![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
|
هل يمكن للدماغ أن يعوّض سنوات العزلة والحرمان في نوفمبر 1970، دخلت امرأة ضريرة إلى مكتب الرعاية الاجتماعية في لوس أنجلوس، تمسك بيد فتاة صغيرة تبدو وكأنها خرجت من عالمٍ آخر. كانت الفتاة نحيلة، تمشي بخطواتٍ مترددة كأن الأرض غريبة تحت قدميها، تحدّق في اللاشيء، وتضم يديها إلى صدرها بطريقة غير مفهومة. ظنّ الموظفون أنها طفلة في السادسة أو السابعة... لكن حين فُحصت أوراقها، ساد الصمت: كانت في الثالثة عشرة من عمرها. اسمها "جيني" — وهو ليس اسمها الحقيقي، بل اسم أُعطي لها لاحقًا لحماية هويتها. لكن لا شيء كان قادرًا على حماية الطفلة مما مرّت به. حين بدأ الأطباء بفحصها، اكتشفوا أن ما أمامهم لم يكن مجرد حالة إهـ*مال، بل أحد أبـ*شع أشكال العزلة الإنسانية التي عرفها القرن العشرون. فمنذ أن كانت في عامها ونصف فقط، اتخذ والدها — رجلٌ مضطرب ومهووس بالخوف من الناس — قرارًا شيطانيًا: أن يعزلها عن العالم إلى الأبد. بنى لها "غرفة سجن" مظلمة بلا نوافذ، وأغلق عليها الباب سبعة أعوام. ربطها في كرسي طوال النهار، وإن بكت... كانت العقوبة قا*سية لا تُحتمل. لم تتعلّم المشي. لم تسمع أغنية. لم تعرف حضنًا، ولا كلمة حب، ولا حتى ضوء الصباح. وفي الليل، كان يقيّدها داخل كيس نوم ضيق ويضعها في قفص خشبي. كبرت جيني داخل صمتٍ كثيف، في عالم بلا أصوات، بلا وجوه، بلا لغة. كانت "تعيش" بالمعنى البيولوجي، لكنها لم تكن "تحيا" بالمعنى الإنساني. حين أُنقذت، كانت هزيلةً لدرجة الرعب. وزنها لم يتجاوز 26 كيلوجرامًا، بشرتها شاحبة، وأسنانها نمت بطريقة غير طبيعية، وعقلها عالق في زمن الطفولة الأولى. كانت تقول كلماتٍ مبعثرة: “أم... أزرق... لا.” تبصق باستمرار، وتتحرك بتشنج، كأنها لا تعرف شكل الجسد البشري ولا كيف يُستخدم. لم تكن تضحك... ولم تبكِ. كان الألم أعمق من أن يُعبّر عنه بصوت. ومع أن قصتها كانت مأساة، إلا أنها أثارت سؤالًا علميًا خطـيرًا: هل يمكن للإنسان أن يتعلم اللغة بعد أن يتجاوز سن الطفولة الحرجة؟ هل يمكن للدماغ أن يعوّض سنوات العزلة والحرمان؟ تدفّق العلماء من كل مكان لدراسة جيني. تحوّلت من ضـحية إلى "موضوع بحث"، من طفلة تحتاج حضنًا إلى تجربة لغوية وإنسانية. وفي زحمة الأبحاث والمشاريع والتمويلات، نُسي أهم ما كانت تحتاجه: الحب. تنقلت بين البيوت ودور الرعاية، وكل مرة كانت تفقد جزءًا جديدًا من ثقتها في العالم. وبمرور الوقت، خفتت الأضواء عنها، وانسحب العلماء واحدًا تلو الآخر، تاركين وراءهم فتاة لم تتعلم النطق... ولا الأمان. مرت السنوات، حتى عام 2016، حين نشر تقريرًا يؤكد أن جيني لا تزال على قيد الحياة — في الستين من عمرها، تعيش في مؤسسة رعاية خاصة في كاليفورنيا، تحت إشراف الدولة، في مكان سري لا يُعلن احترامًا لخصوصيتها. ما زالت لا تتحدث بطلاقة، ولا تستطيع الاندماج مع الناس، لكنها على الأقل... حرّة. أما والدها، فلم يحتمل الفضـيحة. أنهى حياته بعد أيام من اكتشاف جريمته، تاركًا ورقة قصيرة كتب فيها: "العالم لم يفهمني أبدًا." لكن الحقيقة يا اخوتي أن العالم لم يحتج أن يفهمه، لأن ما فعله لا يمكن أن يُفهم، ولا يُغتفر. قصة جيني ليست حكاية عن قسوة أبٍ واحد، بل عن هشاشتنا نحن كبشر. عن طفلٍ لا يحتاج إلى طعام فقط، بل إلى كلمة، إلى نظرة، إلى دفء، إلى من يقول له: "أنت لست وحدك." |
|