صرخ يسوع "أنا عطشان". ففي حوار يسوع مع السامرية عند بئر يعقوب طلب يسوع منها شيئاً مماثلاًً قائلاً لها:"أعطني لأشرب"، وبعد ذلك يقول لها:"لوكنت تعرفين عطية الله ومن هو الذي يقول لكِ:أسقني، لسألته أنت فأعطاك ماءً حياً... الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبدية"(يو4/10-14).
لقد تمّ هذا اللقاء بين يسوع والسامرية في الساعة السادسة، أي في تمام الساعة التي حُكم فيها على يسوع بالموت. على ضوء الحوار مع السامرية وعلى ضوء قوله لتلاميذه:"طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتمّ عمله تصبح عبارة:"أنا عطشان" صرخة الشوق المتأجّج في قلب يسوع لتتميم مشيئة الآب حتى النهاية. وهكذا يصبح عطشه توقاً حارّاً للعودة إلى الآب والإتحاد به كما يردّد صاحب المزمور:"ظمئت نفسي إلى الله إلى الإله الحي متى آتي وأحضر أمام الله"(مز41/2).
يوجّهه يسوع هذا النداء الآن إلى كل إنسان قائلاً: "أسقني" ولكي يقوم الله الخالق بالعجائب المخصّصة للإنسان، فهو يطلب منه بأن ينقاد له ويلبّي دعوته له حيث ان عطش الله إلى الإنسان يقابله عطش الإنسان إلى الله الذي لم يفتأ يبحث طيلة حياته عن هذه الحقيقة المطلقة التي وحدها تستطيع أن تروي ظمأ الإنسانية المتعطشة إلى الله. يردّد صاحب المزامير:"جعلوا في طعامي سمّاً وسقوني في عطشي خلاً" (مز29/22) . ينظر شرّاح الكتاب المقدس إلى الخل نظرة إيجابية. فلقد ورد في سفر راعوت:"ولما كان وقت الأكل، قال لها بوعز: هلمّي إلى ههنا وكلي من الخبز واغمسي لقمتك في الخلّ" (را2/14) . فالدعوة التي يوجهها بوعز إلى راعوت المؤابية"لتغمس لقمتها في الخلّ"هي دعوة إلى"مائدة إقامة عهد" ستتوج بزواج بوعز أحد أجداد السلالة الداودية من راعوت المؤابية. فيسوع الذي يتناول الإسفنجة المغمسة بالخل، يقيم العهد الأبدي بينه وبين أحبائه ويختمه بالموت على الصليب.
فبعد أن أطلق يسوع صرخته:"أنا عطشان" وضع الجنود" إسفنجة مبتلّة بالخل على ساق وزوفى وأدنوها إلى فمه". كانت الزوفى تُستعمل لأغراض طقسية تطهيرية كرش دم الحملان والعجول والماء الطاهر (لاوي 14/3) . إنطلاقاً من هذه المعطيات تضعنا كلمة زوفى في جو طقسي عند أقدام الصليب في حفل تكريس العهد الأبدي بين الله وشعبه الجديد يوم ذبح الحمل الفصحي، يسوع (خر12/22) . الذي طالما شهد له يوحنا المعمدان في بداية إنجيلي يوحنا الرسول يوحنا قائلاً:"هوذا حمل الله"(يو1/36) .
لقد تمّم يسوع مشيئة الآب على ما أنبأت به كل الكتب المقدسة وكانت ذروته الموت على الصليب. لذا يشدّد الإنجيلي يوحنا على أن يسوع شرب كأس المرارة حتى النفس الأخير:" لقد تمّ كل شيئ".ان الذين يرافقون المنازعين في اللحظات الأخيرة من حياتهم يعرفون حقّ المعرفة أن تسليم الروح يأتي قبل إنحناء الرأس. لكن الإنجيلي يوحنا يذكر ان يسوع:"حنى رأسه وأسلم الروح" وبهذا يشير إلى السيطرة على النفس التي يتميّز بها يسوع حتى النهاية في القيام برسالته الخلاصيّة. لذلك يؤكد لنا بأنه لا أحد يستطيع أن يأخذ حياته منه، بل هو يعطيها بملء حرّيته إذ صرّح قائلاً:"ما من أحد ينزعها منّي ولكنّي أبذلها برضاي" (يو10/18) .