إذ استراح الشعب عاد يشترك مع الوثنيين أو الأمم في عبادتهم للأوثان، فصاروا يعبدون البعليم أي آلهة الشمس، والعشتاروت آلهة القمر؛ كما عبدوا آلهة آرام وعاصمتها دمشق، منها الإله رمون (2 مل 5: 18) إله الرعد والأمطار. وعبدوا آلهة صيدون أي صيدا ومنها البعليم والعشتاروت وإن كان لكل أمة بعلها الخاص وعشتاروتها الخاصة بها؛ وآلهة موآب مثل كموش وبعل فغور؛ وآلهة بني عمون مثل ملكوم أو مولك (لا 18: 21)، وآلهة الفلسطينيين مثل داجون وهو إله السمك وكان تمثاله مركب من وجه إنسان ويدي وجسم سمكة.
بدأوا أولًا بعبادة هذه الآلهة جنبًا إلى جنب مع عبادتهم لله، وكأنها سمة عدم التعصب، لكن سرعان ما تركوا عبادة الله الحيّ حيث الطريق الضيق واكتفوا بالعبادة الوثنية حيث الباب المتسع والطريق السهل. وكان ثمر شرهم أن الله الذي اقتناهم بحبه باعهم للفلسطينيين ولبني عمون [7] حتى يتذوقوا مرارة ما اختاروه، فصاروا في مذلة 18 سنة، وتضايقوا جدًا [9]، وإذ صرخوا إلى الرب عاتبهم على تصرفاتهم الجاحدة ومقابلتهم رعايته وخلاصه لهم من الضيق بالشر... وفي أبوة حازمة قال "لا أعود أخلصكم" [13]، لا ليغلق الباب، وإنما ليؤكد لهم حزمه ويطالبهم بالدخول إلى العمق في حل مشكلتهم. والدليل على ذلك أنهم إذ أزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم وعبدوا الرب "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" [16]. وكأنه لم يحتمل مشقتهم ولا آلامهم. إنه أب مملوء حبًا، لا يستطيع أن يرى دموع أبنائه، فيقول في سفر النشيد: "حوّلي عني عينيك فأنهما قد غلبتاني" (نش 6: 5). فإنه إذ يؤدب بحزم يعود بحبه ليقول: "قد انقلب عليَّ قلبي، اضطرمت مراحمي جميعًا. لا أجري حمو غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9).
عجيب هو الرب في محبته، فهو لا يحتمل توبة إنسان، ولعل أعظم مثل لذلك ما فعله مع آخاب الشرير الذي قتل وورث (1 مل 21: 19)، وقد شهد عنه الكتاب: "لم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشر في عيني الرب" (1 مل 21: 25) لكنه إذ سمع كلام الرب ضده على لسان إيليا النبي وشق ثيابه وجعل مسحًا على جسده، ولم يحتمل الرب هذا المنظر، بل قال لإيليا النبي: "هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي؟ فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه" (1 مل 21: 29).
هكذا إذ رجع الشعب إلى الله لم يتركهم وعندما نزل بنو عمون إلى جلعاد واجتمع بنو إسرائيل في المصفاة [17] كان الله يهيئ لهم مخلصًا هو يفتاح الجلعادي.
"المصفاة" اسم عبري معناه (برج النواطير) دعي مصفاة جلعاد (قض 11: 29)، ورامة المصفاة (يش 13: 26)، وراموث جلعاد (1 مل 4: 13). وهي موضع الرجمة التي أقامها يعقوب وقم لابان شهادة على العهد الذي أقيم بينهم (تك 31: 49). ربما موضعها تل رميث، أو السلط، وكانت من نصيب جاد.