدن إسرائيل، وانتظر الشعب هبوب رياح الثورة والتغيير على يد يسوع الجبار ليطيح بالفساد الديني والنير الروماني الذي طالما أثقل الأعناق.. وكم كان اجتماعًا مثيرًا!! فقد حضره كل أعضاء المجلس وناقشوا موضوع يسوع من وجهة نظر أنانية، وقال أحدهم:
عندما يلتف الشعب كله حوله.. فأين هو دورنا نحن..؟! لابد إننا سنختفي من على خشبة المسرح.. نحن حماة الشريعة وحماة الهيكل، وهل يعتمد على يسوع الذي يُعلّم أتباعه محبة الأعداء؟! ذاك الذي لا يملك سيفًا، أيدافع عن الهيكل..؟! لابد أن الرومان الذين رفعوا البيارق من قبل على قلعة أنطونيا المشرفة على الهيكل، سيرفعون مثل هذه البيارق الوثنية على الهيكل نفسه.
وقال آخر: وماذا لو واتت يسوع الشجاعة وقام بثورة ضد الرومان، رغم أن هذا ضد مبادئه المتسامحة، وماذا لو فشلت ثورته.. تُرى ماذا يكون رد الرومان علينا؟
وأجابه آخر: سيأخذون موضعنا.. سيكتسحون أمتنا.. سيعلقون شبابنا ورجالنا وأراخنتنا على الصلبان، ويرملون نساءنا وييتمون أطفالنا، وقد يحرقون هيكلنا.
فقال حنان: وحينها سنفقد سلطتنا وسطوتنا وكل شيء.
حينئذ نهض قيافا قائلًا: لقد فاتكم شيئًا ألاَّ ترون أنه خير لنا أن يموت يسوع من أن تُهلك الأمة بأسرها.. خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا يضيع الشعب كله ونضيع نحن معه.
وشعر نيقوديموس ويوسف الرامي أن حلقات الشر تضيق حول يسوع، فإن هؤلاء القوم يطلبون مسيحًا يوافق هواهم، يسير في طوعهم، ويُثبّت أقدامهم، وهذا بعيد كل البعد عن معلم الجليل، ولم تواتي نيقوديموس ولا يوسف الجرأة للشهادة للحق خشية طردهم من المجمع، وانساق المجمع كله وراء قيافا، واتخذوا القرار بقتل يسوع، وحياهم حنان على روح الغيرة هذه قائلًا "نعمًا ما فعلتموه يا أبناء يعقوب" واستمر النقاش حول كيفية تنفيذ القرار، فقال أحدهم: نُرسل إليه من يغتاله سرًا؟
حنان: إن تلاميذه لا يفارقونه، ولو اكتشف الشعب هذه الجريمة ربما يرجموننا.
وقال آخر: إذًا فلنقبض عليه ونقدمه للمحاكمة أمامنا في هذا المجلس الموقر.
حنان: حسنًا، ولكن متى يكون هذا؟
قيافا: ليس في العيد لئلا يحدث شغب في الشعب.. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب.. وهكذا اتفق الجميع على القبض على يسوع في غيبة من الجماهير، وأصدروا قرارهم الأخير "إن عرف أحد أين هو فليدل عليه".
وبناء على القرار السابق تقدم يهوذا الإسخريوطي يعرض تسليم مُعلّمه إليهم، وهوذا الآن كل شيء قد تم بسلام، وهوذا يسوع ماثلًا أمامهم، فكل الظروف قد تغيرت.. هكذا كان يفكر رؤساء الكهنة ومشايعيهم، وهم يجلسون في مجلسهم مع بقية الأعضاء على شكل حرف U وجلس كاتبا الجلسة على طرفي المقاعد، كما وفد عدد كبير من الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة وبعض الجنود والخدام والعبيد الذين قبضوا على يسوع، وكلهم يختالون زهوًا بهذا العمل البطولي، ووقف يسوع في الوسط بين جنديين من حرس الهيكل، ووقف يوحنا الحبيب يتأمل ويتألم، وكان قيافا يستحث الحاضرين ليقدم كل منهم شكاية على يسوع قبيل الجلسة.
وبدأت الجلسة برئاسة قيافا بحكم منصبه كرئيس للكهنةونادى المنادي أسماء الأعضاء لإثبات حضورهم، فكانت هذه المحاكمة الثانية لمعلم الناصرة بعد محاكمته الأولى السريعة أمام حنان، وهذه المحاكمة شابها منذ بدايتها ثلاثة أخطاء جسيمة:
1- حسب الشريعة اليهودية كانت المحاكمة تبدأ بأشخاص متضرّرين يُمثّلون الإدعاء، وذلك لعدم وجود نيابة عامة لدى اليهود تنوب عن المجتمع ككل حينذاك، وهؤلاء المتضرّرين يتقدمون بتهم مُحدَّدة ضد المتهم، ويكون لديهم على الأقل شاهدين، فإن لم تتوفر مثل هذه الشروط فلا يجوز القبض على المشكو في حقه، وبالرغم من عدم توافر هذه الشروط في هذه القضية فقد قبضوا على يسوع، وأكثر من هذا أنهم استخدموا الرشوة ليتمكنوا من القبض عليه.
2- بينما كان المتهم يُعتبَر بريئًا حتى تثبت إدانته، فإنهم اعتبروا يسوع مُدانًا وحكموا عليه بالموت في جلسة السنهدريم السابقة قبل أن يسمعوا منه.
3- منعت الشريعة مُحاكمة الإنسان المتهم بتهم تفضي إلى الإعدام ليلًا، فمثل هذه المحاكمات لابد أن تبدأ في وضح النهار وتنتهي في وضح النهار. أما المحاكمات المتعلقة بالأمور المالية والمديونية فكان مسموح لها بأن تنعقد في وضح النهار وتنتهي ليلًا، وبالرغم أن أحد أعضاء غرفة المشورة قد لفت نظر الأعضاء لهذه المخالفة لكنهم تعلَّلوا بأن الأمر جد عاجل وخطير ولا يحتمل التأجيل، وربما مخالفة الأعضاء لضمائرهم في الأمور السابقة جعلهم يدقَّقون في موضوع الشهود وبقية الإجراءات الشكلية.
وكما شاب هذه المحاكمة أخطاء جسيمة في بدايتها فقد شابتها الأخطاء أيضًا في انعقادها، وفي ختامها كما سنرى حالًا.. منذ سبعمائة سنة قال الروح القدس عن هذه المحاكمة "ها أنهم يجتمعون اجتماعًا ليس من عندي" (أش 54: 5).
ووقف أحد أعضاء المجلس يعرض التهم التي من أجلها يُحاكم يسوع الناصري وأهمها إدعائه أنه المسيا، وأنه ابن الله... وتقدم شهود الزور يشهدون كذبًا وافتراءًا، ونادى قيافا بصوت جهوري: لك أن تدافع عن نفسك يا يسوع..
والتزم يسوع جانب الصمت ولم يجب بشيء..
وتكرَّر النداء القيافي ثانية وثالثة، ومازال يسوع صامتًا.. سألوه كثيرًا فلم يجب ولا بإيماءة بسيطة، وكأن هذه الأسئلة لا تخصه.. فلماذا صمتَّ يا يسوع؟..
هل صمتك هذا كان احتجاجًا على ظلمهم..؟! ربما..
هل صمتَّ لأنك وجدت الجور في مكان العدل، والظلم في مجلس الحكم..؟! ربما..
هل صمتك يعني موافقتك على كل الاتهامات الموجهة إليك لأنك حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله؟!..ربما..
هل صمتَّ لأنك لو تكلمت فإنك ستُبكم الكل، فيطلقونك وتتعطل قضية الخلاص..؟! ربما..
هل صمتَّ حزنًا على كل إنسان مظلوم يقف أمام محكمة جائرة، لا يعرف أن يحير أو يدير..؟! ربما..
ولنا أن نستمع إلى شهادة أحد الأشخاص غير المسيحيين في أيامنا هذه " وقد استمع (يسوع) إلى هذه الأقوال ولم يُعقِب عليها لأنه أدرك أنه لا فائدة من التعقيب، فطريقة القبض عليه ومحاكمته في دار أعدى أعدائه في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل والتزييف الذي لمسه من أقوال الشهود، والمرارة التي أحس بها في لهجة الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة ومُحلفين، وفي تصرفاتهم والشرر الذي يتطاير من أعينهم، كل أولئك دفعه إلى الصمت" (11).
وتوتر حنان العجوز وهو يكتم غيظه، فما هو السبيل للحكم على إنسان صامت لا يدافع عن نفسه؟!
إن صمته القوي كشف مؤامرتهم وفضحهم أمام أنفسهم.. فأخذت المحكمة تُناقش الشهود في أقوالهم، وكان معظمهم من خدام رؤساء الكهنة، ورغم أن الشاهد كان يقسم اليمين على قول الحق، إلاَّ أن جميع شهادتهم جاءت كاذبة أو مُلفَّقة، فهي شهادات واهية يعوزها الدليل، غير متناسقة ولا مُتفقة، محض أكاذيب وافتراءات باطلة، تحمل زيفها في طياتها، فانكشف شهود الزور واحدًا يلو الآخر، وتضاربت أقوالهم، وماتت شهاداتهم في مهدها، أو قل أنها وُلِدت ميتة، فرُفضوا جميعًا، بل إن بعض هذه الشهادات كانت تُثير السخرية، ولاسيما عندما قال أحد الخدام أنه شاهد بأم عينيه المُعلّم يقلب موائد الصيارفة وتلميذه الأسخريوطي يدس بعض الدراهم في جيبه، وبما أنه تلميذ يسوع فيجب الاقتصاص من المُعلّم عوضًا عن التلميذ، وتململ يهوذا وأراد أن يُكذَب هذا الرجل، ولكن شجاعته كانت قد ذابت فآثر الصمت، واستاء قيافا من هذه الشهادة التي تُدين حبيبه يهوذا.
فما العمل والشهادة الصحيحة تقوم على فم شاهدين أو أكثر..؟!
وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورًا ولم تتفق شهاداتهم.. إنها مهزلة قضائية.. لقد أصدروا الحكم قبل النظر في القضية، وكل ما يفعلونه الآن هو ترتيب أوراق التين لستر عريهم.. مجرد إجراءات شكلية لذرَّ الرماد في العيون.. منذ ألف عام رأى داود هذه الأمور بعين النبؤة فقال "شهود زور يقومون عليَّ وعمَّا لم أعلم يسألونني. يجازوني عن الخير شرًا" (مز 35: 11، 12).
" وعندما بدأت المحاكمة، أصبحت في واقعها محاكمة للكهنة أنفسهم، فأي عار هذا عندما يلجأ رجال الدين إلى شهود كي يلصقوا علَّة بذلك القدوس. ومع هذا لم تتفق أقوالهم فازدادت خيبتهم وشعروا بضآلتهم أمام ذلك الشخص العظيم" (12).
وصرفت المحكمة وقتًا طويلًا في غربلة أقوال الشهود واستجوابهم، مما جعل الشهود أنفسهم يتخذون جانب الحيطة والحذر، وكفوا عن أكاذيبهم، ولاسيما أن الشريعة تُوجب رجم شاهد الزور، وجاء بالتقليد اليهودي في نص تحذير الشاهد في جرائم الأنفس " لا تنسَ أيها الشاهد أن هذه المحاكمة التي تتعلق بالحياة سيكون دم المتهم، ودم ذريته إلى انقضاء الزمن في رقبتك إن شهدت زورًا.. فالله خلق آدم وحيدًا فريدًا، وهو يعلمك بهذا أن أي شاهد يتسبب في هلاك فرد في إسرائيل فكأنه أهلك العالم كله، أما من أنقذ إنسانًا واحدًا فكأنه أنقذ العالم كله" (13) كما إن الفقه اليهودي كان يميل إلى تأويل أقوال الشهود لصالح المتهم، حتى تثبت إدانته بالدليل القاطع قبل سفك دمه.
ووقف يسوع وحيدًا بلا سند ولا مُعين وسط هذا الجمع يُحاكم، بينما يحاول أعضاء المجلس الموقَّر أن يحسنوا إنتهاز الفرصة للحكم عليه، فلو زاغت من أيديهم هذه المرة، فلن تؤاتيهم مرة أخرى لا في المستقبل القريب ولا البعيد أيضًا، وربما كانت نهايتهم على يده، فهو القادر على تحريك الجماهير في أي اتجاه يريد، بل إن أتباعه لو علموا الآن أين هو لتجمهروا حول القصر، ولن ينصرفوا إلاَّ وهو معهم.. بمثل هذه الأفكار كان ينشغل حنان وقيافا.
وهذه هي الفرصة الأخيرة للشهود حيث تقدم شاهدان وقالا: نحن سمعناه يقول: إني أقدر أن أنقض هيكل الله هذا المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بالأيادي.. وكان الهيكل موضع افتخارهم مثل آباؤهم الذين استبعدوا حدوث السبي وتهدم الهيكل، ولم يصدقوا لا أرميا ولا إشعياء، مما دفع النبي الباكي أن يقول لهم " لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين هيكل الرب هيكل الرب هو" (أر 7: 4).
أما يسوع فظل صامتًا، تاركًا داود يغني لهم على الناي الحزين " قد قام عليَّ شهود زور ونافث ظلم" (مز 27: 12).. " وأما أنا فكأصم. لا أسمع. وكأبكم لا يفتح فاه. وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة" (مز 38: 13، 14) ونهض هوشع النبي ليخبر بلسانه " أنا أفديهم وهم يتكلمون عليَّ بالكذب" (هو 7: 13).
وأدرك قيافا أن مستوى الشهود لن يزيد بأي حال من الأحوال عن هذا المستوى، وأراد أن يوحي للحاضرين بأهمية هذا الاتهام، فهب واقفًا ملوحًا بيده نحو يسوع، وكاد يفقد أعصابه: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟.
وظل يسوع ساكنًا، كل هذه التهم الباطلة لم تهزه، ولم تحرك ساكنًا داخله.. كان من السهل عليه جدًا فضح تلفيقهم، فهو لم يقل " إني أقدر أن أنقض هيكل الله " إنما قال "أنقضوا (أنتم وليس أنا) هذا الهيكل (وليس هيكل الله) " وهو يقصد هيكل جسده، وبكلامه هذا كان يتنبأ عما يحدث معه الآن.. إذًا لم يصمت يسوع عن ضعف، ولا كأنه مذنب، ولا لأنه ليس في فمه حجة، ولكنه صمت لأن رؤساء الكهنة جلسوا يحاكمونه، وقد صموا أذانهم عن سماع الحق، وأغلقوا قلوبهم، فحب السلطة والمظاهر أعمى عقولهم وطمس أذانهم.. لقد التحفوا بسحابة كثيفة من الحقد الأسود والغل الأحمر، ولا فائدة تُرجى من خلاصهم.. كما إن صمت يسوع يعلمنا الصمت وقت التجارب والافتراءات الكاذبة.
وهمس أحد الأعضاء للجالس بجواره: لو كانت شهادة هذين الرجلين صحيحة، فلماذا تركوه للآن..؟! ألم يكن قوله هذا كافيًا لرجمه بالحجارة؟!
فرد عليه الآخر قائلًا: حتى ولو قال يسوع هذا، فما هو إلاَّ افتخارا باطلًا، لا يستوجب أبدًا حكم الموت.
وهمس عضو آخر: ومن يصدق أن هذا الشخص الوديع يقصد تحطيم الهيكل؟!
وهمس جاره: وما الهدف من هدمه للهيكل إذا كان سيعيد بنائه ثانية..؟! هل هي عملية استعراضية..؟! الجميع يعرفون أن هذا المُعلّم لم يكن متكبرًا قط، وليس صاحب حركات استعراضية. بل كان يوصي الكثيرين من المرضى الذين شفاهم بألا يقولوا لأحد شيئًا.
وبمجرد أن تعرض هذان المنافقان لقليل من الأسئلة.. متى قال يسوع هذا؟ وفي أي مكان؟ ألم يعترض عليه أحد؟.. اضطربا، ورفضت شهادتهما.
ونظر حنان لقيافا بأسى بالغ، وكأنه يريد أن يقول له: وما الحل يا زوج ابنتي؟.. لقد أعيتني الحيلة، ويبدو أنني شخت ولا فائدة تُرجى مني، فعليك تقع المسئولية الآن..
  رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
هل هناك دليل مادي ملموس على قوة وصحة الكتاب المقدس؟ حلمي القمص يعقوب
كتاب يا أخوتنا البروتستانت، هلموا نتحاور - أ. حلمي القمص يعقوب
كتاب أسئلة حول صحة الكتاب المقدس - خرافة إنجيل برنابا - أ. حلمي القمص يعقوب
كتاب مفهوم الوحي والعصمة في الكتاب المقدس - أ. حلمي القمص يعقوب
كتاب التثليث والتوحيد: هل ضد العقل؟ - أ. حلمي القمص يعقوب


الساعة الآن 01:13 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024