وسُئل أيضاً: «كيف يقتني الاتضاعَ»؟ فقال: «بتذكارِ السقطاتِ، وانتظارِ قربِ الموتِ، واتخاذ لِباسٍ حقيرٍ؛ وأن يختارَ موضعاً هادئاً، ويكون له سكونٌ دائمٌ، ولا يُحبُّ ملاقاة الجموع، وليكن غيرَ معروفٍ وغيرَ محسوبٍ، ملازماً أموره بقدرٍ، مبغضاً لقاء الناسِ، والدالة والخلطة، غير محبٍ للأرباح، مانعاً عقله من لومِ أحدٍ، أو الإيقاع بإنسانٍ، فلا يعامل أحداً، ولا يعاشره، بل يكون متوحداً في ذاتِه، منفرداً، ولا يجعل له همًّا بأحدٍ من الخليقةِ غير نفسه، وباقتصار الغُربةِ والمسكنةِ والتصرف بانفرادٍ. فهذه كلها تولِّد الاتضاع، وتطهر القلبَ. والذين قد بلغوا الكمالَ، هذه هي دلائلهم وعلاماتهم، ولو أنهم يُسلَّمون كلَّ يومٍ عشرَ دفوعٍ للحريقِ من أجل محبةِ الناسِ، فلا يشبعون من حبهم».
سؤال: «ما السبب في أنَّ فعلَ الرجاءِ لذيذٌ، وتعبَه خفيفٌ»؟
الجواب: «ذلك لسببِ الاشتياقِ الطبيعي، الذي يستيقظُ في النفسِ، ويسقيها كأسَ الرجاءِ ويُسكرها، ومن تلك الساعةِ، لا يحس ذوو الرجاءِ بتعبٍ أبداً، بل يثبتون غير شاعرين بالضيقات، وفي كلِّ ما جرى في سيرتهم، يظنون كأنهم في الجوِ سائرون بغير أقدامٍ بشريةٍ، ولا تظهر لهم صعوباتُ الطريقِ وخشونتها، فلا يبدو أمامهم أن هناك أوديةً وروابي وتلال، بل حتى الوعر قدامهم يكون سهلاً، والمواضع الحرجة كأرضٍ لينةٍ، لأنهم في كلِّ وقتٍ ينظرون إلى حضنِ أبيهم، والأملُ يشير إليهم كمثلِ الإصبع، ويريهم الأشياءَ البعيدةَ غير المرئيةِ، كما لو كانت قريبةً، ملاحظين بعينِ الإيمانِ الخفيةِ، لأن جميعَ أجزاءِ النفسِ تسخن مثل النارِ بشوقِ الأمورِ العتيدةِ، وإلى هناك يمدون لواحظَ أفكارِهم ويسرعون على البلوغِ. وإذا ما دنوا من عملِ واحدةٍ من الفضائلِ، فإنهم لا يعملونها بالتدريجِ، بل بالتمام مرةً واحدةً، فإنهم في الطريق السلطانية، لا يسيرون مثل باقي الناس، لأنهم اختاروا سبلاً قاطعةً. إنهم أفرادٌ من الجبابرةِ والشجعانِ، أولئك الذين قدروا على السيِر فيها، لأن سعيَهم بالتجبرِ والحرصِ ينتهي، لأن الرجاءَ يُشعلهم مثلَ النارِ، فلا يقللون من سرعةِ جريهم بسبب فرحِهم. ويعرض لهم مثل ما قال إرميا النبي: إني قلتُ لا أعودُ أذكره، ولا أنطق باسمهِ، وصار في قلبي كمثل النارِ المتقدة، وأشعل عظامي. هكذا تكون قلوبُ الذين يَجْرُون برجاءِ اللهِ حتى يدركوا الحياةَ الأبديةِ».