![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() في هذا الأصحاح يرد أيوب على أليفاز. هنا لا يشير أيوب إلى بقية الأصدقاء، ربما رأى أنه لا فائدة من الحوار معهما، وربما لأنه سرّ بمشورة أليفاز حتى وإن كان سيئ النية. التقط قول أليفاز بخصوص الله غير المنظور (أي 22: 12-14). لكنه على خلاف ما ظن أليفاز، فإن أيوب لا يريد الاختفاء من الله للتلذذ بخطاياه بدون عقوبة، إنما يعلن أيوب شوقه أن يلتقي معه، ويلتمس أن يبرئه [3-5]. ولما كان الله عادلًا فحتمًا يبرئه [6-7؛ 9: 33-35]. لم يكن أيوب متمردًا على الله، لكن اشتد به الحزن حتى صار يتوق إلى مواجهة الله. يقف أيوب في حيرة، إذ أن الله يرفض الإعلان عن نفسه له [8-9].لقد حجب نفسه عنه، ربما لكي لا يعطي الفرصة لأيوب أن يلتمس العدالة، فيرفع عنه التجربة. 1. رفع شكواه إلى الله فَقَالَ أَيُّوبُ: [1] الْيَوْمَ أَيْضًا شَكْوَايَ تَمَرُّدٌ، ضَرْبَتِي أَثْقَلُ مِنْ تَنَهُّدِي [2]. يقول أيوب إن شكواه مُرةْ. لقد حسبها أصدقاؤه تمردًا على الله، لكن أيوب يعطي تبريرًا لشكواه وهو أنه مهما تنهد، فلن تستطيع تنهدات قلبه أن تعبِّر عن مدى ثقل نكباته. جراحات جسده ونفسه شديدة للغاية، وهي تبرر شكواه. *يجب أن تُشفى آلام الإنسان المُبتلى بتعزية أصدقائه، لكن لأن تعزيتهم حملت خداعًا، صارت آلام الرجل المضروب أقسى مما كان عليه. لم يخفِ أليفاز نيته من جهة من يعده بأمورٍ أفضل إن تاب؛ فكان ذلك أشبه بعلاج مسموم، فازداد الجرح. البابا غريغوريوس (الكبير) * "الصديق الأمين دواء الحياة" (ابن سيراخ 6: 16). لا يوجد علاج مؤثر في شفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك، ويدبرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يعادل صلاح أمانته (انظر ابن سيراخ 6: 14، 15). * ليس شيء يثبت الحب بقوة مثل المشاركة في الفرح والألم. ليس لأنك بعيد عن المتاعب تنعزل عن مشاركة الآخرين أيضًا. فعندما يتعب قريبك أحسب الضيق خاصًا بك. شاركه دموعه لكي تسند روحه المنسحقة، وشاركه فرحه ليصير الفرح فيه عميقًا متأصلًا. ثبتّ المحبة، إذ بهذا تخدم نفسك أكثر من خدمتك له. فبدموعك تصير أنت رحومًا، وبمشاعر البهجة تنقي نفسك من الحسد والغم... إن كنت لا تستطيع أن تنزع عنه الشرور شاركه بدموعك، فتزيل عنه نصف الشر؛ وإن كنت لا تستطيع أن تزيد خيراته فشاركه فرحه فتضيف إليه أمرًا عظيمًا . القديس يوحنا الذهبي الفم مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ، فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ! [3] كان أيوب واثقًا من عدالة الله، ويشتهي أن يقف أمام عرشه ليشكو له، فإنه حتمًا سيُنصفه، ولا يحطمه كما فعل به أصدقاؤه. وكما يقول داود النبي: "قد ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسانٍ" (2 صم 24: 14). لعل أيوب شعر أن الخطية عزلته عن الله، وضعفاته أفسدت علاقته بالله، فأراد أن يسترد هذه العلاقة، ويتمتع بحبه لله. لهذا يصرخ: "من يعطيني أن أجده؟" وكما تقول النفس البشرية: "أرأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3) من يهبني أن أجده؟ من يفتح لي الطريق إليه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب كان يشتهي الوقوف أمام الله وخدامه من الطغمات السماوية، حيث يتذوق الحب والرحمة، عوض ما يعانيه من البشر بني جنسه. لذلك يقول: "فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!" *ما هو "كرسي" الله سوى الأرواح الملائكية، الذين يشهد لهم الكتاب المقدس أنهم يدعون "العروش"؟ فمن يرغب أن يأتي إلى كرسي الله إلا الذي يشتاق أن يكون بين الأرواح الملائكية... فيرتفع ليسكن في المجد بالتأمل في الأبدية... فإنه إذ يرى بعيني الإيمان خالق كل الأشياء يحكم الأرواح الملائكية، عندئذٍ يأتي إلى كرسيه. البابا غريغوريوس (الكبير) * اليوم يتمجد ملك المجد على الأرض كقول النبي، ويجعلنا نحن القاطنين على الأرض شركاء في العيد السماوي، ليُظهر أنه ربٌ لكليهما (للسمائيين والأرضيين). كما يُسبح له بتسابيح مشتركة من كليهما. لذلك تغنَّت الطغمات السماوية، معلنة الخلاص على الأرض: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت، مجده يملأ كل الأرض". والذين في الأسفل إذ يشتركون في تسابيح السماء المبهجة في تناغم معهم، صارخين: "أوصنا في الأعالي، أوصنا لابن داود". الأب ميثوديوس أُحْسِنُ الدَّعْوَى أَمَامَهُ، وَأَمْلأ فَمِي حُجَجًا [4]. يشتهي أيوب أن يعرض قضيته على الله، فإنه حتمًا سيعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه.إذيمثل أيوب الكنيسة المضطهدة، فإنه وإن كان العالم يضايقها لكنها تستطيع في المسيح يسوع أن تقف أمام العرش بدالة وثقة، إذ تحمل برَّه الإلهي كما يقول الرسول. يترجم البابا غريغوريوس (الكبير)هذه الآية:" أُحسن الدعوى أمام الله، واملأ فمي بالتوبيخات". فإن المؤمن يستحسن الوقوف أمام الله ورفع دعواه، حيث تكتشف النفس ذاتها، وتتعرف عليها بدقة أعظم فترتعب. شتان ما بين هجوم الإنسان على المؤمن ليحطمه، وبين كشف روح الله للإنسان ليفضحه أمام نفسه، ويبكته ويهبه توبة صادقة كطريقٍ للتمتعبملكوت الله. صار لنا "ثقة بالدخول إلى الأقداس" (عب 10: 19)، ونقف أمام عرش النعمة الإلهية. في الحديث المفتوح مع الله يشتكي الإنسان نفسه، فيتبرر في عيني الله. يقول الرب نفسه: "ذكرني فنتحاكم معًا، حدث لكي تتبرر" (إش 43: 26). وقد جاء النص في الترجمة السبعينية: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). *يفتح لنا الله طرقًا كثيرة لتحقيق هذا. فإنه يقول: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). يقول أيضًا: قلت، أخبر بإثمي لك، وأنت تنزع إثم قلبي" (راجع مز 32: 5). فإن الاتهام الدائم لأنفسنا أو تذكر الخطايا يساهِم ليس بقليل في التقليل من جرمها . *يوجد طريق آخر يهبنا هذا الدواء، وهو أن ندين أنفسنا على أخطائنا، لأنه: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). فمن كان في ضيقات ويشكر تنحل خطاياه، وأيضًا بالصدقة التي أعظم من كل شيء. القديس يوحنا ذهبي الفم فَأَعْرِفُ الأَقْوَالَ الَّتِي بِهَا يُجِيبُنِي، وَأَفْهَمُ مَا يَقُولُهُ لِي [5]. أساء أصدقاء أيوب فهم تساؤلاته عن علة سقوطه تحت تجارب مرة متوالية. حسبوها شكوى ضد الله، بل وإلحادًا عمليًا. وحسبوا تساؤلاته عن نجاح الأشرار هجومًا على العدالة الإلهية. لكن أيوب كان واثقًا أنه إن دخل في محاكمة مع الله فحتمًا ستكون إجابات الله على تساؤلاته مريحة تمامًا وغير مثيرة. لذا كان يشتاق إلى الحوار معه، وأن يخضع لأحكامه خضوعًا كاملًا. الحوار مع الله أسهل وأعذب منه مع الناس. ولعل أيوب يقول لأصدقائه: إنني لا أبالي كثيرًا برأيكم فيَّ، إنما أود الحوار مع الله، فإن ما يشغلني ماذا يقول الله عني، وبماذا يجيب تساؤلاتي. وكما يقول الرسول بولس: "وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيَّ منكم أو من يوم بشرٍ، بل لست أحكم في نفسي أيضًا... ولكن الذي يحكم فيَّ هو الرب" (1 كو 4: 3-4). * لا يقصد بولس هنا (1 كو 4:4) أنه بلا لوم، وإنما يود أن يسد أفواه الذين يلومونه بغير تعقُّل. الله هو دياننا، فهو وحده يعرف بالتأكيد ما يدور في قلوبنا. القديس يوحنا ذهبي الفم أَبِكَثْرَةِ قُوَّةٍ يُخَاصِمُنِي؟ كَلاَّ! وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْتَبِهُ إِلَيَّ [6]. حقًا من يقدر أن يدخل في خصومة مع الله، إذ مكتوب: "ضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 25)؟ ومع هذا فإن الحوار معه أفضل من الحوار مع بني البشر، لأنه يهتم بالمشتكي، ويصغي إليه كأبٍ مترفقٍ بابنه. وإن كان حازمًا، لكنه مع الحزم يعلن عن أبوته الحانية للابن المجروح بالتجارب والضيقات. آمن أيوب أن الله القدير لن يرهبه، حتى في محاكمته ومحاورته لن يستعرض كمال جلاله وعظمته، بل يتنازل ويظهر له قدر ما يحتمل، حتى يمكنه الحوار معه. لن يكون عنيفًا معه، فإنه ليس كبني البشر. إنه طويل الأناة، وينصت لمن يصرخ إليه، ويشدده ويشجعه. يهبه القوة، ويدخل معه في صراعٍ لا ليهزمه بل ليهبه النصرة، وكما قيل عن أبينا يعقوب: "بقوته جاهد مع الله. جاهد مع الملاك وغلب، بكى واسترحمه، وجده في بيت إيل، وهناك تكلم معنا" (هو 12:3-4). حقًا إن من ذاق العِشرة الحقيقية مع الله لا يكف عن اللقاء معه، إذ يدرك حنوه وطول أناته وتنازله من أجل محبوبه الإنسان، قائلًا مع أيوب البار: "أبكثرة قوة يخاصمني؟ كلا! ولكنه كان ينتبه إليَّ" (أي 23: 6). * لقد ظنوا أن حملي الخفيف ثقيل جدًا، لكنني انحنيت إليهم، تاركًا ملكوت السماوات، لكي آكل معهم، متخذًا الشكل البشري. بل بالأحرى أعطيتهم جسدي طعامًا: كنت لهم طعامًا وشريكًا معهم في المائدة. القديس جيروم هُنَالِكَ كَانَ يُحَاجُّهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَكُنْتُ أَنْجُو إِلَى الأَبَدِ مِنْ قَاضِيَّ [7]. آمن أيوب أن الحكم الإلهي يصدر باستقامة، وأنه سينقذه على مستوى أبدي. بالالتجاء إليه، ننجو من الدينونة الأبدية. وكما يقول القديس أغسطينوس أننا نهرب من العدالة الإلهية بالالتجاء إلى الله نفسه. يترجم البابا غريغوريوس (الكبير) هذه الآية هكذا: "ليصنع عدالة ضدي، فتأتي محاكمتي إلى نصرة". ويرى في هذه الصرخة الكنيسة تطلب من الله الكلمة أن يحقق العدالة بالصليب، ينزل إليها ويفتديها، عندئذ إذ تدخل في المحاكمة تتمتع بنصرة على مستوى أبدي. إنها تطلب مجيء الكلمة ليوبخها، فبتجسده وتوبيخه لها، تنفتح أمامها أبواب النعمة الإلهية، وتتبرر أمام العرش الإلهي. * "ليصنع عدالة ضدي، فتأتي محاكمتي إلى نصرة "... لكي يوبخ طرقي فليُرسل الابن المتجسد... فلو أن ابن الله الوحيد بقي غير منظور في قوة لاهوته (أي لم يتجسد) ولم يأخذ شيئًا من ضعفنا (بشريتنا)، كيف كان يمكن للبشر الضعفاء أن يجدوا الوسيلة لنوال النعمة الإلهية؟ فإن ثقل عظمته - إن وُضعت في الاعتبار - تكون في الواقع لمقاومتنا وليست لمعونتنا. لكن القوي، الذي فوق الكل، جاء كضعيفٍ بيننا، فبمعادلته لنا بأخذه ضعفنا، يرفعنا إلى قوته. فإنه لم يكن ممكنًا لنا أن ندرك سمو طبيعته الإلهية، نحن أنفسنا غير ملائمين لذلك، لكنه انحنى إلى أسفل إلى الإنسان خلال ناسوته، وصار لنا نحن أن نكون كمن يصعد إلى ذاك الذي نزل. لقد قام فرُفعنا. البابا غريغوريوس (الكبير) اهرب بالاعتراف لا بالاختباء. قل له: "أنت ملجأ لي". هكذا دع الحب الذي وحده يهب حياة أن ينمو في داخلك . * مفرح هو وجه الرب، ما أن يُرى لا يجد الإنسان بهجته في شيء آخر . القديس أغسطينوس هَأَنَذَا أَذْهَبُ شَرْقًا، فَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ، وَغَرْبًا، فَلاَ أَشْعُرُ بِه [8].ِ شِمَالًا حَيْثُ عَمَلُهُ، فَلاَ أَنْظُرُهُ. يَتَعَطَّفُ الْجَنُوبَ، فَلاَ أَرَاهُ [9]. عبَّر أيوب عن التيه الذي كان فيه، إذ كان كمن يبحث عن الله، فلم يجده في الشرق، ولا شعر به في الغرب. لقد سبق أن أمره أليفاز أن يتعرف على الله (أي 22: 12)، فيجيبه أيوب أن هذه هي شهوة قلبه، فإنه يود الظهور أمامه. كان أيوب بلا شك يؤمن بأن الله حاضر في كل موضع، لكنه هنا يشكو من عجزه عن تركيز أفكاره في الله وفي حكمته وسط ملاحقتهم له بالمناقشات غير المجدية والمثيرة. فمع إيمانه بوجود الله كأن شيئًا أشبه بغشاوة يغطي بصيرته الداخلية، فيعجز عن التعرف على أسباب متاعبه التي سمح بها الله. لا يعرف خطية معينة ارتكبها لكي يتوب عنها. لم يدرك ما هو هدف الله من السماح له بهذه النكبات. وأخيرًا لا يعرف ما هي نهاية هذه النكبات، هل سينجيه الله منها؟ متى؟ وكيف يتحقق هذا؟ يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير)أكثر من تفسير للشرق والغرب والشمال (أو اليسار) والجنوب (أو اليمين) في هذه العبارة. التفسير الأول: الله كائن في كل مكان، وهو لا يتجزأ، يملأ الكل، يرى الإنسان ويعرف كل ما في أعماقه، لكن الإنسان لا يراه ولا يقدر أن يميزه بالحواس. مهوب مع أنه غير منظور. التفسير الثاني: إن تطلعنا إلى الشرق، أي إن فكرنا في عظمته، حيث يشرق هو من الشرق، لا نستطيع إدراك طبيعته بفكرنا المائت. وإن تطلعنا إلى الغرب، أي إن تراجعت بصيرة القلب بسبب فيض بهائه، لا يمكن فهمه. وإن سلكنا نحو اليسار حيث السقوط في الخطايا لا ندركه. وإن سلكنا نحو اليمين حيث الضربات اليمينية من الكبرياء والرياء والبرّ الذاتي لا نراه. *"هأنذا أذهب شرقًا، فلا يظهر، وإن ذهبت غربًا لا أفهمه. إن ذهبت شمالًا، ماذاأفعل؟ إني لا أدركه، وإن اتجهت يمينًا (جنوبًا) فلا أراه" [8-9]. خالق كل الأشياء لا يتجزأ، وهو في كل مكان... فإن الروح غير المدرك يحوي كل شيءٍ فيه، هذا الذي في نفس الوقت يملأ ويحوي... كأنه يقول بوضوحٍ: إني لا أستطيع أن أنظر هذا الذي يراني، ذاك الذي ينظرني بكل دقةٍ، ليس لي قدرة على التطلع إليه... خالقنا الذي هو كامل بكليته في كل موضعٍ ويميز كل شيءٍ، لا يٌمكن أن يُميَّز (بالحواس)، وهو بالأكثر مهوب، إذ يبقى غير منظورٍ، وأن مصير تصرفاتنا معلق، وزمانها غير معروف. يمكن أيضًا فهم هذه الكلمات بمعنى آخر: فإننا نذهب شرقًا عندما نرفع أذهاننا بالتفكير في عظمته، لكنه "لا يظهر"، حيث لا يمكن أن يُرى في طبيعته بفكرٍ قابل للموت. "إن ذهبت غربًا، لا افهمه"، نذهب غربًا عندما تتراجع عين القلب المرتفعة في الله بسبب فيض النور... الذهاب يسارًا (شمالًا) هو خضوع الإنسان لملذات خطاياه. واضح بالتأكيد أن الشخص الذي لا يزال يرضي خطاياه، وينطرح نحو اليسار لا يقدر أن يدرك الله... يذهب الشخص نحو اليمين (الجنوب)، ذاك الذي يرتفع على إنجازات فاضلة. لكن الله لا يُمكن أن يُرى بواسطة ذاك الذي يُسر بتمتعه بأعماله الصالحة في أنانية، إذ يُحدر عين القلب بغرور الكبرياء. لذلك حسنًا يُقال في كل موضع: "لا تحد يمينًا ولا يسارًا" (راجع تث 11:17)... البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أغسطينوس لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي. إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ [10]. إذ اعترف أيوب بكمال الله الفائق، المالئ الكل، والعارف كل شيءٍ. يرى حتى الأعماق، ولا يراه الإنسان. أينما ذهب الإنسان إن كان شرقًا أو غربًا، شمالًا أو جنوبًا لا يقدر أن يرى الله، ولا أن يدرك أسراره الإلهية، وخطته نحو كل إنسانٍ، لكنه يعلم أمرًا واحدًا، أنه في عيني الله يحسب ذهبًا ثمينًا يحتاج إلى التنقية بنار التجارب ليزداد نقاوة وبهاء . فمع ما أصاب أيوب من شعورٍ بالحيرة الشديدة وعدم إدراكه ما وراء الأحداث في ذهن الله، إلا أنه يعلم أن الله يعرف طريقه، وأنه سيخرجه من التجربة نقيًا كالذهب المصفى بالنار؛ وأن تجربته هي لامتحان إيمانه أو تزكيته (1 بط 1: 7). *"وسيمتحني كالذهب الذي يعبر النار". الذهب في الفرن يتقدم في بهاء طبيعته، بينما يفقد الزغل. هكذا كما أن الذهب يعبر بالنار هكذا تُمتحن نفوس الأبرار... بنار التجربة مرة فأخرى تُزال عنها عيوبها، وتزداد فضائلها. ليس في كبرياء يشبه القديس نفسه بالذهب الذي يمتحن بالتجارب... إذ يفكر في نفسه أنه قد تنقى بألم التجربة، حتى وإن لم يكن قد وُجد فيه ما يتنقى منه. البابا غريغوريوس (الكبير) لما أراد الله أن ينصر يوسف ويجعله سيدًا على مصر...، ماذا كانت بداية عمله ليفضي إلى نهاية صالحة؟ أولًا قبض عليه إخوته، وأهانوه، واستهزأوا به، ونزعوا ثيابه، وأبقوه في الجب، وقطعوا رجاءه، وباعوه للتجار، وصار عبدًا يخدم الأرباب، وأستعبد ابن الأحرار الحسن الذي لم يقترف سوءً. من كان يرى هذا العمل السيئ لم يكن بوسعه أن يظن أن كل هذه الشرور كانت تُرتكب لصالح يوسف. أما الله الذي كان يعلم ماذا يريد أن يصنع له، فلم يشفق عليه عندما كان يرزأ تحت وطأة كل هذه الشرور، لكنه تركه يسقط في الجب، ويُباع للتجار، وُيزج به في السجن ظلمًا. بعد هذه كلها أشرق جماله كالشمس، وظهر حقه كالذهب، وزالت شروره كالدخان، واعتلى قمة المركبة كالملك، وقام في العظمة التي من أجلها وضعه الله بحيث يتواضع فيرتفع . القديس مار يعقوب السروجي فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يُترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين ولا يتركه بعد في النار حتى لا يفسد ولا يحترق، كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا. عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نقبله من الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذ يُفعل هذا بقصد فائدة المجربين. لذلك يوصينا الحكيم قائلًا بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر. (حكمة يشوع 1:1-2) يليق بنا أن نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات. فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)... أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب! والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه... هو أب! وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملاته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا، لأنه بكلا الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء معه، وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة، وما يناسب كل واحدٍ منا، وكيف، وبأية طريقةٍ يلزمنا أن نخلص... لنتبعه حيثما يأمرنا، ولا نفكر كثيرًا إن كان يأمرنا أن نسلك طريقًا سهلًا وممهدًا أو طريقًا صعبًا وعرًا. القديس يوحنا الذهبي الفم هرماس بِخَطَوَاتِهِ اسْتَمْسَكَتْ رِجْلِي. حَفِظْتُ طَرِيقَهُ وَلَمْ أَحِدْ [11]. مع اعتراف أيوب أنه يحتاج إلى إزالة الزغل منه، يعود فيعلن أنه قد وضع في قلبه أن يسلك حسب مقاصد الله وخططه، يلتزم بأن يسلك في الطريق الإلهي خطوة فخطوة. إنه لا يريد أن يحيد عن الطريق يمينًا أو يسارًا. من جانب يرفض أيوب ما يدعيه أصدقاؤه أن هذه التجارب ثمرة شروره وريائه ومقاومته الخفية لله، وإنما هي بوتقة لتنقية أعماقه فيخرج ذهبًا مصفي بالنار، ومن الجانب الآخر يعلن أنه يسلك في طريق الرب، يحفظ وصايا الرب ولا يحيد عنها. * "تلتزم قدمي بخطواته"، فإن أعمال الله التي نراها هي نوع من آثار خطواته. بهذه الأعمال يُحكم الصالحون والطالحون، الأبرار والأشرار يُوضعون في طبقاتهم... يأمرنا الحق أن نقتدي بآثار خطوات أبيه، إذ قال: صلوا لأجل الذين يضطهدونكم ويتهمونكم باطلًا، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات (مت 44:5-45)... يقول بطرس عن خطواته هذه: "من أجل المسيح الذي تألم عنا، تاركًا لنا مثالًا لكي نقتفي إثر خطواته" (1 بط 21:2)... "حفظت طريقه، ولم أحد"، من يمارس الأمر الذي يصمم عليه ذهنه يحفظ الطريق ولا يحيد عنه. فإن من "يحفظ" ما يصمم عليه لا يحيد عنه في سلوكه العملي. هذا ما يشغل الأبرار أنهم ملتزمون أن يمتحنوا تصرفاتهم بطرق الحق يومًا فيومًا، ويحسبونها قانونًا لأنفسهم، يلزمهم ألا يحيدوا عن دربهم المستقيم. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أغسطينوس مِنْ وَصِيَّةِ شَفَتَيْهِ لَمْ أَبْرَحْ. أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَتِي ذَخَرْتُ كَلاَمَ فَمِهِ [12]. يعلن أيوب أنه لم يتراجع إلى الوراء عن الوصية الإلهية الصادرة عن الفم الإلهي، بل يتقدم إلى الأمام بمقتضاها، ويسعى دومًا نحو الغرض. لقد تمسك بالوصية حاسبًا إياها أفضل من طعامه الضروري، إذ لا يقدر أن يعيش بدونها، فهي طعام نفسه وشرابها. يتطلع أيوب إلى الوصية الإلهية بكونها صادرة عن شفتي الله، وأنها كلام فمه، فهي ليست أوامر يلتزم بها لكي توجه سلوكه فحسب، لكنها عطية عذبة وثمينة تصدر من فم ذاك المحب! لهذا لا تمثل ثقلًا يود أن يهرب منه، إنما في عذوبة لا يبرح عنها، وفي شوق يدخرها في أعماقه. وكما يقول المرتل: "بطريق شهاداتك فرحت كما على كل الغنى. بوصاياك ألهج وألاحظ سبلك. بفرائضك أتلذذ لا أنسى كلامك... شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة... كم أحببت شريعتك اليوم كله هي لهجي. سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي. ورثت شهاداتك إلى الدهر لأنها هي بهجة قلبي. يغني لساني بأقوالك، لأن كل وصاياك عدل" (مز 119: 14-16، 72، 97، 105، 111، 172) *إن كان أيوب قد وضع لنفسه فريضة وهي أن يسلك كما يليق به كإنسانٍ، لكن ما هو أثمن من هذه الفريضة الوصية الإلهية، بكونها كنزه الذي يقتنيه ويحرص عليه، ويحفظه في قلبه. "أخفي كلمات فمه في حضن قلبي". فإننا نخفي الكلمات في حضن قلوبنا عندما نسمع وصاياه، لا بطريقٍ عابرٍ، بل نتممها عمليًا. مكتوب عن الأم العذراء نفسها: "كانت مريم تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بها في قلبها" (لو 19:2). البابا غريغوريوس (الكبير) العلامة أوريجينوس القديس أغسطينوس أَمَّا هُوَ فَوَحْدَهُ، فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ وَنَفْسُهُ تَشْتَهِي فَيَفْعَلُ [13]. مع شعور أيوب بضعفه البشري وفي نفس الوقت لا يقدر أن يتجاهل أمانته وجديته في حفظ وصايا الرب، وتقديره الفائق لها، كان يود أن يدخل في حوار مع الله ليتعرف على مقاصده الإلهية وراء ما حل به. لكن أيوب يدرك حدوده أنه مخلوق ضعيف لا يعاتب لكي يغير خطة الله، ولا يتوقع أنه يقاوم الله. يعلم أن الله هو القدير الحكيم الآب، ما يريده هو للخير، وقادر على أن يفعله. وكأن أيوب يود في حواره أن يفتح الله بصيرته بالأكثر ليسبح في محبته الله الفائقة حتى وإن كانت الضيقات تلاحقه من كل جانب. بهذا الحوار ينتفع أيوب فيزداد إيمانهوحبه ويسمو فوق الكلام. الله هو الحق المطلق، مشورته غير متغيرة، لا يشترك معه أحد في المشورة، ليس من يغير إرادته ومقاصده. حقًا بالتوبة يعفو، لكنه مقاصده لا تتغير "معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله". إنه قدير، ما يشتهيه يحققه. ليس كالبشر الذين يشتهون أمورًا كثيرة لا يفعلونها، أو لا يقدرون أن يفعلوها، أو لا يجسرون على ذلك، إذ هو كلي القدرة. "كل ما شاء الرب صنع" (مز 135: 6). *"إن كان يُحاكم، فمن هو هذا الذي يعارضه؟ فإنه يريد الشيء ويتممه". تُحفظ المعرفة في حدود الطبيعة بكل طرقها، أما الإيمان فيجعل رحلتها فوق الطبيعة... الإنسان الذي يتبع الإيمان يصير للحال حرًا وحاكمًا لنفسه، وكابنٍ يُخضع كل طبائع الخليقة وكأنه إله، فإنه بالإيمان يتحقق السلطان على شبه الله ليقيم خليقة جديدة. إنه يقول: "أنت تفعل ما تريد، وكل الأشياء حاضرة أمامك". وفي مرات كثيرة يمكن للإيمان أن يحضر كل شيءٍ من العدم. القديس مار أفرام السرياني *"لكنه هو نفسه وحده، ولا يستطيع إنسان ما أن يغير فكره"... إذ توجد كثرة من الأشياء في دائرة الطبيعة، فلماذا يُقال بصوت الطوباوي: "إنه هو وحده"؟ يوجد فارق بين ما يوجد، وما هو موجود أصلًا، بين ما يخضع للتغير والوجود والمستقل عن التغير. فإن كل هذه الأشياء موجودة، لكنها لا تقوم بذاتها، فلو لم تقم بيد من يحكمها ما كان يمكن لها أن توجد قط. فإن كل الأشياء تقوم في ذاك الذي خلقها، وهم ليسوا مدينين بحياتهم لأنفسهم، ولا أولئك الذين يتحركون ولا يحيون قد صارت لهم الحركة حسب نزواتهم. إنما (الله) هو الذي يحرك كل الأشياء، هذا الذي يحيي البعض، واهبًا لهم الحياة، بينما الكائنات الأخرى التي بلا حياة يقوم هو بحفظها، مودعًا إياها بطريقة عجيبة ككائنات أقل وأدنى. خُلقت كل الأشياء من العدم، وينتهي وجودها إلى العدم، ما لم يمسك بها خالق الأشياء بيد تدبيره. إذن كل الأشياء المخلوقة لا تقدر بذاتها أن تقوم، ولا أن تتحرك، وإنما ينبغي أن تخضع لجابلها، بهذا فقط تتحرك... على أي الأحوال، فانه حتى وإن وجدت مقاومة ضدنا من الخارج (أي ضيقات) يليق بنا أن ندرك أن الله يعمل فينا من الداخل... إذن في كل الأحوال يُنظر إلى الله كمن هو وحده، هذا القائم من البدء، والقائل لموسى: "أنا هو الذي هو، هكذا تقول لبني إسرائيل، ذاك الذي هو كائن يرسلني إليكم" (خر 14:3). هكذا عندما نُعاقب بالأمور التي نراها، يلزمنا أن نخاف ذاك الذي لا نراه... بخصوص عدم إمكانية تغيره، أضاف بطريقة مباشرة لائقة: "لا يقدر إنسان أن يغٌير فكره"، فإنه إذ هو بالطبيعة غير قابلٍ للتغير، فهو غير قابل للتغير في الإرادة. "لا يقدر أحد أن يغٌير فكره"، حيث ليس لإنسانٍ ما سلطان لمقاومة أحكامه الخفية... هكذا مكتوب: "يصدر قانونًا لا يتغير". وأيضًا: "السماء والأرض تزولان، وأما كلامي فلا يزول" (مر 31:13). أيضًا: "لأن أفكاري ليست كأفكاركم، ولا طرقكم كطرقي" (إش 8:55)... فإنه حتى تلك الأمور التي تبدو أنها تُصنع ضد إرادته ومخالفة لها، فلنتطلع إلى أن ما لم يأمر به يُسمح به أحيانًا أن يتم لكي تخدم ما أمر به وتحققه بأكثر تأكيد. فإن إرادة الملاك المقاوم شريرة، لكن الله يأمر بطريقة عجيبة حتى يستخدم الله ذات حيله المخادعة لصالح الأبرار الذي يتطهرون خلال جهادهم. لهذا فإن كل ما ترغبه نفسه (الله) يفعله"، مستخدمًا ذات المصدر الذي قد يبدو مقاومًا لإرادته ليحقق به إرادته... البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّهُ يُتَمِّمُ الْمَفْرُوضَ عَلَيَّ، وَكَثِيرٌ مِثْلُ هَذِهِ عِنْدَهُ [14]. يتطلع أيوب إلى الله الواحد الوحيد القدير الموجود بذاته كمصدر لحياته والمحرك لكل الأمور بعنايته الفائقة، لهذا يرى أن كل ما يحدث هو لنفعه وصلاحه. لكنه بالرغم من هذا اليقين لن تنزع عنه طبيعته البشرية التي تخشى ما يحل عليه من نكبات وآلام. ولعل هذه الخشية أو المخافة ليست رعبًا مما سيحل به، وإنما مخافة الرب المقدسة. فإنه يقف في خشية أمام عظمة الله الفائقة وجلاله. إنه يسر بالحضرة الإلهية لكن ليس في تهاونٍ أو استهتارٍ، إنما في إجلال وتكريم لله. *لكنك حسنًا تضع تساؤلًا وسط هذه الكلمات فتقول: "يا أيها الطوباوي أيوب، لماذا لا تزال ترتعب من الأحزان وسط مثل هذه الضربات؟ لقد حدقت بك الأحزان بالفعل، لقد انزعجت فعلًا بواسطة الكوارث غير المحصية... لكن لاحظ كيف يجيب القديس على تساؤلنا مضيفًا: "لأنه حين يحقق إرادته فيٌ، توجد أمور أخرى كثيرة معه" [14]... مع رؤيته القوة غير المدركة من جهة السلطان، هذه القوة القائمة فيه، يشعر البار أنه ليس في أمان من جهة الضربة التي تحل عليه، فيزداد بالأكثر خوفه. البابا غريغوريوس (الكبير) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْتَاعُ قُدَّامَهُ. أَتَأَمَّلُ فَأَرْتَعِبُ مِنْهُ [15]. سبق فأعلن أيوب أنه لا يرتعب أمام الله، لأن له دالة عليه. أما هنا فيذكر أنه يتأمل في عناية الله وأعماله فتنتابه مخافة، وهي مخافة التكريم والاعتزاز بالرب مثل مخافة الابن نحو أبيه. لعل ما يرعبه صراعه الداخلي، ففي ضيقه من اتهامات أصدقائه له يستحسن الحوار مع الله والمحاكمة أمامه، وكأنه يقول مع داود النبي: "فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسانٍ" (2 صم 24: 14).وفينفس الوقت يعلم أيوب أنه غير أهلٍ للحوار مع الله، والدخول فيمحاكمة معه. * "لهذا أنا اضطرب لحضرته، حين أحسب إني خائف منه(1027)" [15]. إنه بحق يضطرب لحضور الرب، ذاك الذي يضع نصب عينيه رعب جلاله، ويرتبك تمامًا بواسطة مهابة برٌه، وهو ينظر أنه غير أهلٍ أن يجيب إن حوكم بحزمٍ... أما بخصوص الطوباوي أيوب، فنحن نعرف أنه تكرس لتقديم ذبائح متنوعة لله، وسلٌم نفسه لأعمال العطاء السخي، وتقديم احتياجات الفقراء، وكان متواضعًا حتى أمام الخاضعين له، لطيفًا مع مقاوميه، ومع هذا لحقت به مثل هذه الكوارث غير المحصية... فماذا نقول نحن الخليقة البائسة؟ ماذا نقول نحن الخطاة إن كان الذي فعل كل هذا خاف هكذا؟ البابا غريغوريوس (الكبير) القديس مقاريوس الكبير لأَنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَ قَلْبِي، وَالْقَدِيرَ رَوَّعَنِي [16]. مع ما لأيوب البار من دالة حتى للدخول في محاكمة مع الله، لكنه يلتزم بالمخافة المقدسة، إذ يدرك عظمة الله وجلاله. الحب المقدس يطرد مخافة العبيد خارجا، لكنه يجلب مخافة الرب حتى يلتحف بها الأبرار أمام القدوس. لا نعجب مما لأيوب من جسارة وجرأة ودالة لدى الله، وفي نفس الوقت يضعف قلبه ويرتعب أمام القدير. هذا هو منهج أولاد الله يشتهون مع الرسول بولس أنينطلقوا ويكونوا مع المسيحويصرخون طالبين: "نعم تعال أيها الرب يسوع"، وفي نفس الوقت يذكرون يوم الدينونة ويبكون على خطاياهم. *"فإن الله جعل قلبي واهنًا، والقدير أرعبني". يُقال إن قلب البار بالعطية الإلهية يصير واهنًا حيث تتخلله مخافة الدينونة القادمة من العلي. فما هو واهن يُمكن بسهولةٍ اختراقه، وما هو قاسٍ لا يمكن اختراقه. لذلك يقول سليمان: "سعيد هو الإنسان الذي يخاف على الدوام، أما من يقسي قلبه فيسقط في انزعاج" (أم 14:28)... قلوب الصالحين ليست في أمانٍ بل مضطربة، حيث يفكرون في الثقل العظيم للحساب القادم، ويطلبون أن يتمتعوا بالراحة هنا. إنهم يقطعون اطمئنانهم بالتفكير في الحزم الداخلي. غير أن مثل هؤلاء الأشخاص، وسط ذات تأديبات الخوف، غالبًا ما يتذكرون العطايا، وبهذا يتهللون وسط المخاوف، ويعيدون النظر إلى الهبات التي نالوها حتى يدعموا رجاءهم ويهبط الخوف. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس مرقس الناسك *كيف نرضي الله؟ توجد خمسة أعمال تساعد على جلب عطية الله: الأول: الصلاة النقية. الثاني: التسبيح بالمزامير. الثالث: قراءة الأسفار المقدسة. الرابع: تذكر الإنسان خطاياه والموت والدينونة المخيفة. الخامس: عمل اليدين. القديس مار أوغريس البنطي لأَنِّي لَمْ أُقْطَعْ قَبْلَ الظَّلاَمِ، وَمِنْ وَجْهِي لَمْ يُغَطِّ الدُّجَى [17]. مرة أخرى وإن كان المؤمن يضعف قلبه ويمتلئ قلبه بالمهابة، يعلم أنه في غنى نعمة الله لا يهلك، ولا تقدر الظلمة أن تغطي وجهه مادام قد وضع يده في يد الله. بالإيمان يرى المؤمن أبوابالسماء مفتوحة أمامه، وفي يقظة يخشى وهو قائم لئلا يسقط كما قال الرسولبولس (1 كو 10: 12). *"لكنني لا أهلك من أجل الظلمة التي تهددني، ولن تغطي الظلمة وجهي"... فإن الضربات التي تحل على الصالحين إما تزيل الشرور التي مارسوها، أو تجعلهم يتجنبون الضربات المقبلة التي قد تحل. أما الطوباوي أيوب فإنه إذ سقط تحت العصا، لم يتطهر من خطايا ارتكبها ولا حصنته مما يهدده. إنما ضاعفت من صلاحه بالأكثر وهو تحت الضربة، فيقول بيقين: "فإنني لا أهلك من الظلمة التي تهددني، ولن تغطي الظلمة وجهي". البابا غريغوريوس (الكبير) صمتك وسط آلامي أعذب من تعزيات البشر! * في وسط مرارة نفسي شكوت، آلامي أثقل من كل أنينٍ أو تنهد.ٍ يحسبني من يراني متذمرًا عليك. إني أثق فيك، وفي حبك وبِّرك. أريد أن ألتقي بك، فأنت وحدك فاحص قلبي لماذا تصمت يا محب البشرية؟ لتحاكمي، ولكن حسب رحمتك! أريد الحوار معك، فإني أعلم أن بصليبك أنجو إلى الأبد. * لماذا تصمت يا أيها العجيب في حبك؟ أريد أن أهرب من العدل الإلهي، بالالتجاء إلى حبك. أعترف إليك بخطاياي، فليس من يترفق بضعفي مثلك؟ * إن تطلعت إلى المشارق أرى عظمتك. فأصمت أمام بهائك. وإن تطلعت إلى المغارب حيث أتراجع أمامك، يجمد فهمي تمامًا! إن سلكت في اليسار حيث الخطايا، لا أقدر أن أدركك. وإن سلكت في اليمن حيث ضربات البرّ الذاتي، أحرم نفسي من رؤياك . أخبرني، كيف أراك وأتحدث معك، فأنت هو ملجأي الوحيد. * أنت في كل مكان، أنت في أعماقي، ولغباوتي لم أعرف كيف ألتقي بك! أنت تراني، وتفحص أعماقي، وبسبب عماي لا أراك، ولا أدرك أسرارك! خطتك من نحوي فائقة. * تريدني ذهبًا مُصفىٍ بالنار، بلا زغلٍ، تسمح لي بالتجارب، وتعمل فيَّ بلا توقف، حتى وإن صمتْ. وسط صرخاتي المرة، ترى نفسي تتنقى كما بنارٍ. تراني قادمًا إليك في أمجادٍ هي من عمل نعمتك فيّ! في صمتك تبدو كمن لا يبالي بصرخاتي المرة، لكنك الفخاري الحكيم تعلم متى تخرجني من فرن التجارب. تتطلع إليّ، أنا الطين، وتراني قد تحولت إلى إناءٍ للكرامة! لن تتركني في النار حتى أحترق، ولن تخرجني قبل الأوان لئلا أفسد! * أراك الطبيب السماوي في صمتك تمسك بالمشرط. لتضرب به جسمي، وتنزع عنه القروح. أراك الأب الذي وإن صمت فعيناه على ابنه المحبوب. الآن لأسلك حسب مقاصدك غير المدركة. بشكرٍ أتقبل خطتك من نحوي، مهما بدت مُرة. لأحفظ طريقك بنعمتك. فقد وعدتني أن أكون ابنًا للآب السماوي! * في وسط لجة محبتك أدرك أنك القدير وحده. من يقدر أن يفهم أعماق حكمتك؟ لتعمل فيّ، حتى وإن تمررت نفسي، فكل ما تعمله هو لبنياني الأكيد. إني الجبلة الضعيفة تخضع لجابلها القدير. حتى إن تضايقت إلى حين، فإن جلالك العجيب يسبي كل كياني. * سمِّرت خوفك في داخلي، فهو حصني وملجأي من محاربات العدو. فيه احتمي، وبه أسلك كما يليق بابنٍ لك! به أمتلئ رجاءً، لكن بروح الخشوع والتقوى! به أذكر يوم مجيئك، فاصرخ: قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد! تعال أيها الرب يسوع، فأنت هو الديان، وأنت هو المعزي والشفيع عني. |
||||
|
|||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() آخر هجوم ضد أيوب مَنْ يقدر أن يُعَاتِب الله؟ يبدو أن بلدد ورفقاءه وقفوا عاجزين عن الرد على أيوب في حديثه أنه يوجد أشرار ناجحون، وأن الله قد يطيل أناته عليهم أحيانًا حتى آخر نسمة في حياتهم، وإن كان هذا لا يعني أنهم يهربون من ثمر شرهم، إذ يسقطون في دينونة أبدية ماداموا لم يرجعوا إلى الله بالتوبة. لهذا إذ جاء دور بلدد للحديث، لم يجد ما يتحدث عنه، فتجاهل القضية الرئيسية، وعجز عن الرد على حديث أيوب الوارد في الأصحاح السابق. قدم بلدد آخر هجوم ضد أيوب في اقتضابٍ شديدٍ، مرددًا ما سبق أن قيل، إذ ليس من جديد يمكن أن ينطق به. ويمكننا تبرير توقف الأصدقاء الثلاثة عن الجدال العنيف للأسباب التالية أو بعضها: أولًا: شعروا أن أيوب قد أفحمهم بحديثه عن أشرارٍ لا يعانون من متاعبٍ كالأبرار، بل وينجحون أكثر منهم. لم يطلبوا منه أمثلة عملية، لأنه وهو يتكلم معهم أدركوا أمثلة واقعية معاصرة لهم. ثانيًا: حسبوا أن ما قالوه فيه الكفاية، فلا داعي لتكرار المناقشات دون جدوى. ثالثًا: أدركوا أن ما قالوه لأيوب يتفق مع ما يقوله هو، وليسوا على خلاف معه في الفكر، خاصة وأن أيوب أكد لهم هلاك الأشرار الأبدي حتى وإن نجحوا في العالم من أجل طول أناة الله عليهم. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن بلدد الشوحي يوبخ أيوب، لأن الأخير طلب محاكمته أمام الله، فقد عوقب دون أن يخطئ. لذلك يقول بلدد إن كل الخليقة تقف في رهبةٍ وخوفٍ أمام الله، وليس من يقدر أن يتبرر أمامه، أو يهرب من يده. كأن طِلبة أيوب باطلة وغير لائقة. يمتدح أليفاز رعاية الله القديرة، هذا الذي يدير السماء، ويبعث رسله على الأرض كنورٍ يضيئون [2-3]، لكن يبقى السمائيون أقل من الله، فكم بالأكثر يكون الإنسان. 1. الله صاحب السلطان وواهب السلام في السماء فَأَجَابَ بِلْدَدُ الشُّوحِيُّ: [1] السُّلْطَانُ وَالْهَيْبَةُ عِنْدَهُ. ما نطق به بلدد حقيقة لائقة بالله وبنا، وهي أنه يليق بنا أن نتصاغر جدًا أمام الله السامي المهوب، وأن البعد شاسع بينه وبيننا، وإنما أخطأ بلدد في تطبيق ذلك على أيوب، إذ لم يحمل له روح الحب. الله كخالق السماء والأرض، خالق الكل، وواهب الحياة، له الحق المطلق في وضع النواميس وتدبير الكون بسلطانٍ مطلقٍ. وكما قال نبوخذنصر عندما رجع إلى عقله وبارك العلي: "سلطانه سلطان أبدي، وملكوته إلى دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيءٍ، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده، أو يقول له ماذا تفعل" (دا 4: 34- 35). مع الدالة العظيمة التي كانت لدى رجال الله نحوه كانوا يعترفون أنه الإله العظيم الجبار المهوب والمخوف. "يحمدون اسمك العظيم والمهوب قدوس هو" (مز 99: 3). "وصليت إلى الرب الهي واعترفت وقلت: أيها الرب الإله العظيم المهوب حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه" (دا 9: 4). "وقلت: أيها الرب إله السماء الإله العظيم المخوف الحافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه" (نح 1: 5). "والآن يا إلهنا الإله العظيم الجبار المخوف حافظ العهد والرحمة لا تصغر لديك كل المشقات التي إصابتنا نحن وملوكنا ورؤساءنا وكهنتنا وأنبياءنا وآباءنا وكل شعبك من أيام ملوك أشور إلى هذا اليوم" (نح 9: 32). إذ يعلق القديس أغسطينوس على المزمور 99 الذي يتحدث عن الله الجالس على الكاروبيم، المهوب الذي ترتعد أمامه الشعوب وتتزلزل الأرض، يراه جالسًا على النفس البشرية متربعًا كما على عرشه المقدس. * الشاروبيم هو كرسي الله، كما يُظهر لنا الكتاب المقدس، عرش سامٍ سماوي لا نراه، لكن كلمة الله يعرفه؛ يعرفه بكونه كرسيه... الله لا يجلس كما يجلس الإنسان. لكنك إن أردت أن يجلس الله فيك، فإنك إن صرت صالحًا تصير كرسيًا لله... نفس البار كرسي الحكمة. فإن العرش في لغتنا يُسمَّى كرسيًا... لأن الله يسمو فوق كل معرفة يُقال عنه إنه يجلس على كمال المعرفة. ليكن فيك كمال المعرفة، فتصير عرش الله... وإذ يكون لك كمال المعرفة وتكون لك المحبة تصير عرش الله، وتصبح سماءً. فإن السماء التي نتطلع إليها بأعيننا هذه ليست ثمينة جدًا لدى الله. النفوس المقدسة هي سماء الله، عقول الملائكة، وكل عقول خدامه هي سماء الله. القديس أغسطينوس هُوَ صَانِعُ السَّلاَمِ فِي أَعَالِيهِ [2]. إن كان البشر في عنادهم أو شرهم يقاومون الله، إنما يقاومون أنفسهم، إذ يفقدون سلام الله الفائق، أما السمائيون فيتمتعون بسلامه في الأعالي، إذ يحبونه ويخضعون له، ويطيعونه طاعة كاملة. يحملون الحب الإلهي ويتمثلون بتواضعه، فلا يتشامخون على بعضهم البعض، ولا يحسدون ولا يتنازعون ولا يتذمرون. إنها عطية الله الفائقة لهم كمحبين له أن يعيشوا في سلامٍ عجيبٍ. أما بالنسبة لسكان الأرض، فيحتاجون إلى الطاعة لله، فيتمتعون بعمله كواهب السلام، وكما يقول المرتل: "يهدي العاصفة فتسكن، وتسكت أمواجها" (مز 107: 29؛ 65: 7). يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الله كخالق كل الأشياء يملك عليهم وله سلطان، يرعب قلوب الخليقة القابلة للموت. على الأرض ينقص الخليقة السلام، بل يحلَ بهم الارتباك والقلق، أما في الأعالي، أو في العالم السماوي، فيوٌحد الله المختارين مع طغمات الملائكة، ويكون الكل في سلامٍ. بالرب نتحول من ترابٍ أرضي إلى سماوات، ونُحسب أعاليه، حيث يسكن فينا، ويقيم سلامنا فينا. وكما يقول الرسول: "لأنه هو سلامنا، الذي جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسط" (أف 2: 14). * مادام المسيح ابن الله هو السلام، فقد جاء ليجمع معًا من له، ويعزلهم عن الأشرار. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم مبارك الآتي باسم الرب: الحق ضد الكذاب، المخلص ضد المهلك، رئيس السلام ضد مثير الحروب. محب البشر ضد مبغض البشرية. مبارك الآتي باسم الرب، الرب القادم ليرحم الخليقة صُنع يديه. مبارك الآتي باسم الرب، الرب القادم ليخلص الإنسان الذي ضل في الخطأ، لينزع عنه الخطأ، ويهب نورًا لمن هم في الظلمة، ويبطل خداع الأوثان، ويحل محله معرفة الله واهبة الخلاص، حتى يقدس العالم. ينزع الرجاسات والشقاء التي لعبادة الآلهة الباطلة. الأب ميثوديوس حين يتقدس الشعب ينسب الرب الشعب وأعياده له، فيدعى "شعب الله"، "سبوتي" الخ، وحين يتمرد يدعوه "الشعب"، "أعيادكم"، "سبوتكم" إلخ. هَلْ مِنْ عَدَدٍ لِجُنُودِهِ، وَعَلَى مَنْ لاَ يُشْرِقُ نُورُهُ؟ [3] ما يحل في أعالي الرب أو سماواته من سلام، ليس لأن عدد السمائيين قليل فيمكن الوصول إلى اتفاقٍ وانسجامٍ بينهم، لأنه "هل من عدد لجنوده؟" إنما سرّ سلامهم في الرب أنه يشرق بنوره على جميعهم. إن كان نور الشمس يبلغ إلى الأرض كلها، فإن نور الله يسطع على كل السمائيين "وعلى من لا يشرق بنوره؟" هكذا الذي يشرق بنوره على كل السمائيين يشرق شمسه على الأشرار والصالحين (مت 5: 45)، لعل الكل يطلب نور نعمته الفائقة فيستنيروا، ويحملوا برَّه وسلامه! إنه لا يخفي نوره عن أحدٍ، ولا يبخل بمعرفته على خليقته، لكنه لا يُلزم أحدًا بقبول نعمته. يدعونا السيد المسيح أن نكون أبناء الله، إذ يقول: لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين (مت 5: 45). إنه يريد أن يكون الكل أبناء النور. "لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح (2 كو 4: 6). * "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب" (أف 5: 8). لم يقل "بفضيلتكم"، وإنما بنعمة الله العاملة فيكم. بمعنى أنكم كنتم تستحقون العقوبات، والآن لم تعودوا بعد هكذا. لذا فلتسلكوا كأبناء النور... في كل صلاحٍ. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس القديس باسيليوس الكبير فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ، وَكَيْفَ يَزْكُو مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ؟ [4] مهما سما برّ الإنسان وقداسته، لا يقارن بسمو برّ الله وقداسته (مز 89:6). وإذا ما دخل الإنسان في محاكمة مع الله، يتبرر الله ويُدان الإنسان، وكما يقول المرتل: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2). ليس من خطأ في أحكام الله، ولا من يقدر أن يعترض عليها أو يستأنفها. *"هل يمكن لإنسانٍ أن يتبرر متى قورن بالله؟ أو هل يمكن أن يُوجد مولود امرأة طاهر؟" [4] هذه العبارة سبق أن نطق بها الطوباوي أيوب... حيث أن كل إنسانٍ هو بار خلال الاستنارة بالله، لا بالمقارنة مع الله. فإن برّ الإنسان متى قورن بالخالق لا يُحسب برًا، فإنه حتى إن تمسٌك الإنسان بحاله في الخلقة، لا تقدر الخليقة أن تتساوي مع الخالق. على أي الأحوال، صار هذا المخلوق يحمل أحمالًا ثقيلة، ولعجزه تراكمت عليه الخطية، هذه التي جلبتها الحية فيه بالخداع، وبرهنت المرأة عن ضعفها بما فيه الكفاية. الآن إذ يُولد الإنسان عن طريق امرأة خاضعة للخطية، ورث ضعف الخطية الأولى بالتناسل، ليس لأن فرع الجنس البشري قد فسد في الأصل، ولم ينل الحيوية الخاصة بخلقته، لذلك بحق يُقال الآن: "هل يمكن للإنسانٍ أن يتبرر، وهو مولود امرأة؟" كأنه يقول بوضوح: ليته لا يفكر إنسان بكبرياءٍ ضد خالقه، ليتأمل من أين جاء إلى هذا الموضع، ويفهم ما هو عليه. لكن لتلاحظوا أنه يوجد أولئك الذين نالوا عونًا بعطية الروح ضد وهن جسدهم، فبنوا أنفسهم، وأشرقوا في الفضائل. نعم! يشرقون في آياتٍ عجيبةٍ مدهشةٍ. ومع ذلك لا يوجد إنسان ما يعبر الحياة بدون خطية، مادام يحمل الجسد الفاسد. البابا غريغوريوس (الكبير) * "إنك تتبرر في أقوالك، وتغلب إذا حوكمت" (مز 51: 4). أنت تغلب كل البشر، كل القضاة؛ فمن يظن في نفسه أنه بار أمامك فهو غير بار. أنت وحدك تحكم بعدلٍ، وبغير عدلٍ تُحاكم... أنت تغلب كل البشر، لأنك أنت فوق كل البشر، وهم خلقوا بواسطتك. القديس أغسطينوس هُوَذَا نَفْسُ الْقَمَرِ لاَ يُضِيءُ، وَالْكَوَاكِبُ غَيْرُ نَقِيَّةٍ فِي عَيْنَيْهِ [5]. بالرغم من جمال القمر وكل الكواكب، لكنها في حقيقتها أحجار لا تحمل نورًا ولا جمالًا في ذاتها، لو لم تنعكس أشعة الشمس عليها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). هكذا الكنيسة، أي القمر، والمؤمنون أيضًا، أي الكواكب، لا جمال لهم إلا بإشراق شمس البرّ عليهم ليبدد كل أثرٍ للظلمة، ويعكس بهاءه عليهم. قيل عن المؤمنين الحقيقيين والكارزين: "والفاهمون يضيئون كضياء الجلد والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا 12: 3). خارج نعمة الله يصير القمر مظلمًا عاجزًا عن الإضاءة، وتُحسب الكواكب غير طاهرة. وكما يقول إشعياء النبي: "ويخجل القمر وتخزى الشمس، لأن رب الجنود قد ملك في جبل صهيون وفي أورشليم " (إش 24:23). يرى العلامة أوريجينوس أن القمر والكواكب هنا تشير إلى كائنات عاقلة يُصدر لها الرب وصايا (إش 12:45) قابلة للتقدم كما للسقوط. *ماذا يعني بالقمر سوى الكنيسة كلها معًا، وماذا يعني بالكواكب إلا نفوس الكثيرين الذين يعيشون بالاستقامة؟ وسط ممارسات الناس الأشرار هم بارزون بالفضائل النادرة، كما لو كانت تنير وسط ظلمة الليل. هكذا يقول بولس أيضًا لتلاميذه: "تضيئون بينهم مثل أنوارٍ في العالم" (في 15:2). ويقصد بلقب "الكواكب" المختارين، يخبرنا مرة أخرى بولس ذلك بقوله: "فإن نجمًا يمتاز عن نجمٍ في المجد" (1 كو 41:15). هكذا "لا يضيء القمر، والكواكب ليست طاهرة في عينيه". ليست الكنيسة المقدسة بقوتها تضيء في عجائب كثيرة هكذا، ما لم تسقط عليها أمطار النعمة المحٌصنة، ولا أذهان الكثيرين الذين يعيشون باستقامة طاهرة من دنس الممارسات الخاطئة لو أنهم دينوا خارج الحنو (الإلهي). ففي عيني الديان الحازم كل فرد دنس خلال ميله للفساد، ما لم تنزع نعمة (الله) الإنسان من هذا السقوط يومًا فيومًا. البابا غريغوريوس (الكبير) عظيم هو العماد الذي يوهب لكم، فإنه عتق الأسرى، غفران المعاصي، موت الخطية، ميلاد جديد للنفس، ثوب النور، ختم مقدس لا ينفك، مركبة للسماوات، بهجة الفردوس، ترحيب في الملكوت، عطية التبنّي! لكن احذروا، فإنه توجد حيَّة في الخارج تترقب المارين. احترسوا لئلا تلدغكم بلدغات عدم الإيمان. إنها إذ ترى كثيرين يتقبلون الخلاص تلتمس أن تبتلعه منهم (1 بط 5: 8) . القديس كيرلس الأورشليمي القديس جيروم القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الإِنْسَانُ الرِّمَّة،ُ وَابْنُ آدَمَ الدُّودُ [6]. إن رجع الإنسان إلى أصله قبل الخلقة، واعتزل الله خالقه يسير ترابًا ورمادًا، رمة ودودًا! والعجيب أن الكلمة الإلهي في تجسده تواضع جدًا، فقال على لسان النبي: "أنا دودة لا إنسانٍ" (مز 22: 6). *كل البشر مولودون من جسد، ماذا هم سوى دود؟ من هذا الدود يصنع الله ملائكة. إن كان الرب نفسه يقول: "أما أنا فدودة لا إنسان" (مز 6:22)، من يتردد في النطق بما ورد في أيوب: "كم بالأحرى الإنسان رمة، وابن آدم الدود" [6]. قال أولًا "الإنسان رمة"، وبعد ذلك "ابن الإنسان دودة"، لأن الدودة تخرج من الرمة... انظروا ماذا أراد أن يصير من أجلكم هذا الذي "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1:1). القديس أغسطينوس البابا غريغوريوس (الكبير) من وحي أيوب 25 لتشرق بنور بَرك عليٌ * تشرق بنور حبك على كل الخليقة. بك تستنير الطغمات السمائية، وبدونك تبدو السماء غير طاهرة. بك يعيش السمائيون في سلام، وبدونك لا سلام حتى في السماء، * كيف أتبرر أمامك، وقد حلٌ الفساد بأعماقي؟ من ينزع عني الفساد غيرك؟ لتعمل نعمتك فيٌ يا كل الصلاح! |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() إذ امتدح بلدد قدرة الله وسلطانه كواهب السلام في سماواته، وعجز الإنسان عن أن يتبرر أمامه، لم يناقضه أيوب. إنما أبرز بأكثر قوة قدرة الله وعظمته، ليؤكد ما سبق أن قاله: "ما تعرفونه عرفته أنا أيضًا" (أي 13: 2). كأن أيوب يرد على بلدد قائلًا بأن ما قاله يعرفه هو أيضًا، وأنه قد انحرف عن الموضوع الذي يتناقشون فيه بخصوص البحث عن حكمة الله الذي يسمح بالضيقات المُرة للصالحين، بينما يسمح أحيانًا بالنجاح للأشرار. أما ما قاله بلدد ورفيقاه فلا حاجة لأيوب أن يسمعه، إذ يقدر أن يضيف أدلة أقوى مما قدمه هؤلاء. |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() أيوب يؤكد براءته بعد أن رد أيوب في الأصحاح السابق على بلدد، مؤكدًا له أنه لم يقدم شيئًا ذا نفع له، وأن بلدد ترك الموضوع الرئيسي ليتحدث عن عظمة الله وعدم إمكانية تبرير الإنسان أمامه، فجاء أيوب بدلائل أقوى وفي بلاغة أعظم، يبدو أن أصدقاء أيوب الثلاثة تعبوا من الكلام، فتركوا له المجال ليتكلم كيفما شاء. لقد ألقوا أسلحتهم جانبًا، وكفوا عن الكلام، كمن خرجوا من المعركة، إما لأنهم اقتنعوا أن أيوب على صواب، أو يئسوا من تقديم دلائل على أنه شرير. كنا نتوقع أن يبدأ صوفر دوره في المباحثة الثالثة، لكنه صمت، فانطلق أيوب يتحدث. يكرر أيوب تأكيد براءته (أي 1:27-6)، وينكر ثانية التهم التي وجهها أصحابه ضده سواء بالتلميح أو صراحة، وهو يقسم بالله الذي نزع حقه، ثم يتكلم أيوب عن نهاية الشرير (أي 7:27-23). والآن وبدون إنذارٍ يظهر أيوب كمؤمنٍ غيورٍ بنفس اعتقاد أصحابه إن الشر هو سبب النكبة! وأن المرائي سوف يتبين أخيرًا إنه قد خُدع، لأن الله سوف يسلب نفسه، ولن يكون له رجاء عندئذ، وصلاته لن تستجاب، وسوف يحل به الضيق بالتأكيد، وبالنسبة للأشرار فقد اتفق مع أصحابه أن الله سوف يحاسبهم، ولكنه اختلف معهم بأن القصاص لا يحل عليهم سريعًا، بل تتأخر بعض الوقت، ولكن الدمار سوف يلاحقهم هم وأولادهم. 1. البرهنة على نزاهته وَعَادَ أَيُّوبُ يَنْطِقُ بِمَثَلِهِ فَقَالَ: [1] حَيٌّ هُوَ اللهُ الَّذِي نَزَعَ حَقِّي، وَالْقَدِيرُ الَّذِي أَمَرَّ نَفْسِي [2] يرى البعض أن كلمة "بمَثَلِه" هي التي استخدمت كعنوان لسفر أمثال سليمان، لأنه مملوء بالتعاليم. الآن يتكلم أيوب كما بأمثالٍ، بسلطانٍ، كمن انتصر على خصومه. يتكلم كمن ينهي الحوار مقدمًا القسم: "حي هو الله"، لأن "نهاية كل مشاجرة هي القسم" (عب 6: 16). يقسم أيوب ليثبت كماله واستقامته، ويعلن براءته من الاتهامات الموجهة ضده. يقسم بالله الحي، بكونه القاضي الوحيد صاحب السلطان المطلق، والعارف بأعماق القلب والأفكار الداخلية، فحكمه صادق وحق. "الذي نزع حقي"، أي رفض أن ينصفه في المناقشة، ويظهر براءته ويدافع عنه، وقد سبق أن وبخه أليهو على هذا (أي 24: 5) ؛ لأن الله عادل في كل طرقه، ولا يمكن أن ينزع حق إنسانٍ ما. "والقدير الذي أمر نفسي"؛ بلا شك كان أيوب يدرك أن الله القدير هو أيضًا المحب الحنون والحكيم. فمع قدرته فيه أبوة مترفقة وبحكمةٍ يختار الوقت اللائق لتبرئة مؤمنيه وتقديم تعزيات لهم، لكن في لحظات ضعفه نطق بهذا. يصدر هذا الاتهام عن الإنسان بسبب عدم قدرته على انتظار الوقت المناسب لدفاع الله عنه ومساندته. ليس هو الذي يمرر نفوسنا، لكن عدم صبرنا وعجزنا عن إدراك حب الله وحكمته يسبب لنا هذه المرارة. إن كان عدو الخير لا يكف عن أن يطلب أن يجرب البشر بظلمٍ وفي غير مبالاةٍ، إذ بإرادته الشريرة يود هلاكهم، فإن الله بإرادته الصالحة يسمح للبشر أن يُجربوا في اهتمام من جانبه نحوهم لتزكيتهم أو تبريرهم أو لتنقيتهم ونموهم الروحي وتمتعهم بالمجد. لهذا وإن كان الشيطان يبذل كل الجهد ليجرب المؤمن، فالمؤمن الواثق من رعاية الله له يحسب أنه يُجرب بسماح إلهي لبنيانه. * "حي هو الله الذي ينزع حكمي، والقدير الذي يحضر نفسي إلى المر" [2]. بهذه الكلمات عينها يخبرنا أيوب عن ظروفه، ويقدم لنا صورة للكنيسة وهي تحت الضيق، إذ تحيط بها جسارة عدم المؤمنين وتتقاذفها مرارة المضطهدين. تُجرب الكنيسة من خصومها بطريقين: تُضطهد إما بالكلام أو بالسيوف. الآن تهدف الكنيسة المقدسة بجهادها العظيم نحو اقتناء الحكمة والصبر. تمارس الحكمة عندما تُجرب بالكلام، وتمارس الصبر عندما تُجرب بالسيوف. على أي الأحوال يتحدث الآن عن ذاك الاضطهاد الذي يُثار لا بالسيوف، بل بالعبارات الباطلة. نحن نعرف أن البعض في مواجهته لأمرٍ غير لائقٍ ينكرون وجود الله، والبعض يؤمنون بوجود الله، لكنهم يحسبونه أنه لا يهتم بشئون البشر. عن الأولين قال داود: "قال الجاهل في قلبه: لا إله" (مز 1:14). وأما عن الأخيرين فيقول: "كيف يعرف الله؟ هل من معرفةٍ لدى العلي؟" وأيضًا: "يقولون الرب لا يرى، ولا يبالي إله يعقوب" (مز 7:94). هكذا فإن هذا الشخص الذي حمل رمز الكنيسة المقدسة، إذ كان في وسط مرارة حزنه أجاب على الفريقين. فكما أن الحياة لها وجود، والموت ليس له وجود، يجاهر بأن الله موجود يقول: "حي هو الله"، وهكذا يخبر أيضًا أن الله مهتم بشئون القابلين للموت، فيضيف: "الذي ينزع حكمي، ويحضر نفسي للمرّ". فإنه يشهد بأن ما يعاني منه من شرورٍ لم يحدث مصادفة، وإنما بالله الذي يأمر بكل الأشياء، ولا ينسب أيوب قوة مرارته إلى مجربه بل إلى خالقه... إرادة الشيطان شريرة، لكن إذ يسمح الله بها، فإن قوته عادلة. فمن جهته (الشيطان) يطلب أن يجرب البشر ظلمًا بغير اكتراثٍ، أما المطلوبون أن يُجربوا، فإنهم إذ يُطلبوا هكذا لا يسمح لهم الله أن يجربوا إلا بعدلٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) (أ) غالبًا لأجل اختبارهم (تزكيتهم). (ب) وأحيانًا لأجل إصلاحهم. (ج) وفي بعض الحالات بسبب خطاياهم. 1-فمن أجل اختبارهم، كما نقرأ عن الطوباويين إبراهيم وأيوب وكثير من القديسين الذين تحملوا تجارب بلا حصر. 2- ومن أجل الإصلاح، وذلك عندما يؤدب أبراره من أجل خطاياهم البسيطة (اللاإرادية) والهفوات، ولكي ما يسمو بهم إلى حالٍ أعظم من النقاء، منقيًا إياهم من الأفكار الدنسة، وذلك كالقول: "كثيرة هي بلايا الصديق" (مز19:34)، "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تَخُرْ إذا وبَّخك. لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابنٍ يقبلهُ فأيُّ ابنٍ لا يؤَدبهُ أبوهُ؟ ولكن إن كنتم بلا تأْديبٍ قد صار الجميع شركاءَ فيهِ فأنتم نُغُولٌ (أي أولاد زنا) لا بنون" (عب 5:12-8). وفي سفر الرؤيا: "إني كلُّ من أحبهُ أوبّخهُ وأؤَدّبهُ" (رؤ19:3). ويصلي داود من أجل عطية التطهير هذه قائلًا: "جرّبني يا ربُّ وامتحنّي. صفِّ كليتيَّ وقلبي" (مز2:26). وإذ يعلم النبي قيمة هذه التجارب يقول: "أدِّبنْي يا رب ولكن بالحق لا بغضبك" (إر24:10)، وأيضًا "أحمدك يا رب لأنه إذ غضبت عليّ ارتد غضبك فتعزيني" (إش1:12). 3- كعقابٍ من أجل الخطية، وذلك كما هدّد الله بأن يُرسل أوبئة على بني إسرائيل بسبب لشرهم "أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمَة زواحف الأرض" (تث24:32). وأيضًا في المزامير: "كثيرة هي نكبات الشرير" (مز10:32)، وفي الإنجيل جاء: "ها أنت قد بَرِئْت. فلا تخطئْ أيضًا لئَلاَّ يكون لك أَشَرُّ" (يو14:5). 4-بالحقيقة أيضًا نجد سببًا رابعًا ذكره الكتاب المقدس، وهو أن الأتعاب تُجلب علينا ببساطة من أجل إظهار مجد الله وأعماله، وذلك كقول الإنجيل: "لا هذا أخطأَ ولا أبواهُ، لكن لتظهر أعمال الله فيهِ" (يو3:9). وأيضًا: "هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله بهِ" (يو4:11). 5-وهناك أنواع أخرى للنقمات التي يُبتلي بها الذين تجاوزوا رباطات الشر في حياتهم (وبالغوا فيه)، إذ نقرأ عن داثان وأبيرام وقورح الذين عوقبوا، وعن الذين يقول عنهم الرسول: "أسلمهم إلى أهواءِ الهوان إلى ذهنٍ مرفوضٍ" (رو 26:1، 28). وهذه تعتبر أمرّ كل العقابات، لأنهم صاروا غير مستأهلين لأن يشفوا بالافتقاد الإلهي واهب الحياة، إذ "هم قد فقدوا الحسَّ أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسةٍ في الطمع" (أف19:4). وبسبب قسوة قلوبهم والتمادي في عاداتهم وفعلهم للشر قد صار لهم عقاب في هذا العالم من غير تطهيرٍ. وتعيّرهم الكلمة المقدسة التي نطق بها النبي قائلًا: "قلبتُ بعضكم كما قلب الله سدوم وعمورة فصرتم كشعلةٍ مُنتَشَلة من الحريق فلم ترجعوا إليَّ يقول الرب" (عا 11:4). ويقول إرميا: "أثكل وأبيد شعبي. ولم يرجعوا عن طرقهم" (إر 7:15). وأيضًا "ضربتهم فلم يتوجعوا. أفنيتهم وأبوا قبول التأديب. صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر. أبوا الرجوع" (إر3:5). فيرى النبي أن كل أدوية هذه الحياة لم تُوجدِ نفعًا لشفائهم، معلنًا أنه قد يئس من حياتهم، قائلًا: "احترق المِنفاخ من النار، فني الرصاص. باطلًا صاغ الصائغ والأشرار لا يُفرَزون. فضةً مرفوضةً يُدعَون. لأن الرب قد رفضهم" (إر 29:6، 30). ينوح الله عليهم لأنه قدّم لهم التطهير بالنار فلم ينتفعوا، متصلبين في خطاياهم. فيبكيهم في شخص أورشليم التي تغلفت بالصدأ إذ يقول: "ضعها فارغةً على الجمر ليحمي نحاسها ويُحرَق، فيذوب قذرها فيها، ويفنى زنجارها. بمشقَّاتٍ تعبت، ولم تخرج منها كثرة زنجارها. في النار زنجارها. في نجاستكِ رذيلة لأني طهَّرتكِ فلم تطهري، ولن تطهري بعدُ من نجاستكِ" (حز11:24 -13). إنه يشبه الطبيب الحاذق الذي استخدم كل وسائل الشفاء ولم يعد بعد هناك علاج يمكن أن يُستخدم... لذلك يقول الله: "وأُحِلَّ غضبي بكِ فتنصرف غيرتي عنكِ فأسكن ولا أغضب بعدُ" (حز 42:16). الأبثيؤدور لما أراد الله أن ينصر يوسف ويجعله سيدًا على مصر كما ترى قداستك، ماذا كانت بداية عمله ليفضي إلى نهاية صالحة؟ أولًا قبض عليه إخوته، وأهانوه، واستهزأوا به، ونزعوا ثيابه، وأبقوه في الجب، وقطعوا رجاءه، وباعوه للتجار، وصار عبدًا يخدم الأرباب، وأستعبد ابن الأحرار الحسن الذي لم يقترف سوءً. من كان يرى هذا العمل السيئ لم يكن بوسعه أن يظن أن كل هذه الشرور كانت تُرتكب لصالح يوسف. أما الله الذي كان يعلم ماذا يريد أن يصنع له، فلم يشفق عليه عندما كان يرزأ تحت وطأة كل هذه الشرور، لكنه تركه يسقط في الجب، ويُباع للتجار، وُيزج به في السجن ظلمًا. بعد هذه كلها أشرق جماله كالشمس، وظهر حقه كالذهب، وزالت شروره كالدخان، واعتلى قمة المركبة كالملك، وقام في العظمة التي من أجلها وضعه الله بحيث يتواضع فيرتفع. القديس مار يعقوب السروجي إِنَّهُ مَا دَامَتْ نَسَمَتِي فِيَّ، وَنَفْخَةُ اللهِ فِي أَنْفِي [3] يعلن أيوب باسم كل مؤمنٍ جادٍ في حياته الروحية العزيمة الصادقة على الحياة المقدسة ورفض كل خطية. مادامت هناك نسمة حياة لن ننطق بكلمة غير لائقة. كان أيوب يدرك أن حياته نسمات سريعة، أو هي لحظات، فيلزمه أن يبقى أمينًا حتى النسمة الأخيرة. من جانب آخر يدرك أيوب أن نسمات حياته هي عطية من الله الذي نفخ في آدم أبيه نسمة حياة، فالله هو الذي يعطي الجميع حياة ونفسًا وكل شيءٍ (أي 17: 25)، لذا يليق بنا أن نمجده في كل شيء مادامت فينا نسمة حياة. يعلق القديس أمبروسيوس على تعبير أيوب "نفخة الله في أنفي"، قائلًا بأنه لا يقصد الأنف الجسماني، لكن أنف الإنسان الداخلي الذي يتنسم رائحة الحياة الأبدية. * بالتأكيد لا يعني هنا بروحه (نسمة الله) النسمة الحية والنسمة الجسدانية العابرة، بل يعني أنف الإنسان الداخلي الذي فيه يشتَّم العبير الزكي للحياة الأبدية، وندى نعمة المسحة السماوية كحاسة من نوعٍ مضاعفٍ . القديس أمبروسيوس *لا يمكن لروح الله أن يسكن في أي شخص يسلك حسب الجسديات . الأب أمبروسياتير لَنْ تَتَكَلَّمَ شَفَتَايَ إِثْمًا، وَلاَ يَلْفِظَ لِسَانِي بِغِشٍّ [4]. للبابا غريغوريوس (الكبير) تعليق عجيب على هذه العبارة إذ يقول بأن أيوب لم يقل: "لن أفكر في الإثم"، بل "لن تتكلم شفتاى إثمًا"، لأن النطق بالإثم أهون من الفكر، فكثيرًا ما تفلت كلمات من أفواهنا بغير إرادتنا، لكن بالنسبة لأفكارنا فإنها غالبًا ما تكون موضوع انشغال شرير وأثيم. لقد عزم أيوب ألا تتفوه شفتاه بكلمة أثيمةٍ، ولا يلفظ لسانه بكذبٍ، فهو ينطق بالحق، حتى ولو كان فيه إدانة لنفسه. لا يتستر على خطيةٍ ما في حياته بكلمة خداعٍ؛ بمعنى آخر ليس للرياء موضع في حياته وفي كلماته. * يوجد فارق شاسع بين تعبير "يتكلم" وتعبير "يتأمل أو يفكر". أحيانًا التفكير الباطل يكون أشر من النطق به. فإنه غالبًا إذ يتكلم الشخص يحدث الخطأ عفوًا، أما التفكير فيحمل شرًا مبيتًا! البابا غريغوريوس (الكبير) حَاشَا لِي أَنْ أُبَرِّرَكُمْ! حَتَّى أُسْلِمَ الرُّوحَ لاَ أَعْزِلُ كَمَالِي عَنِّي [5]. في صراحة أيضًا لم يكن أيوب مستعدًا أن يداهن أصدقاءه بكلمة غشٍ لكي يكسبهم على حساب نقاوة قلبه، فهو لا ينطق بغير ما يحمله في داخله. وكما يقول الرسول بولس: "لأننا نثق أن لنا ضميرًا صالحًا، راغبين أن نتصرف حسنًا في كل شيء" (عب 13: 18). لقد هاجم حزقيال النبي الأنبياء الكذبة، لأنهم من أجل المكسب المادي أو الاجتماعي كانوا يداهنون الأشرار، قائلين: "سلام، وليس سلام" (حز 13: 10)، أو كما يقول إشعياء النبي عنهم إنهم كلمونا بالناعمات (إش 30: 10). * لم يكن ممكنًا لأيوب أن يداهن أصحابه، ويبرر أخطاءهم، فقد وضع موته نصب عينيه، ولا يود أن يرحل من هذا العالم فاقدًا براءته، مهما كان الثمن. إنه يفقد براءته إن حسب الأشرار صالحين، كما يشهد سليمان القائل: "من يبرر الشرير ويدين البار، كلاهما مكرهة عند الرب" (أم 15:17). إذ يوجد أشخاص يمجدون الأعمال الشريرة للناس، يمجدون ما كان يجب أن يوبخوه. هكذا قيل بالنبي: "ويل للذين يخيطون وسائد تحت "كوع" اليد، "ويصنعون وسائد تحت رأس كل قامةٍ" (راجع حز 18:13) فإن الوسادة توضع هناك لكي نستريح بأكثر سهولة. فمن يتملق أشخاصًا يمارسون خطأ ويضعون وسائد تحت رأس أو كوع شخصٍ راقدٍ! البابا غريغوريوس (الكبير) تَمَسَّكْتُ بِبِرِّي، وَلاَ أَرْخِيهِ. قَلْبِي لاَ يُعَيِّرُ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِي [6]. يؤكد لهم أيوب أن انتقاداتهم المرة له لن تهز أعماقه، فهو عالم بما في قلبه من حب الله، وعزيمة قوية على ممارسة الصلاح، وأن فرحه الداخلي بهذه الحياة لن يستطيع أحد أن ينزعه منه. إن كانوا يعيرونه ظلمًا، فإنه لن يسمح لقلبه أن يعيره. ما يشغله ليس انتقادات الناس له، بل نقاوة قلبه. عندما أخطا داود النبي ضربه قلبه، "فقال داود للرب: لقد أخطأت جدًا في ما فعلت، والآن يا رب أزل إثم عبدك، لأني انحمقت جدًا" (2 صم 24: 10). فما يشكو علينا هو قلبنا الذي يعمل فيه روح الله القدوس مبكتًا إيانا على خطية. * "لا أترك برِّي الذي بدأت أتمسك به" [6]. فإنه إن قام أحد بمدح أشخاصٍ يرتكبون الخطية يترك برّه الذي بدأ به.... "فإنه لا يوبخني قلبي في كل حياتي" [6]. كأنه يعبِّر عن نفسه بكلمات واضحة: "ضع في حسبانك أنه يلزمني ألا أنسحب في إثمٍ، كما أنني أخشى أن أرتكب خطية في شئوني... ربما يسأل أحد: على أي أساس يعلن أنه لا يوبخه قلبه، مع أنه اتهم نفسه قبلًا أنه قد أخطأ، قائلًا: "إني مخطئ، ماذا أفعل معك يا حافظ البشر؟" (أي 20:7). أو يؤكد: "إن كنت أبرر نفسي، ففمي يدينني" (أي 20:9). يلزم أن نعرف أنه توجد خطايا يمكن للأبرار أن يتجنبوها، وتوجد بعض خطايا لا يمكن حتى للأبرار أن يتجنبوها. أي قلب لإنسانٍ مرتبط بالجسد الفاسد لا ينزلق في فكرٍ يميل نحو الشر، حتى وإن كان لا يندفع في حفرة الموافقة عليه؟ ومع هذا فإن التفكير بهذا الفكر الخاطئ هو ارتكاب خطية. لكن إن وُجدت مقاومة للفكر، فإن النفس تتحرر من الارتباك. وهكذا فإن ذهب البار، وإن كان متحررًا من الممارسة الشريرة إلا أنه أحيانًا يسقط في فكرٍ شريرٍ... البابا غريغوريوس (الكبير) الأب قيصريوس أسقف آرل لِيَكُنْ عَدُوِّي كَالشِّرِّيرِ، وَمُعَانِدِي كَفَاعِلِ الشَّرِّ [7]. إذ كان أيوب في حالة ذهول من اتهام أصدقائه له بأنه شرير يستحق تأديبات أقسى مما حلت به، وأنه يلزم أن يتوقع هلاكًا تامًا، أكد لهم أنه ليس بالإنسان الشرير كما كانوا يتصورون. الآن يقول لهم إنه أبعد ما يكون عن أن يقبل أي طريق شرير أو يجد فيه لذة، فإنه لو كان له عدو لدود جدًا لتمنى له أن يكون شريرًا، إذ ليس شيء أسوا من هذا. هذا لا يعني أنه يكره أشخاصًا كأعداء له وأنه يشتهي لهم أن يكونوا هكذا، وإنما من قبيل إظهار مدى كراهيته للشر، وذلك كما قال دانيال النبي لنبوخذ نصر: "الحلم لمبغضيك" (دا 4: 19). كأن أيوب يقول له إنه يشتهي أن يكون في أي وضعٍ كأن يصير فقيرًا أو عبدًا محتقرًا أو فاقدًا لأولاده، ولا يكون شريرًا، فإن الخطية خاطئة جدًا" (رو 7: 13). وكما يقول السيد المسيح: "الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو 8: 34). ويقول الرسول يوحنا: "كل من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضًا، والخطية هي التعدي (1 يو 3: 4)؛ "من يفعل الخطية فهو من إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ، لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس (1 يو 3: 8). * "ليكن عدوي كالشرير". أحيانًا تأتي كلمة "مثل" لا للتشبيه بل لتصوِّر واقعًا. مثل: "رأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ للآب" (يو 14:1). هنا كلمة "كما" تأتي للتأكيد وليس للتشبيه. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس يوحنا الذهبي الفم لأَنَّهُ مَا هُوَ رَجَاءُ الْفَاجِرِ عِنْدَمَا يَقْطَعُهُ، عِنْدَمَا يَسْلِبُ اللهُ نَفْسَهُ؟ [8] يترجم البعض هذه العبارة "لأنه ما هو رجاء المرائي، حتى وإن جنى أي ربح، عندما يأخذ الله روحه؟" فالشرير، خاصة المرائي، يعيش بلا رجاء، لأن مصيره الهلاك الأبدي. فإذ اتهمه أصدقاؤه بالرياء، يؤكد لهم أنه ليس غبيًا ليمارس الرياء محطم الرجاء. فإن كان الرياء يقدم ربحًا زمنيًا، هو مديح الناس له أو نوال ثروة زمنية، فإن هذا ليس إلا خداعًا مؤقتًا، يظهر عندما تُطلب نفس المرائي منه، فينكشف كل ما في قلبه. يقول المرتل عن المرائي: لأنه عند موته كله لا يأخذ، لا ينزل وراءه مجده" (مز 49: 17). كما يقول الكتاب:"لا تكن مرائيًا في وجوه الناس، وكن محترسًا لشفتيك" (سيراخ 1: 37). *"فإنه ما هو رجاء المرائي، إن أمسك به الطمع، ولا يحرر الله نفسه؟" [8] المرائي الذي يقال عنه في اللاتينية simulator، أي متظاهر، ليس له هدف غير الظهور. البابا غريغوريوس (الكبير) إن كان الرياء لا ينفضح أحيانًا، لكن إلى حين، إذ لا يدوم كثيرًا، بل ينكشف كل شيء، فيجلب على صاحبه وبالًا، وهكذا يكون أشبه بامرأة قبيحة المنظر تُنزَع عنها زينتها الخارجيَّة التي وُضعت لها بطرق صناعيَّة. * الرياء غريب عن سمات القدِّيسين، إذ يستحيل أن يفلت شيء مما نفعله أو نقوله من عيني اللاهوت، إذ "ليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفي لن يُعرف". كل كلماتنا وأعمالنا ستُعلن في يوم الدين. لذلك فالرياء مُتعب وبلا منفعة. يليق بنا أن نتزكَّى كعبَّاد حقيقيِّين نخدم الله بملامح صريحة وواضحة. القديس كيرلس الكبير أَفَيَسْمَعُ اللهُ صُرَاخَهُ إِذَا جَاءَ عَلَيْهِ ضِيقٌ؟ [9] صلاة المرائي لا تُستجاب، فسيحل به الضيق ويصرخ، لكن صراخه لا قيمة له. لا يسمع الله صرخات المرائين حتى يتركوا رياهم، ويقدموا توبة، ويكون لهم رجوع إليه. يقول الرب لإشعياء النبي: "أخذت الرعدة المنافقين" (إش 33: 14). "إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب" (مز 66: 18). "من يحول أذنه عن سماع الشريعة فصلاته أيضًا مكروهة" (أم 28: 9). سيصرخ الأشرار في يوم الرب ولا يسمع الله لهم. يقول الرب: "لأني دعوت فأبيتم، ومددت يدي وليس من يبالي، بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي، فأنا أيضًا أضحك عند بليتكم" (أم 1: 24-25). مسكين الإنسان المرائي، فإنه لن يختبر سلام الله وتعزياته، فلا يتلذذ بالقدير، لأن لذته في ثروات العالم، ومجده الزائل وفي ملذات الجسد وشهواته. لا يعرف المرائي كيف يدعو الله، لأنه في وقت الرخاء يلهو بما لديه، ويستخف بالعبادة الروحية، وفي وقت الضيق يتذمر ويجدف على الله. لا يعرف المرائي كيف يدعوه، لأن ليس لله موضع في قلبه، إذ لا يسكن الله مع الرياء، ولا الحق مع الغش والخداع. قد يعتقد المرائي بوجود الله، وأنه القدير ويلزم الصلاة إليه، لكنه عمليًا لا مكان لله في أعماقه. يظن أن قدرته الحقيقية فيما يناله من أمور زمنية، واتكاله على ممتلكاته وسلطانه وصداقاته لا على الله القدير! غاية الكنيسة أن تقدم السيد المسيح للعالم كي يخبر الكل عن الآب، ويعلن عن خطته القديرة لخلاص البشرية. إذ تختبر الكنيسة الشركة مع عريسها، ربنا يسوع، المدعو يد الله، تذوق عذوبة أسرار الله، وتختبر قوته وقدرته، فتدعو الكل ليشاركوها هذه الخبرة المفرحة. * "هل يسمع الله صرخته عندما تحل به المتاعب؟ أو هل يكون قادرًا على أن يُسر نفسه في القدير؟" [9] لا يسمع الله صرخته في وقت الشدائد، لأنه في وقت الهدوء لم يسمع للرب الذي يصرخ في وصاياه. مكتوب: "من يحول أذنه عن سماع الشريعة، حتى صلاته تكون مكرهة" (أم 9:28). إذ يرى الإنسان القديس أن كل الذين لا يبالون بممارسة ما هو مستقيم الآن، ففي النهاية يفزع من كلمات التوسل... هكذا يقول النبي: "اطلبوا الرب حيث يوجد، ادعوه وهو قريب" (إش 6:55). الآن الله لا يُري، وهو قريب، فيما بعد سيُرى ولا يكون قريبًا. إنه لم يظهر بعد في الدينونة، فإن طُلب يُوجد. فإنه عندما يظهر في الدينونة بطريقٍ عجيبٍ، يُرى ولا يُوجد. هكذا يصف سليمان الحكمة بأنها تعانق بعذوبة، وتدين برهبة، فيقول: "الحكمة تدعو عاليًا في الخارج. ترفع صوتها في الساحات المفتوحة". البابا غريغوريوس (الكبير) * بالمثل علمنا مخلِّصنا هذا النوع من الصلاة. يجب أن تصلِّي سرًا لذاك الذي هو في الخفاء وهو يرى الكل، هكذا قال السيِّد المسيح: "أدخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 6). أحبَّائي، لماذا يعلمنا مخلِّصنا قائلًا: "صلِّ إلى أبيك في الخفاء، والباب مغلق"؟ سوف أريكم ذلك على قدر استطاعتي. تعرِّفنا كلمات سيِّدنا أنه يجب أن تصلِّي بقلبك في الخفاء، والباب مغلق، لكن ما هو الباب الذي يجب أن تغلقه؟ إن لم يكن هو فمك، لأنه هو الهيكل الذي يسكن فيه المسيح، كما قال الرسول: "أما تعلمون أنكم هيكل الله؟" (1 كو 3: 16)، فلكي يدخل الله إلى إنسانك الداخلي في هذا المسكن، يجب أن يُنظِّف من كل شيء غير طاهر، بينما يكون الباب، أي فمك، مغلقًا. القديس أفراهاط القديس يوحنا الذهبي الفم * نصلّي داخل مخدعنا عندما ننزع من قلوبنا الداخلية الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سرّي مغلق بيننا وبين الرب. * نصلّي بأبواب مغلقة، عندما نصلّي بشفاه مغلقة في هدوءٍ وصمتٍ كاملٍ لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. *نصلّي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتقدة بحيث لا نكشفها إلا لله وحده، فلا تستطيع القوات المضادة (الشياطين) أن تكتشفها. لذلك يجب أن نصلّي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا وعدم إزعاجهم بهمسنا أو كلماتنا العالية، ونتجنب اضطراب أفكار المصلّين معنا، وإنما لكي نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذين يراقبوننا، بالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصية: "احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك" (مي 5:7) . الأب إسحق أَمْ يَتَلَذَّذُ بِالْقَدِيرِ؟ هَلْ يَدْعُو اللهَ فِي كُلِّ حِينٍ؟ [10] يرى البعض أنه يقصد هنا: أي رجاء للشرير أو للمرائي حتى وإن نال الكثير من الغنى حسب شهوة قلبه؟ هل سيسمع للحال صراخه عندما يكون في ضيقٍ؟ ويرى آخرون أن أيوب يعلم أنه لا منفعة للشرير حتى إن نال الكثير، فحتمًا سيرحل ويكون مرعبًا للمرائي . 3. معاقبة الأشرار بالرغم من نجاحهم إِنِّي أُعَلِّمُكُمْ بِيَدِ اللهِ. لاَ أَكْتُمُ مَا هُوَ عِنْدَ الْقَدِيرِ [11]. يؤكد أيوب أن معرفته للأسرار الإلهية قد تسلمها كما من يد الله، وأنه لا يبخل عن أن بعلن ما تسلمه. وهو في هذا يرمز للكنيسة التي تلقنت الحق من السيد المسيح، بكونه الحق نفسه، جاء لكي يخبرنا عن الآب. إذ يرمز أيوب للكنيسة المضطهدة، فإنه باسمها يعلن عن رسالتها، ألا وهي أن تعلِّم الناس بيد الله أي بالمسيح يسوع، لأن يد الله تشير إلى الابن الكلمة، وإصبع الله يشير إلى الروح القدس. كثيرًا ما كان القديس إكليمنضس السكندري يدعو السيد المسيح المعلم أو المدرب أو المهذب Paedagogus. كان القديسيميز بين اللوغوس الإلهي كهادٍ Protrepikos، وكمربٍ Paedagogus، وكمعلمٍ Didaskelos. فهو الهادي يدعو الناس للخلاص، وهو المربي الذي يحث المؤمنين على الحياة الأفضل ويشفيهم من آلامهم، ممارسًا عمله الروحي فيهم، وأخيرًا هو بعينه المعلم Didaskalos الذي يعلم الأسس العامة ويشرحها، مفسرًا المنطوقات الرمزية. ومن كلمات القديس نفسه: [المرشد السماوي، اللوغوس يُدعى الهادي عندما يدعو البشرية للخلاص... لكنه إذ يعمل كطبيبٍ أو مربٍ يصير اسمه "المربي"... فإن النفس المريضة تحتاج إلى مربٍ يشفي آلامها. ثم تحتاج إلى المعلم الذي يعطيها الإدراك... "إعلان اللوغوس". هكذا إذ يريد اللوغوس خلاصنا خطوة فخطوة يستخدم وسيلة ممتازة. إنه في البداية يهدي، ثم يصلح، وأخيرًا يعلم.] * ليست معرفة بدون إيمان، ولا إيمان بدون معرفة... الابن هو المعلم الحقيقي عن الآب. إنّنا نؤمن بالابن لكي نعرف الآب، الذي معه أيضًا الابن. مرّة أخرى، لكي نعرف الآب يلزمنا أن نؤمن بالابن، ابن الآب. معرفة الآب والابن، بطريقة الغنوسي الحقيقي، إنّما هي بلوغ للحق بواسطة الحق... حقًا، قليلون هم الذين يؤمنون ويعرفون . القديسإكليمنضس السكندري البابا غريغوريوس (الكبير) هَا أَنْتُمْ كُلُّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ، فَلِمَاذَا تَتَبَطَّلُونَ تَبَطُّلًا قَائِلِينَ: [12] هنا يوبخ الذين لهم معرفة ولا يعَلِمون، فهذا خطية كقول الرسول (يع 17:4). ماذا رأوا في أيوب؟ حقا لقد تمررت نفسه جدًا بسبب اتهاماتهم الباطلة التي أضافت إلى ضيقاته ضيقًا أشد. لكنه مع هذا لم يجدف على الله، ولا نسب إليه ظلمًا. في مرارة نفسه طلب أن يقف أمام الله ليُحاكم، فهو في يقين أنه عادل ومحب، سيبرئه. في عتابٍ يقول لهم: لماذا تنطقون بالباطل؟ لماذا تتصيدون لي الأخطاء؟ لماذا لا تحكمون عليّ من خلال الواقع الذي أعيش فيه؟ لماذا لم تدركوا ما وراء كلماتي من إيمانٍ حي بالله القدير؟ هَذَا نَصِيبُ الإِنْسَانِ الشِّرِّيرِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمِيرَاثُ الْعُتَاةِ الَّذِي يَنَالُونَهُ مِنَ الْقَدِيرِ [13]. يقول لهم: لماذا تنطقون عليّ بالباطل؟ فإن كنت أعاني من النكبات والضربات، انظروا ما هو نصيب الشرير في هذا العالم، وميراث العتاة هنا؟ فإن كثيرين منهم ناجحون وأصحاب سلطة وأغنياء... لكن إلى لحظة، فينهار كل ما لديهم إن لم يكن في هذا العالم ففي الحياة العقيدة. هوذا الواقع العملي يشهد أنه ليس كل الأبرار في وسعٍ، ولا كل الأشرار في ضيق! لا تتسرعوا في الحكم علي! إِنْ كَثُرَ بَنُوهُ فَلِلسَّيْفِ، وَذُرِّيَّتُهُ لاَ تَشْبَعُ خُبْزًا [14]. تعاني ذرية الشرير من الجوع، فلا يجدون الخبز الضروري للشبع. وإن وُجد طعام يأكلون، وليس من شبعٍ (راجع حج 1: 6). كما يمكن أن يعني عوزهم إلى تذوق الخبز السماوي، كلمة الله المشبعة للنفس، حيث تحل بهم مجاعة إلى الكلمة. هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب، أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز، ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11). بَقِيَّتُهُ تُدْفَنُ بِالْوَبَاءِ، وَأَرَامِلُهُ لاَ تَبْكِي [15]. تصير ذريته ثقلًا على المجتمع، حتى في موتهم لا يكرمهم أحد، وكما قيل في إرميا: "تُدفن دفن حمارٍ" (إر 22: 19). متى ماتوا لا تبكي عليهم أراملهم، فإنه ليس من داعٍ للحزن عليهم، إذ تستريح الأرامل منهم، ويحسبن موتهم راحة لهن. *يصف أيوب النصيب البائس للأشرار. فإنه وإن كان لهم الكثير من الأطفال، يكونون بلا ذرية، إذ ينقصهم النسل الصالح والأعمال التي تستحق التقدير. بالحقيقة فإن الذرية ليست تلك التي على الأرض، بل في السماء. لذلك مثل هؤلاء ينقصهم ميراثهم، ويكون الموت هو نهايتهم. بالرغم من أنهم يجمعون الثروة،، فإنهم يشحذون، إذ عندما يموتون يكونون في عوزٍ حيث لا يجدون راحة. ليس من يشفق على أراملهم. القديس أمبروسيوس إِنْ كَنَزَ فِضَّةً كَالتُّرَابِ، وَأَعَدَّ مَلاَبِسَ كَالطِّينِ [16] يكدس الأشرار ثروتهم من الفضة والذهب والملابس، لكن الفضة لا تفيدهم في شيء، بل تكون أشبه بالتراب، والثياب أشبه بالطين. تصير كنوزهم ثقلًا وعبئًا عليهم، يثقِّلون أنفسهم بها. ولما كانت الفضة في الكتاب المقدس غالبًا ما تشير إلى كلمة الله، فإن الأشرار حتى في اقتنائهم للكتاب المقدس يصير بالنسبة لهم كالتراب، لأنهم لا يقبلونه للتمتع بعربون السماويات، وإنما لأجل نوال البركات زمنية. ولما كانت الملابس تشير إلى برّ المسيح الذي يستر المؤمن ويصونه من الخطية، إذا بالشرير يمارس بعض الفضائل من أجل المجد الزمني في رياءٍ، فتصير ثيابه الداخلية طينًا قذرًا. إلى وقت قريب كان كثير من الشرقيين يحصون ثيابهم الثمينة مع الفضة والذهب بكونها تمثل ثروة ذات تقديرٍ كبيرٍ وكنز ثمينٍ. يقول الرسول بولس: "فضة أو ذهب أو لباس أحدٍ لم أشتهِ" (أع 20: 33). كما أشار إلى قيمة الثياب في (1 تي 2: 9) "ملابس كثيرة الثمن". ويعقوب الرسول يتحدث عن الأغنياء: "غناكم قد تهرأ، وثيابكم قد أكلها العث" (يع 5: 2). وعندما أكرم يوسف أخاه بنيامين قيل: "أعطاه ثلاث مئة من الفضة وخمس حلل ثياب" (تك 45: 22). كانت الثياب من الهدايا الثمينة التي تُقدم كنوعٍ من التقدير والاعتزاز والتكريم. فقد وعد شمشون بتقديم ثيابٍ لمن يحل لغزه (قض 14: 12- 13، 19). وأخذ نعمان ثيابًا مع بقية الهدايا لتقديمها لإليشع النبي (2مل 5: 5). وسليمان في كل مجده لم يمتنع من قبول ثياب كهدايا قيِّمة (2 أي 9: 24). ودانيال ارتدى ثوبًا من أرجوان قدمه له الملك لتكريمه (دا 5: 29). جاء عن شاعر شرقي مشهور في القرن التاسع أنه قدمت له هدايا كثيرة في حياته، وعند موته كان لديه 100 طاقم من الملابس كاملة، و200 قميصٍ و500 عمامة. لا يزال الهندوس يقدمون في نهاية العيد ثيابًا جديدة لكل ضيفٍ حضر العيد. * عادة ما تُفسر الفضة بمعنى نقاوة الكتاب المقدس، حيث قيل في موضع آخر: "كلمات الرب كلمات نقية، مثل الفضة المُجربة في تنور الأرض" (مز 6:12) ولما كان البعض يشتاقون أن تكون لهم كلمة الله، ليس داخليًا لكي يتمثلوا بها، بل خارجيًا للتباهي بها، قيل بالنبي: "كل هؤلاء الذين يلتحفون بالفضة يُقطعون" (صف 11:1)، وذلك بخصوص الذين لا يملأون أنفسهم بكلمة الله بانتعاشٍ داخلي، بل يكسون أنفسهم باستعراضٍ خارجيٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) *"وأما البريء فيقسم الفضة". فإن البريء (له قلب صادق) يقسم الفضة، أي يُقَدِّم إعلانات الرب (الواردة في الكتاب المقدس) قطعة فقطعة بتمييز، ويقدم لكل فردٍ ما يناسبه بلياقة. فإن كلمة الرب التي تُدعى هنا فضة أو ثيابًا، تُدعى في موضع آخر "غنائم". يشهد بذلك المرتل بعمل مقارنة، قائلًا: "ابتهج بكلامك، كمن وجد غنائم" (مز 162:119). البابا غريغوريوس (الكبير) يَبْنِي بَيْتَهُ كَالْعُثِّ، أَوْ كَمِظَلَّةٍ صَنَعَهَا الْحَارِسُ [18]. قد يبني الأشرار قصورًا فخمة، يظنون أنها تهبهم سعادة وراحة كما تبقى لتخليد ذكراهم، ولا يدركون أنها تشبه ما يبنيه العث في ثوبٍ قديمٍ، سرعان ما يزول تمامًا. *"يبني بيته مثل العث (عثة الملابس)" [8]. فالعث يبني بيتًا لنفسه بالفساد. البابا غريغوريوس (الكبير) يَضْطَجِعُ غَنِيًّا، وَلَكِنَّهُ لاَ يُضَمُّ. يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ وَلاَ يَكُونُ [19]. عند نومه يقول: "يا نفسي استريحي" (لو 12: 19). يبدو للآخرين أنه سعيد للغاية ومستريح، قد جمع ما يكفيه كل عمره وما يكفي أبناءه وأحفاده. لكنه لا يجد في أعماقه راحة حقيقية. "نوم المشتغل حلو، إن أكل قليلًا أو كثيرًا، ووفر الغني لا يريحه حتى ينام" (جا 5: 12). إذ يغمض الشرير عينيه عند موته ويرقد، يفتحهما، فيجد أن كل ما قد جمعه قد تبدد، لا يسنده في شيء أمام الديان. * "عندما ينام الغني لا يأخذ معه شيئًا، يفتح عينيه فلا يجد شيئًا" [19] في تناغم مع هذه العبارة يقول المرتل: كل الأغبياء مضطربون في القلب، ينامون نومهم، وكل الأغنياء لا يجدون في أياديهم شيئًا" (مز 5:76). فلكي يجد الأغنياء بعد موتهم شيئًا في أياديهم يُقال لهم قبل الموت وهم واضعون غناهم في أياديهم: "اصنعوا لأنفسكم أصدقاء من مال الظلم، حتى متى فُنيتم يقبلونكم في المساكن الأبدية" (لو 9:16). * عندما ينام الجسد في الموت، تستيقظ النفس في معرفة صادقة. وهكذا فإن الغني ينام ويفتح عينيه، لأن من يموت في الجسد تلتزم نفسه أن ترى ما كانت تخشى توقعه. عندئذ تقوم في معرفة صادقة، وترى أن كل ما قد اقتنته هو لا شيء، فتجد نفسها في فراغٍ. لقد اعتادت أن تتهلل بكونها مملوءة خيرات أكثر من بقية العالم. لكنها تنام ولا تأخذ معها شيئًا. بالتأكيد لا تأخذ شيئًا من الخيرات التي اقتنتها. إذ تصاحبها خطية اقتناء الخيرات، وإن كانت تترك وراءها كل ما من أجله ارتكبت الخطية. البابا غريغوريوس (الكبير) الأَهْوَالُ تُدْرِكُهُ كَالْمِيَاهِ، لَيْلًا تَخْتَطِفُهُ الزَّوْبَعَةُ [20]. يصير الموت بالنسبة للشرير ملك الأهوال. يصير كمن يغرق في مياه غامرة. يرتعب في رحيله من هذا العالم، فيكون كالعاصفة التي تخطفها زوبعة. تهب عاصفة غضب الله علبه "ليلًا"، وتختطفه وسط الظلمة التي اختارها بنفسه، فيكون كمن يتزعزع ولا يراه أحد لينقذه. إذ يحرم نفسه من إشراق شمس البرّ عليه، ليسكب رحمته فيه، يضع نفسه تحت العدالة الإلهية، ومن يحتملها؟! * "العوز يلحق به كالماء، والعاصفة تجتاحه في الليل" [20]... ليس من غير اللائق أن يشبه العوز بالماء، لهذا أُعتيد أن تُدعى العذابات في جهنم بالبحيرة، تبتلع من تتقبله فيها وتنزل به حتى الأعماق. لذلك قيل بالنبي على لسان البشرية: "حياتي تسقط في البحيرة" (مراثي 53:3). بينما يتغنى المنتصرون الهاربون منها، قائلين: "أيها الرب إلهي أصرخ إليك وأنت تشفيني. أيها الرب قد أصعدت نفسي من القبر. حفظتني من الذين ينحدرون في البحيرة" (مز 2:30-3). * "تجتاحه عاصفة في الليل" [20]. ما هذا الذي يدعوه "الليل" هنا إلا الزمن الخفي للرحيل المفاجئ؟ البابا غريغوريوس (الكبير) تَحْمِلُهُ الشَّرْقِيَّةُ فَيَذْهَبُ، وَتَجْرُفُهُ مِنْ مَكَانِهِ [21]. تهب عليه عاصفة الغضب كريحٍ شرقيةٍ عنيفةٍ ومرعبةٍ جدًا، تنقله كما إلى الهلاك الأبدي. أما البار فتهب عليه نسمة حب الله ومراحمه، لتنقله إلى حضن الآب في السماء! الموت بالنسبة للشرير مدمر، وبالنسبة للبار مُبهج للغاية. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الريح الشرقية المُحرقة هي الروح الشرير بسهامه النارية، الذي يثير بها الشهوات في الشرير، ويدخل به إلى جهنم الأبدية. * "الريح المحرقة ستنقله بالقوة وتطرده" [21]. ما هو هذا الذي يدعوه هنا بالريح المحرقة سوى الروح الشرير الذي يثير لهيب الشهوات المختلفة في القلب، فيسبحه إلى عقوبة أبدية؟ يُقال إن الريح المحرقة تنقل بالقوة الأشرار، لأن المتآمر، الروح الشرير، الذي يلهب الإنسان الذي يعيش في الشر، يسحبه إلى العذابات عند الموت. يقصد ب "الريح المحرقة" عادة الروح النجس الذي بنسمة الاقتراحات الشريرة يلهب قلوب الأشرار بالشهوات الأرضية. *"ومثل زوبعة تحمله من مكانه" [21]. مكان الشرير هو التمتع بالحياة الزمنية ولذة الجسد. لذلك كل فرد بطريقة ما يُحمل من مكانه بواسطة زوبعة عندما يبتلعه الخوف من اليوم الأخير، فإنه ينفصل عن كل مسراته. البابا غريغوريوس (الكبير) يُلْقِي اللهُ عَلَيْهِ وَلاَ يُشْفِقُ. مِنْ يَدِهِ يَهْرُبُ هَرْبًا [22]. حين كان الشرير في العالم، يترفق الله به، حتى في تأديبه بحزمٍ شديد، فاتحًا له أبوابه لكي يرجع إليه بالتوبة، لكن في يوم الدينونة لن يقدر أن يهرب من العدل الإلهي. الآن وقت الرحمة وطول الأناة. يَصْفِقُونَ عَلَيْهِ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَصْفِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَانِهِ [23]. بعد أن تحدث أيوب عن ازدهار الشرير المؤقت، وصوَّر لنا مرارة نفسه وهو يواجه الموت، الآن يرى كيف أن الضعفاء وبعض الخطاة يرون في هذا درسًا عمليًا من ثمر الشر المرّ، فيُصفِّقون بأياديهم في دهشة، ويرجعون عن طريقهم الشرير، ويطلبون حياة مع الله. "يصفِّقون عليه بأياديهم"، أي يفرحون بالقصاص الذي ينهي الظلم، ويُحدر إبليس وجنوده إلى جهنم. "عند هلاك الأشرار هتاف" (أم 11: 10)؛ "في نفس المكان الذي ترفَّه فيه يضحك عليه الصدِّيقون" (مز 52: 6)، "يُداس رماده تحت بطون أقدام الأتقياء" (مل 4: 3). * عندما يموت الخاطي يكتم هؤلاء الذين يشهدون موته أفواههم وهم في هسهسة (كصوت الأفعى)، بهذا يتحولون إلى تلك الكلمات الروحية التي كانوا يستخفون بها، وبهذا يبتدئون أن يؤمنوا، ويتعلمون ما لم يؤمنوا به قبلًا، وذلك عندما ظنوا أن الشرير يحيا في ازدهارٍ. يقول سليمان: "عندما يعاقب الإنسان الخطير، يصير الضعيف حكيمًا" (أم 11:21) * كل ضربة من الله، إما لتطهير الحياة الحاضرة فينا، أو كبداية لعقوبةٍ مقبلةٍ... أما بالنسبة للأشخاص الذين تكون لهم الضربات لعنة وليس للتأديب، فيُقال عنهم: "لقد ضربتهم ولم يحزنوا. لقد أفنيتهم ولم يقبلوا الإصلاح" (إر 3:5). بالنسبة لهؤلاء تبدأ ضرباتهم في هذه الحياة، وتستمر في ضربات أبدية. يقول الرب بموسى: "فإن نارًا تشعل غضبي، وستحرق إلى أسافل جهنم" (تث 22:32). البابا غريغوريوس (الكبير) من يسندني في تجاربي سواك؟ * أنت القدير وحدك، صرت مُجربًا لكي تعينني. هب ليّ الحكمة، حينما تحل بيّ تجربة بالاتهامات الباطلة. وهب ليّ الصبر، حينما تحل بيّ ضيقة مُرة! أومن أنك حيّ، تهتم بكل أموري! تسمح ليّ بالمُرّ، وتحول مرارتي إلى عذوبة. * لتكن الضيقة لنموي الروحي. فلا يندفع لساني بكلمة غير لائقة، ولا تسقط أفكاري في الجحود. لا أداهن الأشرار على حساب نقاوة قلبي، بل أتصرف بضميرٍ صالحٍ في كل شيءٍ! فإن موتي أهون من مداهنتي للأشرار! * لتنزع عني كل شر، فإنه قاتل لنفسي. انزع عني كل رياء، فهو مخادع ليّ. * علمني كيف أدخل مخدعي، وأتحدث معك يا أيها الآب السماوي. ليس ليّ ما هو أعظم من أن أقتنيك! * أنت هو الهادي، تقودني إلى طريق الخلاص. أنت هو المدرب، تحملني وتدربني بنعمتك. أنت هو المعلم، تهبني ذاتك، يا أيها الحكمة الإلهي! * لماذا أخشى الشرير؟ وإن نجح فإلى حين، تنتظره العقوبة الأبدية. إن كثر بنوه فإنهم يعانون حتى من الجوع. ذريته يصيرون ثقلًا على المجتمع، وفي موتهم لا يكرمهم أحد، حتى أراملهم لا يحزن عليهم. وإن اغتنوا بالفضة والثياب. ماذا تنفعهم الفضة بدون كلمة الله الفضية النقية؟ وماذا تنفعهم الثياب ما لم يستتروا بدم المسيح؟ يبنون قصورًا لتخليد ذكراهم، فتكون كثوبٍ قديم لحقه العث. يجمعون غنى، وفي لحظات تُطلب نفوسهم منهم. تهب عليهم عاصفة الموت كما في وسط ظلمة الليل، تنفتح أعينهم ليروا البحيرة المتقدة نارًا أمامهم. يسحبهم عدو الخير ليقيموا معه أبديًا. |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() الحكمة: من يدركها؟ يبدأ أيوب في هذا الحديث الختامي بالإعلان عن الله الخالق بكونه وحده الكلي الحكمة، وأن خليقته تكشف عن سمو حكمته، وأن دور الإنسان في الحكمة هو أن يخاف الرب، ويحيد عن الشر. تختلف نغمة هذا الأصحاح تمامًا عن نغمة سائر الإصحاحات الأخرى، حيث نرى قدرًا كبيرًا من الفلسفة الطبيعية والفلسفة الأدبية. يُعتبر هذا الأصحاح أقدم وثيقة عن التاريخ الطبيعي في العالم. هنا نراه يبين الآتي: 1- كيف يسعى بنو البشر وراء الثروة العالمية، ويكدون ويتعبون في البحث عنها. فالإنسان يبحث عن الكنوز المخفية تحت الأرض في المناجم. يبحث عما لا تستطيع الطيور والوحوش البلوغ إليه. 2- فيما يختص بالحكمة يقول إن الحكمة بصفة عامة ثمنها عظيم، وقيمتها لا تُقدر، ومكانها خفي جدًا. توجد حكمة خاصة بالله لا يعلم مكانها أحد سواه، وتوجد حكمة معلنة لبني البشر. علينا ألا نبحث عن الأولى، بل نجتهد في طلب الثانية، لأن هذا من اختصاصنا. الحكمة موهبة ثمينة للغاية، من يحصل على الحكمة يصير أكثر غنى وسعادة ممن يحصل على الذهب والحجارة الكريمة. يستطيع الإنسان بواسطة الطاعة لله والتمتع بمخافة الرب الحصول على الحكمة اللازمة للتمييز بين الخير والشر، ورؤية ما هو حق وصحيح، والعبادة لله والاتكال عليه، فإن مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم (أي 28:28). هذه هي الحكمة التي جعلها الله من نصيب الإنسان. 1. الحكمة الإلهية تفوق الفكر البشري لأَنَّهُ يُوجَدُ لِلْفِضَّةِ مَعْدَنٌ، وَمَوْضِعٌ لِلذَّهَبِ حَيْثُ يُمَحِّصُونَهُ [1]. يجاهد البشر لمعرفة أسرار الطبيعة مثل اكتشاف المعادن الثمينة من ذهب وفضة، وقد أمكنهم ذلك. فمن أجل الغنى يجاهد الإنسان في هذه الأمور وما أشبهها، لكنه في غباوة لا يهتم بالتعرف على أسرار ملكوت السماوات. من أجل الغنى الزمني وحب الاستطلاع يبحث عما هو مدفون في الأرض ولا يبحث عن خلاص نفسه ومجده الأبدي. *"لأنه يوجد موضع، منه تأتي الفضة، وموضع للذهب حيث يمحصونه؛ الحديد يُستخرج من التراب، والنحاس يُسكب مثل الحجارة" [راجع 1-2 LXX]. يعني بهذا أنه وإن كان الله قد وضع نظامًا خاصًا بالأمور العامة، فبالأكثر يضع نظامًا بخصوص الحقائق البشرية... إنه يسبق فيرى الأمور ويهتم بنفسه بها، ولا يحدث شيء ما مصادفة. أو بالحري يقصد أن تجميع الحقائق (الطبيعية) أمور منظورة بوضوح، أما خطة الله نفسه فغير منظورة. فللفضة والنحاس موضعهما المعروف، أما موضع الحكمة فلا يعرفه أحد، بل الله وحده يعرفه. يقول (الله) للإنسان: "التقوى هي الحكمة"، وأن تصنع الصلاح هو الفهم. القديس يوحنا الذهبي الفم * كما أن الفضة غالبًا ما تُنقى، هكذا يُمتحن البار، فيصير عُملَة الرب، تتقبل الصورة الملكية. سليمان أيضًا يدعو "لسان الصديق ذهبًا ممحصًا بالنار" (راجع أم 20:10)، مظهرًا أن التعليم الذي يُمتحن وتثبت حكمته يُمتدح ويُقبل، حيث يُمحص على الأرض عندما تتقدس نفس الغنوصي (الإنسان الروحي صاحب المعرفة) بعدة طرقٍ، منسحبة من النيران الأرضية. أما الجسد الذي تسكنه (هذه النفس) فيتطهر وتصير له النقاوة اللائقة بهيكل مقدس. القديس إكليمنضس الإسكندري ويميز البابا بين الكرازة الصادقة التي تقدم الفضة والذهب النقيين من الأسفار المقدسة، مفسرين إياها حسب فكر الآباء، كما عاشتها الكنيسة الأولى، وبين الهراطقة. فإن الأخيرين لا يقدمون فضة وذهبًا مُنقّى بالنار، بل تعاليم من ذواتهم لأجل كرامتهم الخاصة ولمجدهم البشري. * "الفضة بدايتها في العروق (في الحجارة)، وللذهب موضع حيث يمحصونه" [1]. تشير الفضة إلى قوة الكلام، والذهب إلى بهاء الحياة أو بهاء الحكمة... وكأنه يقول بوضوح: من يهيئ نفسه لكلمات الكرازة الصادقة يلزمه أن يستخلص أصول عَرْضِه (للمواضيع) من الأسفار المقدسة، فيجلب كل شيءٍ ينطق به على أساسٍ إلهيٍ، وذلك لنفع الذين يكلمهم. غالبًا ما يسعى الهراطقة في مساندة ما يقدمونه من أمور خاطئة من عندهم، فيستخرجون أمورًا بالتأكيد لا سند لها من صفحات الأسفار المقدسة. لهذا ينصح الكارز العظيم تلميذه، قائلًا: "يا تيموثاوس، احفظ الوديعة، مُعرضًا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم" (1 تي 20:6). إذ يشتاق الهراطقة أن يتمجدوا كأنهم بارعون في الفكر، يقدمون أمورًا جديدة لم ترد في الكتب القديمة للآباء القدامى، إذا بهم يلقون بذور الجهل إلى البائسين الذين يستمعون إليهم، رغبة في الظهور أنهم حكماء. إنه كمن يقول بوضوح: "الحكمة الحقيقية للمؤمنين، لها موضع في الكنيسة الجامعة، وهي تعاني من متاعب تصدر عنكم ومن اضطهادكم لها، لكنها تتنقى من كل شوائب الخطايا بنار اضطهادكم. هكذا مكتوب: "يُختبر الذهب في النار، والناس المقبولون في أتون المحنة" (ابن سيراخ 5:2)... يعلمنا الرسول بولس إذ يقول: "إن سلمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا" (1 كو 3:13). فإن أفكار البعض عن الله خاطئة، وآخرون أفكارهم صادقة من جهة الخالق، لكنهم لا يحفظون الوحدة مع إخوتهم. الأولون يُقطعون بسبب خطأهم في الإيمان، والآخرون بسبب انشقاقهم. لهذا فإن أول جزء في الوصايا العشرة منع الخطية التي للفريقين، إذ جاء القول بالصوت الإلهي: "حب الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قوتك". وفي الحال أضاف "حب قريبك كنفسك" (تث 5:6؛ مر 30:12-31). فمن يعتقد بما هو خطأ بخصوص الله بالتأكيد لا يحب الله، ومن له مفاهيم صادقة نحو الله ويشق وحدة الكنيسة المقدسة واضح أنه لا يحب قريبه، إذ يرفض أن يأخذه رفيقًا له. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم * سيكون السلام هو ذهبك؛ السلام هو فضتك؛ السلام هو أرضك. السلام هو حياتك، إلهك هو السلام. يكون لك السلام في كل ما تشتهيه! القديس أغسطينوس الْحَدِيدُ يُسْتَخْرَجُ مِنَ التُّرَابِ، إن كان استخراج الفضة والذهب يتطلب جهدًا أعظم من استخراج الحديد والنحاس، إلا أن المعدنين الآخيرين أكثر نفعًا للإنسان، ولوفرتهما فإن ثمنهما أقل بكثير من الفضة والذهب. يمكن لإنسانٍ أن يعيش بدون الفضة والذهب، لكنه يصعب عليه جدًا، وحاليًا يستحيل عليه أن يعيش بدون الحديد والنحاس. إنها حكمة الله الفائقة جعلت ما هو ضروري للإنسان أكثر وفرة واستخراجه أكثر سهولة، بينما ما هو للترف أقل في الكمية وأصعب في استخراجه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن استخراج هذه المعادن جميعها من فضةٍ وذهبٍ وحديدٍ ونحاسٍ هو من التراب والحجارة، إشارة إلى رجال الله القديسين - مع اختلاف مستواهم الروحي ودورهم في العمل الكرازي والشهادة لله، لكن الكل مُستخرج من التراب والحجارة. كنا ترابًا وحجارة، مشغولين بالزمنيات، قساة القلوب. لكن نعمة الله أقامت منا أناسًا شهودًا لله، ننعم بالشركة في الطبيعة الإلهية من حبٍ وحنوٍ ووداعةٍ وتواضعٍ وطهارةٍ وقداسة إلخ. هذه كلها ليست من عندنا، لكنها عطايا الله المجانية للمؤمنين الجادين في طلب خلاص نفوسهم وخلاص إخوتهم في البشرية. * "الحديد يستخرج من الأرض" [2]. كأنه يقول في وضوحٍ: رجال القوة الذين بألسنتهم الأحد من السيوف، صاروا حديدًا في هذه المعركة العنيفة في الدفاع عن الإيمان، هؤلاء الذين كانوا وقتًا ما "أرضًا"، في مجال الأعمال الدنيا. فعندما يخطئ الإنسان، يقال له: "أنت تراب وإلى تراب تعود". وأما "الحديد فيُستخرج من الأرض"، عندما ينفصل محارب الكنيسة الصارم من السلوك الأرضي... ألم يُستخرج حتى من الأرض، إذ كان مشغولًا بالأمور الأرضية، ذاك الذي كان يخدم في جمع الجزية (مثل زكا العشار)؟ لكنه إذ استخرج من الأرض، تقوى بقوة الحديد، ألزمه الرب بالإنجيل، ممزقًا بلسانه قلوب غير المؤمنين كما بسيفٍ حادٍ. هذا الذي كان قبلًا ضعيفًا ومرتبكًا بالأعمال الأرضية صار فيما بعد قويًا بالكرازة السماوية. "والحجر يُسكب بالحرارة، فيصير نحاسًا" ينحل الحجر بالحرارة، عندما يكون القلب قاسيًا وباردًا يتلامس بنار الحب الإلهي، وينسكب في نار الروح المتوهجة. عندئذ تصير له الحياة الملتهبة بحرارة في العمل. بقدر ما كان قاسيًا من قبل في محبته للعالم، يصير قويًا في حبه لله. البابا غريغوريوس (الكبير) * إنهم يشبهون الحديد المستخرج من الصوان يشع نارًا من الذهب الخصب المتأهل للنور، فإن شرارة صغيرة يمكنها أن تشكل شعلة الحق في داخلها بسرعة . القديس غريغوريوس النزينزي * لقد دّون هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة: "لأن هذا الفاسد لا بُد أن يلبس عدم فساد" (1 كو 15: 53). إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد ويشكل جديدًا. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا: هذا الجسد سيقوم لكنه لن يمكث كما هو الآن. إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه، إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير: "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 13: 43)، "وكالقمر وكضياء الجلد" (دا 12: 3). القديس كيرلس الأورشليمي قَدْ جَعَلَ لِلظُّلْمَةِ نِهَايَةً، وَإِلَى كُلِّ طَرَفٍ هُوَ يَفْحَصُ. حَجَرَ الظُّلْمَةِ وَظِلَّ الْمَوْتِ [3]. إذ يتحدث أيوب عن استخراج المعادن من بطن الأرض، أي من المناجم المظلمة، فإن الإنسان من أجل حصوله عليها يدخل إلى المناجم ليفحص ما فيها مستخدمًا المشاعل ليضع للظلمة حدًا فلا تعوقه عن تحديد هدفه. إنه يغامر بحياته، ويدخل إلى الوعر من أجل استخراج المعادن. من ليس له دراية بفن استخراج المعادن يسخر بالباحثين عنها. يتطلع إليهم كمن يعرضون أنفسهم للمخاطر والموت دون هدفٍ. هكذا يستخرج الله من ترابنا وحجارتنا معادن نفيسة في عينيه. لكن كثيرين يجهلون خطة الله فيحسبونه كمن يدخل إلى ظلمةٍ ويفحص أمورًا لا قيمة لها. بمعنى آخر يليق بنا أن نثق في خطة الله وعنايته وعمله من أجلنا. إنه يقدم لنا الخلاص، مهما تكن تكلفته، إذ يرى بسابق معرفته ما سنتمتع به من أمجاد. يرانا ذهبًا وفضة ونحاسًا وحديدًا مستخرجًا من الأرض والحجارة! يستخرج منا نحن الذين كنا ظلمة نورًا. وكما يقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، والآن فنور في الرب" (أف 5: 8). * يقول "جعل للظلمة موضعًا" [3] كمن يقول إن للعقل أيضًا موضع، فإن الظلمة تعرف أن تتراجع خطواتها، وتطمس ذاتها (قبل بزوغ النهار)... إنه يحثنا ألا نطلب محاسبة (الله). يقول: "لماذا توجد الظلمة؟ ألا تعرف الله أنه الكلي القدرة، يفعل كل شيءٍ بحكمةٍ؟" القديس يوحنا الذهبي الفم إذ يفعل الله ما هو صالح، ويقوم بالتدبير، ولا يفعل ما هو شر، يضبط الأمور التي يفعلها الأشرار حتى لا تسير الأمور إلى ما هو رديء، بل يفحص نهاية كل الأمور ونهاية كل أحدٍ، ويحتمل كل الأشياء في طول أناةٍ، ويرى نهاية المختارين، إذ يتحول الشر بالنسبة لهم إلى الخير... لقد رأى الله نهاية ما يصل إليه شاول حتى وهو يضطهد (الكنيسة)، يراه يسقط على الأرض يقول: "يا رب ماذا تريد أن أفعل؟" (أع 6:9)... رأى أهل نينوى يعصون، لكنه تطلع إلى نهاية عصيانهم في ممارستهم الإصلاح (التوبة). أيضًا رأى نهاية سدوم العاصية، وتطلع إلى نهاية احتراق الشهوة في نار جهنم. رأى نهاية عالم الأمم، حيث انشغل في ظلمة الشرور، كيف أنه يومًا ما يتلألأ بنور الإيمان. البابا غريغوريوس (الكبير) * من أرض واحدة تخرج الزحافات والوحوش المفترسة والقطيع وعليها تثبت الأشجار، وتوجد الأطعمة والذهب والفضة والنحاس والحديد والحجر! القديس كيرلس الأورشليمي حَفَرَ مَنْجَمًا بَعِيدًا عَنِ السُّكَّانِ. بِلاَ مَوْطِئٍ لِلْقَدَمِ. مُتَدَلِّينَ بَعِيدِينَ مِنَ النَّاسِ يَتَدَلْدَلُونَ [4]. جاء النص في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير)"حجر الظلمة أيضًا وظل الوادي (الجارف) ينقسم من الشعب في رحلة". إذ يحفر البعض في أرض صخرية غير آهلة بالسكان، يسمع عنهم البعض أو ينظرونهم وهم يفعلون هكذا، فيسخرون منهم. يحسبون أنهم يريدون استخراج ماء من باطن الأرض، لكن لماذا يختارون مناطق حجرية بعيدة عن السكان؟ إنهم كمن يدلدلون أرجلهم في حفرة لا نفع منها. هكذا يسخر البعض من خطة الله وعمله الخلاصي، وذلك كما سخر اليهود بالرسل والتلاميذ الذين خرجوا يكرزون بين الأمم الوثنية، كمن يحفرون مناجم في أرضٍ صخرية بلا ماء، بلا هدف ولا رجاء! * "حجر الظلمة أيضًا وظل الوادي (الجارف) ينقسم من الشعب في رحلة" [3-4]. ماذا كان ذلك الشعب اليهودي، القساة في عدم إيمان، الذين رفضوا قبول الإيمان الذي سبق فأعلن لهم عنه واهب الحياة خلال النبوات، إلا أنهم حجر الظلمة؟ يتحقق هذا بقسوة عنفهم والتحافهم بعدم الإيمان.... ربما يشير بالسيل الجارف إلى الارتواء بالكرازة المقدسة، كما قيل بسليمان: "العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة عذاب أمها، تقورها غربان الوادي (الجارف)" (أم 17:30). فإن الأشرار إذ يجدون خطأ في أحكام الله، يستهزئون بأبيهم، والهراطقة من كل نوع الذين يزدرون بكرازة الكنيسة المقدسة، ويسخرون بثمرها، ليسوا إلا محتقرين لعذاب أمهم؟ ليس بغير لياقةٍ ندعوها أمهم أيضًا، إذ خرج منها هؤلاء الذين يتكلمون ضدها، كما يشهد يوحنا، قائلًا: "منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا" (1 يو 19:2). ولكن "غربان الوادي تأتي" عندما يخرج الكارزون الحقيقيون يدافعون عن الكنيسة المقدسة من مجاري الأسفار المقدسة. البابا غريغوريوس (الكبير) أَرْضٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الْخُبْزُ، أَسْفَلُهَا يَنْقَلِبُ كَمَا بِالنَّارِ [5]. يرى البعض أن الأرض التي تُخرج حنطة لنقتات بها، هي أيضًا تخرج وقودًا (بترول) لتقتات بها النار. بالحكمة التي وهبت لنا من الخالق نجد ما يشبعنا من ذات الأرض التي نخرج منها ما نستخدمه كوقودٍ. ويرى آخرون أن أيوب يشير إلى سدوم وعمورة، الأرض التي تتسم بأنها خصبة للغاية، فتنتج حنطة بفيض يقتات بها الكثيرون، تحولت بسبب شرور سكانها إلى أتون نار، حيث أنزل الله عليها نارًا وكبريتًا. كما يرى آخرون أنه إذ يتحدث عن اهتمام الإنسان باستخراج المعادن النفيسة من مناجم تحت الأرض، حولوا الأرض التي تفيض عليهم بالغذاء إلى مناجم، يهلك فيها كثيرون بسبب المخاطر التي يتعرضون لها، فتحولت إلى أشبه بأتون نار تحت الأرض. * يرى البابا غريغوريوس (الكبير) هنا نبوة عن اليهودية التي كان يليق بها عند مجيء السيد أن تشهد له وتكرز، فتقدم للعالم المسيح خبز الحياة، لكن بحسب حسد القيادات اليهودية تحولت إلى نارٍ خفية مهلكة للنفوس."الأرض يخرج منها الخبز، تنقلب في موضعها بالنار" [5]. كان ما يشغل اليهودية أن تعطي خبزًا، إذ اعتادت أن تعد كلمات الناموس أمام الناس. لم يعد أبناء الهلاك قادرون على تفسير هذا الناموس عينه، كما ينتحب إرميا النبي في مراثيه، قائلًا: "الأطفال يسألون خبزًا، وليس من يكسره لهم" (مرا 4:4). لكن هذه "الأرض تنقلب في موضعها بالنار"، إذ تهلك نفسها بجمرة الحسد، عندما ترى معجزات المؤمنين... ألم تكن ملتهبة بلهيب جمر حسدها عندما رأت معجزات مخلصنا، فقال بعض رجالها: "ماذا نصنع، فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة" (يو 47:11)؟ أو "انظروا، إنكم لا تنفعون شيئًا. هوذا العالم قد ذهب وراءه" (يو 19:12) البابا غريغوريوس (الكبير) حِجَارَتُهَا هِيَ مَوْضِعُ الْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ، وَفِيهَا تُرَابُ الذَّهَبِ [6]. كان يليق برجال اليهودية أو قياداتها الدينية أن يقدموا المسيح خبز الحياة، فيصيرون حجارة حيَّة في هيكل الرب، من ياقوتٍ أزرق، أي يحملون السمة السماوية، فيتحول، التراب إلى ذهب، حيث يتحول الترابيون إلى سمائيين إن صح التعبير. يرى البعض أن الله بحكمته الفائقة جعل الكثير من الأمور الثمينة كالفضة والذهب والبترول مخفية تحت الأرض، أو في الحجارة، حتى لا يركز الإنسان عينيه على هذه الأمور، بل يرفع عينيه إلى السماء. إنه يطأها بقدميه مستخفًا بها، ليكون كل قلبه ملتصقًا بالله. يُعتبر الياقوت في قيمته يلي الماس، وهو من أثمن الحجارة الكريمة، منه الأحمر والأزرق والأصفر، لكن غالبًا ما يكون أزرق اللون. * "حجارتها هي موضع الياقوت الأزرق، وفيها تراب الذهب" [6]. أضيف إلى إعلان المجد السابق ذكره إثم الخطية الذي يتبعها. فإن سقوط كل فردٍ هو عمل إجرامي رديء، إذ كان في مقدوره قبل السقوط أن يبلغ إلى سمو أعظم... تشير الحجارة إلى أذهان الأقوياء، عندما قال بطرس للقديسين: "كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا" (1 بط 5:2). ويعد الرب الكنيسة بذلك حين تأتي، قائلًا بالنبي: "هأنذا أبني بالاثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شرفكِ ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة، وكل بنيكِ متعلمين من الرب" (إش 11:54-13). إذ يضع فيها حجارة بنظام، حيث يميز النفوس المقدسة فيها حسب اختلاف استحقاقاتها. "يضع أساساتها بياقوت ازرق"، حيث تحمل هذه الحجارة في ذاتها شبه لون السماء، فتتأسس قوة الكنيسة في النفوس التي تطلب السماويات... ولأنها تشرق بالإيمان في بهاء الحياة الفائقة والحكمة، أُضيف: "تراب ذهبها"... لكن هذا الذهب قد انطمس بعد ذلك بظلمة عدم الإيمان. رثى النبي إرميا سواده، قائلًا: "كيف اكدر الذهب؟ تغير الإبريز الجيد؟" (مرا 1:4) فقد صار الذهب مكدرًا، فاعتم البهاء القديم للإيمان، والبراءة عينها بليل الشر، حيث حلٌ عدم الإيمان بهم. البابا غريغوريوس (الكبير) 2. سرّ المسيح الفائق سَبِيلٌ لَمْ يَعْرِفْهُ كَاسِرٌ، وَلَمْ تُبْصِرْهُ عَيْنُ بَاشِقٍ [7]. إن كان في قدرة الإنسان أن يستغل الأرض، فتنتج قمحًا ومزروعات لطعامه، وأن يستخرج من بطنها ومن صخورها الفضة والذهب والبترول والحجارة الكريمة، إلا أنه توجد حكمة أخرى لا تُعطى إلا لمن يطلبها، ألا وهي إمكانية التعرف على الأسرار الإلهية، خاصة سرّ التجسد الإلهي وسرّ الخلاص. فمهما تمتع الإنسان ببصيرة حادة كبصيرة كالنسور وغيرها من الطيور الحادة البصر، لن يستطيع أن يرى الأمور الإلهية بذاته. اختار الطيور الجارحة، لأنها تطير إلى مسافات بعيدة جدًا بحثًا عن الطعام، ويمكنها رؤية الفريسة وهي على ارتفاع شاهق، تنقض عليها ثم ترجع إلى عشها دون أن تضل الطريق، أو تخطئ في التعرف عليه حتى وإن كان شبيهًا بعشها. جاء في الترجوم الكلداني تفسيرًا لهذه العبارة، بأن الشيطان وهو يطير كطائر لم يرَ شجرة الحياة ولا تعرَّف عليها، وأيضًا عينا حواء لم تتطلع إليها، ولا سار بنو البشر نحوها، ولا اتجهت الحية نحوها . يرى البعضأن المهتم باستخراج المعادن له عينان تفوقان عيني النسر، يتطلع بهما إلى مسافات بعيدة تحت الأرض، فيعرف أماكن المعادن الثمينة، فينقب ويستخرجها. من أجل الغنى واقتناء الثروات لا يصعب على الإنسان أن يخترق طبقات الأرض خلال صناعة التعدين لينال فيضًا من المعادن النفيسة. ومن أجل الرغبة في الطعام لا يصعب على الأسود الكاسرة أن تتعرف على الطرق وسط الغابات والبراري لتقتنص فريسة لها ولصغارها؛ ولا تختفي عن بصيرة الطيور الجارحة الفريسة على أبعاد شاهقة، لكن تبقى أسرار الحكمة الإلهية خفية عن الإنسان دون نعمة الله الفائقة. الحكمة البشرية هبة طبيعية يقدمها الله للإنسان بدرجات تليق بكل أحد، كموهبة يتميز بها شخص عن آخر، أما الحكمة الإلهية فهي عطية تُقدم لمن يطلبها بإخلاص ويشتهيها. * حكمة هذا العالم غير حكمة الله. حكمة الله حقيقية، لا يصيبها ما يفسدها. حكمة العالم غبية، بالرغم من أن بساطة حكمة الله تجعل من ينالها كأنه غبي في عيني العالم. ينال المؤمنون هذه الحكمة الإلهية، وبهذا يُحسبون أغبياء لدى العالم . العلامة أوريجينوس القديسإكليمنضس السكندري وَلَمْ تَدُسْهُ أَجْرَاءُ السَّبْعِ، وَلَمْ يَسْلُكْهُ الأَسَدُ [8]. الأسد الفتى أو جرو الأسد يسير وسط الغابات والبراري كملكٍ للوحوش. وكأنه يعرف كل الطرق المخفية، ليس من حيوان يقدر أن يختفي عنه. متى جاع يعرف كيف يبلغ إلى فريسته، وكأنه مُلم بكل أسرار المنطقة. هكذا من يعمل في التعدين يخترق طرقًا يصنعها تحت الأرض، لم يدسها جرو أسد، ولا سلك فيها أسد ما. ومن يود أن يقتني حكمة الله "سرّ المسيح الفائق" يسلك بالروح القدس طريقًا فريدًا لا يقدر كائن ما أن يبلغه بذاته، ولو كان ملكًا عظيمًا صاحب سلطان وله قوة وقدرة فائقتين! مسيحنا هو الطريق، إذ نسلك فيه نصير كأسود روحية، ملوك وكهنة لله أبيه (رو 1: 6). * يُعدد بولس نوعين أو ثلاثة أنواع من الحكمة (1 كو 1: 20-25). أولًا توجد حكمة تلك التي يدعوها العالم جهالة، وهي حكمة أعظم من الحكمتين الأخريين. أيضًا توجد الحكمة الممنوحة للبشر، التي بها نتعقل ونعمل، وبها نتقدم ونبتكر، وبها نعرف الله. أخيرًا يُوجد نوع ثالث من الحكمة حيث التأمل في الخليقة. الحكمة التي يحسبها العالم جهالة تُوهب لنا بواسطة المخلص، حتى أن الشعب الذي يعرف الله بالحكمة الطبيعية والذي ينقاد إليه بالتأمل في نظام الخليقة يمكنه أن ينال الخلاص الأمر الذي لا يمكن نواله بالنوعين السابقين من الحكمة، إذ لا يستطيعان إنقاذهم من الخطأ. الأب ثيؤدورت أسقف كورش القديس إكليمنضس السكندري إِلَى الصَّوَّانِ يَمُدُّ يَدَهُ. يَقْلِبُ الْجِبَالَ مِنْ أُصُولِهَا [9]. إذ يتحدث أيوب عن سرّ المسيح الفائق، بكونه حكمة الله، رأى عجبًا. رأى السيد المسيح بحبه وقدرته وحكمته يمد يده على الصليب ليحتضن الأمم التي صارت كالصّوّان الصلد، فيقيم من الحجارة أبناء لإبراهيم، أو أبناء للإيمان. لا تقف أمامه أصول الجبال الشامخة، أي أصحاب السلاطين الزمنية. ببساطة الصليب، حكمة الله، التي يحسبها العالم الوثني جهالة، ويحسبها اليهود عثرة، اقتنص الرب الفلاسفة وأصحاب السلطان. وكما يقول الرسول بولس: "اختار الله جُهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمُزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كو 27-28). * لم يستطع الفلاسفة أن يحققوا ما حققه أناس قليلون أميون، ألا وهو هداية العالم كله. تحدث الفلاسفة عن تفاهات ولم يقنعوا سوى قلة قليلة. وتحدث الرسل عن الله والبرّ والدينونة وهدوا أعدادًا كبيرة . * بتعبيرات بشرية يستحيل على صيادي سمك أن يقنصوا فلاسفة، لكن هذا هو ما حدث بقوة نعمة الله. القديس يوحنا الذهبي الفم ولكن بماذا نفهم هنا الجبال سوى أصحاب السلطة في هذا العالم، الذين ينتفخون في عظمة من أجل كيانهم الأرضي؟ يقول عنهم المرتل: "ألمس الجبال، فتدخن" (مز 5:144). أصول (جذور) الجبال هي أفكارهم العميقة بالكبرياء. تسقط الجبال من جذورها، لأن عبادة الله تنزل بسلاطين العالم إلى الأرض، تحطم أفكارهم الدنيئة. البابا غريغوريوس (الكبير) تقول كل من هذه الفقرات إن الماء الحي هو الطبيعة المقدسة، لذلك جاز للنشيد أن يسمي العروس بصدق بئر ماء حي يفيض من لبنان. هذا في الحقيقة يتعارض مع ما هو معروف، فالآبار عادة تحتوي مياه ساكنة، وأما العروس فعندها مياه جارية في بئر عميق، ومياهها تفيض باستمرار. من يقدر ويستحق أن يفهم العجائب الممنوحة للعروس؟ يتضح أنها قد وصلت إلى أقصى ما تتمناه، فقد قورنت بالجمال الأبدي الذي منه نشأ كل جمال. وفي نبعها تشبه نبع عريسها تمامًا، وحياتها بحياته، وماؤها بمائه. إن كلمته حية، وبها تحيا كل نفس تستقبله. هذه المياه تفيض من الله كما يقول ينبوع المياه الحيّة: "لأني خرجت من قبل الله وأتيت" (يو 42:8). تحفظ العروس فيض مائه الحي في بئر نفسها، وتصبح بيتًا يكنز هذه المياه الحيّة التي تفيض من لبنان، أي التي تكوّن سيولًا من لبنان، كما يقول النص. لقد أصبحنا في شركة مع الله بامتلاكنا هذه البئر، حتى نحقق وصية الحكمة (أمثال 17:5، 18)، ونشرب مياها من بئرنا، وليست من بئرٍ آخر. نتمتع بهذا في المسيح ربنا له المجد والعظمة إلى الأبد آمين. القديس غريغوريوس النيسي يَنْقُرُ فِي الصُّخُورِ سَرَبًا، وَعَيْنُهُ تَرَى كُلَّ ثَمِينٍ [10]. يقف أيوب متعجبًا من قدرة المخلص ومحبته، فهو الذي يهب للإنسان الذي صار كالصخرة أن تتفجر في داخله ينابيع مياه حية، وفي نفس الوقت يتطلع إلى الإنسان لا في استخفاف ولا لإدانته على قلبه الحجري، وإنما كأيقونة حيَّة له، ثمينة جدًا في عينيه. إنه يُزيل عن الإنسان قسوة قلبه الحجري، ويقيم منه قلبًا مملوء حبًا. يرى البعض أنه في صناعة التعدين يشقون مجاري مياه في الصخور، فتنكشف لهم عروق المعادن التي يقومون باستخراجها. * "ينقر مجاري (مياهًا) في الصخور". يشق في قلوب الأمم القاسية أنهار الكرازة. بنفس الطريقة يتحدث النبي عن ارتواء براري الأمم: "يجعل القفر غدير مياه، وأرضًا يابسة ينابيع مياه" (مز 35:107). كذلك يعد الرب في الإنجيل: "من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 38:7). ما سمعناه كوعدٍ قد تحقق الآن. ألا ترون كيف أن الكارزين القديسين قد فاضوا كينبوعٍ من اليهودية من خلال الكنيسة الجامعة المنتشرة في العالم كله كمجاري للوصايا السماوية، تفيض بغزارة من أفواه الأمم. هذا لأنه قد نقر مجاري في الصخور؛ أفاض من القلوب القاسية نهر الكرازة المقدسة. "وعينه ترى كل ثمين" [10]. إنه لأمرٍ يلزم على وجه الخصوص أن يُوضع في الذهن، أن كل نفس منفردة تُحسب بالأكثر ثمينة في نظر الله، قدر ما تحتقر نفسها من أجل حبها للحق. "أليس إذ كنت صغيرًا في عينيك، صرت رأس أسباط إسرائيل؟" (1 صم 17:15)... وعلى العكس من يحسب في نفسه أنه ثمين للغاية يتصاغر جدًا عند الله... "إنه يرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز 6:138). لذلك "ترى عينه كل ثمين". في الكتاب المقدس يُستخدم تعبير "الله يرى" عوض "الله يختار"، كما جاء في الإنجيل: "لأنه يختار المتواضعين." اختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء" (ا كو 27:1). لقد "رأى ما هو ثمين" عندما افتقد النفس البشرية وهي تستخف بذاتها، متمتعة باستنارة نعمته. يُقال عن هذه النفس بالنبي: "إن أخرجت الثمين من المرذول، فمثل فمي تكون" (إر 19:15) . فإن العالم الحاضر مرذول من الله، أما نفس الإنسان فثمينة عنده. من يعزل الثمين من المرذول يُدعى "مثل فم الله"، لأن الله يقدم كلماته لهذا الإنسان. البابا غريغوريوس (الكبير) * الروح القدس هو النهر الذي يفيض - حسب العبرانيين - من المسيح إلى الأراضي. وقد قبلنا هذا كما تنبأ فم إشعياء (إش 12:66). هذا النهر العظيم الذي يفيض على الدوام ولن يتوقف، ليس فقط نهرًا بل هو أيضًا أحد المجاري الغزيرة التي تفيض عظمة، كما قال داود: "مجرى النهر يفرح مدينة الله" (مز 4:46). فإنه لا ترتوي تلك المدينة، أورشليم السماوية بقناة، أي بنهرٍ أرضيٍ، بل بذاك الروح القدس المنبثق من مصدر الحياة. المجرى الذي يصدر عن ذاك الذي يشبعنا، يبدو أنه يفيض بوفرة بين العروش السماوية والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، جاريُا في أكمل نصيب لفضائل الروح السبع. القديس أمبروسيوس فماذا إذن يعني: "من آمن بي كما يقول الكتاب"؟ هنا يلزمنا أن نتوقف فقد يكون القول: "تجري من بطنه أنهارًا" تأكيد أنه عن المسيح. فكثيرون قالوا: "هذا هو المسيح"، و"عندما يأتي المسيح، هل يصنع معجزات أكثر"؟ إنه يظهر الحاجة إلى معرفة صحيحة، وأن يقتنعوا لا من المعجزات بل من الكتاب... لقد سبق فقال: "فتشوا الكتب" (يو 5: 39) وأيضًا: "مكتوب في الأنبياء"، و"يكون الكل متعلمين من الله" (يو 6: 45)، "موسى يشكوكم" (يو 5: 45)، وهنا يقول:" كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار"، ملمحًا نحو عظمة النعمة وفيضها... وقد دعاها في موضع آخر "حياة أبدية" أما هنا فيدعوها "أنهار ماء"... فإن نعمة الروح إذ تدخل الذهن وتقيم، تفيض أكثر من أي ينبوع. إنها لن تتوقف ولن تفرغ... فلكي يعني إنها تقدم عونًا لا ينضب، وفي نفس الوقت طاقة لا تخيب، دعاها "بئرًا" وأنهارًا، ليست نهرًا واحدًا، بل هي أنهار لا تُحصى. يمكن للشخص أن يدرك بوضوح ما تعنيه إن وضع في اعتباره حكمة اسطفانوس ولسان بطرس وغيرة بولس. القديس يوحنا الذهبي الفم ولمن أُعطى السلطان على كل الطبيعة ومخلوقاتها ليختصها لذاته؟ إنه لشرف أصيل يكلل جبينه، ويسمو به إلى السماء، فوق الكواكب، أرفع من الشمس تشامخًا وعزة... ومع أنه أوضع منزلة من الملائكة لارتباطه بجسدٍ ماديٍ فقد وُهب قوة لفهم ومعرفة ربه وخالقه. القديس باسيليوس الكبير يَمْنَعُ رَشْحَ الأَنْهَارِ، وَأَبْرَزَ الْخَفِيَّاتِ إِلَى النُّورِ [11]. تعبير شعري عن رعاية الله للإنسان، فإذ يشق الإنسان مجاري مياه وسط الصخور لممارسة التعدين، يحفظ الله حياة الإنسان فلا يسمح لهذه المجاري أن تنشع، فيسقط جدار المنجم أو سقفه، كما يسند الإنسان في معرفته للمعادن المخفية في المناجم تحت الأرض. يقدم البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لهذه العبارة، إذ يرى في هذه الأنهار فيض من تعاليم الآباء الأولين. * "يفحص أعماق الطوفان، ويبرز الخفيات إلى النور" [11]. ما هي تلك التي تدعى طوفانًا إلا أقوال الآباء القدامى؟ من يستطيع أن يقَدر الفيض الشديد الصادر عن صدر موسى نفسه عندما كان يقدم الناموس؟ أي فيض عظيم صدر عن قلب داود؟ أية مجاري مياه فاضت من شفتي سليمان وشفاه كل الأنبياء؟ البابا غريغوريوس (الكبير) أَمَّا الْحِكْمَةُ فَمِنْ أَيْنَ تُوجَدُ؟ وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ الْفَهْمِ؟ [12] إن كانت كنوز المعادن الثمينة مخفية تحت الأرض، فكم بالأكثر حكمة الله. من يستطيع بنفسه أن يدرك أين هي، ومن أين يقتني الفهم الحقيقي. الحكمة هي الكنز المخفي داخل الإنجيل، لا يقدر إنسان أن يتمتع بها ما لم يشرق روح الله بنوره عليه، فيكشف له أسرار الكلمة. * الحكمة الحقيقية هي الإنجيل، وسيلة الخلاص خلال صليب المسيح. القديس يوحنا الذهبي الفم لاَ يَعْرِفُ الإِنْسَانُ قِيمَتَهَا، وَلاَ تُوجَدُ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ [13]. الحكمة هي الاقنوم الثاني "حكمة الله"، الذي لا يمكننا ونحن بعد في الجسد أن ندرك أعماق سرّ الحكمة، ونتعرف على شخص الحكمة، إذ هو في حضن الآب، تجسد ليلتقي بنا ونحن نلتقي به في عالمنا. * لا يعني بولس هنا (1 كو 2: 7) أنه يُخبر بأمورٍ سرية وألغاز، وإنما الرسالة التي يكرز بها كانت قبلًا مخفية . الأب ثيؤدورت أسقف كورش القديس أمبروسيوس الأب أمبروسيا ستر البابا غريغوريوس (الكبير) الْغَمْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ فِيَّ، وَالْبَحْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي [14]. كأن الطبيعة بكل ما فيها من إبداع وجمال وإمكانيات تحاور الإنسان، وتوجه نظره إلى الخالق كمصدر الحكمة الحقيقية، فلا يطلبها الإنسان من الطبيعة ولا من الكتب ولا من الأحداث، وإنما من الله نفسه. يرى القديس أغسطينوس أن الله جعل الحكمة مخفية، ليس لأنه يُريد أن يحرمنا منها، بل لكي يشوقنا إليها فنطلبها بجدية. *"الغمر يقول ليست هي فيٌ، والبحر يقول ليست هي عندي" [14]. كثيرًا ما يشخصن الكتاب المقدس أمورًا كثيرة جامدة كمثال: "البحر يقول: ليست هي عندي" وهكذا. "العمق يقول: ليست هي فيٌ"، "السماوات تعلن مجد الله" (مز 1:19). وأيضًا يصدر الأمر إلى السيف (زك 7:13)، وتُسأل الجبال والتلال عن وثبها بمرحٍ (مز 6:114). إننا لا نتذرع بأي واحدٍ منهم، وإن كان بعض سلفائنا استخدموها كبرهانٍ قويٍ. لنحسب أن هذا التعبير قد اُستخدم عن مخلصنا نفسه، الحكمة الحقيقية. الأب غريغوريوس النزينزي مرة أخرى عندما قال بأن ثمنها غير معروف بواسطة إنسان [15]، ثم أكمل: "لا يُعطي ذهب خالص بدلها" لم يظهر ما هو ثمنها، بل ما هو ليس بثمنها. فمن الواضح للكل أن هذه الحكمة لا يمكن لإنسانٍ أن يجدها في موضعٍ ما، ولا أن يشتريها بالغنى. لكن الإنسان القديس إذ هو مملوء بأفكار سرائرية ينطلق بنا لاكتشاف أمورٍ أخرى، فلا يطلب حكمة مخلوقة، بل الحكمة الخالق. فإننا ما لم نبحث الأعماق المخفية للرمزية في هذه الكلمات، بالتأكيد ما يُنطق به يكون غير ذي قيمة، إن كانت تُفسر من الجانب التاريخي وحده... هكذا إذن ما هي الحكمة التي يتأملها الإنسان القديس سوى ما يقوله بولس الرسول: "المسيح قوة الله، وحكمة الله" (1 كو 24:1)؟ كتب عنها سليمان: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1). ويقول عنها المرتل: "في الحكمة خلقت كل شيء" )مز 24:104). عن هذه الحكمة عينها "لا يعرف الإنسان الثمن"، إذ لا يجد شيئًا يمكن به أن يقدرها... ليس من وسيلة للحصول عليها... ماذا نعطي لكي نتأهل لنوال هذه الحكمة، التي هي المسيح؟ فإننا بالنعمة نحن مخلصون... فالإنسان يستحق شيئًا واحدًا في طريق العدالة (وهو الموت)، وينال شيئًا آخر بخصوص النعمة... يقول بولس: "ونحن بعد خطاة مات المسيح في الوقت المعين لأجل الفجار" (رو 8:5، 6). إذن نحن الذين وُجدنا فجارًا، عندما جاء الحكمة، أي شيء صالح قدمناه لكي ننال به هذه الحكمة؟ "لا يعرف إنسان ثمن هذه الحكمة"... "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله، ليس من أعمالٍ، كيلا يفتخر أحد" (أف 8:2-9). ويتكلم عن نفسه قائلًا: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا" (1 كو 10:15). * إلى ماذا يشير "البحر" إلا إلى الأذهان الدنيوية التي تعاني من الاضطراب المر، فتدخل في عداوة مع الغير في غباوة، وتنطلق بالعداوة من نحو شخصٍ إلى آخر بالتناوب، وتحطم الأذهان بعضها البعض، مثل أمواج تصطدم بعضها ببعضٍ. بحق تدعى حياة الأشخاص الدنيويين بحرًا، لأنها في حالة هياج بواسطة العواصف المثيرة، فتُحرم من الهدوء وثبات الحكمة الداخلية. على نقيض هذا حسنًا قيل بالنبي: "على من يستقر روحي، إلا على المتواضع والهادئ والمرتعب من كلامي" (راجع إش 2:66)... يدعونا الرب ونحن في جراحات الاضطراب هذا، قائلًا: "تعالوا إلىٌ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (مت 28:11-29). أي شيء منهك أكثر من أن يكون الإنسان محمومًا بالشهوات الأرضية؟ أو أي شيء أكثر راحة هنا من ألا يشتهي الإنسان شيئًا من هذا العالم؟ لهذا السبب تسلم الإسرائيليون حفظ السبت كهبة... فإن الشعب الذي يتبع الله يتقبل السبت - أي راحة الروح - بعدم الارتباك بهذه الحياة، وذلك بعدم الانهماك في الملذات الجسدية... لكن كيف يمكننا أن نعرف أن أغلب الآباء القدامى تمسكوا بهذه الحكمة في حياتهم الداخلية، بينما من الخارج كانوا يديرون شئون العالم؟ هل نحسب يوسف محرومًا من نوال هذه الحكمة الذي في وقت المجاعة أُلقى على عاتقه شئون كل مصر، ليس فقط لتدبير احتياجات المصريين فقط، وإنما بمهارته الفائقة اهتم بحفظ حياة الشعب الغريب أيضًا القادم إليه؟ هل كان دانيال غريبًا عن هذه الحكمة، هذا الذي لما أُقيم رئيسًا على الحكام بواسطة ملك الكلدانيين في بابل كان مشغولًا بمسؤوليات عظيمة...؟ إذن من الواضح غالبًا حتى الصالحون ينشغلون بالتزامات أرضية دون ارتباك... هؤلاء الذين لهم هذا الهدوء، مهما كانت متاعب أعمالهم الخارجية لن تدخل هذه المتاعب إلى أعماقهم الداخلية... فإن قلوبهم مملوءة بهذه الحكمة، فلا ترتبك ولا تضطرب... الأذهان المضطربة بالأمور العالمية تصرخ لمجرد عدم هدوئها وعزلها عن الحكمة الحقيقية. البابا غريغوريوس (الكبير) لاَ يُعْطَى ذَهَبٌ خَالِصٌ بَدَلَهَا، وَلاَ تُوزَنُ فِضَّةٌ ثَمَنًا لَهَا [15]. لما كانت حكمة الله هو أقنوم الكلمة، لذا فإن من يقتنيها إنما يقتني الخالق نفسه, فليس من وجه للمقارنة بينه وبين المخلوقات مهما كانت قيمتها. * إلى ماذا يشير الذهب الخالص إلا إلى الملائكة الذين بحقٍ يدعون ذهبًا خالصًا. فهم ذهب، لأنهم يشرقون ببهاء البرّ، وذهب خالص لأنه لم يصبهم قط أي دنس للخطية، أما بالنسبة للبشر فطالما هم في الجسد القابل للفساد وخاضعون للموت، يمكن أن يكونوا ذهبًا، لكن لا يُمكن أن يكونوا ذهبًا خالصًا. "الجسد الفاسد يثقل النفس، والخيمة الترابية عبء للعقل الكثير الهموم" (حك 15:9). فإنهم حتى في هذه الحياة قد يشرقون ببهاءٍ فائقٍ للبرّ، ومع هذا فلن يتخلصوا تمامًا من زغل الخطايا. يشهد الرسول يوحنا لهذا بقوله: "إن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا، والحق ليس فينا" (1 يو 8:1). يؤكد يعقوب ذلك، قائلًا: "فإننا في أمورٍ كثيرةٍ نعثر جميعنا" (يع 2:3). بنفس الطريقة يتوسل النبي، قائلًا: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك يا رب، فإنه لن يتبرر قدامك إنسان" (مز 2:143). فالحكمة تُعلن عن نفسها بذاتها، حتى يمكن للجنس البشري أن يخلصوا من الخطية. لا يُرسل ملاك عوض الحكمة، إذ من الضروري أن يتحرر المخلوق بواسطة الخالق. هكذا يقول الرب في الإنجيل: "إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 36:8). لكن الرجل القديس (أيوب) إذ امتلأ بروح هذه الحكمة سبق فرأى أن اليهودية يصير بها من يضعون رجاءهم في صاحب الشريعة، ويجعلون من موسى مصدر خلاصهم، إذ نطقوا بالشر حتى مع ذاك الذي شُفي: "أنت تلميذ ذاك، وأما نحن فإننا تلاميذ موسى" (يو 28:9). البابا غريغوريوس (الكبير) لاَ تُوزَنُ بِذَهَبِ أُوفِيرَ، أَوْ بِالْجَزْعِ الْكَرِيمِ، أَوِ الْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ [16]. جاء في الترجمة السبعينية: "لا تُقارن بألوان الصبغة في الهند". ويرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن حكمة الله لا تشوبها زخرفة البلاغة، فإنها تكون مبهجة كثوبٍ بلا صبغة. لقد استخف بولس بالصبغة بقوله: "التي تتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تُعلمها حكمة إنسانية، بل بما تُعلمه الروح القدس" (1 كو 13:2). فقد اختار الرسول أن يستخدم هذه الحكمة في بساطة الحق النقي وحدها، ولكن دون أن يلطخها بصبغة الكلام. لاَ يُعَادِلُهَا الذَّهَبُ وَلاَ الزُّجَاجُ، وَلاَ تُبْدَلُ بِإِنَاءِ ذَهَبٍ إِبْرِيزٍ [17]. إذ تجسد كلمة الله وصار إنسانًا، لم يعادله أي إنسان سواء كان ذهبًا أو زجاجًا. مهما كان بريقه كالذهب أو نقاوته الشفافة كالكريستال. * رأى يوحنا في الرؤيا هذا حين قال: "بناء سورها من يشب، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي" (رؤ 18:21). ذلك لأن كل القديسين سيشرقون في بهاء النعيم الفائق، لذلك وُصفت (أورشليم العليا) أنها بناء من ذهب... لكن مادمنا في هذه الحياة ولا يمكن لقلوبنا أن ينظرها الآخرون، فإنها ليست أوانٍ من الزجاج، بل هي أوانٍ خزفية. في هذا الطين الذي قد يفسد الذهن يخشى النبي أن يوحل فيه، إذ يقول: نجني من الطين، لكن لا أوحل" (مز 14:68). خيمة أجسادنا ذاتها يدعوها بولس: "بيت خيمتنا"، فيقول: "لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيدٍ، أبدي" (2 كو 1:5)... ومع هذا فإن كل القديسين يتألقون بمثل هذا البهاء العجيب، ويشرقون بنقاوة فائقة هكذا، حتى إذ يصيروا على شكل الحكمة، لكنهم لا يعادلونها. ولهذا السبب فإن كل القديسين يُحضرون إلى الأفراح الأبدية حتى يصيروا على مثال الله كما هو مكتوب: "إذ أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 2:3). ومع هذا مكتوب: "أيها الرب إله القوات، من هو مثلك؟" (مز 8:89، 6). أيضًا: "من سيكون مثل الله بين أبناء الله". كيف يكونون مثله، ولا يكونون مثله، إلا لأنهم سيكونون مثل هذه الحكمة في الشبه، ولكنهم ليسوا معادلين لها. إنهم مثله، لأنهم يصيرون مطوبين، وليسوا مثله، لأنه هو الخالق، لا يعادلونه حيث أنه غير مُدرك، أما هم فكائنات مدركة. لذلك فليُقل بعدلٍ: "لا يعادلها الذهب ولا الزجاج". فإنه مهما بلغ بهاء القديسين ونقاوتهم فيشرقون، فإن هذا يخص البشر بكونهم حكماء في الله، وأما هو فحكمة الله، إنه أمر آخر... "ولا تبدل بإناء ذهب إبريز" [17]... فالكنيسة لن تستبدل هذه الحكمة بأوانٍ ذهبية ثمينة وسامية، إذ تتمسك بالمسيح ابن الله، ليس كواحدٍ من الأنبياء، بل رب الأنبياء الواحد. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس جيروم لاَ يُذْكَرُ الْمَرْجَانُ أَوِ الْبَلُّوْرُ، وَتَحْصِيلُ الْحِكْمَةِ خَيْرٌ مِنَ اللآّلِئِ [18]. لاَ يُعَادِلُهَا يَاقُوتُ كُوشَ الأَصْفَرُ، وَلاَ تُوزَنُ بِالذَّهَبِ الْخَالِصِ [19]. الحكمة هي رب المجد يسوع الذي هو أثمن من كل اللآلئ والمرجان والبلور وكل ما هو ثمين. * كثيرًا ما قلنا إن المسيح هو الحكمة والعدل والسلام والفرح والحنو وما هو بقية ذلك. لتلاحظوا أن أسماء كل هذه الفضائل محبوبة حتى من الذين لا يسعون وراءها. ليس من مجرمٍ يعلن في وقاحة أنه لا يحب الحكمة والعدل. القديس جيروم فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي الْحِكْمَةُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ الْفَهْمِ [20]. كثيرًا ما يصرخ رجال الله طالبين الحكمة من السماوي، لأنه من أين تأتي الحكمة وما هو مكان الفهم، سوى من الله السماوي؟ * إنه يعطي المعرفة لا بكتاب نتعلمه وإنما باستنارة الروح(1164). الأبأمبروسيا ستر القديسمار اسحق السرياني البابا غريغوريوس (الكبير) إِذْ أُخْفِيَتْ عَنْ عُيُونِ كُلِّ حَيٍّ، وَسُتِرَتْ عَنْ طَيْرِ السَّمَاءِ؟ [21] شهوة قلب كل مؤمن وكل لاهوتي حقيقي أن يكون من حق المختارين أن يتمتعوا برؤية الله في الحياة الأبدية. هذا ما يعلنه القديس يوحنا الرسول: "لأننا سنراهُ كما هو" (1 يو 2:3). غير أنه في ذات الرسالة يقول: "الله لم ينظرهُ أحد قط" (1 يو 12:4). ويؤكد الرسول بولس: "ساكنًا في نورٍ لا يُدنَى منهُ، الذي لم يَرَهُ أحد من الناس ولا يقدر أن يراهُ" (1 تي 16:6). هذا يثير أسئلة كثيرة منها: 1. هل هذه الرؤية محفوظة فقط للحياة الأبدية؟ أم يمكن أن تبدأ هنا في خبرة داخلية في أعماق النفس؟ 2. هل رؤية السمائيين لله هي رؤية لجوهره؟ وهل يتمتع المؤمنون في السماء برؤية الجوهر الإلهي؟ لقد كتب القديس يوحنا الذهبي الفممقالًا بعنوان: "طبيعة الله غير المدركة"، يُظهر فيها استحالة رؤية الله في جوهره كما هو. أكدت مجامع القسطنطينية في القرن الرابع عشر (1341، 1351، 1368م) أن الله لا يمكن الدنو منه من جهة الجوهر، فهو ليس موضوع معرفة الملائكة أو القديسين أو موضوع رؤيتهم، إنما يُرى هذا الجوهر الإلهي خلال طاقاته الإلهية غير المخلوقة. وقد أفاض الأب غريغوريوس بالاماس في الحديث عن هذه النظرية. * عندما نسمع السيرافيم أنهم يطيرون حول العرش في سموه ورفعةٍ، يغطون وجوههم بجناحين... ويسترون أرجلهم باثنين، ويصيحون بصوتٍ مملوء رعدة، لا تظن أن لهم ريشًا وأرجلًا وأجنحة، فإنهم قوات غير منظورة... حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يقدرون على الدنو منه، لهذا يتنازل هو ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. فإن الله لا يحده مكان ولا يجلس على عرش... إنما جلوسه على العرش وإحاطته بالقوات السمائية هو من قبيل حبه لهم. إذا ظهر على العرش وأحاطت به هذه القوات لا تقدر على معاينته، ولا احتملت التطلع إلى بهاء نوره، فتغطي أعينها بأجنحتها، ولا يعد لها إلا أن تسبح وتترنم بتسابيح مملوءة مجدًا ورعدة مقدسة، وبأناشيد عجيبة تشهد لقداسة الجالس على العرش. حرى بذاك الذي يتجاسر ليفحص عناية الله الذي لا تقدر القوات السمائية على لمسها أو التعبير عنها أن يختبئ مختفيًا تحت الآكام. القديس يوحنا الذهبي الفم إن كانت الحكمة، التي هي الله، مخفية عن عيون الأحياء، فبالتأكيد لا يستطيع أحد القديسين أن يرى هذه الحكمة. وإني أسمع يوحنا يتفق مع هذه العبارة: "الله لم يره أحد قط" (يو 18:1). ولكن عندما أتطلع إلى آباء العهد القديم أتعلم أن كثيرين منهم - كما يشهد تاريخ الكتاب المقدس - رأوا الله. فقد رأى يعقوب الرب وقال: "لأني نظرت الله وجهًا لوجه" (خر 30:32). بالمثل رأى موسى الله الذي كُتب عنه: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجهٍ كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 11:33). أيوب نفسه هذا رأى الرب وقال: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني" (أي 5:42). إشعياء النبي رأى الرب وقال: "في سنة وفاة عزيا الملك، رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع" (إش 1:6). رأى ميخا الرب قائلًا: "قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه، وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره" (1 مل 19:22). ماذا إذن يعني هذا أن كثيرين من آباء العهد القديم يشهدون أنهم رأوا الله، ومع هذا يُقال بخصوص هذه الحكمة التي هي الله،: "أخفيت عن عيون كل حيُ" (أي 21:28)، ويقول يوحنا: "الله لم يره أحد قط" (يو 18:1)؟ واضح لنا أن نفهم بأننا مادمنا نعيش هنا حياة قابلة للموت يمكن رؤية الله عن طريق ظهورات، أما رؤيته الحقيقية بطبيعته فلا يمكن تحقيقها. البابا غريغوريوس (الكبير) اَلْهَلاَكُ وَالْمَوْتُ يَقُولاَنِ: بِآذَانِنَا قَدْ سَمِعْنَا خَبَرَهَا [22]. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الهلاك والموت يشيران إلى الأرواح الشريرة التي تسبب الهلاك والدمار، فقد قيل عن الشيطان "اسمه الموت" (رؤ 8:6). هذه الأرواح لا ترى الحكمة، إذ طردوا من أمامه بسبب كبريائهم، وصاروا عاجزين عن رؤية حكمة الله. "أولئك يكونون بين المتمردين على النور، لا يعرفون طرقه، ولا يلبثون في سبله" (راجع أي 13:24). اَللهُ يَفْهَمُ طَرِيقَهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَكَانِهَا [23]. ليس من يعرف الحكمة الإلهي أو الابن إلاّ الآب، فهو يعرف طريق الحكمة، لأنها مولودة منه أزليًا، ليس من انفصال بين الآب والابن. الحكمة، الشريكة في الأزلية مع الله، لها طريقها بمعنى ما، ولها مكانها بمعنى آخر... مكان الحكمة هو الآب، ومكان الآب هو الحكمة، وذلك كما تشهد الحكمة نفسها قائلة: "أنا في الآب، والآب فيٌ" (يو 10:14). البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّهُ هُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ يَرَى [24]. رؤية الله هي تجديد نعمته للأشياء التي فُقدت وفسدت. لذلك كُتب: "الملك الجالس على كرسي القضاء يذري بعينه كل شرٍ" (أم 8:20). فبرؤيته يضع حدًا لشرور طيشنا، ويهب تقديرًا عظيمًا للنضوج. البابا غريغوريوس (الكبير) لِيَجْعَلَ لِلرِّيحِ وَزْنًا، وَيُعَايِرَ الْمِيَاهَ بِمِقْيَاسٍ [25]. في الكتاب المقدس يشير بسرعة الريح وخفتها بوجه عام إلى النفوس. وكما يقول مرتل الله: "الماشي على أجنحة الريح" (مز 3:104)، بمعنى الذي يسير فوق فضائل النفس. تبعًا لهذا "يجعل للريح وزنًا"، بمعنى أن الحكمة التي من فوق تملأ النفوس، فتجعلهم مثقلين بالنضوج، وليس بالوزن الذي قيل عنه: "يا بني البشر، إلى متى تثقل قلوبكم" (مز 2:4). فإن الثقل بالمشورة (الصالحة) شيء، والثقل بالخطية شيء آخر، التثقل بالالتزام شيء، والتثقل بالمعصية شيء آخر... "ويعاير المياه بمقياس" [25]. تُستخدم المياه في الكتاب المقدس للإشارة إلى الروح القدس، وأحيانًا تُستخدم عن المعرفة الخاطئة، وأحيانًا عن النكبات والشعوب المنجرفة، وأحيانًا عن الذين يتبعون الإيمان. هكذا يشير الماء إلى انسكاب الروح القدس، كما قيل في الإنجيل: "من يؤمن بي كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار مياه حية". ويضيف الإنجيلي: "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 38:7- 39). مرة أخرى يشير الماء إلى المعرفة المقدسة، كما قيل: "يعطيه ماء الحكمة ليشرب" (سيراخ 3:15). بالمثل يشير الماء إلى المعرفة الشريرة، وذلك كالمرأة المذكورة في سليمان والتي تحمل رمزًا للهرطقة، والتي تسحر بفنونها المخادعة، فقيل: "المياه المسروقة حلوة" (أم 17:9). كذلك تعبير "المياه" يشير إلى التجارب، كما يقول المرتل: "نجني يا الله من المياه، فقد بلغت إلى نفسي" (مز 1:69). تشير المياه أيضًا إلى الشعوب كما قيل بيوحنا: "المياه هي شعوب" (رؤ 15:17). هكذا أيضًا ليس فقط مدّ الشعوب الجارفة، بل وأيضًا أذهان الصالحين الذين يتبعون الكرازة بالإيمان، كقول النبي: "طوباكم أيها الزارعون على كل المياه" (إش 20:32)، وقول المرتل: "صوت الرب على المياه" (مز 29: 3). في هذا الموضع بماذا يشير لقب "المياه" إلا إلى قلوب المختارين الذين بفهم الحكمة ينالون سماع الصوت السماوي؟ البابا غريغوريوس (الكبير) لَمَّا جَعَلَ لِلْمَطَرِ فَرِيضَةً، وَسَبِيلًا لِلصَّوَاعِقِ [26]. * يشير بالأمطار إلى أقوال الكارزين، لذلك قيل بموسى: "يهطل كالمطر تعليمي" (تث 2:32). بمعنى عندما يقدمون كلماتي بإقناع لطيف يكون مطرًا، وعندما يرعدون بأمورٍ مرعبة بخصوص الدينونة القادمة يصدرون أصواتًا كالرعود القاصفة... يُفقد سلطان الكلام عندما يكون الصوت غير مؤيدٍ بالعمل. يُقال بالمرتل: "وللشرير مالك تحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك، وأنت قد أبغضت التأديب، وألقيت كلامي خلفك؟" (مز 50: 16-17)... كُتب هذا عن ناموس الكرازة: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلمٌَ الناس، هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلَّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات، هذه التي كُتب عنها: "يجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم" (مت 41:13). فإنه في الملكوت العلوي يلزم أن تُجمع "المعاثر" خارجًا وتُطرح خارجًا... الآن جعل "سبيلًا للرعود القاصفة" [26] عندما يقيم اتصالًا بقلوب البشر مضروبة بالفزع من الدينونة القادمة لكارزيه. البابا غريغوريوس (الكبير) حِينَئِذٍ رَآهَا وَأَخْبَرَ بِهَا هَيَّأَهَا، وَأَيْضًا بَحَثَ عَنْهَا [27]. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أنه يليق بنا ملاحظة وجود أربعة أمور بخصوص الحكمة حيث بقول: "حينئذ رآها، وأخبر بها، وهيأها، وأيضًا بحث عنها" [27]. * يراها في كونها "شبه"، ويخبر بها إذ هي "الكلمة"، ويهيئها إذ هي "العلاج"، ويبحث عنها بكونها "مخفية عن البصر". حكمة الله الأزلية هي صورة الآب وكلمته، عندما يخترقها عقل الإنسان. فمن يريد أن يفهمها بكونها الكلمة بغير زمانٍ، والصورة بغير حدٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) * إن كان المسيح هو رأس المؤمن، فإن عيني الحكيم في رأسه (جا 2: 14). وبالتالي تتركز كل أحاسيسنا وعقلنا وأفكارنا وكلمتنا ومشوراتنا (إن كنا حكماء) في المسيح. القديس جيروم وَقَالَ لِلإِنْسَانِ: هُوَذَا مَخَافَةُ الرَّبِّ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَالْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ هُوَ الْفَهْمُ [28]. يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلًا بأن الحكمة اليونانية qeosebeia، والتي تترجم أحيانًا "تقوى": "هوذا التقوى هي الحكمة" تعني "التعبد لله". والنقطة الرئيسية في العبادة هي أن النفس لا تكون جاحدة لله. لذلك فإن الذبيحة الممتازة الحقيقية هي تقديم الشكر لله ربنا. الحكمة هي الشكر الداخلي للنفس نحو الله، تعبر عنه بالعبادة الروحية له. مرة أخرى يؤكد أن من ينسب الحكمة لنفسه لا يكون شاكرا لله، وبالتالي لا يحمل مخافة الرب ولا يكون تقيًا، فهو غبي وليس حكيمًا(1171). * "هوذا التقوى هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم" (أي 28: 28). هنا التمييز (بين الحكمة والفهم)، إذ يلزم أن نفهم أن الحكمة تخص التأمل، والفهم يخص العمل. ففي هذا الموضع يقصد بالحكمة عبادة الله.... وما هو عبادة الله سوى حب لله، الذي به نشتاق أن نراه، ونؤمن ونترجى أن نراه نسبيًا. إذ يحدث لنا تقدم نرى كما في مرآة في لغز، ولكن عندئذٍ تكون الرؤية في وضوح... وأما الحيد عن الشر الذي يقول عنه أيوب أنه فهم، فهو دون شك يخص الأمور الزمنية. فإنه بالنسبة للزمن (في هذا العالم) نحن في شرٍ، حيث يلزمنا أن نكف عنه حتى نبلغ الخيرات الأبدية(1172). * يوجد نوع آخر من الأشرار الذين لما عرفوا الله لم يمجدوه كإله، ولا كانوا شاكرين (رو 21:1). في هذا أنا أيضًا سقطت، لكن يمينك رفعتني (مز 35:18)، وحملتني بعيدًا، ووضعتني حيث يُمكن شفائي. فأنت قلت للإنسان: "هوذا مخافة الرب التي هي حكمة" (أي 28:28)، ولا تشتهِ أن تبدو حكيمًا (أم 7:3)، لأنهم "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1:22). لكنني الآن وجدت اللؤلؤة الصالحة حيث كان يلزمني أن أبيع كل شيء وأشتريها (مت 46:13)، لكنني ترددت. * إن كانت المعرفة من النوع المستقيم، فهي وصيفة للحب، فبدون الحب "المعرفة تنفخ" (1 كو 1:8)، ولكن حيث يوجد الحب يملأ القلب بالبنيان، فلا تجد المعرفة شيئًا فارغًا يمكن أن تنفخه. أضف إلى هذا أن أيوب يظهر المعرفة النافعة بتعريفه إياها بعد بقوله: "مخافة الرب التي هي الحكمة"، مضيفًا: "والحيدان عن الشر هو الفهم"(1174). * "هوذا عبادة الله هي الحكمة". عندئذ يكون الذهن حكيمًا، لا بنوره الذاتي، بل بالشركة في ذلك النور السامي، والذي هو أبدي، فيه يملك في الطوباوية. القديس أغسطينوس القديس يوحنا ذهبي الفم البابا غريغوريوس (الكبير) من وحي أيوب 28 لأقتنيك يا أيها الحكمة الإلهي! * وهبت الإنسان عقلًا، ليبحث ويعمل. يستطيع بالحكمة البشرية أن يبحث عن المعادن النفيسة، لكن في غباوة لا يطلب أسرار ملكوت الله. هب ليّ أن أكتشف فضة حكمتك الطاهرة، وأقتني ذهب عربون الحياة السماوية. * يُخرج الإنسان من التراب والحجارة فضةً وذهبَا. فلتخرج منيِّ أنا التراب شاهدًا لك، فأصير في عينيك أثمن من كل حجرٍ ثمينٍ! أنت قادر أن تحول التراب إلى السماء. والقلب الحجري إلى قلبٍ متسعٍ بالحب. * أنت صانع العجائب والمعجزات. أخرجت من شاول الطرسوسي رسولًا فريدًا. ومن أهل نينوى الأشرار شعبًا تائبًا. ومن الأمم كنيسة مقدسة. أوجدت من التراب إنسانًا، وتقيم من الخاطي الترابي كائنًا شبه ملائكي! * ها أنا بين يديك، تقيم ملكوتك في داخلي. تضمني كما إلى صفوف ملائكتك. لأتلامس مع حبك، وأتعرف على أسرارك الإلهية. أنت هو الطريق الذي يدخل بي إلى حضن الآب. أنت غناي وسروري! * لأقتنيك يا أيها الحكمة الإلهي! بك أدخل إلى أسرار السماء، وأتمتع بالشركة في الطبيعة الإلهية. بك تنفتح عيناي، وأرى ما لم تره عين. * من أجل اقتناء الثروة، تعلم الإنسان صناعة التعدين. وبسبب الجوع، تعرف الأسد على طرق الغابات والبراري. ولأجل الشبع، ترى النسور الفريسة على أبعاد شاهقة. ومن أجل الحب أقتنيك، فتقدم لي الأسرار الإلهية الفائقة. * حكمتك قديرة وفائقة. تدخل بي إلى المستحيلات، وتكشف لي عجائب فائقة! ترتفع المتواضعين إلى السماء. تحول الحجارة إلى أولاد لإبراهيم! وتهز أصحاب السلاطين والقوة! تفيض من قلبي الصخري ينبوع مياه حب عذبة! تجعلني ثمينًا جدًا في عينيك يا محب البشر! * لأقتنيك يا حكمة الله العجيب. فأحمل كنز كل حكمة ومعرفة وفهم في داخلي. أنت كنزي العجيب. ليس من ذهب ولا فضة ولا حجارة كريمة تُقارن بك. * هوذا كل الطبيعة بكل إبداعها تصرخ إليّ: اقتنِ الإبداع نفسه، الجمال ذاته، خالق الكل ومبدع كل شيء! * يا للعجب أنت مخفي وحاضر. أسرارك مخفية حتى عن الشاروبيم، إذ يغطون وجوههم من أجل عظمة بهائك! اختفيت عني إلى زمان، لا لتحرمني منك، وإنما لتلهب قلبي شوقًا إليك. تجسدت ونزلت إليّ فأجدك في داخلي! أنت قريب إليّ جدًا! أعماقي تصرخ إليك: أرني مجدك! |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 26 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() يكشف أيوب عن الطريق الذي فيه كان يخاف الرب ويحيد عن الشر. لا يفكر أيوب في السعادة المادية وحدها، بل يقدّر الصداقة مع الله [4-5]. إنه لم يسئ استخدام السلطة ككثيرٍ من الملوك. لقد كان أيوب قادرًا على الشرب من كأس الألم دون أن يفقد سلامه الداخلي وابتسامته. يبدو أن أيوب توقف عن الحديث إلى لحظات بعد أن تكلم عن الحكمة والفهم في الأصحاح السابق. ولعله توقع أن يقدم أحد أصدقائه تعليقًا ما أو ملاحظات على كلماته. وإذ لم يجدوا ما ينطقون به أكمل حديثه عن حياته، مقدمًا لنا ذكرياته عن ماضيه الذهبي. 1. سعادته السابقة في الرب وَعَادَ أَيُّوبُ يَنْطِقُ بِمَثَلِهِ فَقَالَ: [1] يَا لَيْتَنِي كَمَا فِي الشُّهُورِ السَّالِفَةِ، وَكَالأَيَّامِ الَّتِي حَفِظَنِي اللهُ فِيهَا [2]. هنا نرى الإنسان المريض الحزين والحائر يتذكر أيام نجاحه وراحته، ويخبرنا كيف أن الله حفظه، وكان جميع الناس يحترمونه، ويقفون له عند خروجه، وجعلوه رئيسًا عليهم. أما الآن فإن الناس حتى أدناهم - في نظر المجتمع - يحتقرونه ويستهزئون به. يؤكد أنه لم يكن مذنبًا بارتكاب خطايا شهوانية، كما لم يظلم المسكين والأرملة، ولم يمسك الطعام عن اليتامى، ولم يفعل أية خطايا سرية. كان يرفض الكذب والغش والظلم والبخل والطمع وعبادة الأصنام والشماتة والشح والرياء والاستغلال إلخ. بهذا يعلن عن براءته. لكن هذا ليس عن فضلٍ منه، وإنما بسبب رعاية الله له. فإن سرّ استقامة حياته هو حفظ الله له. تطلع أيوب إلى ماضيه وقارنه بما هو عليه، فاشتهى لو عاد الزمن، وبقي حاله كما كان عليه. وهو في هذا لا ينسب سعادته وغناه ونجاحه لمجهوداته الخاصة، ولا لقدراته ومواهبه، بل لمراحم الله، قائلًا: "حفظني الله". لم يكن يرى في ثروته حصنًا له (أم 15:10)، ولا اتكل على كثرة غناه (مز 7:52)، بل كان له "اسم الرب برجًا حصينًا" (أم 10:18). يعترف أيوب أن الله هو سور نار محيط به وسياج يحفظه، الله هو سرٌ أمانه. * "عندئذ استأنف أيوب مقاله الافتتاحي: آه لو كنت على حالي السابق لمدة شهر". ماذا يقول؟ أود لو أنني أحيا لمدة شهر في الحياة الصالحة التي كانت لي في الأزمنة السابقة لكي أسد أفواهكم، وأظهر لكم ما كنت عليه. يطلب شهرًا واحدًا مثل الشهور والأيام السابقة. لم يطلب شيئًا غير عادي، بل أن يحيا لمدة ثلاثين يومًا في سعادة الأزمنة الأخرى، ويتمتع بالخيرات التي لم يقدمها له أحد... لاحظوا تقوى الرجل، فإنه ينسب كل شيء لله. لا يستطيع إنسان محروم من العون العلوي أن يبقى في حياة مستقيمة. يقول: "حفظني الله فيها"، فإن بحثه عن حياته الصالحة السابقة، إنما للشهادة عن عناية الله. * يريد (الرسول بولس) أن يقول إن الله هو ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير. هو بدء كل الخيرات وأساسها وموجدها؛ هو الخالق. دعا غير الموجود موجودًا. يدير كل شيء ويرتبه ويحفظه حسب إرادته! القديس يوحنا الذهبي الفم حِينَ أَضَاءَ سِرَاجَهُ عَلَى رَأْسِي، وَبِنُورِهِ سَلَكْتُ الظُّلْمَةَ [3]. كان النور المشرق منه هو نور الله الذي أضاء سراجه على رأسه، وكأن أيوب أشبه بمنارة، لا قيمة لها بدون السراج الإلهي. إنه مدين لله "النور الحقيقي"، الذي قاده وسط الظلمة، يهبه تعزيات إلهية وسط الأحزان، ويحفظه من العثرات. يقدم أيوب بروح التواضع مع الشكر لله نفسه منارة، مهما كان معدنها، وأيا كان شكلها، فإن سرّ قوتها في النور الذي يُوضع على القمة لكي تهتدي به السفن على بعد أميالٍ كثيرة. يعترف أيوب أنه وإن كان منارة، فإن النور الذي على رأسه، هو نور الله، وليس نوره هو. إنه سراج الرب، النور الحقيقي. يرى داود النبي في كلمة الله "سراجًا لرجله" (مز 119: 5: 1) يضيء له، فيسير وسط ظلمة هذا العالم، أما أيوب فيرى في كلمة الله نورًا إلهيًا مثبتًا كما على رأسه ليقود سفنًا كثيرة نحو الميناء! يليق بالمؤمن أن ينحني أمام الله ليملأ حياته بعمل روحه القدوس واهب الاستنارة، فيترنم قائلًا: "بنورك نرى نورًا" (مز 26: 9). لم يقل "أعاين"، بل "نعاين"، فإذ يستنير المؤمن يجتذب الكثيرين معه للتمتع بالنور الإلهي. *عندما شرح أيوب صلاح أعماله، أضاف:"عندما أضاء السراج على رأسي" (أي 29: 3). هذا السراج الذي يُضاء بزيت الأعمال الصالحة لكل واحدٍ منا. لكننا إن مارسنا شرًا، وصارت أعمالنا شريرة، ليس فقط لا نضيء، بل ونطفئ ذاك السراج الذي لنا، ويتحقق قول الكتاب: "من يصنع الشر يسلك في الظلمة، ومن يبغض أخاه فهو في الظلمة" (راجع 1 يو 2: 11). ألا يظهر لكم من يطفئ نور المحبة أنه أطفأ السراج؟ أما من يحب أخاه (راجع 1 يو 4: 21)، فيثبت في نور الحب، ويمكنه في يقينٍ أن يقول: "وأما أنا فشجرة زيتون مثمرة في بيت الله" (مز 25: 8)، "بنوه مثل غروس الزيتون حول مائدته" (مز 128: 3). العلامة أوريجينوس البابا غريغوريوس (الكبير) لقد وضع الله الأسفار المقدسة في العالم كسراج نورٍ يضيء ظلمته. فالذي يحبّ نفسه يستنير بالقراءة، ويسير على هداها. اقترب من الكتاب بحبٍ، تأمل جماله. فإنك لن تستفيد بدون الحب، لأن الحب هو مدخل الفهم. يفرض الكتاب حبَّك، فإن كنت لا تحبه فلا تقرأه. إنه يكلمك، فإن ضجرت من قراءته حرمك من إيماءاته. يجب أن تحبَّه وتفتحه وتقرأه وتتأمل جماله، وإلا فلا تقرأه، لأنك إن كنت لا تحبَّه لن تستفيد منه. القديس مار يعقوب السروجي كَمَا كُنْتُ فِي أَيَّامِ خَرِيفِي، وَرِضَا اللهِ عَلَى خَيْمَتِي [4]. جاء النص كما ورد في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير): "وكان الله يجالسني في خيمتي". عبارة تكشف عن تواضع الله الفائق، وحبه العجيب نحو الإنسان! لعلها تشير إلى تجسد الكلمة الإلهي الذي صار كمن في خيمتنا، إذ قبل الناسوت. تطلع أيوب إلى أيام شبابه، فحسبها أيام خريفه، وقد لمس فيها رضا الله على خيمته. بمعنى آخر أدرك أنه في شبابه لم يسلك حسب أهواء الجسد، بل دخل كما في صداقة مع الله، فوجد الله مسرته في خيمة أيوب، يجتمع معه ويرعاه ويقوده حتى يعبر به إلى المسكن الأبدي. * "كما كنت في أيام صباي، وكان الله يجالسني في خيمتي" [2]... من يفكر في صمت في وصايا الله، هذا يسكن الله سريًا في خيمته. البابا غريغوريوس (الكبير) إن كان الله قد أقام من أيوب منارة تحمل شعلة نور إلهي تهدي السفن إلى الميناء السماوي الآمن، فإنه من جانب آخر قد جعل من خيمته سماء ثانية. كأن الله يُسر بأن ينزل ليجلس مع محبوبه أيوب! إن كنا نتطلع إلى أجسادنا كخيامٍ تقطنها النفوس أثناء رحلتها في هذا العالم، فإن الله خالق الجسد لن يستنكف منها ولا يزدري بها، لأنها من عمل يديه. إنه يقدس أجسادنا بكل عواطفها وأحاسيسها وطاقاتها، يسكن فيها ويهديها لنتمتع بالأمجاد الأبدية الخالدة. وَالْقَدِيرُ بَعْدُ مَعِي، وَحَوْلِي غِلْمَانِي [5]. في شبابه شعر أيوب بمحبة الله، وهذا كان سرٌ كفايته وشبعه. شعر كمن كان في قصرٍ سماويٍ، لا يشغله الغنى ولا الجاه ولا السلطان، لكن مع غلمانه كان الكل في شركة مع الله رب البيت الحقيقي. * لماذا ترفضون الإقتداء برجال ونساء العهد القديم القديسين؟ اخبروني! خاصة أنتن أيتها الأمهات، فلتفكرن في حنة كمثال، أنظرن ماذا فعلت. لقد أحضرت ابنها الوحيد صموئيل إلى الهيكل حينما كان لا يزال طفلًا! من منكن لا تريد أن يكون ابنها مثل صموئيل الذي هو أفضل من ملكٍ على العالم كله ربوات المرات؟ تقولين: "هذا مستحيل! فإن ابني لن يكون عظيمًا هكذا مثله! لماذا هذا الأمر مستحيل؟ لأنكِ بالحقيقة لا تريدين هذا. أودعيه في يديْ ذاك القادر أنيجعله عظيمًا. ومن هو هذا؟ الله! فقد أودعت حنة صموئيل في يدي الله. لم يكن رئيس الكهنة عالي قادرًا بالحقيقة أن يشَّكله، فقد فشل في تشكيل ابنيه. إنه إيمان الأم وغيرتها جعلا كل شيء ممكنًا. لقد كان ابنها البكر والوحيد. لم تكن تعرف هل سيكون لها ابن آخر غيره، ومع هذا لم تقل قط: "سأنتظر حتى يكبر، ويذوق مباهج العالم، على الأقل في صبوته". لا، فقد رفضت مثل هذه الأفكار كلها. كان لها هدف واحد، كيف استطاعت من البدء أن تكرس بهجة قلبها لله. لتخجلوا أيها الرجال أمام حكمة هذه المرأة. لقد قدمت صموئيل لله، وعند الرب تركته. بهذا تبارك زواجها بالأكثر، لأن غايتها الأولى هي الأمور الروحية. كرست بكر رحمها لله، فنالت بعد ذلك أبناء كثيرين. لقد رأت صموئيل مكرمًا حتى في هذه الحياة. إن كان الناس يردون التكريم بالتكريم، أما يرد الله بالأكثر لمن يكرمه؟ إنه يعطي الكثير جدًا حتى للذين لا يكرمونه نهائيًا! إلى متى نبقى هكذا ككتلٍ جسدية؟ إلى متى نلتصق بالأرض؟ ليصر كل شيء في المرتبة التالية بعد اهتمامنا بأولادنا، فنربيهم في تعليم الرب وإنذاره (أف 6: 4). القديس يوحنا الذهبي الفم إِذْ غَسَلْتُ خَطَوَاتِي بِاللَّبَنِ، وَالصَّخْرُ سَكَبَ لِي جَدَاوِلَ زَيْتٍ [6]. وهبه الله كل شيء بفيضِ، فمن كثرة الأغنام خُيل إليه أنه كمن يغسل قدميه باللبن، ومن فيض ثمار أشجار الزيتون حسب كأن الصخور المحيطة به تفيض زيتًا. إلى أي شيء يشير غسل خطوات الإنسان باللبن أو الدسم، وسكب الصخور له جداول زيت، سوى إلى شعور بالمؤمن بالشبع الداخلي، فتصير له جداول لبن يغسل فيها قدميه، وجداول زيت، فلا يدهن بمسحة زيت أعضاء نفسه فحسب، بل ويصير كمن غطست نفسه وسُحبت في جداول زيت مقدس. يشير هنا إلى معصرة الزيت الحجرية، حيث يفيض منها الزيت كنهرٍ. "وأجرى أنهارهم كالزيت يقول السيد الرب" (حز 32: 14). جاء في نشيد موسى قبل انتقاله: "وأرضعه عسلًا من حجر، وزيتًا من صوان الصخر" (تث 32: 13). يترنّم المرتّل قائلًا: "أعيُن الكل تترجّاك، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يديك فتُشبع كل حيّ من رضاك" (مز 145: 15-16). هذا وإذ يشير أيوب إلى الكنيسة، فإنها إذ تكرز بإنجيل المسيح تقدم للعالم فيضًا وشبعًا داخليًا. إنها كرازة بالمصلوب المرفوض من العالم، لكن فيه كل كنوز العلم والمعرفة، فيه كل كنوز السماء! * "إذ غسلت قدميٌ بالزبدة" [6]... تُغسل الأقدام بالزبدة حيث يمتلئ الكارزون القديسون بدسم الأعمال الصالحة. "والصخر يفيض بي أنهارًا من الزيت" [6]. يقصد بالصخرة المسيح، حيث يؤكد الكارز العظيم "والصخرة كانت المسيح" (1 كو 4:10). هذه الصخرة تفيض الآن أنهار زيت، تستخدمها الكنيسة المقدسة، إذ يتكلم فيها الرب، ويقدم الكرازة بالدهن الداخلي. البابا غريغوريوس (الكبير) إذن ليتنا نجوع ونعطش إلى البرّ، لكي نشبع منه... ليت إنساننا الداخلي يجوع ويعطش حتى يكون له الطعام والشراب المناسبان له. لقد قال (الرب): "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" (يو 6: 41). هذا هو خبز الجياع! ليتنا نشتاق أيضًا إلى الشرب كالظمأى، "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز 36: 9). الشيخ الروحاني نعم يا إلهي. فأنت وحدك القادر أن تعيد لي حياتي السعيدة. لك اَعترف ببؤسي، وذلك عند رحيل اليوم الذي كنت فيه غارقًا بين أباطيل العالم المتعدّدة، محرومًا منك أنت موضوع حبّي الوحيد. ذلك اليوم الذي فيه كانت أشواقي الجسديَّة مشتّتة في المباهج الخادعة. وما أكثر هذه المباهج تلك التي تحمل في بهجتها أتعابًا لا حصر لها؟! هذه المباهج وعدتني بأمورٍ كثيرة، ومع ذلك فهي لم تجلب عليَّ سوى الفقر. انتقلت من واحدة إلى أخرى لعل إحداها تقدر أن تشبع نفسي، لكنّها عجزت، إذ لم تكن نفسي تحيا بعد إلاَّ فيك! حقًا، إن فيك الجمال، يا من وحدك سرمدي، وسام، وكامل على الدوام! من يقتفي آثارك لن يضل قط! من يبلغ إليك لا يلحقه يأس! من يمتلكك تشبع كل رغباته! لكن يا لبشاعة بؤسي! ويحي يا إلهي، فإن قلبي يميل إلى الهروب منك؛ أنت أيّها الغنى الحقيقي والفرح الحقيقي، لكي يتبع العالم الذي ليس فيه إلاَّ الحزن والألم. القديس أغسطينوس حِينَ كُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى الْبَابِ فِي الْقَرْيَةِ، وَأُهَيِّئُ فِي السَّاحَةِ مَجْلِسِي [7]. سعادته الفائقة في بيته لم تشغله عن الاهتمام بالآخرين، فكان يخرج إلى باب المدينة ليرأس مجلس القضاء، ليس حبًا في العظمة، بل من أجل تمتع الكل بالعدالة، ورفع روح الظلم عن المتألمين. * "حيث كنت أخرج إلى باب المدينة، وفي الطريق أعدوا لي كرسيًا "... كانت العادة لدى القدامى أن يجلس الشيوخ عند الأبواب، ويقضون في قضايا الداخلين إلى المدينة، حتى يكون الشعب في المدينة في أمان، فلا يُسمح للذين على خلافٍ أن يدخلوها. الآن إذ نوقر التفسير التاريخي نذكر أن أيوب فعل هذا كله من أجل حفظ العدالة. البابا غريغوريوس (الكبير) رَآنِي الْغِلْمَانُ فَاخْتَبَأُوا، وَالأَشْيَاخُ قَامُوا وَوَقَفُوا [8]. كانت له رهبة عظيمة، فكان يخشاه السالكون في غير نضوجٍ كغلمانٍ مستهترين. هؤلاء كانوا يرونه فيختبئون منه، حتى لا تنفضح شرورهم. أما الذين سلكوا كشيوخٍ مختبرين حكماء، فكانوا يقفون في إجلالٍ وتوقيرٍ له. وكما يقول الرسول: "وأما الشيوخ المدبرون حسنًا، فليُحسبوا أهلًا لكرامة مضاعفة" (1 تي 17:5). "فأعطوا الجميع حقوقهم... الخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رو 7:13). * "رآني الغلمان فاختبأوا، والشيوخ يقفون منتصبين" [8]. إن تطلعنا إلى التفسير التاريخي نصدق ما يقوله. إن أخذنا ما قاله بمعنى رمزي، فإن الذين لم تتثقل نفوسهم بثقل المشورات يُدعون "غلمانًا". عادة ما يدعو الكتاب المقدس الذين لهم وزن (خبرة في الماضي) في شخصياتهم بأنهم شيوخ، ليس فقط بكونهم صاروا ناضجين خلال الكم من السنوات... يقول أحد الحكماء: "لأن الشيخوخة المكرمة لا تقوم على كثرة الأيام، ولا تُقاس بعدد السنين. ولكن شيب الإنسان هو الفهم، وسن الشيخوخة هي الحياة التي بلا عيب" (حك 8:4-9)... الآن "يرى الغلمان" الكنيسة المقدسة ويختبئون، ويقوم الشيوخ وينتصبون، لأن غير الناضجين يخشون نشاطها واستقامتها، والشيوخ يمجدونها. التافهون في الفكر يهربون، وأما الجادون والكاملون فيثنون عليها بالارتفاع للتأهل لحياتها. الناقصون يلومون نظامها وحبها الكامل. "الغلمان يرونها ويختفون"، لأنهم يخشون أن يُكتشف سلوكهم الخفي. البابا غريغوريوس (الكبير) الْعُظَمَاءُ أَمْسَكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ [9]. صَوْتُ الشُّرَفَاءِ اخْتَفَى، وَلَصِقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِأَحْنَاكِهِمْ [10]. كان لأيوب شخصيته القوية القائمة على حكمته وقدراته ومواهبه، فكان موضع تكريم العظماء والشرفاء. ففي حضرته يصمت الكل ليصغوا إليه، وينتفعوا بحكمته وخبرته الفائقة. ولعل العظماء والشرفاء إذا ما تنازعوا في أمرٍ أو اختلفوا في الرأي يجدون الحل الحاسم لدى أيوب. * "العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أيديهم على أفواههم. يتخافت صوت الرؤساء، وتلصق ألسنتهم بأحناكهم" [9-10]. من هم هؤلاء الذين يُفهمون هنا بأنهم قادة أو شرفاء إلا الذين يبثون شرورًا هرطوقية؟ قيل عن هؤلاء بالمرتل: "يسكب هوانًا على رؤساء، ويضلهم في تيه بلا طريقٍ" (مز 40:107). فإن مثل هؤلاء الأشخاص لا يخشون من تفسير تدبير الله بمعنى خاطئ، وبالتأكيد يجتذبون القطعان الخاضعة لهم إلى تيه بلا طريقٍ، وليس في الطريق الذي هو المسيح. على هؤلاء ينسكب بحقٍ الهوان (النزاع)، عندئذ يكونون كمن يضعون أصابعهم على أفواههم.... يلتصق لسانهم بفمهم، إذ لا يجسرون أن ينطقوا بما هو شرير، بمنطوقات غير منضبطة، لكن يغطون كل ما يفعلونه في داخلهم لكي لا يقترحوا ما هو غير حقٍ ضد الإيمان الحقيقي... "يتخافت صوت الرؤساء، وتلصق ألسنتهم بأفواههم". وكأن الكنيسة تقول بوضوح: حين تُعطي لي فرصة للكرازة بصوتٍ علنيٍ عالٍ، يرهبني كل إنسانٍ غير خاضعٍ للحق. البابا غريغوريوس (الكبير) * من علامات القديسين أن يخفوا ما صنعوه من أعمال صالحة، لئلا يجلبوا على أنفسهم السقوط في الافتخار. لذلك يقول الحق: "احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم" (مت 1:6). هكذا أيضًا إذ وهب نورًا للأعميين الجالسين على الطريق أمرهما قائلًا: "انظرا، لا يعلم أحد" (مت 30:9). وقد قيل عنهما إنهما "خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها"... يليق بهما أن يختفيا لتحقيق هدفٍ ما، وأن يعلنا ذلك عن ضرورة. ليكن اختفاؤهما لأجل حفظ نفسيهما، وليكن إعلانهما لأجل نفع الآخرين. لهذا كُتب: "لا يوقدون سراجًا، ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 15:5-16). توجد أوقات يلتزم فيها قديسون أن يمارسوا أعمالًا صالحة حتى في حضور زملائهم المخلوقين، أو يقولوا لهم عما يفعلونه، ولكن ليس بهدف أن يتمجدوا بهذه الأعمال، بل يتمجد أبوهم الذي في السماوات... لهذا يتجنب الكارزون الصالحون الكرامة، ومع ذلك يرغبون في أن يُكرموا لكي يقتدي الآخرون بهم. بنفس الطريقة بالتأكيد عندما كان يتكلم الرسول بولس مع تلاميذه كان يهرب من الكرامة، ومع ذلك يُظهر كيف يستحق أن يُكرم جدًا. إذ قال لأهل تسالونيكي: "لسنا نطلب مجدًا من الناس، لا منكم، ولا من غيركم، مع أننا قادرون أن نكون في وقارٍ كرسل المسيح، بل كنا مترفقين في وسطكم" (1 تس 6:2-7). مرة أخرى في رسالته إلى أهل كورنثوس إذ تجنب الكرامة يقول: "فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح" (2 كو 5:4)... لهذا أظهر بطريقة مدهشة نعمة التواضع، وطلب فيض من المنفعة، كمن يعلن عن نفسه أنه خادم تلاميذه، ويبرهن أنه أفضل من أعدائه. البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّ الأُذُنَ سَمِعَتْ فَطَوَّبَتْنِي. وَالْعَيْنَ رَأَتْ فَشَهِدَتْ لِي [11]. لا تقوم هذه الكرامة على غناه، ولا على سلطانه، وإنما على سلوكه العملي، فالكل شهدوا له خلال سماع الأذن لحكمته وأحكامه، ورؤية العين لحبه وحنانه. لقد كان يتمثل بالله العادل المحب للبشر، فشهد الكل له. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في شخص أيوب الطوباوي رمزًا للكنيسة المطوٌَبة، فإن الكنيسة لها تقديرها وتكريمها وتطويبها من كل الذين يسمعون لها، ويرون حياتها المقدسة. تبقى الكنيسة مُضطهدة من المقاومين، لكنها مطٌوبة ومهوبة ومكرمة. لأَنِّي أَنْقَذْتُ الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ، وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ [12]. تطويب الكل له يقوم على أعمال محبته، فلم يكن يستريح حتى يجد المسكين راحته، ولا يلذ له طعام حتى يجد اليتيم فيه عونًا له. يطالبنا القديس باسيليوس الكبير أن نتمثل بأيوب البار الذي صار أبًا للأيتام ومعينًا لهم (أي 29: 12). وقد قدم مفهومًا روحيًا عميقًا لهذا العمل الأبوي. فتبني الأيتام لا يقف عند مساندتهم ماديًا، وإنما يمتد لاحتضان الصغار لتكريس قلوبهم وحياتهم للرب. ففي إجابته على السؤال: "في أي عمر يُسمح للشخص أن يكرس نفسه لله، وفي أي وقت يًحسب نذر البتولية آمنا؟ يجيب هكذا: [مادام الرب يقول: "دعوا الأولاد يأتون إليٌ" (مز 10: 14)، ويمتدح الرسول من يعرف الكتاب المقدس من طفولته (2 تي 3: 15)، ومن يوجه أطفاله أن يُبنوا "بتأديب الرب وإنذاره" (أف 6: 4)، يبدو لنا كل أوقات الحياة، حتى المبكرة جدًا مناسبة للقبول للتلمذة (الرهبانية). حقًا يلزمنا أن نقبل أولئك الأولاد المحرومين من والديهم تحت رعايتنا، فنصير آباء للأيتام، مقتدين بأيوب (أي 29: 12).] * ليوضح لماذا يعلنون أنه مطوٌَب. يقتبس أعماله الصالحة، قائلًا: "لأني أنقذت المستغيث من يد المضايقين"، لكن يأتي هذا بعد أن ينسب الاستحقاق لله أولًا الذي حفظه وصانه حتى يمجد الرب (1 كو 31:1). * انظروا إنه لا يفتخر بأنه حاد عن الشر، ولا أنه قدم ذبائح كما فعل اليهود، إنما يفتخر أنه يتمم ما يريده الله (إنقاذ المساكين). يقول: "اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة" (إش 17:1). لاحظوا إنه لا يستبد بسلطانه، إنما يستخدمه متى كانت هناك حاجة إليه. كان أبًا ومدافعًا عن الجميع. لم يستخدم غناه في الظلم، ولا مجده للافتخار، ولا حكمته للشر، بل أن ينقذ الذين تثقلوا من ضغط الأشرار. القديس يوحنا الذهبي الفم الآن تنقذ "اليتيم الذي لا معين له"، حيث يهرب كل واحدٍ من شهوات العالم المُضطهد... ويجري إلى حضن الكنيسة المقدسة، فيجد فيها عون النصح. ربما يُفهم ب "اليتيم" أي مؤمن فبالموت عن الآب الصالح (يصير يتيمًا)، حيث يحرم منه إلى حين، ولا يُحرم من السلوان. البابا غريغوريوس (الكبير) بَرَكَةُ الْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ، وَجَعَلْتُ قَلْبَ الأَرْمَلَةِ يُسَرُّ [13]. كان الذين تحت ضغوط مدمرة يجدون نجدتهم فيه، فينجون، وتحل بركتهم عليه، إذ لا يكفون عن الدعاء له، وكانت قلوب الأرامل المنكسرة تُسر وتبتهج بأعمال محبته وحنوه. إن كان الله ينسب نفسه للمرذولين والمحتاجين ومنكسري القلوب بكونه أب اليتامى وقاضي الأرامل، فإن أيوب وجد مسرته في الاهتمام بكل هذه الفئات المتألمة. * كم قدَّر القديس أيوب سمو الموت، إذ قال: "لتحل بركة ذاك الذي اقترب إلى الموت عليّ" (أي 29: 13)... إن رأينا أي فقير في لحظة الموت، فلنعينه على نفقتنا. ليقل كل شخص: "لتحل بركة الشخص الذي قارب الموت عليّ". إن رأينا أحدًا في ضعف لا نتخلى عنه. إن رأينا أحدًا في آلامه الأخيرة، لا نتركه... ليت كل شخصٍ وهو يموت يمدحك؛ كل شخصٍ يموت عن شيخوخة أو مصابًا بجرحٍ خطير أو يعاني من مرضٍ، وهو في لحظة الموت. هذه العبارة جلبت بركة لكثيرين جدًا... لتكن آخر كلمات ينطق بها الشخص قبل موته هي أن يردد اسمك، وإذ تفارق نفسه جسده تحل بركته عليك. *إذا كان من واجبنا أن نقدم الرحمة للجميع، ألا يلزمنا بالأولى أن نقدمها لذاك الصالح (المؤمن الذي يعاني من السجن)؟! وإن لم ينل منك شيئًا وقت الخطر حين يُقاد للموت، فتظن أن أموالك أفضل من حياة الرجل الذي يموت، أية خطية ترتكبها! لذلك ينطق أيوب بقوله الرائع: "بركة ذاك الذي في طريقه للهلاك والموت فلتحل عليٌ" (أي 13:29) . القديس أمبروسيوس البابا غريغوريوس (الكبير) لَبِسْتُ الْبِرَّ فَكَسَانِي. كَجُبَّةٍ وَعَمَامَةٍ كَانَ عَدْلِي [14]. لم تكن تصرفاته الحانية -إذ لم يسمح لأحدٍ أن يُظلم أو يُهان، ولا لمحتاجٍ أن يُذلَّ- تمثل دورًا معينًا يلتزم به، بل كانت ثوبه الذي لم يخلعه. لقد حسب هذه الأعمال ليست أمرًا ثانويًا في حياته، بل هي أمر ضروري، بدونها يتعرى أمام الله نفسه، فيرجع إلى حال أبويه آدم وحواء، وهما يستظلان تحت التينة في خوفٍ ورعدةٍ، مع عريٍ وخزيٍ! حسب أعمال البٌر ليست هبة منه يمنحها للغير، بل عطية إلهية تكسوه بالمجد. إنها عمامة (إكليل) ملوكية! لم يكن يلبس تاج الملوكية للافتخار والكرامة، إنما كان تاجه هو العدالة والرحمة. لم تكن كرامته في الثوب الملوكي الأرجواني ولا التاج ولا الصولجان لكن كرامته ودفئه في ثوب البرّ وإكليل الحق. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب لبس البٌر كعباءة، أو كمن يرتدي ثوب القاضي. ليس من أحدٍ قام بتعيينه قاضيًا للناس، لكن حياته الفاضلة المقدسة دفعته لهذا العمل، وأخضعت الناس لقبول حكمه في القضايا برضا. كما أن حياة موسى الفاضلة هيأته للعمل القيادي، هكذا بالنسبة لأيوب، فإن ممارسته للعمل القضائي جاء طبيعيًا من حياته الفاضلة. * يقول: "لبست البٌر"، فإنه يوجد أشخاص لهم مكانة أعظم من غيرهم، لكنهم كثيرًا ما يمارسون الظلم. لم يكن هذا حال أيوب، إذ عاش على الدوام في طريق البرّ. "لبست البٌر مثل عباءة"، أي هو حلتي للتزين. البعض يستاءون من هذا العمل، يتذمرون ويشعرون أنه عمل مرهق وشاق، لكنني أنا لست هكذا... ومع هذا من أقامه كقاضٍ؟ هذا صادر عن شخصه، بسبب فضيلته، وذلك كموسى. هذا ما يليق أن يكون عليه الرجال. أما من يجحد الفضيلة، فيجعل عليه ولاة. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس القديس أغسطينوس هكذا نتطلع بعيني القلب إلى كل الاتجاهات، فنكون حريصين بكل اجتهاد في كل جانبٍ. لذلك بحقٍ قيل أيضًا بسليمان: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أم 23:4). فقبل التحفظ أضاف أولًا "كل". بالتأكيد يليق بكل أحدٍ أن يفحص نفسه باجتهادٍ من هذا الجانب وذاك الجانب. ومادام هو في هذه الحياة يعرف أنه موضوع في معركة يخوض فيها ضد أعداء روحيين، لئلا يفقد المكافأة التي ينالها خلال مجموعة معينة من الأعمال بمجموعة أخرى. لئلا من جانب يسد الباب في وجه العدو، لكنه يفتح بابًا له من جانب آخر. فإنه إن كانت مدينة ما بمتاريس واقية عظيمة ضد أعداء مخادعين، ومحصنة بأسوارٍ قوية، ويحميها حرس لا ينامون من كل جانب، لكن وُجدت فتحة وحيدة غير محصنة وذلك خلال الإهمال، فإن العدو بالتأكيد يدخل... فذاك الفريسي الذي صعد إلى الهيكل ليصلي، لنسمع كيف كان لمدينة نفسه حصون، إذ يقول: "أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه". ذاك الذي يقول: "أشكرك" بالتأكيد وضع حصونًا غير عادية. ولكن لننظر أين ترك فتحة بلا دفاع تجاه خطط العدو. "إني لست مثل هذا العشار" (لو 11:18-12). ها أنتم ترون كيف فتح مدينة قلبه لخطط العدو خلال مديحه لنفسه، المدينة التي عبثًا أحكم إغلاقها بالصوم والصدقة. البابا غريغوريوس (الكبير) كُنْتُ عُيُونًا لِلْعُمْي،ِ وَأَرْجُلًا لِلْعُرْجِ [15]. وهبه الله أن يكون عيونًا للعميان، حيث يقدم مشورة الصالحة لمن هم في حيرةٍ. وكان أرجلًا للعرج، حيث لا يقف الأمر عند تقديم النصيحة، بل بالحب يحل الكل ليكون أرجلًا تقود العرج في طريق الحق، فيبلغ بهم عمليًا إلى الحياة المتهللة في الرب. * "كنت عيونًا للعمي وأرجلًا للعرج" [15]. لم يقل قد خففت من أحزانهم، ولا كتمت شعورهم بالعمى، بل "كنت عيونهم"... في كل موضع حولت لهم الظلمة إلى نورٍ. القديس يوحنا الذهبي الفم * بالكرازة تنير الكنيسة العميان، بينما تسند العرج بمعونتها لهم. فإن الأعمى هو ذاك الذي لا يرى إلى أين هو ذاهب، والأعرج هو ذاك الذي ليس له القدرة أن يذهب إلى الموضع الذي يراه. غالبًا ما تُرتكب الخطية، إما بالجهل (العمي) أو الضعف (العرج)؛ فإما لا يعرف الإنسان ما يلزم أن يشتهيه، أو لا يقدر أن يفعل كل ما يشتهيه. البابا غريغوريوس (الكبير) أَبٌ أَنَا لِلْفُقَرَاءِ، وَدَعْوَى لَمْ أَعْرِفْهَا فَحَصْتُ عَنْهَا [16]. لم يكن مدافعًا عن الفقراء وسخيًا معهم فحسب، وإنما قدم أبوة صادقة، فلم يستنكف كملكٍ أن يدعو نفسه أبًا للفقراء. إذا قُدمت له قضية لا يتسرع في الحكم، بل يهتم بالاستماع إلى كل الأطراف، وفحص كل الجوانب بدقةٍ، فلا يجيب على أمرٍ قبل أن يسمعه (أم 13:18)، ولا يصدر الحكم لأول وهله لمجرد المنظر. "الأول في دعواه محق، فيأتي رفيقه ويفحصه" (أم 17:18). خلال أبوة أيوب الحانية لم يكن يهتم فقط بمن يسأله أن ينقذه من الظلم، وإنما يهتم أيضًا بمن لا يسأله. يجد لذته في البحث عن النفوس المحطمة لإنقاذها، فيفحص الدعاوى التي لم تُقدم له ولا عرفها. ربما يتساءل شخص ما: إن كنا نود أن نحمل نوعًا من الحنو أو الأبوة نحو الآخرين فهل نهتم بأمورهم الجسدية، بينما طلب السيد المسيح ممن دعاه للعمل معه أن يترك الموتى يدفنون موتاهم، ويتفرغ هو للخدمة الروحية (لو 60:9). يجيب البابا غريغوريوس (الكبير)على هذا التساؤل قائلًا: [فوق كل شيء يلزم على الذين يشرقون بالمواهب الروحية ألا يتجاهلوا تمامًا شئون إخوتهم الضعفاء، بل يلزمهم أن يعهدوا بهذا الأمر إلى آخرين لكي يديره من يناسبهم ذلك.] * حقًا، طوبى لذاك الذي لا يُخرج المسكين من بيته فارغ اليدين. ليس من هو أكثر طوباوية من ذاك الذي يشعر باحتياجات الفقراء وضيقات الضعفاء والعاجزين. ففي يوم الدينونة ينال الخلاص من الرب، الذي يحسب نفسه مدينًا له من أجل أعمال الرحمة التي أظهرها. القديس أمبروسيوس القديس يوحنا الذهبي الفم لقد أعلنت العطية النبوية في أكثر وضوح أننا لا ندعوه أبًا حسب الطبيعة، بل بعمل نعمة الله بالتبني. ولكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى "أبًا" من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟ "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 15:4). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح. اسمع أيضًا أيوب: "أب أنا للفقراء". لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم. القديس كيرلس الأورشليمي هَشَّمْتُ أَضْرَاسَ الظَّالِمِ، وَمِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ خَطَفْتُ الْفَرِيسَةَ [17]. قدرما قدم أبوة حانية للفقراء، لم يخشَ عنف الأشرار الظالمين المتكبرين. "هشمت أضراس الظالم". لم يقل أنه ينتقم منهم أو يقتلهم، لكنه يهشم قوى الشر والعنف، وينزع الفريسة من بين أسنانهم، ويخلصها بشجاعة، كما أنقذ داود الشاه من فم الأسد. * "أهشم أضراس الظالم". هذا ما يوصي به الرسول: "ليت من يحكم يعمل باجتهاد" (أنظر رو 8:12). "ومن بين أسنانه خطفت الفريسةٍ". لاحظوا صعوبة العمل. هؤلاء الذين بالفعل قد اُفترسوا وأُمسكوا، فإنه يقوم بإصلاح أمورهم... لاحظوا أيضًا أن فضيلته لا تُقارن في كل الأحوال. إن استدعى الأمر يعاقب، وإن استدعى الأمر يسند الآخرين. القديس يوحنا الذهبي الفم يظهر بالأضراس الخطط الخفية (لإبليس)، ويظهر بالأسنان ممارسة الخطية علنًا. قال المرتل عن هذه الأضراس والأسنان: "اللهم كسٌر أسنانهم في أفواههم. أهشم أضراس الأشبال يا رب" (مز 6:58). البابا غريغوريوس (الكبير) الأبثيوناس فَقُلْتُ: إِنِّي فِي وَكْرِي أُسَلِّمُ الرُّوحَ، وَمِثْلَ السَّمَنْدَلِ أُكَثِّرُ أَيَّامًا [18]. حسب أيوب نفسه في وكرٍ، يهرب إليه حيث يقيم فيه مطمئنًا، أو عشًا يستقر فيه كما في قمة شجرة مطمئنًا من أية مخاطر تلحق به حتى تأتي لحظة تسليم روحه. كان يظن أنه يقضي كل أيامه في سلامٍ بعيدًا عن أية عواصف تقدر أن تحطم وكره أو تزعزع عشه. العجيب أن أيوب يتطلع إلى حياته بكونها كالرمل (السمندل) الذي على شاطئ البحر، وكأنه كان يظن أن عمره يطول جدًا، ولم يدرك أنه كحبات الرمل التي تتساقط من الساعة الرملية، وتنفذ في وقت قصير. * "وكنت أقول إني سأموت في عُشٌي، وكالنخلة أزداد أيامًا(1191)" [18]... يليق تشبيه حياة البار بالنخلة، وذلك لأن النخلة من تحت خشنة في ملمسها، وبطريقةٍ ما هي مغلفة باللحاء الجافة، ومن فوق تحمل ثمارًا. من تحت مضغوطة بلحائها المنبسط، ومن فوق منبسطة بخضرةٍ عظيمةٍ. هكذا هي حياة المختارين، مُحتقرة من أسفل، وجميلة في الأعالي... البابا غريغوريوس (الكبير) أَصْلِي كَانَ مُنْبَسِطًا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالطَّلُّ بَاتَ عَلَى أَغْصَانِي [19]. كان أيوب يعتبر نفسه أشبه بشجرةٍ مغروسةٍ على مجاري المياه، ترتوي على الدوام، مما يجعلها مثمرة ومزدهرة حيث لا تذبل قط. "الطل باتٍ على أغصانه"، إن كان أيوب مغروسًا كشجرةٍ يتمتع بدسم الأرض، فإنه يستقبل البركات السماوية كطلٍ. إنه موضع سرور الله الذي يرعاه. * "جذوري منفتحة على المياه" [19]، وذلك عندما ينتشر فكر العقل سريًا لقبول مجاري الحق. في الكتاب المقدس، تشير الجذور إلى الفكر الخفي. لذلك نحن نفتح جذورنا على المياه، عندما نبسط فكر قلبنا الخفي إلى المياه الداخلية... يقول المرتل: "يكون كالشجرة المغروسة على مجاري المياه" (مز 3:1)... "والطل بات على محصولي"... يسقط الطل من فوق، ولكن المحصول يُجمع من تحت. هكذا يستقر الطل على المحصول، لأن النعمة النازلة من العلا تجعلنا أشخاصًا يليق بنا أن نُجمع في العالم من أسفل. بذات النعمة التي تروينا من أعلى نحمل ثمر العمل الصالح. هكذا بحقٍ يقول بولس: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة" (1 كو 10:15)... إذ نتطلع إلى المحصول ناميًا تحت الطل، نسمعه يقول: "نعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر من جميعهم" (1 كو 10:15). البابا غريغوريوس (الكبير) كَرَامَتِي بَقِيَتْ حَدِيثَةً عِنْدِي، وَقَوْسِي تَجَدَّدَتْ فِي يَدِي [20]. مع كل يومٍ جديدٍ يحمل فكرًا جديدًا في حياة البرّ، إذ كان يهوى الحب والحنو، لهذا لم تشخ كرامته. يقول: "كرامتي بقيت حديثة عندي"، لن تذبل قط. لا يمل من الجهاد بكل قوته من أجل المظلومين، إذ يقول: "قوسي تجددت في يدي". *"مجدي بقي حديثًا عندي، وقوسي تجددت في يدي" [20]... كل الذين يعرفون ما هو حق، يدركون أن القِدَمْ (الشيخوخة) عادة هو من سمات الشر، وأما الجدة فمن سمات الفضيلة. لذلك يقول بولس: "إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم (الإنسان) الجديد" (كو 9:3)... فبالنسبة لغيرتنا (حماسنا)، عندما نكون بين أعدائنا الروحيين أو بين أقربائنا الجسديين المتنوعين، إلى حد ما ونُستغرق في عاداتهم فنشيخ، ونلوث شكل جدتنا الذي نلناه بالصلاة والقراءة وبالحياة الصالحة، وبالآلام الجادة، والسهر اليومي، فإننا في شيخوختنا نتجدد وننتعش. إذن، إذ تغتسل حياتنا بالدموع، وتمارس الأعمال الصالحة، وتمتلئ بالتأملات المقدسة تستعيد تجديدها بلا توقف... يشير "القوس" في الأسفار المقدسة أحيانًا إلى خطط الأشرار بقوله: فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَمًا مُرًّا" (مز 3:64). وأشار ذات المرتل إلى يوم الدينونة: "أريت شعبك عُسرًا، سقيتنا خمر الترنح. أعطيت خائفيك راية تُرفع لأجل الحق، لكي يهربوا من أمام القوس" (مز 4:60)... أحيانًا يُستخدم القوس في الكتاب المقدس لأمورٍ حسنةٍ. هذا عن قوس الكنيسة، وذاك عن قوس الرب الذي منه تصدر السهام - الكلمات المرعبة - إلى قلوب البشر. بحقٍ قال المرتل: "مٌد قوسه وهيأها، وسدَد نحوه آلة الموت، يجعل سهامه ملتهبة" (مز 12:7-13)... فالقوس في إلىٌد هو الكتاب المقدس في العمل. فهو يمسك بقوسٍ في يده، من يمارس عمليًا الإعلانات الإلهية التي تعلمها بفهمٍ. هكذا فإن "القوس يتجدد في اليد"، وذلك بأن كل ما نتعلمه بخصوص الإعلان المقدس بالدراسة يتحقق بممارسته عمليًا... يخبرنا الطوباوي داود عن ظروفه، ويسبق فيخبرنا عن ظروفنا، وبينما يشير إلى أحزانه، على قدم المساواة يتحدث عما يخص الكنيسة المقدسة وظروفها بذات المعنى. البابا غريغوريوس (الكبير) لِي سَمِعُوا وَانْتَظَرُوا، وَأنَصَتُوا عِنْدَ مَشُورَتِي [21]. إذ امتزجت أبوته للفقراء بشجاعته وصراعه من أجل المظلومين بحكمةٍ ووقارٍ، صار صاحب المشورة الأول، متى تكلم، يصمت الكل منصتين إليه، عالمين أنه لا يعيبه شيء، ولا ينقصه شيء. * "الذين سمعوا لي انتظروا حكمي، والذين أنصتوا صمتوا عند مشورتي"... إننا نفتقد هذا الوقار الذي يقدمه الذين تحته؛ إنه موجه نحو الطوباوي أيوب. أيضًا الكنيسة المقدسة التي تعاني الأمرين من الهراطقة أو من الجسدانيين، تتذكر الأيام السابقة أيضًا، حين كان كل الذين تتكلم معهم من المؤمنين يصغون إليها بمخافة. إنها ترثي جسارة المقاومين لها، فتقول: "الذين سمعوا لي انتظروا حكمي، والذين أنصتوا صمتوا عند مشورتي". البابا غريغوريوس (الكبير) بَعْدَ كَلاَمِي لَمْ يُثَنُّوا، وَقَوْلِي قَطَرَ عَلَيْهِمْ [22]. متى تكلم شعر الكل أنه لا حاجه بعد إلى البحث في الأمر، فقد امتاز أيوب بدقة بحثه للأمور. لهذا لم يكن يوجد من يثني بعد كلامه أو يزيد عليه شيئًا. يعلق البابا غريغوريوس (الكبير)على قول الطوباوي أيوب: "وعلى كلامي لا يزيدون"، بالقول إن المؤمنين لم يجسروا أن يضيفوا من عندهم شيئًا إلى كلمات الكنيسة المقدسة، كما فعل الهراطقة الذين تجاسروا وأضافوا شيئًا إلى كلماتها، وكأنهم يشغلون أنفسهم ليصححوا استقامة تعاليم الكنيسة وكرازتها. وَانْتَظَرُونِي مِثْلَ الْمَطَرِ، وَفَغَرُوا أَفْوَاهَهُمْ كَمَا لِلْمَطَرِ الْمُتَأَخِّرِ [23]. كان الكل أشبه بقفرٍ محتاجٍ إلى مطرٍ يهطل من شفتي أيوب، فتتحول بريتهم إلى جنةٍ مثمرةٍ. إنهم أرض عطشى للمطر. يدرك الكل قيمة الحكمة الخارجة من فمه، ينتظرونها ويشربونها لتثمر في داخلهم كما في سلوكهم الظاهر. * "وانتظروني مثل المطر، وفغروا أفواههم كما المطر المتأخر" [23]. إننا نخضع لكلمات الكرازة المقدسة كالمطر، وذلك عندما ندرك بالتواضع الحقيقي جفاف قلوبنا، ونشتهي أن نستقي بجرعات الكرازة المقدسة. بحقٍ قيل لله بواسطة المرتل: "عطشت نفسي إليك كأرضٍ ناشفةٍ" (مز 6:143). يوصينا النبي أن نرتوي بمجاري التعليم، قائلًا: "أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه" (إش 1:55). البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ ضَحِكْتُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُصَدِّقُوا، وَنُورَ وَجْهِي لَمْ يُعَبِّسُوا [24]. متى ابتسم لأحدٍ يكون الشخص في سعادة فائقة، حتى يظن أنه كما في حلمٍ. فالكل يطلب رضاه ومسرته، إذ يرفع الكلفة، فيبتسم ويضحك. كان يهب من هم حوله جوًا من الود والفرح. لا يسيء الحاضرون بساطته، ولا يقللون من احترامهم له، بل يتطلعون إلى بهاء وجه بتهليلٍ بغير عبوسة. * "إن ضحكت عليهم لم يصدقوا، ونور وجهي لم يسقط أرضًا" [24]. إن فهمنا هذا خلال التفسير التاريخي يليق بنا أن نتصور أن الإنسان القديس يُظهر نفسه بطريقة ما للذين هم تحته، أنه حتى في ضحكه قادر أن يكون مهوبًا. لقد روى أنه كان أبًا للمساكين، ومعزيًا للأرامل. هذا الأمر يحتاج إلى تمييز عظيم، كيف أنه مع حزمه هذا في العمل يظهر أيضًا لطفًا عظيمًا هكذا وعطفًا حانيًا فيه... هكذا يليق بنا أن نتعلم هنا أن يضبط الإنسان نفسه في علاقته بالآخرين بالمقياس التالي: أنه وهو يضحك يليق أن يكون وقورًا، وحين يغضب يليق أن يكون محبوبًا. في مرحه الزائد لا يكون تافهًا، ولا يكون غضبه بلا حدود فيجعله مكروهًا. كثيرًا ما نحطم الذين تحت رعايتنا عندما نبالغ في حفظ العدالة بما يتعداها. فلا يكون ذلك عدالة. إنها لا تحفظ ذاتها تحت مثل هذا الانضباط المبالغ فيه... لننظر كيف أن بولس يحمل ابتسامة خلال النعمة التي من الأعالي... حتى في وسط مخاوفه وضيقاته... لقد نُقل إلى السماء الثالثة التي فوقه، وحُمل إلى الفردوس حيث سمع كلمات سرائرية لا يُخبر عنها (2 كو 2:12). ومع هذا بقي خائفًا، إذ يقول: "بل أقمع جسدي وأستعبده، حتى بعدما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 27:9). ها أنتم ترون كيف إذ تبتسم له النعمة الإلهية يمتلئ باليقين والرجاء، ومع هذا لا يثق في الاعتماد على ذاته. البابا غريغوريوس (الكبير) كُنْتُ أَخْتَارُ طَرِيقَهُمْ، وَأَجْلِسُ رَأْسًا، وَأَسْكُنُ كَمَلِكٍ فِي جَيْشٍ، كَمَنْ يُعَزِّي النَّائِحِينَ [25]. في بساطة يبتسم بوقارٍ لكي يسكب على الحاضرين روح البشاشة، وفي نفس الوقت لا يتخلىٌ عن قيادة سفينة حياتهم، فهو ربان السفينة. "كنت أختار طريقهم، وأجلس رأسًا". ابتسامته لا تنزع مهابته كملكٍ وقائدٍ معركةٍ: "وأسكن كملكٍ في جيشٍ". متى أصدر أمرًا أطاعه الكل كما يطيع الجنود قائد الجيش. يقول لهذا أذهب فيذهب، ولذاك أن يأتي فيأتي، ولعبده أفعل هذا فيفعل" (مت 9:8). قيادته لا تسبب ضيقًا وتبرمًا، فهو لا يهوى السلطة، إنما يقود ليعزي النائحين برقة قلبه وتعضيده للجميع في الحق الممتزج بالحب. * "أختار طريقهم، فأجلس رأسًا (رئيسًا)" [25]. في قلوب الخطاة الهالكين تحتل أعمال الجسد مركز الصدارة، وأعمال النفس المركز التالي. بالتأكيد في أفكارهم لا يجلس المسيح في الصدارة، بل يحتل المركز الأخير. أما المختار فيهتم بالأمور الأبدية فوق كل شيءٍ. إن كان هناك أمر زمني، فيدبره كأمرٍ ثانويٍ، ويحتل اهتمامًا أقل. يقول صوت الحق: "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم" (مت 33:6)... "حين جلست كملكٍ يحوط حولي جيش، لكنني كنت معزيًا للنائحين". يجلس الرب كملكٍ في القلب، إذ يحكم عواطف القلب الصاخبة في أفكارنا. فإنه في النفس التي يسكن فيها يهب حماسًا للخاملين، ويضبط القلقين، ويلهب الباردين، ويلطف من الملتهبين، ويلين القساة، ويربط المنحلين، حتى بهذا التنوع من الأفكار يحيط به نوع من الجيش. أو بالتأكيد يجلس كملكٍ يحوط حوله جيش، لأن ذاك الملك يحكم على عقول المختارين وسط طغمة من الفضائل. هو أيضًا "المعزي للنائحين"، خلال الوعد الذي قدمه، قائلًا: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 4:5). مرة أخرى: "ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 22:16)... تتعزى أيضًا قلوب الحزانى بواسطة الكنيسة المقدسة، إذ ترشد نفوس المختارين. إنها تتثقل بويلات الرحلة الحاضرة، وتبهجهم بالوعد بالمدينة الأبدية... تمزج الكنيسة المقدسة الرجاء والخوف معًا للمؤمنين بها، فيتلامسون مع حنو المخلص وعدله في خدمتها المستمرة. تفعل هذا لكي لا يعتمدوا على الرحمة خلال الرخاوة، ولا أن يفقدوا الرجاء بالرعبٍ من العدالة. فهي تُبهج الذين يُحذرون بكلمات رأسها، قائلة: "لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت" (لو 32:12). كذلك تحذر المتجاسرين: "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" (مر 38:14). وتبهج الذين في رعبٍ، قائلة: "افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات" (لو 20:10). أما الذين يعتدون بذواتهم فترعبهم، قائلة: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق". تبهج الذين في رعبٍ، قائلة: "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 27:10-28)... * يمتزج الحنو بالقسوة (الحزم)... هذا بالحقيقة يظهر في تابوت العهد، حيث يُوجد فيه العصا والمن معًا بجانب لوحي الشريعة، هناك حيث توجد معرفة الكتاب المقدس في صدر الحاكم الصالح، مع عصا القسوة (الحزم)، فليوجد مّنْ العذوبة. هكذا يقول داود: "عصاك وعكازك يعزيانني" (مز 4:23). البابا غريغوريوس (الكبير) فإن كنَّا من أجل الشفاء الجسداني نقبل أدوية مرَّة كريهة، ونخاطر بقطع الأعضاء وكيّ النار، ونحن في ذلك نشكر الأطباء والجرَّاحين المعتنين بنا رغم العلاجات المؤلمة، فكم بالحري يدعونا الصواب إلى أن نفعل هذا من أجل خلاص نفوسنا، ولو كان علاج هو النصح والتوبيخ مرًا؟! القديس باسيليوس الكبير القديس أغسطينوس القديس يوحنا الدرجي رعايتك ليّ موضوع تسبيحي! * أتطلع إلى الماضي، فألمس يدك التي حفظتني. إن وُجد فيَّ صلاح، فهو من غنى نعمتك عليّ! * حسبتني كمنارةٍ فأضاء سراجك على رأسي. أنت هو النور الحقيقي. كلمتك هي سراج لرجلي، ونور لفكري. أقمتني كمنارة لأحمل نورك. أشهد لرعايتك فتجتذب الكثيرين بيّ إليك. * لقد باركت طبيعتي فيك، يا من تجسدت لأجلي. لأقف في دهشة أمام حبك، يا من تجالسني في خيمتي. * أقف وسط أسرتي، فأراك حالًا تباركنا. كم تشتهي نفسي أن أقف مع كل البشرية، وأراك تتجلى بحبك ورعايتك في وسط الجميع! * برعايتك تهبنا كل شيء بفيضٍ، ففي وجودك معنا لا ينقصنا شيء. تُنقينا وتُغسلنا كما باللبن، وتُفيض بجداول زيت من الصخور! * أشبع بك، فأشتهي خدمة الكل! لا أطلب ما لنفسي، ولا ما لكرامتي، بل ما هو لمحبوبيك! * رعايتك للكنيسة فائقة! تهبها حكمتك، فتنطق بكلماتك، وتحمل فكرك العجيب! تقضي بين البشر، لا كمن يدين، بل كمن يسند ويترفق. تهبها كرامة، لا لكي تتشامخ، بل لكي تنحني وتغسل الأقدام. * في رعايتك تسمح حتى للهراطقة بكمال حريتهم. يضايقون كنيستك، لكنها وسط الضيق تتمتع بالتطويب السماوي. ووسط المقاومة تجتذب كثيرين إلى سماواتك! أنت هو الصالح الذي يخرج من الآكل أكلًا، وتقيم من الشرور ما هو لبنيان الكثيرين. * بسطت ذراعيك لي أنا اليتيم! وصار لي الآب أبًا ليّ، فتحول يُتمي بالبنوة العملية الفائقة. هب لي أن أترفق بكل يتيمٍ، متى أرى كل البشرية تتمتع بالبنوة العملية لله؟! * متى نرد النفوس التي تيتمت إلى أبيها السماوي، فننعم ببركاتها علينا. * هب لي أن أستتر ببرك، فلا أكف عن العطاء. هب لي أن أتزين بتاجك: أي بالبرّ والرحمة! برَّك صار موضوع عذوبتي، أقتنيه، فأترفق بكل بشرٍ! ليأخذ العالم ثوبه مني، كما فعلت السيدة المصرية مع يوسف البار، لكن لا تسمح لإبليس أن ينزع ثوبك الذي وهبتني! ليس من حقه أن يغتصبه مادمت أعتز به! * هب لبرّك أن يستر كل كياني، ولا يكون لعدو الخير منفذ إلى أعماقي! لن يجد فيَّ ثغرة مادمت محفوظًا ببرِّك. * هب لي بنعمتك أن أصير عيونًا للعميان. تنيرني، وتقيم مني نورًا للغير. تنزع ظلمتي، وبك أسند الجالسين في الظلمة. * هب لي روح الأبوة الحانية، يا أب كل البشرية. فأترفق بالكل، واهتم إن أمكن بالجميع! * هب لي نعمتك من فوق كالطل، ولتروي حياتي على الأرض بمياه روحك القدوس. فيتجدد مثل النسر شبابي الروحي، فلا تشيخ نفسي بروح العجز والضعف. * هب لي يا رب أن أسلك بالروح. إن فرحت وضحكت أحمل روح الحزم. وإن صرت حازمًا أحمل روح الحنو. يتكامل مرحي مع حزمي. ويتكامل حزمي مع حنوي! * هب لي روح البشاشة، فأكون بك مصدر فرحٍ. وفي بشاشتي لن أتراخي عن العمل بجدية. هب لي روح القيادة غير المتعجرفة، فأعمل لا بروح التسلط، بل بروح الأبوة! أعضد الجميع، ليحملوا روح القيادة الجادة! |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 27 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() مرثاة مُرة بعد أن استعرض حال رخائه الماضي، وأيضًا مخافته للرب وحيدانه عن الشر، سرعان ما رجع إلى ما هو عليه وسط المزبلة والرماد، وكيف حملته عاصفة الله إلى أرض الدمار. حقًا لقد سند أيوب المظلومين والمحتاجين، لكنه حتمًا أدان مجرمين ظالمين. ولعلهم تسللوا ليلًا ليروا في المزبلة ذاك الذي سبق فحكم عليهم. كل ما حلّ به دعاه لكتابة مرثاة مرة. إذ لم يعد بعد يستعذب الموسيقى، بل صار النحيب والعويل أغنيته المستمرة. 1. استخفاف الناس به وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ضَحِكَ عَلَيَّ أَصْاغُرُي أَيَّامًا، الَّذِينَ كُنْتُ أَسْتَنْكِفُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي [1]. عاش أيوب حياته بالكمال والاستقامة، يتقي الله، ويُحيد عن الشر (أي 1:1)، وقد شهد الله نفسه عنه: "ليس مثله في الأرض" (أي 1: 8). ولعله كان يتوقع في شيخوخته أن يخدم الآخرين خلال خبرته الطويلة، لكنه فوجئ بأنه عوض أن يخدم صار أضحوكة وعثرة لمن هم حوله، حتى بالنسبة للأشرار. شعر كأن كل ما قد مارسه منذ صبوته حتى شيخوخته عبر كبخارٍ بلا نفع، وليس من سببٍ أمامه يبرر ما بلغ إليه. كاد أن يتحطم تمامًا نفسيًا بجانب تحطمه جسديًا واجتماعيًا وماديًا. هذا ما دفعه إلى وضع مرثاة مُرَّة. بقوله "أصاغري" لا يقصد فقط من هو أصغر منه في العمر، وإنما أيضًا من هُم أقل منه في المعرفة والحكمة والخبرة والمركز الاجتماعي والسلوك. في هذا لا يعني أصدقاءه الثلاثة وحدهم، وإنما كل من جاءوا ولو من بعيدٍ، لا ليواسوه أو يصلوا لأجله، وإنما ليستخفوا به ويسخروا منه. إذ كان يُنظر إلى الكلاب في ذلك الحين أنها نجسة (1 صم 17: 43، أم 26: 11)، فقد حسب أيوب أن كلاب غنمه أطهر من آبائهم. لقد أهانوه في شيخوخته وبلا سبب، مع أنه يُحسب تكريم الشيوخ مُقدم لله ذاته. يطالبنا الكتاب المقدّس أن نحترم الشيوخ، على أنه يليق بالشيوخ أن يضعوا في اعتبارهم أن الشيبة الحقيقية ليست في كبر السن، بل في الحكمة والنضوج. وقد جاءت الوصيَّة: "من أمام الأشيب تقوم، وتحترم وجه الشيخ، وتخشى إلهك، أنا الرب" (لا 19: 32). "يا بني أعنْ أباك في شيخوخته، ولا تحزنه في حياته" (سيراخ 3: 14). "لا تهن أحدًا في شيخوخته، فإن الذين يشيخون هم منا" (سيراخ 8: 7). لا ندهش من المرارة التي عانى منها أيوب البار، فقد عانى أتقياء الله من كثيرين. كمثالٍ عانى بولس من مرارة الضيق حتى كاد ييأس من حياته، كقوله: "تثقلنا جدًا فوق الطاقة حتى يئسنا من الحياة أيضًا، ولكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يُقيم من الأموات، الذي نجانا من موتٍ مثل هذا، وهو ينجي؛ الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضًا فيما بعد" (2 كو 1: 8-10). * كان بولس متوقعًا الموت، لكن لم يحدث هذا. فبحسب مجرى الأحداث الطبيعة كان يجب أن يموت، لكن الله لم يسمح بعد بذلك حتى يتعلم بولس ألا يثق في ذاته، بل في الله. القديس يوحنا الذهبي الفم سفيريان أسقف جبالة قُوَّةُ أَيْدِيهِمْ أَيْضًا مَا هِيَ لِي. فِيهِمْ عَجِزَتِ الشَّيْخُوخَةُ [2]. في مرارة يتطلع أيوب إلى القادمين إليه، يستهزئون به في شيخوخته. ففي شبابه كان يسند أمثالهم ويعينهم ويخدمهم بحبٍ. الآن قادمون إليه في شيخوخته وهم بلا قوة ولا إمكانية ومع هذا يحسبون أنهم جاءوا لمساندته. للأسف حتى في حضورهم قدموا له ما يحطمه، لا ما يعينه. ولعلهم بجانب فقرهم وعدم حكمتهم كانوا شيوخًا عاجزين عن العمل، فلا نفع لمجيئهم إليه. غير أن البعض يرون أنه يتحدث عن الشباب الساخرين به، فإن كان آباؤهم الشيوخ لم يأخذوا موقفًا لائقًا لتعزيته، فهل يمكن لأبنائهم أن يعزوه بكلمة لطيفة تسنده؟ آباؤهم الشيوخ كانوا قساة معه، كيّلوا له الاتهامات الباطلة، فهل يقدم أبناؤهم تعزيات؟ هل يمدون له أياديهم ليشددوه في محنته؟ فِي الْعَوَزِ والمحل (وَالْمَجَاعَةِ) مَهْزُولُونَ، عارقونَ الْيَابِسَةَ الَّتِي هِيَ مُنْذُ أَمْسِ خَرَابٌ وَخَرِبَةٌ [3]. يصور لنا أيوب حال الملتفين حوله لا لتعزيته، بل للسخرية به. إنهم يعانون من الفقر والجوع حتى صاروا في هزالٍ شديدٍ، كأشجار جافة لا حياة فيها ولا ثمر. إنهم أناس لا دور لهم في الحياة، لفظهم المجتمع بسبب استهتارهم الشديد وعدم التزامهم بأي عمل، فصاروا كهاربين في البرية حيث الخراب والدمار. وكأنهم قد وجدوا فرصتهم بأن يعكسوا ما هم عليه في داخلهم على أيوب. هذا ما تفعله الكراهية فيهم، تجعلهم في عوزٍ وجوعٍ وخرابٍ، بل تدخل بهم إلى الموت وهم أحياء حسب الجسد. * حياتنا حب؛ فإن كانت الحياة حب، فالموت هو الكراهية. القديس أغسطينوس الَّذِينَ يَقْطِفُونَ الْمَلاَّحَ عِنْدَ الشِّيحِ، وَأُصُولُ الرَّتَمِ خُبْزُهُمْ [4]. يصور البار أيوب المقاومين له بأناس لا يجدون ما يأكلونه، فيلجأون إلى الملاح وهو نبات حمضي يجمعه الفقراء من بين الأعشاب bushes (كالشيح) لأكله؛ والرتم وهي أشجار زهورها كالمنتور وبذورها كالعدس. يرى بعض أن الرتم هنا يشير إلى جذور مرة يأكلها الفقراء. أمثال هؤلاء الذين كان أيوب يطعمهم، ويقدم لهم احتياجاتهم بسخاء، جاءوا إليه في شماتة لِما بلغ إليه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) الذي تأثر جدًا بآباء الشرق خاصة كتابات آباء مدرسة إسكندرية والكبادوك أن هؤلاء الفقراء الجائعين هم الذين يكتفون بلحاء الشجر لا ثمارها. يكتفون بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس دون التمتع بثمار الروح المشبعة للنفس. * "الذين ينزعجون من الخراب والبؤس ويمضغون الأعشاب ولحاء الأشجار" [3-4]... يجذب المعلمون الكذبة أتباعهم إلى ذات القفر، كما سبق فحذرنا الحق: "فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا" (مت 26:24). وهم جديرون بالازدراء بخراب ممارستهم وشر مفاهيمهم... يشير "أكل العشب" في الكتاب المقدس إلى الاهتمام بأصغر الوصايا وإهمال الكبرى منها. يقول الحق: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تعشرون النعنع والشبت والكمون، وتركتم أثقل الناموس (الحق والرحمة والإيمان)" (مت 23:23). هؤلاء أيضًا يأكلون لحاء الأشجار، لأنهم يهتمون في الأسفار المقدسة بما هو في الخارج، أي الحرف، ولا يبالون بالمعنى الروحي. يظنون أنه لا يوجد شيء آخر في كلمات الله سوى ما هو على السطح. لذلك يتملكهم هوى المجد الباطل، ومع كل أخطائهم يعطشون نحو الكرامة التي تأسرهم. لا يطلبون شيئًا في كل ما يقولونه سوى المكاسب الأرضية. في هذا يقول بولس: "لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح، بل بطونهم" (رو 18:16). البابا غريغوريوس (الكبير) * إن كان الله والرب روحًا، فلا بُد أن نسمع بطريقة روحية ما يقوله الروح لنا. العلامة أوريجينوس القديس كيرلس الكبير مِنَ الْوَسَطِ يُطْرَدُونَ. يَصِيحُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَى لِصٍّ [5]. يُدهش أيوب البار إذ يرى حوله أناسًا عاطلين، طردهم المجتمع من وسط الناس، فهربوا من المدن مثل لصوص. لقد حسبهم الناس أنهم ليسوا أهلًا أن يعيشوا وسط مجتمع متمدنٍ ومنظمٍ، فكانوا يصرخون وراءهم معلنين أنهم لصوص. هؤلاء عوض مراجعتهم لأنفسهم ولأخطائهم جاءوا يسخرون بأيوب. لِلسَّكَنِ فِي أَوْدِيَةٍ مُرْعِبَةٍ وَثُقَبِ التُّرَابِ وَالصُّخُورِ [6]. إذ كان أيوب حاكمًا وقاضيًا كان ينظر مع شيوخ المدينة في القضايا الكبرى مثل التصرف مع المتشردين الخطيرين على الأمن. فكان البعض منهم يهربون من المدينة ويبحثون عن مغاير في وسط وديان غير آهلة بالسكان وجبال، يعيشون فيها بعيدًا عن نظر القضاء. الآن إذ سمعوا عن أيوب وكيف صار حاله، ظنوا أنه قد صار متشردًا مثلهم، لا مأوى له، وليس من يقبله أو يعزيه، فجاءوا يسخرون منه كأبأس واحدٍ منهم. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) وغيره أنهم يمثلون من ليس لهم موضع في مدينة الله، يسكنون كما في البراري وبين الصخور في مغاير، في مناطق مرعبة. ما يشغلهم لا رجوعهم إلى الله بل السخرية برجال الله وقديسيه. اختاروا لأنفسهم البؤس والكآبة والعزلة والمرارة، وما يفكرون فيه هو التشفي في الأبرار المتألمين. فما يبهج قلوبهم ليس أن يتمتعوا بالخيرات، بل أن يُصاب غيرهم بالشرور والمصائب. هذا من فعل روح العداوة مع البغضة والحقد. ما يشغل ذهن الحاقد هو دمار إخوته لا بنيانه هو. من يعزل نفسه عن كنيسة السيد المسيح يكون كمن حرم نفسه من الفردوس الروحي ليعيش في وسط قفر البراري، فلا يقدر أن يشترك في النشيد الكنسي: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16)؛ حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب ليرعى في الجنات، ويجمع السوسن" (نش 6: 2). * "ليأت حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمرة النفيس" (نش 16:4). إنه لتعبير جرئ من نفس ممتلئة حماسًا وروعة ترتفع على كل تعجب. من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟ لمن تُجهز العروس وليمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟ من تدعوه العروس لكي يأكل مما عرضته؟ "هو الذي منه وبه وله كل الأشياء" (رو 36:11). إنه يعطي كل شخصٍ طعامه في حينه (مز 15:145)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم. هو الخبز النازل من السماء (يو 41:6)، هو الذي يعطي الحياة للعالم، ويجعل المياه تفيض من نبعه الخاص للحياة. هذا هو الواحد الذي ترتب العروس له مائدتها. وهي الحديقة التي تنبت منها أشجار حيّة. ترمز الأشجار إلينا، وتُشير أرواحنا المُخلّصة إلى الطعام المُقدم له. وقال لتلاميذه: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 32:4، 34). تتميم إرادة الله المقدسة: "فهو يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 4:2). فهذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تُعطي إرادتنا الحرة الثمرة لله وهي أرواحنا، ليقطفها من على أغصانها الصغيرة. تمتعت العروس في البداية بثمرة التفاح حلوة المذاق قائلة: "وثمرته حلوة لحلقي" (نش 3:2). ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها. القديس غريغوريوس النيسي بَيْنَ الشِّيحِ يَنْهَقُونَ. تَحْتَ الْعَوْسَجِ يَنْكَبُّونَ [7]. يصور أيوب البار الأشرار الحاقدين، وقد جاءوا للسخرية به بالحمير الوحشية التي تعيش في البرية، متى اجتمعت معًا بين شجيرات ينهقون بنغمة منفرة ومقززة للنفس. أي صاروا كحيوانات وحشية تجتمع معًا لتنهق، تطلب طعامًا لها، الذي هو أذية الغير وإصابتهم بكوارث. يتكدسون معًا تحت العوسج حيث يطلبون مأوى، فإذا بهم يتعثرون وسط أشواك الكراهية وحسك الحقد بلا سبب. بمعنى آخر حتى في اجتماع الأشرار معًا ما يتمتعون به هو الوحشية والتصرفات الحيوانية بغير تعقلٍ أو اتزانٍ مع مرارة أشواك الخطية الخانقة. * إنهم يُحسبون كمن يتكدسون تحت الأشواك، إذ يرفعون الفكر المتجاسر ليفرح بذات الأمور التي بها يحملون أشواك الخطايا. البابا غريغوريوس (الكبير) بماذا أشبه هذا الروح؟ أنه يشبه حمارًا بليدًا مليء الجسم يحمل مع حصان جيد نيرًا. فلا يريد أن يتقدم، وفي نفس الوقت يعطل بثقل جسمه الحصان عن السير. فالحاسد لا يهتم كيف يتخلص من هذا الكابوس، بل يعمل بكل جهده أن يُسقط من يرغب في الصعود إلى السماء، وبهذا يشبه الشيطان تمامًا. فإذا رأى إنسانًا في الفردوس، بدلًا من أن يُصلح نفسه يطلب طرح الآخر خارج الفردوس. وإذا رآه جالسًا في السماء والآخرون يسرعون نحو الراحة، فإنه يستخدم نفس الخطة حارمًا إياهم من الذهاب إليها، فيجلب على نفسه نارًا أشد. القديس يوحنا الذهبي الفم * مَنْ وجد الحسد فقد وجد معه الشيطان الذي أوجده منذ القدم. القديس مار إسحق السرياني أَبْنَاءُ الْحَمَاقَةِ بَلْ أَبْنَاءُ أُنَاسٍ بِلاَ اسْمٍ، دُحِرُوا مِنَ الأَرْضِ [8]. إذ يرتبطوا بالجهل والحماقة يحسبون أبناء الحماقة عوض كونهم أبناء بشرٍ، وإذ يحملون البغضة والحقد تطردهم الأرض، فيصيرون كمتجولين في البراري ليس لهم موضع يستقرون فيه. * "يدعون أبناء" لا لأنهم مولودون من بذارهم، بل بتمثلهم بالذين يعلمون تعاليم خاطئة، إنهم حمقى بسبب الجهل، ويمارسون حياة شريرة مثل أناس منحطين بسبب سلوكهم... لذلك بحقٍ يكمل: "وعلى الأرض لا يظهرون نهائيًا". بالرغم من أنهم يهدفون أن يُظهروا شيئًا ما، لكن بالتأكيد يصيرون مطرودين من أرض الأحياء. البابا غريغوريوس (الكبير) أَمَّا الآن،َ فَصِرْتُ أُغْنِيَتَهُمْ، وَأَصْبَحْتُ لَهُمْ مَثَلًا! [9] كثيرًا ما يسخر الأشرار بالأبرار، ويحسبونهم مثلًا للعار، كما يسمح الله أحيانًا لشعبه أن يصيروا مثلًا بين الشعوب لتأديبهم. "تجعلنا مثلًا بين الشعوب لإنغاض الرأس بين الأمم" (مز 44: 14). "جعلت لباسي مسحًا، وصرت لهم مثلًا" (مز 69: 11). "ويقولون في أنفسهم نادمين وهم ينوحون من ضيق صدرهم: هذا الذي كنا حينا نتخذه سخرةً ومثلًا للعار" (الحكمة 5: 3). "وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض، عارًا ومثلًا وهزأة ولعنة في جميع المواضع التي اطردهم إليها" (إر 24: 9). "ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق والمذبح، ويقولوا: أشفق يا رب على شعبك، ولا تسلم ميراثك للعار حتى تجعلهم الأمم مثلًا. لماذا يقولون بين الشعوب: أين إلههم" (يؤ 2: 17). * ها أنتم ترون ما الذي أثر عليه بالأكثر، أن يرى نفسه موضع سخرية بالأكثر، هؤلاء الذين يوبخهم على الشر الذي يمارسونه. القديس يوحنا الذهبي الفم البابا غريغوريوس (الكبير) يَكْرَهُونَنِي. يَبْتَعِدُونَ عَنِّي، وَأَمَامَ وَجْهِي لَمْ يُمْسِكُوا عَنِ الْبَصْقِ [10]. هنا يبرز أيوب البار كرمزٍ للسيد المسيح حيث قال عن نفسه: "فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم" (مر 10: 34). "لأنه يُسلم إلى الأمم ويُستهزأ به ويُشتم ويُتفل عليه" (لو 18: 32). * يهرب كل الأشرار من الكنيسة المقدسة، لا بأقدامهم، بل بسمات ممارستهم. إنهم يهربون بعيدًا، لا عن المكان بل بهجرها. إذ يكون للكبرياء أساسًا فيهم يزدرون بها بلومٍ علني. لأن البصق على الوجه ليس فقط تقليلًا من شأن الصالحين في غيبتهم، بل ويكذبون على كل واحدٍ حتى في الحضرة. هكذا يسخر الشرير بهم علانية، ويحطون من شأنهم ويكيلون لهم الشتائم... أما الكنيسة المقدسة (مثل أيوب) فتعرف أن تثبت في وسط الآلام، وتنال حياة مكرمة وسط الإهانات. إنها تتعلم ألا تنهار بواسطة النكبات، ولا أن تفتخر في فترات الرخاء. البابا غريغوريوس (الكبير) ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه! كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق...؟! كيف احتملتِ أيتها الأرض هزء الابن...؟! نظرة مخوفة، مملوءة دهشًا، أن ينظر الإنسان الشمع قائمًا ويتفل في وجه اللهيب... وهذه أيضًا من أجل آدم حدثت، لأنه كان مستحقًا البصاق لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل الجميع! قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق...! شفق سيد (آدم) على ضعفه، ودخل هو يقبل الخزي عوضًا عنه! القديس مار يعقوب السروجي لأَنَّهُ أَطْلَقَ الْعَنَانَ وَقَهَرَنِي، فَنَزَعُوا الزِّمَامَ قُدَّامِي [11]. يصور أيوب ما حدث بأنه بسماح من الله الذي يشبهه بمن يطلق السهم نحو الهدف، فأصاب أيوب وقهره، أو سبب له جرحًا خطيرًا. وكأن ما حلّ به ليس مصادفة، وإنما بسماح إلهي، وإن كان لا يعرف علة غضب الله عليه. هذا وإذا أضاء الله لهم باللون الأخضر كي يفعلوا بأيوب ما يشاءون، صاروا كفرسان يمتطون خيولًا قوية وعنيفة، فتركوا الزمام (اللجام) لتهجم عليه بكل قوة. مع مرارة التصويرين إلاّ أن أيوب يدرك حقيقة هامة أن ما حلّ به إنما بسماح من الله، وإن كان لا يعرف علة هذا السماح. * "وإذا أرخى الله وتره وأذَّلني" [11]. ماذا يقصد بوتر الله إلا مشورته السرية؟ الآن يطرح الرب السهم من الوتر عندما يصدر حكمًا من مشورته السرية. فإننا نعلم أن أي إنسانٍ يمكن أن يُجلد، ولكن لأي سبب تصدر الجلدات، هذا ما لا نعرفه. لكن بعد الجلد يحدث إصلاح في الحياة، فيُكشف عن قوة المشورة. هكذا الوتر المغلق هو المشورة الخفية. إننا نُؤدب بواسطة وتر مفتوح عندما نتحقق بعد الجلد بأية مشورة ضُربنا. استغل الأشرار هذا السماح الإلهي فظنوا أنهم يحطمون أيوب بلا عائق. تركوا ألسنتهم تسخر بأيوب دون أن يضعوا لجامًا أو حدودًا. أما أولاد الله فيعرفون متى يتكلمون ومتى يصمتون. يستخدمون لجام الصمت بحكمةٍ وتعقلٍ. * "ويضع لجامًا في فمي"... يرى القديسون لجام الصمت موضوعًا عليهم من جهة القلوب القاسية التي للخطاة الضائعين، عندما يقولون بالنبي: "كيف نرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة" (مز 4:137). أوصى بولس بوضع لجامٍ عندما أمر تلميذه: "الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه" (تي 10:3). فالمعلمون القديسون غالبًا بمعرفة علوية يفحصون قلوب الذين يعارضونهم، وإذ يرون أن هذه القلوب تركها الله يحزنون ويتنهدون، ويصمتون. ألم يصنع سليمان أحيانًا لجامًا على المعلمين عندما يقول: "لا توبخ مستهزئًا لئلا يبغضك" (أم 8:9)... الكنيسة المقدسة التي تقدم كلماتها دومًا بروح المحبة، توقف أحيانًا كلماتها من أجل المحبة، فتقول: "ضع يا رب حارسًا لفمي" (مز 3:141). البابا غريغوريوس (الكبير) عَنِ الْيَمِينِ السَّفَلَةُ يَقُومُونَ، يُزِيحُونَ رِجْلِي، وَيُعِدُّونَ عَلَيَّ طُرُقَهُمْ لِلْبَوَارِ [12]. جاء في بعض الترجمات: "عن اليمين الأحداث يقومون". وجاء في الترجمة اليسوعية: "قام السٌَفلة عن يميني يعثرون قدميٌَ"، وأيضًا: "يعثرون قدميٌ، ويمهدون إلى سُبل المصيبة". القيام عن اليمين تعبير يستخدم عن صب الاتهامات ضد الشخص. هكذا ثاروا عليه بعنف الشباب، ووضعوا له فخًا ورفعوه ليسقط فيه عقبه، ثم يطأوون عليه بأقدامهم. فالأمر لا يقف عند الاتهامات الباطلة، وإنما بعنف وقوة يسقطونه ويطأوون عليه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن القيام ضد الشخص عن الشمال يشير إلى مقاومة الأعداء له من الخارج، أما القيام ضده عن اليمين فيشير إلى مقاومة من كان يلزم أن يكونوا مدافعين له، أي المقاومة من الداخل؛ وهذه أخطر وأمرَّ. * تقدم النكبات عن الشمال إن التقت الكنيسة بعدوٍ يضطهدها على أيدي أشخاصٍ خارج حظيرة الدين، هؤلاء الذين يجحدون المسيح. لكن عندما تعاني من متاعبٍ صادرة عن أشخاصٍ يبدو أنهم مؤمنون يُسجلون تحت اسم المسيح ويقاومون اسمه فيها. بنفس الطريقة يُستخدم "اليمين" عن من نحسبه عظيمًا، "وأراني يسوع الكاهن العظيم قائمًا قدام ملاك الرب، والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه" (زك 1:3- 2). * "يعثرون قدمي، ويضغطون بسبلهم كما بتموجات " [12]. ماذا يقصد بقدميٌ الكنيسة إلا أعضاءها البعيدين جدًا؟ إنهم يستسلمون للأعمال الأرضية، وسرعان ما ينخدعون من الأعداء بقدر عدم فهمهم للعلويات. لذلك يعثر الأعداء قدميها عندما يجتذبون الأعضاء البعيدين جدًا إلى أخطاء تعاليمهم. لا تقدر القدمان المُعثرتان أن تحفظا الطريق، إذ كل الضعفاء، إما أنهم ينخدعون بوعود المضطهدين، أو يرتعبون من تهديداتهم، أو ينكسرون بعذاباتهم، وبهذا فإنهم ينحرفون عن الطريق المستقيم. البابا غريغوريوس (الكبير) فْسَدُوا سُبُلِي. أَعَانُوا عَلَى سُقُوطِي. لاَ مُسَاعِدَ عَلَيْهِمْ [13]. جاء في الترجمة الكاثوليكية: "ويقطعون عليَّ الطريق، ويساهمون في هلاكي، ولا يحتاجون لأي معين". عمل عدو الخير وأتباعه الأشرار أن يبذلوا كل الجهد بإفساد الطريق، بنزع العلامات، فيضل الإنسان طريقه، ويفقد سلامه أثناء رحلته. * لينطق الطوباوي أيوب بهذه الأمور عن الأرواح الشريرة، الأعداء الخفيين. لتتكلم الكنيسة الجامعة عن الأشرار المضطهدين، الأعداء الظاهرين، فإن هؤلاء يقطعون عليها طريقها، وذلك عندما تقاوم نفوس الضعفاء طرق الحق معترضين إياها بخداعٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) * هذا الطريق صالح يقود الإنسان الصالح إلى الآب الصالح، الإنسان الذي يجلب خيرات من كنزه الصالح، العبد الصالح والأمين (مت 7: 14؛ لو 6: 45؛ مت 25: 21). لكن هذا الطريق ضيق، لا يستطيع الغالبية، الذين هم بالأكثر جسديون أن يسافروا فيه. لكن الطريق ضيق أيضًا بالنسبة للذين يجاهدون ليعبروا فيه، إذ لم يُقل "إنه محصور" بل ضيق. العلامة أوريجينوس القديسأغناطيوس الأنطاكي يَأْتُونَ كَصَدْعٍ عَرِيضٍ. تَحْتَ الْهَدَّةِ يَتَدَحْرَجُونَ [14]. يأتون عليه مثل كسَّارة حجارة عريضة، فمهما كانت صلابته لن يفلت منهم، بل يسحقونه. إنهم لا يمشون نحوه بل يتدحرجون بسرعة كما بعاصفةٍ مدمرة. إن كان عدو الخير يظهر ككسارة حجارة ليسحق البشرية كالحجارة الملقاة في الطريق، فقد نزل إلينا حجر الزاوية (زك 4: 7؛ أف 2: 20)، لكي يضمنا معًا فيه فيقيم منا هيكلًا سماويًا، لا يقدر العدو أن يمسه. يرى القديس أغسطينوسأنه بدعوة السيد المسيح رأس الزاوية، وهو رأس الكنيسة، تكون الكنيسة هي الزاوية التي ضمت اليهود من جانب والأمم من الجانب الآخر. اِنْقَلَبَتْ عَلَيَّ أَهْوَالٌ. طَرَدَتْ كَالرِّيحِ نِعْمَتِي، فَعَبَرَتْ كَالسَّحَابِ سَعَادَتِي [15]. في مرثاةٍ لحاله يقول أيوب إن الأهوال قد تحولت نحوه وثقلت عليه، أزالت كرامته (نعمته) كريحٍ عصفت بها، وتركه رخاؤه كسحابة عبرت وزالت. يتعجب أيوب مما حدث، فإن هذا يلحق بالأشرار الذين يذبلون، حيث تحل بهم الكوارث، ويفقدون نجاحهم وكرامتهم. * "طردت كالريح رغبتي... فعبرت كالسحاب صحتي" [15]. يحلق السحاب في الأعالي، وأما نسمة الريح فتسحبه كما في طريق سريع. هكذا بالتأكيد يكون مصير خيرات الأشرار الزمنية. إنهم يظهرون في علو الكرامة، ليعبروا حياتهم كمن هم في العُلَى، لكنهم سرعان ما يهبطون يوميًا في الحياة، كمن يُنسفون بحياتهم القابلة للموت. البابا غريغوريوس (الكبير) الآن بعد أن قدم أيوب مرثاة يندب حاله، فقد وجه الله سهامه ضده، واستغل الأشرار الموقف فهاجموه بكل وسيلة، في عنفٍ بلا رحمة، وحلت به الكوارث من كل جانب، الآن يكشف أثر ذلك على صحته النفسية والجسدية. فَالآنَ انْهَالَتْ نَفْسِي عَلَيَّ، وَأَخَذَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ [16]. يرى أيوب كأن أيام المذلة التي طالت جدًا وقد ألقت القبض عليه، ولم تتركه، فانهارت نفسه وجفت تمامًا. * "الآن جفت نفسي فيّ، أمسكت بي أيام المذلة" [16]. تجف نفوس المختارين الآن إذ تصير فيما بعد خضراء في الأبدية المنتصرة. الآن تمسك بهم أيام الحزن، تتبعها أيام الفرح فيما بعد. كما هو مكتوب: "لمتقي الرب حُسن الخاتمة" (ابن سيراخ 13:1). مرة أخرى قيل عن الكنيسة: "تضحك في اليوم الأخير" (أم 25:31). الآن هو وقت الحزن بالنسبة للصالحين، ويأتي يوم يتبعهم المجد عوض الدموع. قيل في موضع آخر: "سحقتنا في موضع الأحزان" (مز 19:44). "موضع الأحزان" هو الحياة الحاضرة، لذلك فإن البار ينسحق هنا، وأما في الحياة الأبدية -موضع النعيم- فيرتفع. لكن عندما قال: "تجف النفس" بحق استهلها بقوله: "في ذاتي"... ففي ذواتنا تحزن بالحق نفوسنا، أما في الله فتنتعش. البابا غريغوريوس (الكبير) اللَّيْلَ يَنْخَرُ عِظَامِي فِيَّ، وَعَارِقِيَّ لاَ تَهْجَعُ [17]. هنا يتحدث عن الليل كشخصٍ كما في أيوب (أي 3: 3). فالليل يقوم بدور خطير، عمله أن ينخر عظامه فينهار هيكله العظمي، وعروقه في داخله لا تتوقف عن بث الألم الذي ينخر في كيانه! بِكَثْرَةِ الشِّدَّةِ تَنَكَّرَ لِبْسِي. مِثْلَ جَيْبِ قَمِيصِي حَزَمَتْنِي [18]. فقد أيوب ثياب الكرامة بكونه حاكمًا وقاضيًا له دوره وكلمته في المجتمع، ولكن ما هو أخطر أن ثيابه تهلهلت وساء حالها تمامًا بسبب ما حل بجسمه من أمراض وقروح. تحولت ثيابه الخارجية إلى ثياب حداد دائم، أو ثياب حزن، طوَّقت بجسمه ولا تفارقه، مثلها مثل ثيابه الداخلية. * حسب التفسير التاريخي ماذا يعني ثوب الطوباوي أيوب سوى جسده؟ بالحق أُستهلك الثوب عندما تعرض جسمه للعذاب. البابا غريغوريوس (الكبير) قَدْ طَرَحَنِي فِي الْوَحْلِ، فَأَشْبَهْتُ التُّرَابَ وَالرَّمَادَ [19]. قديمًا كان البسطاء من الشرقيين يُعبرون عن حزنهم الشديد إما بالجلوس على التراب، أو يضعونه على رؤوسهم وهم ينوحون. هنا يصور أيوب الله كمن يطرحه في التراب ليمارس الحزن في أقصى صوره، ومما زاد ألمه أن أيوب رأى في نفسه أنه قد صار شبيهًا بالتراب والرماد. على أي الأحوال حملت هذه المرثاة صورة لما بلغه أيوب من انسحاق نفس وتواضع، إذ حسب نفسه ترابًا ورمادًا. قال إبراهيم: "إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد" (تك 18: 27). وجاء في ابن سيراخ: "الرب يستعرض جنود السماء العليا، أما البشر فجميعهم تراب ورماد" (أي 17: 31). هكذا يتطلع الإنسان إلى حقيقة نفسه فيجد نفسه ترابًا، لكن بالمسيح يسوع يصير خليقة جديدة على صورة خالقه. *يقول الكتاب: "احتقرت نفسي، وانطرحت، حسبت نفسي ترابًا ورمادً" (أي 19:30 Vulgate). هذا هو تواضع النادمين. عندما تحدث إبراهيم مع إلهه، وأراد أن يناقش معه موضوع حرق سدوم، قال: "أنا تراب ورماد" (تك 27:18). كيف يوجد هذا التواضع على الدوام في العظماء القديسين؟ القديس أغسطينوس القديس باسيليوس الكبير بستان الرهبان إِلَيْكَ أَصْرُخُ، فَمَا تَسْتَجِيبُ لِي. أَقُومُ فَمَا تَنْتَبِهُ إِلَيَّ [20]. كثيرًا ما يشعر بعض المؤمنين وسط مرارة نفوسهم كأن الله لا يستجيب لصلواتهم وصرخاتهم. مع أنه يُدعى "سامع الصلاة" (مز 65: 2). في سماعه للصلاة قد تكون الاستجابة بتحقيق الطلبة لكن في الوقت اللائق. وذلك كاستجابته لطلبة إبراهيم فأعطاه اسحق ولكن في زمن الشيخوخة؛ وقد يرفض الله الطلبة لأنه يعلم أنها ليست لصالح طالبها. * عندما يعاني قديسوه من ضغوط اضطهاد الأعداء، وعندما يصرخون بلا انقطاع متوسلين لكي ينقذهم، فبتدبيرٍ عظيمٍ يبدو الله كمن لا يسمع أصوات توسلاتهم، حتى يتزكوا بالأكثر في آلامهم. إنهم يتزكون بالأكثر عندما لا تُستجاب طلبتهم سريعًا... كُتب: "إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب" (مز 2:22). البابا غريغوريوس (الكبير) لا تقل: طلبت كثيرًا ولم أجد، ولعلني لا أجد أبدًا. القديس مار يعقوب السروجي تَحَوَّلْتَ إِلَى جَافٍ مِنْ نَحْوِي. بِقُدْرَةِ يَدِكَ تَضْطَهِدُنِي [21]. في مرارة نفسه يرى أيوب كأن الله قاسٍ، يستخدم كل قوة يده ضده. ليس من تناسب بين قدرة يد الله القوية وضعف الإنسان، فكيف يمكن له أن يتحمل مقاومة الله؟ جاء في الترجمة اليسوعية: "أصبحت لي عدوًا قاسيًا، وبقوة يديك حملت عليّ". يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الله يبدو جافًا أو عنيفًا مع قديسيه، ليس لأن فيه قسوة وعنف، إنما يبدو هكذا بمقاومته لإرادتنا، فنحسبه هكذا. حَمَلْتَنِي، أَرْكَبْتَنِي الرِّيحَ، وَذَوَّبْتَنِي تَشَوُّهًا [22]. جاء في الترجمة اليسوعية: "خطفتني، وعلى الريح أركبتني، وأذابتني العاصفة". وجاء في ترجمة NKJ: "رفعتني إلى الريح، وأركبتني إياه، وأفسدت نجاحي". لعل أيوب حسب أيام رخائه كمن كان قد رفعه الله إلى الريح، فصار عاليًا جدًا؛ صارت الرياح مركبته الفائقة. لكن بقدر ما ارتفع سمح له الله أن يسقط، فيتحطم كل ما قد ناله! حقًا إن مجد العالم الزائل مجد باطل، هو جلوس على الريح غير الآمن، فبقدر ما يحسب الإنسان نفسه طائرًا كما على الريح يكون سقوطه مدمرًا له تمامًا. * مجد الحياة الحاضرة يبدو أنه عالٍ، لكنه ليس فيه أي ثبات، فيكون الإنسان كمن رُفع إلى أعلى وجلس على الريح (أي أنه في غير ثبات، إنما يسقط منه). البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِلَى الْمَوْتِ تُعِيدُنِي، وَإِلَى بَيْتِ مِيعَادِ كُلِّ حَيٍّ [23]. كان رجال العهد القديم يتطلعون إلى الموت، وهو مصير كل إنسانٍ، عبورًا إلى الهاوية التي هي بيت كل حيّ، وداره الذي يعود إليه. لكن جاء السيد المسيح، ونقل الأموات المؤمنين من الجحيم إلى الفردوس، كغنائم خلصها من يد إبليس ومن سلطان الموت الأبدي. * في الجزء السابق من هذا العمل أشرت إلى أنه قبل مجيء الرب نزل حتى الأبرار إلى مساكن الهاوية، حتى وإن كانوا ليسوا ساقطين في ويلات، وإنما كانوا في راحة... بحق كان ذلك يناسب أيوب قبل نعمة المخلص، إذ كان الأبرار يُحملون إلى مساكن الهاوية. مجرد دخول الهاوية يُدعى "بيت كل الأحياء". البابا غريغوريوس (الكبير) وَلَكِنْ فِي الْخَرَابِ أَلاَ يَمُدُّ يَدًا؟ فِي الْبَلِيَّةِ أَلاَ يَسْتَغِيثُ عَلَيْهَا؟ [24] جاء في الترجمة الكاثوليكية: "لا شك أن اليد لا تُمد إلى الخراب، وفي الانهيار تأتي النجدة" [24]. نظرة رائعة لأيوب البار، وموقف إيماني حيّ، ففيما تبدو له يد الله قاسية، وتصرفات الله تصدر كما من عدو، إذا به يعترف أن ما يسمح به الله من خراب زمني إنما هو بمثابة يد الله للبنيان الأبدي. يتطلع إلى بليته فيدرك وهو يستغيث أنها لخلاصه، حتى وإن وصل إلى الانهيار المؤقت. * "على أي الأحوال لا تمد يدك لخرابهم، وإن سقطوا أرضًا ستنقذهم بنفسك". بينما يروي أيوب عن ظروفه وعدم معاقبة الآخرين... يرى أن الرب لا يمد يده لهلاك الذين يخطئون، عندما يُصلح من حالهم بضربهم. البابا غريغوريوس (الكبير) أَلَمْ أَبْكِ لِمَنْ عَسَرَ يَوْمُهُ؟ أَلَمْ تَكْتَئِبْ نَفْسِي عَلَى الْمِسْكِينِ؟ [25] بإيمان حيّ يطالب أيوب البار التدخل الإلهي، فهو لا يبرر نفسه، لكنه يؤمن أنه كما ترفق بل وكما كان يبكي حين كان يجد إنسانًا في ضيقٍ، ويرثي لحال المساكين، فحتمًا يرد له الله هذا الحنو بالحنو, كأنه يقول لله: "قانونك: بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم". لقد قدمت كل حنو للنفوس المتألمة المجروحة، وكل تعزية للمساكين، الآن نفسي تئن من الجراحات، ومحتاجة إلى تعزيات إلهية، أليس من حقي أن أغتصبها منك يا أيها البار وحده؟ * لاحظوا كيف دربٌ نفسه بخصوص آلام الجسد وإهانته، فبقدر ما لم يعانِ من شيءٍ كهذا قط حيث كان يعيش دومًا في غنى وفير وسموٍ اعتاد أن يهتم بمصائب الآخرين، واحدًا واحدًا. هذا ما أعلنه عندما قال: "لأني ارتعابًا ارتعبت فأتاني، والذي فزعت منه جاء عليَّ" (أي 25:3). مرة أخرى "ألم أبكِ لمن عسر يومه؟! ألم تكتئب نفسي حين كنت أرى إنسانًا في محنةٍ" (راجع 25:30). بسبب هذا لم يرتبك من أي شيءٍ حلٌ به . * لتكن مراحمنا فياضة، ولنقدم دلائل عن محبتنا الشديدة للإنسان، سواء باستخدام أموالنا أو تصرفاتنا. فإن رأينا شخصًا ماٍ يُساء إليه ويُضرب في السوق، فإن كنا نقدر أن نقدم مالًا عنه، فلنفعل ذلك، أو إن كنا نخلصه بالكلمات، فلا نتراجع عن ذلك. فحتى تقديم الكلمة لها مكافأتها، وبالأكثر تنهداتنا. هذا ما قاله أيوب: "بكيت على كل إنسان متعسر، وتنهدت عندما كنت أرى إنسانًا في محنة" (أي 25:30). القديس يوحنا الذهبي الفم لهذا يليق بنا أن نعرف أننا نعطي بطريقة كاملة عندما نبلغ إلى المتألمين، وفي نفس الوقت نحمل في داخلنا ذات مشاعرهم. يليق بنا أولًا أن نحمل آلام الشخص المتألم في داخلنا، وبعد ذلك نشاركه أحزانه، مظهرين تعاوننا خلال الخدمة العملية... يبلغ حنو قلبنا الكمال حينما لا نخشى أن نلقي على أنفسنا شر الاحتياج من أجل زميلنا، لكي ما ننقذه من الألم. هذا النموذج من الحنو، في الواقع وهبنا إياه الوسيط بين الله والناس. فإنه كان يمكنه أن يأتي ليعيننا دون أن يموت، لكنه أراد أن يعين البشرية بالموت. بالتأكيد لو أنه لم يحمل جراحاتنا، لكان حبه لنا قليلًا جدًا... لقد أظهر مدى عظمة فضيلة الحنو بأن وضع لنفسه أن يصير إلى حالٍ لا يريدنا أن نكون عليه، وذلك من أجلنا... هذا أيضًا ما يليق أن تفعله الكنيسة المقدسة. إنها إذ ترى شخصًا يحمل دموع التوبة، تربط دموعها به بالصلاة الدائمة، وتتعاطف مع الإنسان المسكين لكي ما تعين الذهن العاري من الفضائل بتوسلاتها وشفاعتها. إننا نرثي الحزين، متعاطفين معه، عندما نشعر أن جراحات الآخرين هي جراحاتنا، ونجاهد بدموعنا لغسل خطايا المرتكبين المعصية. البابا غريغوريوس (الكبير) حِينَمَا تَرَجَّيْتُ الْخَيْرَ، جَاءَ الشَّرُّ، وَانْتَظَرْتُ النُّور،َ فَجَاءَ الدُّجَى [26]. يدهش أيوب الذي كان يترجى البركات مقابل حنوه على إخوته فانهالت الشرور (التجارب) عليه. وإذ أنار الطريق لمن هم حوله أحاطت الظلمة به. توقع إشراق الصباح المنير على حياته، فإذا به في ليلٍ بهيم. هذه هي المشاعر البشرية حتى بالنسبة لرجال الله أحيانًا، حين تشتد بهم التجارب في وقت كانوا يترجون فيضًا من البركات! * يترجى المؤمنون الخير لكنهم ينالون شرًا، وينتظرون النور فيأتي عليهم الظلام، لأن من أجل الرجاء في نوال المكافأة للتمتع بأفراح الملائكة، يُسلمون لأيدي الذين يضطهدونهم، وإن تأخر نوالها قليلًا هنا في العالم السفلي. البابا غريغوريوس (الكبير) أَمْعَائِي تَغْلِي، وَلاَ تَكُفُّ. تَقَدَّمَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ [27]. صورة للأبرار أو للكنيسة بكونها متألمة، تشارك مسيحها صليبه. داخلها غليان لا يهدأ، إذ تعيش كما في أيام الشقاء. وكما يقول المرتل: "في المساء يحل البكاء، وفي الصباح الفرح". * غليان أحشاء الكنيسة المقدسة بالنسبة لها هو احتمال عنف الاضطهاد... "أيام المذلة عاقتني". تعرف كنيسة المختارين أنها ستعاني من شرورٍ كثيرة في الضيق الأخير، لكن أيام المذلة تعوقها، لأنه حتى في زمن السلام تحتمل في داخلها حياة الأشرار بروح متثقلة. البابا غريغوريوس (الكبير) اِسْوَدَدْتُ لَكِنْ بِلاَ شَمْس. قُمْتُ فِي الْجَمَاعَةِ أَصْرُخُ [28]. يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن حديث أيوب هنا هو حديث كل بارٍ يحترق قلبه لا بنار شمس التجارب، وإنما بنيران الغيرة المقدسة والرغبة الصادقة لخلاص كل نفس. فالإنسان المؤمن لن يستريح حتى يجد الكل قد استراح معه في الرب، ويتمتع معه بخبرة عربون السماء! إنه يصرخ مع إرميا النبي قائلًا: "أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي. يئن فيَّ قلبي. لا أستطيع السكوت" (إر 4: 19). * "صرت في ثوب حداد (أسود) دون إثارة غيظ، قمت في الجماعة أصرخ" [28]. مع أن هذا الرجل كان له سلطان فوق زملائه، لكنه كان داخليًا يقدم للرب ذبيحة سرية للقلب النادم، وذلك خلال حداده. "ذبائح الله روح منكسر وقلب منكسر وتائب" (مز 51: 17)... كان شاهدًا على نفسه أنه في وسط كل تلك الظروف (من الغنى والسلطة إلخ.) لم يتنعم، بل صار في حدادٍ. فإنه بالنسبة للقديس الذي لا يزال في حالة سياحة (في العالم) كل شيء مهما كان مملوءً بالرخاء بدون رؤية الله يكون فقرًا مدقعًا. فإن المختارين إذ يرون كل شيء يحزنون أنهم لا يرون خالق كل الأشياء، وبالنسبة لهم كل هذه الأمور تافهة للغاية مقابل حرمانهم من ظهور الكائن الأعظم. البابا غريغوريوس (الكبير) صِرْتُ أَخًا لِلذِّئَابِ، وَصَاحِبًا لِلنَّعَامِ [29]. لم يجد أيوب إنسانًا ما يسنده وسط ضيقته، حتى بالنسبة لأسرته مثل زوجته أو أقاربه، فحسب الذئاب المفترسة إخوته، يعيش بينهم كحملٍ بسيط. كما حسب أصدقاءه كالنعام التي لها مظهر جميل لكنها عاجزة عن الطيران كغالبية الطيور. لا نعجب أننا نعيش في عالمٍ لا يفرز الأبرار من الأشرار، ولا ينقي الحنطة من القش، حتى تأتي الساعة التي فيها يتم الفصل الحقيقي أمام الديان القدير. يقول إني سقطت إلى مستوى الطيور أو النعام. لم أعد بعد أعرف طبيعتي، صار حالي ليس أفضل من حالهم. هذا أيضًا ما قاله داود: "صرت مثل بوُمة الخرب... صرت كعصفورٍ منفرد على السطح" (مز 102: 6-7). القديس يوحنا ذهبي الفم ولكن ماذا يفهم من الذين يُشار إليهم بالنعام سوى المحبون للظهور؟ فللنعامة جناحان لكنها لا تطير، هكذا كل المحبين للظهور، لهم مظهر القداسة، لكن ينقصهم صلاح القداسة. هذا أيضًا يتفق مع كلمات الطوباوي أيوب، هذا الذي كان على مستوى من الجلَدْ والثبات، كان رجلًا صالحًا بين الأشرار. فإنه ليس من إنسانٍ كاملٍ لا يكون حليمًا وسط شرور أقربائه. من لا يحتمل شرور الآخرين في رباطة جأشٍ، بطول أناته، يشهد عن نفسه أنه بعيد جدًا عن فيض الصلاح. من لا يختبر حقد قايين يرفض أن يكون "هابيل". ففي البيدر توجد الحنطة تحت ضغط القش... وتنمو الوردة ذات الرائحة الجميلة بين الأشواك الشائكة. كان أبناء نوح الثلاثة في الفلك، لكن اثنين استمرا في التواضع، وواحدًا في طيشٍ استخف بأبيه. كان لإبراهيم ابنان، واحد كان بارًا، والآخر كان مضطهدًا لأخيه. كان لإسحق ابنان، واحد خلص في تواضع، والثاني طُرد حتى قبل أن يُولد. وُلد اثنا عشر ابنًا ليعقوب، من بين هؤلاء بيع واحد في براءة، والبقية كانوا بائعين لأخيهم خلال شرهم. أختير اثنا عشر تلميذًا في الكنيسة المقدسة، لكنهم لم يبقوا دون فحص، واحد امتزج بهم، الذي باضطهاده (لهم) اُمتحنوا. يلتصق الإنسان البار بشر الخاطي، كما في التنور يُضاف القش إلى الذهب في النار، فالقش يحترق، والذهب يتنقى. حقًا إنهم أناس صالحون، هؤلاء القادرون أن يتمسكوا بالصلاح، حتى في وسط الأشرار. قيل للكنيسة المقدسة بصوت العريس: "كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 2:2). وهكذا يقول الرب لحزقيال: "وأنت يا ابن الإنسان لديك غير مؤمنين والساقطون، وأنت ساكن بين العقارب" (حز 2: 6). مجَّد بطرس حياة الطوباوي لوط، قائلًا: "وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يُعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7-8). يمَّجد بولس حياة تلاميذه، وبتمجيدهم يقويهم، قائلًا: "في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم، متمسكين بكلمة الحياة" (في 2: 15-16). هكذا بواسطة يوحنا يحمل ملاك كنيسة برغامس شهادة لذلك بالكلمات: أنا عارف... أين تسكن حيث كرسي الشيطان، وأنت متمسك باسمي، ولم تنكر إيماني" (رؤ 2: 13) البابا غريغوريوس (الكبير) إِسْوَدَّ جِلْدِي عَلَيَّ، وَعِظَامِي احْتَرَقَتْ مِنَ الْحُمَّى فِيَّ [30]. إذ يُشير أيوب إلى الكنيسة يرى البابا غريغوريوس (الكبير)حزن الكنيسة على النفوس الضعيفة التي تحرق شمس الضيقات جلدهم وتحرق عظامهم، فتُحسب ما حلّ بهم إنما حلّ بها، بكونهم أعضاء الكنيسة. "اسوَّد جلدي عليّ، واحترقت عظامي من الحرارة فيَّ" [30]... يشير بالجلد إلى الضعفاء، هؤلاء الذين يخدمون فيها لنفعٍ خارجي. والعظام تمثل الأقوياء، إذ خلالها يتم ترابط الجسم كله. يسقط الضعفاء في الكنيسة عن الثبوت في الإيمان، إما بالإغراء المالي أو التحطيم بالاضطهادات. وبعد سقوطهم يقومون هم أنفسهم باضطهادها، فتعاني الكنيسة من سواد جلدها. "وتجف عظامي من الحرارة"، فقد احترقت أقوى عظمة للكنيسة المقدسة، بولس، وجفت بالقلق على الآخرين، عندما قال لبعض الساقطين: "من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟" (2 كو11: 29). هكذا اسوَّد الجلد، وجفت العظام من الحرارة، لأن الضعفاء يثبون نحو الشر، والأقوياء يتعذبون بنار غيرتهم. البابا غريغوريوس (الكبير) * يا له من شعور عجيب في الراعي. يسقط الآخرون ويقول: إني أؤكد حزني. يتعثر آخرون فيقول: تلتهب نيران آلامي! ليت كل الذين عُهد إليهم قيادة القطيع العاقل أن يتمثلوا بهذا، ولا يظهروا أنهم أقل من الراعي الذي يهتم إلى سنوات كثيرة بقطيع غير عاقلٍ. ففي حالة القطيع غير العاقل لا يحدث ضرر يًذكر حتى إن حدث إهمال، أما في حالتنا فإن هلك خروف واحد أو افتراس سيكون الضرر خطيرًا جدًا ومرعبًا والعقوبة لا يُنطق بها، فوق هذا كله إذ سبق الرب واحتمل سفك دمه من أجله، فأي عذر يقدمه هذا الإنسان أن يسمح لنفسه أن يهمل ذاك الذي اهتم به الرب وبذل كل الجهد من جانبه لرعاية القطيع؟ القديس يوحنا الذهبي الفم صَارَ عُودِي لِلنَّوْحِ، وَمِزْمَارِي لِصَوْتِ الْبَاكِينَ [31]. يرى القديس أغسطينوس أن أيوب هنا يتطلع إلى الروح القدس الذي يضرب على أوتار النفس البشرية، فيقيم منها عودًا ومزمارًا؛ تذوب النفس بحب البشرية في الرب. يقضي الإنسان حياته حزينًا على كل نفس متألمة، وباكيًا مع الباكين. هذه هي حكمة الله العاملة في الإنسان فيشارك الكل مشاعرهم، وهو في هذا يشعر بسلام فائق أثناء حزنه على الآخرين. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المؤمن أشبه بوتر في عود أو قيثارة، إن ضُرب عليه بخفة شديدة لا يقدم صوتًا، وإن ضُرب عليه بشدة يسبب إزعاجًا. لذا يليق بالإنسان أن يسلك باعتدال في كل شيء، ففي نسكه لا يبالغ حتى لا يدمر حيويته، ولا يترك النسك كلية فلا يقدر أن يضبط جسده. إننا أوتار مختلفة في قيثارة الله، نعمل معًا، فتخرج سيمفونية مبهجة يتقبلها الله ذبيحة تسبيح وشكر مقبولة ومرضية لديه. بهذا يتمتع المؤمن بالحياة السماوية بكونها حياة جماعية في الرب، كل عضو بمفردة يشعر بلمسات يّد الله العازفة به، ولكن بذات اليد تضرب على الأوتار الأخرى في تناغمٍ وتناسقٍ بديعٍ! * يصعب علينا أن نشك - على ما أظن - أن أيوب في هذه العبارة يعني الروح القدس. موضوع النقاش هو الحكمة، من أين تأتي إلى البشر، إنها لا تأتي من كثرة السنين، بل الروح القدس الذي (يسكن) في القابلين للموت والنسمة التي للقدير هي تعلم... واضح تمامًا أنه لا يتحدث عن روح الإنسان في عبارة "الروح الذي في القابلين للموت". لقد أراد أن يظهر من أين ينال البشر الحكمة، فإنها ليس من عندهم... بنفس الطريقة في عبارة أخرى في ذات السفر يقول: "فهم شفتي لا يتأمل النقاوة. الروح الإلهي الذي شكلني ونسمة القدير تعلمني" (راجع أي 30: 3-4 LXX). القديس أغسطينوس البابا غريغوريوس (الكبير) من وحي أيوب 30 نفسي تئن في مرارة! * كثيرًا ما أتطلع إلى حياتي، فأراها عبرت سريعًا بلا ثمر. كنت أود أن أشهد لك كلما عبر بيّ الزمن. لكن نفسي مُرّة، إذ لا أرى ثمارًا روحية في حياتي وخدمتي! من ينزع روح اليأس عنيّ، سوى صليبك يا واهب الرجاء! لألتصق بك، فتحملني على ذراعيك، وتطمئن نفسي بك، يا منقذ النفوس من الفساد! * كثيرون يسخرون بيّ حتى في شيخوختي! يعكسون ما في قلوبهم من عوزٍ وجوعٍ وخزيٍ، ويسكبونه على نفسي لتحطيمها. لكن أنت هو خبزي السماوي وشبعي ومجدي! سمرِّ عيني عليك، فأرتفع عن المزبلة التي أعاني منها. * التف حوليّ من لم يذوقوا الحق ولا الشبع بنعمتك، وها هم يسخرون بيّ. لقد خرجوا عليك كأنما على لصٍ، وها هم يمارسون ذات العمل مع كنيستك! هب لي ألاّ تضطرب نفسي! * تركوا مدينة الله بكل بركاتها. عوض العودة إليها، يشمتون في رجال الله المتألمين. * انطلقوا إلى القفار والبراري، حرموا أنفسهم من الغرس الإلهي ومياه الروح القدس، ظنوا أنفسهم أقوياء، فجاءوا يسخرون بالغروس الإلهية، كرم الله العجيب! * لماذا تئن نفسي من سخرية العالم. حبك مشبع لنفسي! آلامك وعار صليبك وموتك عني تعزيتي الحقيقية! من يستحق أن يشترك معك في عارك المجيد؟ من يتأهل أن يحمل معك صليبك؟ * في ضيق نفسي أراك قد أطلقت العنان لمضايقي، تبدو كمن يصوب السهام ضدي. لكنك وأنت الحب كله تحول مراراتي إلى عذوبة. تحول مضايقات المقاومين إلى أمجاد أبدية. تتركهم يسخرون بألسنتهم، يصبون الاتهامات ضدي. ويمارسون الظلم كما بغير ضابطٍ! وفي هذا كله عيناك عليّ، تترفقان بيّ! أنت هو خلاصي ومجدي! * إذ أسقط تحت الآلام، تتجلى أمامي يا أيها المتألم لأجلي، أنسى آلامي برؤياك المفرحة لقلبي. وتتحول مرثاتي إلى أغنية سماوية وتهليل لا ينقطع. * ليس للمخادع عمل سوى أن يُضللني عن الحق. يظن أنه يقطع عليّ الطريق، فلا أعبر إلى الملكوت. يا لغباوته. أنت هو الطريق الذي لا تستطيع قوة أن تحجبه عني. إنه يطلب هلاكي، ولم يدرك أنك أنت هو مخلصي القدير. * يتحرك العدو نحوي كما في عاصفة ليدمرني. يظن أنه يسحقني كحجر تحت كسَّارة حجارة عريضة. لم يدرك أنك حجر الزاوية تضمني بك إلى الهيكل السماوي! ليس من قوة تقدر أن تسحقني مادمت في يديك! * صارت حياتي كريحٍ عابر أو سحابةٍ سرعان ما تختفي. صارت كأنها بلا هدف ولا طعم! جفت تمامًا كشجرةٍ بلا حياةٍ ولا ثمرٍ. هاج الليل عليّ، فصار ينخر عظامي. عروقي في داخلي لا تعرف الراحة. التحفت بالآلام كثوبٍ ملتصق بي. انطرحت في وسط الوحل. وتحولت حياتي إلى تراب ورماد. * فقدت حياتي كل استقرار وأمان. تحولت عيناي إلى القبر، كبيتٍ يستقر فيه كل إنسانٍ! تحول النور إلى ظلمة بالنسبة ليّ. أحشائي في داخلي ذابت من الغليان. لم يعد ليّ من يواسيني، ولا من يشاركني آلامي. صرت أخًا للذئاب المتوحشة، والنعام العاجز عن الطيران! لم أعد أعزف على قيثارة نفسي نشيدًا أو أغنية. إنما تحول كل كياني إلى قيثارة تعزف مراثٍ دائمة! * هذه مرثاتي، من يقدر أن يعزيني غيرك؟ من يستطيع أن يقيمني من القبر غير القائم من الأموات؟ من يرفعني من المزبلة إلا السماوي الذي بحبه نزل إليّ؟ من يعطي لحياتي طعمًا سوى ذاك الذي يحول المرارة إلى عذوبة، مرثاتي لا تحطم نفسي، بل تهبني رجاءً فيك، يا مفرح القلوب! |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 28 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() فحص النفس تحدث أيوب عن أيام رخائه الماضية، والرعب الذي يحل به في الحاضر. الآن يبحث في أعماقه ليفحص نفسه، لعله يكون قد ارتكب خطايا خفية، كما أشار إلى ذلك أصدقاؤه. جاء فحصه لنفسه عجيبًا، ليس على ضوء الناموس الذي لم يكن بعد قد تسلمه موسى النبي، وإنما على ضوء الإنجيل المقدس. يعلن أيوب إنه قد فحص أعماقه وهو مستعد لأية أسئلة يوجهها الله إليه. 1. عفة النظرة عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ، فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ! [1] استطاع أيوب وهو في عهد ما قبل الناموس الموسوي، أن يرتفع ليقتبس بالعون الإلهي سموًا إنجيليًا فائقًا. فإنه لم يمتنع فقط عن الزنا والرجاسات، لكنه أغلق على الخطية في بدء انطلاقها، ألا وهي النظرة الشريرة. لم يسمح لنفسه أن يتطلع إلى عذراء ليشتهيها، حاسبًا هذا زنا داخلي يتسلل إلى حواسه. لقد وهبنا الله الحواس لنستخدمها كما يليق، عطية مقدسة، نقدم الشكر لله عليها. أما أن أساءنا استخدامها خلال الاستهتار والتهاون، فإننا بهذا نفتح الباب لتتسلل الخطية تدريجيًا. من أجل هذا منع آباء الكنيسة الأولى السكنى مع عذارى، مهما سمت حياة الطرفين، لا بالنظر إليهن كمصدر دنسٍ، ولكن لأجل نقاوة العينين والفكر والقلب. * يقول إرميا: "لأن الموت طلع إلى كوانا، ودخل قصورنا" (إر 9: 21). يحدث هذا عندما تدخل الشهوة خلال حواس الجسم، تدخل إلى مسكن العقل. على خلاف هذا يتحدث إشعياء عن الأبرار: "من هم الطائرون كسحابْ، وكالحمام من نوافذهم؟" (إش 60: 8)، إذ يُقال عن الأبرار إنهم يطيرون كالسحاب، لأنهم يرتفعون فوق أدناس الأرض... لكي يحفظ أيوب أفكار القلب بالعفة "قطع عهدًا مع عينيه" لئلا يرى بدون حذرٍ ما يحبه... ما كان لحواء أن تلمس الشجرة الممنوعة لو لم تنظر إليها أولًا بغير احتراس، كما هو مكتوب: "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت" (تك3: 6). لهذا يلزمنا نحن الذين نحيا حياة قابلة للموت أن نضع ضبطًا عظيمًا لنحد نظرنا نحو الأمور الممنوعة، إذ كانت أم كل حي (حواء) جاءت إلى الموت خلال العينين. يقول النبي أيضًا: "عيني تسلب قلبي" (راجع مراثي 3: 51)... قال ربنا: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى في قلبه" (مت 5: 27-28) البابا غريغوريوس (الكبير) القديس يوحنا الذهبي الفم البر الأصغر هو عدم الزنا بالفعل، أما برّ ملكوت اللَّه الأعظم فهو عدم ارتكاب الزنا، ثم جاءت الوصية الأخيرة مثبتة للأولى، لأنه ما جاء الرب ناقضًا بل مكملًا للناموس. يجب أن نلاحظ أنه لم يقل "مَن اشتهى امرأة" بل "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها" أي ينظر إليها بهذه النية، فهذه النظرة ليست إثارة للذة الجسدية بل تنفيذًا لها، لأنه بالرغم من ضبطها فستتم لو سمحت الظروف بذلك. فالخطية تكمل على ثلاثة مراحل: إثارتها، التلذذ بها، ثم إرضائها (تنفيذها). فالإثارة تحدث عن طريق الذاكرة أو الحواس كالنظر أو السمع أو الشم أو التذوق أو اللمس. فإن نتج عن هذه لذة لزم ضبطها، فلو كنا صائمين، فبرؤيتنا للطعام تثور شهوة التذوق، وهذه الشهوة تنتج لذة. فعلينا ألا نرضيها بل نضبطها إن كان لعقلنا، الذي يمنعنا من إرضائها، السيادة. أما إذا أرضيناها فستكون الخطية قد كملت في القلب، فيعلم بها اللَّه ولو لم يعلم بها البشر. إذن هذه هي خطوات الخطية: تتسلل الإثارة بواسطة الحواس الجسدانية، كما تسللت الحية في إثارة حواء، لأنه حيثما تسربت الأفكار والتصورات الخاطئة إلى نفوسنا، تكون نابعة من الخارج، من الحواس الجسدية. وإن أدركت الروح أي إحساس خفي عن غير طريق هذه الحواس الخمسة، كان هذا الإحساس مؤقتًا وزائلًا. فتتسلل هذه التصورات إلى الفكر في دهاء الحية. إن مراحل الخطية الثلاث تشبه سقوط الإنسان الوارد في سفر التكوين، فتأتي الإثارة من الخارج من الحواس كما أحدثتها الحية. أما التلذذ بالخطية فيحدث في الشهوة الجسدية مثل ما تلذذت حواء، أما إرضاء الخطية فيحدث في العقل كما في آدم. ولسبب الخطية طرد الإنسان من الفردوس، أي من نور البرّ الأعظم، إلى الموت. من يقدم اللذة لا يجبر الإنسان على قبولها، فعلى الإنسان ألا ينزل من مرتبته السامية، التي فيها يكون للعقل السيادة. إلى مرتبة أدنى، لأن اللَّه خلق الإنسان في مرتبة أسمى من الحيوان. فالإنسان لا يجبر على قبول اللذة، فإن قبلها عوقب بواسطة شريعة اللَّه العادلة، لأنه أخطأ بإرادته. على أنه، قبل أن تتحول الخطية إلى عادة لا يكون فيها لذة، أو تكون بصورة بسيطة يستهان بها، ويكون الخضوع لها خطية عظيمة مادامت هذه اللذة محرمة. لأن من يستسلم لها يصنع الشر في قلبه. وبعد الاستسلام لها وتنفيذها يخيل له أنه قد أشبع رغبته والأمر قد انتهى، ولكن متى عاد ما يثيرها مرة أخرى، أثيرت اللذة بصورة أشد من الأولى. ومع ذلك فهي أقل من اللذة التي تنتج عن العادة. إن اللذة في المرة الثانية يصعب الانتصار عليها، ومع ذلك فإذا كان مخلصًا لنفسه، مستعدًا للحرب الروحية فسيشفى منها، بل ومن العادة أيضًا. وذلك بمعونة مسيحه قائد المعركة الروحية. وبذلك يخضع الرجل للمسيح والمرأة للرجل (1 كو 3:11؛ أف 23:5) وذلك بحسب الترتيب الطبيعي . القديس أغسطينوس وَمَا هِيَ قِسْمَةُ اللهِ مِنْ فَوْقُ، وَنَصِيبُ الْقَدِيرِ مِنَ الأَعَالِي؟ [2] جاءت في ترجمة الرهبانية اليسوعية: "فما يكون النصيب من عند الله من فوق، والميراث من عند القدير من الأعالي؟" ما هو قسمة الله أو النصيب السماوي العلوي للنفس سوى أن تترنم النفس، قائلة: "نصيبي هو الرب، قالت نفسي" (مرا 3: 24). فمن يتمتع بالشركة مع الرب، ويحسب الرب نفسه نصيبه الأبدي يتمتع به، لن يسمح لأعماقه أن تجد لذتها في الأرضيات والشهوات الجسدية. يرى كثير من آباء الكنيسة أن الفضائل هي جوانب مختلفة ومترابطة لحقيقة واحدة، وهي التمتع بالشركة مع الله. هنا يربط البابا غريغوريوس (الكبير) بين الآيتين 1 و2 فيقول بأن من يضع في قلبه أن يحيا طاهرًا وعفيفًا، ولا يسمح بالنظرة الشريرة، يتمتع بمساندة الله له في ممارسة التواضع، وتسمو أعماقه لتطلب الله نفسه نصيبًا لها. كل فضيلة تسند الأخرى، بل وتكشف عن جمال الفضائل معًا كلؤلؤة سماوية، متعددة الجوانب. * كأنه يقول بوضوح: إن كنت أدنس عقلي بالفكر لن أقدر أن أكون وارثًا لذاك الذي هو مُوجد الطهارة. فإنه لا يكون لأي شيءٍ أي نفع إن لم يتزكَ في عيني الديان الخفي بالشهادة للطهارة. فإن كل الفضائل ترفع ذاتها في عيني الخالق بواسطة العون المتبادل، بمعنى أن فضيلة ما بدون الأخرى، تصير إما كلا شيء تمامًا، أو تصير أقل الفضائل. يلزم أن تُسند الفضائل بتحالفها معًا. فإن كان التواضع يتخلى عن العفة، أو العفة تترك التواضع أمام موجد التواضع والعفة، فما هو نفع العفة المتكبرة أو التواضع الدنس بالنسبة لنا؟ البابا غريغوريوس (الكبير) * أن تنشد المسيح, هو مثل أن تنشد الكلمة والحكمة والعدل والحق والقدرة الكلية لله. فالمسيح هو كل هذه . العلامة أوريجينوس أَلَيْسَ الْبَوَارُ لِعَامِلِ الشَّرِّ، وَالنُّكْرُ (أمر قبيح أو مصيبة) لِفَاعِلِي الإِثْمِ! [3] جاءت في ترجمة اليسوعية: "أليست البلية للظالم، والمصيبة لفاعلي الآثام؟" إن كانت العفة - المتمثلة في جدية المؤمن ألا يسمح بنظرة شريرة تتسلل إليه - تدفعه إلى الشوق نحو المكافأة السماوية، حيث يكون الرب نصيبه، فإنه من الجانب السلبي ماذا يقدم الشر أو الدنس، خاصة الزنا إلا الدمار الأبدي؟ بالخبرة العملية نتذوق ما قاله إشعياء النبي: "لا سلام للأشرار، قال إلهي". فالخطية تغرف مما لها وهو الفساد والمرارة والخراب وتعطي لمقتنيها. فهي تقدم لمن يمارسها مما اختاره لنفسه. الشرير بتصميمه على الشر يعزل نفسه بنفسه عن الكنيسة المقدسة، فيحرم نفسه من بركات الرب لها، ومن نصيبها الأبدي في المجد. * دعْ الخطاة يذهبون الآن، ويُشبعون رغبات مباهجهم. ففي الدينونة عند النهاية سيشعرون أنهم في حياتهم الشريرة كانوا في عشقٍ مع الموت... الآن يُجلد الإنسان البار ويُصلح من شأنه بعصا التأديب، لأنه يُعدْ لنوال ميراث الآب. أما الظالم فليسرْ وراء ملذاته، لأنه يشبع من الخيرات المؤقتة قدر ما يُحرم من الخيرات الأبدية. يجري الظالم نحو الموت المؤهل له، يتمتع بملذات بغير ضابطٍ، وذلك كما تُترك العجول المعُدة للذبح في حرية في المراعي... ليزنْ البار حسنًا الشرور التي تنتظر الشرير، ولا يحسده على السعادة العابرة... "أليس الاستقصاء لفاعلي الإثم؟" ما ندعوه استقصاء هو تغّرب أو "أناثيما" عند اليهود. فإنه سيكون استقصاء للأشرار عندما يجدون أنفسهم محرومين (أناثيما) من ميراث الديان الحازم. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس مقاريوس الكبير (ا) لما كان المسيح هو فضيلتنا, فالافتقار إلى صحبته والإتحاد مع الآب, هو خطية. (ب) الفضيلة هي استعادة طبيعة النفس, في كونها صورة اللوغوس. والخطية هي الافتقار إلى هذه الصورة. (ج) الفضيلة تنسب النفس لله كأحد أولاده. والخطية هي نسبتها للشيطان. فالنفس التي ترفض أباها وعريسها السماوي, تصير مهجورة مثل أورشليم. مثل هذه الروح تصبح بسهولة فريسة لأعدائها. 4. الله فاحص طرق الإنسان أَلَيْسَ هُوَ يَنْظُرُ طُرُقِي، وَيُحْصِي جَمِيعَ خَطَوَاتِي [4]. في فحص أيوب لنفسه يُعلن أنه إنما يتكلم بشهادة الله نفسه الذي يعرف سلوكه وحياته وأفكاره وعواطفه وكل نياته. طرق الإنسان مكشوفة لدى الله، الطرق الظاهرة والخفية، فهو فاحص القلوب والكلى. عندما يفحص الإنسان أعماقه يليق به أن يدرك هذه الحقيقة أن الله فاحص طرقه، لا ليتلقط له الأخطاء، وإنما لكي يقدسه بالتمام. اهتمام الله حتى بنياتنا وأفكارنا الخفية هي لمسات حب إلهي فائق. فإنه يود أن يُقيم حتى من أعماقنا أيقونة حيَّة للسماء! * أليس ما يدعوه "طرقًا" ليست إلا طرق العمل؟ لذلك يقال بإرميا: "أصلحوا طرقكم وأعمالكم" (إر 7: 3)... يدعونا الحق إليه "بالسير خطوات"، قائلًا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال" (مت 11: 28). فإن الرب يوصينا: "تعالوا إليّ"، بالتأكيد لا بخطوات الجسم بل بتقدم القلب... فالأعمال البشرية يحسبها الرب خطوات بمعنى دقيق... رأى النبي دقته في الفحص عندما قال: "الإله العظيم الجبار رب الجنود اسمه، عظيم في المشورة، وقادر في العمل، الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم لتُعطي كل واحِد حسب طرقه، وحسب ثمر أعماله" (إر 32: 18-19). هكذا امتدح (الرب) ملاك كنيسة برغاس في بعض الأمور، ووبخه في البعض، قائلًا: "أنا عارف أعمالك، وأين تسكن حيث كرسي الشيطان، وأنت متمسك باسمي، ولم تنكر إيماني" (رؤ 2: 13). بعد ذلك يقول: "ولكن عندي عليك قليل، أن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام" (رؤ 2: 14). وقيل لملاك ثياتيرا: "أنا عارف أعمالك ومحبتك وخدمتك وإيمانك وصبرك، وأن أعمالك الأخيرة أكثر من الأولى، لكن عندي عليك قليل أنك تسَّيب المرأة إيزابل التي تقول إنها نبية حتى تعَّلم وتقوَي عبيدي أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان" (رؤ 2: 19-20)... لاحظوا كيف أنه يسجل الأمور الصالحة ولم يدعهم يذهبون بدون عقوبة على الأمور الشريرة التي تطَّلب القطع. هذا بالحقيقة يحدث لأنه يرى طرق كل أحٍد ويحاسبهم على خطواتهم... القديسون أنفسهم يربطون أنفسهم بالتدقيق الشديد في فكر القلب، حيث يرون أن القاضي العلوي يفحص حياتهم بكل تدقيقٍ، فيمحصون العقل في أعماق الأعماق، متطلعين لئلا يكونوا حاملين أي فكرٍ خاطئٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ كُنْتُ قَدْ سَلَكْتُ مَعَ الْكَذِبِ، أَوْ أَسْرَعَتْ رِجْلِي إِلَى الْغِشِّ [5]. بعد أن تحدث أيوب عن حرصه على تقديس نظراته حتى لا يفقد الميراث الأبدي، يتحدث عن تقديس اللسان، فإنه يحرص ألا ينطق بكلمة كذب ولا يغش بلسانه، فينطق بما يخالف ما في قلبه. إن كان الله هو الحق، وهو بسيط ليس فيه خداع ولا التواء، فإن من يحرص على التمتع بالشركة مع الحق يلزمه أن لا يكون لإبليس موضع فيه، هذا الذي يُدعى الكذاب وأب الكذابين (يو 44:8)، كما يُدعى المضل (2 يو 1: 7) أو المخادع. * يجب على كل أحدٍ أن يعطي اهتمامًا عظيمًا لئلا يسلبه "الكذب"، لأن الكذاب لا يتحد مع اللّه. الكذاب غريب عن اللّه. ويقول الكتاب المقدس بأن الكذاب هو من الشيطان، إذ هو "كذاب وأبو الكذاب" (يو 44:8). هكذا ُدعي الشيطان أبو الكذاب، أما الحق فهو اللّه، إذ يقول بنفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 6:14). أما ترون إذن كيف أننا نصير غرباء عن اللّه بالكذب وبمن نتحد (عن طريقه)؟! لذلك إن أردنا بحق أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق بكل قوتنا وكل غيرتنا، ونحرس أنفسنا من كل كذب، حتى لا يفصلنا عن الحق والحياة . الأب دوروثيئوس * ليته لا يخدع أحد قريبه، كما يقول المرتل هنا وهناك: "بشفاهٍ ملقه، بقلب فقلب يتكلمون" (مز 12: 2). فإنه ليس شيء، ليس ما يجلب عداوة أكثر من الخداع والخبث . القديس يوحنا الذهبي الفم لِيَزِنِّي فِي مِيزَانِ الْحَقِّ، فَيَعْرِفَ اللهُ كَمَالِي [6]. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الميزان هنا هو الوسيط بين الله والناس، ففيه توزن كل استحقاقاتنا بميزان حبه، وإن كنا نرى في أنفسنا ضعفات حياتنا. نوزن بموازينه لكي ما نقتدي به في حياته. وكما يقول الرسول بطرس: "فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا، تاركًا لنا مثالًا لكي تتبعوا خطواته، الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد" (1 بط 2: 21-23). ويقول الرسول بولس: "لنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي" (عب 12: 1-2). حقًا كل البشرية في الموازين إلى فوق، ليس من يتبرر قدام الله الكلي القداسة. لكننا إذ نُوزن بميزان الحق، الذي هو السيد المسيح مخلصنا، يسترنا فيه، فنحمل برَّه، وبه نتبرر أمام الآب، ونُحسب موضع مسرته. "ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداء (1 كو 1: 30). * الله لم يجعلنا مجرد حكماء وأبرار وقديسين في المسيح، إنه أعطانا المسيح لأجل خلاصنا . القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم إِنْ حَادَتْ خَطَوَاتِي عَنِ الطَّرِيقِ، وَذَهَبَ قَلْبِي وَرَاءَ عَيْنَيَّ، أَوْ لَصِقَ عَيْبٌ بِكَفِّي [7]. يؤمن أيوب البار بعدم تمزيق الحياة إلى حياة داخلية وأخرى خارجية، فللإنسان حياة واحدة، كل ما بالداخل والخارج يتفإعلان معًا. فلا عزل بين النظرة بالعين والبصيرة الداخلية، ولا بين ما في القلب والسلوك الظاهر. يليق بالمؤمن أن يتقدس داخليًا وخارجيًا، في فكره وأحاسيسه وقلبه وكلماته وسلوكه. إنه كان يخشى من الخطايا سواء في السلوك العملي حيث تُحيد خطواته عن طريق الحق، وخلال النظرة، فينحرف قلبه بسبب نظراته، وفي ممارسة الظلم حيث يلتصق العيب بكفه. * انظروا أيضًا كيف أنه بحفظ النشاط الداخلي عاد إلى تدريب الأعضاء الخارجية. فإن حدث أن طمع القلب في شيءٍ ممنوعٍ، يلزم حفظ العين بالتعليم والتهذيب حتى ترفض التطلع إليه... لنتطلع إلى ضمائرنا من خلال هذه النقاط، ونرى سمو هذا الإنسان بالنسبة للانحطاط الذي غطست فيه صدورنا. فإن حدث أنه تخيل أمورًا غير لائقة، يقوم سريعًا بقتلها وهي بعد في أعماق القلب، وذلك بسيف الغيرة المقدسة. إنه لا يسمح لهذا التخيل أن يتحول إلى عملٍ... إنه لا يُسمح للخطية أن تتحول إلى عمل إن قُتلت داخليًا في موقع ميلادها. البابا غريغوريوس (الكبير) أَزْرَع،ْ وَغَيْرِي يَأْكُلْ، وَفُرُوعِي تُسْتَأْصَلْ [8]. يعلن أيوب التزامه أن يسلك في كل شيء بروح الحق، لأن من لا يسلك هكذا يفقد البركة الإلهية، فيزرع ولا يحصد شيئًا، بل يحصده آخر ويتمتع به. لا يكون له ثمر في حياته أو في نسله إذ "فروعه تُستأصل". * بحسب الإعلان (الكتاب) المقدس ندعو الكرازة بكلمات الحياة غرسًا. يقول النبي: "طوباكم أيها الزارعون على كل المياه" (إش 32: 20). يُرى الكارزون بالكنيسة المقدسة زارعين على كل المياه، إذ يقدمون كلمات الحياة، مثل حنطة الخبز السماوي، لكل الشعوب البعيدة الممتدة. يقول الحق: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني" (يو 4: 34). فإن كان أيوب يمتنع عن أن يفعل شيئًا يقول: "لأزرع، وغيري يأكل". يقول في وضوح: ما ينطق به لساني لا أقوم أنا بممارسته، بل آخر. فإن الكارز الذي طرقه تختلف عن كلماته يزرع ويسير جائعًا، بينما آخر يأكل. إذ لا يقتات بحصاده عندما يكون سلوكه خاطئًا، عندما يكون غير متفق مع استقامة كلماته. ولما كان التلاميذ غالبًا عندما يسمعون من معلمهم ما هو صالح بدون عمل يهلكون بسبب تصرفاتهم، لذلك بحقٍ أضاف: "وفروعي تُستأصل" [8]. البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ غَوِيَ قَلْبِي عَلَى أمْرَأَةٍ، أَوْ كَمَنْتُ عَلَى بَابِ قَرِيبِي [9]. بعد أن تحدث عن هروبه من النظرة الشريرة واللسان الشرير والغش والحذر من طريق الشرير وفساد القلب وممارسة الظلم، يتحدث في أكثر إفاضة عن الهروب من غواية القلب نحو امرأة آخر أو السقوط معها في الخطية، فهي جريمة خطيرة. فمن جهة تفسد نقاوة الإنسان وطهارته، ومن جهة أخرى فهي تعدي على حقوق القريب، واقتحام لمخدعه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الزنى fornication غير الفسق adultery (1 كو 6: 9)، وأن أيوب لم يغوه قلبه للزنا مع امرأة، كما حرص ألا يكمن على باب قريبه فيرتكب الفسق. يرى أيوب أن التدنس بالزنا أو الفسق جريمة، وليست مجرد خطية، لكنه لا يوجد أحد بدون خطية. فأيوب لم يرتكب جريمة الزنا أو الفسق، فهي تعرض الإنسان للقضاء ليُحكم عليه بالموت. هذه الجريمة هي نار آكلة تدمر حياة الإنسان، وتبيد ثماره من أصولها. * يثير شيطان الزنا الشهوة الجسدية، ويشن هجومه على النساك، ويجاهد لكي يتخلوا عن نسكهم، زارعًا في نفوسهم بأن نسكهم هذا بلا نفع. فإذا ما استطاع أن يدنس النفس، يبتدئ يهيئها لقول وسماع بعض الأحاديث (الشريرة) حتى يبدو كما لو أن العمل (الشرير) ذاته ماثل أمام أعينهم . الأب أوغريس الراهب ألا يعتبر قد ارتكب في قلبه الفسق مع الزانية من طلبها ولم يجدها في بيت الدعارة؟! القديس أغسطينوس بستان الرهبان البابا ثيئوفيلس أنبا إشعياء فَلْتَطْحَنِ أمْرَأَتِي لآخَرَ، وَلْيَنْحَنِ عَلَيْهَا آخَرُونَ [10]. من يقتحم مضطجع قريبه ليتعدى على زوجته يسقط في مذلة عوض لذة الشهوات الجسدية، إذ يفتقر للغاية حتى تُسلب منه زوجته كعبدة تعمل في بيوت آخرين، تمارس عمل العبيد والجاريات كطحين الغلال، وهو عمل شاق. وكعبدة لا يقدر أن يمنع سيدها من ممارسة العلاقات الجسدية معها. صورة مرّة عن خطية الزنا التي تفقد الإنسان حريته وكرامته وطهارة زوجته، وتدخل به إلى مذلة العبيد. لأَنَّ هَذِهِ رَذِيلَةٌ، وَهِيَ إِثْمٌ يُعْرَضُ لِلْقُضَاةِ [11]. من يقتحم زوجة قريبه يستوجب الموت (تك 38: 24). لأَنَّهَا نَارٌ تَأْكُلُ حَتَّى إِلَى الْهَلاَكِ، وَتَسْتَأْصِلُ كُلَّ مَحْصُولِي [12]. يشبه أيوب الزنا بالنار التي تأكل كل ما للزاني فتستأصل كل ثمار تعبه وجهاده حتى يفتقر، بل وتدمر نفسه فيهلك. يميز الرسول يوحنا بين نوعين من الخطايا: "توجد خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يُطلب. كل إثم هو خطية. وتوجد خطية ليست للموت" (1 يو 5: 16-17). لعله يقصد بالخطية التي ليست للموت هي الضعف البشري اللاإرادي وعن غير معرفة، أما التي للموت فهي الإصرار على الخطية عن معرفة وفي عناد وتصميم على عدم التوبة. مثل هذه الخطية هي نار مدمرة لمُرتكبيها. * حينما وصف الكارز العظيم من يتأهل لنعمة الكهنوت لم يقل: "إن كان إنسان بلا خطية" وإنما إن كان بلا جريمة (راجع تي 1: 6). من هو بلا خطية، إذ يقول يوحنا: "إن قلنا إننا بلا خطية نضل وليس الحق فينا" (1 يو 1: 8) . بهذا التمييز بين الخطايا والجرائم يمكن القول إن الخطايا العرضية تدنس النفس، بينما الجرائم تقتلها. هذا هو السبب الذي لأجله يقول عن جريمة الشهوة إنها "نار تأكل حتى الهلاك" [12] البابا غريغوريوس (الكبير) القديس يوحنا الذهبي الفم إِنْ كُنْتُ رَفَضْتُ حَقَّ عَبْدِي، وَأَمَتِي فِي دَعْوَاهُمَا عَلَيَّ [13]. في تواضع عجيب أعطى أيوب البار عبيده وجواريه ليس فقط حقوقهم البشرية التي كان يتجاهلها العالم في ذلك الحين، حيث عاش قبل الناموس الموسوي، إنما أعطاهم حق الحوار معه، بل وحقهم في الدفاع عن أنفسهم حتى إن وضعوه في موقف الاتهام! * أيها السادة كونوا لطفاء مع خدمكم، كما علمنا القديس أيوب، فإنه توجد طبيعة واحدة وأسرة واحدة للبشرية. ففي المسيح ليس عبد ولا حر (غل 3: 28) . القديس أغناطيوس الأنطاكي القديس يوحنا الذهبي الفم ها أنتم ترون كيف ظهر ساميًا في سلطانه بالنسبة للرؤساء بطريقة عجيبة، ومع هذا فهو يحاور عبيده. في مجمع الرؤساء يتذكر عمله، وفي حواره مع عبيده يتذكر أنه مخلوق (مثلهم). يرى نفسه عبدًا تحت السيد الحقيقي، لهذا لم يتعالَ في تشامخ قلب على عبيده. البابا غريغوريوس (الكبير) فَمَاذَا كُنْتُ أَصْنَعُ حِينَ يَقُومُ اللهُ؟ وَإِذَا افْتَقَدَ فَبِمَاذَا أُجِيبُهُ؟ [14] لم يكن يوجد ناموس مكتوب ولا قوانين تحمي العبيد والجواري، لكن إيمان أيوب البار بالله الديان الذي لا يحابي الوجوه دفعه إلى تقدير كل إنسانٍ، حتى وإن كان عبدًا لديه. * من يفكر في الديان القادم يُعد حساباته إلى ما هو أفضل يومًا فيومًا بلا انقطاع. من يتطلع إلى الرب الأبدي بقلبٍ مرتعبٍ يلتزم أن يضع حدًا لسيادته المؤقتة على الذين تحته. فإنه يتطلع حسنًا إلى أنه لا يوجد أي طريق أن يكون فوق الآخرين زمنيًا، وذلك من أجل ما سيقدمه من حساب بكونه تحت ذاك الذي يمارس سلطانًا بلا نهاية. إنه يعرف من هم تحته، فيليق به أن يعرف ذاك (الرب) الذي هو نفسه تحته، وبمعرفته للسيد الحقيقي يموت فيه الغرور بسيادته التي تحمل غرورًا. هكذا إذ كان أيوب الطوباوي يخاف حكم ذاك الذي هو فوق الكل، يمارس القضاء المؤقت كمن هو مساوٍ لعبيده. البابا غريغوريوس (الكبير) أنبا إشعياء أَوَلَيْسَ صَانِعِي فِي الْبَطْنِ صَانِعَهُ، وَقَدْ صَوَّرَنَا وَاحِدٌ فِي الرَّحِمِ؟ [15] * بالنسبة للأشخاص الذين يحملون سلطانًا، فإن عمل التواضع العظيم هو أن يحفظ في أفكارهم مساواة الخليقة. فإننا نحن البشر جميعًا متساوون بالطبيعة، لكن قد أُضيف إلينا توزيع التدبير حتى نظهر أن لنا سلطانًا على أشخاصٍ معينين. فإن تنازلنا عن تخيلنا بما يحدث مؤقتًا (أن لنا سلطانًا على الغير)، فسنجد أنفسنا سريعًا جدًا ما نحن عليه بالطبيعة... بالطبيعة وُلدنا نحن جميعًا متساوين، ولما كان تدبير الاستحقاقات متباين، لذلك صار البعض فوق الآخرين بتدبير خفي. هذا التباين الذي أُضيف إلى طبيعتنا عن خللٍ، يُدبر بطريقة مستقيمة خلال أحكام الله، لهذا فإنه إذ لا يسير الكل في هذه الحياة في ذات الطريق يُحكم على الواحد بواسطة آخر. أما القديسون لا يتطلعون إلى سلطان مراكزهم في داخلهم، بل إلى مساواة الطبيعة، إذ يعرفون حسنًا أن آباءنا القدامى عاشوا ليس كملوكٍ قدر ما عاشوا كرعاةٍ لقطعان... حيث أن الإنسان بالطبيعة يتسلط على الحيوانات غير العاقلة، وليس على بقية البشر، لذلك قيل له يلزمه أن يكون موضع خوف الحيوانات المفترسة، وليس موضع خوف البشر. حين تطلب أن تكون مخوفًا ممن هو مساوٍ لك، تكون مُبتلعا بكبرياء ضد الطبيعة... لذلك عندما سجد كرينليوس لراعي الكنيسة، ورأى أن كرامة ما يُقدم له أكثر مما يستحق، أسرع بالإشارة إلى المساواة بين الخليقة، قائلًا الكلمات: "قم، أنا أيضًا إنسان" (أع 10: 26). فمن لا يعرف أنه يليق بالإنسان أن يسجد لخالقه وليس لإنسان...؟ هكذا أيضًا الملاك، إذ سجد له يوحنا، اعترف أنه مخلوق، قائلًا: "أنظر لا تفعل. أنا عبد معك ومع إخوتك" (رؤ 19: 10). البابا غريغوريوس (الكبير) كذلك لم يخجل بولس من أن يدعو العبد ابنه وأحشاءه وأخاه ومحبوبه، فيليق بنا ألاَّ نخجل منهم . ولماذا أقول بولس؟ فإن رب بولس لم يخجل من أن يدعونا نحن عبيده إخوته... ليرى كيف كرّمنا فدعانا عبيده وإخوته وأصدقاءه ووارثين معه، وأننا نظهر بجواره، ونُحسب عاملين معه، بل أن السيّد نفسه يعمل ليكون عبدًا! اسمع وارتعد! القديس يوحنا الذهبي الفم إِنْ كُنْتُ مَنَعْتُ الْمَسَاكِينَ عَنْ مُرَادِهِمْ، أَوْ أَفْنَيْتُ عَيْنَيِ الأَرْمَلَةِ [16]. آمن أيوب بالخالق الذي يخلق كل البشر في أحشاء أمهاتهم بلا تمييز، هو الذي يَّشكل كل جنين، دون محاباة بين طبقة اجتماعية وأخرى. سمح الله لأيوب البار أن يدخل في هذه الضيقة الشديدة وإن يعاتب الله علانية لكي تتعلم الأجيال كلها كيف وُجد أبرار حتى في عصر ما قبل الناموس سموا بالإيمان الحيّ خلال الناموس الطبيعي فوق كثير ممن عاشوا في ظل الناموس الموسوي، بل وحتى في عهد النعمة. عاش حرًا، لا يستعبد نفسه لممارسة الظلم أو القسوة. يشتهي أن يقدم للمساكين كل احتياجاتهم وكل ما يشتهونه، مهما كلفه الأمر. لا يسمح لأرملة أن تتوسل بدموعها، إنما يُسرع بالعطاء للجميع ما استطاع! * "لم يحرم المساكين من كل مرادهم، ولا جعلت عين أرملة تبحث عن شيء" [16]. أرأيتم كيف كان يتحاشى العجرفة، سالكًا في اعتدال، بكونه طبيبًا للجميع، ميناءً عامًا، وملجأ مشتركًا لجميع الذين في ضيقٍ. يقول: "كل مرادهم". هذا لا يعني أن يقول نعم لهذا الاحتياج، ولا لذاك، بل لا يحرمهم من كل احتياجٍ دون تمييز، حتى وإن كان محفوفًا بالمخاطر، وكثير التكلفة. لاحظوا أنه قد أعان من لا يتوقع منهم شيئًا: الأرامل والأيتام والذين بلا عون. لم يكن منشغلًا بالافتخار والمجد، بل يعطي من أجل الله. القديس يوحنا الذهبي الفم البابا غريغوريوس (الكبير) أَوْ أَكَلْتُ لُقْمَتِي وَحْدِي، فَمَا أَكَلَ مِنْهَا الْيَتِيمُ! [17] بلغ به الحنو أنه لم يستطع أن يأكل وحده، فلا يطلب زوجته وأولاده فحسب ليأكلوا معه، وإنما يبحث في كل وجبة عن يتيم ليشاركه وجبته! كان من آداب المعاشرة وقواعد التشريعات لدى الشرقيين أن يدعوا الآخرين للمشاركة معهم في الطعام. في بعض المناطق الصحراوية بعد إعداد الطعام يقف شخص من أهل البيت على مكانٍ عالٍ ويدعو بصوت عال أن يتفضل أحد ويشارك أهل البيت الطعام. وكان أحيانا ينتظر مجيء ضيف قادم سمعه من مسافة بعيدة ليشارك الأسرة طعامها. بَلْ مُنْذُ صِبَايَ كَبِرَ عِنْدِي كَأَبٍ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّي هَدَيْتُهَا [18]. ما تمتع به من اهتمام حتى بالعبيد ليس صادرًا عن شريعة ملزمة ولا عن قوانين رادعة، لكنه أمر يمس أعماقه، صادر عن عمل إلهي في داخله. فمنذ صباه وهو بعد غير ملتزم بأمورٍ أسريةٍ كان يتعامل مع العبيد الذين في بيته كأبناء له، يمارس أبوة حانية نحوهم وهو صغير السن. مرة أخرى لا يذكر كيف تدرب على الحنو على العبيد والأيتام والأرامل وكل الذين في عوزٍ، فحسب أن ما يمارسه قد ناله من الله وهو بعد في الرحم قبل ولادته. * يحسب أنه لأمر مجحف لحنوه أن يأكل وحده ما قد خُلق للعامة... لكن هذه الأحشاء الفائقة الحنو، هل اجتذبها لنفسه بنفسه، أم نالها بنعمة خالقه، دعنا نعرف ذلك. "بل منذ طفولتي كبر عندي الحنو، ومن رحم أمي خرج معي" [18]. فبالرغم من تعهده للأمر بناء على أمره (أي جهاده) لكي ينمو الحنو فيه، فمن الواضح أن هذا الأمر لم يكن في سلطانه أن يخرج معه من الرحم. واضح أنه لم ينسب شيئًا إلى صلاحه الذاتي، إذ يقدم شهادة أنه نال هذا خلال عطية خالقه. نال الصلاح الذي يمارسه منذ خلقته. بهذا يقرر تسبيحه للخالق، فما لديه ناله منه ولم ينل حنوه من آخر. البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ كُنْتُ رَأَيْتُ هَالِكًا لِعَدَمِ اللِّبْسِ، أَوْ فَقِيرًا بِلاَ كِسْوَةٍ [19]. إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي حَقَوَاهُ، وَقَدِ اسْتَدْفَأَ بِجَزَّةِ غَنَمِي [20]. لم يقف اهتمامه بالفقراء عند تقديم طعام لهم، لكنه إذ يرى إنسانًا يئن من العري بسبب البرد أو الحر، ليس لديه كسوة، لا ينتظر أن يسأله، بل يحسب ذلك بركة له أن يقدم لهم ثيابًا ثمينة من الصوف الذي يُنسج من جزة غنمه. * إذ لم يحتقر الفقير أظهر فضيلة التواضع، وأيضًا يكسوه عن حنوٍ. فإن هاتين الفضيلتين يلزم أن تلتصقا ببعضهما البعض، ويسندهما العمل المتبادل بينهما. من جهة احتياج المخلوق الزميل، ليعين التواضع الحنو، ويعين الحنو التواضع، بطريقة بها متى رأيت شخصًا شريكًا معك في طبيعتك تنقصه ضروريات الحياة، يلزمك ألا تكف عن أن تكسيه لا في عدم حنو، ولا عن كبرياء لا تكرم من تكسيه. يوبخ يعقوب بقوة: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي، فقال لهما أحدكم: أمضيا بسلام استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟" (يع 2: 15-16). هذا ما ينصح به يوحنا الرسول: "يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1 يو 3: 18). فإن الحب الحاني يلزم أن يظهر دائمًا بالكلام اللائق وفي نفس الوقت بخدمة العطاء... يقول بولس: "لكي تكون في هذا الوقت فضالتكم لإعوازهم، كي تصير فضالتهم لأعوازكم" (2 كو 8: 14). هذا يعني أننا في اهتمام نعتبر الذين نراهم الآن في عوزٍ نراهم في يومٍ ما في رخاءٍ، ونحن الذين نُرى في رخاء، إن أهملنا العطاء سنكون يومًا ما في عوزٍ... الآن ذاك الذي بلا ثوب هو أقل احتياجًا من ذاك الذي بلا تواضع. لهذا إذ نرى أولئك الذين هم شركاء معنا في طبيعتنا ليس لديهم أمور خارجية، فلنتأمل عوزنا لأمورٍ عظيمةٍ كثيرةٍ في داخلنا، بهذا لا تنتفخ أفكار قلوبنا على المساكين. هكذا نرى بالعين الثاقبة أننا نحن أنفسنا بالحقيقة في عوزٍ أشد بالنسبة لاحتياجنا الداخلي. حسنًا يقول الطوباوي أيوب في هذا: "إن احتقرت عابرًا ما لأن ليس لديه لباس"، فإنه بالنسبة للمخلوق الزميل الغير معروف لديه يظهر له حنوًا، إذ يدعوه "عابرًا". البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ كُنْتُ قَدْ هَزَزْتُ يَدِي عَلَى الْيَتِيمِ، لَمَّا رَأَيْتُ عَوْنِي فِي الْبَابِ [21]. لم يستغل أيوب مكانته كحاكم وقاضٍ، فيرفع يده بالظلم ضد يتيمٍ. * "إن كنت قد رفعت يدي على يتيم، لما رأيت نفسي الأسمى عند الباب" [21]. كانت العادة أن الشيوخ يجلسون عند الباب لكي يحلوا مشاكل الخلافات خلال جلسات قضائية، لكي ما يكون كل من في المدينة في توافقٍ، ولا يدخلها أحد على خلاف مع غيره. لذلك يقول الرب بالنبي: "ثبتوا الحق في الباب" (عا 5: 15)... كأنه يقول: حتى عندما أرى نفسي بعدلٍ أنا أفضل من يمارس الحكم، لا استغل ذلك لصالحي مستخدمًا سلطاني على اليتيم. البابا غريغوريوس (الكبير) فَلْتَسْقُطْ عَضُدِي مِنْ كَتِفِي، وَلْتَنْكَسِرْ ذِرَاعِي مِنْ قَصَبَتِهَا [22]. إن كان الذراع يشير إلى العمل، فإن الإنسان الذي يريد أن يعمل بنفسه متجاهلًا وحدته مع إخوته يكون كمن سقط كتفه الذي يربط الذراع بالجسم، فلا يقدر أن يعمل ما يليق به كعضوٍ حيٍ في جسد المسيح. لن تتحقق معاملاتنا المقدسة دون اتحادنا معًا ككنيسة مقدسة، وفي نفس الوقت خلال علاقتنا الشخصية مع الله. * لما كانت الأعمال الجسدية تتحقق بالكتف والذراع، لذلك أراد أن يسقط كتفه وتنكسر ذراعه إلى قطعٍ إن تكلم بفمه عن الأمور الصالحة دون أن يمارسها عمليًا. البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّ الْبَوَارَ مِنَ اللهِ رُعْبٌ عَلَيَّ، وَمِنْ جَلاَلِهِ لَمْ أَسْتَطِعْ [23]. بعد أن تحدث عن حنوه الفائق نحو كل الطبقات المحرومة، وتقديره لكل المرذولين من المجتمع حتى العبيد، يرفع عينيه بكل وقارٍ نحو الله ويدهش لماذا سمح الله له بهذه التجارب القاسية. إذ شعر أيوب بثقل المحن امتلأ رعبًا، وشعر أن يدّ الله قد ثقلت عليه. 11. اتكاله على الله لا على غناه إِنْ كُنْتُ قَدْ جَعَلْتُ الذَّهَبَ عُمْدَتِي، أَوْ قُلْتُ لِلإِبْرِيزِ: أَنْتَ مُتَّكَلِي [24]. لو أنه اعتمد على غناه وممتلكاته لوجد علة لسحب هذا كله من يده، فإنه قد ركز كل أحاسيسه ومشاعره ونياته على الخالق لا الخليقة، فلماذا سُحبت منه هذه البركات؟ * يحدث أن يوقف الإنسان رجاءه في الخالق ليحتل مكانه الرجاء في الخليقة. ثبَّت ذاك الغني رجاءه في أمورٍ غير أكيدةٍ عندما قال: "يا نفسي، لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي وأشربي وأفرحي" (لو 12: 19). لكن الصوت الذي من العلا انتهره قائلًا: "يا غبي، هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" (لو 12: 20)... فإن الله قائم إلى الأبد، وكل هذه الأمور عابرة. ما هذا إذن، أن نطير من القائم وحده، ونلصق أنفسنا بالأمور العابرة؟ البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ كُنْتُ قَدْ فَرِحْت،ُ إِذْ كَثُرَتْ ثَرْوَتِي، وَلأَنَّ يَدِي وَجَدَتْ كَثِيرًا [25]. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن النصرة التي حققها أيوب البار أثناء تجربته لم تكن وليدة الساعة، لكنها ثمرة تداريب روحية عملية عاشها بالنعمة الإلهية حتى قبل حلول التجربة، منها تدربه على استخفافه بالبركات الزمنية والغنى الأرضي. * هكذا كان الطوباوي أيوب، لو لم يكن قد درٌَب نفسه حسنًا قبل دخوله في الصراعات، لما أشرق هكذا في البهاء بهذه الصورة. لو لم يكن قد اختبر التحرر من الكآبة لتفوه بكلمات في اندفاع عندما مات أبناؤه. فكما كان قبلًا هكذا وقف أمام كل الهجمات، ضد دمار ثروته والخراب العظيم الذي حلّ به، وضد فقدانه أبنائه، ومواساة زوجته، والوباء الذي حلٌ بجسمه، وتوبيخات أصحابه، وشتائم خدمه له. إن كنتم تريدون أن تروا أيضًا طرقه في الدرب (الروحي) اسمعوه يتحدث كيف كان يستخف بالثروة، قائلًا: "إن كنت قد فرحت لأن ثروتي كانت عظيمة، إن كنت قد جمعت الذهب في كميات ضخمة، إن كنت قد اتكلت على الحجارة الكريمة" (أي 25:31، 24 LXX). لذلك لم يرتبك عندما فقد هذه الأمور، لأنه لم يكن يشتهيها حين كانت لديه . *كان أيوب غنيًا، لكنه لم يخدم شيطان الجشعmammon ، بل ملك على الغنى وسيطر عليه، فكان سيدًا لا عبدًا. لذلك قد ملك كل هذه الأمور كما لو كان وكيلًا على مال الغير، ليس فقط لا يغتصب من الغير، بل كان يقدم ما له للمحتاجين. وما هو فوق هذا حين كان لديه هذه المقتنيات لم تفرحه، إذ أعلن قائلًا: "إن كنت قد فرحت حين كانت ثروتي عظيمة" (أي 25:31)، ولا حزن عندما ذهبت منه . القديس يوحنا الذهبي الفم غالبًا ما يحسب مثل هؤلاء الأشخاص الخيرات الوفيرة ثقلًا زائدًا، إذ يحملون في جديةٍ أشياء كثيرة، بينما هم مسرعون نحو وطنهم. لهذا يكرسون طاقتهم ليشاركهم أقرباؤهم المحتاجون... لن يفرح المختارون بالخيرات الكثيرة، لأنه من أجل محبة الميراث السماوي يهبون ما في أيديهم ويوزعونه، ويستخفون به ويتخلون عنه. البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ كُنْتُ قَدْ نَظَرْتُ إِلَى النُّورِ حِينَ أضَاءَ، أَوْ إِلَى الْقَمَرِ يَسِيرُ بِالْبَهَاءِ [26]. كما لم يكن غناه هو متكله بل واهب الغنى، فإن الشمس والقمر بجمالهما وبهائهما لم يحتلا مكانًا في قلبه، بل استنار بالله خالق الشمس والقمر، النور الأزلي الحقيقي. كانت الشمس والقمر موضع عبادة الكثيرين في أيام أيوب وتكريمهما بكونهما جنديي السماء. كان هذا العمل يُحسب قمة الشر والجحود لله الخالق. * يخبرنا أيوب أنه لم يكن يتطلع إلى الشمس وهي تشرق، ولا القمر وهو يسير ببهائه، مظهرًا أنه لم يطلب النور الحاضر. كما تنسكب النفس للتأمل خارج نفسها، هكذا بالأكثر تفعل لكي ترتد إلى الأمور الداخلية. هكذا كل أصحاب القلوب الحكيمة يتجنبون السقوط نحو الأمور الخارجية بالحواس الجسدية. عوض هذا يبذلون جهدًا مستمرًا بأن يجمعوا أنفسهم في داخلهم بالتدبير الخفي في حراستهم لذواتهم، لكي يوجدوا بالكلية فيما هو داخلي. ربط إرميا نفسه بأعماق قلبه في تدبيرٍ جادٍ، وهرب من الشوق نحو الحياة الخارجية، عندما قال: "لم أشتهِ يوم الإنسان، أنت عرفت" (راجع إر 17: 16). * كما أن "ذهب" الفهم لم يجعل أيوب يتشامخ، هكذا أيضًا نور الأعمال الخارجية لم يجعله متشامخًا إلى أعلى أمام أعين البشر... الشمس في ضيائها هي الأعمال الصالحة المعلنة في الخارج. مكتوب:" فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16). مرة أخرى: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة، وسرجكم موقدة" (لو 12: 35). فان ما ورد في هذه العبارة عن الشمس المشرقة يعني الإنجيل المُشار إليه بالسرج الموقدة. فعندما تشرق الأعمال الصالحة وسط غير المؤمنين، يتقد السراج في الليل، وعندما تشرق في الكنيسة، تشرق الشمس في النهار. البابا غريغوريوس (الكبير) والبعض عبدوا القمر، فلا يكون لهم إله في النهار . والبعض عبدوا أجزاء العالم الآخر . والبعض عبدوا الفنون . وعبدَ البعض أنواع أطعمة مختلفة ، والبعض ملذاتهم ، وسُر البعض بالنساء، فأقاموا تمثالًا لامرأة عارية ودعوها أفروديت ، وعبدوا شهواتهم بصورة منظورة. وبُهر البعض ببريق الذهب فعبدوه ، وآخرون عبدوا أنواعًا أخرى من هذه الأمور . القديس كيرلس الأورشليمي وَغَوِيَ قَلْبِي سِرًّا، وَلَثَمَ يَدِي فَمِي [27]. يؤكد أيوب البار أن الأوثان والذهب والحجارة الكريمة وكثرة الغنى لم يستطع هذا كله أن يخدع قلبه سرًا، بمعنى أنه ليس فقط لم يمارس أي نوعٍ من التشامخ والكبرياء والعبادة الوثنية عمليًا، وإنما ولا تسلل خفية إلى قلبه. وضع اليد على الفم وتقبيلها، عادة يمارسها الكثيرون حين تنشغل قلوبهم بشيءٍ محبوبٍ لديهم جدًا أو مُعجبون به للغاية، فيعبرون عما في قلوبهم بإرسال قبلات من الفم خلال اليد مع الإشارة إلى من أو ما يحبونه. هكذا لم يشغله الغنى ولا الأصنام ولا أحب هذه الأمور، ولا بعث إليها بقبلاته. * بسط اليد إلى الفم هو التناغم بين الصوت والممارسة. فيقبل يده بفمه من يمتدح ما يمارسه، فهو يشهد لحديثه باستحقاقات ممارسته العملية. في هذه الحالة، من هو المحُتِقر إلا الذي ينال ذات العطايا لممارستها (وينسبها لنفسه)؟ حسنًا يقول الكارز العظيم: "أي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟" (1 كو4: 7). الآن يعرف القديسون أنفسهم أنهم من سلالة أصلٍ فاسدٍ، حيث أنه منذ سقوط أبينا الأول والنعمة هي التي تغيرنا إلى ما هو أفضل من جهة الاشتياقات والأعمال... يدركون أنهم نالوا قوة للجهاد. هكذا يخبر الطوباوي أيوب عن الأمور الصالحة الذي يمارسها، لكنه لم ينسبها إلى عمله مطلقًا. على العكس يسبح خالقه، ويجحد أنه قبَّل يده بفمه. البابا غريغوريوس (الكبير) فَهَذَا أَيْضًا إِثْمٌ يُعْرَضُ لِلْقُضَاةِ، لأَنِّي أَكُونُ قَدْ جَحَدْتُ اللهَ مِنْ فَوْقُ [28]. لم تتسلل محبة العالم إلى قلب أيوب، لا تسللت العبادة الوثنية إليه. فلو أنه سقط في هذه أو تلك لاستحق ما حلّ عليه كعقوبة إلهية. إنه لم يجحد إلهه بتعلقه بالخليقة أو بتأليهها. 13. لا يتسلل إليه فكر شماتة إِنْ كُنْتُ قَدْ فَرِحْتُ بِبَلِيَّةِ مُبْغِضِي، أَوْ شَمِتُّ حِينَ أَصَابَهُ سُوءٌ [29]. كان أيوب حريصًا ألا يجحد خالفه، ولا أن يظلم أخاه أو يكرهه، حتى وإن أبغضه أخوه. لا يتسلل إلى عقله فكر شماتة لمقاوم أو مبغض له. يقول سليمان الحكيم: "لا تفرح بسقوط عدوك، ولا يبتهج قلبك إذا عثر، لئلا يرى الرب، ويسوء ذلك في عينيه، فيرد عنه غضبه" (أم 24: 17-18). *طرق الأشرار الذين يفكرون في الأذية هي موت (أم 12: 28). "لا تفكر في أذية أخيك" (لا 19: 18 LXX ). وأيضًا: "إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا (في الوحل) لا تعبر به ما لم ترفعه أولًا" (حز 23: 5). في هذه النقطة يلزم على كل واحدٍ أن يضع بعين الاعتبار أنه لا يجوز أن يترك حمار عدوه في الوحل، فكيف يكره الإنسان المخلوق على صورة الله أو يتجاهله؟ لقد لاحظت في الطوباوي أيوب المحبة الصادقة الكاملة بكل أمانة حتى تجاه أعدائه، فاستطاع أن يفرح، ويقول بضميٍر صافٍ للرب: "إن كنت قد فرحت ببلية مبغضي، أو شمت حين أصابه سوء، وقلت في قلبي: حسنًا!" (أي 31: 29) . الأب قيصريوس أسقف آرل هذا الحب إن ملأ بالحق قلوبنا يُعلن عادة بطريقين: نحب أصدقاءنا في الله، ونحب أعداءنا من أجل الله... إن كنا نفرح لمصائب من يبغضنا، فواضح أننا لا نحبه، إذ لا نود أن يكون أفضل منا... البابا غريغوريوس (الكبير) ليس فقط لم يتحرك لأذية من يبغضه، ولا شمت في حلول ضيقة أو كارثة به، وإنما لم يتجاسر ليطلب من الله ضد أخيه. لم يطلب نقمة ممن يضرونه، ولا خرجت كلمة لعنة من فمه ضدهم! * الذين يهاجمون عدوًا باللعنات، ماذا يريدون من الله أن يفعل معه إلا ما هم عاجزين عن فعله أو يخجلون من أن يفعلوه...؟ في نفس الموضع الذين قرأوا: "أحبوا أعداءكم"، ألم يقرأوا: "باركوا ولا تلعنوا"؟ مرة أخرى: "غير مجازين عن شرٍ بشرٍ، وعن شتيمةٍ بشتيمةٍ" (لو 6: 27؛ رو 12: 14؛ 1 بط 3: 9). البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ كَانَ أَهْلُ خَيْمَتِي لَمْ يَقُولُوا: مَنْ يَأْتِي بِأَحَدٍ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ طَعَامِهِ؟ [31] كانت طبيعة أيوب عجيبة، وهي العطاء المستمر بسخاء خاصة للمحتاجين والمساكين، يعطي الغير احتياجاتهم ليس عند حد الكفاف، بل حتى يشبعوا. هذا الأمر كان موضع دهشة أهل خيمته، حتى الأجراء والعبيد والجواري كانوا يدهشون لحنوه نحو الجميع. كان موضع إعجاب كل من يتعامل معه! يشير هذا القول إلى المخلص الذي يشتاق رجال خيمته أو كنيسته، أن يدخل كل أحدٍ للتمتع بجسد الرب ويشبع به روحيًا، سواء كان من اليهود المُضطهِدين أو الأمم الذين يقبلون الإيمان. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ما ورد هنا: "آه! لقد امتلأنا من جسده!" بأن هذا تعبير عن المحبة الشديدة التي تربط أيوب بخدمه، وأن السيد المسيح يقدم لنا جسده لنأكله إعلانًا عن الحب الشديد بينه وبين مؤمنيه [هذا الجسد يعطيه إيانا لنأكله، الأمر اللائق بالحب الشديد. فالذين في قلوبهم حرارة غالبًا ما نعضهم بأسناننا. لهذا فإن أيوب إذ يشير إلى محبة خدمه نحوه قال إنهم غالبًا ما كانوا يفعلون هذا بسبب عاطفتهم القوية نحوه، فيقولون: "آه، لقد امتلأنا من جسده!" (انظر أي 31:131). هكذا يعطينا المسيح أن نمتلئ من جسده، جاذبًا إيانا إلى حب أعظم .] * "إن كنت قد سمحت للفقير أن يخرج من بيتي فارغ اليدين" [31]. لم يقل "أعطيت عندما توسل، بل أعطيت حتى من كان يُرفض أن يأخذه. لقد كان يلزم الذين كانوا يدخلون بيته ألا يخرجوا دون أن يأخذوا... كان أيوب يستخدم الضغط على من يعطيهم لكي يأخذوا. * هذا أيضًا يفعله المسيح, لكي يقودنا إلى صداقة حميمة, ليظهر حبه لنا, إذ يعطي من يشتاقون إليه ليس فقط أن يروه, بل ويلمسوه, ويأكلوه ويثبتوا أسنانهم في جسمه, ويحتضنوه, ويشبعوا كل حبهم. لنرجع من تلك المائدة مثل أسود تتنفس نارًا, نصير رعبًا للشيطان, ومفكرين في رأسنا, وفي الحب الذي يظهره لنا . القديس يوحنا الذهبي الفم غَرِيبٌ لَمْ يَبِتْ فِي الْخَارِجِ. فَتَحْتُ لِلْمُسَافِرِ أَبْوَابِي [32]. يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا رمزيًا، حيث يرى في المؤمن الحقيقي أن يتمثل بأيوب فيدخل بالغرباء عن الإيمان إلى بيته، الذي هو كنيسة الله. أيوب البار رمز للسيد المسيح، وبيته رمز للكنيسة. يشتاق السيد المسيح أن تُفتح أبواب كنيسته فيدخل إليها كل غريب. يغتسل الكل بدمه الثمين، ويتمتعون بعطايا الروح القدس، ويصيرون من أهل بيت الله. إن كانت البشرية كلها تمثل قافلة دائمة الحركة، فأبواب مراحم الله مفتوحة لهم، ليتمتعوا ببركات عمل الله الخلاصي، أثناء رحلتهم في هذا العالم. * انزع الإرادة الصالحة من الناس تكون كمن نزع الشمس عن العالم. بدونها لا يعود يبالي الناس بإظهار الطريق للغريب، ولا أن يردوا الضال، ولا أن يظهروا سخاءً. هذه فضيلة ليست هينة. فبسببها مدح أيوب نفسه بقوله: "غريب لم يبت (خارج أبوابي)، فتحت للمسافر بابي" (أي 32:31)... هكذا توجد الإرادة الصالحة في هذه كلها، مثل ينبوع مياه ينعش الظمأى، ومثل نور يشرق على الآخرين، ولا يمنع ضياءه عن الذين يقدمون النور للغير . القديس أمبروسيوس *الفقر والغنى هما سلاحان متشابهان، بهما نخدم الفضيلة إن أردنا... لكي نتعلم أن هذا حق، فلنذكر حالة أيوب، الذي صار غنيًا وأيضًا فقيرًا، واستخدم هذين السلاحين بطريقة متشابهة، غلب بالاثنين. فعندما كان غنيًا قال: "فتحت لكل مسافرٍ بابي" (أي 32:31). وعندما صار فقيرًا قال: "الرب أعطى، الرب أخذ، ما يحسن في عينيه يفعله" [(أي 21:1) LXX والفولجاتا]. عندما كان غنيًا أظهر كرم الضيافة، وعندما كان فقيرًا قدم صبرًا كثيرًا . * ليس فقط ما نعطيه صدقة، وإنما ما نحتمله بثبات عندما يسلبنا آخرون مما لنا، كلاهما يقدمان لنا ثمرًا عظيمًا. ولكي تدرك أن الأمر الأخير بالحق هو أمر أعظم أقدم شهادة مما حلّ بأيوب. عندما كان مالكًا لثروةٍ فتح بيته للفقراء، مقدمًا ما لديه لهم. لكنه لم يكن مشهورًا عندما فتح بيته للفقراء بقدر ما صار عليه عندما سمع أن بيته سقط ولم يقبل الخبر بصدر ضيق. لم ينل شهرة عندما كسا العراة بجلد غنمه، مثلما اشتهر وعُرف عندما سمع أن نارًا سقطت على قطعانه وأحرقتها جميعًا ومع هذا قدم شكرًا. قبلًا كان محبًا للناس، والآن صار محبًا للحكمة. قبلًا كان حنونًا على الفقراء، الآن يقدم شكرًا للرب... لقد عرف أن الله كان يدبر كل الأمور للخير . القديس يوحنا الذهبي الفم إِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَمْتُ كَالنَّاسِ ذَنْبِي، لإِخْفَاءِ إِثْمِي فِي حِضْنِي [33]. صورة جميلة لتواضع البار أيوب، فمع كل السمات السابقة المذهلة لإنسان يعيش في وسط عالم وثني، فيتمسك بخالقه، ولا تتسلل محبة المقتنيات إلى قلبه، بل يبذل ويعطي في سخاء عجيب، ويقدّر ويكرم حتى العبيد والإماء، لا ينكر أن له أخطاء وخطايا لا يخفيها في حضنه، بل يعترف بها علانية. * هذه هي البراهين على التواضع الحقيقي، أن يؤكد الإنسان شره الذاتي، مؤكدًا إياها بكشفها بصوت الاعتراف. على عكس ما اعتاده الجنس البشري من ممارسة الإنسان للخطية بينما يحفظ نفسه مخفيًا عن الأنظار. وعندما تكُتشف ينكرها، مخفيًا إياها، وعندما يُتهم بها يضاعف من خطاياه بسقوطه في الدفاع عن نفسه. منذ سقوط الإنسان انسحبنا إلى هذه الدرجات من الشر... ولما كانت خطية الإخفاء تنمو بلغت إلى حدٍ مخيفٍ في الجنس البشري، قال الطوباوي أيوب: "إن أخفيت معاصي"، مضيفًا الكلمات: "كإنسان"، إذ رأى أن أخذ صورة الأبوين الأولين صار نموذجًا للإنسان... أبرز الطوباوي أيوب تواضعًا منفردًا، إذ عرف أنه كان يعيش بين مقاومين، ومع هذا لم يخشَ أن يكشف أخطاءه بصوت الاعتراف. لاحظوا أنه قبلًا أخبر عن سماته الفاضلة، بعد ذلك يعترف بخطيته. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس يوحنا الذهبي الفم القديس باسيليوس الكبير إِذْ رَهِبْتُ جُمْهُورًا غَفِيرًا، وَرَوَّعَتْنِي إِهَانَةُ الْعَشَائِرِ، فَكَفَفْتُ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنَ الْبَابِ! [34] إن كان قد اعتاد إن يعترف بخطاياه علانية ولا يكتمها في داخله، لكن الموقف قد تغَّير تمامًا، فقد هاجت القبائل ضده، وصار كأن لا عمل للعشائر سوى الهجوم العنيف ضده، وبلا سبب. أما هو فلم يسمح لفمه أن ينطق بشيء إلى حين. صارت كلماته كمن لم تخرج من باب فمه. * كأنه يقول بوضوحٍ: بينما لم يهدأ الآخرون من الهجوم عليّ خارجيًا، بقيت أنا نفسي متحررًا من الاضطراب في داخل نفسي. لأنه بماذا نأخذ هنا الباب سوى الفم؟ فإننا بهذا نكون كمن يتقدم للكشف عن أسرار قلوبنا. إذ نبقى في الداخل في الضمير، نخرج خارجًا باللسان. لكن يوجد بعض يخشون تمامًا أن يُحتقروا، ويهدفون نحو الظهور حكماء عند اتهامهم أنهم مستحقون للازدراء... عندما يكون القديسون تحت المحاكمة، يمتنعون تمامًا عن الظهور (للدفاع عن أنفسهم)، وعندما لا يستطيعون أن ينفعوا من يسمعون لهم، يحتفظون بالصمتٍ، حتى يُحتقروا، وذلك لئلا يفتخروا باستعراض حكمتهم... مكتوب: "وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جدًا، لأنه كان يريد من زمنٍ طويلٍ أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تُصنع منه". وأضيف: "وسأله بكلامٍ كثيرٍ، فلم يجبه بشيء". ولكن كيف أُحتقر الرب جدًا لأنه احتفظ بصمته، فقد ظهر ذلك من الكلمات التي وردت بعد ذلك مباشرة: "فاحتقره هيرودس مع عسكره، واستهزأ به" (لو 23: 8، 9، 11). يليق بنا أن نسمع ونتعلم أن المستمعين إلينا غالبًا ما يريدون أن يكونوا معروفين خلال أمورٍ تخصنا، وليس لكي يُصلحوا من أخطائهم. لذلك يليق بنا أن نتمسك بالصمت، لئلا إذا تكلمنا بكلمة الله بطريقة مكشوفة لا تتوقف أخطاء هؤلاء الأشخاص، ونخطئ نحن... يقول الكارز: "لأننا لسنا كالكثيرين غاشين كلمة الله"، لكن كما من إخلاص، بل كما من الله نتكلم أمام الله في المسيح" (2 كو 2: 17)... التكلم كما من إخلاص هو ألا تطلب شيئًا بجانب ما هو ضروري ولازم... يتكلم كما من الله الذي يعرف أنه هو نفسه ليس لديه شيء من ذاته، إنما يتكلم بما يتسلمه من الله. يتكلم أمام الله من لا يتطلب ما هو للناس في كل ما ينطق به، بل ينشغل بحضرة الله القدير، ويتطلع نحو مجد خالقه، لا مجده هو. البابا غريغوريوس (الكبير) مَنْ لِي بِمَنْ يَسْمَعُنِي؟ هُوَذَا إِمْضَائِي. لِيُجِبْنِي الْقَدِيرُ. وَمَنْ لِي بِشَكْوَى كَتَبَهَا خَصْمِي [35]. يعود أيوب في النهاية يطلب ما سبق فكرر طلبه أن يجد من يدخل معه في محاكمة ويسمع له. لقد وقعَّ بنفسه على طلب الدخول في المحاكمة والاستعداد لقبول أية عقوبة يستحقها. انه يطلب أن يقوم القدير نفسه، فاحص القلوب والكلى، والعارف بالأسرار بمحاكمته، ولا يقف الأمر عند اتهامات يقدمها له خصومه بلا وقائع ثابتة ضده. فَكُنْتُ أَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِي. كُنْتُ أُعْصِبُهَا تَاجًا لِي [36]. يسأل أيوب المحاكمة العلنية، حاسبًا أنه وهو يُحاكم كمجرمٍ ينال كرامة، ويعتبر الاتهامات الموجهة ضده تاجًا يُكلل رأسه، لأن الله حتمًا سيبرره! كُنْتُ أُخْبِرُهُ بِعَدَدِ خَطَوَاتِي، وَأَدْنُو مِنْهُ كَشَرِيفٍ [37]. يعلن أيوب البار أنه لن يخفي شيئًا من خطوات حياته كلها. فقد كان يدرك أن حياته تشهد له كشريفٍ لا كمجرمٍ. إِنْ كَانَتْ أَرْضِي قَدْ صَرَخَتْ عَلَيَّ، وَتَبَاكَتْ أَتْلاَمُهَا جَمِيعًا [38]. في يقينه أنه لم يظلم أحدًا قط، بل يحنو ما استطاع ويعطي على الدوام لذلك يسألهم أن يتطلعوا إلى الأرض فإنها تشهد هي وغلاتها عن حبه، إنها لا تجد شكوى واحدة ضده، ولا تبكي أو تنوح على تصرف ما سلكه. * الأرض لا تتنهد ولا تحزن. فماذا يعني بقوله هذا؟ إنها ليست الأرض حقيقة (بالمفهوم الحرفي) تتنهد، ولكن هذه الأشياء الجامدة تمتعض من الظلم، كما يقول النبي: "تنكسر الأرض، وتُضرب بالفزع" (راجع إر 2: 12). على أي الأحوال تتنهد الأرض في كل وقتٍ فيه نستخدم ثمارها بظلمٍ. القديس يوحنا الذهبي الفم إِنْ كُنْتُ قَدْ أَكَلْتُ غَلَّتَهَا بِلاَ فِضَّةٍ، أَوْ أَطْفَأْتُ أَنْفُسَ أَصْحَابِهَا [39]. فَعِوَضَ الْحِنْطَةِ لِيَنْبُتْ شَوْكٌ، وَبَدَلَ الشَّعِيرِ زَوَانٌ. تَمَّتْ أَقْوَالُ أَيُّوبَ [40]. يتحدى أيوب أصدقاءه قائلًا بأنه لو كان قد ظلم أحدًا فأخذ غلة (حنطة أو شعير) دون أن يدفع الثمن، فإنه لن يحزن إن قدم الخاضعون له عوض الغلال للأكل والانتعاش أشواكًا وزوانًا. يؤكد أنه إن كان ظالمًا فلا يستحق أن يأكل خبزًا من الحنطة كأفقر البشرية، ولا شعيرًا كالحيوانات، بل يقدم له الناس كلمات لاذعة كالشوك أو كلمات تافهة كالزوان، إذ لا يستحق إلا أن يُلقى في النار. تمت أقوال أيوب في حواره مع أصدقائه، وكان في حديثه يشعر أنه يتحدث في حضرة الله، بل وكثيرًا ما يوجه حديثه لله نفسه، فهو يطلب رضا الله، لا أن يبرره إنسان. من وحي أيوب 31 أشرق بنورك في أعماقي * هب لي مع تقيك أيوب أن أكتشف أعماقي. إني أعلم ثقل خطاياي، لكن من يقدسني سواك. بدونك أُصدم بالظلمة التي ملكت في داخلي. بكَ أمتلئ رجاءً في خلاصك، يا من تشرق بمجدك علىٌ! أنت وهبت وجه موسى بهاءً، هب لأعماقي بهاءً من عندك. * إني لا أسمح لعيني أن تتطلعا إلى عذراء. لكن من يهب قلبي وفكري وعواطفي البتولية غيرك؟ أنت نصيبي وميراثي الأبدي، أقتنيك، فلا يتسلل حب الشهوة إلى أعماقي. * أنت فاحص القلوب والكلي، تعرف كل أسراري الخفية، لا لتدينني بل لتقدسني. * أنت هو الحق، من يقتنيك لا يهادن الكذب، ولا يدخل في تعامل مع إبليس الكذاب وأب الكذابين. * السماء ليست بطاهرةٍ أمامك، وتنسب لملائكتك حماقة، فكيف أتبرر أمامك؟ لأوزن بميزان حبك، فيسندني صليبك. ارتدي بَرك المجاني، فأتراءى أمام العرش الإلهي. * بك أقتني الطهارة والحنو والحق. فلن يقترب الزنا إلى جسدي، ولا إلى نفسي! أحترم كل إنسانٍ، وأراك في كل شخصٍ! لا أبالي بالغنى ولا السلطان، فأنت غناي ومجدي! أحب حتى أعدائي ومقاومي، واشتهي سلام العالم كله ومجده فيك. ليقم العالم ضدي، فإني اشتهي أن أغسل قدميه! أخيرًا هب لي مع أيوب البار أن تكون أنت الكل لي! |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 29 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() الوسيط الواحد! يُعتبر هذا الأصحاح من أروع ما كُتب في العهد القديم، حيث يكشف بعمقٍ عن نظرة رجال العهد القديم، في عصر الآباء، نحو الحاجة إلى الوسيط الإلهي، الشفيع، الذي يصالح الآب مع الناس، ويدخل بالخطاة إلى الحياة الجديدة المقدسة البارة عوض الانحدار إلى جهنم الأبدية. إنه عرض رائع لطريق الخلاص كما أُعلن للآباء والأنبياء. كان موقف أليهو لا يُحسد عليه، فهو أصغرهم سنًا، وفي نفس الوقت يحترق قلبه في داخله، إذ يرى الشيخ البار في ضيقةٍ شديدةٍ من كل جانب، حتى من أصدقائه، وفي نفس الوقت لم يحتمل عتاب أيوب لله بأسلوب شديد اللهجة. يود أليهو أن ينطق بالحق الذي قد يجرح مشاعر الطرفين: أيوب وأصدقائه. الآن يقترب أليهو من أيوب ويوجه حديثه إليه، أما غاية حديثه معه، فهي أن ينطق بما هو لبنيان أيوب. فهو يحبه جدًا ومقتنع ببرِّه، لكنه كان يود أن يراه في وسط محنته في ذات الصورة البهية التي رآها فيه قبل التجربة، لا ينطق بكلمة واحدة ينسب فيها لله القسوة. ومن جانب آخر، يتكلم على لسان الله، فيعاتبه على كلماته التي وجهها لاتهام الله بالقسوة أثناء الحوار الساخن بينه وبين أصدقائه. وأخيرًا كان يسعى لإقناعه بأخطائه. 1. باسم الله يدعو أيوب للحوار معه وَلَكِنِ اسْمَعِ الآنَ يَا أَيُّوبُ أَقْوَالِي، وَأصْغَ إِلَى كُلِّ كَلاَمِي [1]. لم يجسر أحد الشيوخ أن يوجه حديثه لأيوب، ذاكرًا اسمه، أما هذا الشاب فمع فارق السن يقول: "اسمع الآن يا أيوب أقوالي، وأصغِ إلى كلامي" (أي1:33). يوجد فارق في السن، لكن كليهما مخلوقان، ويليق بكل منهما أن ينصت للآخر. إن كان يليق بالصغار سنًا أن يطيعوا الكبار، فإنه يلزم أن ينصت الكل لبعضهم البعض. فلا نعجب أن يبدأ أليهو الشاب حديثه مع الشيخ التقي أيوب قائلًا: "اسمع الآن يا أيوب أقوالي، وأصغِ إلى كلامي" (أي 1:33). كما يقول بشجاعةٍ وأدبٍ: "ها إنك في هذا لم تُصب" (أي 12:33). يعود فيكرر: "فأصغِ يا أيوب، واستمع لي. أنصت، فأنا أتكلم، فإني أريد تبريرك" (أي 31:33-32). صورة رائعة من الجانبين، رجل الله التقي الشيخ ينصت لشابٍ دون تشامخٍ من جانبه أو استخفافٍ بصغر السن. ومن جانب الشاب الصغير فمع حواره مع الشيخ بصراحةٍ وانفتاح قلبٍ وشجاعةٍ، كان في غاية الأدب والرقة. إنه يريد أن يبرر من هو في سن والده! إذ يقدم أليهو التماسه لأيوب يسأله أن يصغي إليه كصديقٍ مخلصٍ يحبه، ولا يتكلم لينتقده أو يرعبه. اقتبس أليهو بعض عبارات من أيوب، وأوضح له أن الله أعظم من الإنسان، وليس من حق الأخير أن يطلب تفسيرًا من الله على تصرفاته. ما يليق بأيوب أن يدركه هو أن الله يطلب خلاص الإنسان لا هلاكه. يبدأ أليهو بتوجيه حديثه إلى أيوب، وفي الأصحاح التالي يوجه الحديث إلى أصحاب أيوب. يعتبر هذا الأصحاح مقدمة ليهيئ قلوب هؤلاء الأصدقاء الثلاثة للاستماع إليه. وهو في هذا لم يفترِ على أيوب، إنما وجه إليه اللوم من واقع كلماته في الحوارات السابقة. يسأله أن يصغي إلى كلماته، أو أحاديثه، ليس فقط ما يوجهه إليه، بل وإلى "كل كلماته"، فإنه ينطق بالحق الإلهي لمنفعة الجميع. يطلب منه أن يطيل أناته، فيسمع الحديث حتى آخره، وأن يضع في ذهنه أن ما يُقال ليس غايته نقده وإلقاء اللوم عليه وإنما نفعه. هَأَنَذَا قَدْ فَتَحْتُ فَمِي. لِسَانِي نَطَقَ فِي حَنَكِي [2]. جاء في ملاحظات Barnes على هذه العبارة، أن أليهو يتحدث بالكلمات التي في فمه والناطق بها بلسانه الذي يتحرك نحو سقف حلقه، لأن النطق باللغة العبرية يستخدم بالأكثر الحنجرة والحلق واللسان، أما اللغات الأوربية (اللاتينية والإنجليزية) فيستخدم فيها بالأكثر الأسنان والشفاه. إنه يتحدث معه من حلقه، كمن يخرج الكلمات تحمل طعمًا خاصًا وتذوقًا مملوء حبًا. كل البشر يتكلمون بأفواههم، لكن قليلين من يتذوقون كلماتهم ويفحصونها أولًا، فينطقون بما هو صالح للبنيان. لقد صمت أليهو طوال فترة الحوار، وكان يتفاعل في الداخل مع الحوار. لم يتسرع بالنقد أو الإجابة على بعض التساؤلات، لكن بحكمةٍ وفي روية اختبر ما في فكره من كلمات، لينطق بما هو يليق. في حديث رائع يوجهنا القديس مار يعقوب السروجي لنتدرب على الصمت المقدس والكلام المقدس. حيثما انشغلنا بالكلمة الإلهي يقودنا روحه القدوس للصمت البنَّاء كما للحديث البنّاء. * أنت هو الكلمة التي تعطي كلمة للمتكلمين، بك يتكلم جميع المتكلمين من أجلك. شعاعًا وإشراقًا ونورًا عظيما أشرق فيّ، فأنظر إليك. فبنظري لك، تستضيء النفس فتقتني الصلاح. وحين تبتعد منك النفس تمتلئ ظلامًا، وإذا ما تفرست فيك لبست النور لتنطق بكلام خبرك... الصمت والكلام قائمان عليّ يطالبانني. يا رب دبر حياتي كإرادتك. إن صمت أدهش، إذ أشعر بعدم كفايتي (للكلام). أصمت في دهشة، وليس بطغيانٍ باطلٍ. وإن تكلمت تكون كلمتي حسب مجدك ولأجلك. عندما تمتلئ النفس بالصمت في دهشٍ بك، يكون هذا الصمت حديثًا مملوءً بكل منفعة. وإذا ما تحركت النفس لتمجدك بمحبة... فبالحب أتحرك، وأتحرك لأمجدك. وفي دهش أصمت ولا اهدأ من تمجيدك. هب لي يا رب الدهش (بالصمت) والكلمة فأغتني. وفي كل يوم أدهش، وفي كل يوم أتحرك بالكلام! القديس مار يعقوب السروجي اِسْتِقَامَةُ قَلْبِي كَلاَمِي، وَمَعْرِفَةُ شَفَتَيَّ هُمَا تَنْطِقَانِ بِهَا خَالِصَةً [3]. يقول أليهو إن الله الذي وهبه روحه يعطيه أن ينطق بقلبٍ نقيٍ، ويُقدم معرفة صادقة غير غاشةٍ. وكأنه يطلب من أيوب أن يتطلع لا إلى الكلمات مجردة، بل إلى ما في قلب أليهو من نقاوة من نحوه، واستقامة في هدفه في الحوار. كلماته تصدر عن حبٍ خالص، بلا رياء؛ يتكلم في إخلاصٍ من قلبه، ولا يستعرض كلمات جوفاء. ما ينطق به يعبر بصدقٍ عما في قلبه. أراد منه ألاَّ يضمه مع الأصدقاء الثلاثة حتى وإن تشابهت الكلمات، لأن النيات مختلفة تمامًا. * يريد أن يقول: ليس عن حسدٍ أو غيرةٍ أستخدم هذه الوسيلة. وإن كان الثلاثة يقولون نفس الأمور كما يقولها هو، لكن يبدو أنهم لم يتكلموا بذات الروح، ولا فعلوا هذا دفاعًا عن الله. فيهوذا والاثنا عشر عبروا جميعًا بنفس الطريقة بخصوص قارورة الطيب (يو 5:12-6)، ولكن ليس بذات الروح. لذا يليق بنا لا أن نفحص الكلمات، بل النية التي بها عبٌَر كل منهم عن نفسه: كيف أراد البعض تحطيم أيوب بينما الآخر أراد العكس. القديس يوحنا الذهبي الفم رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي، وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي [4]. استخدم كثير من آباء الكنيسة هذه العبارة لتأكيد لاهوت الروح القدس بكونه الخالق واهب الحياة. فإن كان الآب هو الخالق وواهب الحياة، فإن الأقانيم الثلاثة يشتركون معًا في كل عمل إلهي. هنا يتحدث مع أيوب بروح الأخوة الصادقة، فيوضح له أنه من صنع روح الله، الذي وهبه الحياة. فهو أداة في يد الله الذي خلق أيضًا أيوب ووهبه الحياة. فلا يليق بأيوب أن يخشى الحوار مع زميله في الخلقة والحياة، إذ الاثنان مدينان لروح الله بوجودهما وحياتهما. يؤكد له أن الاثنين خليقة الله، لهما ذات الطبيعة، ولها ضعفاتها التي تسللت إلى الطبيعة البشرية. * كيف أظهر (سفر) أيوب بوضوح أن الروح خالق، قائلًا: "روح الله خلقني"؟ في عبارة قصيرة أظهر أنه إلهي وخالق. إن كان الروح هو الخالق، فبالتأكيد ليس مخلوقًا، لأن الرسول يفصل الخالق عن المخلوق، قائلًا: "عبدوا المخلوق لا الخالق" (رو 25:1) . القديس أمبروسيوس القديس غريغوريوس النزينزي البابا غريغوريوس (الكبير) إِنِ اسْتَطَعْتَ فَأَجِبْنِي. أَحْسِنِ الدَّعْوَى أَمَامِي. انْتَصِبْ [5]. يؤكد له أليهو أنه إن أراد أن يدخل معه في حوار، فليعلم أنه لم يدخل كمن ينتهر ويعلّم، وإنما كشخصين متعادلين من صنع روح الله. يتكلم لا لينتصر أو يتسلط، وإنما بروح الأخوة. كأنه يقول له: أنا إنسان مثلك، أود لك ما أوده لنفسي. اقبل كلماتي بروح المودة. هَأَنَذَا حَسَبَ قَوْلِكَ عِوَضًا عَنِ اللهِ. أَنَا أَيْضًا مِنَ الطِّينِ جُبِلْتُ [6]. يترجمها Umbreit: "أنا مثلك من عند الله"، وNoyes: "أنا مثلك خليقة الله"، وWemyss: "أنا مساوٍ لك في عيني الله" وCoverdale: "انظر، فإنني أمام الله كما أنت، فقد تشكلت من ذات الطين". وجاء ترجمة الفولجاتا: "انظر، فإن الله خلقني كما خلقك، ومن ذات الطين أنا تشَّكلت". والترجمة السبعينية: "من الطين تشَّكلت كما أنت، تشكلنا نحن من ذات الطين" . يرى البعض أن معنى العبارة في العبرية: "أنا بحسب فمك إنسان الله"، أي إنني أتكلم باسمه كممثلٍ له، سفير عنه. إذ كان أيوب يتوسل إلى الله أن يدعوه للمحاكمة حتى يجد فرصته للدفاع عن نفسه، فقد جاءه أليهو يسأله أن يتكلم بكل صراحة كما في محكمة أمام الله. يعود فيطمئن أليهو أيوب، بأنه وإن تحدث باسم الرب؛ ألاَّ أنه مخلوق من طين هش مثله، من تراب الأرض. إن كان الله يتكلم من خلاله، إلاَّ أنه ليس في ذاته ما يخيف أو يُرعب. * يلزمنا حينما نُحث على ممارسة فضيلة ما ألاَّ نقول إن هؤلاء كانوا شركاء لطبيعة غير طبيعتنا، أو إنهم ليسوا بشرًا. لهذا قيل عن العظيم إيليا: "كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا" (يع 5: 17). هل تدركون أن إيليا قد أظهر من ذات شركته للآلام أنه إنسان مثلنا؟ مرة أخرى قيل: "إني أنا أيضًا إنسان لي ذات الآلام مثلكم" (راجع حك 7: 1). هذا يعطي طمأنينة من جهة شركة الطبيعة . * لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر. الآن، أين هؤلاء المعترضون على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟ فهذا الرجل يدينهم بكلماته: "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديٍ" (2 كو17:4). فإن كانت ضيقاته مُحتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟ القديس يوحنا الذهبي الفم هُوَذَا هَيْبَتِي لاَ تُرْهِبُكَ، وَجَلاَلِي لاَ يَثْقُلُ عَلَيْكَ [7]. في شغف شديد كان أيوب يود أن يعرض قضيته أمام الله مباشرة، لكنه كان يشعر بمهابة الله، مما يجعله عاجزًا عن الحديث في صراحة معه. يقول: "أبعد يديك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني" (أي 13: 21)، كما يقول: "ليرفع عني عصاه، ولا يبغتني رعبه" (أي 9: 34). يقول أليهو: "إننا متساويان، ليس من خوفٍ يحل عليك، وليس من رهبةٍ ليّ تباغتك، حتى تعجز عن أن تأخذ موقف الدفاع معي. لن تثقل يدي عليك، لأني ضعيف مثلك، لا سلطان لي عليك". كلمة "يثقل" هنا تستخدم للإنسان وهو يسحب حيوانًا يحمل أثقالًا، كما تشير إلى شخصٍ مثقل جدًا، فينحني بسبب ثقل الحمل. لعله بسبب هذا المعنى شعر البابا غريغوريوس (الكبير) أن أليهو تعدى حدود اللياقة. فمع اعترافه أنه يحمل ذات طبيعة أيوب، وأنه مساوٍ له، لكنه يتكلم بجسارة فائقة، مطالبًا أيوب أن يجاوب ويحاور بلا خوف ولا رعدة. 2. عتابه لأيوب على استخدام عبارات عنيفة إِنَّكَ قد قُلْتَ في مَسَامِعِي، وَصَوْتَ أَقْوَالِكَ سَمِعْتُ [8]. واضح أن أليهو قد حضر كل الحوارات، وكانت أذناه مصغيتين لكل كلمة بكل انتباه. الآن يبدأ بالتعليق على ما يظن أن أيوب قد أخطأ فيه في محاولته لتبرير نفسه. لقد اقتبس العبارات الثلاث القادمة من كلمات أيوب في أحاديثه. قُلْتَ: أَنَا بَرِيءٌ بِلاَ ذَنْبٍ. زَكِيٌّ أَنَا، وَلاَ إِثْمَ لِي [9]. أول خطأ أثار أليهو هو تبرير أيوب نفسه. حقًا لقد قال أيوب لله إنه يعرف أنه ليس بشريرٍ، وإنه متمسك بالبرّ وغير ذلك من العبارات المشابهة، لكنه في نفس الوقت اعترف أنه خاطئ، وأنه لن يتبرر أمام الله (أي 7: 21؛ 9: 29، 30؛ 13: 23، 26). لم يقتبس أليهو كلمات أيوب كما هي، كما لم تحمل كلماته تبرير نفسه، إنما مواجهة الاتهامات التي ضده أنه مرائي، وأنه شرير. "زكي أنا": الكلمة العبرية هنا chap، مشتقة من Chopap، وتعني يغطى، يحمي، كما تعني يغسل أو ينقي. هُوَذَا يَطْلُبُ عَلَيَّ عِلَلَ عَدَاوَةٍ. يَحْسِبُنِي عَدُوًّا لَهُ [10]. يتهمه أليهو بأنه قال عن الله أنه يتلقط له الأخطاء، فيتحين كل فرصة ضده كما لو كان عدوًا. لعله استنتج هذا من قول أيوب لله: "أما الآن فتُحصي خطواتي؛ ألاَّ تحافظ على خطيتي؛ معصيتي مختوم عليها في صُرة، وتلفق عليَّ فوق إثمي" (أي 14: 16-17). "لماذا تحجب وجهك، وتحسبني عدوًا لك؟" (أي 13: 24). "وأضرم عليَّ غضبه، وحسبني كأعدائه" (أي 19: 21). وَضَعَ رِجْلَيَّ فِي الْمِقْطَرَةِ. يُرَاقِبُ كُلَّ طُرُقِي [11]. هذا الاتهام نقله عن قول أيوب: "فجعلت رجليَّ في المقطرة، ولاحظت جميع مسالكي، وعلى أصول رجليَّ نبشت" (أي 13: 27). هكذا يصور أيوب الله كمن ينشغل بخطيته ويدقق فيها ويختم عليها، لتقف شاهدة عليه، وأنه يتعامل معه كعدوٍ، يحمل غضبًا عليه؛ يربطه في المقطرة حتى لا يهرب من الدينونة العتيدة والحكم الإلهي ضده. 3. أليهو يحاول إقناع أيوب بعناية الله أ. الله صاحب السلطان على الإنسان هَا إِنَّكَ فِي هَذَا لَمْ تُصِبْ. أَنَا أُجِيبُكَ. لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ [12]. من لا يعرف أن الله أعظم من الإنسان، فإن هذا القول يبدو كما لا حاجة إلى سرده، لكن أليهو قاله لمغزى خاص. فقد وجهه إلى إنسانٍ يعاني من نكبات خطيرة متوالية، دون أن يعرف أيوب ما وراء هذه النكبات. ما عناه أليهو أن أيوب الإنسان الضعيف يلزمه أن يخضع للتأديبات الإلهية، حتى وإن لم يدرك أحكام الله من جهة هذه التأديبات. كل ما يليق به أن يعرفه أن الله عادل، وليس فيه ظلم، وأن ما حلٌ بأيوب هو ثمرة أخطائه. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب إذ صرخ نحو الله قائلًا: "لا تجاوبني" (أي 15:9)، أجابه أليهو: "أخبرني، ذاك الذي توبخه بأنه لا يصغِ بأذنه إلى توسلك، ما هو الدليل أنه لا يسمع لك؟ إنه يؤدب ويعاقب! هذا هو قانونه لإصلاح حال البشر". * التزم النبي داود -تحت ثقل الضربات- أن ينطق بكلمات مُبالغ فيها، حيث عاد يتأمل في أصله، قائلًا: "صمت، لا أفتح فمي، لأنك أنت خلقتني" (مز 9:39). فقد تأمل في أية رتبة خُلق، وتعلم عدالة الضربة التي حلت به. البابا غريغوريوس (الكبير) * لم يكن بالأمر الهيّن الحزن المؤقت لكل أحدٍ، إذ لهم المحبة الكاملة لله في المسيح يسوع بالروح القدس منسكبة في قلوبهم . العلامة أوريجينوس لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا [13]. يعاتب أليهو أيوب لأنه يدخل في خصومه مع الله؛ يسأله وينتظر إجابة سريعة. الله يحب الإنسان بكونه خليقته التي على صورته، ويفعل ما يسر (الله) حتى وإن لم يدرك الإنسان خطته الإلهية. يفعل الله ما لبنيان الإنسان، وإن كان الإنسان في أحوال كثيرة لا يدرك ما وراء التصرفات الإلهية. يليق بالإنسان أن يثق في حب الله وأبوته الفائقة وحكمته وقدرته، فيقبل كل شيء من يد الله بفرح وثقة، كما يقبل الطفل من يدي والديه ما يمارسونه معه، حتى يتفهموا يومًا فيومًا خطة الوالدين نحوه. يليق بنا عوض الدخول في خصومة مع الله، أن نثق أنه لن يخطئ، وأنه صانع خيرات؛ وأننا يومًا ما ننضج روحيًا ونتعرف على خطته من نحونا. دورنا هو الخضوع والطاعة بفرحٍ وثقةٍ في حكمته، لا الدخول معه في خصومه. فالويل لمن يخاصم جابله، خزف بين أخزاف الأرض. هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان" (إش 45: 9). ب. باستخدام الأحلام والرؤى لَكِنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً، وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَان ُ[14]. لعل أليهو يقصد أن الله تكلم مع أيوب حين كان في وسع ولديه خيرات كثيرة، وإذ لم يسمع لله تكلم معه بلغة الضيقات المتوالية، ومع هذا لم يدرك أيوب مقاصد الله ولم يفهم كلماته. هكذا يكلمنا الله أحيانًا بلغة الألم والضيق لكي ينقينا، فنسمع صوته، ونراه متجليًا في حياتنا. "كل ما يأتي بثمرٍ ينقيه ليأتي بثمرٍ أكثر" (يو 15: 2). "مرة واحدة تكلم الرب، وهاتين الاثنتين سمعت أن العزة لله" (مز 62: 11). يستخدم كل وسيلة ليتحدث معنا، تارة خلال الخيرات الكثيرة التي يهبنا إياها، وتارة خلال كلمته المقدسة، وأحيانًا خلال الأحلام والرؤى، وإذ لا نسمع له يحدثنا بلغة الضيقات والآلام، كالأمراض أو المتاعب في العمل أو الخسائر المادية أو المعنوية إلخ. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير)أنه لأمر طبيعي للقلب المتألم، إذ يرى الأمور تسير على خلاف ما يشتهيه، يشتاق أن يسمع إجابة من الله لماذا تسير الأمور في هذا الطريق، وليس في ذاك. يشتاق أن يجد تفسيرًا للأحداث التي تمر به. يجيبه أليهو أن الله لا يجيب الإنسان في حديث خاص منفرد مع قلب الإنسان، إنما يقدم الإجابة خلال الأسفار المقدسة مرة وليس مرتين، أي لا حاجة أن يقدم لنا الله الإجابة مباشرة كأنه يكرر ما سبق فأعلنه خلال الكتاب المقدس، لكن الإنسان لم يلاحظ إجابة الله له. يليق بنا أن ندرك إجابة الله خلال معاملاته مع من سبقونا بكونهم أمثلة للآتين من بعدهم، ولا نتوقع أن يكرر الإجابة للمرة الثانية (أي 14:33).. يقدم لنا مثالًا لذلك أنه إذ تحل بنا ضيقة نجد تعزيتنا فيما حلّ بالقديس بولس حيث كان يعاني من ضعف الجسد، وقد سمع الصوت الإلهي: "تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 9:12). لقد قيل هذا للقديس بولس حين عانى من الألم، لكي لا يُقال هذا لكل واحدٍ بمفرده، بل يُحسب هذا القول مُقدمًا لكل متألمٍ. لقد تكلم الآب مرة، حيث وُلد الكلمة الإلهي أزليًا، وليس من كلمة أخرى يلدها تشاركه الجوهر الإلهي وتساويه في ذات الجوهر. فِي حُلْمٍ فِي رُؤْيَا اللَّيْلِ، عِنْدَ سُقُوطِ سُبَاتٍ عَلَى النَّاسِ، فِي النُّعَاسِ عَلَى الْمَضْجَعِ [15]. يقصد بالنعاس slumbering النوم الخفيف، فيكون الإنسان في حالة ما بين النوم واليقظة. سبق فقال أيوب: "تريعني بالأحلام، وترهبني برؤى" (أي 7: 14). وكان يليق به أن يدرك أن الله يود أن يقدم له رسالة معينة خلال هذه الأحلام المريعة والرؤى المرهبة. جاء في النسخة السريانية: "ليس بالشفاه يُعلم، وإنما بالأحلام والرؤى في الليل". حينما يكون الإنسان في هدوء، بعيدًا عن ارتباكات الحياة والمشاغل اليومية، كمن هو في غفوة نومٍ، يمكنه أن ينصت إلى الصوت الإلهي وسط هدوء أفكاره وانفعالاته الداخلية. * ماذا يُقصد بكلمة الله أنه يُعرف لنا في حلمٍ إلا أننا لا نتعلم أمور الله السرية مادمنا في يقظةٍ في الشهوات العالمية. ففي الحلم تستريح الحواس الخارجية، ويمكن تمييز الأمور الداخلية. إذن، إن أردنا التأمل في الأمور الداخلية، فلنسترح من الانشغالات الخارجية. بالحقيقة يُسمع صوت الله كما في حلمٍ، عندما تكون الأذهان في راحة، نستريح من ضجيج هذا العالم، فنفكر في الوصايا الإلهية في أعماقها، في السكون العميق للذهن. هكذا إذ يُلزم القديسون خلال ضرورة الالتزامات أن ينشغلوا في أمور خارجية، يعودون دومًا في شغفٍ لدراسة أسرار قلوبهم. بهذا يصعدون إلى علو الفكر الخفي، ويتعلمون كما لو إلى الناموس الذي على الجبل، عندما يضعون جانبًا قلاقل الأعمال الزمنية، ويتأملون في أحكام الإرادة الإلهية. هكذا موسى نفسه كثيرًا ما انسحب إلى خيمة الاجتماع في أمورٍ متشكك فيها، يسأل الله خفية، ويتعلم القرارات التي يلزم أن يتخذها... هكذا في نشيد الأناشيد، العروس القائلة: "أنا نائمة، وقلبي مستيقظ" (نش 2:5) سمعت صوت العريس في أحلامٍ... ولما كان جميع القديسين -ماداموا في هذه الحياة- ينظرون أسرار الطبيعة الإلهية فقط خلال تشبيهات (إذ لم يقتنوا بعد نظرة أكثر وضوحًا عنها ليروها كما هي)، لذلك بعدما قال أليهو إن الله يتكلم معنا في حلمٍ، بحقٍ أضاف: "في رؤيا الليل". لأن الليل هو الحياة الحاضرة، ومادمنا نحن فيها، نتغطى بضبابٍ خفيفٍ من التصورات غير الأكيدة قدر ما نهتم بالأمور الداخلية. أضاف بطريقة لائقة: "ينعسون في مضاجعهم". لأنه بالنسبة للقديسين النعاس في مضاجعهم هو أن يستريحوا في حجال العقل. هكذا مكتوب: "ليبتهج القديسون بمجدٍ، ليفرحوا على مضاجعهم" (مز 5:149). البابا غريغوريوس (الكبير) القديس إكليمنضس السكندري * أقول إنه في هاتين المرأتين مُثِّلت الحياتين: الحياة الحاضرة والحياة العتيدة؛ حياة الجهاد وحياة الراحة؛ حياة الحزن وحياة الطوباويَّة؛ الحياة الزمنيَّة والحياة الأبديَّة... ماذا تحمل هذه الحياة؟ لست أتكلَّم عن حياة شرِّيرة، رديئة، خبيثة، مترَفة جاحدة، بل هي حياة جهاد مملوءة آلامًا، ومخاوف، تُفقدها التجارب سلامها... وأقول إن الحياتين غير ضارِّتين، بل ومستحقَّتان المديح، لكن واحدة مملوءة تعبًا والأخرى سهلة... في مرثا نجد صورة للأمور الحاضرة، وفي مريم الأمور العتيدة. ما تفعله مرثا نفعله نحن الآن، ما تفعله مريم نترجَّاه لنفعل العمل الأول حسنًا فننال الثاني كاملًا . القديس أغسطينوس الأب موسى حِينَئِذٍ يَكْشِفُ آذَانَ النَّاسِ، وَيَخْتِمُ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ [16]. في وسط هدوء النفس، بعيدًا عن ارتباكات الحياة يفتح الله أذني الإنسان ليسمع مع صموئيل النبي الصوت الإلهي الذي لم يسمعه عالي الكاهن. في هدوء الليل يرفع صموئيل قلبه، قائلًا: "تكلم يا رب فإن عبدك سامع". يفتح الله أذني الإنسان ليسمع ما لا يسمعه من هم حوله. يُعلن له الله بعض أسراره الإلهية، ويكشف له عن الحق، ويُظهر له إرادته الإلهية. "ويختم على تأديبهم"، أي يضع ختمًا على تحذيراته وتأديباته لهم، بمعنى أنها ثمينة في عيني الله من أجل نفعها، يعتز بها لأجل بنيان أولاده فيختم عليها كمن يثبتها. كانت العقود قديمًا يُختم عليها حتى تكون كما في الصون، ليس من يد تمد إليها لتغييرها. هكذا يحسب الله التأديب أشبه بميثاق حب بين الله وأولاده، يختم عليها بختمه السماوي، كما لو ختم على وصية قدمهما لهم للتمتع بميراثٍ أو نصيب منه. يختم الله على تأديبهم، أي يعد بأن وراءها الكثير من البركات التي لا رجوع فيها. وراء الضيقات وعود إلهية مختومة لا تتغير. * "حينئذ يكشف آذان الناس وتعليمهم، ويدربهم بالتأديب" [16]. توجد أربع طرق بها يتأثر الإنسان بقوة لممارسة الندامة: عندما يتذكر خطاياه، ويتطلع أين هو. أو عندما يخشى أحكام دينونة الله، ويفحص نفسه، فيعرف أين سيكون. أو عندما يلاحظ بدقة شرور الحياة الحاضرة، فيأسف على أين هو قائم. أو عندما يتأمل بركات وطنه السماوي، إذ لم يتمتع بعد بها، فيتأسف أنه لم يبلغ بعد إليها. تذكر بولس خطاياه وحزن على ما كان عليه، إذ قال: "أنا الذي لست أهلًا لأن أدعى رسولًا، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1 كو 19:15). مرة أخرى إذ قيَم بدقة الحكم الإلهي، خشي لئلا يكون موقفه سيئًا في هذا الأمر، إذ يقول: "حتى بعدما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 27:9) . مرة أخرى كان يتأمل شرور الحياة الحاضرة، إذ قال: "ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب" (2 كو 6:5). و"أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي، ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟" (رو 23:7-24). أيضًا كان يتأمل في بركات وطنه السماوي، إذ يقول: "فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذٍ وجهًا لوجهٍ. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذٍ سأعرف كما عُرفت" (1 كو 12:13)، "لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناء من الله بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبدي" (2 كو 1:5). بالتطلع إلى بركات هذا البيت يقول لأهل أفسس: "لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا المؤمنين حسب عمل شدة قوته" (أف 15:1-16). البابا غريغوريوس (الكبير) لِيُحَوِّلَ الإِنْسَانَ عَنْ عَمَلِه،ِ وَيَكْتُمَ الْكِبْرِيَاءَ عَنِ الرَّجُلِ [17]. إذ فسدت طبيعة الإنسان صار ما يشغله هو الخطية، وما يسيطر عليه هو الكبرياء. فإن الله يسمح بالتأديبات ويختم عليها لكي يسحب المؤمن من خطيته ويتمتع ببرّ الله، ويخفى عنه الكبرياء كي لا يتسلل إلى قلبه وفكره، وإنما يحيا بروح التواضع. "الكبرياء" حفرة خطيرة كثيرًا ما يسقط فيها حتى المتدينون كالفريسيين، لذلك فإن الله يغطي الحفرة ويردمها، حتى لا يسقط المؤمنون فيها. * ما هو عمل الإنسان بنفسه سوى الخطية؟ بحق يُقال إذن أنه إذ يٌَحول الإنسان مما يعمله، سيتحرر من الكبرياء. أن نعصى وصايا خالقنا بالخطية، إنما نتعالى عليه. وكأن الإنسان ينزع نير سلطان الله متى استنكف من الخضوع له بالطاعة. من الجانب الآخر، من يرغب في تجنب ما يفعله، يستدعي في عقله مما قد خُلق بواسطة الله، وفي تواضع يعود إلى نظام خلقته عندما يطير من أعماله الذاتية، ويحب نفسه كما خلقه الله في البداية. البابا غريغوريوس (الكبير) لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنِ الْحُفْرَةِ، وَحَيَاتَهُ مِنَ الزَّوَالِ، بِحَرْبَةِ الْمَوْتِ [18]. بينما يبذل الأشرار كل الجهد لتحقيق أهدافهم الشريرة وإشباع كبريائهم، إذا بنفوسهم تسقط في حفرة الكبرياء فتهلك في هذا العالم الحاضر وفي الدهر الآتي. لكن الله يتدخل بكل وسيلة، خاصته بالسماح بالتأديبات لإنقاذهم من هذا الموت الأبدي. كلمة "نفس soul" تشير الإنسان بكليته، فالموت يلحق بالجسد كما بالنفس، بكيان الإنسان كله. كلمة "حفرة shaachat" ربما تعني فخًا يقيمه الصيادون لتسقط فيه الحيوانات المفترسة (مز 7: 15؛ 9: 15)، أو جوفًا مملوء بالوحل (أي 9: 31)؛ أو سجنًا (إش 51: 14)، أو قبرًا على شكل كهفٍ كبيرٍ (أي 17: 13؛ مز 30: 9). واضح أنه يُقصد به هنا القبر حيث تنتهي حياة الإنسان على الأرض. * "منقذًا نفسه من الفساد، وحياته من الزوال بالسيف" [18]. فإن كل خاطئ، بسبب فساده هنا بالخطية، يلتزم أن يعبر إلى سيف العقوبة، فبعدلٍ يُعاقب في ذاك العالم بذات الخطايا التي ابتهج بها في هذا العالم. البابا غريغوريوس (الكبير) أَيْضًا يُؤَدَّبُ بِالْوَجَعِ عَلَى مَضْجَعِهِ، وَمُخَاصَمَةُ عِظَامِهِ دَائِمَةٌ [19]. يسمح الله بالآلام تحل ببعض مؤمنيه حتى يلزموا الفراشً وهو في هذا لا يطلب آلامهم، إنما لكي يكبح رغبتهم نحو الخطية. في لحظات الضيق يعيد الإنسان التفكير في حياته، وتُقدم له الفرصة للتفكير في المصير الأبدي. أليهو يوضح هنا أن الضيق هو عمل تأديبي للبنيان، يستخدمه الله بروح الأبوة الحانية، من أجل توبة أولاده، ورجوعهم إليه، وتمتعهم بشركة الأمجاد. يشير السرير أو الفراش أو المضطجع إما إلى الملذات الجسدية أو الراحة بممارسة الأعمال الصالحة أو الراحة المؤقتة. عندما شفى السيد المسيح المفلوج سأله أن يحمل سريره ويمشي (مت 6:9)، أي لا يعود ينام في ملذات الجسد، بل بكلمة الرب يحمل سرير مرضه، ويتخلص من خطاياه. هنا يعلن أن الله يؤدب الإنسان الساقط في ملذات الجسد على سريره، فتصير الملذات نفسها مصدر آلامه وتأديبه. ما يظنه سرٌ بهجته يصير بالنسبة له علة حزنه. أما العظام التي تنبري، فتشير في الكتاب المقدس إلى الفضائل، حيث كُتب: "الرب يحفظ كل عظامهم، وواحدة منها لا تنكسر" (مز 20:34). لا تشير هنا إلى عظام الجسد بل إلى قوى العقل. فإن الكثير من عظام الشهداء انكسرت وذلك بالمفهوم الجسدي، كما كُسرت ساقا اللص الذي قيل له: "اليوم تكون معي في الفردوس" (يو 32:19، لو 23: 43). فإنه إذ يؤدبنا خلال شهواتنا الجسدية، يتبدد فينا الافتخار بفضائلنا، ونعترف بضعفنا. خلال التأديب ندرك ضعفنا، وبدونه نحسب أنفسنا أقوياء في حياة الفضيلة بقدراتنا الذاتية. فَتَكْرَهُ حَيَاتُهُ خُبْزًا، وَنَفْسُهُ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ [20]. من التأديبات التي يستخدمها الله السماح بالمرض الذي يُفقد الإنسان شهيته حتى عن أكل الخبز، إذ تمقته نفسه، وهو تأديب نافع للمتألمين، إذ لا يعودوا يستطيبون الملذات والترف. يشمئز الإنسان من الأطعمة الفاخرة التي كان يشتهيها ويعافها. يقول المرتل عن الجهال الذين تذلهم آثامهم: "كرهت أنفسهم كل طعامٍ، واقتربوا إلى أبواب الموت" (مز 107: 18). ويصف الحكيم حال الميت: "والشهوة تبطل، لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي، والنادبون يطوفون في السوق" (جا 12: 5). بعد أن تحدث عن قوة التأديب الإلهي، الذي يرفع الإنسان عن سرير الملذات الجسدية، ويبدد افتخاره بالحياة الفاضلة كأنها من عمل يديه، يقول هنا إنه يجعل خبزه دنسًا في شفتيه، فتكره حياته الخبز، وتُعاف نفسه الطعام الشهي. ماذا يعني بالخبز والطعام الشهي سوى الملذات التي كان يجد فيها لذة خاصة لا يقدر أن يستغنى عنها؟ خلال التأديب يتحول خبزه بالنسبة له إلى دنسٍ كريهٍ، حيث يدرك بطلان الملذات الجدسية، وتتحول العذوبة من الطعام الشهي إلى مرارة لا يطيقها. فَيَبْلَى لَحْمُهُ عَنِ الْعَيَانِ، وَتَنْبَرِي عِظَامُهُ فَلاَ تُرَى [21]. الجسم الذي كان يعتز به الإنسان ويفخر بجماله وقوته يبلى كأنه قد اختفى، ويصير كأنه غير موجود، والعظام التي كانت مختفية حيث يكسوها اللحم برزت من شده النحافة والمرض، وكأنها صارت عارية. يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على هذه العبارة التي جاءت ترجمته لها في كتاباته: "يبلي جسده، وعظامه التي كانت مغطاة تتعرى" بأن الجسد هنا يشير إلى شهوات الجسد، والعظام إلى فضائل النفس. فخلال عصا التأديب تبلى شهوات الجسد، ولا يكون لها سلطان علينا وتنكشف الفضائل التي كانت مستترة، فتتجلى وسط التأديب الإلهي. * لا يتعلم أحد عن مدى التقدم الذي صار له إلا وسط الضيق لأنه في الرخاء لا يمكن تمييز الشهوات عن القوة الروحية. عندما تأدب الرسل طُلب منهم ألا ينطقوا بعد باسم يسوع. أما هم ففرحوا فرحًا عظيمًا، أنهم حُسبوا أهلًا أن يهانوا من أجل اسم يسوع. وبثقة أجابوا خصومهم قائلين: "ينبغي أن نطيع الله أكثر من الناس" (راجع أع 29:5). ها أنتم ترون قوة الإيمان تشرق بأكثر حيوية في وسط الضيق. ها أنتم ترون سلامة (شهوات) الجسد تقطع، وعظام فضائلهم تُكشف. قيل عنهم بواسطة الحكمة: "الله زكٌاهم، ووجدهم أهلًا له" (حكمة 5:3). فإنهم إذ يُمتحنون بواسطة نفخات الخصم يًجدون أهلًا بتعرية عظامهم". فإن قوة كل إنسان تُعرف فقط بالضيق. البابا غريغوريوس (الكبير) وَتَقْرُبُ نَفْسُهُ إِلَى الْقَبْرِ، وَحَيَاتُهُ إِلَى الْمُمِيتِينَ [22]. هنا يعني الإنسان الساقط في ضيقة يصير كمن يعاني من الآم مبرحة تكاد تنهي حياته، فينقاد إلى المميتين، أي ملائكة الموت، أي الملائكة المنوطين من قبل الله ليأخذوا أرواح الناس. * "تقرب نفسه إلى الفساد، وحياته إلى المخربين" [22]. بقدر ما يُقاد بالضيق ويدرك أن قوته تقترب من الموت، يعمل ليجد حلًا، يجد الأساس الحقيقي للحياة، بالطيران إلى الحماية القادمة من الثقة بالله. البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ، لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ [23]. اختلفت الآراء في تفسير هذه العبارة. وقد جاءت في الترجمة السبعينية: "إن وجد ألف ملاك للموت لا يقدر واحد منهم أن يجرحه بطريقة مميتة. إن صمم في قلبه أن يرجع إلى الرب عندما يظهر للإنسان اتهامه ضده، ويظهر غباوته، فسيعينه حتى لا يسقط في الموت، ويجدد جسده مثل لصق أملس على حائط، وسيملأ عظامه بالنخاع، ويجعل جسمه غضّ مثل طفل". وجاءت الترجمة الفولجاتا: "إن وُجد له ملاك يتحدث عنه، واحد من ألف، يعلن برّ الإنسان فسيشق عليه ويقول: خلص ذاك الذي يسقط في الفساد، وجدته هذا الذي أنا مناسب له". وجاء في النسخة الكلدانية: "إن وُجد استحقاق فيه يُعد ملاك، معزي، واحد بين ألف من المتهمين، يعلن للإنسان استقامته؛ لقد وجدت فدية". 1. الرأي الأول: هو أن هذا الملاك هو إنسان يرى Munster واسيدورس أنه معلم ممتاز مُرسل إلى المرضى يعلم إرادة الله. ويرى Junius وTermillius أنه نبي. يرى Codurcus أنه يشير هنا إلى حالة أبيمالك الذي أصيب بمرضٍ بسبب سارة وأن الملاك هو نبي أرسل ليُعلن له أن الله بار (تك 20). ويرى Umbreit أن الملاك هنا هو أليهو نفسه، أرسله الله إلى أيوب ليعلن الحق الخاص بالتدبير الإلهي وسرّ السماح بالأحزان أن تحل بالناس. وآخرون يرون أن الحديث هنا يخص خادم الله الأمين الذي يفتقد المرضى والمتألمين ويعلن لهم خطة الله، دون تحديد اسم معين. 2. الرأي الثاني: إن الحديث خاص بإرسال الله ملائكته لإعلان إرادته للبشر، خاصته للمتألمين، وأن يؤكد لهم أن الله يريد أن يعلن رحمته لهم إن رجعوا إليه بالتوبة يرى القديس جيروم على سبيل المثال أن الحديث هنا يشير إلى ملاك واقف في حضرة الله، عمله إرشاد البشرية وإصلاح أمرها. 3. الرأي الثالث:وهو أن الحديث هنا هو نبوة عن شخص السيد المسيح، من بين الذين نادوا بهذا الرأي القديس أغسطينوس . * من هو هذا المُرسل (الملاك)، إلا ذاك الذي دعاه النبي: "ملاك المشورة القدير"؟ * طبيبنا من فوق، إذ وجدنا تحت ثقل أمراض كثيرة كهذه... جاء إلينا كإنسانٍ، ولكن بكونه بارًا للذين هم في الخطية. اتفق معنا في حقيقة طبيعته (ناسوته)، واختلف عنا من جهة قوة برٌه. لا يمكن إصلاح إنسانٍ خاطئ إلا بواسطة الله. ولكن كان من الضروري أن ذاك (المسيح) الذي يقوم بشفائه أن يكون منظورًا مدركًا بالحواس، لكي ما يصلح حياتنا السابقة الشريرة بوضع نموذجٍ لنا نقتدي به. لم يكن ممكنًا لله أن يُرى بواسطة إنسان. لذلك صار إنسانًا لكي ما يُرى. ظهر الله القدوس غير المنظور كإنسانٍ منظورٍ مثلنا، حتى إذ يبدو كمن هو مثلنا يعلمنا بقداسته، ويضع نهاية لمرضنا بقدرة مهارته... إذ ليس فيه أي مزيج من الخطية لم يخضع لأية عقوبةٍ كأمرٍ حتميٍ. لقد اخضع معصيتنا بغلبة عليها. لقد خضع لعقوبتنا من أجل حنوه علينا، وكما يقول بنفسه: "لي سلطان أن أضع حياتي، ولي سلطان أن آخذها" (راجع يو 18:10). مرة أخرى لم يقم مثل سائر الناس فإن قيامتنا تتحقق في نهاية العالم، أما قيامته فاحتفل بها في اليوم الثالث. نحن بالحق نقوم بواسطته، أما هو فيقوم بنفسه. البابا غريغوريوس (الكبير) يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً [24]. إذ يشير أليهو إلى الوسيط، ربنا يسوع المسيح، يتحدث عن دوره في خلاص الإنسان وتمتعه بالفداء، منقذًا إياه من الانحدار إلى هاوية مملكة الظلمة، ويهبه الحياة الأبدية عوض الهلاك الأبدي. * سيتراءف عليه، ويقول: "خَلصه من الهبوط إلى الفساد، وجدت طريقًا لفديته" [24]. الوسيط بين الله والإنسان، الإنسان يسوع المسيح، إذ أخذ شكل إنسان. بحنوه يقول أبيه لحساب الإنسان المُخلص: "خلصه من الهبوط إلى الفساد". نتحرر ببرّ المخلص القدير، إذ يقول بنفسه: "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 36). حسنًا يُقال لحساب هذا الإنسان المفدي: "تقترب نفسه من الفساد" (راجع أي 33: 22)، والآن يعلن أنه لا يهبط إلى الفساد. وكأنه يقول: إذ هو مدرك خلال إحساسه بضعفه أنه ليس ببعيدٍ عن الفساد، لهذا ليته لا يهبط إلى موت الفساد، فإنه بحقٍ يهبط إلى الفساد إن حسب نفسه أن بقوته ابتعد بعيدًا عنه. لكنه إذ يقترب في تواضعٍ يلزم قبوله بالرحمة. فكما اعترف بضعفه بالطبيعة يتقوى ضد الخطايا التي تصارعه. فمن يفتخر بنفسه فوق ما هو عليه يهبط بثقل كبريائه، يغطس إلى أعماق أكثر... إذ أخذ الرب لنفسه الضعف، واحتمل عقوبتنا بموته، ردٌ فسادنا بقيامته. البابا غريغوريوس (الكبير) الحديث هنا نبوة واضحة عن الفداء الأبدي الذي دفع السيد المسيح ثمنه بدمه الثمين. وكما يقول الرسول بولس: "وليس بدم تيوسٍ وعجولٍ، بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا" (عب 9: 12). "وجدت فدية"، فقد أوجد ربنا يسوع هذا الفداء. تعبير "أوجد" يشير إلى غيرته المتقدة على خلاص العالم، وأمانته، وفرحه، وسعيه نحو خلاص الإنسان. إنه يعمل كمن يبحث حتى يجد فيفرح! "يذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحًا" (لو 15: 4-5). "افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال" (لو 15: 6). "أية امرأة... إن أضاعت درهمًا واحدًا... تفتش باجتهاد حتى تجده" (لو 15: 8). "افرحي معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته" (أي 15: 9). "وجدت داود عبدي، بدُهن قدسي مسحته" (مز 89: 20). * الوسيط بين الله والإنسان، الإنسان يسوع المسيح، يظهر رحمة على الإنسان إذ أخذ شكل إنسانٍ. خلال حنوه، يقول لأبيه لحساب الإنسان المُخلص: "أطلقه عن الهبوط إلى الفساد"... 4. عذوبة التمتع بخلاص الله يَصِيرُ لَحْمُهُ أَنْضَرَ مِنْ لَحْمِ الصَّبِيِّ، وَيَعُودُ إِلَى أَيَّامِ شَبَابِهِ [25]. إذ تحدث أليهو عن المسيح الفادي، رفع نظرنا من الضيقات والأحزان والأمراض إلى ما ننعم به خلال هذا الفداء العجيب. عوض الحديث عن الأمراض يدهش أليهو إذ يرى بروح النبوة الإنسان الذي كان منحدرًا نحو الهلاك الأبدي لا يتمتعٍ بالصحة فحسب، بل يصير جسمه أغض من جسم صبي، يتحول من حالة الشيخوخة العاجزة إلى الشباب القوي المملوء حيوية ونشاطًا. خلال الفداء يتمتع بميلاد جديد، ويصير المؤمن خليقة جديدة على صورة خالقه. يصير ابنًا لله في مياه المعمودية، باتحاده بالابن الوحيد الجنس. يصير نعمان الجديد، الذي قيل عنه: "فنزل وغطس في الأردن سبع مرات حسب قول رجل الله، فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر" (2 مل 5: 14). يتحقق فيه قول السيد المسيح لنيقوديموس: "الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو" (يو 3: 5-6). * "جسده أُستهلك بالعقوبات، ليعود إلى أيام صباه" [25]. عندما سقط الإنسان الأول من الله، طُردنا من مباهج الفردوس، وارتبطنا بمآسي هذه الحياة الفانية. ونشعر بألم عقوبتنا مدى خطورة خطأنا الذي ارتكبناه بغواية الحية. فإننا إذ سقطنا إلى هذه الحال، لا نجد شيئًا خارج الله سوى الحزن... فإننا نعاني يوميًا من الحزن في الجسد، وفيه العذاب والموت، لذلك فإن الرب بتدبيره العجيب يغير ما حلٌ بنا بارتكابنا الخطية وذلك بوسائط العقوبة.... "جسده أُستهلك بالعقوبات، ليعود إلى أيام صباه". كأنه يقول: خلال عقوبة موت (موت الإنسان) هبط بعمره المسن، فليرتد إلى أيام صباه، أي ليتجدد إلى كمال حياته السابقة، ولا يبقى في الحال الذي سقط إليه، بل بخلاصه يرجع إلى مباهج حالته التي خُلق عليها أصلًا... إذ أُحضرنا إلى هذه القوة للحياة الجديدة، ليس بقوتنا، وإنما بواسطة المخلص، ليت الرسول (السيد المسيح) يقول في وساطته لهذا الإنسان الذي تحت العقوبة: "ليعود أيام صباه". البابا غريغوريوس (الكبير) يُصَلِّي إِلَى اللهِ فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ، فَيَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ بِرَّهُ [26]. بهذا الميلاد الجديد يدخل المؤمن في علاقة مع الله، كابن له دالة لدى ابيه؛ يصلي ويعترف ويسبح ويشكر، مقدمًا بخورًا طيبًا يشمته الله رائحة سرور ورضا في استحقاق ذبيحة المسيح. يتطلع الله أبيه ببهجة قلب، معانيًا وجهه بهتافٍ وتهليلٍ. لا يخشى اللقاء معه، إذ يدرك حقيقة المصالحة التي تمت بالصليب. يسكب الله على مؤمنيه من ثمار الروح بفيض فيحمل أيقونة المسيح وبرَّه. هكذا ينقلنا أليهو من الصراخ بسبب الأحزان، إلى الهتاف كأبناء للآب السماوي، نحمل الطبيعة الجديدة المكللة بالمجد، ونتمتع برؤية وجه الله، ونشارك السمائيين تسابيحهم وهتافهم، ونستتر في برّ المسيح الذي نرتديه ثوبًا بهيًا سماويًا. * "سيصلي إلى الله، فيرضى عنه" يقول بأن الرسول (الشفيع الكفاري) يتوسط أولًا وبعد ذلك الإنسان، فلو لم يتوسط الرب لدى أبيه خلال تجسده، وصلي لأجل حياتنا، ما كان لجمودنا الحي أن يتحرك، فنطلب الأبديات... لكن لأن نور الحق ينفجر بالفرح السري في قلوبنا بعد التجارب، غالبًا بعد أحزانٍ عظيمة، بحق أضيف عن هذا الإنسان المُجرب والمتوسل لدى الله: "ويعاين وجهه بهتاف" [25]. لقد قيل سابقًا كيف يعمل الله بإعلان ذاته لنا، أما هنا فيُظهر كيف أنه يبهجنا عندما يجعل نفسه معروفًا. هكذا فإن يعقوب بعد صراعه مع الملاك قال: "نظرت الله وجهًا لوجه" (تك 32: 3)، كمن يقول: "أعرف الرب لأنه هو نفسه يتنازل ليعرفني". لكن بولس يعلن أن هذه المعرفة ستتم بأقصى الكمال في النهاية، حيث يقول: "سأعرف كما عُرفت" (1 كو13: 12). بعد النضال في الأتعاب وأمواج التجارب غالبًا ما تُسْبَى النفس متهللة، حيث تتأمل معرفة الحضرة الإلهية (التي يمكنها أن تشعر بها لكنها لا تقدر أن تتمتع بكمالها). لذلك حسنًا قيل عن هذا الإنسان المُجرب بعد أتعاب كثيرة: "يعاين وجهه بهتافٍ" [26]. كلما تأمل الإنسان في الإلهيات يستعيض أفعاله الأرضية بنعمة التأمل، لذلك لاق به أن يضيف بُر لأعماله: "فيردٌ على الإنسان بِرَّهُ" [26]. يُدعى "برنّا" ليس كما لو كان ذلك من أنفسنا، إنما صار لنا بالهبة الإلهية، كما نقول في الصلاة الربانية: "خبزنا اليومي أعطنا اليوم". انظروا إننا ندعوه "خبزنا" مع أننا نصلي لكي نناله. إذ يصير لنا عندما نتقبله، ولكن هو خاص بالله، لأنه هو الذي يعطيه. البابا غريغوريوس (الكبير) يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيم،َ وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ [27]. جاءت العبارة في العبرية: "يغني بين الناس"، وقد اختلفت الترجمات للكلمة العبرية Shiyr وتعني "يغني". يتحول الإنسان من صراخه من شده التجارب والآلام التي حلت به إلى التهليل والتسبيح متغنيًا بنعمة هذا الوسيط الذي فداه وجدد طبيعته بروحه القدوس ووهبه الحياة الأبدية. إنه أخطأ وعوج الطريق المستقيم لكن النعمة غطته فنال المغفرة ولم يجاز على ماضيه. رأى البعض أن الكلمة العبرية مشتقة من Shuwr وتعني "يتطلع حوله" أو "يهتم ب"، أو "يلاحظ". لذلك جاءت الترجمة الانجليزية (KJ* ): "تطلع إلى البشر، وإن قال أحد إني أخطأت وأفسدت ما هو حق ولم أنتفع شيئًا. وكأن هذا العبارة تشير إلى الوسيط الإلهي، مخلص العالم يتطلع إلى البشرية التي فسدت، فإن اعترف أحد أنه أخطأ وأفسد ما هو صالح من طاقات وإمكانيات ومن مراحم وبركات قُدمت له من قبل المخلص وأن هذا لا ينفعه شيء، فسيعمل المخلص فيه . تحت ضغط التجارب أو تحت التمتع برؤية الوسيط إن اعترف أحد بخطايا واعوجاج سلوكه يتمتع بالمراحم الإلهية. بهذا يقدم لنا أليهو نظرته إلى التجارب بكونها تأديبًا من الرب غايته أن يرجع الإنسان إلى نفسه ويكتشف أخطاءه ويشعر باحتياجه إلى الفادي فينعم بالمراحم الإلهية. بقوله: "عوجت المستقيم" قد يعني أخطأت النظر إلى خطة الله من نحوي، فلأجل استقامة حياتي يُسمح ليّ بالتجارب، لكنني بفساد قلبي أتطلع إليها كظلمٍ حلّ عليّ. ولهذا "لم أجازَ عليه" أو "لم أنتفع منه". فالخطأ ليس في حلول التجارب وإنما في عدم انتفاعي منها بسبب تذمري على الرب، وحسبت أنني لا استحق كل هذه الآلام القاسية. * "يتطلع إلى الناس ويقول: وأخطأت" [27]. ما كان يمكنه أن يعرف أنه خاطى ولو لم يكن قد صار له البرّ. فإنه لا يكتشف أحد عيوبه ما لم يكن قد بدأ أن يكون مستقيمًا. فمن هو مشوه تمامًا لا يقدر أن يدرك حقيقة نفسه. أما الذي يشعر أنه خاطئ، فقد بدأ إلى حد ما أن يصير مستقيمًا. بكونه مستقيمًا يلوم سلوكه حيث لا يزال بعد غير بار. وباتهامه لنفسه يبدأ يلتصق بالله. وإذ يعبر إلى اتهام نفسه بحق، يدين نفسه فيما يدرك أنه لا يسر الله. أما إذا تطلع خاطي إلى نفسه دون أن يتعلم سمة البار، فإنه لا يستطيع بأية وسيلة أن يدرك أنه خاطي... البابا غريغوريوس (الكبير) (رؤ 2: 12)... لكي نقتني معرفة السماويات ندرس الأمثلة التي للقديسين الذين سبقونا. لقد قيل إنهم يرعون بين السوسن (راجع نش 4: 5-6). فإنه ماذا يُقصد بالسوسن سوى سلوك أولئك الذين يقولون بكل صدقٍ: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله" (2 كو 2: 15)... فإننا مادمنا نعبر في ظلال هذه الحياة الفانية حتى نبلغ فجر اليوم الأبدي، نحتاج أن نشبع بأمثلة الأبرار.] * "يتطلع إلى الناس ويقول: أخطأت، وعٌَوجت المستقيم، ولم أجاز عليه كما أستحق" [27]. حتى الذين لا يعتقدون أنهم يخطئون يعترفون بطريقة عامة أنهم خطاة. فالأمر هكذا بالنسبة للبشر. غالبًا ما يعترفون علانية أنهم خطاة، ولكن متى سمعوا من يذكر بالصدق عن خطاياهم عندما يهاجمونهم، يدافعون عن أنفسهم بجسارة ويسعون نحو اظهار أنفسهم أبرياء. من كانت له هذه السمة، فإنه إذ يقول إنه يخطئ فهو لا ينطق بالحق، إذ يعلن عن نفسه أنه خاطي، لكنه ليس من عمق قلبه، إنما مجرد ينطق بكلمات، لأنه مكتوب: "الصديق من البداية يتهم نفسه" (راجع أم 18: 17). وإنه يود أن ينال سمعة طيبة، لا أن يتواضع باعترافه بخطيته. إنه يرغب باتهامه لنفسه أن يظهر متواضعًا بينما هو ليس كذلك... أما الصديق فإذ يتهم نفسه على سلوكه يعرف عمق قلبه، خلال أمثلة القديسين أنه بالحق هكذا كما يعترف. وفي ألم يكمل أنه لم يجازَ كما يستحق. البابا غريغوريوس (الكبير) فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ [28]. هذه هي أغنية القادمين من الضيقة العظيمة (رؤ 7: 14)، إذ يسبحون الله على مراحمه الفائقة الذي رفعهم من حفرة جهنم إلى أورشليم العليا؛ وعبر بهم من مملكة الظلمة ليستقروا في أحضانه أبديًا في النور إلهي. وكما قيل عن أورشليم العليا: "والمدينة لا تحتاج إلى الشمس، ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والحمل سراجها" (رؤ 21: 23). * "فدى نفسي من العبور إلى الدمار" [28]. إذ تتقدمنا النعمة الإلهية في أعمال صالحة، تتبعها إرادتنا الحرة، وإذ نُخضع موافقتنا لله الذي يخلصنا يُقال عنا إننا نفدي أنفسنا. يقول بولس: "أنا تعبت أكثر منهم جميعهم" (1 كو 15: 10). وإذ يخشى أن ينسب أتعابه لنفسه للحال أضاف: "ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي". فإنه إذ تبع بإرادته الحرة نعمة الله السابقة والواقية فيه، بصدق أضاف: "التي معي"، حتى لا يكون جاحدًا للنعمة الإلهية، ولا يبقى متغربًا عن التأهل للإرادة الحرة... "فترى حياتي النور" [28]، بمعنى نور الحق الذي لم يكن قادرًا أن يراه حين كان ميتًا في قلبه، أو يعني الرب القائل: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 12)... البابا غريغوريوس (الكبير) هُوَذَا كُلُّ هَذِهِ يَفْعَلُهَا اللهُ مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثًا بِالإِنْسَانِ [29]. يترجم البعض "مرتين وثلاثًا" "مرات كثيرة"، إذ تعني لا يتوقف الله عن أن يعمل من أجل خلاص مرة ومرتين وثلاثًا وبكل الوسائل حتى يجتذب الأشرار إلى الخلاص، يتمتعون بالنبوة له، وينعمون ببره وقداسته وسماواته. يرى البعض أن أليهو يذكر "ثلاثًا" إشارة إلى عمل الله مع الخطاة، حيث يستخدم ثلاثة طرق: أولًا يفيض بالخيرات لعل الإنسان يتلامس مع حب العاطي، فإن لم يرجع إلى الله يستخدم الإلهامات الإلهية سواء خلال الأحلام أو الرؤى أو الوحي الإلهي، فإن لم يرجع يستخدم الأحزان والضيقات لكي يعيد النظر في حياته ويدرك حقيقة موقفه. * "هوذا كل هذه يفعلها الله ثلاثًا بكل إنسانٍ" [29]... إن لاحظنا بعناية، فسنجد أنه توجد ثلاث مراحل للحزن والفرح الواحدة تتبع الأخرى، في هدايته، وفي تجربته، وفي موته. ففي المناسبة الأولى لهدايته... يكون حزن الإنسان عظيمًا، وذلك لأنه يضع في حسبانه خطاياه، ويرغب في نزع قيود الاهتمامات العالمية بقوة، والسير في طريق الله طول فترة هدايته. يود أن يزيل ثقل الاضطرابات الزمنية الثقيلة، ليحمل نير الرب الهين. في عبودية تحمل حرية... ولكن يأتي عند ذلك ألم القلب واضطرابه، إذ يدعو الروح من جانب، ويدعوه الجسد من الجانب المخالف... بحق ويقال عن هذا الإنسان المتمرر: "فتكره حياته خبزه وتقترب نفسه من الفساد، وحياته إلى المميتين" (راجع 2، 22) لكن النعمة الإلهية لا تسمح لنا أن نتعرض لهذه المصاعب لمدة طويلة. فإنها تحل قيود خطايانا وتقودنا بسرعة إلى تعزيات حرية حياتنا الجديدة. الفرح الذي يتبعها ينزع الحزن السابق. وهكذا فإن عقل الذي يهتدي بفرح كثيرًا جدًا أكثر مما يشتهي... ولئلا يظن الإنسان أنه قديس، فإنه في الحال عند اهتدائه... يسمح له بتدبير الله أن يعاني من هجمات التجارب باهتدائه يعبر البحر الأحمر، لكن الأعداء يستمرون في مقاومته في برية هذه الحياة الحاضرة. لقد تركنا خطايانا الماضية خلفنا، إذ مات المصريون على الشاطئ، لكن الرذائل المدمرة لا تزال تهاجمنا كأعداء جدد لتعوق طريقنا الذي به ندخل أرض الموعد... عدونا أكثر غيرة على غلبتنا مادمنا نحن في هذه الحياة، كلما أدرك أننا متمردون عليه. لا يهتم أنه يلطم الذين يدرك أنهم في ملكيته. إنما هو في حالة هياج أشد ضدنا، إذ أُستبعد من قلوبنا كما من حقه أن يمتلكنا مسكنًا له... بالحق توجد ثلاث مراحل للمهتدين: البداية، المنتصف، النهاية. في البداية يختبرون سحر العذوبة، وفي منتصف الوقت مقاومة التجارب، وأما في النهاية ففيض الكمال... بعد عبور هاتين المرحلتين من الاهتداء والامتحان في حزن وفرح تبقى المرحلة الثالثة، التي لا يزال يخشى أحزانها، لكنه ينال مسراتها... يقول داود: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر إنسان أمامك" (مز 143: 2). ويقول بولس بعد ذلك: "فإني لست أشعر بشيءٍ في ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا" (1 كو 4: 4). يقول يعقوب: "لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا" (يع 3: 2) ويقول يوحنا: "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا، وليس الحق فينا" (1يو 1: 8) البابا غريغوريوس (الكبير) لِيَرُدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْحُفْرَةِ، لِيَسْتَنِيرَ بِنُورِ الأَحْيَاءِ [30]. يؤكد أليهو هنا ما سبق أن أشار إليه كأغنية يترنم بها الإنسان التمتع بخلاص الله (أي 33: 28)، أنها عطية مقدمة لكل إنسان بغير محاباة، فإن الله "لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2 بط 3: 9)، فيتغنى كل مؤمن: "لأنك نجيت نفسي من الموت، نعم ورجلي من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء" (مز 56: 13). * لأن عقل كل مختار يعاني في كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث، أي من ألم الاهتداء، أو تجارب الامتحان، أو رعب الانحلال، فيتطهر ويتحرر بذات الأم، قيل: "ليرد نفسه من الفساد، ليستنير بنور الأحياء" [30]. فإن هذا هو نور الأموات التي نعاينه بأعيننا الجسدية... أما الذين يستنيرون بنور الأحياء. فيحتقرون نور العالم ويعودون إلى سمو البهاء الداخلي. حتى يعيشوا في ذلك الموضع الذي يرون فيه النور الحقيقي ويشعرون به، حيث لا يكون اختلاف بين الحياة والنور، فحيث يوجد النور توجد الحياة أيضًا... البابا غريغوريوس (الكبير) فَأصْغَ يَا أَيُّوبُ وَاسْتَمِعْ لِي. أنْصُتْ فَأَنَا أَتَكَلَّمُ [31]. يسأل أليهو أيوب أن يفحص بعمق ما قاله، وينصت بانتباه شديد إلى ما سيقوله. فإن لديه الكثير ليقوله، وهو أمر يمس حياته، يستحق أن يطيل أناته ويصبر في حدية ليستمع إلى ما سيقوله له. إِنْ كَانَ عِنْدَكَ كَلاَمٌ فَأَجِبْنِي. تَكَلَّمْ. فَإِنِّي أُرِيدُ تَبْرِيرَكَ [32]. قبل أن يكمل أليهو حديثه الوارد في الأصحاح التالي أراد أن يتوقف متأنيًا، سائلًا أيوب أن يجيبه أو يقدم تعليقاته عما قاله. هنا يبرز هدوء أليهو، فإنه وإن بالغ في اتهام أيوب لكنه يتوقف ليسمع تعليقاته بروح طيبة. فإن غايته لا أن يوبخ ولا أن يكيل الاتهامات بل يفتح باب الخلاص والبرّ ليتبرر أيوب أمام الله. هكذا يليق بنا في كرازتنا أن ندرك حقيقة رسالتنا، لا النقد والتوبيخ بل المساندة والحنو مع الصراحة وعدم المداهنة. لقد سبق فقال أليهو لأيوب إنه مثله خُلق من ذات الطين، فكلاهما يحتاجان إلى المخلص المعين. ويقول الرسول بطرس في كرازته لأول أممي: "أنا أيضًا إنسان" (أع 10: 26). لا يحتاج الإنسان إلى من يرعبه، بل إلى من يحنو عليه ويترفق، ويُشعر أنه رفيق معه في الضعف البشري، ومحتاج معه إلى العون الإلهي. في تواضع وحب وحنو يسأل أليهو أيوب إن كان لديه اعتراض أو يطلب استيضاح أن يتكلم بحرية، فإنه يود أن يوضح بمحبة كل ما في ذهنه، لأجل تبريره. كما طلب أليهو من أيوب أن يسمع بطول أناة وصبر لما قاله أليهو وما سيقوله، فإنه يعلن استعداده هو أيضًا أن يسمع بصدرٍ رحب وبطول أناة. بقوله "أريد تبريرك" خشي أليهو أن يكون قد أساء فهم عبارات أيوب أو نسب إليه أقوالًا بمعانٍ لم يقصدها أيوب، لهذا يعطيه الفرصة ليتكلم في صراحة. وَإِلاَّ فَاسْتَمِعْ أَنْتَ لِي. أنْصُتْ فَأُعَلِّمَكَ الْحِكْمَةَ [33]. إن لم يكن لدى أيوب ما يعترض به على كلمات أليهو، يطالبه الأخير أن يستمع إليه ويصغي بانتباه، فيعّلمه الحكمة. إذ التزم أيوب الصمت، ولم يتدخل أحد من الأصدقاء الثلاثة، أراد أليهو أن يكمل حديثه (كما ورد في الأصحاح التالي). من وحي أيوب 33 لتهتف نفسي لك، يا من عبرت بيّ من الجحيم إلى السماء! * تهتف أعماقي بروح التهليل قائلة لك: خلقتني من تراب، لكنك وهبتني نسمة من عندك. أعرف ضعف طبيعتي، وأدرك قوة عملك فيّ. هب ليّ ألاَّ انتقد إخوتي فأوجه إليهم اتهامات مُرّة. فأنيّ شريك معهم في الضعف. أطلب خلاصهم لينعموا معيّ بغنى نعمتك. تئن نفسي لسقطاتهم، ويحترق قلبي لعثراتهم! * لتتكلم أنت يا رب معهم، تكلم معهم بلغة الخيرات والعطايا الكثيرة. تكلم معهم خلال كلمتك القديرة، وإن لم يقبلوا نعمتك تكلم معهم بلغة الآلام. فأنت تطلب خلاص الكل بكل وسيلة! في آلامهم تئن أنت معهم كأب مترفق يؤدب. وتئن نفسيّ معهم، أشاركهم أحزانهم. لتعمل فيهم وفيّ حسبما تشاء يا مخلص الجميع! * من يحملني وإياهم إلى الأحضان الإلهية، سواك يا أيها الشفيع العجيب. بدمك تطهرنا وبروحك تقدسنا. تطلقنا من ظلمة الخطية إلى نور برك. تعبر بنا من هوة الجحيم إلى أورشليم العليا. تحول صراخنا المُرَّ إلى هتاف. تحول مراثينًا إلى أغانٍ وتسابيح. تغذي نفوسنا بدمك، وتقدمنا لله أبيك أبناء له! لك المجد يا أيها المخلص محب البشر! |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 30 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() الحديث الثاني لأليهو يرى البعض أن أيوب لم يجب على تساؤل أليهو استخفافًا به كشابٍ صغيرٍ، خاصة وأنه سبق فأجاب على أسئلة الأصدقاء الشيوخ علانية. ولعل أيوب لم يجبه خشية أن تنهال عليه الأسئلة من كل الحاضرين. وإذ صمت أيوب، تحول أليهو بوجهه إلى جمهور الحاضرين، من بينهم الأصدقاء الثلاثة، وربما في شيءٍ من التهكم، أو لكسبهم دعاهم رجال تمييز وحكماء وفاهمين [2-4، 34-37]. عالج أليهو مشكلة تبرير أيوب نفسه أمام الله، موضحًا له أنه لا يتكلم مع ملكٍ أو أميرٍ بل مع الله العارف بكل شيءٍ، الذي لن يخطئ الحكم. اقترح على أيوب ممارسة التوبة في تواضعٍ وندامةٍ [31-32]. أراد أليهو أن يرد على أخطائه من جهة نظرته نحو الله أنه قد سمح له بالآلام ظلمًا، بتأكيد أن عدل الله لا جدال فيه (10-12، 17، 19، 23)؛ وإنه صاحب السلطان المطلق (13-15)؛ والقدير في قوته (20، 24)؛ والعالم بكل شيء (21، 22، 25)؛ والحازم مع الخطاة العاصين لأجل توبتهم (26-28)، أما عنايته الإلهية ففائقة (29-30). أخيرًا خُتم الأصحاح باستعراض كيف يليق بأيوب الحديث مع الله (31-32)، تاركًا الأمر لضميره (33-37). 1. دعوة الحاضرين للاستماع فأجاب أَلِيهو وَقَالَ: [1] "فأجاب"، هذا لا يعني أن أحدًا ما سأل وقام أليهو بالإجابة عليه، فقد اعتاد الكتاب المقدس أن يبدأ الأحاديث بهذه الكلمة: "أجاب"، حتى وإن لم يسبقه أحد في الكلام، وذلك كما جاء في (أيوب 3: 2؛ إش 14: 10؛ زك 1: 10؛ 3: 4؛ 4: 11-12). أحيانًا تُستخدم هذه الكلمة لتعبر عن إجابة لسؤال خفي في ذهن شخصٍ آخر معارضٍ لم يفصح عنه علانية. اسْمَعُوا أَقْوَالِي أَيُّهَا الْحُكَمَاءُ، وَأصْغُوا لِي أَيُّهَا الْعَارِفُونَ [2]. في الأصحاح السابق وجه أليهو حديثه إلى أيوب، حيث أجاب على أسئلته بخصوص الأحزان والضيقات، موضحًا أنها بسماح الله لأجل نفع المؤمنين، حيث تُعطى الفرصة للمؤمن أن ينسحب إلى داخله، ويكتشف أخطاءه، ويطلب الوسيط الواحد الإلهي. لم يجبه أيوب، ولا علق على كلماته. الآن يوجه حديثه بصفة خاصة إلى أصدقائه الثلاثة، وقد دعاهم حكماء، وُهبت لهم المعرفة. وهو في هذا أراد أن يهيئهم للاستماع إليه باهتمام دون تحفزٍ. ولعله تطلع إليهم أنهم بالفعل هم حكماء، قادرون على تتبع أقواله وشرحه لبعض الأمور الصعبة. لأَنَّ الأُذُنَ تَمْتحِنُ الأَقْوَالَ، كَمَا أَنَّ الْحَنَكَ يَذُوقُ طَعَامًا [3]. يدعونا أليهو أن يكون لنا روح الإفراز، فكما يقوم الفم بتذوق الطعام، وتمييز ما هو صالح وما هو فاسد، هكذا يليق بآذاننا أن تفرز الكلمات الصالحة من الشريرة. هنا يتحدث مع الحاضرين خاصة الأصدقاء الثلاثة، وهو لا يتحدث عن الآذان الداخلية فحسب، بل والآذان الجسمية أيضًا، فلا يترك المؤمنون أبواب آذانهم تستقبل كل الكلمات بلا تمييز. كما نُدان عن كلمة بطالة تفسد وقتنا، يلزمنا أن نحتاط من كل كلمة نسمعها، فنهرب ما استطعنا من الاستماع ليس فقط لما هو شرير، بل وما هو باطل وبلا نفع. يرى كثير من الآباء أن التهاون بالاستماع إلى المنحلين أو الهراطقة قد يفسد نقاوة النفس واستقامة الإيمان، لذا يليق بالمؤمن أن يمتحن ما يُقال فلا يسمح لأذنيه أن تنصتا بلا تمييز. "جربوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان. امتحنوا أنفسكم، أم لستم تعرفون أنفسكم أن يسوع المسيح هو فيكم إن لم تكونوا مرفوضين" (2 كو 13: 5). "امتحنوا كل شيءٍ، تمسكوا بالحسن" (1 تس 5: 21). "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم" (1 يو 4: 1). "لا تصنع شيئًا بغير تمييز" (سيراخ 33: 30). "ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع السنة، ولآخر ترجمة ألسنة" (1 كو 12: 10). "وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر" (عب 5: 14). * "لا تُساقوا بتعاليم متنوعة وغريبة" (عب 13: 9). هذا هو معنى التمييز بين الصلاح والشر. "الفم يذوق طعامًا, لكن النفس تمتحن الكلمات" (راجع أي 34: 3) . القديس يوحنا الذهبي الفم القديس الشيخ الروحاني القديس باسيليوس الكبير القديس أنبا أنطونيوس الكبير لِنَمْتَحِنْ لأَنْفُسِنَا الْحَقّ، وَنَعْرِفْ بَيْنَ أَنْفُسِنَا مَا هُوَ طَيِّبٌ [4]. لنمتحن الأمور بأنفسنا، فلا نهتم بمديح الآخرين؛ إنما ما يشغلنا هو أن نبلغ إلى الحق، ونتعرف على الحقائق، ونسعى لكي نجد ما هو صالح. يليق بالمؤمن أن يسعى لكي يكتشف ما هو حق وما هو عادل وما هو للبنين وسط الآراء والمفاهيم المتضاربة، ممتحنًا كل شيء في جديةٍ وإخلاصٍ، دون تحيز لآرائه أو آراء محبيه. يرى القديس يوحنا الذهبي الفمأنه يليق بنا أن نمتحن أنفسنا، فننصت إلى صوت السيد المسيح الذي فينا، كما لصوته في الكنيسة المقدسة خلال معلمينا الكنسيين. * انظروا إلى داخلكم، فتجدون المسيح فيكم. ولكن إن كان المسيح فيكم، كم بالأكثر يكون في معلمكم . القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أمبروسياستر القديس ديديموس الضرير هكذا يلزمنا أولًا أن نختبر بكل حرص كل فكر يدخل إلى قلوبنا وكل تعليم نتلقنه، لنرى ما إذا كان قد تنقى بنار الروح القدس الإلهي السماوي، أو ينتمي إلى ضلال الهراطقة، أو هو ثمرة كبرياء الفلسفة البشرية التي ليس لها إلا سطحيات التديّن. نستطيع أن نعمل هذا إن سلكنا بنصيحة الرسول القائل: "أيها الأحباءُ لا تصدّقوا كلَّ روحٍ، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله..." (1 يو1:4). ينخدع البعض بهذا النوع، فيغويهم حُسن التنسيق، والتعاليم الفلسفية التي تخدع لأول وهلة بما فيها من بعض المعاني الورعة التي تتفق مع الدين، وذلك كما يخدع بريق الذهب ناظريه. هؤلاء تجذبهم المظاهر، لكن سرعان ما يشعرون أنهم في الواقع قد خرجوا فارغي اليد، ويسقطون في اليأس، ويكونون كمن قد انخدعوا بالنقود النحاسية المغشوشة . الأب موسى لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: تَبَرَّرْتُ، وَاللهُ نَزَعَ حَقِّي [5]. جاءت هذه الكلمات في أيوب (أي 13: 18؛ 27: 2) لكنه قالها ليبرئ نفسه، لأن أصدقاءه طعنوه في شخصه، فأراد تأكيد براءته من الاتهامات الباطلة، دون أن يقصد أنه يتبرر أمام الله، وأنه معصوم من الخطأ. لم يلمح قط أنه دومًا طاهر القلب، وأنه لم يخطئ قط ضد ناموس خالقه. حقًا قال إن الله نزع عنه حُكمه، لكنه لم يكن يعني قط أنه يود أن يقاضي الله متهمًا إياه بالظلم، وإنما ما عناه أن الله يتعامل معه بطريقة سرية غامضة، وليس كما اعتاد أن يلمسه في علاقته به من قبل، من جهة عنايته الإلهية الفائقة. ما كان غامضًا بالنسبة له ليس ما حلّ به من تجارب، إنما كيف سمح لأصدقائه أن يتعثروا فيه. لقد اعترف أيوب بخطاياه، لكنه يحمل برّا نسبيًا إن قورن بإخوته في البشرية، لا إن قورن بالله. فقد قيل: "لأنه لا إنسان صديق فيالأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" (جا 7: 20). * لا أعرف إنسانًا كاملًا في شيء... وهو بعد إنسان، إلا ذاك الذي وحده من أجلنا لبس ناسوتيتنا. القديس إكليمنضس السكندري الأب يوحنا من كرونستادت القديس أغسطينوس عِنْدَ مُحَاكَمَتِي أُكَذَّبُ. جُرْحِي عَدِيمُ الشِّفَاءِ مِنْ دُونِ ذَنْبٍ [6]. لعل أيوب يتساءل: هل يكذب ويتهم نفسه بالشر حسبما جاء في فكر أصدقائه، فيكون قد صار كاذبًا ضد إعلان براءته مما نسبوه إليه. إنه يصرخ، فقد صار جرحه عديم الشفاء بدون إثم ارتكبه. لقد اتهموه بأنه أشر مجرمٍ، وتعاملوا معه بأبشع صورة، مع أن الله نفسه شهد بكماله، وأن الشيطان هيَّجه عليه بلا سبب (أي 1: 1؛ 2: 3). يقصد بجرحه هنا النكبات التي حلت به، وقد بدت عديمة الشفاء، ليس من علاجٍ لها، ولا من إمكانيةٍ لإصلاح الموقف. جاء التصوير هنا أن أيوب يشبه حيوانًا ضُرب بسهمٍ قاتلٍ دون ذنب ارتكبه. ما يشتكي منه أيوب ليس أنه بلا خطية، ولكن ما حلّ به من نكبات، شوهت صورته تمامًا، خاصة في أذهان أصدقائه. فَأَيُّ إِنْسَانٍ كَأَيُّوب،َ يَشْرَبُ الْهُزْءَ كَالْمَاءِ [7]. يرى البعض أن هذا المثل يناسب البيئة الصحراوية قديمًا، إذ يشبّه الإنسان بالجمل الذي يشرب كمية ضخمة من الماء تمكنه من عدم الشعور بالعطش لمدة طويلة أثناء رحلته في البرية الجافة. هكذا شرب أيوب كميات ضخمة من التجارب، يستمر أثرها أثناء كل رحلته هنا في برية هذا العالم. أورد أليفاز عبارة مشابهة عند اتهامه لأيوب (أي 15: 16). وَيَسِيرُ مُتَّحِدًا مَعَ فَاعِلِي الإِثْم،ِ وَذَاهِبًا مَعَ أَهْلِ الشَّرِّ؟ [8] حسب أليهو أيوب أنه مرافق للأشرار، لأنه حمل أفكارًا مثلهم في عتابه مع الله (أي 9: 22-23؛ 30؛ 21: 7-15)، على الأقل بقوله إن الذين يفعلون الشر لا يُعاقبون. يبدو كأنه أنكر عدل الله بسبب عدم معرفته لما وراء الضيقات التي حلت به، بينما لم تحل بالأشرار، فحسبه أليهو كمن صادق بأفكاره الأشرار. لأَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ بِكَوْنِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ [9]. إذ تَبَنَّى أيوب هذا الفكر وسط مرارة نفسه، فقال بأنه لا منفعة من خدمة الله، وأن سلوك الإنسان بالبرّ لا ينفعه شيئًا، لأن الله لا يدافع عن الأبرار ضد مقاوميه، بهذا حسب أليهو أن أيوب في صداقة مع الأشرار. لأَجْلِ ذَلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا للهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ [10]. يدعو أليهو الحاضرين للاستماع إلى إجابته على ما ظنه مفاهيم خاطئة لدى أيوب، مظهرًا أن أيوب استخدم تعبيرات غير لائقة في عتابه مع الله بخصوص أحكامه. "يا ذوي الألباب (الفهم)"؛ الكلمة العبرية تعني "القلوب"، إذ كان اليهود يحسبون القلب هو مركز كل العمليات العقلية وعرشها. لا يتحدثون عن العقل أو الرأس كعرشٍ للعمليات العقلية. هكذا يحسب أليهو الحاضرين حكماء، وأنهم قادرون على إدراك الفكر الذي يعرضه بخصوص برّ الله وعدله في أحكامه. يود أن يؤكد أليهو أنه حاشا لله أن يخطئ أو يصنع شرًا. يقول أليهو: يلزمنا ألاَّ نضع تصرفات الله في موازين بشرية، فنتهمه أحيانًا بالظلم. إنما يليق بنا أن نثق بأن كل طرق الله حق هي وعادلة، لأنها طرقه وهو قدوس، وليس لأننا نراها هكذا. "فماذا نقول: ألعل عند الله ظلمًا؟ حاشا" (رو 9: 14). "حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر! أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك! أديان كل الأرض لا يصنع عدلًا؟" (تك 18: 25). "هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة، لا جور فيه، صديق وعادل هو" (تث 32: 4). "عادل أنت أيها الرب، وجميع أحكامك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وحكم" (طوبيا 3: 2). "الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يومٍ" (مز 7: 11). "لأن الرب عادل ويحب العدل، المستقيم يبصر وجهه" (مز 11: 7). "خوف الرب نقي، ثابت إلى الأبد، أحكام الرب حق عادلة كلها" (مز 19: 9). "عادلة شهاداتك إلى الدهر، فهمني فأحيا" (مز 119: 144). "وإذ أنت عادل تدبر الجميع بالعدل، وتحسب القضاء على من لا يستوجب العقاب منافيًا لقدرتك" (الحكمة 12: 15). "فسهر الرب على الشر وجلبه الرب علينا، لأن الرب عادل في جميع أعماله التي أوصانا بها" (با 2: 9). "لأنك عادل في جميع ما صنعت، وأعمالك كلها صدق، وطرقك استقامة، وجميع أحكامك حق" (دا 3: 27). "الرب عادل في وسطها لا يفعل ظلمًا. غداةً غداةً يبرز حكمه إلى النور لا يتعذر، أما الظالم فلا يعرف الخزي" (صف 3: 5). "وهذا ما صلى به نحميا: أيها الرب، الرب الإله خالق الكل المرهوب، القوي العادل الرحيم، يا من هو وحده الملك والبار" (2مكابين 1: 24). "يا من هو وحده المتفضل العادل القدير الأزلي، مخلص إسرائيل من كل شرٍ، الذي اصطفى آباءنا وقدسهم" (2مكابين 1: 25). "وسمعت ملاك المياه يقول: عادل أنت أيها الكائن والذي كان والذي يكون، لأنك حكمت هكذا" (رؤ 16: 5). "وسمعت آخر من المذبح قائلًا: نعم أيها الرب الإله القادر على كل شيء، حق وعادلة هي أحكامك" (رؤ 16: 7). "لان أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها" (رؤ 19: 2). * إن كان ذاك الذي تدعوه الآب هو دياننا، وإن كان لا يحابي الوجوه، فلنسرع إذن ونبذل كل الجهد خلال رحلتنا هنا على الأرض بكل مخافةٍ وسلوكٍ مقدسٍ... بهذا نعرف أن هذا الآب بعينه هو الذي يهبنا الوعود، وهو الذي يحفظنا دون أية عقوبة. القديس ديديموس الضرير القديس يوحنا الذهبي الفم القديس إيريناؤس لأَنَّهُ يُجَازِي الإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ [11]. يعمل الله دائمًا بعدلٍ، فهو لن ينسى الأبرار، ولا يسمح للأشرار أن يزدهروا في النهاية. إنه سيتعامل مع كل إنسانٍ حسب استحقاقه. لم يكن يعني بهذا أنه يحكم على أيوب بأنه شرير بسبب ما حلّ به، وذلك كما اتهمه أصدقاؤه الثلاثة، وإنما يظن أنه يصحح مفهومًا غامضًا أو خاطئًا لأيوب عبّر عنه في مرارة نفسه. لننتظر، فإن الله سيكافئ الأبرار وأيضًا يجازي الأشرار إن أصروا على شرورهم، وذلك في الوقت المناسب. لقد قال الرب عن الملك الشرير يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: "لا يندبونه قائلين: آه يا أخي أو آه يا أخت. لا يندبونه قائلين: آه يا سيد أو آه يا جلاله. يدفن دفن حمار، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم (إر 32: 18-19). كما قيل: "لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله (رو 2: 5-6). "وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحدٍ، فسيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17). "وها أنا آتي سريعًا وأجرتي معي لأجازي كل واحدٍ كما يكون عمله" (رؤ 22: 12). *لماذا لا يعاقب الله كل البشر بالرحمة بطريقة بها لا يسمح لأحد أن يتقسى ضده؟ (هذا التساؤل يصدر) بسبب الشر الذي تأهل إليه من صاروا قساة، أو بسبب أحكام الله الغامضة التي كثيرًا ما تكون خفية لكنها لن تكون ظالمة. الأب قيصريوس أسقف آرل فَحَقًّا إنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءًا، وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ [12]. يكرر أليهو هذا المبدأ مؤكدًا أن الله لا يفعل شرًا، ومسهبًا في الحديث عنه. تحت كل الظروف لا يمكن خرق هذا المبدأ ولا إلى لحظةٍ واحدةٍ. لقد عاب على أيوب أنه وإن كان يعتنق نفس المبدأ، لكنه تحت ضغط الآلام الشديدة، ظن أن الله يمكن أن يخطئ في حكمه، فيحل الظلم عوض العدالة (أي 34: 5؛ 8: 3). قال الرب للشيطان: "قد هيجتني عليه لابتلعه بلا سبب" (أي 2: 3). وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير) قد يسمح الله بالأحزان بلا سبب (يستحقه الإنسان)، ولكن لن يدينه بلا سبب. يسمح الله لصديقيه بالأحزان لأجل تنقيتهم أو تزكيتهم، لكنه لا يسمح لهم بالأحزان في يوم الدينونة. * تحصل على عالم النور عوض ألمٍ مريرٍ تتحمله لأجله ليومٍ واحدٍ. إن صبرت على الجوع قليلًا من أجل حبه، عندئذٍ تلتهب رغبتك لرؤية وجهه. إن ظهرت الظلمة على وجهك من الأعمال لأجله، يجمّلك بمجده إلى الأبد بلا نهاية. إن تعريت مما هو لك، يُلبسك نوره، ويخفي عنك ما هو لك. إن تركت ما تملكه، تقتنيه في نفسك أبديًا. الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي) إنه سيمسح عَرَقْ التعب. إنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد. هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: "ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟" (أي 7: 1). القديس أغسطينوس مَنْ وَكَّلَهُ بِالأَرْض، وَمَنْ صَنَعَ الْمَسْكُونَةَ كُلَّهَا؟ [13] هو خالق السماوات والأرض ومدبر المسكونة كلها؛ لم يتسلم سلطانه من آخر، ولا يخضع لأحدٍ؛ السماء والأرض هما موضع رعايته ومسرته. لو أن الأرض ليست من صنع يديه، إنما عُهدت إليه من آخر أعظم منه لكان يُمكن أن يفعل سوءً، ويحكم بالظلم، كمن لا يصيبه ضررٌ، لكن إذ هي ملكه، وهو خالقها والمعتني بها، يدبر كل ما يدور على الأرض بعدله الإلهي ورعايته الفائقة للعقل البشري. "هوذا الله يتعالى بقدرته، من مثله معلمًا؟ من فرض عليه طريقه؟ أو من يقول له: قد فعلت شرًا؟" (أي 36: 22-23). * لاحظوا كيف أن أليهو يبرهن على عدالة الله: "صنع الأرض" والسماء وكل المخلوقات الأخرى. هل أعماله غريبة عنه حتى يكون ظالمًا لنا...؟ إنه عادل، ليس فقط لأن هذه هي أعماله، وإنما لأنه هو سيدها. في الواقع هذا يحدث حتى مع الأشرار، فإنهم لا يقبلون أذية (من آخر) تحل بالخاضعين لهم. عادة يهتم كل شخص بمن هم له وما هو له. أما بالنسبة لذاك الذي هو الخالق والسيد، كيف لا يمارس عدلًا في كل تدبيره، إن كان قد سكب عليه بهاءً كهذا؟ لا يمكنكم القول إنه لا يمارس ظلمًا عن ضعفٍ، فإنه يستطيع بسهولة أن يدمر كل البشر. القديس يوحنا الذهبي الفم البابا غريغوريوس (الكبير) إنْ جَعَلَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، إِنْ جَمَعَ إِلَى نَفْسِهِ رُوحَهُ وَنَسَمَتَهُ [14]. يرى البعض أن هذه العبارة والتي تليها تعنيان أنه إن وضع الله قلبه على إنسانٍ، فإنه يضم روحه إليه، لأنه كائن عزيز لديه جدًا. يسمح للجسد أن يعود إلى التراب، لكنه يعتز بالنسمة التي وهبه إياها، ويضمها إليه. إن ما يشفع لنا جميعًا هو حب الله الذي خلقنا ووهبنا نسمة من فيّه. وكما يقول الحكيم: "فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" (جا 12: 7). الله في حبه للإنسان يضع قلبه إليه، ويركز خطته الإلهية على خلاصه. حقًا في سلطان الله أن يهلك كل جنس البشر، لأن "الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا ولا واحد" (رو 3: 12). لم يعد من حق الإنسان أن يحيا، وليس له وجه أن يطلب شيئًا صالحًا من الله لأنه عصاه. فمهما حلّ بالإنسان حتى الموت، لا يقدر أن يشتكي ويتهم الله بالظلم، لأنه من يتبرر قدامه. وكما يقول المرتل: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيّ" (مز 143: 2). مع هذا فقد سمح الله في محبته أن يموت الجسد ويرجع إلى التراب ويضم بحبه روح الإنسان، واهبًا إياها القيامة الأولى معه، حتى في القيامة الثانية يقوم الجسد أيضًا مع الروح، ويرجع الإنسان إلى الأحضان الإلهية. بهذا يرد أليهو على أيوب فيقول له: لماذا تطلب المحاكمة أمام الله، فإنه إن فحص الله حياة إنسانٍ ما يجده مجرمًا ويستحق القطع من الحياة تمامًا. وكأن أليهو يقول لأيوب: أنا أعلم أنك إن قورنت بالبشر تُحسب بارًا وكاملًا، لكنك كيف تتجاسر وتطلب أن تُحاكم أمام الله، فإنك كسائر البشر مستحق الموت. * "إن وَّجه قلبه إليه، فسيجمع لنفسه روحه ونسمته" [14]. عندما يطلب القلب الأمور السفلية يصير ملتويًا. ويصير مستقيمًا عندما يرتفع إلى العلويات. فإنه وَّجه إنسان قلبه إلى الرب، يجتذب الرب روحه ونسمته إليه. يستخدم هنا تعبير "الروح" عن الأفكار الداخلية، والنسمة الخارجة من الجسد عن الأعمال الخارجية. بهذا فإن الله يجتذب الروح، ونسمته إليه، لكي يغير ما بالداخل وما بالخارج، فيجعلنا نتجه نحوه في اشتياقاتنا... يكون للإنسان بكليته رغبات داخلية ملتهبة نحو ذاك الذي أوجده. البابا غريغوريوس (الكبير) يُسَلِّمُ الرُّوحَ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، وَيَعُودُ الإِنْسَانُ إِلَى التُّرَابِ [15]. إن أراد الله، فمن حقه أن يزيل كل البشرية؛ فلماذا يشكو الناس من فقدان الصحة أو الخيرات الزمنية أو الأقرباء، ويظنون أن الله غير عادل؟ * "كل جسد يسقط جميعًا، ويعود الإنسان إلى التراب" [15]. لأن كل جسد يسقط تمامًا عندما لا يعود بعد يكون عبدًا لعواطفه... فكلما بدأ الإنسان أن يحيا للعلويات، يموت عن السفليات... جسد بولس هلك تمامًا عندما قال: "أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيٌ" (غل 2: 20). بحق أضاف أليهو في هذا الموضوع: "يعود الإنسان إلى التراب". لأن كل من ينشغل بالخطية ينسى حاله المائت، وبينما ينتفخ بالكبرياء، لا يذكر أنه تراب. ولكن بعدما تلمسه نعمة الاهتداء بروح التواضع عندئذ يستدعي في ذهنه أنه تراب. عاد داود إلى التراب عندما قال: "أذكر يا رب أننا تراب" (مز103: 14). وعاد إبراهيم إلى التراب، قائلًا: "قد شرعت أكلم ربي وأنا تراب ورماد" (تك 18: 27). مع أن الموت لم يكن بعد قد حلل الجسد الحي إلى تراب، لكن في رأيهما أنهما كانا هكذا حسبما سبقا فنظراه دون تشكك فيما سيحدث. البابا غريغوريوس (الكبير) فَإِنْ كَانَ لَكَ فَهْم، فَاسْمَعْ هَذَا وَأصْغ إِلَى صَوْتِ كَلِمَاتِي [16]. في بدء الأصحاح وجه أليهو حديثه إلى رجال الحكمة والفهم، الآن يوجه حديثه بالأكثر إلى أيوب، إن كان لديه فهم. فقد أراد أن يوبخه على ما صدر منه من عبارات غير لائقة بالنسبة لله وأحكامه. أَلَعَلَّ مَنْ يُبْغِضُ الْحَقَّ يَتَسَلَّطُ، أَمِ الْبَارَّ الْكَبِيرَ تَسْتَذْنِبُ؟ [17] يعجب أليهو من موقف الإنسان نحو الله، فيجسر ذاك الذي يخضع للقانون أنه يُدين الله الكلي العدل والبرّ وواضع الناموس للبشر. يا للعجب! الذي يحتاج إلى قانون يحكمه، يضع نفسه في مركز القاضي ليدين واضع القانون. أو ذاك الذي يبغض القانون ويحاول التخلص منه يود أن يحكم على مؤسس القانون. * إنه يبغض الشر ويحب البشرية. إنه ليس مثلنا نحن الذين نترك الشر ليس من أجل كراهيتنا للرذيلة، وإنما خوفًا من العقاب القادم. القديس يوحنا الذهبي الفم أَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: يَا لَئِيمُ، وَلِلشُّرَفَاءِ: يَا أَشْرَارُ؟! [18] إن كان الله قد أقام الرئاسات، إنما لكي يُكرموا في الرب ومن أجل الرب، وليس لكي يحتلوا مركز الرب (سي 32: 1). فإن الحاكم أو صاحب السلطان الذي يتكبر قلبه يسقط في الارتداد كما حدث مع الشيطان. كان الرسول بولس كقائدٍ يخشى لئلا يسقط في الكبرياء، يقول: "ولا طلبنا مجدًا من الناس، لا منكم ولا من غيركم، مع أننا قادرون أن نكون في وقارٍ كرسل المسيح، بل كنا مترفقين في وسطكم كما تربي المرضعة أولادها" (1تس 2: 6-7). مجد القائد أن يحمل روح الرب الذي يحتضن كل الخاضعين له بالحب، ويتعامل معهم كأبناءٍ له. إن كان الإنسان لا يجسر أن يتهم الملك الزمني باللؤم والشر، فكيف ينسب لملك الملوك ورب الأرباب ظلمًا وشرًا. يليق بالإنسان أن يعطي الكرامة لمن له الكرامة، فيصعب على الإنسان أن يحكم على رؤسائه، لأنه لا يدرك ما وراء تصرفاتهم من علل خفية وأسباب سرية، فكيف يدين خطة الله غير المحدودة وخططه الفائقة للعقل. *الآن بالنسبة للعبارات الواردة في الإنجيل التي تبدو أنها تحمل شيئًا من التناقض، من الأفضل لكل أحدِ أن يوبخ نفسه بأنه لم يبلغ بعد فهم غنى الحكمة (رو 11: 33)، وأن يتذكر بالحقيقة أنه يصعب أن ندرك أحكام الله الغامضة، عن أن نتهمها بوقاحةٍ وتهورٍ، فنسمع الكلمات: "عاق هو ذاك الذي يقول: أنت تعصى الناموس" (أي 34: 18 LXX). القديس باسيليوس الكبير الَّذِي لاَ يُحَابِي بِوُجُوهِ الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ يُعتَبِرُ غَنِيًّا دُونَ فَقِيرٍ (مسكين). لأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ عَمَلُ يَدَيْهِ [19]. إن كان لا يليق بنا أن ندين الملوك والرؤساء، الذين كبشرٍ، كثيرًا ما يحابون الوجوه، فكيف ندين الله الذي يتعامل مع الأغنياء والفقراء على نفس المستوى، دون محاباة للوجوه (راجع غل 2: 6؛ أع 10: 34؛ 2 أي 19: 7؛ أم 22: 2؛ رو 2: 11؛ أف 6: 9؛ كو 3: 25). لأن الكل خليقته، والكل يحتاج إلى عنايته الإلهية ومراحمه حتى يتمتعوا بالخلاص. فإن إمكانيات الإنسان أو مركزه لا دخل لها في معاملات الله معه. * يفهم بالرئيس أو الطاغية هنا كل شخصٍ متعجرف، بينما يشير إلى المتواضعين بالمساكين (فقراء). لهذا فإن الله لا يحابي الطاغية عندما يقاوم المسكين، إذ يعلن أنه لا يعرف في الدينونة المتكبرين الذين يضايقون حياة المساكين، كما هو مكتوب: "لا أعرفكم، من أين أنتم" (لو 13: 25). لو أراد، يستطيع أن يهلكه بقوته، إذ خلقه بقوته عندما أراد. لذلك لاق أن يضيف: لأنهم جميعهم عمل يديه". البابا غريغوريوس (الكبير) بَغْتَةً يَمُوتُون، وَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ يَرْتَجُّ الشَّعْبُ وَيَزُولُونَ، وَيُنْزَعُ الأَعِزَّاء (أصحاب القدرة) لاَ بِيَدٍ [20]. يتحدث هنا عن ثلاثة فئات ليبرز أليهو عدم محاباة الله. الفئة الأولى:الملوك والأغنياء الذين يعتمدون على السلطان والمال، فيحسبون أكثر أمانًا من غيرهم. هؤلاء ليس فقط لا يحابيهم الله، وإنما يسمح أحيانًا أن يأخذ نفوسهم فجأة الأمر الذي لا يتعرض له الشعب بذات الصورة. الفئة الثانية:الشعب الأشرار، فإذ يعتمدون على كثرة عددهم، وحصانة الأسوار، إذا بهم يعانون من المتاعب ويُسحبون من بلادهم، إذ يُسبون في نصف الليل. في نصف الليل ضرب الله أبكار المصريين وهم في طمأنينة يسخّرون بشعب الله. الفئة الثالثة: أصحاب القدرة كرجال الحرب المعتزين بإمكانياتهم العسكرية، فإنهم أحيانًا يُنزعون أو يسقطون أسرى من حيث لا يدرون، كما بدون يدٍ. ينهزمون ليس بالذراع البشري، كما ليس به ينجو الأقوياء الأبرار. وكما قيل: "هذه كلمة الرب إلى زربابل، قائلًا: لا بالقدرة، ولا بالقوة، بل بروحي، قال رب الجنود" (زك 4: 6). كما قيل: "لن يخلص الملك بكثرة الجيش، الجبار لا ينقذ بعظم القوة. باطل هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدة قوته لا ينجي" (مز 33: 16-17). *ليكن الله هو رجاءكم، قدرتكم على الاحتمال، قوتكم. ليكن كفارتكم، تسبيحكم، غايتكم وموضع راحتكم، وعونكم في جهادكم... الجبار هو الإنسان المتغطرس الذي يرفع نفسه (متشامخًا) على الله، كما لو كان شيئًا في ذاته وما يخصه. مثل هذا الإنسان لا ينجو بقوته الذاتية. الآن، لديه فرس رشيق وقوي، سليم وسريع الخطى، إذا ما حدث هجوم أما يستطيع أن ينجي راكبه من الخطر الملحق به؟ ليسمع: "خلاص الفرس كاذب"... يلزم ألا يعدك الفرس بالنجاة... يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأية ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتكل عليها في كبرياء، حاسبين خطًأ أنكم كلما ارتفعتم يزداد أمانكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنف سوف تُلقَون، كلما ارتقيتم إلى أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقلٍ... فكيف إذن يتحقق الأمان؟ إنه لا يتحقق بالقوة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس. القديس أغسطينوس لأَنَّ عَيْنَيْهِ عَلَى طُرُقِ الإِنْسَان،ِ وَهُوَ يَرَى كُلَّ خَطَوَاتِهِ [21]. لا يحتاج الله إلى من يقدم له تقريرًا عن شخصٍ ما كما ظن أيوب حين قال: "أبحر أنا أم تنين، حتى جعلت عليّ حارسًا" (أي 7: 12). إنما يقول عنه إرميا النبي: "الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم" (إر 32: 19)، وأيضًا قيل عنه: "لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض" (2 أي 16: 9). كل الأمور مكشوفة أمامه، إذ هو حاضر في كل مكان، يعتني بالكل، يمارس البرّ والعدل الإلهي. لا يهرب أحد منه (مز 139: 2-3). يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أليهو يؤكد عدل الله دون أن يهدف نحو أذية أيوب باتهامات باطلة كما فعل الأصدقاء الثلاثة الآخرون، إذ لم يقل عنه إنه حطم الأرامل واليتامى (أي 22: 9). يعرف أليهو كيف يلوم أيوب، دون تقديم اتهامات ضده. "من السماوات نظر الرب، رأى جميع بني البشر. من مكان سكناه تطلع إلى جميع سكان الأرض. المصور قلوبهم جميعًا المنتبه إلى كل أعمالهم" (مز 33: 13-15). "إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة أفما أراه أنا يقول الرب، أما املأ أنا السماوات والأرض يقول الرب" (إر 23: 24). * يُحسب الله كمن لا يعرف أعمال الأشرار، لأنه يؤجل دينونتهم بعدلٍ، فيظهر عظم طول أناته من نحوهم كما بنوعٍ من تجاهله لهم. والشرير أيضًا في كل مرة يخطئ فيها دون أن يُعاقب يظن أن الله لا يراه، نتيجة عدم معاقبته في الحال حسبما يستحق. يحسب أن سلوكه ليس مكروهًا لدى الله... لكن هناك ستسقط عليه العقوبات فجأة، بضربةٍ أبدية. عندئذ سيعرف أن الله يراقب كل شيءٍ، إذ يجد نفسه معاقبًا بموتٍ غير متوقعٍ كعقابٍ أخروي عن كل إثمه... * يدعو " كل خطوات الناس" إما الأعمال المنفصلة التي ننشغل بها، أو الدوافع المتتالية لأفكارنا العميقة، إذ هي أشبه بخطوات بها ننفصل عن الرب، أو نقترب إليه بالقداسة. فإن العقل يقترب كما بخطوات (درجات) كثيرة من الله متى تقدم في عواطف كثيرة مقدسة. مرة أخرى تنفصل عنه خلال أفكار شريرة كثيرة. البابا غريغوريوس (الكبير) لاَ ظَلاَمَ وَلاَ ظِلَّ مَوْتٍ، حَيْثُ تَخْتَفِي عُمَّالُ الإِثْمِ [22]. عادة يود المجرم أن يختفي عن الأنظار. يقول أليهو إنه لا يوجد هنا كهف مظلم يختفي فيه الأشرار من عيني الله، وليس في العالم الآخر ظلمة عميقة يهربون إليها من وجهه. يمكن للإنسان أن يختفي من وجهه الإنسان أخيه حتى لا ينفضح أمره، أما بالنسبة لله، فكل شيءٍ مكشوف سواء في هذا العالم أو في يوم الرب العظيم. توجد عين خفية ترى الأشرار، ويد قوية تسحبهم للجزاء. "ظل الموت" يشير إلى الظلمة الكثيفة (عا 9: 2-3؛ مز 139: 12). * ماذا يعني بالظلام إلا الجهل، وبظل الموت إلا النسيان. فيُقال عن جهل أشخاص معينين: "إذ هم مظلمو الفكر" (أف 4: 18). مرة أخرى عن النسيان الذي يحل بنا عند الموت قيل: "في ذلك اليوم تهلك كل أفكاره" (مز 146: 4). فكل ما يفكر فيه أثناء حياته يُسلم إلى النسيان بالموت، النسيان هو نوع من ظل الموت، فكما أن حلول الموت يضع نهاية لأعمال الحياة، هكذا حلول النسيان يحطم ما في الذاكرة... لا يختفي أحد من دينونة (الله)، لهذا يستحيل بالنسبة له ألا يرى ما نحن نفعله، أو ينسى ما يراه... إنها سمة الطبيعة الإلهية وحدها ألا تعاني من ظلال الجهل أو التغيير... إذ لا يتغير النور الأبدي في إشراقه الذي هو الله نفسه، يرى بنظرةٍ ثاقبةٍ، ولا يجهل ما هو مخفي، إذ يخترق كل الأشياء، ولا ينسى ما يخترقه إذ هو غير متغير... عندما نظن أننا لا نُرى، نحفظ أعيننا مغلقة أمام نور الشمس، بمعنى نحجبه عنا، ولا نحجب أنفسنا عنه. البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّهُ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَانَ زَمَانًا، لِلدُّخُولِ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَعَ اللهِ [23]. يرى البعض أن المعنى هنا: الله لا يدعو الإنسان مرة أخرى للمحاكمة، لا ينظر في قضية مرتين، فإن أحكامه عادلة لا تحتاج إلى استئناف؛ يصدر الحكم وليس من يستأنف للمرافعة من جديد. ويترجمها البعض: "هوذا، لا يودع إنسان لمجيئه للمحاكمة مع الله". زمن الإنسان ليس في يده، ولا نصيبه يتحقق بحكمته وقوته. عندما يرى الله أن الوقت مناسب يُحاكم الإنسان. يُحَطِّمُ الأَعِزَّاءَ مِنْ دُونِ فَحْصٍ، وَيُقِيمُ آخَرِينَ مَكَانَهُمْ [24]. إنه يسحق من يظنون أنهم عظماء ويحطمهم، فهو لا يبالي بثرواتهم الضخمة، ومكانتهم في المجتمع، وكثرة عددهم. "من دون فحص"، أي لا يحتاج الله إلى إجراءات طويلة لفحص الأمور والتأكد منها. إنه يقضي للحال، وبطريقة مباشرة، وينزع الأشرار، ويقيم من يحتل أماكنهم. في حالات كثيرة يضغط الله على المتكبرين المعتدين بأنفسهم، ويرفع المتواضعين والودعاء. * "سيحطم الكثيرين بلا عدد، ويقيم آخرين مكانهم" [24]. هذا حدث يومي، لكن لأن نهاية الفريقين (الأبرار والأشرار) لم تُنظر بعد، لذلك فإن الرهبة أقل. فإن الأشرار لن يعرفوا أخطاءهم إلا عندما يسقطون تحت العقوبة... بفحص قلوب البشر فرادى أو وضعها تحت العدالة والرحمة، يطرد البعض إلى الخارج، ويقود آخرين إلى الداخل. هؤلاء الآخرون يوحَى إليهم بطلب المباهج الداخلية، ويترك الأولين يرثون الملذات الخارجية. يرفع عقول البعض نحو السماويات ويهوي بكبرياء الآخرين إلى أسافل الملذات... إنه يطرد الواحد بحزمٍ، ويجذب الآخر برحمته... حسنًا قيل بالنبي: "يضع الأشرار إلى الأرض" (مز 147: 6). فإنهم إذ يفقدون السماويات، كل ما يعطشون إليه هو أرضي، وكل ما يسعون إليه ويبدو لهم أعظم، إذ بهم يطلبون ما هو أقل في القيمة. حسنًا قيل عنهم بإرميا: "الحائدون عنك في التراب يُكتبون" (راجع إر 17: 13). بينما من الجانب الآخر قيل عن المختارين: "افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات" (لو 1: 2) البابا غريغوريوس (الكبير) لَكِنَّهُ يَعْرِفُ أَعْمَالَهُمْ، وَيُقَلِّبُهُمْ لَيْلًا، فَيَنْسَحِقُونَ [25]. يعرف الله أعمالهم، وما يخططونه دون حاجة إلى فحصٍ؛ فيهبهم الكثير من الفرص لعلهم يرجعون على الشر، وفي ليلةٍ واحدةٍ يحطمهم. من الأمثلة الواضحة في العهد القديم ما حدث مع كل شعبه حيث مات كل الأبكار في ليلة واحدة، وأيضًا بلشاصر ملك بابل (دا 5: 30). "يقلبهم ليلًا": الترجمة الحرفية "يقلب الليل". أي يقلبه عليهم، فتحل كارثة خطيرة بهم لا يتوقعونها. كثيرًا ما تُشير كلمة "ليل" إلى كارثة غير متوقعة، ويصعب مواجهتها. * يُفهم على وجه الخصوص أن كل شرير يُسحق بالليل بطريقين: إما عندما يُضرب بعذاب العقوبة من الخارج، أو عندما يُصاب بحُكم عندما يفقد إلى الأبد نور الحياة بالدينونة النهائية. كما هو مكتوب: "اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية" (مت 22: 13). عندئذ يُرسل بالقوة إلى الظلمة الخارجية، إذ بإرادته صار أعمى بالظلمة الداخلية... كل خطية لا تُمحى بالندامة سريعًا، إما أنها خطية وعلة لخطية، أو خطية وعقوبة عن خطية. الخطية التي لا تغسلها الندامة فورًا تقود إلى خطية أخرى بثقلها. فهي ليست فقط خطية، وإنما بالإضافة إلى ذلك هي علة خطية. هذه الخطية يتبعها إثارة أخطاء، حيث ينقاد العقل الأعمى إلى المعاناة من العبودية من خطية إلى خطية أخرى، أما الخطية التي تقوم من خطية لا تعود بعد خطية فقط، وإنما تصير خطية مُضاف إليها عقوبة خطية. البابا غريغوريوس (الكبير) لِكَوْنِهِمْ أَشْرَارًا، يَصْفَعُهُمْ فِي مَرْأَى النَّاظِرِينَ [26]. غالبًا ما يُريد الأشرار أن يختفوا عن الأنظار كما في الظلمة، لأن أعمالهم ظلمة لا تطيق النور، لهذا يؤدبهم الرب علانية لكي يرتعدوا ويدركوا عجزهم عن الهروب من العدالة الإلهية، ولكي يصيروا درسًا عمليًا للغير فلا يتشبهون بهم. لعل أليهو كان يركز أنظاره على ما حلّ بأيوب من نكبات علانية. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الناظرين هم الأتقياء الذين يقفون كشهودٍ على الأشرار في يوم الدينونة. * "لكونهم أشرارً يصفقهم في مرأى الناظرين" (أي 34: 26)... يدعو الكتاب المقدس غير المؤمنين على وجه الخصوص أشرارًا. لأن الخطاة يُميزون عن الأشرار بهذا الفارق: كل شرير هو خاطي، ولكن ليس كل خاطي هو شرير. فإنه حتى الإنسان التقي في الإيمان يمكن أن يكون خاطئًا. يقول يوحنا: "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" (1 يو 1: 8). لكن بحق يُقال عن الإنسان إنه شرير إن كان متغربًا عن قداسة الدين... هدوء سلام الكنيسة نفسه يحجب الكثيرين تحت الاسم المسيحي ويكتنفهم وباء شرهم. ولكن متى ضُربوا بنسمة خفيفة من الاضطهاد، يكتسحهم للحال كالقش من الجرن. يرغب بعض الأشخاص في حمل علامة الدعوة المسيحية، لأن اسم المسيح قد ارتفع عاليًا، فيتطلع الكل تقريبًا في أن يظهروا كمؤمنين. إذ يرون الآخرين يُدعون هكذا يخجلون من أن يظهروا غير مؤمنين، لكنهم يهملون أن يصيروا إلى ما يفتخرون بدعوته... يحتفظ البعض بالإيمان في داخل قلوبهم، لكنهم لا يبالون بالسلوك في الحياة بأمانة... إذ يتجاهلون الحياة الدقيقة يسقطون في عدم الإيمان دون أن يضطهدهم أحد... هؤلاء مخفيون عن أعين البشر لكنهم مكشوفون في بصيرة الله. كثيرون يموتون غير مؤمنين وهم مقيمون في الإيمان نفسه. بحق قيل: "لكونهم أشرارًا يصفقهم في مرأى الناظرين" (أي 34: 26). إذ يُظهرون أنفسهم أمام الناس في الكنيسة كأشخاصٍ أتقياء، لكن إذ لا يقدرون أن يهربوا من الأحكام الإلهية، يُضربون كأشرارٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا مِنْ وَرَائِه،ِ وَكُلُّ طُرُقِهِ لَمْ يَتَأَمَّلُوهَا [27]. يقدم تفسيرًا لتأديبهم علانية، ألاَّ وهو تركهم لله القدوس خفية، في داخل قلوبهم وأفكارهم كما في سلوكهم السري، ولم يقبلوا طريق الرب، أي لم يحفظوا وصاياه ولا وضعوا اعتبارًا لله نفسه في حياتهم. * "لأنهم انصرفوا من ورائه، وكل طرقه لم يتأملوها" [27]. ما سيحل بالأشرار في يوم الدينونة سرّه هو رجوعهم عن الله، أو انصرافهم من ورائه، وعدم مبالاتهم بطرقه الإلهية. * "الذين انصرفوا عنه، كما عن عمدٍ". يليق بنا أن نفهم أن الخطية تُرتكب بثلاث طرق: إما بسبب الجهل أو الضعف أو عن عمدٍ. تصير خطيتنا أخطر إن كانت عن ضعفٍ وليس عن جهلٍ، لكن الخطر يكون أعظم إن كانت عن عمدٍ وليس عن ضعفٍ. أخطأ بولس عن جهل حين قال: "أنا الذي كنت قبلًا مجدفًا ومُضطهدًا ومفتريًا، ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهلٍ في عدم إيمانٍ" (1 تي 1: 13). أخطأ بطرس عن ضعفٍ عندما هزت كلمة الجارية قوة الإيمان الذي تحدث عنه مع الرب، وعندما أنكر بصوته الرب الذي تمسك به في قلبه (مت 26: 69). لكنهم أخطأوا عن عمد هؤلاء الذين قال عنهم السيد نفسه: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22). أن تخطيء عمدًا يعني أنك لا تحب الصلاح ولا تفعله. لذلك أحيانًا يكون الجرم أثقل أن تحب الخطية عن أن تمارسها. وبالمثل فإن الخطية أعظم أن تكره البرّ عن ألا تفعله. لذلك يوجد البعض في الكنيسة من هم بعيدون عن الصلاح بل ويضطهدونه، وأيضًا من يكرهون في الآخرين ما يمارسونه هم في إهمالٍ. * "ولا يريدون أن يفهموا أي طريق من طرقه". لا يقول إنهم لا يفهمون عن ضعفٍ، وإنما لا يريدون أن يفهموا، لأن الناس غالبًا ما يحتقرون معرفة الأمور التي يفتخرون جدًا أنهم يفعلونها... إذ يحسبون جهلهم لها يهبهم حصانة من جهة خطاياهم... أن تفهم طرق الرب هو أن تحتمل بتواضعٍ الأمور الزائلة (من ضيقات) وتنتظر بثباتٍ الأمور الباقية (الأبديات). البابا غريغوريوس (الكبير) حَتَّى بَلَّغُوا إِلَيْهِ صُرَاخَ الْمِسْكِين،ِ فَسَمِعَ زَعْقَةَ الْبَائِسِينَ [28]. بتركهم طريق الرب ورفضهم وصاياه، فتحوا الطريق لصرخات المساكين الذين ظلموهم أن تصعد إلى الرب، وصرخات البائسين (الحزانى) أن تبلغ إليه. بمعنى آخر، إذ يرفض الشرير طريق الرب ويسد أذنيه عن سماع الوصية الإلهية في حياته العملية، يسبب خسارة ومرارة لإخوته، فتصعد صرخاتهم إلى السماء وتبلغ أذني الله. ليس من أمر مرعب في المحكمة السماوية من قسوة قلب الإنسان على أخيه بسبب رفضه وصية الحب الإلهي. فإنه وإن صلى إلى الله يسد أذنيه حتى يفتح الإنسان أذنيه لمن أحزنهم وضايقهم. فإن دموع المتألمين وتنهداتهم تسبق وتشتكي الأشرار الظالمين. * "حتى يبلغ إليه صراخ المحتاجين، ويسمع صوت الفقراء" [28]. إذ يفتخر هؤلاء (الأشرار)، يصرخ الذين يضغطون عليهم إلى الله، أو بالتأكيد تعني أنهم يسببون أن يبلغ صراخ المساكين إلى الله... هذا أيضًا يشير إلى قادة الكنيسة، الذين يتوقفون على عمل الكرازة، وينشغلون بالاهتمامات العالمية. يتركون الالتزامات الخاصة بالكرازة. إنهم بهذا يلزمون القطيع الذي تحتهم أن يندفعوا إلى الشكوى متذمرين. كل مَن الذين تحثهم يشتكي، كما بعدلٍ، من سلوك الراعي المزيف، متسائلًا: لماذا يحتل مكان المعلم من لا يمارس العمل؟ البابا غريغوريوس (الكبير) إِذَا هُوَ سَكَّنَ فَمَنْ يَشْغَبُ؟ وَإِذَا حَجَبَ وَجْهَهُ فَمَنْ يَرَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى أُمَّةٍ أَوْ عَلَى إِنْسَانٍ؟ [29] يقول أليهو: "إذ يسمع الله أنات الشعب وتنهدات الإنسان المتألم، يقدم راحة أو تعزية أو رخاء للمساكين المتألمين المظلومين، عندئذ من يجسر ليسبب لهم شغبًا أو متاعب؟" يريد أليهو أن يؤكد أن كل الأمور تحت سلطانه، يسمع لصوت المتألمين ويعمل، ولا يقدر الأشرار بكل إمكانياتهم وسلطانهم أن يلمسوهم! "وإذا حجب وجهه" تعبير كتابي يشير إلى حلول كارثة، كأنها تعلن عن حجب الله وجهه عن الإنسان، فليس من يقدر أن يراه، أي يهتم به ويرفع عنه الكارثة التي حلت به، ويهبه سلامًا ومسرة. كأن أليهو يدعو أيوب أن يرجع إلى الله، فهو وحده متى وهبه تعزية إلهية وسلامًا داخليًا لا تقدر التجارب ولا مضايقات الناس أن تؤذيه. أما إذا لم يرجع إلى الله، فسيحجب وجهه عنه، ولا تقدر كل وجوه الناس أن تتطلع إليه وتهبه راحة. هذا المبدأ، أن سرّ راحة الإنسان في يد الله لا الناس، ينطبق على الشعب ككلٍ، كما على الشخص بمفرده. إن بررنا الله بحبه لا يقدر أحد أن يديننا، وإن غضب علينا لا يقدر أحد أن يهبنا سلامًا! إذن فلننعم بالسلام الكامل بأن تتركز أعماقنا على الله مصدر السلام ومفرح القلوب (أم 16: 7؛ إش 26: 3). * "عندما يعطي سلامًا، فمن يدين؟ وإذا حجب وجهه فمن يراه؟" [29]... هذا أيضًا يقوله عندما يعطي العاملين في الكرم أجرتهم... "أما اتفقت معي على دينار...؟ فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟" (راجع مت 20: 13-15)... "سواء كان على أمةٍ أو على إنسانٍ"...تُعرض الأحكام الإلهية بنفس الكيفية بخصوص نفسٍ واحدةٍ أو مدينةٍ واحدةٍ، وأيضًا بخصوص مدينةٍ واحدةٍ أو أمةٍ واحدةٍ، وأيضًا بنفس الكيفية سواء بخصوص الجنس البشري. يهتم الرب بأشخاصٍ معينين بنفس الكيفية كما يهتم بالعالم كله. مرة أخرى، يوجه اهتمامه نحو الكل في نفس الوقت كما لو كان غير مهتمٍ بالأفراد. فإن ذاك الذي يملأ كل الأشياء بتدبيره يملأ الكل. وعندما يهتم بشيءٍ واحدٍ وحده، فهو في نفس الوقت حاضر في الكل. مرة أخرى وهو يدبر العالم كله، هو حاضر مع كل فردٍ. في الواقع إنه بعمل كل شيءٍ بقوة طبيعته دون أن يتحرك. ما هو عجيب أنه وهو منكب على شيءٍ ما، لا يُحد به، الذي يعمل حتى وهو في الراحة. البابا غريغوريوس (الكبير) حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْفَاجِرُ (المرائي)، وَلاَ يَكُونَ شَرَكًا لِلشَّعْبِ [30]. كل أمور البشرية في يد الله، تحت رعايته الفائقة، حتى لا يملك الشرير المرائي فيتسلط على إخوته، ويظن أنه صاحب سلطان لا يُقاوم، ليس من يقدر أن يردعه أو يصده عن ظلمه لهم. ولئلا يصير هذا الشرير فخًا يسقط فيه الشعب، حيث يشعرون كأن الله لا يبالي بالظلم الحال بهم. هكذا يليق بالقادة -على كل المستويات- أن يدركوا أنهم وإن نالوا سلطانًا، فالله فوق الكل، ضابط الجميع. يقول المرتل: "لأنه لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصديقين، لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم" (مز 125: 3). * "الذي يجعل المرائي يملك من أجل خطايا الشعب" [30]. لم ترد اليهودية أن يملك عليها الملك الحقيقي، لذلك جاءت بمراءٍ يملك عليها كما يليق باستحقاقها. كما يقول الحق نفسه في الإنجيل: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه تقبلونه" (يو 5: 43). يقول بولس: "لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا، ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب" (2 تس 2: 10، 11). بقوله: "الذي يجعل المرائي يملك من أجل خطايا الشعب" ربما يعني ضد المسيح، رئيس كل المرائين. فإن المخادع يتظاهر بالقداسة لكي يجذب البشر إلى الشر... يملك ضد المسيح هذا على الأشرار، لا بسبب ظلم الديان، وإنما بسبب خطية من يُلزمون على تحمل العقوبة. بالرغم من أن أغلبهم لا يرون قوته المتسلطة، إلا أنهم يُستعبدون له، بسبب الحال الذي بلغوه بخطاياهم. إنهم بلا شك يكرمونه بحياتهم الشريرة، هؤلاء الذين لا يرون استبداده لهم. أليس هؤلاء هم أعضاءه الذين يطلبون بإظهارهم القداسة ما هم ليسوا عليه...؟ إذ مكتوب: "إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو 8: 34). فإنهم بقدر ما يرتكبون الخطايا بإرادتهم هذه التي يشتهونها، ينحنون لخدمة (ضد المسيح) مُستعبدين له. ليت من يعاني من حاكمٍ كهذا لا يلوم الحاكم الشرير... إنما يلوم أخطاء أفعاله الشريرة لا ظلم حاكمه. مكتوب: "أنا أعطيتك ملكًا بغضبي" (هو 13: 11). إذن لماذا نسخر بمن يُقام حاكمًا علينا، هذا الذي تسلم سلطانه من غضب الله؟ إن قبلنا حكامًا حسب استحقاقاتنا من سخط الله، نستدل من سلوكهم على ما عليه حالنا حقيقة...! سمات الحكام تُعيَّن حسب استحقاقات الخاضعين لهم. حتى أولئك الذين يظهرون كأنهم صالحون يتغيرون بالقوة التي يقبلونها. لاحظ الكتاب المقدس! شاول نفسه تغيَّر قلبه مع كرامته مكتوب: "إذ كنت صغيرًا في عينيك صرت رأس أسباط إسرائيل" (1 صم 15: 17). يتشكل سلوك الحكام حسب سمات الخاضعين لهم، فإن سلوك حتى الراعي الصالح يصير شريرًا بسبب شر قطيعه. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أمبروسيوس إنه في رحلته يسافر باستهتار، لكن إلى أين يذهب؟ لو أن المسيح وعدك بخيرات هذا العالم، لكان لك أن تغضب، لأن غير المؤمن في فيض في طرقه. بماذا وعدك؟ بالسعادة الأبدية عندما يقوم الأموات، وأما في هذه الحياة فوعدك بنصيبه. أكرر، نصيبه هو الطريق الذي سلكه. هل تحتقر ما سلكه سيِّدك، وأنت عبد وتلميذ؟ لقد سمعت أنه ليس عبد أفضل من سيِّده، فإنه تألم! الأمر الذي لا يستحقه ذلك البار، فماذا تستحق يا أيها الخاطي؟ * لأنه لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصديقين لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم" (مز 125: 3). في الوقت الحاضر يتألم الأبرار إلى حدٍ ما، وفي الحاضر يطغى الأشرار أحيانا على الأبرار، بأية طرق؟ أحيانًا يبلغ الأشرار إلى الكرامات الزمنية، وإذ يبلغون إليها، ويصيرون قضاة أو ملوكًا، يسمح الله بذلك لتأديب قطيعه، لتأديب شعبه، هنا يلزم إظهار الكرامة التي تليق بهم... وأحيانًا يوجد أصحاب سلطان صالحون ويخشون الله، وبعضهم ليس فيهم مخافة الله. كان يوليانوس إمبراطورًا كافرًا، مرتدًا وشريرًا وعابد أوثان. وكان الجنود المسيحيون يخدمون إمبراطورًا كافرًا.... متى دعاهم لعبادة الأصنام وتقديم البخور لها كانوا يشيرون إلى الله، ولكن عندما كان يأمرهم أن ينتشروا في خطوط الجنود، ويتحركون ضد هذه الأمة أو تلك كانوا في الحال يطيعون. كانوا يميزون بين سيدهم الأبدي، وسيدهم الزمني، ومن أجل سيدهم الأبدي كانوا يخضعون للزمني. لكن هل يحمل الأشرار على الدوام سلطانًا على الأبرار؟ إن عصا الأشرار تبقى إلى حين على نصيب الأبرار، لكن لن تدم إلى الأبد. سيأتي وقت حين يظهر المسيح في مجده ويجمع كل الأمم أمامه. القديس أغسطينوس وَلَكِنْ هَلْ لله قَالَ: احْتَمَلْتُ، لاَ أَعُودُ أُفْسِدُ [31]. يطالبه أليهو أن يرجع إلى الله، وبروح التوبة يقول: احتملت التأديب، لا أعود أخطئ بعد! جاءت الخاتمة تحمل عنفًا أكثر من كل أحاديث الأصدقاء الثلاثة، لكن يبدو أن نية أليهو وغيرته الصادقة هي التي ميَّزته عنهم، إذ لم يحمل معهم حسدهم. يترجمها البعض: "بالتأكيد يليق أن يُقال لله: لقد تأدبت، لا أعود أعصى". هكذا يطالبه أليهو أن يسلك بروح التواضع أمام الله. يليق بالإنسان المتألم أن يتعدى حدود الألم ليلتقي بالله بروح التواضع والفهم، في غير تذمرٍ أو شكوىٍ، مدركًا أن وراء الألم خطة إلهية لبنيانه. قدم له حقيقة عامة، أنه يليق بالمتألم أن يتعرف على خطة الله من نحوه. "احتملت": يرى البعض أن الكلمة العبرية هنا تعني "تبت" أو "تأديب"، فلا أعود أصنع فسادًا. بهذا تكون الآلام طريقًا لمراجعة النفس وطلب الإصلاح بالعودة إلى الله. بالفعل قال أيوب هكذا لله (أي 40: 3-5؛ مي 7: 9؛ لا 26: 41). مَا لَمْ أُبْصِرْهُ فَأَرِنِيهِ أَنْتَ. إِنْ كُنْتُ قَدْ فَعَلْتُ إِثْمًا، فَلاَ أَعُودُ أَفْعَلُهُ؟ [32] يقدم لنا أليهو صورة رائعة للتوبة، وفي نفس الوقت يبرز ما في داخله من جهة أيوب. لم يكن أيوب كما سبق فقال له أصدقاؤه إنه مرائي يغطي على خطاياه بالشكليات الخادعة، ويخفي شروره الدفينة بمظاهر العطاء والخدمة وإنما يقول له: "توجد في حياتك - كما في حياة كل مؤمنٍ - خطايا خفية عن عينيك، تمارسها لا إراديًا، لا تقدر أن تراها أو تدركها أطلب من الله فيكشفها لك". الله يعلم شعبه (أي 10: 2)، مقدمًا لهم معرفة داخلية حتى لأخطائهم التي لم يدركوها أن جاءوا إليه نادمين (مز 32: 8؛ 19: 12؛ 139: 23-24). يليق بالمؤمن أن يضع في قلبه أنه إن كشف الرب له عن خطاياه لا يعود بعد إليها (أم 28: 13؛ أف 4: 22). هَلْ كَرَأْيِكَ يُجَازِيهِ قَائِلًا: لأَنَّكَ رَفَضْت،َ فَأَنْتَ تَخْتَارُ لاَ أَنَا. وَبِمَا تَعْرِفُهُ تَكَلَّمْ؟ [33] جاء هذا النص غامضًا، لذا تباينت التفاسير. يرى البعض أن الله سيجازي على العمل سواء قَبِلَ الشخص ذلك أو رفض، وأن الله لا يتصرف حسب وجهة نظر الإنسان، إنما حسبما يرى هو أنه حق ونافع، فلا يتوقع الإنسان أن الله يستشير البشر ويتصرف حسب آرائهم أو مشاعرهم. كأن الإنسان يقول لله: لتعمل أنت يا الله حسبما ترى؛ أنت الذي تختار وتأخذ وليس أنا، تعمل وتتكلم حسبما تعرف أنت. أما أنا فمن جانبي أثق في قراراتك وأخضع لخطتك. ذَوُو الأَلْبَابِ يَقُولُونَ لِي، بَلِ الرَّجُلُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَسْمَعُنِي يَقُولُ: [34] يود أليهو أن يدخل في حوارٍ مع أناسٍ ذي فهمٍ وحكمةٍ، لأنه يود أن يجد من يسمع له ويزن أقواله، ويُقيِّمها. إِنَّ أَيُّوبَ يَتَكَلَّمُ بِلاَ مَعْرِفَةٍ، وَكَلاَمُهُ لَيْسَ بِتَعَقُّلٍ [35]. يرى أليهو في أيوب أنه قد التزم الصمت، فحسبه جامد في فكره، يتمسك بإرادته وبذاته، فلا نفع مع الحديث معه. حسبه كمن هو بلا معرفة ولا حكمة. فَلَيْتَ أَيُّوبَ كَانَ يُمْتَحَنُ إِلَى الْغَايَةِ، مِنْ أَجْلِ أَجْوِبَتِهِ كَأَهْلِ الإِثْمِ [36]. يود أليهو أن يُقدم أيوب لمحاكمة عادلة، فتُمتحن أقواله ومفاهيمه، فقد قدم إجاباته على أهل الإثم (أصدقائه)، ويلزمه تصحيح ما قاله. لَكِنَّهُ أَضَافَ إِلَى خَطِيَّتِهِ مَعْصِيَةً. يُصَفِّقُ بَيْنَنَا، وَيُكْثِرُ كَلاَمَهُ عَلَى اللهِ [37]. بجانب خطاياه السابقة، أضاف خطية أخطر أثناء حواره، ألاَّ وهي خطية الشكوى مع التذمر على الله. فإن كان الله سمح له بالتأديب عن خطاياه، كان يلزمه ألا يتذمر حتى وإن أثاره أصدقاؤه باتهامات ظالمة وعنيفة. "التصفيق"، إما علامة على الاستحسان والنصرة أو على السخط والضيق (عد 24: 10) أو للسخرية (أي 27: 23). يبدو أنه يتحدث هنا عن التصفيق كرمزٍ للاستخفاف والسخرية على مفاهيم أصدقائه. كأن أيوب - عوض دراسة الأمور بطريقة موضوعية - بروح هادئة ورغبة في التعرف على الحق والانتفاع منه، كان كل ما يشغله هو الاستخفاف بأصدقائه الذين يتهمونه ظلمًا. "ويكثر كلامه على الله": عوض الالتجاء إلى الله لمساندته نسب لله الظلم، واسترسل في ذلك. من وحي أيوب 34 هب لي روح التمييز! * هب لي من عندك روح التمييز، يا حكمة الله. فأمتحن بروحك كل فكرٍ وكل كلمةٍ وكل تصرفٍ. أمتحن كلماتي، فلا تخرج كلمة بطالة. أمتحن ما أنصت إليه، فلا أفسد وقتي بكلمات بطالة. أسمع صوتك في كل شيءٍ، في إنجيلك المقدس، وفي الطبيعة الجميلة، وفي الأحداث الماضية والحاضرة. * بك أختبر الفضيلة وأتلذذ بها. بك لا أطيق الشر، ولا أحاوره. لا تخدعني حكمة العالم الغاشة،ولا تحركني رياح الفلسفة الباطلة. لأتذوق حكمتك وحبك ورعايتك طول النهار، فتتهلل نفسي حتى وسط لهيب التجارب. * هب لي روح التمييز، فلا يخدعني مديح الناس، ولا يحطمني نقدهم اللاذع. إنما أتعرف بك على الحق الإلهي وأعيشه! أسمع صوتك في أعماقي، كما في كنيستك! أتمتع بك وسط أبنائك! * هب لي روح التمييز، فأرحب بكلمتك النقية وأتمسك بها، أنصت إليك خلال خدامك، وأرفض صوت المخادعين. أصير بك صرافًا ماهرًا، أميز العملات الحقيقية من المزيفة! * هب لي روح التمييز، فأدرك أنه ليس أحد كاملًا غيرك، بك أكون كاملًا ومقدسًا! بك أشتهي أن يلتصق العالم كله ببرِّك. فتصير البشرية كاملة وصالحة فيك! * هب لي روح التمييز، ففي وسط الضيق، وفي مرارة نفسي، لا أظن أن البرّ لا ينفع صاحبه، ولا أن الشر لا يضر مرتكبه. لا أتساءل: أين هي عنايتك بمؤمنيك؟ ولا أزن الأمور بموازين بشرية زمنية. إنما أثق في حبك ورعايتك وعدلك. لأنتظر، فغدًا تنكشف أسرار حكمتك! * بحلولك في قلبي، يتسع ليضم بالحب كل إنسانٍ. يتسع، فلا يضيق أمام أية محنة. وتتحول كل المحن لخيري. أدرك سٌر حبك وراء كل ضيقة! وسط الآلام تتهلل نفسي بك، وتتغنى دومًا ببًرك! لن تضطرب نفسي لقسوة الأشرار عليّ، ولا أخشى عصا الخطاة، فإنها لن تستقر عليّ. أشهد لبرِّك، يا من لا تحابي الوجوه! * أراك أبًا تترفق بي كابنٍ لك. لا تنسى كأس ماء بارد، أقدمه باسمك. أرى الشرور تعبر سريعًا، وتتهلل نفسي بيديك، وهما تمسحان دموعي. * هب لي روح التمييز، فأدرك رعايتك لي، أنا خليقتك. إن كان الإنسان لا يحتمل إهانة تصيب الخاضعين له، أفلا تهتم بي أنا خليقتك وصنع يديك؟ برحمتك أوجدتني أيها القدير، الأب العجيب، فكيف لا ترعاني بحبك؟! وهبتني الحياة بنسمة فيك، فكم أنا عزيز لديك جدًا؟! أما تفتح أحضانك الأبوية لي؟ * خلقتني من العدم، فأنا صنعة يديك. أحببتني فخلقتني، وفديتني بدمك الثمين مجانًا، فهل تترك الظلم يحل بي، يا أيها المحب للبشر؟ * ليعد جسدي إلى التراب الذي خُلق منه، لكن ألا تعود روحي إليك، إذ هي نسمة من فمك؟! حملت جسدي بتجسدك، فعاد إليّ الرجاء أنني لا أهلك. أترقب يوم قيامتي، فيتمجد جسدي مع روحي! * روحك يحملني من مجدٍ إلى مجدٍ، يرفعني من المزبلة والتراب، وينطلق بي إلى السماء! فماذا يمكن لأحداث العالم أن تفعل بي؟! * هب لي روح التمييز، فأدرك أنه ليس عندك محاباة! لن تحابي غنيًا بسبب غناه أو سلطانه. ولن تحابي شعبًا بسبب كثرة عدده. ولن تحابي جيشًا بسبب إمكانياته العسكرية. إنما تهتم بكل إنسانٍ، كأنه ليس أحد سواه على الأرض. وتهتم بالكل دون تمييز أو تحيزٍ! * عيناك تراقبان كل إنسانٍ، لا لتهلكه بل لتخلصه. عيناك تنظران ما في الفكر والقلب. لست في حاجة إلى شهادة أحدٍ، فكل شيءٍ مكشوف أمامك! * في حبك لا تريد هلاك أحدٍ، لكن في عمدٍ أصرّ الأشرار أن ينصرفوا عنك. تركوك واستهانوا بوصيتك. فملك الشر على قلوبهم. صار العنف دستورهم، وأصيبت آذانهم بالصمم، فلا تسمع لصرخات المساكين المظلومين. لكنك تبقى تسمع أنات القلوب الداخلية. ترفعهم وتسندهم وتمجدهم! * ليس من إنسان يقدر أن يهين رئيسًا أو ملكًا؟ فمن يجسر أن يدين خططك الإلهية؟ أنت ملك الملوك! أنت رب الأرباب! عيناك على طرق كل البشرية. تتطلعان حتى إلى ما في قلوبنا وأفكارنا. كأن لا عمل لك سوى الاهتمام ببني البشر. تريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفتك يقبلون! * ليقم العالم ضدي، فإن خالقه يضمني. ليهج الأشرار بكل طاقتهم. تخرج روحهم ويعودون إلى ترابهم. يسخرون بي، فيصيرون منظًرًا ومثلًا وهزءًا! انصرفوا عنك بقلوبهم القاسية، ففقدوا حياتهم ومجدهم! * سخروا بصرخات البائسين، ولم يدركوا أنك تستمع لأنين قلوبهم. حجبوا وجوههم عن المظلومين، ولم يدركوا أنك تتطلع بنفسك إليهم. ظنوا في المساكين زوانًا يحترق، ولم يدركوا أنك تجعلهم ذهبًا مصفى بالنار. * هب لي روح التمييز، فأدرك أسرار خططك، وأتعلم كيف أحاورك، وأميز بين السماويات والأرضيات. وأنطلق إليك، وأتمتع بك في داخلي. * أخيرًا علمني ودربني، فأتعلم بروح التمييز كيف أتحدث معك! |
||||
![]() |
![]() |
|