منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم يوم أمس, 12:04 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,378,912

صَلاةُ العَشَّار



"وَوَقَفَ العَشَّارُ بَعيدًا لا يُريدُ ولا أَن يَرفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ" (لوقا 18: 13)، وكأنَّه يُعيدُ صَلاةَ عَزْرا الكاتِب: "إِنِّي لَمُسْتَحٍ وَخَجْلانٌ مِنْ أَنْ أَرْفَعَ إِلَيْكَ وَجْهِي، يَا إِلهي، لأَنَّ ذُنوبَنا قَدْ تَكَاثَرَتْ عَلَى رُؤوسِنا، وَتَفاقَمَ إِثْمُنا إِلَى السَّمَوات" (عَزْرا 9: 6). أخذَ يُصلّي بقَلبٍ مُتَواضِعٍ، يَقرَعُ صَدرَه مُنْسَحِقًا قائلاً: "اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ!" مُردِّدًا مزمورَ التوبة: "ارْحَمْني يا اللهُ كَعَظيمِ رَحْمَتِكَ" (مزمور 51: 1). فهو يَعلَم أنَّه أمامَ اللهِ لا أَحَدٌ بارّ، ولا أَحَدٌ يَستطيعُ أنْ يَتَباهى بِنَفْسِهِ، "إِذِ الكُلُّ خَطِئُوا وأَعْوَزَهُم مَجْدُ الله" (رومة 3: 10). ويقول الراهب الدومينيكيّ جان تولييه:" في الحقيقة، أُريدُ أن أَتصرَّفَ مِثلَما فَعَلَ العَشَّار، وأَعيَ على الدَّوامِ فَراغي. هذا هو الطَّريقُ الأَسمى والأَصلحُ الّذي يُمكِنُنا أَنْ نَتَّبِعَه" (العِظة 48 للأَحد الحادي عشر بعد أَحد الثَّالوث الأَقدَس).



تُذكِّرُنا صَلاةُ العَشَّارِ بِمَشهَدِ الجُلْجُثَة، حَيثُ "الجُموعُ الَّتي احتَشَدَت لِتَرَى ذلِكَ المَشهَد، فَلَمَّا رَأَت ما حَدَثَ، رَجَعَت تَقرَعُ صُدورَها" (لوقا 23: 48). رأت الجُموعُ يَسوعَ يَموتُ على الصَّليب، فَعَرَفَت حَقيقتها، وأَخَذَت تَقرَعُ صُدورَها حُزنًا لا على المَسيحِ البارّ فَحَسْب، بل على خَطاياها وآثامِها.



صَلّى العَشَّارُ بِتَواضُعٍ، مُبَيِّنًا ذلكَ في وَقْفَتِه، وقَرْعِ صَدرِه، ومَضمونِ صَلاتِه. ويقولُ القِدّيسُ إيرونيموس: «الكِبرياءُ ضِدُّ التَّواضُع». فالتَّواضُعُ يُساعِدُنا على رُؤيةِ ذواتِنا على حَقيقتها، ويَفتحُنا على نِعمةِ الله ورَحمَتِه، على عَكْسِ الفِرّيسيِّ المُتَكَبِّرِ الَّذي أَغلَقَ نَفْسَه في حُبِّ ذَاتِه دونَ الحاجةِ إلى الله.



لَمْ يَجْرُؤ العَشَّارُ أنْ يَرفَعَ عَينَيهِ إلى السَّماء، إذْ رَأى نَفْسَه خَاطِئًا أمامَ اللهِ القُدّوس، فَأَخَذَ يَقرَعُ صَدرَه حُزنًا على ذُنوبِه طَالِبًا المَغفِرَة.



أ) صَلاةٌ مُتَواضِعَةٌ في وَقْفَتِه



صَلّى العَشَّارُ بتَواضُعٍ، "فَوَقَفَ بَعيدًا" (لوقا 18: 13)، كَخَليقَةٍ خاطِئَةٍ أمامَ اللهِ القُدّوس، طَالِبًا الرَّحمَةَ ومُبتَعِدًا عن حُبِّ الظُّهورِ والزَّهْو. وكما يُعَلِّمُ بولسُ الرَّسولُ: الَّذينَ يَتَّشِحونَ بثَوبِ التَّواضُعِ "يَجلِسونَ في المَكانِ الأَخير" (فيلبي 2: 3-4). ويقول القِدّيس أوغسطينوس: "انَ تَوبِيخُ قَلبِهِ يُبعِدُه عن الله، لكنَّ مَحبَّتَه كانت تُقرِّبُه مِنه". فالعَشَّارُ وقَفَ بَعيدًا، لكنَّ اللهَ اقتَرَبَ مِنه لِيَسمَعَه، كما يُؤكِّدُ المزمور: "الرَّبُّ تَعالى ونَظَرَ إلى المُتَواضِع، أَمّا المُتَكَبِّرُ فيَعرِفُه مِن بَعيد" (مزمور 138: 6).



وبإحساسِ ضَميرِه كانَ بَعيدًا، لكن بتَواضُعِه اقتَرَبَ. وما التَّواضُعُ إِلّا انْفِتاحُ القَلبِ نَحوَ الله، والخُضوعُ لِنِعمتِهِ وكَلِمَتِه المُقَدَّسَة. فاللهُ "يَسكُنُ مَعَ المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرّوح" (أشعيا 57: 15). صَلّى العَشَّارُ بتَواضُعٍ غَيرِ مُتَّكِلٍ على ذاتِه، مُعتَرِفًا أنَّهُ عَبدٌ ضَعيف: "ولَمْ يَجْرُؤْ أَن يَرفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ" (لوقا 18: 13)، لأنَّ ضَميرَهُ كانَ يُخْفِضُه. ولم يُرِدْ أنْ يَكونَ حَكيمًا في عَينَي نَفسِه، كَما يَنصَحُ سِفرُ الأَمثال: "لا تَكُنْ حَكيمًا في عَينَي نَفسِكَ، إِتَّقِ الرَّبَّ وجانِبِ الشَّرّ" (الأمثال 3: 7). ويقول القِدّيس أوغسطينوس أيضًا: "إِنَّ اللهَ لا يُميلُ أُذُنَه إلى الغَنيِّ، بل إلى الفَقيرِ والمِسكين، إلى المُتَواضِعِ الَّذي يَعترِفُ بِخَطاياه، إلى الَّذي يَتَضَرَّعُ لِلحُصولِ على الرَّحمَةِ الإلهيَّة، لا إلى الشَّبعانِ الَّذي يَتَفاخَرُ بِنَفْسِه كَمَن لا يَحتاجُ إلى شَيء" (أحاديث عن المزامير، مزمور 85).



ب) صَلاةٌ مُتَواضِعَةٌ في قَرعِ صَدرِهِ



صَلّى العَشَّارُ وهو يَقرَعُ صَدرَهُ، دَلالةً على شُعورِهِ بِالخَطيئةِ واعترافِهِ بِمَسؤوليّتِهِ عن اختياراتِهِ وأفعَالِهِ. عَرَفَ حَقيقةَ نَفسِهِ، عَرَفَ أنَّهُ خاطِئٌ ولا يَستَحِقُّ شَيئًا، وأنَّهُ لا يَقدِرُ أن يَعيشَ دونَ رَحمةِ الله. فَهُوَ خاطِئٌ أَمامَ قَداسةِ الله، ومُحتاجٌ إلى رَحمَتِهِ وغُفرانِهِ، وَيَعلَمُ أنَّهُ سَيَهلِكُ حَتمًا إِنْ لَمْ يَنَلْ غُفرانًا لِخَطاياهِ. لِذلِكَ عَبَّرَ عن إيمانِهِ بتوبتِهِ وتواضُعِهِ، وَبِإنكارِهِ لِذاتِهِ، وَبِطَلَبِهِ لِرَحمَةِ الله وغُفرانِهِ. يَميلُ الإنسانُ المُتَواضِعُ إلى الاتِّجاهِ نَحوَ الله بِقَلبٍ تائِبٍ مُنسَحِقٍ، كَما جاءَ في سِفرِ المَزامير: "إِنَّما الذَّبيحَةُ للهِ رُوحٌ مُنكَسِر، القَلبُ المُنكَسِرُ والمُنسَحِقُ لا تَزْدَرِهِ يا الله" (مزمور 51: 19).



فَالبَحثُ عَنِ اللهِ هُوَ التِماسُ التَّواضُعِ (صفينا 2: 3)، والمُتَواضِعُ — باللُّغةِ اليونانيَّة πραΰς — يَجعَلُ خُضوعَهُ للهِ صَبُورًا ووَدِيعًا، كَما قالَ يسوع: "تَعلَّموا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ ومُتواضِعُ القَلب" (متى 11: 29).



ومِثلُ صَلاةِ العَشَّارِ المُتَواضِعَة، يَجعَلُ التَّواضُعُ الإنسانَ يَنفتحُ لِنِعمةِ اللهِ ويُمجِّدُه، لأَنَّ "الرَّبَّ يَضَعُ ويَرفَع" (1 صموئيل 2: 7)، و"قَبْلَ المَجْدِ التَّواضُع" (الأمثال 15: 33).



صَلّى العَشَّارُ بِرُوحٍ مُتَواضِعَةٍ، فَبِالرُّغمِ مِن خَطيئتِهِ، تَسامى على الفِرِّيسيِّ الَّذي كانَ يَتَفاخَرُ بِأصوامِهِ ودَفعِ العُشور. تَغَلَّبَ العَشَّارُ على الكِبرياءِ والمَجدِ الباطِلِ بتَواضُعِهِ. فاللهُ يَستَجيبُ لِصاحِبِ القَلبِ المُنسَحِقِ المُتَّكِلِ عَلَيه، لا لِصاحِبِ الاعْتِدادِ والمُكتَفِي بِذاتِهِ. إِنَّهُ يَقرَعُ صَدرَهُ، مُعتَرِفًا بِخَطاياهُ، كَمَن يَكشِفُ مَرضَهُ أمامَ الطَّبيب، ويَسأَلُهُ الشِّفاءَ والرَّحمَة.



شَعَرَ العَشَّارُ أَنَّهُ لا شَيءَ بِسَبَبِ خَطاياه، وشَعَرَ أَنَّ اللهَ وَحدَهُ يَغفِرُ خَطاياه. وَهذَا الشُّعورُ بِالانْسِحاقِ هُوَ الطَّريقُ المَقبولُ لِلحُصولِ على مَراحِمِ الله، إِذ رَبَطَ المَسيحُ التَّوبَةَ بِالتَّواضُع. فَالخاطِئُ شَخصٌ مَدينٌ، يُبرِئُهُ اللهُ مِن دَينِهِ بِالصَّفحِ عَنهُ (العدد 14: 19). ويُؤَكِّدُ المَسيحُ أَنَّ الإِبراءَ مَجَّانيٌّ، كَما قالَ لِسِمعانَ وهُوَ في بَيتِ الفِرِّيسيّ: "كانَ لِمُدايِنٍ مَدينانِ، ولَمْ يَكُنْ بِإِمكانِهِما أَن يُوفِيا دَينَهُما، فَأَعفاهُما جَميعًا (لوقا 7: 42). وهكذا يُصبِحُ قَرعُ صَدرِ العَشَّارِ صَدىً لِصَلاةِ التَّائِبِ الَّذي يَعرِفُ ذاتَهُ وَيَثقُ بِمَحبَّةِ اللهِ وغُفرانِهِ، فيَجِدُ الرَّاحَةَ في رَحمةِ اللهِ الَّذي "يُقَاوِمُ المُستَكبِرِينَ، وأمَّا المُتَواضِعونَ فيُعطيهِم نِعمَة" (يعقوب 4: 6).



ج) صَلاةٌ مُتَواضِعَةٌ في مَضمونِها



ذَهَبَ العَشَّارُ، جابي الضَّرائِب، إلى الهَيكلِ مُدرِكًا خَطيئتَهُ ومُعتَرِفًا بِها أمامَ الله، مُلتمِسًا رَحمَتَه. صَلَّى وهو شاعِرٌ أنَّهُ لا يَستَحِقُّ شَيئًا، لأَنَّ خَطاياهُ هي سَبَبُ عَدمِ استِحقاقِهِ. ولِذلِكَ وَقَفَ لا يَطلُبُ شَيئًا سِوى مَراحِمِ اللهِ قائِلًا: "اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ!" (لوقا 18: 13). ولِهذِهِ الصَّلاةِ البَسيطَةِ والعَميقَةِ غَفَرَ اللهُ لَهُ خَطاياهُ وسامَحَه. ويُعَلِّقُ القِدّيس باسيليوس الكبير قائلاً: "التَّواضُعُ لا يَعني اِنحِطاطَ الفِكرِ، بَل سُمُوَّهُ وَارْتِفاعَهُ مِن خِلالِ اِتِّحادِهِ بِالسَّيِّدِ المَسيحِ المُتَواضِع، فَنَحمِلُ مَعَ الرَّسولِ بولس فِكرَ المَسيح. فَلنَقتَرِبْ مِنَ الرَّبِّ الصَّالِحِ القُدُّوسِ بِمَوقِفِ التَّواضُعِ وَالتَّوبَةِ، عَلى مِثالِ العَشَّارِ، لِيَرحَمَنا نَحنُ الخُطاةَ أيضًا".



الإنسانُ الخاطِئُ الَّذي يَعرِفُ حالَتَهُ لا يَعتَمِدُ على قُواهُ الذّاتِيَّة، بَل يَغتَنِمُ كُلَّ الفُرَصِ المُتاحةِ لِتَوبَتِهِ وَعودَتِهِ عَن غَيِّهِ. ولَم يَكُن لَدَى العَشَّارِ ما يَفتَخِرُ بِهِ سِوى طَلَبِهِ رَحمَةَ الله. فَقَدِ اقتَصَرَت صَلاتُهُ على كَلِماتِ المَزمورِ: "اِرْحَمْني يا اللهُ كَعَظيمِ رَحمَتِكَ" (مزمور 51: 3)، "إِنَّما الذَّبيحَةُ للهِ رُوحٌ مُنكَسِر، القَلبُ المُنكَسِرُ والمُنسَحِقُ لا تَزْدَرِيهِ يا الله" (مزمور 51: 19). اِعتَرَفَ بِضَعفِهِ، فَنالَ المَغفِرَةَ وَالخَلاص. ويُعَلِّقُ يوحنّا السُّلَّميّ قائلاً: "لِتَكُنْ صَلاتُكُم في غايَةِ البَساطَة؛ فَقَد تَمكَّنَت كَلِمَةٌ واحِدَةٌ مِنَ العَشَّارِ مِنِ التَّأثيرِ على رَحمَةِ الله، كَما أَنَّ كَلِمَةً واحِدَةً مُفعَمَةً بِالإيمانِ أَنقَذَتِ اللِّصَّ الصّالِح" (السلّم المقدّس، الفَصل 28؛ راجع لوقا 23: 42). ويُؤكِّدُ البابا فرنسيس قائلاً: "إِنَّ الخُطوَةَ الأُولى في الصَّلاةِ هِيَ أنْ يَكونَ المَرءُ مُتَواضِعًا، فيَتَوجَّهَ إلى الآبِ السَّماويِّ قائلاً: "أَنا خاطِئٌ وَضَعيف؛ أَنا شِريرٌ..."، وَالرَّبُّ سَيُصغي، لأَنَّهُ يُصغي إلى الصَّلاةِ المُتَواضِعَة" (عِظَةُ الأَربِعاءِ، 5 كانون الثاني 2018).



اِعتَمَدَ العَشَّارُ على رَحمَةِ اللهِ طالِبًا الرَّحمَةَ، فَنالَها. وَأَصبَحَت هذِهِ الصَّلاةُ "صَلاةَ القَلب"، الَّتي رَدَّدَها السَّائِحُ الرُّوسيّ في دُروبِ الرَّبِّ قائلاً: "يا يَسوعُ، ابنُ داود، ارحَمني أَنا الخاطِئ". فَقدِ اشتَرَكَت جَميعُ أعضائِهِ في تِلكَ الصَّلاة: رِجلَاهُ وَيَداهُ، قَلبُهُ وَعَقلُهُ، لِسانُهُ وَصَدرُهُ وَعَيناهُ. وَأَصبَحَت صَلاةُ العَشَّارِ نَمُوذَجًا في صَلاةِ الكنيسَة. وفي صَلاةِ الغُروب نَقول:"فَما أَجسَرَ أنْ أَنظُرَ إلى عُلُوِّ السَّماءِ، لَكِنِّي أَتَّكِلُ على غِنى رَحمَتِكَ وَمَحبَّتِكَ لِلبَشَرِيَّة، صارِخًا قائِلاً: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي أَنا الخاطِئُ وَارْحَمني". وكذلك في صَلاةِ النَّوم نُرتِّل: "لكِنِّي أَتَّخِذُ صُورَةَ العَشَّارِ، قارِعًا صَدري قائِلاً: اللَّهُمَّ ارْحَمني أَنا الخاطِئ".



ج) نَتيجَةُ صَلاةِ العَشَّار



ماذا كانتِ النَّتيجة؟ "إِنَّ هذا (العَشَّار) نَزَلَ إِلى بَيتِهِ مَبْرورًا، وأمَّا ذاكَ (الفِرِّيسي) فَلا. فَكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع" (لوقا 18: 14). كيفَ نَتوقَّعُ مِنَ الرَّبِّ أَنْ يُصغي إلى صَلاةِ الفِرِّيسي، إِذا كانَ لا يَقتَرِبُ مِنهُ بِتَواضُعٍ وبِقَلبٍ مُنسَحِقٍ تائِب؟ فالفِرِّيسيّ الغَنِيّ كانَ يَتَغَنَّى بِمَزاياه، أَمّا العَشَّارُ الفَقيرُ فكانَ يَعترِفُ بِخَطاياه. وكما قالَ النَّبيّ هوشَع على لِسانِ الرَّبِّ: "فَإِنِّي أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة"(هوشع 6: 6).



إِنَّ البِرَّ الذّاتِيَّ والإطراءَ الذّاتِيَّ مُدمِّرانِ وخَطيرانِ. كانت صَلاةُ الفِرِّيسي متمركِزَةً على ذاتِه لا على الله، فلم يُسبِّحِ الرَّبَّ ولم يَطلُب رَحمَتَهُ أو مَعونتَه. ومن جانِبٍ آخَرَ، فإنَّ ازدراءَهُ لِلقَريبِ أَغْلَقَ بابَ قَلبِ اللهِ أمامَه، لأَنَّ "إِنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (يعقوب 4: 6). ويُقدِّمُ لنا أَفضَلَ شَرحٍ لِهذِهِ الحَقيقَةِ نَشيدُ العَذراءِ مَريم الَّذي يُمجِّدُ اللهَ القَديرَ القَلْبِيِّ: "كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِهِ، فَشَتَّتَ المُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهِم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروشِ، وَرَفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 51–52).



غادَرَ الفِرِّيسيُ الهَيكلَ مَحرومًا مِنَ الغُفران، أَمّا العَشَّارُ فَذَهَبَ وَقَلبُهُ مُتَجَدِّدٌ بِالرَّحمَةِ الَّتي حَظِيَ بِها.
حَكَمَ العَشَّارُ على نَفْسِهِ، فَدافَعَ اللهُ عن قَضيَّتِهِ. وهنا نَفهَمُ مَغزى ما يُعَلِّمُنا إيّاه الرَّسول بولس: "فَليَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ في عَمَلِهِ هُوَ، فيَكونُ افتِخارُهُ حِينَئِذٍ بِما يَخُصُّهُ مِن أَعمالِهِ فَحَسْبُ، لا بِالنَّظَرِ إِلى أَعمالِ غَيرِهِ" (غلاطية 6: 4). العَشَّارُ اتَّهَمَ نَفسَهُ، فَدافَعَ اللهُ عَنهُ. واسمعْ ما يَقولُ الديّانُ الإلهيّ: "إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِهِ مَبرورًا" (لوقا 18: 14). لِماذا؟ لأَنَّ "كُلَّ مَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِعَ" (لوقا 18: 14). إِنَّ مِعيارَ اللهِ يَختَلِفُ عن مِعيارِ البَشر؛ فَأَحكامُهُ لا تَستَندُ إلى المَظاهِرِ بل إلى نَقاوَةِ القَلبِ.



لقد نالَت صَلاةُ العَشَّارِ المُتَواضِعَةُ لَهُ نِعمةَ الخَلاص، كَما يُؤكِّدُ كِتابُ الأَمثالِ: "ثَوابُ التَّواضُعِ وَمَخافَةِ الرَّبِّ هُوَ الغِنى وَالمَجدُ وَالحَياة" (الأمثال 22: 4). إِنَّ اللهَ يَنظُرُ إلى المُتَواضِعينَ وَيَحنو عَلَيهِم (مزمور 138: 6)، فَيَنالونَ مَغفِرَةَ الخَطايا، لأَنَّ "هَبَةَ اللهِ هي الحَياةُ الأَبديَّةُ في المَسيحِ يَسوع" (رومة 6: 23). وتَتِمُّ هذِهِ المَغفِرَةُ عِندَ التَّوبَةِ الحَقيقيَّةِ القَلبِيَّةِ، كَما تَقولُ الكَلِمَةُ الإلهيَّة: "إِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فَإِنَّهُ أَمينٌ وَبارٌّ، يَغفِرُ لَنا خَطايانا ويُطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثم" (1 يوحنّا 1: 9).



لم يَلتَمِسِ العَشَّارُ المُبرِّرات، بَل أَلقى نَفسَهُ بَينَ ذِراعَيِ الرَّحمَةِ الإلهيَّة، وابتهَلَ بانسِحاقِ القَلبِ طالِبًا الغُفران، فاستُجيبَت صَلاتُه. تَواضُعُهُ وَمَعرِفَتُهُ لِخَطاياهُ جَعَلاهُ يَسبِقُ الفِرِّيسيَّ إلى الغُفرانِ والخَلاصِ والبِرِّ والسَّلام، كَما قالَ الرَّبُّ لِلفِرِّيسيِّين:"إِنَّ العَشَّارينَ وَالزَّوانيَ يَسبِقونَكُم إلى مَلكوتِ الله" (متى 21: 31). لِذلِكَ يَنصَحُ الكِتابُ المُقدَّسُ:"إِزْدَدْ تَواضُعًا كُلَّما ازْدَدْتَ عَظَمَةً، فَتَنالَ حُظوَةً لَدَى الرَّبِّ" (يشوع بن سيراخ 3: 20). "صَلاةُ المُتَواضِعِ تَنفُذُ الغُيومَ، ولا يَهدَأُ حَتّى تَبلُغَ السَّماء» (يشوع بن سيراخ 35: 17). وهَكذا تُعلِّمُنا الكنيسَةُ أَن نُرَدِّدَ صَلاةَ الرَّحمَةِ: "يا رَبّي يَسوعَ المَسيح، اِرحَمني أَنا الخاطِئ"، ونُصلّي في كُلِّ قُدّاسٍ: "يا رَبُّ اِرحَمْ" — كِيريَا إلَيْسُون (Κύριε ἐλέησον. فَتُصبِحُ الصَّلاةُ مِعيارًا لِتَقييمِ حَياتِنا أمامَ الله، عَلى ضَوءِ كَلِمَتِهِ، وَسُؤالًا دائمًا في ضَميرِ كُلِّ مُؤمِن: كيفَ نَقفُ أمامَ الله؟ أَبِرٍّ ذَاتِيٍّ كالفِرِّيسي، أَمْ مُتَواضِعٍ تائِبٍ كالعَشَّار؟
رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
صَلاةُ الإِنْسانِ الْمُتَواضِعِ هِيَ ضَعْفُ اللهِ
مَدْرَسَةُ صَلاةٍ
كَما عَوَّدنا الْمسيحُ، نَراهُ يرفَعُ لأجلِ تِلكَ الجموع، صَلاةَ الغُفرَان
سفر عَزْرا
صَلاةُ السَّجْدَةِ


الساعة الآن 05:29 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025