![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أن الرفض أحيانًا هو بداية الخلود قبل نحو خمسمئة عام، تسلمت كاتدرائية فلورنسا قطعة ضخمة من رخام كارارا الأبيض. كانت الكتلة هائلة الحجم، لكنها مليئة بالشروخ والعروق، طويلة على نحوٍ غير متناسق، صلبة كأنها ترفض أن تُمسّ. تسابق النحاتون على العمل عليها، ثم فرّوا منها واحدًا تلو الآخر. وسرعان ما تحوّل الحجر إلى لعـ*نة بين أيدي الفنانين، حتى أن أحدهم قال: «إن هذا الرخام لا يصلح لشيء… إلا أن يُدفن!» هكذا تُرك الحجر في فناء الكاتدرائية، مهملًا تحت المطر والشمس، أربعين عامًا كاملة. لكن القدر كان ينتظر روحًا ترى ما لا يراه الآخرون. عام 1501، ظهر شاب في الخامسة والعشرين، اسمه ميكيلانجيلو بوناروتي، يحمل بين عينيه جنون الفن وإصرار العبقرية. نظر إلى الكتلة البيضاء المشققة المهملة قبل حتى مولده، فابتسم وقال: «أروني هذا الحجر… ففي داخله داوود ينتظر أن أحرره.» لم يصدق أحد ما قاله، بل سخروا منه: كيف يمكن أن يخرج الجمال من هذا العيب؟ لكن ميكيلانجيلو رأى ما لم يره أحد. رأى البطل داخل الشروخ، رأى الإنسان داخل الجماد. دخل ورشته الصغيرة، وأغلق الأبواب على نفسه لعامين كاملين. لا مساعدين، لا تصميمات، لا توقف. فقط إزميل، ومطرقة، وصوت الرخام يتكسر في الليل. كانت معر*كة لا بين فنانٍ وحجر، بل بين روحٍ تبحث عن الخلود وجسدٍ يقاوم أن يُولد من جديد. ومع كل ضربة، كان الحجر يخسر جزءًا من قسا*وته، حتى بدأت الملامح تظهر: اليد المشدودة، الذراع المتوترة، النظرة التي تجمع بين الخوف والتحدي. شيئًا فشيئًا، خرج داوود من صمته، يقف عا*ريًا أمام العالم، لا كسلا*حٍ في يد أحد، بل كرمزٍ للشجاعة والحرية. حين انتهى ميكيلانجيلو عام 1504، نظر إليه الفنانون بدهشة وذهول. حتى ليوناردو دافنشي نفسه وقف أمامه صامتًا… كيف يمكن أن يُصنع هذا الجمال من حجرٍ رفضه الجميع؟ كان التمثال ضخمًا (5.17 أمتار من النقاء الصافي)، رأسه ويده اليمنى أكبر قليلًا من النسبة الطبيعية، وهو ليس خطأ، بل عبقرية بصرية مدروسة: لأن التمثال كان سيُرى من أسفل، فعدّل ميكيلانجيلو النسب ليبدو مثاليًا في نظر المشاهد. عندما تقرر نقله إلى ساحة القصر في فلورنسا، خرجت المدينة كلها في موكبٍ مهيب استمر أربعة أيام. الناس كانوا يبكون ويصفقون، وكأنهم يرون معجزة تتحرك أمامهم. لقد وُلد الجمال من الرفض، وخرج الإبداع من بين الشقوق، وتحوّل ما كان مهملًا إلى رمزٍ خالد للكرامة الإنسانية. واليوم، يقف داوود في متحف "غاليريا ديلا أكاديميا"، بينما تقف نسخته في الساحة، تذكّر كل من يراها أن العبقرية لا ترى العيب، بل الإمكان. وأن الفن العظيم لا يُخلق من الكمال، بل من الجرأة على لمس ما رفضه الآخرون. لقد حرّر ميكيلانجيلو الجمال من قلب الحجر… كما يحرر الإنسان روحه من الخوف. ومن تلك الكتلة المرفوضة، نُحتت أعظم رسالة في تاريخ الفن: أن الإبداع يولد من العيوب، وأن الرفض أحيانًا… هو بداية الخلود. |
![]() |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الرفض غير المنطقي |
لكي نستعيد إنسانيتنا (الأصيلة) التائهة أحيانًا والمشوهة أحيانًا |
الرفض |
الرفض |
القيامة هي بدء الخلود وبدء التجلي في الخلود |