![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 163611 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() فريضة البقرة الحمراء كانت شكوى الشعب: "من اقترب إلى مسكن الرب يموت" (عد 17: 13)، وجاءت الإجابة في الأصحاح السابق والأصحاح الذي بيدينا. ففي السابق يعلن الرب أنه يمكن الاقتراب لله خلال الترتيب الكهنوتي واللاوي، أما هنا فيكشف عن الحاجة للتقديس الذي بدونه لا يقدر أحد أن يعاين الله. 1. رماد البقرة وماء التطهير: 1 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلًا: 2 «هذِهِ فَرِيضَةُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لاَ عَيْبَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا نِيرٌ، 3 فَتُعْطُونَهَا لأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ، فَتُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَتُذْبَحُ قُدَّامَهُ. 4 وَيَأْخُذُ أَلِعَازَارُ الْكَاهِنُ مِنْ دَمِهَا بِإِصْبِعِهِ وَيَنْضِحُ مِنْ دَمِهَا إِلَى جِهَةِ وَجْهِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. 5 وَتُحْرَقُ الْبَقَرَةُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ. يُحْرَقُ جِلْدُهَا وَلَحْمُهَا وَدَمُهَا مَعَ فَرْثِهَا. 6 وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ خَشَبَ أَرْزٍ وَزُوفَا وَقِرْمِزًا وَيَطْرَحُهُنَّ فِي وَسَطِ حَرِيقِ الْبَقَرَةِ، 7 ثُمَّ يَغْسِلُ الْكَاهِنُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَدْخُلُ الْمَحَلَّةَ. وَيَكُونُ الْكَاهِنُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 8 وَالَّذِي أَحْرَقَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ بِمَاءٍ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 9 وَيَجْمَعُ رَجُلٌ طَاهِرٌ رَمَادَ الْبَقَرَةِ وَيَضَعُهُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ، فَتَكُونُ لِجَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي حِفْظٍ، مَاءَ نَجَاسَةٍ. إِنَّهَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ. 10 وَالَّذِي جَمَعَ رَمَادَ الْبَقَرَةِ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. فَتَكُونُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِلْغَرِيبِ النَّازِلِ فِي وَسَطِهِمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً. لا أريد الدخول في تفاصيل الذبائح والمحرقات في الطقس الموسوي كرمز لجوانب ذبيحة الصليب، فإني أترك هذا الموضوع لتفسيرنا سفر اللاويّين إن سمح الرب وعشنا، لكنني هنا أود أن أوضح أن الاقتراب لمسكن الرب أو التمتع بالشركة معه والثبوت فيه لن يتم إلاَّ خلال ذبيحة الصليب والدخول في مياه التقديس. ففي الطقس الذي بين أيدينا يعلن الله لموسى وهرون "فريضة التقديس" بإعداد الرماد الذي يستخدم في مياه التقديس أو كما يسميها [ماء النجاسة] [9]، أي الماء الذي يطهر من النجاسة، وينقل الإنسان من حالة الدنس إلى حالة القداسة. يتلخص هذا الطقس في الآتي: أولًا: البقرة المقدمة كذبيحة خطيّة (ع 9) حمراء، إشارة إلى السيد المسيح الذي قدم دمه كفارة عن خطايانا، هذا الذي يتحدَّث عنه إشعياء النبي قائلًا: "من ذا الآتي من أدوم بثيابٍ حُمر من بُصرة هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟ أنا المتكلم بالبرّ العظيم للخلاص. ما بالك لباسك مُحمَرّ وثيابك كدائس المعصرة؟ قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 1-3). هذا هو السيد المسيح الذي دخل الآلام بإرادته، واجتاز معصرة الغضب الإلهي عنا فحمل في جسده أجرة خطايانا، مقدمًا لنا خلاصًا هذا مقداره! ثانيًا: "صحيحة لا عيب فيها ولم يعلُ عليها نير" [2]، فإن ربنا يسوع المسيح هو وحده بلا خطيّة، ليس فيه عيب ولم يسقط تحت نير خطيّة ما. لقد وبخ اليهود قائلًا "من منكم يبكتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)، ويقول الرسول بولس "لأنه جعل الذي لم يعرف خطيّة خطيّة لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [نعم، المسيح نفسه يقول: [من أجلكم أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي] (يو 17: 19)، ويقول أيضًا "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، مظهرًا أن الذي ذُبح هو بلا خطيّة]. ثالثًا: تقدم ألِعازار الكاهن ليخرج بها خارج المَحَلَّة وتذبح قدامه (ع 3)، لم يكن ممكنًا أن تقدم لهرون لأنه كرئيس كهنة لا يخرج خارج المَحَلَّة لذلك تقدم لابنه ألِعازار. وكأن السيد المسيح وقد ذُبح خارج أورشليم على جبل الجلجثة، كأن في نفس اللحظة داخل قدس الأقداس كرئيس كهنة لا ينفصل عن أبيه، ولا يترك بلاهوته سمواته! إنه على الصليب خارج المَحَلَّة لأجلنا يكفر عن خطايانا، وهو في حضن أبيه ليضمنا إلى برّه. يقول الرسول بولس: "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب. فلنخرج إذًا إليه خارج المَحَلَّة حاملين عاره، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 12-14). وكأن الخروج خارج المَحَلَّة إشارة إلى الخروج من المدينة الزمنيّة واشتهاء الانطلاق إلى المدينة المستقبلة، أورشليم العليا أمنا. رابعًا: "يأخذ ألِعازار الكاهن دمها بإصبعه وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات" [4]: ما يفعله ألِعازار يشير إلى عمل السيد المسيح الكهنوتي الذي يقدسنا بدمه، ناضحًا الدم على وجه الكنيسة، خيمة الاجتماع الحقيقيّة فتتقدس وتصير لها الدالة أن ترفع وجهها أمام الآب. أما نضح الدم سبع مرات مع أن الذبح تم مرة واحدة فيشير إلى فاعليّة الدم والذبيحة، لقد تمت مرة لكنها ذبيحة حيّة وفعالة تعمل عبر الأجيال لتدخل بنا إلى الكمال. لأن رقم 7 يشير إلى كل أيام الأسبوع كما يشير إلى الكمال، كأن الذبيحة مستمرة عبر أسبوع هذا العالم كله، وفعَّالة بكل طاقاتها لتكميلنا. لهذا رأى القدِّيس يوحنا الحبيب السيد المسيح حملًا كأنه مذبوح (رؤ 5: 6)، فهو حي لا يموت، لكن الدم لا ينقطع فاعليته. وفي سرّ الإفخارستيا نحن لا نكرر ذبيحة الصليب مرات ومرات إنما ندخل بالروح القدس إلى الذبيحة الفعَّالة القائمة بغير انقطاع. خامسًا: "تحرق البقرة أمام عينيه، يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها" [5]. إذ تحرق الذبيحة لا نرى سوى الرماد الذي يستخدم لتطهير الشعب من الخطيّة، وهكذا إذ حمل السيد المسيح خطايانا مات عنا محولًا خطايانا إلى رماد. أما حرق الجلد واللحم والدم... إلخ فيشير إلى تأكيد موت المسيح حسب الجسد، فلا يقل أحد مثل ماني أنه يحمل جسدًا خياليًا ودخل في الآلام بهذا الجسد الخيالي. أما إلقاء خشب الأرز والزوفا والقرمز في نارها بواسطة الكاهن (ع 6)، وهي الأشياء التي كانت تستخدم في طقس تطهير البرص (لا 4: 6-7) فإشارة إلى اختلاط رماد الذبيحة بما رسم للتطهير. الخشب يشير إلى الصليب، والزوفا تشير إلى الغسل، والقرمز يشير إلى الدم. سادسًا: يربط الطقس بين رماد البقرة المذبوحة التي دخلت إلى آلام النار حتى النهاية والماء الذي يقدم لتطهير الجماعة من النجاسة (ع 9)، وكأنه ارتباط بين ذبيحة الصليب ومياه المعموديّة. يقول الرسول: "مدفونين معه في المعموديّة التي فيها أقمتم أيضًا معه" (كو 2: 12). سابعًا:"الذي أحرقها بغسل ثيابه بماء ويرحض جسده بماء ويكون نجسًا إلى المساء" [8]، "والذي جمع رماد البقرة يغسل ثيابه ويكون نجسًا إلى المساء" [10]. لقد أراد الطقس أن يؤكد أن خطايانا قد حملها السيد المسيح، فإن كانت ذبيحة الصليب هي سرّ تطهيرنا لكنها حملت خطايا العالم كله! 2. الحاجة للتطهير لمن مسَّ ميتًا: 11 «مَنْ مَسَّ مَيْتًا مَيْتَةَ إِنْسَانٍ مَا، يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. 12 يَتَطَهَّرُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ يَكُونُ طَاهِرًا. وَإِنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ لاَ يَكُونُ طَاهِرًا. 13 كُلُّ مَنْ مَسَّ مَيْتًا مَيْتَةَ إِنْسَانٍ قَدْ مَاتَ وَلَمْ يَتَطَهَّرْ، يُنَجِّسُ مَسْكَنَ الرَّبِّ. فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ إِسْرَائِيلَ. لأَنَّ مَاءَ النَّجَاسَةِ لَمْ يُرَشَّ عَلَيْهَا تَكُونُ نَجِسَةً. نَجَاسَتُهَا لَمْ تَزَلْ فِيهَا. "من مسّ ميتًا ميتة إنسان ما يكون نجسًا سبعة أيام، يتطهر به في اليوم الثالث، وفي اليوم السابع يكون طاهرًا. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرًا". يقول القديس أغسطينوس: [الجسد الميت فاقد الحياة ليس خطيّة إنما يعني خطيّة النفس فاقدة البرّ]. فموت الجسد كان في القديم رمزًا للخطيّة القاتلة للنفس، لهذا إن لمس أحد ميتًا، ولو كان الميت قديسًا أو كاهنًا يصير نجسًا. أما كونه نجسًا سبعة أيام، أي يصير نجسًا كل أيام الأسبوع، رمزًا إلى عدم التطهر من الخطيّة كل أيام غربتنا ما لم يتدخل هذا الرماد والماء! إذ لا خلاص للإنسان من دنس الخطيئة بدون ذبيحة الصليب والتجديد في مياه المعموديّة. يتم التطهير في اليوم الثالث بواسطة هذه المياه المرتبطة برماد البقرة الحمراء المذبوحة إشارة إلى التطهير بمياه المعموديّة خلال القيامة مع السيد المسيح (اليوم الثالث) بفاعليّة الصليب. إنه يؤكد أن من لا يتطهر في اليوم الثالث لن يتطهر في اليوم السابع، وكأنه لا تبرير لنا إن لم نتحد مع السيد المسيح المقام من الأموات. أما تطهيرنا في اليوم السابع فيشير إلى استمرار عمل قيام المسيح في حياتنا الزمنيّة، وفاعليتها كل أيام غربتنا حتى نعبر إلى قيامتنا الأخيرة. من لا يقبل قيامة المسيح لا يتطهر فيحسب قد نجس مسكن الرب وتقطع هذه النفس من الشعب المقدس (ع 13). كأن من لا يحمل قوة قيامة السيد كسرّ تبرير له يفسد جسده مسكن الرب، وتموت نفسه ولا يحسب من عداد أولاد الله. 3. طقس التطهير: 14 «هذِهِ هِيَ الشَّرِيعَةُ: إِذَا مَاتَ إِنْسَانٌ فِي خَيْمَةٍ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ الْخَيْمَةَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي الْخَيْمَةِ يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. 15 وَكُلُّ إِنَاءٍ مَفْتُوحٍ لَيْسَ عَلَيْهِ سِدَادٌ بِعِصَابَةٍ فَإِنَّهُ نَجِسٌ. 16 وَكُلُّ مَنْ مَسَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ قَتِيلًا بِالسَّيْفِ أَوْ مَيْتًا أَوْ عَظْمَ إِنْسَانٍ أَوْ قَبْرًا، يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. 17 فَيَأْخُذُونَ لِلنَّجِسِ مِنْ غُبَارِ حَرِيقِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ مَاءً حَيًّا فِي إِنَاءٍ. 18 وَيَأْخُذُ رَجُلٌ طَاهِرٌ زُوفَا وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ وَيَنْضِحُهُ عَلَى الْخَيْمَةِ، وَعَلَى جَمِيعِ الأَمْتِعَةِ وَعَلَى الأَنْفُسِ الَّذِينَ كَانُوا هُنَاكَ، وَعَلَى الَّذِي مَسَّ الْعَظْمَ أَوِ الْقَتِيلَ أَوِ الْمَيْتَ أَوِ الْقَبْرَ. 19 يَنْضِحُ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجِسِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالْيَوْمِ السَّابعِ. وَيُطَهِّرُهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ، فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ بِمَاءٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا فِي الْمَسَاءِ. 20 وَأَمَّا الإِنْسَانُ الَّذِي يَتَنَجَّسُ وَلاَ يَتَطَهَّرُ، فَتُبَادُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ لأَنَّهُ نَجَّسَ مَقْدِسَ الرَّبِّ. مَاءُ النَّجَاسَةِ لَمْ يُرَشَّ عَلَيْهِ. إِنَّهُ نَجِسٌ. 21 فَتَكُونُ لَهُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً. وَالَّذِي رَشَّ مَاءَ النَّجَاسَةِ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ، وَالَّذِي مَسَّ مَاءَ النَّجَاسَةِ يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 22 وَكُلُّ مَا مَسَّهُ النَّجِسُ يَتَنَجَّسُ، وَالنَّفْسُ الَّتِي تَمَسُّ تَكُونُ نَجِسَةً إِلَى الْمَسَاءِ». يتلخص طقس التطهير بهذه المياه في الآتي: أولًا: "إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسًا سبعة أيام" [14]. قبل أن يتحدث عن طريقة التطهير أراد أولًا أن يبرز خطورة الموقف، ذلك كالجراح الذي قبل أن يمد يده بالمشرط في جسم المريض يكشف له أولًا الفساد الذي دبّ في جسده حتى يتقبل برضا يدّ الطبيب تمتد لتجرحه وتقتطع من جسده شيئًا. إن وجود ميت في خيمة يجعل من دخل الخيمة بإرادته أو بغير إرادته، عن معرفة بوجود ميت أو عدم معرفة، وأيضًا من كان داخل الخيمة يحسب هؤلاء نجسين أسبوعًا كاملًا، حتى إن تمت الوفاة فجأة، ولم يكن لهؤلاء ذنب! الخطيئة بشعة، خاطئة جدًا لا يطيقها الله القدوس لأنها تخالف طبيعته، مهما قدمنا من أعذار! بشاعتها أيضًا تظهر في بقاء هؤلاء نجسين سبعة أيام أي كل أيام غربتهم، علامة العجز عن التطهير فيها بذواتهم. ثانيًا: "وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس" [15]. لا تقف النجاسة عند الناس لكنها تمتد إلى الخليقة الجامدة، فالإناء المفتوح يُحسب نجسًا. لعله أراد أن يضع تحفظًا صحيحًا، لئلا يكون الميت قد أصيب بمرض معدي فتنتقل العدوى إلى الذين حوله خلال الآنية التي استعملها قبيل موته. أما من الناحية الروحيّة فإن هذه الأواني تمثل الحواس مثل العينين والفم... الخ، إن كانت الحواس مفتوحة ليس عليها سدادة الروح القدس الذي يضبطها تكون نجسة، تفسد حياة الإنسان. يليق بالمؤمن أن يجاهد في حفظ حواسه محفوظة بالروح القدس حتى لا تتسرب النجاسة من الأموات بالخطايا إلى نفسه أو فكره أو جسده. ما أحوجنا إلى سدادة الروح القدس التي تحفظ أعماقنا بعيدة عن ميكروبات الخطيئة. لهذا يصرخ النبي قائلًا: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ، لا تمل قلبي إلى الشر". يقول القديس يوحنا سابا: [رتب حواسك أيها الأخ، واحذر لها، إذ منها يدخل موت الإنسان الداخلي. احذر بهذه الحراسة، وانظر إلى ما قاله القدِّيس أنطونيوس: إن كثيرين عملوا أعمالًا عظيمة، لكن لأنهم لم يعملوا هذه الأعمال بإفراز لم يدركوا طريق الله، وذلك الإيمان الطاهر لم يصلوا]. ثالثًا: بعد أن أظهر بشاعة الخطيئة لمن يدخل الخيمة وبها ميت ومن بداخلها، وللأواني المفتوحة فيها، بدأ يوضح أنها تتسرب إلينا ليس فقط خلال الذين يموتون داخل الخيمة، لكنها تنتقل خلال الإنسان الذي يقتل بالسيف في الصحراء، أو خلال الميت في العراء، أو العظام أو حتى مجرد لمس القبر (ع 16). الذي يموت داخل الخيمة غالبًا ما يكون ذلك بسبب تسلل مرض إلى جسده أو بسبب الشيخوخة، إنها حالة من تتسلل إليه الخطيئة وتهاجمه سريًا في قلبه حتى تقتله، أو حالة الضعف البشري والشيخوخة الروحيّة ثمرة الإهمال والفتور الروحي. أما الذي يقتل بالسيف في الصحراء، فهو من تهاجمه الخطيّة بكل عنفها في لحظات فتسقطه قتيلًا وهو في حيويته ونشاطه! أما العظام فتشير إلى حالة النفس التي عاشت زمانًا طويلًا في موت الخطيئة فصارت عظامًا يابسة مبعثرة في العراء أو مدفونة في قبر، ليس من يهتم بها بل يريد الناس الخلاص منها. هكذا يصوِّر لنا هذا الأصحاح المرض الروحي المزمن والقاتل للنفس، مقدمًا له العلاج. رابعًا: أما العلاج فهو: "يأخذون للنجس من غبار حريق ذبيحة الخطيّة ويجعل عليه ماءً حيًا في إناء" [17]. هذا هو عمل الكنيسة إنها تأخذ ذبيحة الصليب لتقدمها تطهيرًا للنجسين خلال المياه الحيّة في إناء (جرن المعموديّة). يقول القدِّيس يوستين: [يجب أن نسرع في معرفة أي طريق هو لمغفرة الخطايا ورجاء ميراث الخيرات الموعود بها، فإنه لا يوجد سوى هذا الطريق: أن تتعرف على هذا المسيح، وتغتسل في الينبوع (المعموديّة) الذي تحدث عنه إشعياء لغفران الخطايا، وهكذا تبتدئ أن تعيش بالقداسة]. "ويأخذ رجل طاهر زوفا ويغمسها في الماء وينضحه على الخيمة وعلى جميع الأمتعة وعلى الأنفس الذين كانوا هناك وعلى الذي مسّ العظم أو القتيل أو الميت أو القبر، ينضح الطاهر على النجس في اليوم الثالث واليوم السابع" [18، 19]. من هو هذا الطاهر إلاَّ السيد المسيح نفسه الذي يعمل بطريقة غير منظورة في المعموديّة، هو الذي يعمد بيد الكاهن. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يعمد هو ابن الله الوحيد الجنس وليس إنسان (كاهن)]، [إذا ما رأيت جرن المعموديّة ويدّ الكاهن تلمس رأسك لا تفكر في الماء مجردًا ولا أن يدّ الأسقف فوق رأسك، فإنه ليس إنسان هو الذي يفعل ذلك بل نعمة الروح التي تقدس طبيعة المياه وتلمس رأسك مع يد الكاهن...]. أما نضح الماء فإشارة إلى المعموديّة التي تتمتع بها الأمم، كما جاء في إشعياء النبي: "هكذا ينضح أممًا كثيرين، من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا ما لم يُخبروا به وما لم يسمعوه فهموه" (إش 52: 15)، إذ تمتعوا بسرّ الميلاد الجديد. ويقول الرسول بولس: "لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِق فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عب 10: 22). وكأن المعموديّة تدخل إلى الأعماق الداخليّة لتغسل الضمير الشرير كما تقدس الجسد أيضًا. هذا ما أكدته الشريعة التي بين أيدينا فإن الرجل الطاهر الذي يسميه الرسول: "كاهن عظيم على بيت الله" (عب 10: 21)، ينضح المياه المطهرة على الخيمة أي على الجسد، وعلى جميع الأمتعة (ع 18)، أي بجميع طاقاته وغرائزه وعواطفه وعلى الأنفس الذين كانوا هناك، فيمتد أثرها إلى النفوس الخفيّة في الأجساد. وكما يقول العلامة ترتليان: [حقًا الجسد يغتسل لكي تتطهر النفس. الجسد يُدْهَن لكي تتقدس النفس. الجسد يُرْشَم بعلامة (الصليب) لكي تتقوى النفس. الجسد يُظَلَّل بوضع الأيدي لكي تستنير النفس بالروح (القدس)!]. ويتحدَّث القديس كبريانوس مُعَلِّقًا على هذه الشريعة مُوَضِّحًا أن نَضْح المياه المقدسة إنما يعني الخلاص، أي يدخل الإنسانالله في طريق الخلاص، قائلًا: [من هنا يظهر أن نضح المياه يقف على قدم المساواة مع غسل الخلاص، الأمر الذي يتم في الكنيسة حيث الإيمان الذي يتمتع الإنسان به والذي يخدمه بطريقة سليمة ويتكمل بعظمة الرب والحق]. أخيرًا، يؤكد أنه لا تمتع بالتطهير في اليوم السابع ما لم يتطهر الإنسان في اليوم الثالث أي يتحد مع السيد المسيح القائم من الأموات. ماء مريبة قدم الرب شريعة التطهير لمن مسّ ميتًا أو عظامًا أو قبرًا، ثم عاد يحدثنا عن موت مريم وموت هرون، ولعله بهذا أراد أن يحذِّر الشعب لئلا بسبب محبتهم لمريم وهرون وتقديرهم لهما يلمسان جثمانهما أو قبرهما دون أن يتطهرا في اليوم الثالث واليوم السابع. كما تحدث عن ماء مريبة ليكشف عن ضعفات الإنسان ليس على مستوى الشعب فحسب بل وعلى مستوى موسى العظيم في الأنبياء وهرون رئيس الكهنة. وقد شمل هذا الأصحاح: 1. موت مريم: 1 وَأَتَى بَنُو إِسْرَائِيلَ، الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا، إِلَى بَرِّيَّةِ صِينَ فِي الشَّهْرِ الأَوَّلِ. وَأَقَامَ الشَّعْبُ فِي قَادَشَ. وَمَاتَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ. إذ جاء الشعب إلى بريّة صين أي بريّة "التجربة" وأقاموا في قادش أو الموضع المقدس يقول الكتاب: "وماتت هناك مريم ودفنت هناك" [1]. هذا هو كل ما سجله الكتاب المقدس عن نهاية حياة مريم النبيّة والمرنمة، قائدة الشعب في التسبيح (خر 15)، إنها ماتت هناك، ودفنت هناك. حقًا لقد ماتت في بريّة صين حيث كان موتها بالنسبة للشعب تجربة قاسية ومُرَّة، فقد تعلقت نسوة كثيرات بها، لكنها ماتت في قادش، أي في الموضع المقدس لتستريح من جهادها وأتعابها خلال الدخول إلى المقادس الإلهيّة. لم يسجل لنا الكتاب المقدس شيئًا عن مشاعر موسى النبي نحو مفارقة أخته له، هذه التي رافقته كل هذه الرحلة، خاصة وأنه بعد فترة قليلة يخلع موسى بيديه ثياب الكهنوت عن أخيه هرون على جبل هور ليلبسها لابنه ألِعازار ويموت هرون هناك. وأيضًا لم يسجل لنا الكتاب شيئًا عن مشاعره نحو رفيقه في الخدمة واحتماله تذمرات الشعب ضدهما. كان الشيخ الوقور موسى النبي يرجو قيامة الراقدين لهذا لم يضطرب لموت أخته وأخيه بل بالحري كان يحزن ويئن داخليًا ويسقط على وجهه كلما تذمر الشعب (ع 6) وتعرض لغضب الله وتأديباته. إنه لا يحزن على فراق الجسد بل بالحري يحترق مع كل نفس تتعرض للموت بحرمانها من الله مصدر حياتها. 2. ماء مريبة: 2 وَلَمْ يَكُنْ مَاءٌ لِلْجَمَاعَةِ فَاجْتَمَعُوا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ. 3 وَخَاصَمَ الشَّعْبُ مُوسَى وَكَلَّمُوهُ قَائِلِينَ: «لَيْتَنَا فَنِينَا فَنَاءَ إِخْوَتِنَا أَمَامَ الرَّبِّ. 4 لِمَاذَا أَتَيْتُمَا بِجَمَاعَةِ الرَّبِّ إِلَى هذِهِ الْبَرِّيَّةِ لِكَيْ نَمُوتَ فِيهَا نَحْنُ وَمَوَاشِينَا؟ 5 وَلِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِتَأْتِيَا بِنَا إِلَى هذَا الْمَكَانِ الرَّدِيءِ؟ لَيْسَ هُوَ مَكَانَ زَرْعٍ وَتِينٍ وَكَرْمٍ وَرُمَّانٍ، وَلاَ فِيهِ مَاءٌ لِلشُّرْبِ!». 6 فَأَتَى مُوسَى وَهَارُونُ مِنْ أَمَامِ الْجَمَاعَةِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَسَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا، فَتَرَاءَى لَهُمَا مَجْدُ الرَّبِّ. 7 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: 8 «خُذِ الْعَصَا وَاجْمَعِ الْجَمَاعَةَ أَنْتَ وَهَارُونُ أَخُوكَ، وَكَلِّمَا الصَّخْرَةَ أَمَامَ أَعْيُنِهِمْ أَنْ تُعْطِيَ مَاءَهَا، فَتُخْرِجُ لَهُمْ مَاءً مِنَ الصَّخْرَةِ وَتَسْقِي الْجَمَاعَةَ وَمَوَاشِيَهُمْ». 9 فَأَخَذَ مُوسَى الْعَصَا مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ كَمَا أَمَرَهُ، 10 وَجَمَعَ مُوسَى وَهَارُونُ الْجُمْهُورَ أَمَامَ الصَّخْرَةِ، فَقَالَ لَهُمُ: «اسْمَعُوا أَيُّهَا الْمَرَدَةُ، أَمِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ نُخْرِجُ لَكُمْ مَاءً؟». 11 وَرَفَعَ مُوسَى يَدَهُ وَضَرَبَ الصَّخْرَةَ بِعَصَاهُ مَرَّتَيْنِ، فَخَرَجَ مَاءٌ غَزِيرٌ، فَشَرِبَتِ الْجَمَاعَةُ وَمَوَاشِيهَا. 12 فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمَا لَمْ تُؤْمِنَا بِي حَتَّى تُقَدِّسَانِي أَمَامَ أَعْيُنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِذلِكَ لاَ تُدْخِلاَنِ هذِهِ الْجَمَاعَةَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا». 13 هذَا مَاءُ مَرِيبَةَ، حَيْثُ خَاصَمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّبَّ، فَتَقَدَّسَ فِيهِمْ. إذ لم يجد الشعب ماءً، لم يطلبوا بل تذمروا مشتهين الموت ولو بالوباء خلال السقوط تحت غضب كما حدث لإخوتهم قبلًا (عد 16: 49)، قائلين لموسى وهرون: "ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب. لماذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البريّة لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟.. ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ولا فيه ماء للشرب" [3-5]. إذ ضاقت نفسا موسى وهرون، "سقطا على وجهيهما، فتراءى لهما مجد الرب" [6]. مع كل ضيقة يتضعان فيعلن الرب أمجاده لهما، ويحل مشاكلها الرعويّة. ففي هذه المرة طلب الرب منهما أن يكلما الصخرة أمام أعين الشعب فتعطي ماءها بينما يمسك موسى بالعصا. لكن موسى عِوَض أن يكلِّم الصخرة ضربها مرتين بالعصا، بعد أن قال هو وهرون للشعب: "اسمعوا أيها المردة: أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً" [10]. فخرج ماء غزير فشربت الجماعة ومواشيها (ع 11). تطلع الآباء إلى الصخرة التي أفاضت مياه تروي العطاشى أنها المعموديّة التي تفجرت خلال العصا، أي خلال ذبيحة الصليب فَرَوَتْ ظمأ البشريّة وأشبعت احتياجاتها. يرى القدِّيس بولس أن هذه الصخرة التي تابعتهم هي السيد المسيح (1 كو 10: 4)، فإن كانت العصا هي الصليب، فخلال السيد المسيح المصلوب تقدَّست ينابيع المعموديّة. ويرى القديس إغريغوريوس أسقف نيصص في هذه الصخرة المتفجرة سرّ التوبة التي تحسب معموديّة ثانية، فإذ تذمر الشعب وتعرَّض للهلاك احتاج إلى مياه الصخرة أو التوبة حتى لا يهلك. يقول القدِّيس: [إذ فقد الشعب رجاءه في الأمور الصالحة الموعود بها وهو في طريق البريّة سقط في العطش. مرة أخرى جعل موسى الماء يفيض لهم في البريّة. هذا الأمر يفهم سريًا إذ يعلمنا ما هو سرّ التوبة. فإن الذين يرتدون إلى المعدة (شهوة الأكل) والجسد والملذات المصرية بعدما ذاقوا الصخرة مرة يحرمون من شركة الأمور الصالحة. هؤلاء بالتوبة يجدون الصخرة التي أهملوها فينفتح لهم ينبوع ماء ويرثون. لقد أعطت الصخرة ماءً لموسى الذي آمن في صدق يشوع وليس في مقاوميه (من الجواسيس). نظر موسى إلى عنقود العنب الذي عُلِّق لأجلنا وسفك الدم، وبواسطة الخشبة أعد الماء لكي يتفجر من الصخرة مرة أخرى]. وقد أراد القدِّيس أن يؤكد حاجتنا إلى التوبة خلال إيماننا بدم السيد المسيح الذي يكفر عن خطايانا، فننعم بينابيع فيض خلال الصخرة التي أهملناها، أي المسيح الذي أسأنا إليه بسقطاتنا. يُعلِّق القديس أمبروسيوس على هذا العمل الإلهي قائلًا: [أليس صالحًا ذاك الذي بأمره جعل البحار تحت أقدامهم أرضًا صلبة إذ هربت المياه، والصخور تعطي ماءً للعطاشى! فقد ظهرت أعمال الخالق الحقيقي عندما صير السائل صلبًا والصخرة ماءً يتبخر؟ لنفهم أن هذا عمل المسيح كقول الرسول: الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4)]. ويُعلِّق القديس أغسطينوس على الصخرة التي ضُربت مرتين هكذا: [لقد أطفأ ظمأنا بواسطة الصخرة التي في البريّة، لأن "الصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4)... وقد ضُربت بالعصا مرتين لكي تفيض ماءً، لأن للصليب عارضتان. إذن كل هذه الأمور صُنعت كرمز وقد أعلنا لنا]. في عتاب "قال الرب لموسى وهرون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها" [12]. لقد حُرم الاثنان من قيادة الشعب إلى داخل أرض الموعد لأنهما لم يقدسا الرب أمام الشعب. يرى القديس أغسطينوس أن موسى قد حمل شكًا في البداية عند ضرب الصخرة، إذ قال مع هرون "أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً؟" [10]، وقد جاء في المزمور: "وأسخطوه على ماء مريبة حتى تأذى موسى بسببهم، لأنهم أمَرُّوا روحه حتى فَرَطَ بشفتيه" (مز 106: 32-33). ويرى البعض أن الرب قال لهما: "كلِّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها" [8]، ولم يقل لهما أن تُضرب الصخرة بالعصا. لعل غضب الله على موسى وهرون كان بسبب ضرب الصخرة مرتين، فإن السيد قد صُلب مرة واحدة بإرادته لخلاص البشريّة متقبلًا الآلام بفرح، كقول الرسول "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). أما الضربة الثانية فتحزن قلبه لأنها رمز للصلب مرة ثانية خلال ارتداد المؤمن عن حياة التجديد التي صارت له، إذ يقول ذات الرسول "إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 6). على أي الأحوال سقط موسى وأخوه هرون تحت التأديب ولم يكن كل ماضي موسى النبي المجيد أن يشفع له، وكأن الله يقدم لخدام الكنيسة خاصة من نال رتبة سامية التحذير، فإن أعمالهم مهما كانت عظيمة وقويّة لن تشفع لهم في سقطاتهم. يُعلِّق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا الأمر في كتابه الرابع من الكهنوت قائلًا: [كان موسى، هذا القدِّيس، أبعد ما يكون عن التمسك بقيادة اليهود حتى توسل إلى الله أن يعفيه منها عندما أمره بقبولها (خر 4)، بل أثار غضب الله عليه الذي عينه للعمل. . لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حتى بعد استلامه الرئاسة اشتهى الموت للتخلص منها، قائلًا: "إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلًا" (عد 11: 15). ماذا إذن؟ هل شفع فيه هذا الرفض المتكرر عندما أخطأ بخصوص ماء الخصومة؟ هل استطاع هذا أن يمنحه العفو؟ لماذا إذن حُرم من أرض الموعد؟]. 3. رفض أدوم عبورهم: 14 وَأَرْسَلَ مُوسَى رُسُلًا مِنْ قَادَشَ إِلَى مَلِكِ أَدُومَ: «هكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ: قَدْ عَرَفْتَ كُلَّ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أَصَابَتْنَا. 15 إِنَّ آبَاءَنَا انْحَدَرُوا إِلَى مِصْرَ، وَأَقَمْنَا فِي مِصْرَ أَيَّامًا كَثِيرَةً وَأَسَاءَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَيْنَا وَإِلَى آبَائِنَا، 16 فَصَرَخْنَا إِلَى الرَّبِّ فَسَمِعَ صَوْتَنَا، وَأَرْسَلَ مَلاَكًا وَأَخْرَجَنَا مِنْ مِصْرَ. وَهَا نَحْنُ فِي قَادَشَ، مَدِينَةٍ فِي طَرَفِ تُخُومِكَ. 17 دَعْنَا نَمُرَّ فِي أَرْضِكَ. لاَ نَمُرُّ فِي حَقْل وَلاَ فِي كَرْمٍ، وَلاَ نَشْرَبُ مَاءَ بِئْرٍ. فِي طَرِيقِ الْمَلِكِ نَمْشِي، لاَ نَمِيلُ يَمِينًا وَلاَ يَسَارًا حَتَّى نَتَجَاوَزَ تُخُومَكَ». 18 فَقَالَ لَهُ أَدُومُ: «لاَ تَمُرُّ بِي لِئَلاَّ أَخْرُجَ لِلِقَائِكَ بِالسَّيْفِ». 19 فَقَالَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: «فِي السِّكَّةِ نَصْعَدُ، وَإِذَا شَرِبْنَا أَنَا وَمَوَاشِيَّ مِنْ مَائِكَ أَدْفَعُ ثَمَنَهُ. لاَ شَيْءَ. أَمُرُّ بِرِجْلَيَّ فَقَطْ». 20 فَقَالَ: «لاَ تَمُرُّ». وَخَرَجَ أَدُومُ لِلِقَائِهِ بِشَعْبٍ غَفِيرٍ وَبِيَدٍ شَدِيدَةٍ. 21 وَأَبَى أَدُومُ أَنْ يَسْمَحَ لإِسْرَائِيلَ بِالْمُرُورِ فِي تُخُومِهِ، فَتَحَوَّلَ إِسْرَائِيلُ عَنْهُ. الأدوميّون هم نسل أدوم أو عيسو (تك 36: 19)، غالبًا ما كانوا يحملون عداوة لليهود ترجع إلى أيام يعقوب وعيسو، حيث اغتصب الأول البكوريّة منه... لهذا كثيرًا ما تحالف بنو أدوم مع أمم أخرى ضد إسرائيل، وفي أيام السبي إذ خربت يهوذا استغل أدوم الموقف وجعل من أراضي يهوذا مرعى لحيواناتهم. وقد سبق لنا الحديث عن أدوم في تفسيرنا لسفر حزقيال. لقد أرسل موسى النبي إلى ملك أدوم يطلب إليه في لطف وبروح الأخوة التي تربطهما كشعبين من أخوين يعقوب وعيسو، قائلًا له: "هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا. إن آباءنا انحدروا إلى مصر وأقمنا في مصر أيامًا كثيرة وأساء المصريون إلينا وإلى آبائنا. فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكًا وأخرجنا من مصر، وها نحن في قادش مدينة في طرف تخومك. دعنا نمر في أرضك، لا نمر في حقل ولا في كرم ولا نشرب ماء بئر، في طريق الملك نمشي، لا نميل يمينًا ولا يسارًا حتى نتجاوز تخومك" [14-17]. في حديثه هذا تحدث معه بروح الأخوة مظهرًا له أنهما ينتسبان أصلًا إلى دم واحد، كأنما يؤكد له أن كل أخ يحتاج إلى أخيه، ويتكلم بروح الاتضاع موضحًا له أنه قد تألم هو وآبائه بواسطة فرعون مصر، وأيضًا بروح الإيمان أن الله يسنده، وأخيرًا بروح الطاعة له أن يسلك في طريق يحدده الملك لا ينحرف عنه يمينًا أو يسارًا. ومع هذا كله إذ كان أدوم يسمع عن أخبار هذا الشعب تذكر البركة التي نالها يعقوب مغتصبًا إياها في مكر من عيسو فخاف منه مظهرًا كل عداوة! قلنا أن أدوم تعني "دموي" أو "سافك دم" فهو يمثل الشيطان الذي لا يطيق مملكة الله، إنه محب للقتال بطبعه. لقد ملك أدوم على القلوب فصارت أرضه، لا يسمح لمملكة الله أن تعبر فيها، لكن السيد المسيح دخل أرض أدوم الحقيقي -الشيطان- بعد أن ربطه وحطمه بالصليب، فاتحًا في القلب طريقًا ملوكيًا يعبر فيه الموكب السماوي، موكب الغلبة والنصرة. تتحول طاقات الإنسان ومواهبه وكل إمكانياته إلى موكب يسلك الطريق الملوكي يمشي دومًا نحو أورشليم العُليا لا يميل بضربة يمينيّة (البرّ الذاتي) ولا بضربة يساريّة (الشهوات) حتى يتجاوز حدود الزمان ويدخل الأبديّة. بالمسيح يسوع طرد أدوم من قلوبنا حيث كان يملك وانفتح الطريق الإنجيلي الحق في داخلنا. يرى القدِّيس إكليمندس الإسكندري أن هذا الطريق الملوكي هو طريق الإنسان الذي يحيا بالبرّ ليس عن إجبار أو عن خوف، أي غير منحرف نحو اليسار، ولا أيضًا من أجل المكافأة والأجرة أي غير منحرف يمينًا لكنه منطلق في طريق الملك الذي مهده الملك بنفسه، ليس فيه عثرات ومنحدرات. 4. موت هرون: 22 فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا، مِنْ قَادَشَ وَأَتَوْا إِلَى جَبَلِ هُورٍ. 23 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ فِي جَبَلِ هُورٍ عَلَى تُخُمِ أَرْضِ أَدُومَ قَائِلًا: 24 «يُضَمُّ هَارُونُ إِلَى قَوْمِهِ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الأَرْضَ الَّتِي أَعْطَيْتُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكُمْ عَصَيْتُمْ قَوْلِي عِنْدَ مَاءِ مَرِيبَةَ. 25 خُذْ هَارُونَ وَأَلِعَازَارَ ابْنَهُ وَاصْعَدْ بِهِمَا إِلَى جَبَلِ هُورٍ، 26 وَاخْلَعْ عَنْ هَارُونَ ثِيَابَهُ، وَأَلْبِسْ أَلِعَازَارَ ابْنَهُ إِيَّاهَا. فَيُضَمُّ هَارُونُ وَيَمُوتُ هُنَاكَ». 27 فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ، وَصَعِدُوا إِلَى جَبَلِ هُورٍ أَمَامَ أَعْيُنِ كُلِّ الْجَمَاعَةِ. 28 فَخَلَعَ مُوسَى عَنْ هَارُونَ ثِيَابَهُ وَأَلْبَسَ أَلِعَازَارَ ابْنَهُ إِيَّاهَا. فَمَاتَ هَارُونُ هُنَاكَ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ، ثُمَّ انْحَدَرَ مُوسَى وَأَلِعَازَارُ عَنِ الْجَبَلِ. 29 فَلَمَّا رَأَى كُلُّ الْجَمَاعَةِ أَنَّ هَارُونَ قَدْ مَاتَ، بَكَى جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ عَلَى هَارُونَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. بدأ الأصحاح بموت مريم وختم بموت هرون، الأولى ماتت في قادش أي عبرت إلى المقدَّسات الإلهيّة، والأخير انطلق إلى جبل هور ليموت هناك. وكلمة "هور" تعني "جبل"، وكأن الله أراد لأول رئيس كهنة أن يموت على جبل مرتفع ليس له اسم، إنما يكفي أنه جبل ليعلن أنه في موته يرتفع إلى فوق صاعدًا وليس كما حدث مع قورح وجماعته المزيفين حيث انحطوا إلى أسفل الأرض. موت الأبرار هو ارتفاع وصعود، أما نهاية الأشرار فهي انهيار وانحدار إلى أسفل. لقد صعد موسى مع هرون أخيه ومعهما ألِعازار بن هرون حيث ينزع موسى النبي عن أخيه ثياب الكهنوت قبل أن يموت ويلبسها لابنه ألِعازار كرئيس كهنة جديد، الأمر الذي يُفرِّح قلب موسى وهرون معًا. فقد كان لائقًا ألاَّ يموت هرون مرتديًا ثياب الكهنوت، لئلا تُحسب الثياب كأنها قد تدنست، إنما يرتديها ابنه ليصير رئيس كهنة عِوَض أبيه. وفي هذا صورة جميلة للتقليد الكنسي الذي يسلمه الجيل للآخر بلا انحراف. أما قيام موسى مستلم الشريعة بالوساطة فيشير إلى دور الوصيّة الإلهيّة أو الكتاب المقدس في التقليد، فالتقليد وهو يُسلَّم عبر الأجيال يلزم أن يبقى إنجيليًا، لا ينفصل عن الوصيّة ولا ينحرف عن روح الكتاب المقدس. يرى القديس كبريانوس في هذا التصرف تأكيد الرب للشعب أن الكاهن يختار من قبل الرب لكن في حضرة الشعب، إذ يؤكد الكتاب: "وصعدوا إلى جبل هور أمام أعين كل الجماعة" [27]. يقول القدِّيس: [إننا نلاحظ بسلطان إلهي أن الكاهن يجب أن يختار في حضرة الشعب، وأمام أعين الكل، وأن يُحسب مستحقًا وأهلًا للعمل بحكم الجماعة وشهادتهم]. أخيرًا فإن موت هرون وانتقال كهنوته إلى ابنه، إنما يكشف عن عجز الكهنوت اللاوي، إذ لرئيس الكهنة بداية أيام ونهاية، عمله مؤقت إلى حين، ينتقل من جيل إلى جيل حتى ينتهي الرمز ويأتي من هو "كاهن عظيم على بيت الله" (عب 10: 21)، [رئيس كهنة... قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات] (عب 8: 1). لقد قارن الرسول بولس بين كهنوت هرون المؤقت وكهنوت السيد المسيح الأبدي، على طقس ملكي صادق الذي بلا بداية أيام ولا نهاية من جهة لاهوته قادر أن يشفع بدمه أمام أبيه ليدخل بنا إلى المقدَّسات السماويّة غير المصنوعة بيد، هذا الذي صار كاهنًا بقسم، القدوس الذي بلا شر ولا دنس، حيّ في كل حين يشفع في الخطاة (راجع عب 7). طريق النصرة إن كان أدوم قد رفض أن يعبر الشعب في أرضه فاضطر موسى أن يجتاز بشعبه حول أرض أدوم دون أن يدخلها، كأن الرب قدَّم لهم فهمًا للغلبة على الشر بالهروب منه، ففي الأصحاح قدَّم عينات للنصرة ليس فقط على الملوك والشعوب بل على الحيات الحارقة والظمأ الداخلي. لقد حدثنا هنا عن: 1. محاربة ملك عراد: 1 وَلَمَّا سَمِعَ الْكَنْعَانِيُّ مَلِكُ عَرَادَ السَّاكِنُ فِي الْجَنُوبِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ جَاءَ فِي طَرِيقِ أَتَارِيمَ، حَارَبَ إِسْرَائِيلَ وَسَبَى مِنْهُمْ سَبْيًا. 2 فَنَذَرَ إِسْرَائِيلُ نَذْرًا لِلرَّبِّ وَقَالَ: «إِنْ دَفَعْتَ هؤُلاَءِ الْقَوْمَ إِلَى يَدِي أُحَرِّمُ مُدُنَهُمْ». 3 فَسَمِعَ الرَّبُّ لِقَوْلِ إِسْرَائِيلَ، وَدَفَعَ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَحَرَّمُوهُمْ وَمُدُنَهُمْ. فَدُعِيَ اسْمُ الْمَكَانِ «حُرْمَةَ». "عراد" كلمة عبريّة تعني "حمار وحشي"، وهي بلدة في القسم الجنوبي من اليهوديّة (يش 12: 14، قض 1: 16). إن كان ملك أدوم رفض أن يعبر الشعب في أرضه فلم يقاوم الشعب بل اتخذ طريقه حول أدوم، مفضلًا بالحري ألاَّ يقاوم الشر بالشر بل يهرب من الشر. هذا هو الطريق الروحي للمؤمن أنه يقلب مشاعره الطبيعيّة المحبة للانتقام مفضلًا بالحري على قلبه ويملك عليه عن أن ينتصر على الآخرين ويملك عليهم. أما الكنعاني ملك عراد الذي تصرف "كحمار وحشي" فقام للهجوم والمحاربة دون أن يطلب منهم ألاَّ يعبروا في أرضه. لقد التقى بهم وهم قادمون في طريق أتاريم وحاربهم وسبى منهم سبيًا. كلمة أتاريم تعني "الأثر"، وكأن ملك عراد قد اقتفى آثارهم لكي يلحق بهم ويهلكهم حتى لا يتمتعوا بأرض الموعد. لماذا سمح الله لهم بالهزيمة؟ لقد أراد أن يدرك الشعب ضعفه الذاتي وعجزه بشريًا عن الخلاص، والنصرة حتى إذا ما طلب يدّ الله ونذر ألاَّ يأخذ شيئًا لنفسه بل يُحرِّم المدن ويسمي "حُرمة"، أي منطقة مُحرَّمة، تصبح هذه شهادة دائمة وتذكار أن كل خلاص ونصرة يتحققان في المستقبل إنما هو بقوة الله. هكذا أحيانًا يسمح الله حتى للقديسين أن يُغلبوا ربما في أقل الخطايا وأتفهها لكي تصير بالنسبة لهم تذكارًا لضعفهم، وإذ يغلبون في الحرب الروحيّة وينمون في المواهب وتثمر حياتهم وخدمتهم لا يسقطون في الكبرياء. يقول الأب ثيؤفان الناسك أنه إذ يسقط أحيانًا الإنسان في خطيّة لم يسقط فيها منذ زمن طويل بل انتصر عليها يتعب للغاية، هذه علامة الكبرياء في القلب، إذ يحسب الإنسان في نفسه أنه غالب على الدوام. لهذا من التداريب الجميلة التي تقدم للمؤمنين الذين يعيشون زمانًا طويلًا في حالة نصرة ثم يسقطون في خطيّة تافهة حسب نظرتهم البشريّة يمزجزن توبتهم ودموعهم بحياة الشكر لله الذي يكشف لهم ضعفاتهم. فعِوَض أن يتحطم الإنسان لأنه سقط فيما لا يتوقع يشكر الله الذي فضحه أمام عيني نفسه سائلًا إياه أن يرفع عنه التجربة. 2. الحيّة النحاسيّة: 4 وَارْتَحَلُوا مِنْ جَبَلِ هُورٍ فِي طَرِيقِ بَحْرِ سُوفٍ لِيَدُورُوا بِأَرْضِ أَدُومَ، فَضَاقَتْ نَفْسُ الشَّعْبِ فِي الطَّرِيقِ. 5 وَتَكَلَّمَ الشَّعْبُ عَلَى اللهِ وَعَلَى مُوسَى قَائِلِينَ: «لِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ لأَنَّهُ لاَ خُبْزَ وَلاَ مَاءَ، وَقَدْ كَرِهَتْ أَنْفُسُنَا الطَّعَامَ السَّخِيفَ». 6 فَأَرْسَلَ الرَّبُّ عَلَى الشَّعْبِ الْحَيَّاتِ الْمُحْرِقَةَ، فَلَدَغَتِ الشَّعْبَ، فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ. 7 فَأَتَى الشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَيْكَ، فَصَلِّ إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الْحَيَّاتِ». فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. 8 فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». 9 فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا. بالرغم من نصرتهم على ملك عراد الذي ثار عليهم كحمار وحشي، وقد شهدوا لعمل الله معهم بدعوة الموضع "حُرمة"، لكنهم سرعان ما تذمروا على الرب لأنهم لم يعبروا طريقهم وسط أدوم، بل ساروا طريقًا أطول، فضاقت أنفسهم في الطريق قائلين: "لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البريّة، لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف؟" [5]. حين تذمروا بسبب العطش احتملهم الله ولم يعاتبهم بكلمة واحدة وإنما أمر موسى وهرون ليفجرا ماءً من الصخرة، أما الآن إذ وهبهم نصرة وغلبة بعد أن رواهم من الصخرة لهذا بتكرار التذمر قام بتأديبهم. أرسل عليهم الحيات المحرقة تلدغهم وتميتهم، وفي نفس الوقت إذ صرخ موسى إليه لم ينزع الحيات بل أمره أن يقيم حيّة نحاسية على راية حتى كل من لُدغ من الحيات ونظر إليها يحيا (ع 8). إنه لم ينزع التجربة لكنه فتح باب الخلاص منها. بهذا حوّل الله شرهم إلى بركة، مخرجًا من الآكل أُكلًا ومن الجافي حلاوة، مقدمًا من هذا العمل رمزًا لصليبه، إذ قال: [وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ] (يو 3: 14-15). يقول القديس أغسطينوس: [ذُبِحَ المسيح حتى يوجد على الصليب ذاك الذي يَتَطَلَّع إليه مَنْ لدغتهم الحيّة]. كما يقول: [ما هي الحيّة المرفوعة؟ إنها موت المسيح على الصليب لأنه كما جاء الموت بواسطة الحيّة صار رمزه هو صورة الحيّة. كانت لدغة الحيّة مميتة، أما موت الرب فواهب الحياة... إذ يتطلع الإنسان إلى الحيّة تصير الحيّة بلا سلطان، ومن ينظر إلى الموت يصير الموت بلا سلطان]. يقول القدِّيس أغناطيوس: [عندما ارتفع جسد الكلمة كما رُفعت الحيّة في البريّة، اجتذب إليه البشريّة لأجل خلاصهم الأبدي]. وجاء في رسالة برناباس: [صنع موسى رسمًا ليسوع ولآلامه الضروريّة، وعندما كان الإسرائيليّون يسقطون كانوا يتطلَّعون إليه وكان يحييهم. إن الرب لكي يُعلم إسرائيل بأن عصيانه أسلمه إلى حزن الموت سلَّط عليهم أنواعًا من الحيات لتلسعهم وكانوا يموتون. ومع أن موسى قال: لن يكون لكم تمثالًا منحوتًا أو مسكوبًا للرب (تث 27: 15)، فإنه يفعل عكس ما كتب. إنه اصطنع حيّة نحاسيّة ورفعها بمجد ودعا الشعب. ولما اجتمع الشعب طلبوا من موسى أن يرفع الصلاة من أجل شفائهم فقال لهم موسى عندما يلسع أحدكم فليتقدم من الحيّة المرفوعة على الخشبة وليترك نفسه للرجاء معتقدًا بأن الحيّة التي لا حياة فيها يمكنها أن تعيد إليه الحياة ويخلص لتوه، وهكذا فعلوا. إن مجد يسوع يقوم على هذا. إن كل الأشياء هي فيه وله]. يُعلِّق القديس إغريغوريوس أسقف نيصص على هذا الأمر بقول: [أنجبت الشهوات المتمردة حيات تنفث سمًا يُميت من تلدغهم، لكن مُستلم الشريعة جعل الحيات الحقيقيّة بلا قوة خلال صورة الحيّة... الصليب هو الألم، من يتطلَّع إليه كما يقول الكتاب لا يؤذيه ألم الشهوات. التطلع إلى الصليب إنما يعني أن الإنسان يجعل حياته كلها ميتة ومصلوبة عن العالم (غل 6: 14) لا يحركها الشر. حقًا بهذا تكون كما يقول النبي: سمروا جسدهم بخوف الله. أما المسمار فهو ضبط النفس الذي يضبط الجسد... هذا الشكل يشبه الحيّة، لكنه ليس بحيّة في ذاته، وكما يقول العظيم بولس: "في شبه جسد الخطيّة" (رو 8: 3). الخطيّة هي الحيّة الحقيقيّة، والذي يهرب إلى الخطيّة يحمل طبيعة الحيّة... إذ يتحرر الإنسان من الخطيّة خلال ذاك الذي أخذ شكل الخطيّة وصار مثلنا فحمل شكل الحيّة. لم يقتل الوحوش (الحيات) لكنه جعل لدغاتها غير مميتة... في الواقع إن لدغات الشهوة تعمل حتى في المؤمنين لكن من يتطلع إلى المُعلَّق على الصليب يحتقر الألم، فيخفف السم بخوف الوصيّة]. يرى القديس أغسطينوس في الحيّة النحاسيّة قبولنا لشركة آلام المسيح والموت معه، إذ يقول: [كل من نظر إلى الحيّة المرفوعة يُشفى من السُّم ويتحرر من الموت، والآن من يصر إلى شبه موت المسيح بالإيمان به وبمعموديته يتحرر من الخطيّة متبررًا ومن الموت بالقيامة. هذا ما يعنيه بقوله [مَنْ آمن بي لا يهلك، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ] (يو 3: 15). إذن لم تكن هناك ضرورة للطفل أن يتشبه بموت المسيح في المعموديّة لو لم يكن قد تسرب سم لدغة الحيّة إليه!]. كأنه ما دامت الحيات قد انطلقت إلى الجميع تلدغهم وتبث سمومها فيهم لهذا يحتاج الجميع -ناضجين وأطفالًا- إلى مياه المعموديّة المقدسة لكي يشفوا من موت سم الحيّة خلال الصليب. 3. رحيلهم: 10 وَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي أُوبُوتَ. 11 وَارْتَحَلُوا مِنْ أُوبُوتَ وَنَزَلُوا فِي عَيِّي عَبَارِيمَ فِي الْبَرِّيَّةِ، الَّتِي قُبَالَةَ مُوآبَ إِلَى شُرُوقِ الشَّمْسِ. 12 مِنْ هُنَاكَ ارْتَحَلُوا وَنَزَلُوا فِي وَادِي زَارَدَ. 13 مِنْ هُنَاكَ ارْتَحَلُوا وَنَزَلُوا فِي عَبْرِ أَرْنُونَ الَّذِي فِي الْبَرِّيَّةِ، خَارِجًا عَنْ تُخُمِ الأَمُورِيِّينَ. لأَنَّ أَرْنُونَ هُوَ تُخْمُ مُوآبَ، بَيْنَ مُوآبَ وَالأَمُورِيِّينَ. 14 لِذلِكَ يُقَالُ فِي كِتَابِ «حُرُوبِ الرَّبِّ»: «وَاهِبٌ فِي سُوفَةَ وَأَوْدِيَةِ أَرْنُونَ 15 وَمَصَبِّ الأَوْدِيَةِ الَّذِي مَالَ إِلَى مَسْكَنِ عَارَ، وَاسْتَنَدَ إِلَى تُخُمِ مُوآبَ». إن كان الصليب هو طريق الغلبة والنصرة فلا يمنع حرب الشيطان -الحيّة القديمة- إنما يبدّد سمه القاتل، فإن علامة النصرة الحقيقيّة هي الرحيل أو العبور المستمر من موقع إلى موقع للتمتع بأمجاد جديدة خلال الضيقات المستمرة بقصد العبور إلى كنعان الجديدة. أما أسماء المواقع التي رحلوا إليها فهي أوبوت ثم عَيي عباريم فوادي زارد ثم عبر أرنون. يرى العلامة أوريجينوسأن أوبوت في العبريّة إنما تعني تتابع النمو وكأن المؤمن إذ يدخل إلى خبرة الصليب يلزمه أن يحيا في حالة نمو دائم بغير انقطاع. أما "عَيي عباريم" عند العلامة أوريجينوس فتعني "عمق العبور" وكأنه خلال النمو المستمر يلزم ألاَّ ننسى هدفنا وهو العبور العميق الداخلي من الحياة الأرضيّة إلى السماويّة. 4. نشيد البئر: 16 وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى بِئْرٍ. وَهِيَ الْبِئْرُ حَيْثُ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اجْمَعِ الشَّعْبَ فَأُعْطِيَهُمْ مَاءً». 17 حِينَئِذٍ تَرَنَّمَ إِسْرَائِيلُ بِهذَا النَّشِيدِ: «اِصْعَدِي أَيَّتُهَا الْبِئْرُ! أَجِيبُوا لَهَا. 18 بِئْرٌ حَفَرَهَا رُؤَسَاءُ، حَفَرَهَا شُرَفَاءُ الشَّعْبِ، بِصَوْلَجَانٍ، بِعِصِيِّهِمْ». وَمِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَتَّانَةَ، 19 وَمِنْ مَتَّانَةَ إِلَى نَحْلِيئِيلَ، وَمِنْ نَحْلِيئِيلَ إِلَى بَامُوتَ، 20 وَمِنْ بَامُوتَ إِلَى الْجِوَاءِ الَّتِي فِي صَحْرَاءِ مُوآبَ عِنْدَ رَأْسِ الْفِسْجَةِ الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ. إذ عبر الشعب حاملًا آثار اللدغات في جسده دون أن يحمل موتها، عبر وفي جسده علامة النصرة والغلبة على لدغات الحيات، فأمر الرب موسى أن يجمع الشعب ليقدم له ماءً من بئر ليشرب. هنا يندهش العلامة أوريجينوس: [ما الحاجة أن يُصرّ الله أن يجمع موسى بنفسه الشعب ليعطيه ماءً من بئر ليشرب؟ أليس الشعب يأتي من نفسه إذ يشعر بالعطش ويشرب من الماء؟ لهذا يُؤكِّد العلامة أوريجينوس أن القصة لو فُهِمَت بالمعنى الحرفي لبَدت ليست ذات قيمة كبيرة، لكنها تحوي أسرارًا عميقة. يقول روح الله على لسان سليمان في سفر الأمثال: [اشرب مياهًا من أوعيتك ومياهًا جارية من آبارك، لا تفض من ينبوعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع] (أم 5: 15-16). هذا يعني أن مياهك هي لك وحدك، ليس لآخر نصيب فيها. لكل واحد منا رمزيًا بئر في داخله... ليس بئر واحدة بل هي أكثر من بئر، ليس له وعاء واحد بل أوعية كثيرة، إذ لم يقل الكتاب "اشرب مياهًا من وعائك" بل من "أوعيتك"، لم يقل الكتاب "مياهًا جارية من بئرك" بل من "آبارك"، وقد سبق فرأينا أن للآباء آبارًا، فكان لإبراهيم آبار وأيضًا لإسحق وأظن ليعقوب]. في اختصار لكل إنسان آبار داخليّة عميقة في النفس تشير إلى معرفة الله في القلب، في الإنسان الداخلي. لهذا عندما جلس السيد المسيح على البئر في وقت الساعة السادسة التي هي لحظات الصلب تحدَّث مع المرأة السامرية أي مع جماعة الأمم عن البئر الداخليّة، قائلًا لها: "لو كنتِ تعلمين عطيّة الله ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب لطلبتِ أنت منه فأعطاكِ ماءً حيًا" (يو4: 10). كانت المرأة بفكرها المادي لا تقدر أن تتعدى حدود البئر المنظورة معتزة بالبئر التي ورثوها عن أبيهم يعقوب. أما السيد المسيح فسحب قلبها إلى البئر الداخليّة حتى تركت المرأة جرتها عند البئر ومضت إلى المدينة تحمل بئرًا حيًا في أعماق نفسها في الداخل. هذا هو عمل السيد المسيح أن يهب في المؤمنين ينابيع مياه حيّة، إذ يقول: "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38). وكما يقول العلامة أوريجينوس أن الله لم يهبنا بئرًا بل آبارًا وأنهار مياه حيّة في داخلنا، هذه تشير إلى معرفة الثالوث القدوس وعمله في داخلنا: "في رأيي يمكننا أن نفهم معرفة الآب غير المولود كبئر، وأيضًا معرفة الابن الوحيد كبئر آخر، إذ الآب مميز عن الابن، والابن ذاتيًا ليس الآب إذ يقول في الإنجيل:" (آخر) يشهد لي الآب" (يو 8: 18). يبدو لي أننا نستطيع أن نرى بئرًا ثالثًا في معرفة الروح القدس، إذ هو مميز عن الآب والابن كما يؤكد الإنجيل: [يعطيكم الآب مُعَزِّيًا آخَرَ... رُوحُ الْحَقِّ] (يو 14: 16-17). إذًا التمييز في الثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس هو الذي يفسر الجمع في الآبار. لكن من هذه الآبار يوجد ينبوع واحد حيث الوحدانيّة في جوهر وطبيعة الثالوث. لقد صار لنا خلال الإيمان بالسيد المسيح المخلص معرفة داخليّة خلال خبرة عمليّة تعيشها النفس مع الثالوث القدوس، تتعرف على الآب بكونه أباها السماوي مدبر حياتها وعلى الابن الوحيد بكونه العريس الأبدي والمخلص الذي يحملها فيه ليدخل بها إلى حضن الآب، وعلى الروح القدس بكونه واهب البنوة والشركة يدخل بنا إلى الاتحاد مع السيد المسيح لننعم بما له ونتمتع بإمكانياته كأنها إمكانياتنا. . هذه هي الآبار التي يحفرها الروح القدس عميقة فينا فتتفجر فينا ينابيع مياه حيّة. يقول العلامة أوريجينوس: [أعتقد أن كلام المخلص لتلاميذه "من آمن بي" (يو 7: 38) عَنَى به أن من شرب من ماء تعاليمه، لا يكون له بئر ولا ينبوع بل أنهار ماء حيّة تتولد فيه. فمن كلام الله، أي البئر الوحيد، تتولد آبار ينابيع وأنهار لا تحصى. هكذا يمكن لنفس الإنسان التي خُلقت على صورة الله أن تحصل في داخلها على آبار وينابيع وأنهار]. هذه الأنهار المقدسة التي تنبع في قلب المؤمن، كما يقول المرتل "لتصفق بالأيادي" (مز 98: 8). إنها أنهار المعرفة الإلهيّة العمليّة التي تفيض بالروح القدس في القلب فتسبح الله وتشهد له مصفقة بالأيادي أي تُحوِّل المعرفة إلى "عمل". يقول القديس أغسطينوس: [لتصفق هذه الأنهار بالأيادي، لتفرح بالأعمال وتُطوِّب الله]. كما يُعلِّق القدِّيس ﭽيرومعلى هذه العبارة قائلًا: [لتصفق بالأيادي، فإن أعمال القدِّيسين هي التسبيح لله، إذ لا يُسبَّح السيد المسيح بالكلمات بل بالأعمال. إنه لا يهتم بالصوت بل بالعمل]. في داخلنا آبار معرفة الثالوث القدوس، لكنه للأسف كثيرًا ما يردمها عدو الخير باهتمامات الحياة الزمنيّة والشهوات الأرضيّة فتحتاج إلى الروح القدس نفسه لكي يحفرها من جديد ويزيل عنها التراب الدخيل إليها. يقول العلامة أوريجينوس: [في الحقيقة تحتاج آبار نفوسنا إلى من يحفرها وينظفها ويزيل عنها ما هو ترابي لكي تظهر الأفكار العقليّة التي خبأها الله، فتقدم شبكات مياه نقيّة وطاهرة ما دام التراب يغطي الماء ويختفي المجرى الداخلي ولا يمكن للماء الداخلي أن يجري. لهذا كُتب "جَمِيعُ الآبَارِ، الَّتِي حَفَرَهَا عَبِيدُ أَبِيهِ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ أَبِيهِ، طَمَّهَا الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَمَلأُوهَا تُرَابًا" (تك 26: 15)، لكن إسحق الذي أخذ البركة من أبيه حفر الآبار مرة أخرى ونبش آبار الماء (تك 26: 18) هذه التي طمها الفلسطينيّون بسبب كراهيتهم وردموها بالتراب]. العجيب أنه قد تمت زيجات مقدسة ومباركة حول الآبار، وكأن آبار المعرفة الإلهيّة غايتها دخول النفس إلى الاتحاد مع العريس السماوي السيد المسيح والتمتع بسماته. يقول العلامة أوريجينوس: [حول البئر وليس في موضع آخر وجد عبد إبراهيم "رفقة" التي تعني "ترفق أو احتمال" فصارت لإسحق امرأة (تك 24: 67). وعندما جاء يعقوب إلى بلاد ما بين النهرين في طاعة لأبيه وجد راحيل (تك 29: 10)، كما وجد موسى صفورة حول البئر (خر 2: 15، 21). إذن حول الآبار فهمت الزيجات المقدسة. فإن أردت أن تتزوج الترفق والحكمة والفضائل الأخرى التي تتمثل في قول الحكمة: لقد بحثت عنه لكي أتزوجه، فتردد بمواظبة وحاصر هذه الآبار بغير انقطاع فستجد لك زوجة هناك بجانب المياه الحيّة، بمعنى أنه بجانب مجاري الكلام الحيّ تسكن كل الفضائل بكل تأكيد]. فإن الحكيم ينصحنا [اشرب مياهًا من أوعيتك ومياهًا جارية من آبارك، لا تفض ينبوعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع] (أم 5: 15-16)، إنما يدعونا أن نتمتع بالزيجة الداخليّة حيث تلتقي النفس مع عريسها خلال معرفة الثالوث القدوس الداخليّة. هناك تتعرف على أعمال الله الخلاصيّة وتتقبل الشركة معه فتنعم بسمات السيد لا كفضائل خارجيّة إنما كثمر الروح القدس داخل النفس. لهذا يقول السيد المسيح "أما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 6). إنه ينصحنا أن نفتح قلبنا للعريس سريًا فلا تعرف شمالنا ما تفعله يميننا (مت 6: 3)، لكن العالم يكتشف آثار هذه الشركة في تصرفاتنا وملامحنا أما أعماقها فتبقى سرّ حب عميق تدركه النفس وحدها. إن عدنا إلى النص الذي بين أيدينا نجد الله يُصرّ أن يقوم موسى بدعوة الجماعة للشرب من البئر، وكأن هذا العمل يحمل بطريقة رمزيّة دعوة الناموس (موسى) لرجال العهد القديم أن تتعرف على شخص المخلص يقول العلامة أوريجينوس: [تدعوك شريعة الله أن تأتي إلى البئر... أي إلى الإيمان بالمسيح. لقد قال بنفسه "موسى كتب عني". بأي هدف يجمعنا؟ لكي نشرب من الماء وننشد له بتسبحة، بمعنى أن "القلب يؤمن به للبرّ وفمنا يعترف به للخلاص" (رو 10: 10)]. إذ شربت الجماعة من البئر، أي تعرفت على شخص السيد المسيح خلال موسى والأنبياء أنشدت "أنشودة البئر"، قائلة: "ابتدأوا أن تنشدوا للبئر، الرؤساء حفروها، ملوك الأمم في مملكتهم وفي رئاستهم نقروها في الصخرة". ويُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا النشيد قائلًا: [الرؤساء (الشرفاء) هم الأنبياء الذين خبأوا البئر وغطوها بنبواتهم عن المسيح في أعماق الحرف، لهذا يقول أحد الأنبياء "وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة" (إر 13: 17) ويقول نبي آخر للسيد الرب "تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس، تخفيهم في مظلة من مخاصمة الألسن" (مز 31: 20). إذن الرؤساء هم الذين حفروا البئر، أما الملوك الذين نقبوها أي قطعوها في الحجر. إذن الشرفاء أقل من الملوك يحفرون الآبار أي يعمقون في الأرض لكن إلى حد معين أما الذين دُعوا ملوكًا فهم أكثر قوة وعلوًا، لم يحفروا فقط في الأرض بل نقبوا في صلابة الصخر ليصلوا إلى أعماق أكثر وفحص أدق... هؤلاء هم الرسل. يقول أحدهم "فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1 كو 2: 10)، إنهم بفضل الروح القدس يفحصون أعماق الله ويخترقون أسرار البئر، بهذا يكونون قد نقبوا البئر في الصخر، واخترقوا أسرار المعرفة الصلبة والصعبة. أما دعوة الرسل ملوكًا فيمكن استنتاجه مما قيل عن المؤمنين "وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة" (1 بط 2: 9)... لهذا السبب دُعي السيد الرب "ملك الملوك" (رؤ 19: 16)]. إذن البئر الحقيقيّة التي هي السيد المسيح مخلص البشريّة، أعلنها الشرفاء خلال الناموس والنبوات، وفي أكثر وضوح تحدَّث عنها التلاميذ والرسل خلال الأناجيل والكتابات الرسوليّة. يقول العلامة أوريجينوس: [الكتاب المقدس كله: الشريعة والأنبياء والكتابات الإنجيليّة والرسوليّة تكون بئرًا واحدًا لا يمكن حفرها ولا فحصها إلاَّ إذا وُجد ملوك وشرفاء... كملوك حقيقيّين وشرفاء حقيقيين يمكنهم أن ينظفوا أرض البئر، يرفعوا سطح الحرف وينزعوا سطحيّة الصخرة الداخليّة حيث يوجد المسيح فيتدفق المعنى الروحي]. يُميِّز العلامة أوريجينوس بين البئر الحقيقيّة التي حفرها الشرفاء والملوك وتلك التي يحفرها الهراطقة التي تعطي ماءً ملحًا لا يصلح للشرب، إذ يقول: [أتريدون أن تروا من الكتاب المقدس إلى أي بئر يأتي (الهراطقة)؟ إنهم يأتون إلى وادي من الملح حيث توجد "آبار حُمَر كثيرة" (تك 14: 10)... إنها في وادي، ووادي من الملح. فحيث الخطيّة والإثم لا يرتفع إلى العلو بل يحدث نزول دائم إلى الأماكن الدنيئة السفليّة. كل فكر هرطوقي وكل خطيئة إنما يوجدان في وادي، وادي من الملح ومرّ. أيَّة عذوبة أو حلاوة يمكن أن تقدمها الخطيئة؟ لا يوجد أسوأ من أن يسقط الإنسان في أفكار الهراطقة، أو يسقط في مرارة الخطيئة، فإنه يسقط في آبار حُمَر كثيرة. الأحمرار هو طقام النار، فإن شربنا ماءً من هذه الآبار، وقبلنا آراء الهراطقة، إن قبلنا مرارة الخطيئة، إنما نهييء في أنفسنا مادة للنار وحطبًا لجهنم. الذين لا يريدون أن يشربوا من ماء البئر التي حفرها الشرفاء والملوك إنما يريدون أن يشربوا من البئر الذي في وادي الخطيئة، التي تغذي النار، يقال لهم "اسلكوا بنور ناركم والشرار الذي أوقدتموه" (إش 50: 11)]. أخيرًا إذ شربت الجماعة من البئر الحقيقيّة، التي حفرها الشرفاء والملوك، قيل أنهم رحلوا "من البريّة إلى متانة، ومن متانة إلى نحليئيل، ومن نحليئيل إلى باموت، ومن باموت إلى الجِواء التي في صحراء موآب عند رأس الفسجة التي تشرف على وجه البريّة" [18-20]. يُعلِّق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله: [تبدو هذه الأسماء أنها لمواضع معينة، لكننا إذا رجعنا إلى اللغة الأصليّة لمعانيها لقدمت لنا مجموعة من الحقائق السريّة أكثر منها أسماء أماكن]. أولًا:الانطلاق إلى متانة، إن كانت كلمة متانة كما يقول العلامة أوريجينوس تعني "عطاياهم"، فإن النفس التي ترتوي من البئر، أي تتعرف على شخص السيد المسيح الذي قادنا إليه موسى خلال الشريعة والنبوات وأعلنه لنا التلاميذ والرسل، يليق بنا أن نقدم عطايانا له وتقدماتنا التي هي في الحقيقة عطاياه هو وتقدماته، إذ يقول الرب "قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون أن تقدموه لي في وقته" (عد 28: 2). شربنا من البئر هو قبول عطيّة الله، إذ يعرفنا عن نفسه، ويقدم حياته لنا، فنقابل الحب بالحب لنقدم له حياتنا، وكما يقول الكتاب "ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك" (تث 10: 12). إذ نقدم له هذه العطايا من قلبنا بعد أن نكون قد عرفناه، أي بعد أن نكون قد شربنا معرفة لطفه من أعماق بئره]. ثانيًا: من متانة إلى نحليئيل، فإن كلمة "نحليئيل" تعني "من الله". إذ يقدم الإنسان حبًا عمليًا لله وعطايا وتقدمات، يرد الله له عطايا إلهيّة. لقد قدَّم إبراهيم ابنه الوحيد، فرد إليه حيًا وقدم له الكبش الفدية! بقدر ما يتسع قلبنا بالحب العملي يملأ الله بروحه القدوس القلب من ثماره الخفيّة المشبعة للنفس. ثالثًا: من نحليئيل إلى باموت التي تعني مجيء الموت، حيث يشتهي الإنسان العبور بقوة منتصرًا على الموت، متطلعًا إليه كانطلاقة نحو السمويات. [يقول الله أنا أُميت وأُحيي (تث 32: 39). حقًا إنه يميت لكي نحيا مع المسيح، وهو يحيي لكي نحيا معه. إذًا يجب علينا أن نشتهي البلوغ إلى باموت ونترجى أن يحل هذا الموت الطوباوي بأقصى سرعة حتى نستحق أن نحيا مع المسيح]. رابعًا: من باموت إلى الجواء التي تعني "صعود أو قمة الجبل". هذه هي غاية رحلتنا أن نرتفع إلى الفردوس، لنتمتع بإقامة جميلة على قمة جبل الكمال ونتمتع بالبهجة الروحيّة، قائلين [أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع] (أف 2: 6). هذه هي الرحلة: من بئر المعرفة الإلهيّة في المسيح يسوع المخلص، إلى تقديم عطيّة حبنا، وقبول عطاياه الإلهيّة، لنرتفع إلى جبال كماله. 5. النصرة على سيحون: 21 وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلًا إِلَى سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ قَائِلًا: 22 «دَعْنِي أَمُرَّ فِي أَرْضِكَ. لاَ نَمِيلُ إِلَى حَقْل وَلاَ إِلَى كَرْمٍ وَلاَ نَشْرَبُ مَاءَ بِئْرٍ. فِي طَرِيقِ الْمَلِكِ نَمْشِي حَتَّى نَتَجَاوَزَ تُخُومَكَ». 23 فَلَمْ يَسْمَحْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ بِالْمُرُورِ فِي تُخُومِهِ، بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ جَمِيعَ قَوْمِهِ وَخَرَجَ لِلِقَاءِ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَتَى إِلَى يَاهَصَ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ. 24 فَضَرَبَهُ إِسْرَائِيلُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَمَلَكَ أَرْضَهُ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى يَبُّوقَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ. لأَنَّ تُخُمَ بَنِي عَمُّونَ كَانَ قَوِيًّا. 25 فَأَخَذَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ هذِهِ الْمُدُنِ، وَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي جَمِيعِ مُدُنِ الأَمُورِيِّينَ فِي حَشْبُونَ وَفِي كُلِّ قُرَاهَا. 26 لأَنَّ حَشْبُونَ كَانَتْ مَدِينَةَ سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ، وَكَانَ قَدْ حَارَبَ مَلِكَ مُوآبَ الأَوَّلَ وَأَخَذَ كُلَّ أَرْضِهِ مِنْ يَدِهِ حَتَّى أَرْنُونَ. 27 لِذلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُ الأَمْثَالِ: «اِيتُوا إِلَى حَشْبُونَ فَتُبْنَى، وَتُصْلَحَ مَدِينَةُ سِيحُونَ. 28 لأَنَّ نَارًا خَرَجَتْ مِنْ حَشْبُونَ، لَهِيبًا مِنْ قَرْيَةِ سِيحُونَ. أَكَلَتْ عَارَ مُوآبَ. أَهْلَ مُرْتَفَعَاتِ أَرْنُونَ. 29 وَيْلٌ لَكَ يَا مُوآبُ. هَلَكْتِ يَا أُمَّةَ كَمُوشَ. قَدْ صَيَّرَ بَنِيهِ هَارِبِينَ وَبَنَاتِهِ فِي السَّبْيِ لِمَلِكِ الأَمُورِيِّينَ سِيحُونَ. 30 لكِنْ قَدْ رَمَيْنَاهُمْ. هَلَكَتْ حَشْبُونُ إِلَى دِيبُونَ. وَأَخْرَبْنَا إِلَى نُوفَحَ الَّتِي إِلَى مِيدَبَا». أرسل إسرائيل إلى سيحون ملك الأموريّين قائلًا: "دعني أمر في أرضك. لا نميل إلى حقل ولا إلى كرم ولا نشرب ماء بئر. في طريق الملك نمشي حتى نتجاوز تخومك" [22]، لكن سيحون عِوَض أن يسمح لهم بالمرور جاء إلى ياهص وحارب إسرائيل، فغلب إسرائيل سيحون وأقاموا في مدن الأموريّين وحفى حشبون العاصمة. يرى العلامة أوريجينوس أن "سيحون" تعني "متشامخ" و"شجرة عميقة"، وأن الأموريّين جاءت عن "المرارة". وكأن سيحون يشير إلى الشيطان المتشامخ الذي بلا ثمر، رجاله هم "المرارة بعينها". يقول: [الملك سيحون يمثل الشيطان لأنه متكبر وعقيم. أظن أنه يجب ألاَّ ندهش أن أدعوه ملكًا، إذ قال عنه سيدنا ومخلصنا في الإنجيل "رئيس هذا العالم" (يو 14: 30)، يأتي وليس له فيَّ شيء، كما قال "الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (يو 12: 31). فإن كان قد دُعي في الإنجيل رئيس هذا العالم كله فلا ينظر أنه غير لائق أن نقارنه بسيحون ملك الأموريّين... ليس لأنه خلق العالم وإنما لأن الخطاة كثيرون في العالم. إذ هو رئيس الخطاة دُعي رئيس العالم، بمعنى رئيس الذين لم يتركوا بعد العالم ليتجهوا نحو الآب. بنفس المعنى قيل "العالم كله قد وُضِعَ في الشرير" (1 يو 5: 19). ماذا يفيدنا أن نقول عن المسيح أنه رئيسنا إن كنا نؤكد بأعمالنا وتصرفاتنا أننا تحت سلطان الشيطان؟ ألا تعرف بوضوح إلى أي رئيس ينتمي الإنسان الفاجر والفاسق والظالم؟ هل يستطيع إنسان كهذا أن يقول بأنه تحت سلطان المسيح حتى وإن كان حسب الظاهر مُحصى تحت اسم المسيح؟ متى كان المسيح رئيسًا لنا لا نرتكب قط نجاسة ولا بغيًا ولا يكون لشهوة الظلم موضع فينا. بهذا المعنى يليق بنا أن نقول أن المسيح هو رئيس الفضائل والشيطان رئيس الشر وكل ظلم]. أما كون سيحون "متشامخ" رمزًا للشيطان، فواضح من كلمات الكتاب المقدس نفسه إذ يقول العلامة أوريجينوس: [إنه ذاك الذي قال "بقدرة يدي وبحكمتي لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل، فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش" (إش 10: 13-14). بروح متشامخة يقول "أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي" (إش 14: 13-14). هل لا زلت تسأل إن كان متشامخًا ومتكبرًا؟ نعم إنه متشامخ ومتكبر مثل ابنه الوحيد الذي كتب عنه "لا يخدعكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولًا ويستعلن إنسان الخطيّة ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله" (2 تس 2: 3-4). كل من يكون متشامخًا ومتكبرًا إنما يكون ابنًا لهذا الروح المتكبر أو تلميذًا له وممتثلًا به. لهذا السبب يتحدث الرسول عن البعض قائلًا: "لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6)، مظهرًا أن كل تصلف يُحاكم بدينونة تماثل دينونة إبليس]. بماذا أرسل الشعب إلى سيحون؟ لقد طلب أن يمر في أرضه ولا يتأخر معه، أي لا يبقى عنده، بل يسلك في طريق الملك حتى يتجاوز تخومه دون أن يميل إلى حقل أو كرم أو يشرب من بئر له. هذا هو العهد الذي تعهدنا به عند المعموديّة، حين جحدنا الشيطان وكل أعماله الشريرة وإغراءاته وعبوديته. كأننا نقول له: لن نميل إلى حقل من حقولك ولا إلى كرم لك ولا نشرب قطرة ماء من آبارك. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في الله. إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (إر 2: 13). إنه يعلن أنه يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). إنه طريق ملوكي إذ قال عنه النبي "اللهم اعطِ أحكامك للملك" (مز 72: 1). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل من أي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانيّة]. سبق فرأينا أن المؤمن لا يميل عن الطريق الملوكي يمينًا أو يسارًا، فلا ينحرف بضربة يمينيّة (البر الذاتي) ولا بضربة شماليّة (الخطيئة). كما رأينا أن السلوك في الطريق الملوكي إنما يعني السلوك متجهين نحو الله لا عن خوف كالعبيد ولا من أجل المكافأة كالأجراء بل من أجل الله نفسه كأبناء، بهذا لا ننحرف يمينًا ولا يسارًا. لهذا يقول القدِّيس إغريغوريوس النزينزي: [ليتك تسير في الطريق الملوكي، لا تنحرف يمينًا ولا يسارًا بل يقودك الروح في الممر المستقيم]. ويتحدَّث القديس إغريغوريوس أسقف نيصصعن هذا الطريق الملوكي قائلًا: [يتطلب الناموس من الإنسان الذي يسلك فيه ألاَّ ينحرف شمالًا ولا يمينًا عن الطريق الذي هو ضيق وكرب كما يقول الرب (مت 7: 14). هذا التعليم يوضح أن الفضيلة تتميز بالاعتدال. فإن كل شر يعمل بطريقة طبيعيّة خلال نقص الفضيلة أو المبالغة فيها. ففي فضيلة الشجاعة، الجبن هو نقص للفضيلة والتهور هو مبالغة فيها. أما الأمر النقي لكل منهما فيرى خلال الطريق الوسط بين الشرين المتقاربين، فيحسب ذلك فضيلة، وهكذا كل الأمور الأخرى التي تصارع لأجل الحالة الأفضل إنما تكون باتخاذ الطريق المعتدل بين الشرين المتقاربين. الحكمة تأخذ الطريق الوسطى بين المكر والبساطة، فلا تمدح حكمة الحيات ولا بساطة الحمامة إن اختار إنسان ما إحداهما وحدها دون الأخرى. بالحري يحسب التدبير فضيلة إذا اتحدت الاثنان معًا في اعتدال. الإنسان الذي يفقد العفة يحسب فاسقًا، أما الذي يتعدى العفة فيحسب ضميره موسومًا كقول الرسول (1 تي 4: 2). فإن الواحد يسلم نفسه للشهوات بلا ضابط والآخر ينجس الزواج كأنه زنى. إذ يكون التدبير معتدلًا بين الاثنين يحسب ذلك اعتدالًا]. يطلب المؤمنون أن يعبروا هذا العالم في سلام، لكن سيحون الحقيقي، أي الشيطان المتكبر يغضب بالأكثر لأنهم لا يريدوا أن يمكثوا معه ولا أن ينشغلوا بشيء من أموره أو يلمسوا شيئًا من ممتلكاته أو يشربوا قطرة من بئره، إذ تزداد كراهيته لهم ويثور كبرياؤه بالغضب عليهم ويهيج عليهم خلال جنوده، أي الأرواح الشريرة، الذين هم الأموريين ليبثوا كل مرارة ضد المؤمنين. لهذا يقول الكتاب: "جمع سيحون جميع قومه وخرج للقاء إسرائيل" [23]. إنها الحرب الروحيّة التي يثيرها الشيطان ضد مملكة الله! أما موقع الحرب أو ميدانها فهو "ياهص" التي في رأي العلامة أوريجينوس تعني إتمام الوصايا. فإننا حيث ندخل إلى تحقيق الوصايا الإلهيّة لا يحتمل الشيطان ذلك بل يشرع في قتالنا بأرواحه الشريرة، لكن المعركة تنتهي بنصرة المؤمن على الشيطان كقول الرسول "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20)، إذ أكد لنا السيد: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء" (لو 10: 19). فإن هذه جميعها لن تضرنا إن دخلنا إلى "ياهص" أي حفظنا الوصايا الإلهيّة. ويرى البعض أن "ياهص" تعني موضعًا مطروقًا بالأقدام أو مفتوحًا، وكأن المؤمنين ينبغي أن يسلكوا بروح آبائهم، الطريق الذي سبق فسلكوه، الطريق المفتوح قبلًا يدخلون في حرب مع الشيطان لكنهم يغلبون. جاء في سفر إرميا "هكذا قال الرب: قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم" (إر 6: 16). انتهت حياة سيحون، الذي يمثل الشيطان المتكبر بضربه بالسيف، الذي هو كلمة الله، إذ يقول الرسول "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (أف 6: 17). هكذا إذ يختص المؤمن في كلمة الله ووصيته يهلك إبليس وتتبدد كل حيله. قُتل سيحون بالسيف واستولى المؤمنون على أرضه كلها من أرنون إلى يبوق، على جميع المدن خاصة العاصمة حشبون. أرنون هو نهر كان يفصل بين حدود الأموريّين شمالًا والموآبيّين جنوبًا، فيما بعد صار الفاصل بين سبط رأوبين شمالًا وموآب جنوبًا (تث 3: 8، يش 13: 16). وكان لأرنون معابر (إش 16: 2). "يبوق" هو فرع شرقي لنهر الأردن، في ذلك الموضع صارع يعقوب مع الرب حتى الفجر بعد أن أجاز زوجتيه وأولاده (تك 32: 22). يُعرف الآن بنهر الزرقاء، وكان يمثل الحد الغربي لبني عمون ويفصلهم عن الأموريّين، وفيما بعد يفصلهم عن سبط جاد. وهو يشطر جلعاد إلى قسمين: القسم الجنوبي كان تبعًا لسيحون والذي صار لجاد، أما الجزء الشمالي فكان يملك عوج الذي أخذه منه نصف سبط مَنَسَّى (تث 2: 36-37، 3: 12-13، 16، يش 12: 2-6). أما حشبون، مدينة سيحون ملك الأموريين، والتي هي في الأصل أُخذت من الموآبيّين. لقد عينها موسى لتكون من نصيب سبط رأوبين، وقد أعاد هذا السبط بناءها (عد 32: 37، يش 13: 17)، وقد صارت حدًا بين رأوبين وجاد (يش 13: 26)، امتلكها بعد ذلك جاد وقد عُينت كمدينة لجاد وُهبت للاويّين (يش 21: 39، 1 أي 6: 81). استولى عليها بنو موآب في أيام إشعياء النبي وإرميا النبي (إش 15: 4؛ 16: 8-9، إر 48: 2، 33-34). استولى عليها فيما بعد اسكندريانيوس وهيرودس الكبير(190). لا تزال تُعرف باسم حسبان مدين مهدمة على تل معزول بين أرنون ويبوق، على بعد حوالي 6 أميال شمال ميدَبَا. يرى العلامة أوريجينوسأن أرنون تعني "لعنات"، أما يبوق فتعني "صراع" حيث فيها صارع يعقوب مع الله. وكأن حدود مملكة الشيطان تبدأ باللعنات وتنتهي بالصراع. إذ يدخل الإنسان أرضه يمتليء لعنات ويبقى هكذا حتى يخرج منها خلال صراعه كيعقوب لتحل عليه البركة ويتحرر من مملكة إبليس إنه يقول: [مملكة سيحون المتكبر والعقيم تبدأ باللعنات وتنتهي في يبوق أي الصراع. كل من يريد أن يخرج من مملكة الشيطان ويهرب منها يجد الصراع... فإن صارع وغلب تكف يبوق عن أن تكون مدينة لسيحون، وتتحوَّل إلى إسرائيل...]. أما عاصمة مملكته فهي حشبون أي "حساب"، فمن يفكر بحساب مادي زمني يصير فكره هذا هو مركز مملكة إبليس في حياته، أما إن تحررت بالرب وصارت حساباته روحيّة، يحمل فكرًا إيمانيًا، حاسبًا حساب النفقة فيصير فكره هذا هو مركز حياته الجديدة في المسيح يسوع. يتحول الفكر من مملكة إبليس إلى مملكة المسيح. لعل هذا هو ما جعل العلامة أوريجينوس يقول أن حشبون تشير إلى "التفكير". يقول: [لماذا تدعى عاصمة ملك سيحون حشبون؟ لأن حشبون تعني التفكير، وهو الجزء الأكثر أهمية في مملكة الشيطان، هو أساس قدرته. وقد قال السيد المسيح "لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل، وجميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان" (مر 7: 21-23). لهذا لا بُد من إضرام النار في هذه المدينة وحرقها بالنار، بالتأكيد النار التي قال عنها المخلص "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟" (لو 12: 49)]. جاء بعد هذا: "يقول أصحاب الأمثال: ايتوا إلى حشبون فتُبنى وتُصلح مدينة سيحون، لأن نارًا خرجت من حشبون، لهيبًا من قرية سيحون. أكلت عار موآب، أهل مرتفعات أرنون. ويل لك يا موآب. هلكت يا أمة كموش" [27-29]. من هم أصحاب الأمثال الذين يرون نار الروح القدس التي أضرمها السيد المسيح على الأرض التي ملكها سيحون زمانًا، مشتهين أن يعاد بنائها وإصلاحها؟ أصحاب الأمثال بلا شك هم الشريعة وجماعة الأنبياء الذين رأوا خلال الرموز كيف تهدم مملكة إبليس لكي تقوم مملكة المسيح بروحه القدوس الناري، أما الذين يفهمون هذه الأمثال فهم رجال العهد الجديد الذين أدركوا الحق وتكشف لهم ما كان قبلًا رمزًا ولغزًا. يقول العلامة أوريجينوس: [من الذي تحدث بالأمثال إلاَّ الناموس والأنبياء؟ اسمع كيف يُعبِّر داود النبي عن ذلك قائلًا: "أفتح بمثل فمي، أُذيع ألغازًا من القِدَم" (مز 78: 2). بألغاز يعلن أيضًا كاتب آخر هو إشعياء: "وَصَارَتْ لَكُمْ رُؤْيَا الْكُلِّ مِثْلَ كَلاَمِ السِّفْرِ الْمَخْتُومِ الَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ الْكِتَابَةِ قَائِلِينَ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: «لاَ أَسْتَطِيعُ لأَنَّهُ مَخْتُومٌ». أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ»" (إش 29: 11-12). إنه كتاب مختوم لأنه مملوء بالأمثال ومغلف بالألغاز. أصحاب الأمثال هؤلاء يقولون: "ايتوا إلى حشبون فتُبنى". لقد سقطت حشبون الأولى. ماذا أقول؟ إنها ضُربت واحترقت، لذا يجب أن تُبنى من جديد، لتُبنى حشبون أخرى. كيف يتحقق ذلك؟ أوضح هذا بمثال: إن رأيت وثنيًا يعيش في عار وضلال ديني تقول عنه بغير تردد أنه مدينة حشبون الواقعة في مملكة سيحون، إذ يتسلط عليها الملك العقيم والمتكبر في أفكاره. فإن اقترب هذا الرجل إلى إسرائيل (الجديد) وصار ابنًا للكنيسة، فيلقي عنه كل مقاومة لكلام الله، حاملًا ضد ذلك سيف الروح (أف 6: 16)، تنهدم فيه كل المتاريس أي العقائد الوثنيّة، ويحترق كبرياء إدراكه بنار الحق. بهذا يُقال أن حشبون مدينة ملك سيحون قد دُمرت، لكنها لا تترك كصحراء مهجورة هذه التي نزعت عنها عقائد الوثنيّين... إنما لتبنِ في قلبه الأفكار الصالحة والشعور بالتقوى وتوضع فيه مباديء الحق ويتعلم الطقوس الدينية وأسس الحياة وتُقام فيه العادات التي تطابق الشريعة. حينئذٍ يقول بحق أصحاب الأمثال الواحد للآخر: "ايتوا إلى حشبون فتُبنى، التي هي مدينة سيحون". لقد دُعي أبناء الكنيسة أيضًا أصحاب الأمثال لأنهم يفهمون بالروح رموز الشريعة والألغاز. هذا ما عناه إرميا النبي في حديث رمزي عندما قال له السيد الرب: "ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر، قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتنقض وتبني وتغرس" (إر 1: 9-10). ماذا يقلع؟ وماذا يهدم؟ مدينة حشبون التي كان يملكها ملك سيحون. أي شيء يقلعه أو يهدمه؟ أفكار الكفر والنجاسة! ماذا يبني فيها من جديد؟ أو يغرس فيها؟ أفكار التقوى والعفاف. يجب أن تكف حشبون عن أن تكون مدينة الأموريّين لتصبح مدينة أبناء إسرائيل (الروحي)]. 6. نصرتهم على عوج ملك باشان: 31 فَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي أَرْضِ الأَمُورِيِّينَ. 32 وَأَرْسَلَ مُوسَى لِيَتَجَسَّسَ يَعْزِيرَ، فَأَخَذُوا قُرَاهَا وَطَرَدُوا الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ هُنَاكَ. 33 ثُمَّ تَحَوَّلُوا وَصَعِدُوا فِي طَرِيقِ بَاشَانَ. فَخَرَجَ عُوجُ مَلِكُ بَاشَانَ لِلِقَائِهِمْ هُوَ وَجَمِيعُ قَوْمِهِ إِلَى الْحَرْبِ فِي إِذْرَعِي. 34 فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «لاَ تَخَفْ مِنْهُ لأَنِّي قَدْ دَفَعْتُهُ إِلَى يَدِكَ مَعَ جَمِيعِ قَوْمِهِ وَأَرْضِهِ، فَتَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلْتَ بِسِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ السَّاكِنِ فِي حَشْبُونَ». 35 فَضَرَبُوهُ وَبَنِيهِ وَجَمِيعَ قَوْمِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ شَارِدٌ، وَمَلَكُوا أَرْضَهُ. يُعلِّق على هذا العلامة أوريجينوس قائلًا: [إذ تسلطوا على مدن الأموريّين "تحوَّلوا وصعدوا في طريق باشان" لكنهم لم ينزلوا إليها ولا بعثوا رسلًا كما لم يطلبوا المرور في أرضها، إنما شرعوا في الحال في محاربته (عوج) حيث هزموه هو وبنيه. ما هي باشان؟ باشان تعني "عار". إنه بحق لم يبعث برسل إلى هذا القوم ولا طلب المرور على أرضه، لأنه يجب ألاَّ يكون لنا هناك أي ممر أو طريق يدخل بنا إلى العار. يلزمنا أن نهاجمها ونحترس منها دائمًا. من ناحية أخرى فإن "عوج" الذي هو ملك باشان يعني "إعوجاج" أو "عائق"، فهو يمثل الأمور الجسديّة، هذه التي محبتها تعوق النفس وتبعدها عن الله. لهذا يجب إشهار الحرب ضد عوج (أي ضد محبة الزمنيات)]. كما يقول: [بخصوص مملكة حشبون لم يكتب "لم يبقَ له شارد" [35]، ولا أيضًا بخصوص مملكة موآب، لأنه ربما نحتاج إلى بعض سكانها، ربما يلزم وجود بعضهم لكفاحنا وتدريبنا، "وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من العالم" (1 كو 5: 10). أما عن باشان، أي العار، فلا حاجة لنا بشيء منها. لا يترك فيها شيء يعيش بل يجب إبادة كل أعمال العار، فإنه لا يُحسب العار صالحًا عند أحد]. |
||||
|
|||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163612 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() القديس يوحنا الذهبي الفم: [نعم، المسيح نفسه يقول: [من أجلكم أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي] (يو 17: 19) ويقول أيضًا "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، مظهرًا أن الذي ذُبح هو بلا خطيّة]. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163613 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() الحاجة للتطهير لمن مسَّ ميتًا: 11 «مَنْ مَسَّ مَيْتًا مَيْتَةَ إِنْسَانٍ مَا، يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. 12 يَتَطَهَّرُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ يَكُونُ طَاهِرًا. وَإِنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ لاَ يَكُونُ طَاهِرًا. 13 كُلُّ مَنْ مَسَّ مَيْتًا مَيْتَةَ إِنْسَانٍ قَدْ مَاتَ وَلَمْ يَتَطَهَّرْ، يُنَجِّسُ مَسْكَنَ الرَّبِّ. فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ إِسْرَائِيلَ. لأَنَّ مَاءَ النَّجَاسَةِ لَمْ يُرَشَّ عَلَيْهَا تَكُونُ نَجِسَةً. نَجَاسَتُهَا لَمْ تَزَلْ فِيهَا. "من مسّ ميتًا ميتة إنسان ما يكون نجسًا سبعة أيام، يتطهر به في اليوم الثالث، وفي اليوم السابع يكون طاهرًا. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرًا". يقول القديس أغسطينوس: [الجسد الميت فاقد الحياة ليس خطيّة إنما يعني خطيّة النفس فاقدة البرّ]. فموت الجسد كان في القديم رمزًا للخطيّة القاتلة للنفس، لهذا إن لمس أحد ميتًا، ولو كان الميت قديسًا أو كاهنًا يصير نجسًا. أما كونه نجسًا سبعة أيام، أي يصير نجسًا كل أيام الأسبوع، رمزًا إلى عدم التطهر من الخطيّة كل أيام غربتنا ما لم يتدخل هذا الرماد والماء! إذ لا خلاص للإنسان من دنس الخطيئة بدون ذبيحة الصليب والتجديد في مياه المعموديّة. يتم التطهير في اليوم الثالث بواسطة هذه المياه المرتبطة برماد البقرة الحمراء المذبوحة إشارة إلى التطهير بمياه المعموديّة خلال القيامة مع السيد المسيح (اليوم الثالث) بفاعليّة الصليب. إنه يؤكد أن من لا يتطهر في اليوم الثالث لن يتطهر في اليوم السابع، وكأنه لا تبرير لنا إن لم نتحد مع السيد المسيح المقام من الأموات. أما تطهيرنا في اليوم السابع فيشير إلى استمرار عمل قيام المسيح في حياتنا الزمنيّة، وفاعليتها كل أيام غربتنا حتى نعبر إلى قيامتنا الأخيرة. من لا يقبل قيامة المسيح لا يتطهر فيحسب قد نجس مسكن الرب وتقطع هذه النفس من الشعب المقدس (ع 13). كأن من لا يحمل قوة قيامة السيد كسرّ تبرير له يفسد جسده مسكن الرب، وتموت نفسه ولا يحسب من عداد أولاد الله. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163614 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() القديس أغسطينوس [الجسد الميت فاقد الحياة ليس خطيّة إنما يعني خطيّة النفس فاقدة البرّ]. فموت الجسد كان في القديم رمزًا للخطيّة القاتلة للنفس، لهذا إن لمس أحد ميتًا، ولو كان الميت قديسًا أو كاهنًا يصير نجسًا. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163615 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() طقس التطهير: 14 «هذِهِ هِيَ الشَّرِيعَةُ: إِذَا مَاتَ إِنْسَانٌ فِي خَيْمَةٍ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ الْخَيْمَةَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي الْخَيْمَةِ يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. 15 وَكُلُّ إِنَاءٍ مَفْتُوحٍ لَيْسَ عَلَيْهِ سِدَادٌ بِعِصَابَةٍ فَإِنَّهُ نَجِسٌ. 16 وَكُلُّ مَنْ مَسَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ قَتِيلًا بِالسَّيْفِ أَوْ مَيْتًا أَوْ عَظْمَ إِنْسَانٍ أَوْ قَبْرًا، يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. 17 فَيَأْخُذُونَ لِلنَّجِسِ مِنْ غُبَارِ حَرِيقِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ مَاءً حَيًّا فِي إِنَاءٍ. 18 وَيَأْخُذُ رَجُلٌ طَاهِرٌ زُوفَا وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ وَيَنْضِحُهُ عَلَى الْخَيْمَةِ، وَعَلَى جَمِيعِ الأَمْتِعَةِ وَعَلَى الأَنْفُسِ الَّذِينَ كَانُوا هُنَاكَ، وَعَلَى الَّذِي مَسَّ الْعَظْمَ أَوِ الْقَتِيلَ أَوِ الْمَيْتَ أَوِ الْقَبْرَ. 19 يَنْضِحُ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجِسِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالْيَوْمِ السَّابعِ. وَيُطَهِّرُهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ، فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ بِمَاءٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا فِي الْمَسَاءِ. 20 وَأَمَّا الإِنْسَانُ الَّذِي يَتَنَجَّسُ وَلاَ يَتَطَهَّرُ، فَتُبَادُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ لأَنَّهُ نَجَّسَ مَقْدِسَ الرَّبِّ. مَاءُ النَّجَاسَةِ لَمْ يُرَشَّ عَلَيْهِ. إِنَّهُ نَجِسٌ. 21 فَتَكُونُ لَهُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً. وَالَّذِي رَشَّ مَاءَ النَّجَاسَةِ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ، وَالَّذِي مَسَّ مَاءَ النَّجَاسَةِ يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 22 وَكُلُّ مَا مَسَّهُ النَّجِسُ يَتَنَجَّسُ، وَالنَّفْسُ الَّتِي تَمَسُّ تَكُونُ نَجِسَةً إِلَى الْمَسَاءِ». يتلخص طقس التطهير بهذه المياه في الآتي: أولًا: "إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسًا سبعة أيام" [14]. قبل أن يتحدث عن طريقة التطهير أراد أولًا أن يبرز خطورة الموقف، ذلك كالجراح الذي قبل أن يمد يده بالمشرط في جسم المريض يكشف له أولًا الفساد الذي دبّ في جسده حتى يتقبل برضا يدّ الطبيب تمتد لتجرحه وتقتطع من جسده شيئًا. إن وجود ميت في خيمة يجعل من دخل الخيمة بإرادته أو بغير إرادته، عن معرفة بوجود ميت أو عدم معرفة، وأيضًا من كان داخل الخيمة يحسب هؤلاء نجسين أسبوعًا كاملًا، حتى إن تمت الوفاة فجأة، ولم يكن لهؤلاء ذنب! الخطيئة بشعة، خاطئة جدًا لا يطيقها الله القدوس لأنها تخالف طبيعته، مهما قدمنا من أعذار! بشاعتها أيضًا تظهر في بقاء هؤلاء نجسين سبعة أيام أي كل أيام غربتهم، علامة العجز عن التطهير فيها بذواتهم. ثانيًا: "وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس" [15]. لا تقف النجاسة عند الناس لكنها تمتد إلى الخليقة الجامدة، فالإناء المفتوح يُحسب نجسًا. لعله أراد أن يضع تحفظًا صحيحًا، لئلا يكون الميت قد أصيب بمرض معدي فتنتقل العدوى إلى الذين حوله خلال الآنية التي استعملها قبيل موته. أما من الناحية الروحيّة فإن هذه الأواني تمثل الحواس مثل العينين والفم... الخ، إن كانت الحواس مفتوحة ليس عليها سدادة الروح القدس الذي يضبطها تكون نجسة، تفسد حياة الإنسان. يليق بالمؤمن أن يجاهد في حفظ حواسه محفوظة بالروح القدس حتى لا تتسرب النجاسة من الأموات بالخطايا إلى نفسه أو فكره أو جسده. ما أحوجنا إلى سدادة الروح القدس التي تحفظ أعماقنا بعيدة عن ميكروبات الخطيئة. لهذا يصرخ النبي قائلًا: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ، لا تمل قلبي إلى الشر". يقول القديس يوحنا سابا: [رتب حواسك أيها الأخ، واحذر لها، إذ منها يدخل موت الإنسان الداخلي. احذر بهذه الحراسة، وانظر إلى ما قاله القدِّيس أنطونيوس: إن كثيرين عملوا أعمالًا عظيمة، لكن لأنهم لم يعملوا هذه الأعمال بإفراز لم يدركوا طريق الله، وذلك الإيمان الطاهر لم يصلوا]. ثالثًا: بعد أن أظهر بشاعة الخطيئة لمن يدخل الخيمة وبها ميت ومن بداخلها، وللأواني المفتوحة فيها، بدأ يوضح أنها تتسرب إلينا ليس فقط خلال الذين يموتون داخل الخيمة، لكنها تنتقل خلال الإنسان الذي يقتل بالسيف في الصحراء، أو خلال الميت في العراء، أو العظام أو حتى مجرد لمس القبر (ع 16). الذي يموت داخل الخيمة غالبًا ما يكون ذلك بسبب تسلل مرض إلى جسده أو بسبب الشيخوخة، إنها حالة من تتسلل إليه الخطيئة وتهاجمه سريًا في قلبه حتى تقتله، أو حالة الضعف البشري والشيخوخة الروحيّة ثمرة الإهمال والفتور الروحي. أما الذي يقتل بالسيف في الصحراء، فهو من تهاجمه الخطيّة بكل عنفها في لحظات فتسقطه قتيلًا وهو في حيويته ونشاطه! أما العظام فتشير إلى حالة النفس التي عاشت زمانًا طويلًا في موت الخطيئة فصارت عظامًا يابسة مبعثرة في العراء أو مدفونة في قبر، ليس من يهتم بها بل يريد الناس الخلاص منها. هكذا يصوِّر لنا هذا الأصحاح المرض الروحي المزمن والقاتل للنفس، مقدمًا له العلاج. رابعًا: أما العلاج فهو: "يأخذون للنجس من غبار حريق ذبيحة الخطيّة ويجعل عليه ماءً حيًا في إناء" [17]. هذا هو عمل الكنيسة إنها تأخذ ذبيحة الصليب لتقدمها تطهيرًا للنجسين خلال المياه الحيّة في إناء (جرن المعموديّة). يقول القدِّيس يوستين: [يجب أن نسرع في معرفة أي طريق هو لمغفرة الخطايا ورجاء ميراث الخيرات الموعود بها، فإنه لا يوجد سوى هذا الطريق: أن تتعرف على هذا المسيح، وتغتسل في الينبوع (المعموديّة) الذي تحدث عنه إشعياء لغفران الخطايا، وهكذا تبتدئ أن تعيش بالقداسة]. "ويأخذ رجل طاهر زوفا ويغمسها في الماء وينضحه على الخيمة وعلى جميع الأمتعة وعلى الأنفس الذين كانوا هناك وعلى الذي مسّ العظم أو القتيل أو الميت أو القبر، ينضح الطاهر على النجس في اليوم الثالث واليوم السابع" [18، 19]. من هو هذا الطاهر إلاَّ السيد المسيح نفسه الذي يعمل بطريقة غير منظورة في المعموديّة، هو الذي يعمد بيد الكاهن. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يعمد هو ابن الله الوحيد الجنس وليس إنسان (كاهن)]، [إذا ما رأيت جرن المعموديّة ويدّ الكاهن تلمس رأسك لا تفكر في الماء مجردًا ولا أن يدّ الأسقف فوق رأسك، فإنه ليس إنسان هو الذي يفعل ذلك بل نعمة الروح التي تقدس طبيعة المياه وتلمس رأسك مع يد الكاهن...]. أما نضح الماء فإشارة إلى المعموديّة التي تتمتع بها الأمم، كما جاء في إشعياء النبي: "هكذا ينضح أممًا كثيرين، من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا ما لم يُخبروا به وما لم يسمعوه فهموه" (إش 52: 15)، إذ تمتعوا بسرّ الميلاد الجديد. ويقول الرسول بولس: "لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِق فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عب 10: 22). وكأن المعموديّة تدخل إلى الأعماق الداخليّة لتغسل الضمير الشرير كما تقدس الجسد أيضًا. هذا ما أكدته الشريعة التي بين أيدينا فإن الرجل الطاهر الذي يسميه الرسول: "كاهن عظيم على بيت الله" (عب 10: 21)، ينضح المياه المطهرة على الخيمة أي على الجسد، وعلى جميع الأمتعة (ع 18)، أي بجميع طاقاته وغرائزه وعواطفه وعلى الأنفس الذين كانوا هناك، فيمتد أثرها إلى النفوس الخفيّة في الأجساد. وكما يقول العلامة ترتليان: [حقًا الجسد يغتسل لكي تتطهر النفس. الجسد يُدْهَن لكي تتقدس النفس. الجسد يُرْشَم بعلامة (الصليب) لكي تتقوى النفس. الجسد يُظَلَّل بوضع الأيدي لكي تستنير النفس بالروح (القدس)!]. ويتحدَّث القديس كبريانوس مُعَلِّقًا على هذه الشريعة مُوَضِّحًا أن نَضْح المياه المقدسة إنما يعني الخلاص، أي يدخل الإنسانالله في طريق الخلاص، قائلًا: [من هنا يظهر أن نضح المياه يقف على قدم المساواة مع غسل الخلاص، الأمر الذي يتم في الكنيسة حيث الإيمان الذي يتمتع الإنسان به والذي يخدمه بطريقة سليمة ويتكمل بعظمة الرب والحق]. أخيرًا، يؤكد أنه لا تمتع بالتطهير في اليوم السابع ما لم يتطهر الإنسان في اليوم الثالث أي يتحد مع السيد المسيح القائم من الأموات. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163616 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() القديس يوحنا سابا [رتب حواسك أيها الأخ، واحذر لها، إذ منها يدخل موت الإنسان الداخلي. احذر بهذه الحراسة، وانظر إلى ما قاله القدِّيس أنطونيوس إن كثيرين عملوا أعمالًا عظيمة، لكن لأنهم لم يعملوا هذه الأعمال بإفراز لم يدركوا طريق الله، وذلك الإيمان الطاهر لم يصلوا]. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163617 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() القدِّيس يوستين [يجب أن نسرع في معرفة أي طريق هو لمغفرة الخطايا ورجاء ميراث الخيرات الموعود بها، فإنه لا يوجد سوى هذا الطريق: أن تتعرف على هذا المسيح، وتغتسل في الينبوع (المعموديّة) الذي تحدث عنه إشعياء لغفران الخطايا، وهكذا تبتدئ أن تعيش بالقداسة]. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163618 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() يقول العلامة ترتليان [حقًا الجسد يغتسل لكي تتطهر النفس. الجسد يُدْهَن لكي تتقدس النفس. الجسد يُرْشَم بعلامة (الصليب) لكي تتقوى النفس. الجسد يُظَلَّل بوضع الأيدي لكي تستنير النفس بالروح (القدس)!]. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163619 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() القديس كبريانوس مُعَلِّقًا على طقس التطهير مُوَضِّحًا أن نَضْح المياه المقدسة إنما يعني الخلاص، أي يدخل الإنسانالله في طريق الخلاص، قائلًا: [من هنا يظهر أن نضح المياه يقف على قدم المساواة مع غسل الخلاص، الأمر الذي يتم في الكنيسة حيث الإيمان الذي يتمتع الإنسان به والذي يخدمه بطريقة سليمة ويتكمل بعظمة الرب والحق]. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 163620 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() ماء مريبة قدم الرب شريعة التطهير لمن مسّ ميتًا أو عظامًا أو قبرًا، ثم عاد يحدثنا عن موت مريم وموت هرون، ولعله بهذا أراد أن يحذِّر الشعب لئلا بسبب محبتهم لمريم وهرون وتقديرهم لهما يلمسان جثمانهما أو قبرهما دون أن يتطهرا في اليوم الثالث واليوم السابع. كما تحدث عن ماء مريبة ليكشف عن ضعفات الإنسان ليس على مستوى الشعب فحسب بل وعلى مستوى موسى العظيم في الأنبياء وهرون رئيس الكهنة. وقد شمل هذا الأصحاح: موت مريم: 1 وَأَتَى بَنُو إِسْرَائِيلَ، الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا، إِلَى بَرِّيَّةِ صِينَ فِي الشَّهْرِ الأَوَّلِ. وَأَقَامَ الشَّعْبُ فِي قَادَشَ. وَمَاتَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ. إذ جاء الشعب إلى بريّة صين أي بريّة "التجربة" وأقاموا في قادش أو الموضع المقدس يقول الكتاب: "وماتت هناك مريم ودفنت هناك" [1]. هذا هو كل ما سجله الكتاب المقدس عن نهاية حياة مريم النبيّة والمرنمة، قائدة الشعب في التسبيح (خر 15)، إنها ماتت هناك، ودفنت هناك. حقًا لقد ماتت في بريّة صين حيث كان موتها بالنسبة للشعب تجربة قاسية ومُرَّة، فقد تعلقت نسوة كثيرات بها، لكنها ماتت في قادش، أي في الموضع المقدس لتستريح من جهادها وأتعابها خلال الدخول إلى المقادس الإلهيّة. لم يسجل لنا الكتاب المقدس شيئًا عن مشاعر موسى النبي نحو مفارقة أخته له، هذه التي رافقته كل هذه الرحلة، خاصة وأنه بعد فترة قليلة يخلع موسى بيديه ثياب الكهنوت عن أخيه هرون على جبل هور ليلبسها لابنه ألِعازار ويموت هرون هناك. وأيضًا لم يسجل لنا الكتاب شيئًا عن مشاعره نحو رفيقه في الخدمة واحتماله تذمرات الشعب ضدهما. كان الشيخ الوقور موسى النبي يرجو قيامة الراقدين لهذا لم يضطرب لموت أخته وأخيه بل بالحري كان يحزن ويئن داخليًا ويسقط على وجهه كلما تذمر الشعب (ع 6) وتعرض لغضب الله وتأديباته. إنه لا يحزن على فراق الجسد بل بالحري يحترق مع كل نفس تتعرض للموت بحرمانها من الله مصدر حياتها. |
||||