![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
|
صَلاةُ الفِرِّيسِيّ "فَانْتَصَبَ الفِرِّيسِيُّ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ فَيَقُولُ: اَللَّهُمَّ شُكْرًا لَكَ لأَنِّي لَسْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ: السَّرَّاقِينَ، الظَّالِمِينَ، الفَاسِقِينَ، وَلا مِثْلَ هٰذَا الجَابِي" (لوقا 18: 11). صلّى الفِرِّيسيُّ بِكِبرياءٍ وتعالٍ فجاءت صلاتُه انعكاسًا لِثِقَتِهِ المَزْعُومَةِ بِبِرِّهِ واحتِقارِهِ لِلآخَرين. أ) صَلاةٌ تَثِقُ بِالبِرِّ المَزْعُوم صَلاةُ الفِرِّيسِيِّ تُشبه ظاهريًّا مَزمورَ شُكرٍ، ولكنَّها في جوهرِها محاكاةٌ ساخِرَةٌ له. إذ يقولُ المزمور: "يا رَبُّ، لا أَخْزَ، فَإِنِّي دَعَوْتُكَ، بَلْ لِيَخْزَ الأَشْرَارُ وَلْيَهْبِطُوا إِلَى مَثْوَى الأَمْوَاتِ صَامِتِينَ" (مزمور 30: 18). غير أنَّ الفِرِّيسِيَّ لم يُمجِّدِ اللهَ على أعمالِهِ العَظِيمَة، بَل هنَّأَ نَفسَهُ على إنجازاتِهِ واستِحقاقاتِهِ. شَكَرَ اللهَ بِاللِّسانِ لا بِالقَلبِ، فَلَم يَطلُبْ شَيئًا مِن اللهِ، ولَم يَنتَظِرْ مِنهُ شيئًا، لأنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لا يَحتاجُ إلى اللهِ في شَيءٍ. نَسِيَ أَنَّ الإِنسَانَ يَحيا بالنِّعمةِ لا بالأعمالِ، وأَنَّ الأعمالَ وحدها لا تُخَلِّصُ مَن لَم يَنَل رَحمَةَ الله. ظنَّ الفِرِّيسِيُّ نَفسَهُ بارًّا قِدِّيسًا، لكنَّهُ خَدَعَ نَفسَهُ، كما يقولُ الكِتاب:"مَا مِن أَحَدٍ بارٍّ، وَلا وَاحِدٍ" (رومة 3: 10). "وَيُبَرِّرَ مَن كَانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوعَ" (رومة 3: 26). ويُعلِّقُ القدِّيسُ باسيليوس الكبير قائلًا: "صَلّى الفِرِّيسِيُّ مَعَ نَفسِهِ وَلَيسَ مَعَ اللهِ، لأَنَّ خَطيئَةَ الكِبرياءِ رَدَّتْهُ إِلى ذَاتِهِ". فَقَدْ بَنَى خَلاصَهُ على حِفظِ الشَّريعَةِ حِفظًا صارِمًا، مُتَّكِلًا على بِرِّهِ الذَّاتِيّ، لا على نِعمَةِ الله. لَم يَرَ في نَفسِهِ سِوى الحَسَنات، وَلَم يَرَ في غَيرهِ سِوى السَّيِّئات، ناسيًا قولَ الرَّبِّ في سِفرِ الرُّؤيا: "أَنْتَ تَقُولُ: أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اغْتَنَيْتُ، فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَعْلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بَائِسٌ فَقِيرٌ أَعْمَى عُرْيَانٌ" (رؤيا 3: 17–19). ب) صَلاةٌ خالِيَةٌ مِنَ الطَّلَبِ وَالتَّوَاضُع صَعِدَ الفِرِّيسِيُّ لِيُصَلِّي، وَلَكِنَّهُ لَم يُصَلِّ إِلَى اللهِ، بَل إِلَى نَفسِهِ. هُوَ يَعتَبِرُ نَفسَهُ مِنَ "الأَصِحَّاءِ الَّذينَ لا يَحتاجونَ إِلى طَبيبٍ"، ومِن "الأبرارِ الَّذينَ لا يَحتاجونَ إِلى التَّوبَةِ" (متى 9: 12–13). لذلكَ لَم يَطلُب شَيئًا، فَلَم يَنَل شَيئًا. ويُعلِّقُ البابا فرنسيس قائلًا: "الفِرِّيسِيُّ يُصَلِّي إِلَى اللهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الحَقيقَةِ يُصَلِّي إِلَى نَفسِهِ. يَنظُرُ إِلَى ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُها. فَصَلَاتُهُ كَلامٌ مَوْجَّهٌ إِلَى ذَاتِهِ لِتَمْجِيدِها، كَمَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ: "إِنِّي أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ مَا أَقْتَنِي" (لوقا 18: 12). إِنَّهُ مُتَكَبِّرٌ مُرَائٍ، يَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ لِيَنْظُرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الإِنجِيلِ: "وَجَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِيَنْظُرَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ" (متى 23: 5)". ج) جَوهَرُ خَطِيئَةِ الفِرِّيسِيّ خَطِيئَتُهُ الأساسيَّةُ هي الاِعْتِدادُ بالذَّات. نَسِيَ أَنَّ "كُلَّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلَّ هِبَةٍ كَامِلَةٍ تَنْزِلُ مِنْ عُلُوٍّ، مِنْ عِندِ أَبِي الأَنْوَارِ" (يعقوب 1: 17). وَبَرَّرَ نَفسَهُ أمامَ اللهِ، ناسيًا قَولَ المَزمور: "إِنْ كُنْتَ، يَا رَبُّ، لِلآثَامِ مُرَاقِبًا، فَمَنْ يَبْقَى، يَا سَيِّدُ، قَائِمًا؟"(مزمور 130: 3). وكذلك قَولَ يوحَنّا الرَّسول: “إِذَا قُلْنَا إِنَّنَا بِلا خَطِيئَةٍ، أَضْلَلْنَا أَنْفُسَنَا، وَلَمْ يَكُنِ الحَقُّ فِينَا" (1 يوحنا 1: 8). فَفِي العَلاقَةِ مَعَ الرَّبِّ، لا مَكانَ لِلتَّفاخُرِ أو لِلتَّبَاهِي أو لِلتَّدَعي بِالكَمال، وكَأنَّ لِنا حَقًّا عَلَيهِ. مَن يَتَّكِلُ عَلَى نَفسِهِ يَسقُطُ في الغُرورِ، أَمَّا مَن يَتَّكِلُ عَلَى رَحمَةِ اللهِ فيَرتَفِعُ بِنِعمَتِهِ. د) خَطايا الفِرِّيسِيّ: مَظاهِرُها وبُعدُها الرُّوحيّ تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ أيضًا في اِسْتِهتارِهِ بالآخَرينَ، إذ أدانَ قَريبَهُ العَشَّارَ. قَد قالَ المَسيحُ:"لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فَلا يُحكَمَ عَلَيكُم" (لوقا 6: 37). لَم يَنتفِعِ الفِرِّيسِيُّ مِن صَلاتِهِ، على الرَّغمِ مِن كَثرةِ أَعمالِ البِرِّ الَّتي قامَ بِها؛ فَهُوَ الَّذي يَعتَقِدُ نَفسَهُ بارًّا، غافِلٌ عن الوَصِيَّةِ الأَهَمّ: مَحبَّةِ اللهِ والقَريبِ، كَما جاءَ في إِنجيلِ لوقا: "أَحْبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ مِن كُلِّ قَلبِكَ، وَكُلِّ نَفسِكَ، وَكُلِّ قُوَّتِكَ، وَكُلِّ ذِهنِكَ، وَأَحْبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (لوقا 10: 27). ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم قائلًا: "ما أَشقاكَ، أَيُّها الَّذي تَجرُؤُ على إِصدارِ الأَحكامِ على الأَرضِ بأَسرِها! لِمَ تُهِينُ قَريبَكَ؟ ما حاجتُكَ إلى أَن تَدينَ هذا العَشَّار؟ أَلَم يَكفِكَ ما فَعَلتَهُ بالأَرضِ؟ لقد أَصدَرتَ اتِّهاماتٍ بِحَقِّ جَميعِ البَشَرِ دونَ استِثناء! كَم مِنَ الاِدِّعاءِ في هٰذِهِ الكَلِمات! يا لَهُ مِن بَائِس"! (عِظات في التَّوبَة، العِظَة رقم 2). ويقولُ يَعقوبُ الرَّسولُ: "لَيسَ هُناكَ إِلّا مُشَرِّعٌ واحِدٌ ودَيّانٌ واحِد، وهو القادِرُ على أَن يُخَلِّصَ وَيُهلِك. فمَن أَنتَ لِتَدينَ القَريب؟" (يعقوب 4: 12). ويُضيفُ سِفرُ الأَمثالِ تَحذيرًا واضِحًا: "مَن كَتَمَ مَعاصِيَهُ لَم يَنجَحْ، وَمَنِ اعتَرَفَ بِها وَأَقلَعَ عَنْها يُرحَم" (أمثال 28: 13). هـ) نِسيانُ الفِرِّيسِيّ لِرَحمَةِ الله تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ أَيضًا في نِسيانِهِ ما يُريدُهُ الرَّبُّ مِن الإِنسان، أَلَا وهو الرَّحمَةُ لا الذَّبيحَةُ، كَما جاءَ في الكِتابِ المُقَدَّس: "إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة" (متى 12: 7). وقد قالَ اللهُ عَلى لِسانِ النَّبِيِّ إِشعيا: "أَلَيْسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُهُ هُوَ هٰذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ، وَفَكُّ رُبُطِ النِّيرِ، وَإِطْلاقُ المَسحوقينَ أَحرارًا، وَتَحطِيمُ كُلِّ نِير؟" (إشعيا 58: 6). ويُعلِّقُ القدِّيسُ أَثناسيوس الرَّسوليّ قائلًا: "مَعَ أَنَّ الفِرِّيسِيَّ كانَ يَصُومُ يَومَيْنِ في الأُسبوعِ، إِلّا أَنَّهُ لَم يَستَفِدْ شَيئًا، لأَنَّهُ اِفتَخَرَ بِذٰلِكَ عَلَى العَشَّار". ويُضيفُ القدِّيسُ البابا غريغوريوس الكَبير شارِحًا: "إِنَّهُ اتَّخَذَ كُلَّ الاِحتِياطاتِ المُمكِنَةِ لِحِمايَةِ نَفسِهِ، غَيرَ أَنَّهُ تَرَكَ ثُغرَةً مَفتوحَةً لِلعَدوِّ حينَ أَضافَ عِبارَةَ: "لأَنِّي لَستُ مِثلَ هٰذا العَشَّار". هٰكَذا، ومِن خِلالِ غُرورِهِ، سَمَحَ لِعَدوِّهِ أَن يَدخُلَ مَدينَةَ قَلبِهِ الَّتي كَانَ قَد أَغلَقَها بِإِحكامٍ بِالصَّومِ والصَّدَقَةِ"(Moralia). و) كِبرياءُ الفِرِّيسِيّ وتَبْريرُهُ لِنَفسِهِ تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ أَيضًا في الكِبرياءِ، وفي عَدمِ الاِعتِرافِ بِخَطاياهِ. اكتَفَى بِدَفعِ العُشورِ وَالاِعتِمادِ عَلى أَعمالِهِ، مُتَغافِلًا أَنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى الأَعمالِ فَقَط، بَل إِلى القَلبِ. ويُعلِّقُ البابا غريغوريوس الكَبير قائلًا: "إِنْ كانَت أَفكارُنا مَصدَرَ غُرورٍ أَو كِبرياءٍ في قُلوبِنا، فَهٰذا يَعني أَنَّنا نُجاهِدُ مِن أَجلِ مَجدٍ باطِلٍ، لا مِن أَجلِ مَجدِ الخالِق" (Moralia). فَالفِرِّيسِيُّ يُخطِئُ إلى اللهِ الَّذي يُكرِّمُهُ بِدَفعِ العُشورِ، ولكنَّهُ يُناقِضُ روحَ اللهِ الَّذي يُحِبُّ الجَميعَ ولا يَحتَقِرُ الخُطاةَ. ويُؤكِّدُ البابا فرنسيس قائلًا: "الفِرِّيسِيُّ يُسَرُّ بِمُحافَظَتِهِ عَلى الشَّرائِعِ، وَمَعَ ذٰلِكَ فَمَواقِفُهُ وَكَلِماتُهُ بَعِيدَةٌ عَن أُسلوبِ تَصَرُّفِ اللهِ الَّذي يُحِبُّ جَميعَ البَشَرِ وَلا يَحتَقِرُ الخُطاة". ز) تَبْريرُ النَّفسِ وَنِسيانُ الحاجَةِ إِلى الرَّحمَة أَخيرًا، تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ في أَنَّهُ يُبَرِّرُ نَفسَهُ بِنَفسِهِ. اللهُ لا يُريدُ مِمَّن يَقِفُ أَمامَهُ أَن يُذَكِّرَهُ بِأَعْمالِهِ وَصَومِهِ، فَهُوَ يَعرِفُها، كَما جاءَ في الكِتابِ المُقدَّس: "إِنِّي عَليمٌ بِأَعْمالِكَ وَجَهدِكَ وَثَباتِكَ"(رؤيا 2: 2–3). لَيسَ مِنَ المَطلوبِ أَن يَضعَ الفِرِّيسِيُّ الإِكليلَ عَلى رَأسِهِ، بَل عَلَيهِ بِالحَريّ أَن يَذكُرَ خَطاياَهُ لِيَرحَمَهُ اللهُ، مُردِّدًا مَع داوُدَ النَّبِيّ: "فَإِنِّي عالِمٌ بِمَعاصِيَّ، وَخَطيئَتي أَمامِي فِي كُلِّ حِينٍ"(مزمور 51: 5). فَمَن يَذكُرُ خَطاياَهُ بِتواضُعٍ، يَنساهَا اللهُ بِرَحمَتِهِ. كَما قالَ الأَديبُ العالَميّ وِليم شِكسبير: "الإِنسانُ يَغفِرُ، وَاللهُ يَنسى". ح) صَلاةٌ تَحتَقِرُ الآخَرين لَم يَكتفِ الفِرِّيسِيُّ في صَلاتِهِ بِثِقَتِهِ بِبِرِّهِ المَزعوم، بَل اِحتَقَرَ الآخَرينَ وابتَعَدَ عن العِبادَةِ المُتَواضِعَةِ الدَّاخِلِيَّةِ والاتِّكالِ على الله. صلَّى إلى اللهِ شاكِرًا، لَكِنَّهُ شُكرٌ زائفٌ نابعٌ مِن الإِعجابِ بالذَّاتِ، إذ قال: "لَستُ كَسَائِرِ النَّاسِ، السَّرَّاقينَ، الظَّالمينَ، الفاسِقينَ"(لوقا 18: 11). ولِسانُ حالِهِ يقولُ: أنا لستُ مثلَ العَشَّارِ، فَبِفَضلِ أَعمالي الصَّالِحَةِ لَستُ خاطِئًا كَالبَقيَّة. فهو مُترَفِّعٌ عَنِ النَّاسِ، مُحتَقِرٌ لَهُم، مُتَّهِمٌ العالَمَ كُلَّهُ جَهرًا، حاسِبًا نَفسَهُ أَفضَلَ مِن جَميعِ البَشَرِ، مُتَناسِيًا أَنَّ الشَّريعَةَ تَدعُو إلى التَّواضُعِ وأَلّا يَتَعالَى الإِنسانُ على إِخوَتِهِ (تثنية الاشتراع 17: 7). ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم قائلًا:"لَم يَكفِهِ الاِزدِراءُ بِكُلِّ جِنسِ البَشَرِ، بَل هاجَمَ أَيضًا العَشَّارَ. رُبَّما كانَ خَطَؤُهُ أَقَلَّ لو لَم يَهاجِمْهُ، لَكِن بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ جَرَحَ الحاضِرَ وأَهانَ الغائِبين". صَلّى الفِرِّيسِيُّ بِكِبرياءٍ، إِذ سَخِرَ بِعَبيدِ اللهِ لِيُبَرِّرَ نَفسَهُ. قال:"اللَّهُمَّ، شُكرًا لَكَ لأَنِّي لَستُ كَسَائِرِ النَّاسِ: السَّرَّاقينَ، الظَّالمينَ، الفاسِقينَ" (لوقا 18: 11). ويُعلِّقُ القدِّيسُ كِيرِلُّس الإِسكَندَريّ قائلًا: "ضَعفُ الآخَرينَ لا يَجِبُ أَلّا يَكونَ مَوضِعَ ازدراءٍ؛ لأَنَّ الازدراءَ بِعَبيدِ اللهِ هُوَ ازدراءٌ بِاللهِ نَفسِهِ". فَالَّذي يَحتَقِرُ القَريبَ يَسقُطُ في الاِزدراءِ بِالخالقِ وعدلِهِ. لِذٰلِكَ يَقولُ الكِتابُ:"يَسخَرُ اللهُ مِنَ السَّاخِرينَ، وَلِلمُتَواضِعينَ يُعطِي النِّعمَةَ" (أمثال 3: 34). ويُؤكِّدُ المَزمورُ:"الشَّريرُ بِكِبريائِهِ يُلاحِقُ البائِسَ، فَلْيُؤخَذْ بِالمَكايدِ الَّتي دَبَّرَها"(مزمور 10: 2). ويُضيفُ بطرسُ الرَّسولُ تَحذيرًا قائِلًا: "فاعلَموا أَوَّلَ الأَمرِ أَنَّهُ سَيَأتي في آخِرِ الأَيَّامِ قَومٌ مُستَهزِئونَ كُلَّ الاِستِهزاءِ، تَقودُهُم أَهواؤُهُم" (2 بطرس 3: 3). اِحْتَقَرَ الفِرِّيسِيُّ العَشَّارَ قائِلًا: "اللَّهُمَّ، شُكرًا لَكَ لأَنِّي لَستُ مِثلَ هٰذا الجابي" (لوقا 18: 11). فَقَد صَلّى بِكِبرياءٍ، يَمدَحُ نَفسَهُ عَلَى حِسابِ غَيرِه، مُتَجاهِلًا الكِتابَ الَّذي يَقولُ:"لِيَمدَحْكَ الغَريبُ، لا فَمُكَ، الأَجنَبِيُّ، لا شَفَتاكَ"(أمثال 27: 2). فَوجودُ العَشَّارِ إلى جانِبِهِ مَنَحَهُ فُرصَةً لِلتَّفاخُرِ أَكثَرَ: "أَنَا لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ، أَمَّا هُوَ فَكَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمينَ الفاسقينَ". ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم قائلاً:"كانَ بِوُسعِ العَشَّارِ أَن يُجيبَهُ قائلًا: مَن تَظُنُّ نَفسَكَ؟ أَنتَ الَّذي تُوجِّهُ إِليَّ كَلِماتٍ مُهينَةً، مَاذا تَعرِفُ عَن حَياتي؟ لِمَ تُظهِرُ هٰذا الكِبرياء؟ وَمَن يُثبِتُ صِدقَ أَعمالِكَ الصَّالِحَةِ؟ لِمَ تَمدَحُ نَفسَكَ وَتُمَجِّدُها؟" (عِظات حول التَّوبة، العِظة رقم 2). ي) تَدَيُّنٌ شَكْلِيّ وسُطْحِيّ تَدَيُّنُ الفِرِّيسِيِّ تَدَيُّنٌ ظاهِريٌّ شَكْلِيّ، بَل رُبَّما تَدَيُّنٌ مَريضٌ. إِذ تَحوَّلَت الحياةُ الرُّوحِيَّةُ لَدَيهِ إلى مُمارَساتٍ آليَّةٍ روتينيَّةٍ، غابَ عنها القَلبُ والتَّواضُعُ والحُبُّ. ويُعلِّمُنا القِدِّيسُ دوروثيوس قائلًا: "عِندَما كانَ الفِرِّيسِيُّ يُصَلِّي وَيَشكُرُ اللهَ مِن أَجلِ فَضائِلِهِ لَم يَكذِب، بَل نَطَقَ بِالحَقِّ، وَلَم يُدَنْ مِن أَجلِ هٰذا. وَلٰكِن لَمّا اِلْتَفَتَ نَحوَ العَشَّارِ وَقالَ: "إِنِّي لَستُ مِثلَ هٰذا العَشَّار"، ارتَكَبَ الإِدانَة!" . وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يُعَلِّمُنا الرَّسولُ بولُس: "فَإِن ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيءٌ، مَعَ أَنَّهُ لَيسَ بِشَيءٍ، فَقَد خَدَعَ نَفْسَهُ. فَليَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ فِي عَمَلِهِ هُوَ، فَيَكونَ افتِخارُهُ حِينَئِذٍ بِمَا يَخُصُّهُ مِن أَعمالِهِ فَحَسْبُ، لا بِالنَّظَرِ إِلَى أَعمالِ غَيرِهِ"(غلاطية 6: 3–4). إنَّ الكبرياءَ الَّذي يَسْكُنُ القَلبَ يُحَوِّلُ الدِّينَ إلى صُوَرٍ وَمُمارَساتٍ جافَّةٍ، فَيُصبِحُ الإِنسانُ عابِدًا لِنَفسِهِ لا للهِ، وَتُفقَدُ في حياتِهِ قُوَّةُ النِّعمَةِ الَّتي لا تُعطَى إِلّا لِلمُتَواضِعين. ط) نَتيجَةُ صَلاةِ الفِرِّيسِيّ رَغمَ أَنَّ الفِرِّيسِيَّ يَبدو في نَظرِ نَفسِهِ وأمامَ أَعيُنِ النّاسِ مِن أَوائِلِ المُصَلّينَ والمُبرَّرينَ، إِلّا أَنَّهُ لَم يَتَبَرَّرْ في عَينِ اللهِ. صَعِدَ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يُريدُ الصَّلاة، لَكِنَّهُ لَم يَطلُبْ شَيئًا مِنَ اللهِ، بَل تَحَدَّثَ إِلى نَفسِهِ ومَدَحَها. ونَستَنتِجُ مِمّا سَبَقَ أَنَّ اللهَ يُجازِي المُتَكَبِّرينَ، كَما قالَ يَسوع: "فَكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ." (لوقا 18: 14). فَهُم كَما يَقولُ سِفرُ الحِكمَة:"يَمْضُونَ كَالدُّخانِ، فَماذا نَفَعَتْنَا الكِبْرِيَاء؟ ... إِنَّهُ يَتَبَدَّدُ كَدُخانٍ فِي الهَوَاءِ"(حِكمَة 5: 8–14). هُم الَّذينَ سَخِروا بِالآخَرينَ (لوقا 14: 16)، فَارتِفاعُهُم ما هُوَ إِلّا مُقَدِّمَةٌ لِدَمارِهِم، كَما يَقُولُ صاحِبُ الأَمثال: "قَبْلَ التَّحَطُّمِ الكِبرياء، وَقَبْلَ السُّقوطِ تَرَفُّعُ الرُّوح" (أمثال 16: 18). إِنَّ الرَّبَّ "شَتَّتَ المُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهِم" (لوقا 1: 51). صَلاةٌ مَرفوضَةٌ لِأَنَّهَا خالِيَةٌ مِنَ النِّعمَة. لَم يَكُنِ الفِرِّيسِيُّ سَارِقًا ولا ظالِمًا ولا زَانِيًا، وَلَم يُهمِل أَعمالَ التَّقوى، بَل كَانَ يَصُومُ مَرَّتَينِ فِي الأُسبوعِ، وَيُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ مَا يَقتَنِي. وَمَعَ ذٰلِكَ لَم يَتَقَبَّلِ الرَّبُّ صَلاتَهُ، لأَنَّهُ لَم يَتَجَرَّدْ مِن ذَاتِهِ (فيلبّي 2: 7)، بَلِ اِتَّكَلَ عَلَى نَفسِهِ وَأَعمَالِهِ، وَرَضِيَ عَن نَفسِهِ وَأُعجِبَ بِها، فَلَم يَطلُب شَيئًا. فَهُوَ أَيقونَةُ الإِنسانِ الفاسِدِ الَّذي يَتَظاهَرُ بِأَنَّهُ يُصَلّي، وَلَكِنَّ كُلَّ مَا يَفعَلُهُ هُوَ أَنَّهُ يُباهي نَفسَهُ أَمامَ المِرآة، مُمَجِّدًا الصُّورَةَ الَّتي بَناها لِنَفسِهِ. إِنَّ الغُرورَ يَجعَلُ الإِنسانَ مَخلوقًا غَبِيًّا لا يَفقَهُ حَقِيقَةَ ذاتِهِ. كانت صَلاةُ الفِرِّيسِيِّ "كَالعُصافَةِ الَّتي تَذروها الرِّياح" (مزمور 1: 4)، لأَنَّ مَن تُنجِّسْهُ الكِبرياءُ يَكونُ مَغْلُقًا أَمامَ النِّعمَة. كَما قالَ اللهُ عَلى لِسانِ إِشعيا: "حينَ تَبسُطونَ أَيدِيَكُم أَحجُبُ عَينَيَّ عَنكُم، وَإِن أَكثَرتُم مِنَ الصَّلاةِ لا أَستَمِعُ لَكُم، لأَنَّ أَيدِيَكُم مَمْلُوءَةٌ مِنَ الدِّماءِ. فَاغتَسِلوا وَتَطَهَّروا وَأَزيلوا شَرَّ أَعمالِكُم مِن أَمامِ عَينَيَّ، وَكُفّوا عَنِ الإِساءَةِ." (إشعيا 1: 15–16). ويُؤكِّدُ بطرسُ الرَّسولُ قائلًا: "اللهُ يُكابِرُ المُتَكَبِّرينَ، وَيُنعِمُ عَلَى المُتَواضِعينَ." (1 بطرس 5: 5): ويُعلِّقُ القدِّيسُ أُوغسطينوس قائلًا:"كَمَا تَرَونَ، مَن يَطلُبُ الاِفتِخارَ لا يَدخُل، بَل يَسقُط؛ أَمّا مَن يَتَواضَعْ فَيَدخُلْ مِنَ البَابِ مَعَ الرّاعِي وَلا يَسقُط". قَضاءُ اللهِ يَختَلِفُ عَن قَضاءِ البَشَر؟ نَستَنتِجُ أَنَّ حُكمَ اللهِ يَختَلِفُ عَن حُكمِ البَشَر الَّذي يَنظُرُ إِلى الظّاهِرِ وَيُحابِي الوُجوه. اللهُ فاحِصُ القُلوبِ وَالكُلَى، يَستَجيبُ لِاستِغاثَةِ المُتَعَبِّدِ المُتَواضِعِ (يشوع بن سيراخ 35: 15–17). رَفَضَ اللهُ صَلاةَ الفِرِّيسِيِّ لأَنَّهُ كَانَ مُتَكَبِّرًا وَمُرائيًا، مَغرورًا بِنَفسِهِ وَأَعمالِهِ. فيُجيبُهُ الرَّبُّ: "لأَنَّكَ تَقولُ: أَنا غَنِيٌّ وَقَدِ اغتَنَيتُ، فَمَا أَحْتاجُ إِلى شَيءٍ، وَلا تَعلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بائِسٌ فَقيرٌ أَعْمَى عُرْيَانٌ" (رؤيا 3: 17). لَم يَتَبَرَّرِ الفِرِّيسِيُّ، لأَنَّهُ أَحَبَّ أَن يَراهُ النّاسُ يُصَلّي، وَيَدَّعي الصَّلاةَ وَقَلبُهُ غَيرُ مُتَواضِع. وَالحُكمُ الإِلَهيُّ واضِحٌ: "كُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ، وَمَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِعَ" (لوقا 18: 14). ويُؤكِّدُ الرَّبُّ فِي مَوضِعٍ آخَرَ: "سَيَقولُ لِي كَثيرٌ مِنَ النّاسِ فِي ذٰلِكَ اليَومِ: يا رَبّ، أَمَا بِاسمِكَ تَنَبَّأْنا؟ وَبِاسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وَبِاسمِكَ أَتَينا بِالمُعجِزاتِ الكَثيرة؟ فَأَقولُ لَهُم عَلانِيَةً: ما عَرَفتُكُم قَطّ. اِنصَرِفوا عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!" (متى 7: 22–23). باختصار، العِبرَةُ الرُّوحيَّة هي كَثيرونَ يَعتَقِدونَ أَنَّهُم قاموا بِأَعمالٍ صالِحَةٍ كَالفِرِّيسِيِّ، وَلكِنَّ اللهَ وَحدَهُ "رَبُّ القُوّاتِ، الحاكِمُ بِالبِرّ، الفاحِصُ الكُلَى وَالقُلوبِ" (إرميا 11: 20)، وَهُوَ يُعطِي كُلَّ واحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ وَثَمَرِ أَعمالِهِ. فَالْأَهَمُّ لَيسَ الكَثرةُ فِي الأَعمالِ الصَّالِحَةِ، بَل الاعترافُ بِما صَنَعَهُ يَسوعُ مِن أَجلِنا عَلَى الصَّليب، وَالنَّظَرُ إِلى أَنفُسِنا بِتَواضُعٍ، طَالِبِينَ رَحمَةَ اللهِ مِثلَ العَشَّارِ وَاللِّصِّ اليمينِ. فلنَضَعْ نُفوسَنا أَمامَ الرَّبِّ لِنُعيدَ نِظامَ حَياتِنا، حَتّى تَتوافَقَ عَلاقتُنا مَعَ اللهِ بِـ عَلاقتِنا مَعَ الآخَرينَ فِي الصَّلاةِ وَالحَياةِ العَمَلِيَّةِ، لأنَّ التَّواضُعَ هُوَ الطَّريقُ إلى التَّبَريرِ وَالحُرِّيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الحَقَّة. |
|