منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 02 - 11 - 2025, 12:53 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,379,349

عَمَلِ الآبِ الَّذي لا يَتَوَقَّفُ عَن مَنْحِ الحَياةِ



عَمَلِ الآبِ الَّذي لا يَتَوَقَّفُ عَن مَنْحِ الحَياةِ


19 فقالَ لَهم يسوع: «الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: لا يَستَطيعُ الِٱبنُ أَن يَفعَلَ شيئًا مِن عندِه، بل لا يَفعَلُ إِلاَّ ما يَرى الآبَ يَفعَلُه. فما فَعَلَه الآب يَفعَلُه الِٱبْنُ على مِثالِه، 20 لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الِٱبنَ ويُريه جَميعَ ما يَفعَل، وسيُرِيه أَعْمالاً أَعظَمَ فتَعجَبون. 21 فكَما أَنَّ الآبَ يُقيمُ الموتى ويُحيِيهِم فكَذٰلِكَ الِٱبنُ يُحيِي مَن يَشاء.22 لأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أَحَدًا، بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلِٱبْن، 23 لِكَي يُكرِمَ الِٱبنَ جَميعُ النَّاس، كما يُكرِمونَ الآب: فمَن لم يُكرِمِ الِٱبن لا يُكرِمِ الآبَ الَّذي أَرسَلَه. 24 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةُ الأَبَدِيَّة، ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء، بلِ ٱنتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة. 25 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: تَأتي ساعةٌ - وقد حَضَرَتِ الآن - فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ٱبنِ الله، والَّذينَ يَسمَعونَه يَحيَوْن.26 فكَما أَنَّ الآبَ له الحَياةُ في ذاتِه، فكذٰلِكَ أَعْطى الِٱبنَ أَن تَكونَ له الحَياةُ في ذاتِه، 27 وأَولاهُ سُلطَةَ إِجْراءِ القَضاء لأَنَّه ٱبنُ الإِنسان. 28 لا تَعجَبوا مِن هٰذا، فتَأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صَوتَه جَميعُ الَّذينَ في القُبور 29 فيَخرُجونَ مِنها، أَمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالحات، فيَقومونَ لِلحَياة، وأَمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئات، فيقومونَ للقضاء.


مُقَدِّمَةٌ



يأتي النَّص الإنْجيلي (يوحنا 5: 19-29) في سياقِ رَدِّ يسوعَ على اليهودِ بعدَ أن شَفَى المُخَلَّعَ يومَ السَّبْتِ (يوحنا 5: 1-18). فبعدَ أن شَفَى يسوعُ مُقْعَدًا في أُورَشَلِيم عندَ «بابِ الغَنَم»، في المَوْقِعِ المَعروفِ اليومَ بِـ«بِرْكَةِ حَسْدَا» أو «كَنِيسَةِ الصَّلاحِيَّة» (يوحنا 5: 1-18)، اتَّهَمَهُ اليهودُ بِتَجاوُزِ الشَّريعةِ. فأوْضَحَ لهم يسوعُ أنَّهُ لا يَعْمَلُ اسْتِقْلالًا عَنِ الآبِ، بَلْ في وَحْدَةٍ تامَّةٍ معه. فَعَمَلُهُ يومَ السَّبْتِ هو اسْتِمْرارٌ لِعَمَلِ الآبِ الَّذي لا يَتَوَقَّفُ عَن مَنْحِ الحَياةِ. وإذا بهِ يَزُفُّ لَنا بُشْرَى عن قِيامَةِ الأَمْواتِ. ومِنْ هُنا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ في وِقائعِ النَّصِّ (يوحنا 5: 24-29) وَتَطْبيقاتِهِ.





أَوَّلًا: وَقائِعُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وتَحْليلُه



19 فقالَ لَهم يسوع: «الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم:

لا يَستَطيعُ الِٱبنُ أَن يَفعَلَ شيئًا مِن عندِه، بل لا يَفعَلُ
إِلاَّ ما يَرى الآبَ يَفعَلُه. فما فَعَلَه الآب يَفعَلُه الِٱبْنُ على مِثالِه،



تُشيرُ عبارةُ "فقالَ لَهم يسوع" إلى سياقِ رَدِّ يسوعَ على اليهودِ بعدَ أن شَفَى المُخَلَّعَ يومَ السَّبْت (يوحنا 5: 1-18). فقدِ اتَّهَمَهُ اليهودُ بتَجاوُزِ الشَّريعة، فَبَيَّنَ لهم يسوعُ أنَّه لا يَعمَلُ اسْتِقْلالًا عَنِ الآبِ، بَلْ في وَحْدَةٍ تامَّةٍ معه. فَعَمَلُهُ يومَ السَّبْت إنَّما هو اسْتِمْرارٌ لِعَمَلِ الآبِ الَّذي لا يَتوقَّفُ عن مَنْحِ الحَياة.



أمّا عبارةُ "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" في الأصلِ اليونانيّ: Ἀμὴν ἀμὴν λέγω ὑμῖν، فهي تَعبيرٌ إعلانِيّ ذو وَزْنٍ نَبَوِيٍّ ولاهوتِيّ؛ إذ إنَّ الكَلِمَةَ الإلهيّة هي كَشفٌ لِذاتِ الله. ويسوعُ لا يَنقُلُ وَحيًا مِنَ الخارِج، بَلْ يَتَكلَّمُ مِنْ جَوْهَرِ الحَقِيقَةِ الإلهيّةِ الَّتي فيه، بِصِفَتِهِ "الكَلِمَة "اللوغوس. ويُورِدُ الإنجيليُّ يوحنّا هذا التَّعبيرَ للتَّأكيدِ على سُلطانِ يسوعَ الإلهيّ الذّاتي. إنَّ تِكرارَ كلمةِ "الحَقّ" (Ἀμὴν ἀμὴν) يَدُلُّ على يَقينٍ مُطلَقٍ وصِدقٍ إلهيٍّ يُعْلِنُهُ المسيحُ بصفته الكَلِمَةَ المُتَجَسِّد، لا كَمُعَلِّمٍ بَشَرِيّ.



وكلمةُ "الحَقَّ الحَقَّ" في اليونانيّة ἀμὴν أمين) هي كلمةٌ ذاتُ أَصْلٍ عِبريّ אָמֵן، وتعني: «حَقًّا، بثَباتٍ، بثِقَةٍ». ويَسْتَخدِمُها يوحنّا مَرَّتَيْن للتَّوكيدِ المُطْلَق، بخلافِ سائرِ الأناجيلِ الّتي تَرِدُ فيها مَرَّةً واحدة. أمّا قولُهُ: «لا يَستَطيعُ الِٱبنُ أَن يَفعَلَ شَيئًا مِن عِندِهِ» فلا يَدُلُّ على عَجْزٍ في الابنِ، بَلْ يُشيرُ إلى وَحدَتِهِ الجَوْهَرِيّةِ مع الآب. فالابنُ لا يَعمَلُ عَمَلًا مُنْفَصِلًا أو مُسْتَقِلًّا، لأنَّ إرادَتَهُ وإرادَةَ الآبِ واحِدَة.



عبارة "لا يَستَطيعُ" في الأصلِ اليوناني: οὐ δύναται، وهو فِعلٌ (δύναμαι) يَدُلُّ على القُدْرَة، لكنَّهُ في اللّاهوتِ اليُوحَنّاويّ يُسْتَخدَمُ لِبَيانِ عَدَمِ الاسْتِقلالِ الإرادِيّ لا النَّقْصِ في القُوَّة.



عبارة "الِٱبنُ" في اليونانيّة : ὁ υἱός، وهو اسمٌ مُعَرَّفٌ بأداةِ التَّعريف، يُشيرُ إلى الابنِ الأزَلِيِّ الوَحيد، لا إلى بُنُوَّةٍ رَمْزيّة.



عبارة "مِن عِندِهِ" في الأصل اليوناني: ἀφ᾽ ἑαυτοῦ، وتعني: "مِن ذاتِهِ" أو "بِمُفْرَدِهِ"، أي مُنْفَصِلًا عن الآب. إذًا، المَقْصودُ ليس عَجْزَ الابنِ، بَلْ نَفْيُ أيِّ فِعْلٍ مُنْفَصِلٍ عن إرادَةِ الآب، مِمّا يُبَيِّنُ الطّاعَةَ البَنَوِيَّةَ الكامِلَةَ، ووَحْدةَ الإرادَةِ الإلهيّةِ بينَ الآبِ والابن. ويَقولُ القدِّيسُ أَثناسيوسُ الكَبِير شارِحًا: "الابنُ لا يَفعَلُ شَيئًا مِن ذاتِهِ لأنَّهُ واحِدٌ في الجَوْهَرِ مع الآب؛ فما يَفعَلُهُ الآبُ هو عَمَلُ الابنِ أيضًا، إذْ لَهُما طَبيعةٌ واحِدَةٌ وقُوَّةٌ واحِدَة". ويُعَلِّقُ أيضًا في مَوْضِعٍ آخر: "ما لا يَستَطيعُ الابنُ أن يَفعَلَهُ مِن ذاتِهِ، إنَّما هو ما لا يَليقُ بِكونِهِ إلهًا واحِدًا مع الآب، لأنَّ فِعْلَهُ هو فِعْلُ الآبِ بعَيْنِهِ".



أمَّا عِبارةُ "بَلْ لا يَفعَلُ إِلّا ما يَرى الآبَ يَفعَلُه" فتَشيرُ إلى أنَّ "الرُّؤيَةَ"» هنا ليست رُؤيَةً حِسِّيَّة، بَلْ رُؤيَةً أزَلِيَّة نَابِعَةً مِنَ المَعرِفَةِ المُتَبادَلَةِ بَينَ الآبِ والابنِ داخلَ الثَّالوثِ الأقدس. وكما قالَ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "الرُّؤيَةُ هنا تَعني المُشارَكَةَ في العَمَلِ الإلهيّ؛ فَالابنُ يَرى لأنَّهُ في الآب، وما يَراهُ يُظهِرُهُ لَنا بالعَمَل". يُظهِرُ المسيحُ للمُؤمِنِ المِثالَ الأسمى للطَّاعَةِ البَنَوِيَّة: فكما أنَّهُ لا يَعمَلُ شَيئًا "مِن ذاتِهِ"، بَلْ ما "يَراهُ" مِنَ الآب، هكذا المُؤمِنُ مَدعوٌّ إلى أن يَتَّحِدَ بِمَشيئَةِ الله، فلا يَسلُكَ حَسَبَ ذاتِهِ، بَلْ حَسَبَ مَشيئَةِ الآبِ السَّماويّ. وهكذا تُصبِحُ عِبارَةُ: "لِتَكُن مَشِيئَتُكَ" (متّى 6: 10) شِعارَ كُلِّ مَن يَتَشَبَّهُ بالابنِ في طاعَتِهِ الكامِلَةِ للآب.



عبارة "يَرى" في الأصلِ اليونانيّ: βλέπῃ — لا تُفيدُ النَّظَرَ الجَسَديّ، بَلْ رُؤيَةَ المُشارَكَةِ والمَعرِفَة. إنَّها رُؤيَةٌ لاهوتيَّة تَعني: "الانكشافَ الدَّائِمَ للآبِ في الابن" داخلَ الثَّالوث. فالرُّؤيَةُ هنا ليست تَعلُّمًا ولا تَقليدًا، بَلْ تَعبيرٌ عن العَلاقَةِ الجَوْهَرِيَّةِ والمُستَمِرَّةِ: فكما أنَّ النُّورَ لا يُفصَلُ عن مَصدَرِهِ، كذلكَ الابنُ لا يَنفَصِلُ عن الآبِ في العَمَلِ الإلهيّ.

عبارة "الآبَ يَفعَلُه" في الأصلِ اليونانيّ: τὸν πατέρα ποιοῦντα — الفِعلُ في صيغَةِ المُضارِعِ المُستَمِرّ، ممّا يَدُلُّ على عَمَلِ اللهِ الدَّائِمِ في الخَلقِ والحَياةِ والخَلاص.



عبار "فما فَعَلَهُ الآبُ يَفعَلُهُ الِٱبنُ على مِثالِهِ" في اليونانيّة: ἃ … ποιῇ — تُشيرُ إلى كُلِّ العَمَلِ الإلهيّ: الخَلق، والإحياء، والدَّينونَة، والخَلاص. فَأعمالُ الآبِ هي عينُها أعمالُ الابن. لا اختِلافَ في الجَوْهَرِ ولا في الغايَة، بَلْ وَحْدَةٌ كامِلَةٌ في القُدرَةِ والمَشيئَة. وتُؤكِّدُ نُصوصٌ أُخرى من الإنجيل أنَّ الابنَ لا يَعمَلُ مُنفَرِدًا (يوحنا 5: 30؛ 8: 28، 42؛ 7: 28؛ 12: 49؛ 14: 10؛ 16: 7-15؛ 17: 4). فليس للآبِ عَمَلٌ يَختَصُّ بِهِ دونَ الابن، بَلْ كُلُّ عَمَلٍ إلهيٍّ مُرتَبِطٌ بعملِ الآخَر؛ ونَشاطُ يسوعَ يُظهِرُ نَشاطَ الآبِ كَشفًا كامِلًا. كما يتكلّمُ يوحنّا عن العَلاقَةِ بَينَ الإيمانِ والحَياةِ الأبدِيَّة: فَالَّذينَ يُؤمِنونَ بالآبِ الَّذي يُرسِلُ ابنَهُ، يَشترِكونَ مُنذُ الآنَ في الحَياةِ الأبدِيَّة، فلا تَعُودُ الدَّينونَةُ الأَخيرَةُ تُخيفُهُم. فقد قالَ يسوع: "مَن آمَنَ بِه لا يُدان" (يوحنا 3: 18). إنَّ سَماعَ كَلِمَةِ المسيح وقَبُولَها، والإيمانَ بالآبِ الَّذي أرسَلَ ابنَهُ، هُما شَرطَا الحَياةِ الأبدِيَّة والنَّجاةِ منَ الدَّينونَة أو القضاء.



إنَّ عِبارَةَ "يَفعَلُهُ الِٱبنُ على مِثالِهِ" تُؤكِّدُ المُساواةَ الكامِلَةَ في العَمَلِ والقُدرَةِ الإلهِيَّة بينَ الآبِ والابن. ويُعَلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفم قائِلًا: "إنَّ يسوعَ لا يَقولُ إنَّهُ يَعمَلُ مِثلَ الآبِ تَشبيهًا، بَلْ إنَّ ما يَعمَلُهُ الآبُ يَعمَلُهُ الابنُ عَينُهُ، لأنَّهُما واحِدانِ في العَمَلِ كما هُما واحِدانِ في الطَّبيعَة".



وتُعتَبَرُ هذه الآيَةُ مِن أقوَى النُّصوصِ في إنجيلِ يوحنّا عن وَحدَةِ الابنِ بالآب؛ فهي تُظهِرُ أنَّ يسوعَ ليس رَسولًا أو نَبِيًّا فَحَسْب، بَلْ الابنَ الأزَلِيَّ الَّذي يَعمَلُ عَمَلَ اللهِ نَفسَهُ. وفيها يَتَجلّى سِرُّ الثَّالوثِ الأقدس: الآبُ مَصدَرُ كُلِّ عَمَل، والابنُ «الكَلِمَةُ» الفاعِلُ في الزَّمَن، والرُّوحُ القُدُسُ يُكَمِّلُ ويُحيي. فما مِن فِعلٍ إلهيّ إلّا ويُشارِكُ فيه الآبُ والابنُ والرُّوحُ القُدُس، معَ تَمييزِ الأقانيمِ ووَحدَةِ الجَوْهَر.



20 لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الِٱبنَ ويُريه جَميعَ ما يَفعَل،

وسيُرِيه أَعْمالاً أَعظَمَ فتَعجَبون.



تُشيرُ عبارةُ ""لِأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الِٱبنَ" في الأصلِ اليونانيّ φιλεῖ (يُحِبّ محبّةً حَميمةً وشخصيّةً بنَوِيّة، بخلاف ἀγαπάω الّتي تَدُلُّ أكثر على مَحبّةِ الإرادةِ والعَطاء) إلى المحبّةِ الأزليّةِ في الثّالوث، أيِ المَحبّةِ الفائِقَةِ والحميمةِ للآبِ لابنِهِ الأزَليّ. إنّها محبّةٌ تنبعُ مِن داخِلِ الثّالوثِ نَفسِهِ، لا مِن عَلاقةِ خَلقٍ أو نِعمة. فالعَمَلُ الإلهيُّ الواحِدُ بَينَ الآبِ والابن ليس ناتِجًا عن أوامِرَ أو خُضوع، بَلْ ثَمَرَةُ مَحبّةٍ داخليّةٍ أزليّة. فالابنُ يَعمَلُ لأنَّه مَحبوبٌ ومولودٌ من الآب، ويَتَلَقّى منهُ كلَّ شَيءٍ دونَ انفِصال. ويُعَلِّقُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ قائِلًا: "يُظهِرُ يسوعُ أنَّ طاعَةَ الابنِ ليست عُبودِيّة، بَلْ مَحبّة؛ لأنَّهُ ما مِن شَيءٍ يُفعَلُ بالضَّرورَةِ بَينَ الآبِ والابن، بَلْ بالمحبّةِ المُتبادَلَةِ الّتي هي سِرُّ الوَحدَةِ في الجَوْهَر".



أمّا عبارةُ "ويُريهِ جَميعَ ما يَفعَلُه" في الأصلِ اليونانيّ δείκνυσιν، فلا تَدُلُّ على تعليمٍ تَدريجيّ، بَلْ على إعلانٍ أزليٍّ مُستَمِرٍّ لِلذّاتِ الإلهيّة، لأنّ الابنَ هو "في حِضنِ الآب" (يوحنا 1: 18)، أي أنَّهُ يَرى كُلَّ ما في الآب لأنَّهُ مِنَ الآبِ وفيهِ؛ وهذه الرُّؤيَةُ هي عَينُ الوَحدَةِ في الطَّبيعَة. ويُبارِكُ القدِّيسُ أوغسطينوس هذا الفَهم قائِلًا:"ما يُريهِ الآبُ للابن، إنّما يُريهِ في ذاتِه؛ لأنّ الآبَ في الابنِ والابنَ في الآب. والرؤيةُ ليست تعليمًا، بَلْ وِلادَةٌ أزليّة".



عبارة "يُريهِ (Δείκνυσιν) "تَدُلُّ على إعلانٍ ذاتِيٍّ دائِم؛ أي أنَّ الآبَ يُظهِرُ للابن كلَّ ما في ذاتِهِ الإلهيّة من قُدرَةٍ وعَمَل، لأنَّ الابنَ شَريكٌ في جَوهرِهِ. فالرُّؤيَةُ هنا ليست تعليمًا خارِجيًّا، بَلْ اشتراكًا جوهريًّا دائمًا في الحياةِ الإلهيّة.



عبارة "جَميعَ" (πάντα) تَشمَل كُلَّ ما يَفعَلُهُ الآب: الخَلق، العِناية، الإحياء، الدَّينونَة، والخَلاص.



أمّا عبارةُ "«أَعْمالًا أَعظَمَ" فَتُشيرُ إلى أعمالٍ تَتَجاوَزُ الشِّفاءَ الجَسديّ الّذي شاهَدَهُ اليهود، أي: إقامةُ الموتى (يوحنا 11: 43-44)، مَنْحُ الحياةِ الأبديّةِ للمؤمنين (يوحنا 5: 24)، الدَّينونَةُ النِّهائيّة (يوحنا 5: 27-29). فَهذه "الأعمالُ الأعظَم: هي عَلاماتُ الحياةِ الجديدةِ والخلاصية؛ وهي أعمالٌ لاهوتيّةٌ خالِصَة لا يَقدِرُ إنسانٌ على صُنعِها، وتَكشِفُ أنَّ الابنَ شَريكٌ في عَمَلِ الآبِ الخَلاصِيّ. ويقولُ القدِّيسُ أثناسيوسُ الكبير: "الأعمالُ الأعظَم هي أن يُعطيَ الابنُ الحياةَ كما للآبِ الحياةُ في ذاتِهِ؛ لأنَّ مَن لهُ الحياةُ في ذاتِهِ لا يمكنُ أن يكونَ مخلوقًا، بَلْ إلهًا حَقًّا".



أمّا عبارةُ "َتَعجَبون" في الأصلِ اليونانيّ θαυμάζητε، فَتَعني: "تَندهِشون" أو "تَذهَلون"، وتُشيرُ إلى دَهشَةِ البشرِ أمامَ عَظمةِ عَمَلِ اللهِ في الابن. إنَّ هذه الآيَةَ تُظهِرُ أنَّ كُلَّ ما يَفعَلُهُ يسوعُ هو ثَمَرَةُ مَحبّةِ الآبِ له. فكما أنَّ مَحبّةَ الآبِ للابنِ هي يَنبوعُ كُلِّ عَمَلٍ خَلاصِيّ، هكذا مَحبّةُ اللهِ لَنا في الابنِ هي يَنبوعُ خَلاصِنا من خِلالِ أعمالِ المَحبّةِ والغُفرانِ والإحياءِ والتَّجديد.



21 فكَما أَنَّ الآبَ يُقيمُ الموتى ويُحيِيهِم فكذلك الِٱبنُ يُحيِي مَن يَشاء.



تُشيرُ عبارةُ "فَكَما أَنَّ الآبَ يُقيمُ المَوتى ويُحيِيهِم" إلى أنَّ يسوعَ يَنسبُ إلى الآبِ عَمَلَ الإحياء باعتباره مَنبعَ الحياةِ ومَبدَأها، أي إنَّ الآبَ هو اليَنبوعُ الأصليُّ للحياةِ في الثّالوث. ويَشمَلُ هذا الإحياءُ نَوعَيْن: إحياءٌ جَسَديّ: أي إقامةُ الموتى كما وردَ في العهدِ القديم. إحياءٌ رُوحيّ: أي مَنْحُ الحياةِ الجديدةِ للإنسانِ بالنعمةِ والإيمان.



كلمة "كما" في الأصلِ اليوناني: ὥσπερ (أداةُ تشبيهٍ قويّة) تُفيدُ مُقارَنَةً تامّة بَينَ الآبِ والابن.



كلمة "يُقيمُ" في الأصل اليوناني: ἐγείρει (يَنهَضُ، يُقيمُ من الموت)، وتُستَخدَمُ في الكتابِ المُقدّس خصوصًا لِقيامةِ الموتى (مرقس 5: 41؛ 1 قورنتس 6: 14).



كلمة "يُحيي" في الأصل اليوناني: ζωοποιεῖ (مَعناها: "يُعطي الحياة" أو "يجعل حيًّا"). ويُستخدَمُ هذا الفعلُ في العهدِ القديم عن الله وحده: "أنا أُميت وأُحيي" (تثنية 32: 39). فإحياءُ الموتى هو علامةُ مجدِ الثّالوثِ وسُلطانِ الحياةِ الأبدية.



أمّا عبارةُ "فَكَذلِكَ الِٱبنُ يُحيي مَن يَشاءُ"، فَتُشيرُ إلى أنَّ الابنَ لا يستمدُّ قُوَّتَهُ من خارِجٍ عنه، بَلْ يمتلكُ في ذاتِهِ سُلطانَ الإحياءِ مِثلَ الآب، لأنَّ لهُ الحياةَ في ذاتِهِ (يوحنا 5: 26). فَإرادَتُهُ في الإحياءِ ليست إرادَةً مُستَقِلّة، بَلْ إرادَةٌ إلهيّةٌ واحدة مع الآب. ويقولُ القدِّيسُ أثناسيوسُ الكبير: "كما أنَّ الآبَ هو مَصدَرُ الحياة، كذلك الابنُ هو الحياةُ عينُها، لا مُتلقّي الحياة. فمَن يُحيي كما يَشاء لا يمكنُ أن يكونَ مخلوقًا، بَلْ هو الخالِقُ نَفسُه". ويُضيفُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "الآبُ يُحيي بالمشيئة، والابنُ يُحيي بالمشيئةِ عينِها. فالمشيئةُ واحدةٌ لأنَّ الطبيعةَ واحدة، والقُدرةُ واحدةٌ لأنَّ الجَوهرَ إلهيٌّ واحد".



كلمة "فَكَذلِكَ" في الأصل اليوناني: οὕτως (مَعناها: "هكذا" أو "بالطريقة عينِها") ولا تُفيدُ تشبيهًا ناقصًا، بَلْ تَماثُلًا كامِلًا في القُدرة.



كلمة "الِٱبنُ" في الأصل اليوناني: ὁ υἱός (مع أداةِ التَّعريف) للدَّلالة على الابنِ الأزليِّ، لا على بُنُوَّةٍ مَجازيّة.



كلمة "يُحيي" ζωοποιεῖ هي نَفسُ الفِعلِ المُستخدَمِ عن الآب، ما يُؤكِّدُ المُساواةَ في العَمَلِ والقُدرة. فالربّ يسوعُ لا يُعطي الحياةَ بعدَ الموتِ الجَسديّ فحسْب، بَلْ يُحيي الإنسانَ الّذي ماتَ بالخطيئة. وكما قال بولسُ الرسول: "إذ كنتم أمواتًا بالذُّنوبِ والخطايا… أَحياكم مع المسيح"(أفسس 2: 1، 5). إنَّ يسوعَ يَدعونا إلى أن نَعيشَ اليومَ كَمَن أُقيموا من الموتِ الروحيّ، وأن نَثِقَ بأنَّ كَلِمَةَ المسيحِ قادرةٌ أن تُقيمَ القَلبَ الميّتَ بالنِّعمة كما أقامَ الأجسادَ في الإنجيل.



عبارة "مَن يَشاءُ" في الأصل اليوناني: οὓς θέλει (مَعناها: "مَن يَشاء" أو "مَن يريد") تُشيرُ إلى سُلطانِ الإرادةِ الإلهيّةِ المُطلَقة، وهو ما لا يُقالُ عن أيِّ مخلوق. يسوعُ هو الطريقُ والحقُّ والحياة (يوحنا 14: 6)، وفيهِ وحدَه تتحقَّقُ القيامةُ الرّوحيّةُ والزّمنيّة. وهكذا يَعلِنُ يسوعُ أنَّهُ يُشارِكُ الآبَ في سُلطانٍ إلهيٍّ فريدٍ: إحياءُ الموتى. وهذه الآيةُ تُعَدُّ من أوضَحِ النُّصوصِ الّتي تُظهِرُ مُساواةَ الابنِ للآب في القُدرةِ على مَنْحِ الحياة، وهو عَمَلٌ خَصَّهُ الكتابُ لله وحدَهُ في العهدِ القديم (تثنية 32: 39؛ 1 صموئيل 2: 6).



22 لأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أَحَدًا، بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلِٱبْن،



تُشيرُ عبارةُ "لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أَحَدًا" إلى أنَّ الآبَ، وهو مَصدرُ كُلِّ سُلطانٍ في الثّالوث، لا يُمارِسُ عملَ الدَّينونَةِ مُباشرةً في الزَّمَن، بَلْ في الِٱبنِ، الَّذي هو "ابنُ الإنسان" (يوحنا 5: 27). لا تُفهَم هذه العبارة بمعنى نَفْيِ سُلطانِ الآبِ على الدَّينونَة، بَلْ في إطارِ التَّدبيرِ الاقتصاديّ للخلاص (οἰκονομία): فالآبُ يَعمَلُ بالابن، والابنُ يُتَمِّمُ إرادَةَ الآبِ في العالم.



كلمة "الآبَ": هو مَنبعُ السُّلطانِ الإلهي، غير أنّهُ لا يُجري الدَّينونَة في التَّاريخ مُباشرةً، بَلْ في الِٱبنِ المُتجسِّد.



عبارة "يَدينُ" في الأصلِ اليونانيّ κρίνει (يَدين، يَحكم، يَفصِل، يُميِّز) ويُشيرُ في اللّاهوتِ الكتابيّ إلى الحُكمِ الإلهيّ الفاصِل بَينَ الخَيرِ والشَّر، والحياةِ والموت. والدَّينونَةُ هنا مُسنَدةٌ إلى الابن لأنَّه شَرِكَ طبيعتَنا البشريّة، فأصبح الحَكَمَ الإلهيَّ والإنسانيَّ معًا. ويقولُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفم: "ليس لأنَّ الآبَ لا يَستطيعُ أن يَدين، بَلْ لِكَي يُكرِمَ الابنَ ويُظهِرَ أنَّهُ واحِدٌ معهُ في الكرامةِ والسُّلطان".



أمّا عبارةُ "بَلْ أَولى القَضاءَ كُلَّهُ لِلِٱبْنِ" فَتُؤكِّد أنَّ الآبَ قَدْ سَلَّمَ الِٱبنَ سُلطانَ الدَّينونَة، لا كَمَنحَةٍ خارجيّة، بَلْ بصفتهِ شريكًا أزليًّا في المجدِ الإلهيّ. فالابنُ، لِكونهِ مُتجسِّدًا، يُصبِح الوسيْطَ الإلهيَّ الوحيد بَينَ اللهِ والناس، وبهِ يتمُّ القضاءُ الإلهيّ.



عبارة "أَولى" في الأصلِ اليونانيّ δέδωκεν (صيغةُ الماضي الكامل)، تُفيد عطاءً دائمًا لا يُسترجَع، أي إنَّ التفويضَ ثابتٌ وغيرُ مُتقلِّب.



عبارة "القَضاءَ كُلَّهُ" تُشيرُ إلى السُّلطانِ الكامل على الحياةِ والموت، والخلاصِ والهلاك، لا إلى جُزءٍ من الحُكم.



عبارة "لِلِٱبْنِ" في الأصلِ اليونانيّ τῷ υἱῷ (بأداةِ التَّعريف) تُحدِّد الابن الأزليّ المتجسِّد، الَّذي تجتمعُ في شخصِهِ اللاَّهوتُ والنّاسوت، وهو قاضي الأحياءِ والأموات كما نُعلِنُ في قانونِ الإيمان: "ويأتي أيضًا بمجدٍ عظيمٍ لِيدينَ الأحياءَ والأموات، الَّذي لا فناءَ لِمُلكِهِ". إنَّ مَنْحَ الآبِ سُلطانَ الدَّينونَة للابن إعلانُ مُساواةٍ، لا تَخلٍّ عن السُّلطان. فالابنُ يَدينُ كسَيِّدٍ إلهيٍّ مُساوٍ للآبِ في القُدرةِ والمجد. ودَينونَتُه ليست انفصالًا عن الآب، بَلْ تجلّيًا لِسُلطانِ الآبِ في الابن، كما أنَّ سُلطانَ الإحياءِ عَمَلٌ مُشتركٌ في الجَوهر. ويقولُ القدِّيسُ أوغسطينوس: "لقد أَولى الآبُ الدَّينونَةَ للابن، لأنَّ الابنَ هو الَّذي تَجسَّد وصارَ منظورًا للبشر. فمِنَ العَدلِ أن يُدينَ الَّذين أبصروا أعمالَه ورفضوا الإيمانَ به". وهكذا، فالمسيحُ الديّانُ هو ذاتُهُ المخلِّص؛ لأنَّ الدَّينونَة ليست انتقامًا، بَلْ كَشفًا للحقِّ واستعلانًا للعدالة الإلهيّة. إنَّ يسوعَ الَّذي يَدينُ هو هو الَّذي أحبَّنا إلى الصليب. ولذا فالدَّينونَةُ ليست رُعبًا للمؤمن، بَلْ تَكمِلةٌ للمحبّة: مَن يَقبل كلمةَ المسيح الآن، يُدانُ بالحقِّ، أي يُبرَّر ويُطهَّر بالنعمة؛ أمَّا مَنْ يرفُضها، فدينونتُهُ قائمة، لأنَّهُ رفضَ النُّور (يوحنا 3: 19). ويقولُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "لقد أُعطي للابنِ أن يَدين، لا لِكي يُهلِكَ، بَلْ لِكي يُظهِرَ أنَّ الَّذين يرفُضونَ النُّور هم الَّذين أدانوا أنفُسَهُم", إنَّ هذه الآيةَ تُظهِرُ بوُضوح أنَّ سُلطانَ الإحياءِ وسُلطانَ القضاء هما وجْهان لِسيادةِ الابنِ الإلهيّة.



23 لِكَي يُكرِمَ الِٱبنَ جَميعُ النَّاس، كما يُكرِمونَ الآب:

فمَن لم يُكرِمِ الِٱبن لا يُكرِمِ الآبَ الَّذي أَرسَلَه.



تُشيرُ عبارةُ "لِكَي يُكرِمَ الِٱبنَ جَميعُ النَّاسِ" إلى تأكيد يسوع أنَّه مُستَحِقٌّ للإكرام الإلهي عَينِه الّذي يُقدَّم للآب، لأنَّ الدَّينونَةَ والإحياءَ والسّلطانَ والمجدَ الإلهي قَد أُعطِيَت له. فالإيمانُ بالابن وتمجيدُهُ هما في الحقيقة تمجيدٌ للهِ نَفسِه. ويقولُ القدِّيسُ أثناسيوسُ الكبير:"مَن يُكرِمُ الابنَ إنّما يُكرِمُ الآبَ فيه، لأنَّ مَجدَ الابنِ هو مَجدُ الآب، إذ لا فَرقَ بَينهما في الجوهرِ ولا في الألوهَة". والإكرامُ الحقيقيّ هو عبادةُ مَحبّةٍ وإيمانٍ وطاعة للمسيح، "الكَلِمَة المتجسِّد".



عبارة "لِكَي" في الأصلِ اليونانيّ ἵνα (أداةُ غاية) تُفيدُ أنّ منحَ الآبِ الدَّينونَةَ للابن يهدِفُ إلى تحقيق هذا القصد الإلهيّ: أي إعلان الابن مَوضوعًا للعبادة والمجد.



عبارة "يُكرِمَ" في الأصلِ اليونانيّ τιμῶσι (يُعطي الكرامة، يُمجِّد، يُوقِّر) وتشير هنا إلى إكرام العبادة (τὶμη λατρευτική)، لا مجرّد احترام بشريّ، أي كرامةٌ لا تليقُ إلّا بالله.



أمّا عبارةُ "كما يُكرِمونَ الآبَ" فتُفيدُ بالمقارنةِ (καθὼς) المساواةَ التامّة في نوع الكرامة، لا مجرّد التشبيه. فالابنُ يُكرَّم بنفسِ الكرامةِ وبنفسِ الطبيعة الّتي بها يُكرَّم الآب. وهي من أقوى نصوص إنجيل يوحنّا في إعلان مساواة الابن للآب في المجد.



فالابنُ هو "صُورةُ اللهِ غيرِ المنظور" (قولسي 1: 15)، و"فيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلءِ اللاهوتِ جَسديًّا" (قولسي 2: 9). لذلك فالعبادةُ الموجَّهة له ليست عبادةَ مخلوق، بل عبادةُ الإلهِ الحقّ. هنا تتألَّق الهوية المسيحية كإيمانٍ ثالوثيّ: فإكرامُ الابن هو إكرامٌ للآب في الروح القدس، لأنَّ العبادةَ الحقيقية هي اشتراكٌ في المحبّةِ الإلهية الثالوثية.



تُؤكّد العبارةُ "فمَن لا يُكرِمِ الِٱبنَ لا يُكرِمِ الآبَ الَّذي أَرسَلَهُ" أنَّ رفضَ الابن هو رفضٌ للهِ نَفسِه. فلا يستطيعُ أحدٌ أن يدّعي معرفةَ الله أو عبادتَه وهو يرفضُ المسيح؛ فالإيمانُ بالآب دونَ الابن إيمانٌ ناقص ومرفوض بحسب لاهوت يوحنّا. ويقولُ القدِّيسُ أوغسطينوس:"مَن يَحتقِرُ الابنَ يَحتقِرُ الآب، لأنَّ الآب لا يُعرَفُ إلّا في الابن؛ ومَن يُكرِمُ الابنَ إنّما يُكرِمُ الآبَ الّذي فيه يَشرُقُ النّورُ نَفسُه".



عبارة "لا يُكرِمِ" في الأصل اليونانيّ ὁ μὴ τιμῶν تُفيدُ نفيًا شامِلًا يَدلُّ على رَفضٍ كُلّيّ للإيمان بالابن.



عبارة "الَّذي أَرسَلَهُ" تُشير إلى العَلاقة التدبيرية بين الآبِ والابن: الآبُ يُرسِل، والابنُ يُعلِن ويُتمّم إرادتَه. وهذه الآيةُ دعوةٌ للمؤمِن بأن يجعلَ المسيحَ مركزَ عبادته وحياته، لأنَّ إكرامَ الآب يمرُّ عبر إكرامِ الابن. فالإيمانُ ليس قَبولَ أفكارٍ عن الله، بل قبولُ وجهِ الله في يسوع المسيح. كما تحملُ الآيةُ تحذيرًا من الإيمانِ الشكليّ الّذي يَذكُرُ الله دونَ السيرِ في طريقِ الابن؛ فمَن لا يُكرمُ الابن عمليًّا في حياتِه، لا يُكرِمُ الآبَ بالحقّ. فالغايةُ هي إعلانُ أنَّ كرامةَ الابن مساويةٌ تمامًا لكرامةِ الآب، لأنَّهما واحدٌ في الجوهر والمجد. ويشرحُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ:"كما أنَّ ضوءَ الشمسِ لا يُفصَلُ عن شُعاعِه، كذلك لا يمكنُ إكرامُ الآبِ دونَ الابن؛ لأنَّ مَن يرى الابنَ يرى الآبَ الّذي أرسله".



24 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي

وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةُ الأَبَدِيَّة، ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء،
بلِ ٱنتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة.



تُشيرُ عبارةُ "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكُم" إلى إعلانٍ إلهيٍّ أكيدٍ لا يَقبَلُ الشكّ؛ فَيسوعُ يتكلّم هنا كواهِبِ الحياة، لا كمُعلِّمٍ بشريٍّ فحسْب.



أمّا عبارةُ "سَمِعَ كَلامي" في الأصلِ اليونانيّ: ὁ ἀκούων τὸν λόγον μου، فلا تعني مُجرَّد السَّماعِ الحسّي، بَلْ الإنصاتَ الإيمانيَّ الطائع الّذي يفتَحُ القلب. فالسَّماعُ هنا يعني القبولَ الدّاخليَّ للكَلِمَةِ الحيَّة، لا الاكتفاءَ بالإصغاء الخارجي. وكلمةُ τὸν λόγον تَدُلُّ على تعليمِ المسيح الّذي هو نفسه «الكَلِمَة» الإلهيّة. وسَماعُ الكَلِمَة هو بدايةُ الإيمان، لأنَّ الكَلِمَةَ الإلهيّة تَخلُق في الإنسان حياةً جديدة. كما قال بولس: "الإيمانُ من السَّماع، والسَّماعُ بِكَلِمَةِ المسيح"(رومة 10: 17).



عبارة "آمَنَ بِمَن أَرسَلَني" تُشيرُ إلى أنَّ الإيمانَ الحقَّ بالآب يمرّ عبر الاعترافِ بالابن. فمَن يَسمعُ الكَلِمَةَ (الابن) ويُؤمِنُ بالآبِ الّذي أرسَلهُ، يَدخُلُ في شركةِ الحياةِ الإلهيّة. ويقولُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "الإيمانُ بالآب لا يُفصَلُ عن الإيمانِ بالابن، لأنَّ الآبَ يُعلَنُ في الابن، والابنَ يُرسِلُ إلينا الحياةَ الّتي مِنَ الآب.".



عبارة "آمَنَ" في الأصلِ اليونانيّ: πιστεύων، تَدُلُّ في لاهوتِ يوحنّا على اتِّحادٍ وجوديّ وثِقَةٍ كامِلة بالله.



أما عبارةُ "فَلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة"، فتُعلِن أنَّ ثَمرةَ السَّماعِ والإيمان هي الحياةُ الأبدية، الّتي لا تعني مجرّد الخلود، بَلْ حضورَ اللهِ في النفس منذ الآن. فمَن يَسمع ويُؤمِن يدخُلُ في حياةِ القيامة قبل القيامة الجسديّة. ويقولُ القدِّيسُ أوغسطينوس: "الحياةُ الأبدية تبدأ في القلبِ الّذي آمن، لأنَّهُ انتقلَ من الموتِ إلى الحياة حين أحبَّ الله".



عبارة "فَلَهُ" في الأصلِ اليونانيّ ἔχει (فعلٌ في المضارعِ المستمرّ) تَدُلُّ على أنّ الحياةَ الأبدية تبدأ الآن، لا كَوعدٍ مُستقبليٍّ فقط.



عبارة "الحَياةُ الأَبَدِيَّة" في الأصل اليونانيّ ζωὴν αἰώνιον تَعني في لاهوتِ يوحنّا شركةً في حياةِ الله نفسِه، أي معرفةَ الله والاتحادَ به (راجع يو 17: 3).



عبارة "ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء" تعني أنَّ مَن قبِلَ كلمةَ المسيح بالإيمان نال التبرير؛ فالدّينونَة رُفِعَت عنه لأنه صار "في المسيح". كما يقول بولس:"فالآن لا حُكمَ على الّذينَ في المسيحِ يسوع" (رومة 8: 1).



كلمة "القَضاء" في الأصل اليونانيّ κρίσις لا تَعني فقط الحكمَ النهائي، بَلْ حالةَ الانفصال عن الله بسبب الخطيئة.



وأمّا عبارةُ "بَلِ ٱنتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة"، فتُشيرُ إلى تحوُّلٍ وجوديّ حاضر الآن: فالإنسانُ بالإيمان ينتقِلُ من موتِ الخطيئة إلى حياةِ الله. ويُسمّي يوحنّا هذا: "القيامة الحاضرة"، أي أنَّ الإيمانَ بالمسيح هو عبورٌ من الظلمة إلى النور قبل القيامة الأخيرة. ويقولُ القدِّيسُ أثناسيوسُ الكبير: "حينما يقبلُ الإنسانُ الكَلِمَة، ينتقِلُ من الفسادِ إلى عدمِ الفساد، لأنَّ الكَلِمَةَ هو الحياة؛ ومَن يتَّحد به يحيا إلى الأبد". هذه الآيةُ تختصرُ إنجيلَ الخلاص في ثلاث كلمات: يَسمع – يُؤمِن – يَحيا. فالإيمانُ ليس وعدًا مستقبليًا بالحياة، بَلْ اختبارُ حياةٍ حاضرةٍ في المسيح تبدأُ الآن وتستمرُّ إلى الأبد.



25 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: تَأتي ساعةٌ - وقد حَضَرَتِ الآن

- فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ٱبنِ الله، والَّذينَ يَسمَعونَه يَحيَوْن.



تُشيرُ عبارةُ "«الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكُم" إلى إعلانٍ إلهيٍّ مُطلَقٍ أكيد لا يَقبَلُ الشكّ. فَيَسوعُ لا يتكلّم هنا كنبيٍّ يَنقُلُ وَحيًا، بل كصاحبِ سلطانٍ على الحياة والموت، بصفته "«ابنَ الله".



أمّا عبارةُ "تَأتي ساعَةٌ – وقد حَضَرَتِ الآن"، فَتُعلِنُ أنَّ "السّاعة"في لاهوتِ يوحنّا ليست مجرّد لحظةٍ زمنيّة، بل زمنُ الخلاص الّذي دشَّنَهُ تجسّدُ كلمةِ الله. ما كان مُنتظَرًا صارَ حاضرًا؛ فَبِحُضورِ المسيح بدأت القيامة والحياة الجديدة في التاريخ. ويقولُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "لم يَقُل إنّها ستأتي فقط، بل إنّها حاضرةٌ الآن، لأنَّ كلمةَ اللهِ الّذي يمنحُ الحياة كان حاضرًا بينهم".



كلمة "ساعَةٌ" في الأصلِ اليونانيّ: ὥρα، وتُشيرُ في إنجيلِ يوحنّا إلى زمنِ الخلاص وإعلانِ مجدِ الابن. لقد أطلقَ الكلمةُ المتجسِّد ساعةَ الخلاص الّتي انتظرها الأنبياء، وهي ساعةُ تحرير البشر من سلطانِ الخطيئة والموت.

عبارة "وقد حَضَرَتِ الآن" في الأصل اليونانيّ: καὶ νῦν ἐστίν، تُؤكِّد أنَّ هذه السّاعة ليست مستقبليّة فقط، بل بدأت فعليًّا بحضور المسيح. فالمؤمنُ يحيا القيامة منذ الآن؛ فحَتّى إن مات بالجسد، فإنّه ينال الحياة (يوحنا 11: 25-26).



وتُشيرُ عبارةُ "فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ٱبنِ الله" إلى أنَّ الكلمةَ الإلهيّة ليست تعليمًا فقط، بل قوّة خالقة تُحيي مَن يقبلها بالإيمان. فهنا "السَّماع" مُرتبطٌ بالإصغاء الإيمانيّ والطاعة الداخليّة. كما أقام يسوعُ لعازر بكلمةٍ خارجةٍ من فمه: "لَعازر، هَلُمَّ خَارِجًا!" (يوحنا 11: 43)، هكذا يقيم الخطأة رُوحيًا بسماع كلمته. ويشرح القدِّيس أوغسطينوس: "الأمواتُ الّذين يَسمعون الآن هم الخطأةُ الّذين يحييهم الإيمان. والّذين يسمعون بإيمان يقومون من موتِ الخطيئة إلى حياةِ البِرّ".



كلمة "الأَمواتُ" في الأصلِ اليونانيّ: οἱ νεκροί، والمقصود بها هنا الأمواتُ روحيًّا: أي الّذين ماتوا بالخطيئة وانفصلوا عن الله. فالكلمةُ الإلهيّة تُعيدُهم إلى الحياة إن سَمِعوا وفَهِموا وقَبِلوا.



كلمة "صَوتَ ابنِ الله" هو النداء الإلهيّ الفعّال الّذي يَهبُ الحياة، لأنَّه كلمةُ الله الحيّة الّتي تخلُق السامع من جديد.



أمّا عبارةُ "والَّذينَ يَسمَعونَهُ يَحيَوْن" فتُظهر أنّ السَّماع الحقيقي يولّد الحياة، لأنَّ كلمةَ المسيح هي «روحٌ وحياة» (يو 6: 63). فالكلمةُ الّتي تُولِّدُ الإيمان هي عينُها الّتي تُولّدُ الحياة في القلب الميِّت.



عبارة "يَحيَوْن" في الأصلِ اليونانيّ: ζήσουσιν (بصيغةِ المستقبل)، تُشيرُ إلى أنَّ الحياةَ الرّوحيّة تبدأ الآن وتستمرّ إلى الأبد. يميّز يوحنّا بين قيامَتَيْن: قيامةٌ روحيّة حاضرة الآن (يوحنا 5: 25): انتقالٌ من موتِ الخطيئة إلى حياةِ النعمة. قيامةٌ جسديّة مستقبليّة (يوحنا 5: 28-29): انتقالٌ نهائيّ إلى الحياة أو الدينونة. فالربّ هنا يتحدّث عن القيامة الأولى، أي القيامة الباطنيّة الرّوحيّة الّتي يعيشها المؤمن منذ الآن، قبل القيامة الجسديّة الّتي سيذكرها لاحقًا.



26 فكَما أَنَّ الآبَ له الحَياةُ في ذاتِه،

فكذٰلِكَ أَعْطى الِٱبنَ أَن تَكونَ له الحَياةُ في ذاتِه،



تُشيرُ عبارةُ "فَكَما أَنَّ الآبَ لَهُ الحَياةُ في ذاتِهِ" إلى أنَّ الآبَ هو مَصدرُ الحياةِ أزَليًّا. فاللهُ الآبُ هو "الحيّ" (خروج 3: 14)، يَملكُ الحياةَ كجَوهرٍ من طبيعتِهِ الإلهيّة، لا كعطيّةٍ من خارِجٍ عنه.



أمّا عبارةُ "الحياةُ في ذاتِهِ" في الأصلِ اليونانيّ ζωὴν ἔχειν ἐν ἑαυτῷ، فتُشير إلى الوجودِ الذاتيّ غيرِ المُعتمِد على آخَر، أي إلى أنَّ الله مَنبعُ الحياة لا مُتلقّيها. فهو العِلّةُ الأولى للحياة، ومبدؤها الأزلي.



وتُعلنُ عبارةُ "فَكَذلِكَ أَعطى الِٱبنَ أَن تَكونَ لَهُ الحَياةُ في ذاتِهِ" أنَّ الابنَ، مثل الآب، يَملكُ الحياةَ في ذاتِهِ؛ لا بصفتهِ إنسانًا فقط، بل باعتباره واحدًا مع الآب في الجوهر الإلهيّ. فكما أنَّ الآبَ يُحيي، كذلك الابنُ يُحيي مَن يَشاء (يوحنا 5: 21). وبما أنَّ المسيحَ لهُ الحياةُ في ذاتِهِ، فهو قادرٌ أن يَمنحَ الحياةَ الأبديّةَ للمؤمنين: "أنا هو القيامةُ والحياة" (يوحنا 11: 25). فالمسيحُ ليس ناقلًا للحياة من خارِجِهِ، بل هو ينبوعُ الحياة، كما قِيل في المزمور:"عِندَكَ يَنبوعُ الحياة" (مزمور 36: 9). ولهذا قال يوحنّا في مقدّمةِ الإنجيل عن "الكَلِمَة" : "فيه كانت الحياة" (يوحنا 1: 4)، والآن يُظهِر أنَّ هذه الحياة قد تجلَّت في المسيح التاريخي، الّذي أظهر سلطانَهُ على الحياة حين أقامَ لعازر من القبر: "يا لعازر، هَلُمَّ خارِجًا!" (يوحنا 11: 43).



ويُوضَعُ لفظُ "أعطى" هنا بِدقّة لاهوتيّة: فهو لا يعني أنَّ الابنَ كان يومًا بلا حياة، ثم نالها لاحقًا، بَلْ يُشير إلى الولادةِ الأزليّةِ للابن من الآب؛ أي إنَّ الآب يُعطي الابنَ من ذاتِ جوهرِهِ الإلهيّ منذ الأزل. فالابنُ حيٌّ من الآب، لا كخَليقَة، بَلْ كابنٍ مولودٍ من جوهرِ الآب. فـ"العطاء" هنا هو اشتراكٌ أزليّ في الحياة الإلهيّة، لا مِنحَةٌ زمنيّة. ويقولُ القدِّيسُ أثناسيوسُ الرَّسوليّ: "كما أنَّ الآبَ هو الحياة، كذلك الابنُ هو الحياة؛ لأنَّ ما للآب هو للابن، ما عدا الأبوة". ويشرحُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "الابنُ لا يَنالُ الحياةَ كَمَن هو ناقص، بَلْ لأنَّ كلَّ ما للآب من طبيعة، للابن أيضًا، كَمَن هو مولودٌ منه". إنَّ هذه الآية تُقدّم تعليمًا محوريًّا في لاهوت يوحنّا: فكما أنَّ الآبَ مَنبعُ الحياة، كذلك الابن مصدرُ الحياة؛ وهذا إعلانٌ واضحٌ لمساواةِ الابنِ للآب في الألوهة. وتحملُ هذه الآيةُ أيضًا رسالةً روحيّةً عميقة: إذ تدعونا إلى التوجّه نحو المسيح باعتباره المصدر الحقيقي للحياة. فمن يتّحد بالمسيح يدخل في حياةِ الله نفسه، لا في حياةٍ زمنيةٍ فانية. فالمسيحُ لا يهبُ الحياة فحسب، بَلْ هو الحياةُ، وحضورُه في النفس يُحييها ويُجدّدُها.



27 وأَولاهُ سُلطَةَ إِجْراءِ القَضاء لأَنَّه ٱبنُ الإِنسان.



تُشيرُ عبارةُ "أَولاهُ سُلطَةَ إِجراءِ القَضاء" إلى أنَّ الآبَ سلَّمَ أو فوَّضَ للابن سُلطانَ الدَّينونَةِ النهائيّة للعالَم. وهذا السُّلطان لا يُفهَم كوظيفةٍ فقط، بَلْ كَإعلانٍ عن مساواة الابن للآب في القدرةِ والسُّلطانِ الإلهي. فالدَّينونَةُ في الكتابِ المقدّس هي من اختصاصِ الله وحده؛ وبالتالي، إِسنادُها للابن هو إعلانٌ صريحٌ لألوهيّته. والمسيحُ هو مِعيارُ الدَّينونَة: فقبولُهُ أو رفضُهُ هو ما يحدِّدُ مصيرَ الإنسان الأبديّ: "مَن لا يُؤمِنْ قد دين" (يوحنا 3: 18).



أمّا عبارةُ "لأَنَّهُ ابنُ الإنسان"، فمع أنَّها تُشيرُ ظاهريًا إلى الطَّبيعةِ البشريّة، إلّا أنّها هنا تحمل معنًى مسيانيًّا ولاهوتيًّا عميقًا. فالمسيحُ يربطُ لقبَهُ هذا بنبوءة دانيال 7: 13-14، حيث يظهر ابنُ الإنسان كشخصٍ سماويٍّ آتٍ على سُحُبِ السماءِ وقد أُعطي سُلطانًا ومجدًا وملكًا أبديًا: "فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا، لتتعبّد له كلُّ الشعوب والأمم والألسنة".



عبارة "ابنُ الإنسان" ليس مجرّد لقبٍ بشريّ، بل لقبٌ سماويّ مَسيانيّ يشيرُ إلى المُمجَّدِ الآتي كديّان في آخر الأزمنة. وبصفته ابنَ الإنسان، أي إلهًا حقًّا وإنسانًا حقًّا، يُصبِحُ المسيحُ الديّانَ العادل الّذي يَعرِفُ نقصَ البشر وضعفَهم، كما يَعرِفُ قلوبَهم وشريعتَهم: هو عادلٌ كُلّيًّا بصفته الله، وهو رحيمٌ كُلّيًّا بصفته إنسانًا. ويقولُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ في هذا السياق: "أُعطي الابنُ الدَّينونَةَ لأنَّه صارَ إنسانًا، لكي يكونَ الحكمُ على البشر بواسطةِ مَن يُشابِهُهم، ومع ذلك هو فوقهم". تحملُ هذه الآية رجاءً ومُحاسَبةً في آنٍ واحد: رجاء، لأنَّ الديّان هو ذاتُهُ الّذي أحبَّنا وبذلَ نفسَهُ عَنّا؛ فهو يحكمُ بالحقّ وبالرّحمة. ومساءلة، لأنَّ معرفتَنا بالمسيح ودعوتَنا للإيمان به تجعلُنا مسؤولين عن حياتنا واختياراتنا. فهل نقبلُ اليوم أن يكونَ المسيحُ ديّانَ قلوبِنا، فنخضَعَ لكلمتِه قبلَ أن نقفَ أمامَ عرشِه في اليوم الأخير؟



28 لا تَعجَبوا مِن هٰذا، فتَأتي ساعةٌ

فيها يَسمَعُ صَوتَه جَميعُ الَّذينَ في القُبور



تُفيدُ عبارةُ "لا تَعجَبوا مِن هذا" دعوةَ يسوع إلى عدم الاستغراب من قدرته على إعطاء الحياة والدَّينونَة، لأنَّ الدليلَ الأسمى على سُلطانه الإلهيّ سيظهر في قيامةِ الموتى بقوّته في اليوم الأخير.



أمّا كلمةُ "ساعة" هنا، فَتُشيرُ إلى الساعة الأخرويّة، ساعةِ الحياةِ الأبديّة والدَّينونَة العامّة في نهاية الأزمنة. فالإنجيليُّ يوحنّا يتحدّث في هذه الآية عن القيامة في اليوم الأخير (دانيال 12: 1-3). والقيامةُ هي حياةٌ مع الله تبدأ منذ الآن في النفس المؤمنة، لكنَّ كمالها لا يتحقّق إلّا في اليوم الأخير. فجوهرُ القيامة يبدأ في الحاضر، لأنَّه اشتراكٌ في الحياة الإلهيّة، وسيُستعلن في ملئه عند المجيء الثاني للمسيح.



وتُشيرُ عبارةُ "فيها يَسمَعُ صَوتَهُ جَميعُ الّذينَ في القُبور" إلى أنَّ يسوعَ يكشفُ عن سُلطانه الإلهي على الموت. فالصوتُ الذي سيُقيمُ الأموات هو صوتُ ابنِ الله، ما يُؤكِّدُ ألوهيّتَه وقدرتَه الخالقة. فبِكلمةٍ واحدةٍ منه يخرجُ الموتى من القبور، كما قال للعازر: "لَعازر، هَلُمَّ خارِجًا!" (يوحنا 11: 43). ويسوعُ هنا لا يتحدّث عن القيامة الروحيّة فحسب، أي قيامة التوبة المذكورة في يوحنا 5: 25، بل عن القيامة الجسديّة الأخيرة لجميع من ماتوا عبر التاريخ. ويُوضِّح القدِّيسُ أوغسطينوس هذا التمييز قائلًا: "القيامةُ الأولى هي قيامةُ القلب من الخطيئة، والثانيةُ قيامةُ الجسد في اليوم الأخير".



وتأتي عبارةُ "جَميعُ الّذينَ في القُبور" لتُشير إلى شمولية القيامة، فهي تشمل الأبرارَ والأشرار، المؤمنين وغير المؤمنين. فلا أحدَ مُستثنى من المثولِ أمام المسيحِ الديّان. ويقولُ القدِّيسُ كيرِلُّسُ الإسكندريّ: "كما أظهر قوّتَهُ في إقامةِ الموتى أثناء حياتِهِ الأرضيّة، سيُظهرُها في اليوم الأخير بإقامةِ الجميع بقوّة صوتِهِ الإلهي". هذه الآيةُ تُوقِظُ فينا وعيَ المصيرِ الأبديّ: فحياتُنا على الأرض ليست النهاية، بل مقدّمةٌ للقاء مع المسيح، الّذي صوتهُ يُعطي الحياة. فطوبى لِمَن يُصغي لصوتهِ الآن، ليقومَ معهُ في المجد لاحقًا.



29 فيَخرُجونَ مِنها، أَمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالحات، فيَقومونَ لِلحَياة، وأَمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئات، فيقومونَ للقضاء.



عبارةُ "فَيَقومونَ لِلحَياة"، فتدلّ على دخولِ الصالحين في الحياة الأبدية في شركةِ الله وملكوته. وهذه الحياة ليست استمرارًا زمانيًّا فحسب، بل هي مجدٌ واتحادٌ بالله. فالإيمانُ هو شرطُ الخلاص: "مَن يُؤمِنْ لَهُ الحياةُ الأبدية" (يوحنا 3: 36). الإيمانُ يخلِّص، أمّا الأعمالُ فَتَشهدُ على صدق الإيمان وفاعليته. ويقولُ القدِّيسُ أثناسيوس الكبير: "القيامةُ للجميع، لكنَّ مجدَ القيامة لا يتمتّع به إلا مَن عاش للمسيح".



وتُشيرُ عبارةُ "عَمِلوا الصَّالحاتِ" إلى أعمالِ المحبّة الّتي يمتدحُها العهدُ الجديد، ومن أبرزها: إطعامُ الجائعين (متّى 10: 42)، إكرامُ الضّيوف (1 بطرس 4: 9)، كساءُ المحتاجين (يعقوب 2: 15-16)، زيارةُ المرضى والاعتناء بهم (لوقا 10: 33-35)، زيارةُ السجناء (متّى 25: 36). فالأعمالُ الصالحة ليست مجرّد فضائل أخلاقية، بل علاماتٌ ملموسة لعملِ النعمة في المؤمن، وبرهانُ محبّته لله وللإخوة.



أمّا عبارةُ "فَيَقومونَ لِلقَضاء"، فتُشيرُ إلى الدَّينونَة والحكم الإلهيّ النهائي على المصير الأبديّ للّذين عاشوا في الشرّ ورفضوا نعمة الله. فالقيامة ليست عطيّة خلاصية تلقائية للجميع؛ إذ يقول يسوع: "مَن لا يؤمِنْ قد دين" (يوحنا 3: 18). وفي يومِ الدينونة، يُفصَل الأبرارُ عن الأشرار. ويُؤكّد بولسُ الرسول هذا الأمر بقوله: "لأَنَّه لا بُدَّ لَنا جميعًا مِن أن يُكشَفَ أمرُنا أمامَ مَحكَمةِ المسيح، لِيَنالَ كُلُّ واحدٍ جزاءَ ما عَمِلَ وهو في الجسد، خيرًا كان أم شرًّا" (2 قورنتس 5: 10).



وتُشيرُ عبارةُ "عَمِلوا السَّيِّئاتِ" إلى ممارسات الشرّ الّتي يذكرها الكتاب، مثل: الفجور والشهوات والسُّكر (1 بطرس 4: 3)، الظلم والخبث والطمع والمكر والفساد (رومة 1: 29). وفي النهاية، يتحقّق ما أعلنَه المسيح: "فَيذهَبُ الأشرارُ إلى العذابِ الأبديّ، والأبرارُ إلى الحياةِ الأبدية" (متّى 25: 46). ختامًا، توضّح هذه الآية نتيجتَين مختلفتَين للقيامة العامّة: من يقومُ مع المسيح اليوم من موتِ الخطيئة، سيقومُ معه للحياة الأبديّة، أمّا من يرفُضُ نور المسيح الآن، فكيف يحتملُ بهاء وجهه في اليوم الأخير؟





ثانيًا: تَطبيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيّ (يوحنا 5: 24-29)



اِنطِلاقًا مِن دِراسَةٍ وَتَحليلٍ لِوَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليِّ (يوحنّا (يوحنا 5: 19-29)، نَستَنتِجُ أَنَّ المَقطَعَ (يوحنّا 5: 24–29) يَتَمَحْوَرُ حَولَ إِثباتِ يُوحَنّا الإِنجيليِّ أَنَّ لِيَسوعَ سُلطانًا إِلهِيًّا عَلى قِيامَةِ الأَمواتِ وَالدَّينونَة. فَهُوَ يُعلِنُ أَنَّ المَسيحَ هُوَ واهِبُ الحَياةِ وَقاضي البَشَرِ في اليَومِ الأَخير. ومن هنا نبحت في مفهوم قيامة الأموات، ثم عَلَى صَعِيدِ الدَّيْنُونَةِ) وأخيرا عَلَى صَعِيدِ ذِكْرَى مُوتَانَا الْمُؤْمِنِينَ



أَوَّلًا: في مَفهومِ قِيامَةِ الأَمواتِ في ضَوءِ يوحنّا 5: 24- 29)



يُمكِنُنا أَنْ نُمَيِّزَ في هٰذا المَقطَعِ بَيْنَ ثَلاثَةِ مَفاهيمَ لِقِيامَةِ الأَموات:



1. المَفهومُ الرَّمزِيُّ لِلقِيامَة



المَفهومُ الرَّمزِيُّ لِلقِيامَة هُوَ اِنْتِصارُ الحَياةِ عَلى المَوت، وَالنُّورِ عَلى الظُّلْمَة، وَالنِّعمَةِ عَلى الخَطيئَة. إِنَّها "ساعَةُ الخَلاص" الَّتي تَتَحَقَّقُ بِالإِصغاءِ لِكَلِمَةِ اللهِ وَقَبولِها بِالإِيمان. وَهٰذِهِ القِيامَةُ تَبدَأُ عِندَما يَلتَقي الإِنسانُ بِاللهِ في كَلِمَةِ الحَقِّ وَيَعبُدُ الآبَ "بِالرّوحِ وَالحَقِّ" (يوحنا 4" 23).



فَالْقِيامَةُ هُنا تَعني تَحَوُّلًا داخِلِيًّا يَنتَصِرُ فيهِ حَياةُ اللهِ عَلى مَوتِ الخَطيئَةِ في قَلبِ الإِنسان.



2. المَفهومُ الإيمانيُّ لِلقِيامَة



المَفهومُ الإيمانيُّ لِلقِيامَة هو الإِيمانُ بِالقِيامَةِ مِن خِلالِ الاِتِّحادِ بِالمَسيح. فَالإِيمانُ بِكَلِمَةِ المَسيحِ يُدخِلُ المُؤمِنَ في قِيامَةِ المَسيح، فَيَختَبِرُ ثِمارَ القِيامَةِ في حَياتِهِ. يَقولُ يَسوع: "تَأتي ساعَةٌ – وَقَد حَضَرَتِ الآن – فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ابنِ الله، وَالَّذِينَ يَسمَعُونَهُ يَحيَون" (يوحنا 5: 25). "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكُم: مَن سَمِعَ كَلامي وَآمَنَ بِمَن أَرسَلَني، فَلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة، وَلا يَمثُلُ لَدَى القَضاء، بَلِ اِنْتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة" (يوحنا 5: 24).



فَالْمُؤمِنُ يُشرِكُهُ الرّوحُ في قِيامَةِ المَسيح، فَيُصبِحُ خَليقَةً جَديدَة: "فَإِذا كانَ أَحَدٌ في المَسيح، فَإِنَّهُ خَلقٌ جَديد" (2 قورنتس 5: 17).



3. المَفهومُ المَسيحانِيُّ لِلقِيامَة



المَفهومُ المَسيحانِيُّ لِلقِيامَة َهُوَ تَحقيقُ وَعدِ المَسيحِ بِالقِيامَةِ الجَسَدِيَّةِ في اليَومِ الأَخير. إِنَّها "ساعَةُ الحَياةِ الأَبَدِيَّة" عِندَ مَجيءِ المَسيحِ الثّانِي، حينَ يَقومُ الجَسَدُ لِيَحيا إِلى الأَبَد: "فَتَأتي ساعَةٌ فيها يَسمَعُ صَوتَهُ جَميعُ الَّذِينَ في القُبور، فَيَخرُجونَ مِنها" (يوحنا 5: 28- 29).



وَبِناءً عَلَيهِ نُفَرِّقُ بَيْنَ: ساعَةِ الخَلاصِ عَلى الأَرض بِالإِيمانِ بِالمَسيح (القِيامَةُ الرّوحِيَّةُ الحاضِرَة)، وَساعَةِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة بَعدَ المَوتِ الجَسَدِيِّ (القِيامَةُ الجَسَدِيَّةُ المُستَقبَلِيَّة) الَّتي وُعِدَ بِها المُؤمِنون: "أَنا القِيامةُ وَالحَياة. مَن آمَنَ بي، وَإِن ماتَ، فَسَيَحْيا" (يوحنا 11: 25). "مَن يُؤمِنْ فَلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 6: 47).



خلاصة القول، إِنَّ الحَياةَ مَعَ اللهِ تَبدَأُ مُنذُ لَحظَةِ سَماعِ كَلِمَةِ اللهِ وَفَهْمِها وَقَبولِها، لأَنَّ قَبولَ الكَلِمَةِ هُوَ قَبولٌ لِلمَسيحِ المُخَلِّص، وَمَن يَقبَلْهُ تَدِبُّ فيهِ الحَياةُ الأَبَدِيَّة. غَيرَ أَنَّ الإِنسانَ ما زالَ يُواجِهُ المَوتَ الجَسَدِيَّ، لَكِنَّهُ أَصبَحَ عُبورًا إِلى الحَياة وَليـسَ نِهايَةً وَفَناءً. فَقَد غَيَّرَ المَسيحُ مَفهومَ المَوت، فَصارَ بابًا لا فَناءً، وَطَريقًا إِلى مِلءَ الحَياةِ في الله. وَيُؤَكِّدُ سِفرُ الحِكمَةِ هٰذِهِ الحَقيقَة قائِلًا: "أَمّا نُفوسُ الأَبرارِ فَهِيَ بِيَدِ الله، فَلا يَمَسُّها أَيُّ عَذاب" (حِكمَة 3: 1).



(٢) عَلَى صَعِيدِ الدَّيْنُونَةِ



اللهُ وَحدَهُ قادِرٌ أَنْ يُعطِيَنا حَياةً بَعدَ المَوتِ؛ هٰذا هو إِيمانُ مَن يَعيشُ إِنجيلَه. فَالَّذي يَسمَعُ كَلامَ اللهِ وَيُؤمِنُ بِهِ، تَحِلُّ فيهِ حَياةُ اللهِ الأَبَدِيَّة. أَمَّا الَّذينَ رَفَضوا المَسيح، فَسَيَقومونَ مِنَ الأَمواتِ أَيضًا، وَلٰكِن لِسَماعِ دَيْنُونَةِ اللهِ، وَلِيُحكَمَ عَلَيهِم بِالبُعدِ الأَبَدِيِّ عَنهُ: "أَمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالِحاتِ فَيَقومونَ لِلحَياة، وَأَمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئاتِ فَيَقومونَ لِلقَضاء" (يوحنا 5: 29).



وَذٰلِكَ يَتَوَقَّفُ، أوَّلًا وَأَساسًا، عَلى الإِيمانِ بِالمَسيحِ أَمْ رَفضِهِ أَو تَجاهُلِهِ خَوفًا مِن تَغييرِ حَياتِهِم وَاتِّباعِهِ. إِذ يَقولُ يسوع: " مَن آمَنَ بِهِ لا يُدان، وَمَن لَمْ يُؤمِنْ بِهِ فَقَد دِينَ مُنذُ الآن، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد. وَإِنَّما الدَّينونَةُ هِيَ أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم، فَفَضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ عَلى النُّور، لِأَنَّ أَعمالَهُم كانَت سَيِّئَة" (يوحنا 3: 18-19). وَهٰكَذا، تَنْقَسِمُ البَشَرِيَّةُ إِلى قِسمَيْن: الَّذينَ يُؤمِنونَ وَيَقبَلونَ المَسيح، فَيَدخُلونَ في نورِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة. الَّذينَ يَرفُضونَ المَسيح وَيُفَضِّلونَ الظَّلامَ (أَيِ الشَّرَّ وَالخَطيئَة) عَلى يَسوعَ، نُورِ العالَم (يوحنا 8: 12).



(3) عَلَى صَعِيدِ ذِكْرَى مُوتَانَا الْمُؤْمِنِينَ



بَدَأَ الاِحْتِفَالُ بِيَوْمِ ذِكْرَى جَمِيعِ الْمَوْتَى الْمُؤْمِنِينَ عامَ ٩٩٨، وَعَمَّمَهُ الْبَابا بُونِيفَاسِيُوس فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ عَشَرَ، كَيْ تُقَدِّمَ الْكَنِيسَةُ الصَّلَوَاتِ وَالْقَرَابِينَ مِنْ أَجْلِ رَاحَةِ نُفُوسِهِم، كَمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: "فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْجُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ قِيَامَتًا، لَكَانَتْ صَلَاتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَوْتَى عَبَثًا" (2 مكابيين 12: 44). وَهُوَ يَوْمٌ تَتَذَكَّرُ فِيهِ الْكَنِيسَةُ جَمِيعَ أَحِبَّائِنَا وَأَصْدِقَائِنَا الَّذِينَ رَحَلُوا عَنْ هٰذَا الْعَالَمِ.



إِنَّنَا فِي هٰذَا الْيَوْمِ، يَخْتَرِقُ فِكْرُنَا وَحُبُّنَا عَتَبَةَ الْمَوْتِ لِلْبَحْثِ عَنْ أُولٰئِكَ الَّذِينَ سَبَقُونَا إِلَى مَا وَرَاءَ هٰذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ إِخْوَتِنَا وَأَهْلِنَا وَأَقَارِبِنَا وَأَصْدِقَائِنَا وَأَحِبَّائِنَا. إِنَّهُ يَوْمٌ يَهُمُّ كُلَّ إِنْسَانٍ أَحَبَّ الَّذِينَ أَحَبُّوهُ فَسَبَقُوهُ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّة. وَهُوَ أَيْضًا يَوْمٌ يَهُمُّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعِيشُ فِي هٰذِهِ الدُّنْيَا وَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ يَوْمًا آخَرَ – يَوْمًا نِهَائِيًّا. إِنَّهُ يَوْمٌ يُذَكِّرُنَا بِالْمَصِيرِ.



فَلْنُحَاوِلْ فِي هٰذَا الْيَوْمِ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى الْمَوْتِ بِنَظْرَةِ الإِيمَان، بِرُؤْيَةِ اللهِ وَتَعَالِيمِهِ: إِنَّ الإِنْسَانَ الْمُؤْمِنَ لا يَفْنَى بِالْمَوْتِ، بَلْ إِنَّ حَيَاتَهُ تَسْتَمِرُّ بِالْقِيَامَةِ. َالْحَيَاةُ أَقْوَى مِنَ الْمَوْتِ؛ هٰذَا هُوَ إِيمَانُنَا بِقُوَّةِ الرَّبِّ الَّذِي تَجَسَّدَ وَقَامَ مِنَ الْمَوْتِ وَغَلَبَ الْمَوْتَ بِمَوْتِهِ.



فَلَوْ لَمْ يَمُتِ الْمَسِيحُ وَيَنْزِلْ إِلَى أَعْمَاقِ الْجَحِيمِ لِيُحَطِّمَ أَبْوَابَهُ بِقِيَامَتِهِ الْمَجِيدَة، لَمَا كَانَ لِذِكْرَى مُوتَانَا الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى وَلَا رَجَاء. وَفِي هٰذَا الصَّدَدِ يَقُولُ الرَّسُولُ يُوحَنَّا:"أَيُّهَا الأَحِبَّاء، نَحْنُ مُنْذُ الآنَ أَبْنَاءُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَا سَنَصِيرُ إِلَيْهِ. لٰكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّنَا نُصْبِحُ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَشْبَاهَهُ، لِأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (1 يوحَنَّا 3: 2).



إِنَّ رُؤْيَةَ اللهِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي هٰذِهِ الدُّنْيَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ لِنَرَاهُ تَعَالَى. هٰذَا هُوَ سِرُّ الْمَوْتِ. فِي ضَوْءِ إِيمَانِنَا الْمَسِيحِيِّ، لَسْنَا أَمَامَ هَاوِيَةٍ، بَلْ أَمَامَ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ سَبَقَنَا إِلَيْهَا مُوَاتُنَا، هُنَاكَ يَمْلُكُ اللهُ. فَاللهُ لَمْ يُعْطِنَا الْحَيَاةَ لِيَنْزِعَهَا مِنَّا، بَلْ لِيُحَوِّلَهَا إِلَى صُورَةٍ أَفْضَلَ. وَقَدْ وَصَفَتِ الْقِدِّيسَةُ تِرِيزَا الطِّفْلِ يُسُوع مَوْتَهَا قَائِلَةً: "لَا أَمُوتُ، بَلْ أَدْخُلُ الْحَيَاةَ، وَأُرَنِّمُ بِمَرَاحِمِ الرَّبِّ".



فَذِكْرَى مُوتَانَا، إِذًا، لَا تَقِفُ عِنْدَ مَا كَانُوا، بَلْ عِنْدَ مَا سَوْفَ يَكُونُونَ: هُمْ وَرَثَةُ الْمَلَكُوت. وَعَلَيْنَا، بِوَاجِبِ الرَّحْمَةِ وَعِرْفَانِ الْجَمِيلِ وَالْعَدْلِ، أَنْ نَرْفَعَ الصَّلَوَاتِ، وَنُقَدِّمَ الْقُدَّاسَاتِ، وَنَعْمَلَ الْحَسَنَاتِ عَنْ نُفُوسِهِم، لِأَنَّهُمْ إِخْوَتُنَا فِي الْمَسِيح، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مِنْ أَقَارِبِنَا وَالْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا.



وَعَلَيْنَا أَيْضًا أَنْ نَذْكُرَهُمْ بِنُورِ اللهِ، وَأَنْ نَحْمِلَهُمْ فِي تَجْرِبَتِنَا الْيَوْمِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ وَالْمَسِيحِيَّة. فَلَا يَكْفِي أَنْ نُقَدِّمَ قُدَّاسًا وَنُصَلِّيَ مِنْ أَجْلِهِم، بَلْ يَجِبُ أَنْ نُحَقِّقَ فِي حَيَاتِنَا ذٰلِكَ الإِيمَانَ الْمَسِيحِيَّ الَّذِي عَاشُوهُ، وَأَنْ نَتْبَعَ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَرَكُوهَا لَنَا فِي الإِنْجِيلِ وَفِي أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَة.
الرَّاحَةَ الأَبَدِيَّةَ أَعْطِهِمْ يَا رَبُّ، وَلْيُضِئْ لَهُمُ النُّورُ الدَّائِمُ.


رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
إِنَّ مَصِيرَنَا اَلأَبَدِيَّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا نَخْتَارُهُ فِي اَلزَّمَنِ
أَنَّ الخَلاصَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى فَيضِ الغِنى المادِّيِّ
الإِيمانُ الَّذي يُريدُهُ يَسوعُ هُوَ الإِيمانُ المُؤَسَّسُ على عَمَلِ الرَّبِّ فينا
يَتَوَقَّفُ نَجاحُ رِسالَةِ الكَنيسَةِ عَلى حُضورِ الرَّبِّ القائِمِ مِن بَيْنِ الأَمْواتِ
الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ مَنْحِ الْحَيَاةِ لِلْجَمِيعِ


الساعة الآن 11:42 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025