عرض مشاركة واحدة
قديم 06 - 08 - 2022, 12:38 PM   رقم المشاركة : ( 13 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,207

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

Rose رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

المقالة الثالثة

أخص فضائل والدة الإله

المـقـدمـة

* في موضوع هذه المقالة*

أن القديس أوغوسطينوس يقول: أنه لأجل أكتساب حماية القديسين ومساعدتهم بأكثر تأكيدٍ وبأوفر سخاءٍ، يجب أن يصير الأقتداء بهم، لأنهم اذ يشاهدوننا ممارسين بالعمل الفضائل التي هم مارسوها في أزمنة حياتهم على الأرض. فحينئذٍ يتحركون بأكثر أنعطافٍ الى أن يتوسلون لله من أجلنا: فسلطانة القديسين وشفيعتنا الأولى والمتقدمة على الجميع سيدتنا والدة الإله، تريد من تلك النفس التي قد أنتشلتها هي من يد لوسيفوروس وأتحدتها بالله، أن تقتفي أثر نموذجاتها، والا فلن يمكنها أن تغنيها بالنعم والمواهب حسب مرغوبها، اذا رأتها مضادةً لها في سيرتها وأعمالها، ومن ثم هذه البتول المجيدة تعطي الطوبى لأولئك الذين يجتهدون في أن يقتدوا بفضائلها قائلةً: يا أولادي أسمعوني، طوبى للذين يحفظون طرقي: (أمثال ص8ع32) فمن يحب شخصاً ما، أما أنه يوجد شبيهاً به، وأما أنه يجتهد في أن يتشبه به. كحسب المثل الشهير الذي يقال به: أن الحب أما أنه يوجد في المماثلة، وأما أنه يجذب إليها: ولهذا يحرضنا القديس أيرونيموس قائلاً: أنه أن كنا نحب مريم العذراء فيلزمنا أن نهتم في أن نماثلها في الفضائل، لأن هذا هو التكريم الأعظم والعبادة الفضلى التي نستطيع أن نقدمها لها: ويقول ريكاردوس: أن أولئك الذين هم أولاد مريم الحقيقيون المقتدرون أن يسموا ذواتهم كذلك، فأنما هم الذين يجتهدون في أن يعيشوا حسب عيشها على الأرض: فأجتهد اذاً يا من أنت أبنٌ لمريم (يقول القديس برنردوس) في أن تقتدي بها، أن كنت ترغب أسعافها إياك. لأنها حينما ترى ذاتها مكرمةً منك كأمٍ، فتعاملك وتعينك كولدها.*

فنظراً الى فضائل هذه السيدة الخصوصية فلئن كنا نقرأ عنها كلماتٍ وجيزةً مدونةً في الإنجيل المقدس. فمع ذلك اذ يقال عنها فيه أنها ممتلئةٌ نعمةٌ. فهذا يعلن لنا واضحاً أنها كانت حاصلةً على كل الفضائل بدرجاتٍ كلية السمو. بنوع أنه، كما يقول عنها القديس توما اللاهوتي (في كتيبه الثامن): أن كلاً من القديسين الآخرين قد تلألأ بفضيلةٍ ما خصوصيةٍ وبها سما على البقية وأما البتول الطوباوية فقد تلألأت في الفضائل كلها بدرجاتٍ ساميةٍ، وقد أعطيت هي لنا نموذجاً في جميع الفضائل: وكذلك يقول القديس أمبروسيوس: أن والدة الإله قد وجدت هكذا كاملةً. بنوع أن سيرة حياتها كانت تحوي الآداب والفضائل بأسرها. فلتكن مرسومةً في عقولكم بتولية مريم. وأعمال حياتها التي تلألأت فيها الفضائل، فمنها خذوا نموذج السيرة. وماذا يلزمكم أن تهذبوه فيكم وما الذي تهربون منه. وأي شيء تتبعونه: ثم من حيث أن فضيلة التواضع، حسب تعليم الآباء القديسين كافةً هي الحجر الأول في أساس الفضائل كلها، فلهذا نأخذ أولاً وبدءاً بالتأمل في كم وجدت عميقةً جداً فضيلة تواضع العذراء المجيدة.*

كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الأول

عندي الغنى والمجد والعظمة، والذين يبكرون إليَّ يجدونني (أمثال 8/17)

يقول اروح القدس: يا أختي العروسة، جرحتي قلبي بإحدى عينيكِ. (نشيد4/9)

* في الأتضاع العميق الذي أتصفت به والدة الإله*

أن القديس برنردوس يقول: أن التواضع هو أساس أبتناء الفضائل: وهذا بكل صوابٍ. لأنه من دون التواضع لا يمكن أن توجد فضيلةٌ ما حقيقية في نفس إنسانٍ ما أصلاً. فالأتضاع اذ يمتلك فمعه تمتلك الفضائل بأسرها، واذ يهرب المرء فتهرب معه الفضائل كلها. ومن ثم كتب القديس فرنسيس سالس للطوباوية يوفانا شيناتال الراهبة قائلاً: أن الله بهذا المقدار يحب فضيلة التواضع. حتى أنه تعالى أينما يراها موجودةً يبادر نحوها بأسراع: فهذه الفضيلة الجليلة الجميلة الضرورية قد كانت فيما مضى مجهولةً في العالم. ولكن قد جاء أبن الله عينه الى الأرض لكي يوطدها ويعلم بها بواسطة نموذجه، وأراد منا أن نجتهد في أقتفاء أثره بنوع خاص في هذه الفضيلة بقوله لنا: تعلموا مني فأني وديعٌ ومتواضع القلب: (متى ص11ع29) ومن حيث أن مريم العذراء قد كانت هي التلميذة الأولى ليسوع، ووجدت هي الأكمل والأعظم فيما بين تلاميذه في الفضائل كلها. فهكذا كانت فضيلة تواضعها الأساسية عميقةً في الغاية، ومن أجل هذه الفضيلة التي تلألأت هي بها بنوعٍ فريدٍ قد استحقت أن ترفع فوق المخلوقات بأسرها. وقد أوحى الى القديسة ماتيلده: بأن الفضيلة الأولى التي وضعتها بالعمل هذه البتول المجيدة منذ طفوليتها قد كانت فضيلة الأتضاع.*

فأول فعل من أفعال تواضع القلب أنما هو أن الإنسان يعتبر ذاته دنياً حقيراً، ولذلك قد أحتسبت ذاتها مريم البتول بهذا المقدار كلا شيء.كما أوحى للقديسة ماتيلده عينها، حتى أنها ولئن كانت تشاهد نفسها غنيةً بالنعم والمواهب والصفات، فمع ذلك قط لم تفضل ذاتها على أحدٍ مطلقاً: فالأنبا روبارتوس في تفسيره كلمات العدد 9من الاصحاح4 من سفر النشيد وهي هذه: أيتها العروسة أختي جرحتِ قلبي، جرحتِ قلبي بإحدى عينيكِ وبشعر عنقكِ: يقول: أن شعر عنق هذه العروسة الذي جرح قلب الله أنما هو تواضع مريم العذراء عروسته الإلهية: فأتضاع هذه السيدة لم يكن يلزمها بأن تحتسب ذاتها خاطئةً، لأن التواضع هو حقٌ كما تقول القديسة تريزيا. والحال أن والدة الإله كانت تعرف نفسها جيداً أنها قط لم تغظ الله بزلةٍ ما. فاذاً لم يكن يمكنها أن تكذب بقولها عن ذاتها أنها خاطئةٌ، بل ولا كان قائماً تواضعها في الا تعترف بأنها أقتبلت من الله نعماً أعظم من جميع النعم التي أعطيت لسائر الخلائق. لأن القلب المتواضع يعرف حسناً المواهب التي نالها من الرب بطريقةٍ أختصاصية. لكي يواضع نفسه بأبلغ نوع. وأنما كانت اذاً فضيلة أتضاعها قائمةً في أنها بمقدار ما كانت هذه الأم الإلهية حاصلةً على نورٍ أعظم في أن تعلم حقائق عظمة إلهها الغير المتناهية. وسمو غنى صلاحه الغير المدرك. فبأكثر من ذلك كانت تعرف حقيقة دناءتها وصغرها عند ذاتها، ولذلك كانت تتواضع أكثر من الجميع قائلةً مع عروسة النشيد: لا تنظروا إليَّ سوداء لأن الشمس غيرت لوني: (نشيد ص1ع6) أما القديس برنردوس فيعلن هذه الكلمات هكذا: أني أضحيت سوداء لأقتراب الشمس مني: وهذا بالصواب، لأن القديس برنردينوس يقول: أن البتول القديسة كانت حاصلةً بأتصالٍ على معرفة حالية عن عظمة العزة الإلهية، وعن دناءة ذاتها كأنها عدم وكلا شيء بالكلية: وكانت بذلك تشبه جاريةً مسكينةً متسولةً قد وهب لها ثوب أرجوان كثير الثمن، التي اذا ما تردت به أمام من أنعم به عليها فلا تتكبر مفتخرةً. بل تزداد تواضعاً بأزاء المحسن إليها كل مرةٍ تشاهده، لأنها حينئذٍ تتذكر جيداً فقرها ومسكنتها. فهكذا مريم العذراء بمقدار ما كانت ترى ذاتها غنيةً بالمواهب الممنوحة لها من الله فبأكثر من ذلك كانت تتضع في ذاتها. متذكرةً أن تلك النعم والأختصاصات كلها أنما هي مواهب الله وعطاياه: ومن ثم قالت هي نفسها في الوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس: أنني كنت أحتسب ذاتي بنوع أكيد أني كلية الأحتقار والدناءة. واني لم أكن مستحقةً نعمة الله: ولهذا قال القديس برنردينوس: أنه ما وجدت خليقةٌ قط في العالم أرتفعت الى مقامٍ كلي السمو كما أرتفعت مريم، من حيث أنه لم توجد خليقةٌ ما أصلاً شبيهةً لها في التواضع العميق.*

ثم ما عدا ذلك أنه لفعل أتضاعٍ حقيقي هو أن الإنسان لا يكشف للغير المواهب السماوية التي نالها. فالبتول المجيدة أرادت أن تخفي عن القديس يوسف خطيبها، حال كونها أختيرت من العزة الإلهية لأن تكون والدةً للإله. أو أنها قلما يكون لم ترد أن تكشف له ذلك مع أنها كانت محتاجةً لأن تخبره به، لكي تخلصه قلما يكون من قلق أفكاره بالأرتيابات الحاصلة عنده وقتئذٍ في أمر حبلها. وبالتالي كان يمكنه أن يشك في طهارتها، أو لترفع عنه سبب التوسوس كما كان بالحقيقة هذا القديس حاصلاً في حربٍ مع أفكاره. اذ أنه من جهةٍ أولى لم يكن يرتاب أصلاً في طهارة خطيبته المجيدة ونقاوة بتوليتها. ومن جهةٍ أخرى قد كان يجهل سر حبلها وعلته، فلهذا: هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) أي أعتمد على أن يهرب عنها سراً، ولقد كان تمم أعتماده هذا بالعمل، لولا يكون ظهر له ملاك الرب بعد ذلك وأخبره بأن حبلها كان من الروح القدس.*

وكذلك أن التواضع يرفض قبول المدائح التي يقرظ هو بها من الغير. ويخصص المديح والمجد لله وحده. فهوذا مريم قد أضطربت عند سماعها زعيم الملائكة جبرائيل قائلاً لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وحينما قالت لها القديسة أليصابات: مباركةٌ أنتِ في النساء، فمن أين لي مثل هذا أن تأتي أم ربي إليَّ... طوبى لتلك التي آمنت ليكون لها ما كلمت به من قبل الرب: (لوقا ص1ع42ع43ع45) أما هذه البتول فاذ كانت تنسب ذلك جميعه لله. قد أجابتها بتلك التسبحة المملؤة أتضاعاً قائلةً: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته: (لوقا ص1ع47ع48) وكأنها بهذا كانت تقول: أما أنتِ يا أليصابات فتمدحيني، وأما أنا فأمدح الرب الذي له وحده يجب المديح. وانتِ تتعجبين من مجيئي إليكِ، وأما أنا فأنذهل من الجودة الإلهية التي بها وحدها تبتهج روحي. أنتِ تعطيني الطوبى لأجل أني آمنت بما قيل لي من قبل الرب. وأما أنا فأسبح إلهي الذي أراد أن يرفع عدمي ويكرم دناءتي ناظراً الى تواضع أمته: ولهذا أوحت العذراء نفسها للقديسة بريجيتا بقولها لها: فلماذا اذاً أنا أتضعت بهذا المقدار وأستحقيت نعماً هكذا عظيمةً. الا من قبيل كوني قد تفكرت وعرفت أنه لم يكن لي شيءٌ من قبل ذاتي، ولم أكن عند نفسي شيئاً، فلهذا ما أردت قط مديحي أنا. بل مديح ذاك المعطي والمانح وحده: ومن ثم يقول القديس أوغوسطينوس اذ يتكلم عن أتضاع مريم البتول هكذا: يا له من تواضعٍ طوباوي بالحقيقة، لأن هذا التواضع ولد للبشر الإله متجسداً، وفتح لهم الفردوس، وخلص أنفسهم من جهنم:*

وأيضاً أنها لمن حقائق الأتضاع هي خدمة المرء غيره. فهذه السيدة لم تأنف من أن تمضي عند القديسة أليصابات وتخدمها مدة ثلاثة أشهرٍ. ولذلك قال القديس برنردوس: أن أليصابات أنذهلت من مجيئ الطوباوية مريم إليها. ولكن الأنذهال الأعظم هو من كون هذه السيدة لم تأتِ لتُخدَم بل لتخدُم:*

ثم أن المتواضعين يوجدون منفردين عن الكثرة. ويختارون لذواتهم أحقر الأمكنة. ولهذا اذ يتأمل القديس برنردوس في كيف أن هذه الأم الإلهية حينما أرادت أن تتكلم مع أبنها يسوع، لما كان هو يعلم في أحد الأمكنة، فلم تتقدم إليه أمام الناس داخلةً من تلقاء ذاتها الى المكان الجالس هو فيه وقتئذٍ، بل مكثت في الخارج وأرسلت تخبره برغبتها أن تراه لتخاطبه. (متى ص12ع46) فيقول هو أي القديس برنردوس:" أن مريم كانت واقفةً في الخارج، لئلا تقطع مجرى الوعظ لأجل أحترامها الوالدي، ومن غير أن تدخل الى البيت الذي فيه كان أبنها يكرز". وهكذا حينما كانت هي موجودةً في الغرفة الصهيونية بعد قيامة أبنها ممن بين الأموات قد أختارت المكان الأخير، كما كتب القديس لوقا الإنجيلي بقوله: وحين دخلوها صعدوا الى الغرفة التي كانوا بها مقيمين بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما وبرتولماوس ومتى ويعقوب بن حلفا وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب هؤلاء كلهم كانوا مثابرين معاً على الصلاة والأبتهال مع النساء ومريم أم يسوع: (أبركسيس ص1ع13) فأحد العلماء يكتب بالصواب بأن القديس لوقا لم يكن يجهل أستحقاق والدة الإله، حتى أنه ما ذكر أسمها الا في آخر أسماء الجميع، بل لأنها كانت حقاً جالسةً في آخر الكل. وهو أي القديس لوقا كتب أسماءهم بموجب الرتبة التي بها كانوا جالسين في الغرفة فلذلك دون أسمها بعد كلهم، لأنها كانت آخذةً المكان الأخير، والا لكان من دون ريبٍ ذكر أسمها قبل الجميع لأجل أستحقاقها. ولهذا قال القديس برنردوس: أن الأستحقاق صير الأخيرة أولى. لأجل أنها صيرت ذاتها أخيرةً، مع أنه كان يخصها أن تكون هي الأولى:*

ثم أن المتواضعين يحبون الأحتقار. ولهذا لم يقرأ في الإنجيل عن مريم البتول أنها ظهرت في أورشليم نهار الأحد المتقدم على آلام أبنها. الذي هو في ذلك اليوم دخل هذه المدينة تلك الدخلة الأحتفالية، وأقتبل من الشعوب الكرامات كملكٍ، بل بضد ذلك في حين موت أبنها ميتة العار. لم تأنف من أن تظهر هي حينئذٍ علانيةً على جبل الجلجلة، محتملةً خزي المعيرة في أنها كانت هي أماً لذاك المحكوم عليه بالموت كمجرمٍ مع اللصوص. ومن ثم قالت هذه السيدة عينها للقديسة بريجيتا في الوحي:" ترى أي شيءٍ أكثر أهانةً وأحتقاراً من أني أسمى حمقاء فاقدة العقل، وأن أكون محتاجةً معوزةً من كل شيءٍ، وأن أعتقد بذاتي أني فاقدة الأستحقاقات أكثر من الجميع، فتواضعي كانت هذه صفته يا أبنتي. وهذا كان نعيمي وفرحي وكل أرادتي التي بها لم أكن أفتكر بشيءٍ آخر سوى في أن أرضي أبني". ثم أن الراهبة باولا المكرمة التي من فولينو قد أختطفت مرةً ما بالروح غائصةً بالتأمل في تواضع مريم العذراء، حيث حصلت على معرفة ذلك بنورٍ سماوي. فلما أخبرت بعد هذا معلم أعترافها عنه منذهلةً من عظم أتضاع هذه البتول فكانت تقول له هكذا: كم هو عظيمٌ تواضع مريم العذراء يا أبتي فيا له من أتضاعٍ فريدٍ، لأنه لا يوجد في العالم كله أدنى درجة من التواضع بالنسبة الى أتضاع هذه السيدة المجيدة. ومرةً ما قد أظهر الرب للقديسة بريجيتا في الرؤيا أمرأتين شريفتين، فأحدهما كانت مزينةً بملابس فاخرةٍ مرتفعة العنق ذات جبروتٍ باطلٍ، وعنها قال الرب للقديسة:" أن هذه هي الكبرياء وأما الأخرى التي أنتِ تشاهدينها برأسٍ منخفضٍ، لطيفة الخطاب، عذبة الكلام مع الجميع، محترمة إياهم، وهي مع الله وحده بعقلها، وتعتبر ذاتها كلا شيء، فهذه هي الأتضاع وتسمى مريم". وبذلك أراد الرب أن يوضح لنا أن والدته الطوباوية بهذا المقدار كانت متضعةً، حتى أنها صارت هي الأتضاع نفسه.*

فلا ريب ولا أشكال في أنه نظراً الى طبيعتنا الإنسانية المفسودة بالخطيئة. ربما لا توجد فضيلةٌ يعسر علينا وضعها بالعمل بأتقانٍ أكثر من فضيلة الأتضاع، كما يقول القديس غريغوريوس نيصص. ولكن لا مناص لنا منها، لأننا لا نستطيع أن نكون أولاداً حقيقيين لمريم البتول أن لم نكن متواضعين. ولذلك يقول القديس برنردوس:" فأن كنتَ يا هذا لا تقدر أن تماثل بتولية العذراء المتواضعة، فماثلن قلما يكون تواضع هذه البتول". لا سيما لأن هذه الأم الإلهية ترفض المتكبرين ولا تحب الا المتواضعين كقولها: من كان صغيراً فلينجح إليَّ: وقال ريكاردوس: أن مريم تحمينا تحت بيرق التواضع: وهذا عينه أوضحته البتول المجيدة نفسها للقديسة بريجيتا قائلةً لها: فاذاً أنتِ أيضاً يا أبنتي هلمي وأستظلي تحت ذيل برفيري الذي هو برفير تواضعي: ثم قالت لها أيضاً:" أن التأمل في أتضاعي هو وشاحٌ جليلٌ جميلٌ، ولكن من حييث أن مجرد تفكر الإنسان في الوشاح لا يدفئه، من دون أن يلتف هو بالوشاح عينه ليستدفئ، فهكذا لا يفيد مجرد التفكر في تواضعي من دون ممارسة هذه الفضيلة بالعمل، فاذاً ألبسي يا أبنتي هذا الوشاح". فبالحقيقة أن الأنفس المتواضعة هي عزيزةٌ جداً على قلب هذه السيدة، وعن ذلك كتب القديس برنردوس قائلاً: أن البتول القديسة تعرف جيداً الذين يحبونها، وهي تحبهم، مستعدةٌ لأسعاف الذين يستغيثون بها، خاصةً أولئك الذين تلاحظهم مقتدين بنموذجات فضيلتي عفتها وتواضعها العظيمتين: ولهذا يحرض القديس المذكور محبين مريم كافةً على أن يكونوا متضعين بقوله: تمسكوا بهذه الفضيلة أن كنتم تحبون مريم: فالأنبا مارينوس أو مرتينوس اليسوعي قد كان حباً بالبتول المتواضعة يكنس الدير الذي كان هو قاطناً فيه، ويغسل أمكنة الحماة من أوساخها. فلأجل ذلك ظهرت له يوماً ما هذه الأم الإلهية (كما يورد الأب نيارامبارك في كتاب حياته) وكأنها قدمت له الشكر على هذا العمل قائلةً له: أنها لعزيزةٌ لدي جداً تصرفات تواضعكَ هذه المصنوعة منكَ حباً بي:*

فاذاً أنا لا يمكنني يا ملكتي أن أكون أبناً حقيقياً لكِ، ألم أكن متواضعاً. ولكن أما تنظرين أن خطاياي بعد أن صيرتني ناكر الجميل نحو سيدي، قد جعلتني متكبراً أيضاً. أواه يا أمي فأنتِ داوي سقمي، وأستمدي لي بأستحقاقات تواضعكِ النعمة في أن أصير متضعاً، وهكذا أعود أبناً لكِ آمين.*

كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الثاني

* في فضيلة محبة العذراء مريم والدة الإله نحو الله*

أن القديس أنسلموس كتب قائلاً: أنه حيثما توجد طهارةٌ عظمى فهناك تصادف محبةٌ أسمى: وهكذا بمقدار ما يوجد القلب طاهراً نقياً فارغاً من حب الذات، فبأكثر من ذلك يوجد مملؤاً من المحبة لله. فمريم البتول الكلية الطهارة والقداسة، لأجل أنها كانت متضعةً بكليتها، وفارغة القلب من حب الذات، قد وجدت من هذا القبيل موعبةً من المحبة الإلهية، حتى أنها فاقت بالحب له تعالى على جميع البشر والملائكة أيضاً، كما قال القديس برنردينوس: أن حبها لأبنها قد سما على حب سائر المخلوقات له عز وجل: ولذلك بالصواب قد سماها القديس فرنسيس سالس: سلطانة الحب: فالرب قد أمر الإنسان بأن يحبه من كل قلبه بقوله: حب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك: (متى ص22 ع37) الا أن هذه الوصية ستوضع بالعمل من البشر بالتمام والكمال لا في هذه الأرض بل في السماء، حسبما يقول القديس توما اللاهوتي. غير أن الطوباوي ألبارتوس الكبير يلاحظ ذلك قائلاً: أنه لكان على نوعٍ ما أمراً غير لائقٍ بالله أنه سبحانه يضع وصيةً لا يوجد ولا واحد من البشر ههنا يمكنه أن يتممها بالكمال، لولا أن هذه الأم الإلهية تكون هي أكملت حفظ الوصية المذكورة تماماً وبكل أجزائها: وهذا القول يوطده ريكاردوس الذي من سان فيتورة هكذا: أن أم عمانوئيل مخلصنا قد كانت كاملةً بالتمام في كل الفضائل، لأنه ترى من هو ذاك الذي حفظ الوصية الأولى تماماً، وهي أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك الا تلك التي قد أرتسم في قلبها الحب الإلهي. وأتقد بهذا المقدار، حتى أنه لم يوجد فيها شيء بالكلية مما يثلم هذه الوصية: ويقول القديس برنردوس: أن الحب الإلهي قد جرح نفس مريم البتول نافذاً في كل قواها بهذا المقدار، حتى أنه لم يعد يوجد ولا جزءٌ من أجزاء كيانها الا وأنجرح بالحب. ومن ثم قد أكملت هي هذه الوصية الإلهية تماماً، ولذلك أمكن لعروسة النشيد هذه أن تقول: حبيبي لي وأنا له: (نشيد ص2ع16) ولهذا كتب ريكاردوس قائلاً: أن السيرافيم أنفسهم كانوا يقدرون أن ينحدروا من السماء الى الأرض لكي يتعلموا من قلب مريم العذراء الطريقة التي بها يحبون الله:*

فالقديس يوحنا الرسول كتب قائلاً: أن الله محبةٌ هو: (أولى ص4ع8) فهذا الإله قد جاء الى العالم لكي يقد في الجميع لهيب نار حبه الإلهي، ولكن ولا قلبٌ من قلوب البشر كلها قد أشتعلت فيه مشاهيب هذه النار المقدسة نظير قلب والدته تعالى. لأنه من حيث أن هذا القلب البتولي كان بجملته، فارغاً بكليته من الأنعطافات نحو الأشياء الأرضية. فقد أضحى معداً مهيأ لأن يلتهب كله بنار الحب المغبوطة. كما قال القديس أيرونيموس: أن البتول المجيدة قد أتقدت كلها بنار الحب الإلهي، لأنه لم يكن يوجد في قلبها أنعطافٌ ما نحو الأشياء الزمنية، بل وجد دائماً لبها ملتهباً بعواطف هذا الحب السماوي: ولهذا صار قلبها مشتعلاً بجملته كاللهيب. وعنها قيل: أن المحبة معتزمةٌ كالموت وسرجها سرج نارٍ ولهيبٍ. مياه كثيرة لم تستطع أن تطفئ المحبة والأنهار لا تغرقها: (نشيد ص8ع7) وكما يفسر ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن ناراً كانت تتقد في قلبها باطناً. وكانت هي من خارج تضيء كالسرج بضياء الفضائل كلها: فاذاً حينما كانت والدة الإله على الأرض حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي. كان يمكن حسناً وبالصواب أن تسمى: ناراً حاملةً ناراً. ولئن كان الفيلسوف أيبوقراط بمعنى آخر قال هذه الكلمات عن أمرأةٍ نظرها مجتازةً من أمامه حاملةً في يدها مجمرة النار متقدةً. على أن القديس أيدالفونسوس يقول: أن الروح القدس قد ألهب بحرارة الحب الإلهي مريم البتول بكليتها. نظير ما أن النار تحمي ضمنها الحديد. وهكذا كان يظهر فيها لهيب نار هذا الروح البارقليط حتى أنها لم تعد تشعر هي في ذاتها بشيء آخر الا بشهائب نار الحب الإلهي متقدةً في نفسها وقلبها: وقال القديس توما الفيلانوفي: أن العليقة التي رآها موسى ملتهبةً بالنار كلها من دون أن تحترق، كانت رسماً لقلب البتول والدة الإله: ولذلك هذه السيدة بالصواب شوهدت من الرسول الحبيب يوحنا في جليانه ملتحفةً بالشمس (أبوكاليبسي ص12ع1): لأنها بهذا المقدار كانت هي متحدةً بالله بشدة الحب (كما يقول القديس برنردوس مفسراً كلمات الأبوكاليبسي المومى إليها) حتى أنه يبان أن خليقةً بسيطةً لا يمكنها أن تتحد به تعالى أتحاداً أشد من هذا الأتحاد. فاذاً بالصواب مثلت هذه البتول المجيدة بالأمرأة الملتحفة بالشمس، اذ أنها تغمرت في أقصى عمق الحكمة الإلهية بأكثر مما يمكن تصديقه، بنوع أنها أستبانت غائصةً في ذاك النور الغير المقترب منه، بمقدار ما توجد الخليقة موضوعاً قابلاً لذلك. خلواً من الأتحاد الأقنومي بالله: ثم أن القديس بوناونتورا يشهد لنا بقوله: أن هذه الأم الإلهية لم تجرب قط من الأركون الجهنمي، لأنه كما أن الدبان والدبابير تهرب من لهيب نارٍ متأججةٍ عظيمة، فهكذا الشياطين كانوا مطرودين عن قلب هذه الطوباوية المتأجج بلهيب نار الحب الإلهي. ولذلك لم تجسر الأرواح النجسة حتى ولا على الأقتراب من قلبها ليجربوها: وكذلك يقول ريكاردوس: أن البتول المجيدة وجدت مخفيةً لأركون الظلام. بنوع أنه لم يمكنه أن يدنو منها بتجربةٍ ما، لأهتيابه من لهيب نار الحب نحو الله المتقدة في قلبها. بل أن والدة الإله نفسها أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها اذ كانت هي في العالم، لم يكن لها لا فكرٌ آخر ولا شوقٌ ما، ولا لذةٌ أخرى، سوى الله: ولهذا كتب عنها الأب سوارس: أن نفسها المباركة اذ كانت دائماً في مدة حياتها على الأرض مرتفعةً الى العلاء في الثاوريا نحو الله. غائصةً بالتأمل فيه تعالى. فمن ثم أفعال الحب ونوافله وعواطفه كانت مفعولةً منها بعددٍ فائق الأحصاء ثم أنه قد أسرني ما كتبه برنردينوس البوسطي قائلاً: أن مريم البتول بأختصاصٍ مريدٍ موهوبٍ لها من الله. كانت تحبه عز وجل بفعل حبٍ واحدٍ حاليٍ فعالٍ متصلٍ، أحرى مما بأفعالٍ مترادفةٍ متكررةٍ كما يفعل القديسون الآخرون: وقال القديس بطرس داميانوس: أن العذراء المجيدة هي شبه النسر كانت عيناها محدقةً على الدوام في الشمس الإلهية بنوع أنه لا أعمالها الخصوصية المتعلقة بأحتياجات الحياة الزمنية. كانت تمنعها عن أفعال الحب لله. ولا الحب الإلهي كان يصدها عن ممارسة تلك الأعمال. ولهذا يقول القديس جرمانوس: أن مذبح الغفران الذي فيه كانت متقدةً النار الدائمة من دون أن تخمد أو تنطفئ لا نهاراً ولا ليلاً قد كان رسما لمريم العذراء.*

بل أن النوم الطبيعي نفسه لم يكن يمنع هذه السيدة المجيدة عن أفعال الحب نحو الله، بمحبتها إياه تعالى حين رقادها عينه. لأنه أن كانت هذه الموهبة الأختصاصية قد أعطيت لآدم وحواء في حين خلقتهما، أي في حال البر الأصلي، كما يشهد القديس أوغوسطينوس بقوله: أن أبوينا الأولين كانا سعيدين على حدٍ سواء كما في حال يقظتهما كذلك في حين نومهما. فمن المعلوم الأكيد خلواً من أرتيابٍ لم تكن تنكر الخصوصية المذكورة على هذه الأم الإلهية. حسبما يحامي عن أختصاصها بها الأب سوارس، والأنبا روبارتوس جملةً مع القديس برنردينوس، ومع القديس أمبروسيوس القائل: أن نفس البتول مريم كانت تستمر ساهرةً متيقظةً حينما كان جسدها يأخذ الراحة بالنوم: وبهذا قد تصادق محققاً ما سبق وقاله عنها الحكيم: وذاقت جيداً أن تعمل فلا ينطفئ طول الليل سراجها: (أمثال ص31ع18) أي نعم أن الأمر هو كذلك: لأنه حينما كان جسد هذه القديسة المغبوط يأخذ بالنوم الخفيف قليلاً من الراحة الضرورية لحياتها، فكانت نفسها السعيدة (يقول القديس برنردينوس) حينئذٍ متحدةً بالله. ولهذا قد كانت هي في حين رقادها بأبلغ نوع من الكمال متأملةً فيه تعالى بأسلوبٍ أفضل من أن يمارس هذا التأمل من يكون في حال اليقظة". وهكذا كان يمكن بالصواب لهذه السيدة أن تقول مع عروسة النشيد: أنا نائمةٌ وقلبي ساهرٌ: (نشيد ص5ع2): فهكذا أنا كنت سعيدةً في حال نومي بمقدار ما كنت سعيدة في حين يقظتي: (كما يقول عنها الأب سوارس) وبالأجمال كتب القديس برنردينوس قائلاً: أن مريم العذراء في مدة حياتها على الأرض كانت بأتصالٍ من دون أنقطاعٍ تحب الله دائماً: بل أضاف الى ذلك بقوله: أنها لم تفعل قط الا تلك الأشياء التي تكون هي سبقت وعرفت أن بها كانت ترضي الله وتسره. وأنها أحبته تعالى بمقدار ما أعتبرت ذاتها ملتزمةً بحبه: بنوع أنه (كما كتب الأنبا ألبارتوس الكبير) يمكن جيداً أن يقال عنها أنها قد أمتلأت من الحب الشديد لله بهذا المقدار، حتى أنه لم يعد ممكناً على نوعٍ ما أن توجد خليقةٌ بسيطةٌ في الأرض موضوعاً قابلاً لأن تستوعب حباً أكثر من ذلك: ولهذا قال القديس توما الفيلانوفي: أن البتول المغبوطة بواسطة فضيلة محبتها لله المتقدة في الغاية. قد صيرت ذاتها بهذا المقدار جميلةً في عينيه تعالى. ومحبوبةً منه كثيراً، حتى أنه عز وجل أنجذب من حبها لأن ينحدر من السماء الى مستودعها متأنساً. ولذلك يهتف القديس برنردينوس قائلاً: هوذا أن فتاةً بتولاً قد جرحت قلب الله حباً بفضيلتها، وعطفته الى حبها الشديد:*

فاذاً من حيث أن العذراء المجيدة تحب إلهها حباً هذا حده وصفته، فأمرٌ أكيدٌ هو أنها لا تطلب راغبةً من المتعبدين لها شيئاً آخر بمقدار ما تريد منهم أن يحبوه تعالى بكل ما يمكنهم. فهكذا قالت هذه السيدة للطوباوية أنجلا التي من مدينة فولينو في يومٍ ما حينما تناولت أنجلا القربان الأقدس، مخاطبةً إياها بهذه الكلمات وهي:" كوني مباركةً من أبني يا أنجلا، وأجتهدي في أن تحبينه بكل أستطاعتكِ". وقالت للقديسة بريجيتا:" أن كنتِ يا أبنتي تريدين أن تتحدي بي برباط الوحدة، فأحببي أبني". وبالأجمال أنها لا تشتهي شيئاً آخر سوى أن يكون أبنها الذي هو الله بالذات محبوباً من الجميع. وهنا العلامة نوفارينوس يسأل كمستفهمٍ: لماذا البتول القديسة تتوسل مع عروسة النشيد للمليكة بأن يخبروا سيدها عن الحب المضطرم سعيره، الذي به كانت هي تحبه قائلةً: يا بنات أورشليم أستحلفكن اذا وجدتن حبيبي فأخبرنه بأني أنا من المحبة ضعيفةٌ عليلةٌ (نشيد ص5ع8) أهل أن الله ما كان يعلم كم هي كانت تحبه: وهو نفسه يرد الجواب عن ذلك قائلاً: أن هذه الأم الإلهية قد أرادت بذلك أن تعلن لنا، لا لله، شدة حبها. حتى كما أنها كانت هي ضعيفةً مجروحةً بسهام الحب الإلهي، تقدر أن تجرحنا نحن أيضاً بهذا الحب، لأجل أنها هي مشتعلةٌ بجملتها بنار حب الله، فهكذا اذين يحبونها ويقتربون إليها هي تشركهم بحرارتها وتجعلهم متشبهين بها: ومن هذا القبيل كانت القديسة كاترينا السيانية تسمي هذه البتول: جالبة نار الحب الإلهي: فأن كنا نحن أيضاً نريد أن نلتهب بهذه النار المغبوطة، فلنجتهد دائماً في أن نقرب من أمنا مريم المجيدة بالصلوات والتوسلات وبعواطف الحب نحوها.*

فيا مريم سلطانة الحب، أنتِ هي الموضوع الأعظم حباً، وأنتِ هي المحبوبة أشد حباً من الجميع، وأنتِ هي المتقدة بنار الحب أكثر من كل أحدٍ (حسبما يهتف نحوكِ القديس فرنسيس سالس) فيا أمي أنتِ كنتِ على الأرض مشتعلةً بكليتكِ دائماً بلهيب نار الحب نحو الله. فتنازلي مرتضيةً بأن تهبيني قلما يكون شرارةً واحدةً من هذه النار، فأنتِ قد تضرعتِ لدى أبنكِ يسوع من أجل العروس والعروسة اللذين في وليمة عرسهما في قانا الجليل نقص عنهما الخمر قائلةً له تعالى: أن ليس عندهم خمرٌ: أفهل لا تتضرعين لديه من أجلنا نحن الفارغين من خمر الحب نحو الله، مع أننا ملتزمون ألتزاماً هذا حد صرامته بأن نحبه عز وجل. فقولي اذاً له: أن هؤلاء ليس عندهم حبٌ: وهكذا أنتِ أستمدي لنا منه هذا الحب، ونحن لا نطلب منكِ نعمةً أخرى غير هذه. فيا أيتها الأم الإلهية بحق المحبة التي بها أحببتِ يسوع وتحبينه أستجيبي لنا وصلي من أجلنا الآن وفي ساعة موتنا آمين.*

كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الثالث

* في شأن محبة البتول والدة الإله الحارة نحو القريب أيضاً*

أن المحبة لله والمحبة للقريب قد رسمت علينا من قبل الله بوصيةٍ واحدةٍ هي نفسها: لأن هذه الوصية لنا منه، أن من يحب الله، يحب أخاه أيضاً: (يوحنا أولى ص4ع21): والسبب في ذلك، يقول القديس توما اللاهوتي، هو لأن الذي يحب الله فيحب أيضاً كل الأشياء المحبوبة منه تعالى: فالقديسة كاترينا التي من مدينة جانوا كانت يوماً ما تخاطب الله قائلةً: أيها الرب أنتَ تريد مني أن أحب قريبي، وأنا لا أقدر أن أحب آخر غيركَ. فالباري جلت رأفته قد أجابها عن ذلك بقوله لها: أن من يحبني يحب كل الأشياء المحبوبة مني. فاذاً من حيث أنه ما وجد قط، ولن يوجد أصلاً من أحب الله أو يحبه أكثر من والدته المجيدة، فهكذا لم يوجد مطلقاً ولن يكون أبداً من أحب القريب أو يحبه أكثر من حبها إياه. فالأب كورنيليوس الحجري اذ يفسر كلمات سفر النشيد (ص3ع9) وهي: أن سليمان الملك عمل له عماريةً من خشب لبنان، فعمل عمدها من فضةٍ، ومتكأها من ذهبٍ، وجلالها من أرجوان، وباطنها مرصعاً، وذلك بواسطة محبة بنات أورشليم: فيقول:" أن هذه العمارية أي العرش هي رسم مستودع مريم البتول الذي عندما سكن فيه كلمة الله متجسداً، قد أوعب والدته هذه حباً وشفقةً، لكي تساعد هي مسعفةً كل من يلتجئ إليها". ولذلك قد كانت هذه الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض ممتلئةً من المحبة والرأفة بهذا المقدار، حتى أنها كانت تسعف المحتاجين من دون أن يلتمسوا منها ذلك. كما فعلت في عرس قانا الجليل، بطلبها من أبنها أن يصنع تلك الأعجوبة، موردةً لديه أحتياجهم بقولها: أن ليس عندهم خمرٌ: (يوحنا ص2ع3) فكم كانت هي سريعةً نشيطةً حارةً في الأعمال الملاحظة أسعاف القريب، حسبما يظهر عن أهتمامها في مساعدة القديسة أليصابات، حينما فهمت من زعيم الملائكة أنها كانت حبلى بأبنٍ على شيخوختها لأنها قامت مسرعةً وذهبت الى الجبل الى مدينة يهوذا ودخلت الى بيت زخريا: (لوقا ص1ع39) ثم أنها لم تستطع أن تظهر نحو البشر أشد حباً من أنها تقدم لله الآب من أجل خلاصهم أبنها الوحيد ضحيةً على جبل الجلجلة. كما يقول القديس بوناونتورا: أن مريم هكذا أحبت العالم، حتى أنها بذلت عنه أبنها الوحيد: والقديس أنسلموس يخاطبها قائلاً: أيتها المباركة في النساء أن طهارتكِ فاقت طهارة الملائكة، وأشفاقكِ سما على أشفاق كل القديسين. ويقول القديس بوناونتورا عينه: أن رأفة مريم ومحبتها إيانا لم تنقص فيها أصلاً بعد أرتقائها الى السماء حيث هي الآن جالسة، بل أن ذلك قد أزداد فيها هناك نامياً وأشتد حرارةً لأنها الآن بأبلغ نوع تشاهد أحوال شدائد البشر: ومن ثم كتب هذا القديس قائلاً: ان مراحم مريم نحو المساكين المضنوكين قد كانت عظيمةً حينما هي وجدت عائشةً على الأرض، ولكن هذه المراحم هي الان فيها أعظم في وجودها مالكةً في السماء ولذلك قال ملاك الرب للقديسة بريجيتا:" أن ما من أحدٍ يتوسل الى والدة الإله، ولا ينال من قبل حبها النعمة التي يطلبها". بل أن مخلصنا نفسه أوحى لهذه القديسة بقوله لها: يا لتعاسة أولئك الذين لا تتوسل من أجلهم أمي البتول:*

فهذه العذراء المجيدة تقول بلسان الحكيم، مغبوطٌ هو الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبواب مداخلي: (أمثال ص8ع34) وقد كتب القديس غريغوريوس النزينزي قائلاً:" أنه لا يوجد شيءٌ يصيرنا أن نكتسب بأفضل نوعٍ أنعطافات مريم البتول بالحب نحونا بمقدار هذا الشيء، وهو ممارستنا واجبات المحبة نحو القريب". وبالتالي أنه كما أن الله يحرضنا بقوله لنا: كونوا رحومين فأن أباكم رحومٌ هو: (لوقا ص6ع36) فكذلك مريم يبان أنها تقول نحونا جميعاً نحن أولادها: يا أبنائي كونوا رحومين فأن امكم رحومةٌ هي: فأمرٌ أكيدٌ هو أنه بمقدار الرحمة والأسعاف اللذين بهما نحن نرحم قريبنا ونسعفه، فتكون رحمة الله ورأفة والدته ممارسةً نحونا. كقوله تعالى: أعطوا تعطوا بمكيالٍ صالحٍ مملؤٍ يلقون في حضنكم. (لوقا ص6ع38) وكان القديس متوديوس من عادته أن يقول: أعطِ الفقراء وخذ الملكوت: لأن الرسول الإلهي كتب قائلاً: أما العبادة الحسنة فهي نافعةٌ في كل شيء، اذ لها موعد الحيوة الحاضرة والمنتظرة (تيموتاوس أولى ص4ع8) والقديس يوحنا فم الذهب اذ يتكلم عن قول الحكيم وهو: أن من يرحم مسكيناً يقرض الرب وسيكافئه على قدر عطيته: (أمثال ص14ع17) فيقول: أن من يسعف المحتاجين يصير الله مديوناً له:*

فيا أم الرحمة أنتِ مملؤةٌ أشفاقاً وترأفاً ومحبةً نحو الجميع، فلا تنسي شقاوتي ومسكنتي، لأنكِ تشاهديني وتعرفين حالي. فأوصي بي ذاك الإله الذي لا يمكن أن ينكر عليكِ شيئاً، وأستمدي لي منه النعمة في أن أقتفي نموذجكِ في فضيلة المحبة نحو الله ونحو القريب آمين.*



كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الرابع

* في فضيلة إيمان العذراء والدة الإله المجيدة *

أنه كما أن البتول مريم هي أم المحبة والرجاء فهكذا هي أم الإيمان أيضاً، كقولها: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: (أبن سيراخ ص24ع24): وهذا بالصواب، يقول القديس أيريناوس، لأن ذلك الضرر الذي سببته حواء بعدم إيمانها، فقد أصلحته مريم بحسن إيمانها: اذ أن حواء (يقول المعلم ترتوليانوس) لأجل أنها صدقت قول الحية ضد ما كان الله قاله. فقد أجتلبت الموت، وأما ملكتنا المجيدة فاذ صدقت كلام زعيم الملائكة، بأنها مع حفظ خواتيم بتوليتها كانت مومعةً أن تصير أماً لله متجسداً من أحشائها، فقد أجتلبت للعالم الخلاص. وهكذا يقول القديس أوغوسطينوس: أن مريم البتول بأعطائها رضاها بتجسد كلمة الله الأزلي في مستودعها، فبواسطة إيمانها قد فتحت للبشر أبواب الملكوت: وريكاردوس اذ يتكلم عن قول الرسول الإلهي: فأن الرجل الغير المؤمن يتقدس بالأمرأة المؤمنة: (قرنتيه أولى ص7ع14): يقول عن البتول مريم: هذه هي الأمرأة المؤمنة التي بها تقدس الرجل الغير المؤمن آدم وكل ذريته: ولأجل أمانة هذه العذراء الكلية القداسة قد أعطيت هي الطوبى من القديسة أليصابات القائلة لها: فطوبى لتلك التي آمنت ليكون لها ما كلمت به من قبل الرب: (لوقا ص1ع45) ويضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس بقوله: أن مريم قد حصلت على أعظم طوبى بأقتبالها الإيمان بما بشرها به زعيم الملائكة بسر التجسد، من الطوبى الذي هي حصلت عليه بأقتبالها المسيح متجسداً في أحشائها:*

أما الأب سوارس فيقول:" أن البتول القديسة حصلت على إيمانٍ أعظم من إيمان البشر كلهم ومن إيمان الملائكة بأسرهم، فهي كانت تشاهد أبنها طفلاً في معلف البهائم في مغارة بيت لحم. وكانت مؤمنةً به أنه خالق البرايا كافةً. وكانت تراه هارباً الى مصر من يد هيرودس، ولم ترتب في أن تؤمن به أنه ملك الملوك ورب الأرباب. قد شاهدته مولوداً من مستودعها، وآمنت به أنه أزلي. قد راته مسكيناً محتاجاً الى القوت والكسوة، وأعتقدت به أنه سلطان العالمين. قد درجته باللفايف ووضعته فوق التبن في المذود. وآمنت به أنه قادرٌ على كل شيءٍ. قد لاحظته صامتاً كالأطفال، وأعتقدت به أنه الحكمة الإلهية الغير المتناهية. كانت تسمعه باكياً كالرضعان، وآمنت به أنه فرح الفردوس ونعيم الملكوت. وأخيراً رأته حين موته على الخشبة مهاناً محتقراً. وأستمرت ثابتةً على أعتقادها به أنه هو الإله، في الوقت الذي فيه كان الآخرون يرتابون ضعفاً في الأمانة". وقد كتب القديس أنطونينوس بتكلمه عن قول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: قائلاً: أن مريم كانت واقفةً تحت الصليب مرتفعة العقل بالإيمان الذي كانت حافظته بألوهية أبنها المصلوب، ولأجل ذلك قد جرت العادة في أن تحفظ شمعةٌ واحدةٌ متقدةً بعد طفي بقية الشموع حين صلاة فرض الآلام: وبهذ المعنى فسر القديس لاون الكبير كلمات سفر الأمثال وهي: فما ينطفي طول الليل سراجها: (ص31ع18) أما القديس توما اللاهوتي فعلى تفسير كلمات أشعيا النبي وهي: دست معصرةً وحدي ولم يكن معي من الأمم رجلٌ: (ص63ع3) قد كتب قائلاً: أنه أنما سمى الرجل أستثناءً عن البتول المجيدة التي قط لم ينقص إيمانها:*

ولهذا قال الطوباوي ألبارتوس الكبير:" أن مريم البتول حينئذٍ قد أظهرت بالعمل أمانةً عظيمةً بدرجةٍ كلية السمو، اذ لم ترتب في ذاك الذي وقتئذٍ تلاميذه أنفسهم كانوا يرتابون فيه". ولذلك قد أستحقت مريم لأجل عظم إيمانها أن تصير نوراً للمؤمنين كلهم، كما يسميها القديس متوديوس. وأن تدعى سلطانة الإيمان الحقيقي، حسبما يلقبها بذلك القديس كيرللس الأسكندري. بل أن الكنيسة المقدسة تخصص بأستحقاقات إيمان هذه البتول العظيم أنغلاب الأرتقات كلها، اذ تقول نحوها في الأنتيفونا الأولى من السهرانة الثالثة هكذا: أفرحي أيتها البتول مريم، أنتِ التي قد لاشيتِ مستأصلةً من كل العالم الأرتقات بأسرها: على أن القديس توما الفيلانوفي اذ يفسر ما قاله الروح القدس في سفر النسيد وهو: أيتها العروسة أختي جرحتِ قلبي بإحدى عينيكِ: (ص4ع9) فيقول: أن عيني هذه العروسة هما إيمان مريم العظيم الذي سر به جداً ربها وعروسها.*

وهنا القديس أيدالفونسوس يحرض الجميع بقوله:" أتبعوا نموذج أمانة مريم البتول العظيمة". ولكن كيف وبأية طريقةٍ نتبع نحن أيمان هذه السيدة العظيم، فالإيمان هو في الوقت عينه موهبةٌ وفضيلةٌ معاً، فهو موهبةٌ من الله نظراً الى النور السماوي الذي يفيضه تعالى في النفس، وهو فضيلةٌ نظراً الى أفعال الإيمان التي تمارسها النفس بذاتها. ومن ثم أن الإيمان ليس فقط يدربنا للأعتقاد بالحقائق التي يعلمناها هو ويرشدنا إليها، بل أيضاً يقودنا الى الأعمال المختصة به. ولذلك يقول القديس غريغوريوس الكبير: أن من يضيف الى الإيمان الحقيقي الأعمال الواجبة للإيمان، فذاك هو المؤمن: وكتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أنك يا هذا تقول أنا أؤمن. فأعمل بما تقول وهذا هو الإيمان: على أن الإيمان الحي بالحقيقة هو الحيوة بموجب واجبات الإيمان، أي أن يعيش المرء بحسبما يؤمن، كما يقول الرسول الإلهي: أن الصديق من الأمانة يحيى: (عبرانيين ص10ع38) فهكذا عاشت الطوباوية مريم البتول، خلافاً لأولئك الذين لا يحيون بموجب ما يؤمنون به. وبالتالي أن إيمانهم على هذه الصورة هو ميتٌ كقول القديس يعقوب الرسول: أن الأمانة أن لم يكن لها عملٌ فهي مائتةٌ في ذاتها: (ص2ع17) فالفيلسوف ديوجانه كان يجول في الأرض قائلاً: أني أدور مفتشاً لأصادف إنساناً: وهكذا يبان أن الله فيما بين عددٍ فائق الإحصاء من المؤمنين يجول في الأرض قائلاً: أني أدور مفتشاً لأصادف مسيحياً. من حيث أنهم قليلون جداً هم أولئك الذين يعملون أعمال الإيمان، والأكثرون يوجد عندهم من الأمانة الأسم فقط. ولكن يلزم أن يقال لهؤلاء الكثيرين ما تفوه به الملك ألكسندروس الكبير نحو ذاك الجندي الكسلان الذي هو أيضاً كان أسمه ألكسندروس قائلاً له: أنه ينبغي لك أما أن تغير أسمك، وأما أن تغير تصرفك: الا أنه لأفضل هو ما كتبه في هذا الشأن الأب العلامة أفيلا بقوله: أنه لقد كان يجب أن يوضع هؤلاء الكثيرون مسجونين في بيمارستان المجانين، لظنهم في أن سعادةً أبديةً معدةً لمن يعيش متنعماً في هذه الحياة، وأن تعاسةً سرمديةً مهيأةً لمن يعيش بالمرائر والأضامات في الدهر الحاضر. ثم لسلوكهم بسيرةٍ توضح كأنهم لم يؤمنوا بحقائق الأنجيل: ولهذا يحرضنا القديس أوغوسطينوس على أن ننظر الى الأشياء الأرضية بأعين مسيحية، أي بأعين تنظر بموجب الإيمان المسيحي. لأنه تقول القديسة تريزيا: أن من قبل نقص الإيمان تتولد الخطايا كلها: ولهذا يلزمنا أن نتوسل لدى البتول والدة الإله المثلثة القداسة في أن تستمد لنا بأستحقاقات إيمانها العظيم، أمانةً حيةً نعيش فيها قائلين نحوها: يا سيدتنا زيدينا إيماناً.*

كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الخامس

* في فضيلة الرجاء الثابت الذي كان لوالدة الإله الطوباوية *

أن من فضيلة الإيمان تتولد فضيلة الرجاء لأن الله لهذه الغاية ينيرنا بالإيمان لنعرف خيرية صلاحه وصدق مواعيده. وهكذا نرتقي بواسطة الرجاء بعواطف الشوق الى أمتلاكنا إياه تعالى. فاذاً من حيث أن مريم البتول قد كانت حاصلةً على إيمان غظيم، ففازت أيضاً بفضيلة رجاءٍ ثابتٍ وطيدٍ كان يجعلها أن تقول مع النبي والملك داود: خيرٌ لي الألتصاق بالله وأن أجعل على الرب أتكالي: (مزمور73ع28) فمريم هي تلك الأبنة عروسة الروح القدس التي قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من البرية متدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) لأنها كانت بجملتها منزهةً عن تعلق القلب في الأشياء العالمية، بعيدةً على الدوام عن الأنعطاف نحو الموجدات الأرضية، معتبرةً العالم بأسره كبريةٍ مقفرةٍ، ولهذا اذ لم تكن تثق بشيءٍ من المخلوقات، ولم تكن تعتمد على شيءٍ من أستحقاقاتها الذاتية، فكانت بكليتها مستندةً على حبيبها، أي متكلةً بحسن الرجاء على النعمة الإلهية التي فيها فقط كانت تثق، وعليها وحدها كانت تتكل في حبها الدائم لله ربها. فهكذا يتكلم عنها المعلم أيلغرينوس في تفسيره ألفاظ سفر النشيد المقدم إيرادها، كما يوضح كورنيليوس الحجري قائلاً: أن الصاعدة من البرية تعني الصاعدة من العالم الذي هجر متروكاً منها. وأعتبرته نظير القفر، حتى أنها قد كانت لاشت منها كل أنعطافٍ نحوه، وأستندت على حبيبها فقط، وذلك لأنها لم تستند على أستحقاقاتها الذاتية، بل أعتصمت بنعمة أبنها الحبيب معطي النعم. فالبتول القديسة أظهرت جيداً وأعلنت واضحاً كم كان رجاؤها بالله وأتكالها عليه تعالى عظيماً، وذلك:

أولاً:حينما لاحظت بالكفاية أن خطيبها الطاهر القديس يوسف لعدم معرفته حقائق الحبل العجيب المصنوع بقوة الروح القدس وفعله في أحشائها البتولية حصل قلقاً مرتاباً ومن ثم هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) ولهذا كان يبان أنها وقتئذٍ وجدت مضطرةً لأن تخبره بسر حبلها، كما أوردنا في الفصل الأول من هذه المقالة. الا أن هذه البتول لم ترد من تلقاء ذاتها أن تكشف حقائق النعمة التي أقتبلتها، وأعتبرت أنه لأفضل لها هو أن تترك الأمر للعناية الإلهية، متكلةً عليها كل الأتكال، مترجيةً بثقةٍ في أن الله عينه لم يكن يغفل عن أن يظهر برارتها، ويحامي عنها بعدم أنثلام صيتها، فهكذا يفسر الاصحاح الأول من بشارة متى الأب كورنيليوس الحجري.*

ثانياً:أوضحت أتكالها بحسن الرجاء على الله حينما رأت ذاتها بالقرب من ساعات ولادتها مطرودةً من بيت لحم، حتى من المنازيل المشاعة. وألتزمت بأن تلتجئ الى مغارةٍ خارج المدينة لتلد هناك رب المجد، كقول البشير لوقا: فولدت أبنها البكر ولفته بلفائف ووضعته في مذودٍ. لأنه لم يكن لهما موضعٌ لينزلا: (ص2ع7) فهي لم تتفوه بكلمةٍ ما ذات تذمر، بل فوضت أمرها لله بكمال الأتكال، واثقةً بأنها في ظروفٍ هذه صفتها كانت تفوز بالأسعاف والمعونة منه تعالى.*

ثالثاً: ومثل ذلك أعلنت حسن رجائها بالله حينما أخبرها القديس يوسف بالوحي الذي بواسطته أمر من قبل الله بأن يأخذها مع طفلها الإلهي، ويهربوا معاً الى مصر من رجز هيرودس. فهي حالاً في تلك الليلة عينها أخذت بالمسير مبتدئةً بسفرٍ شاسع المسافة الى بلادٍ مجهولةٍ منها، خلواً من أحتياجات السفر ومن دون مال، وخلواً من خادمةٍ أو رفقاء سوى طفلها وخطيبها، بل قاموا ليلاً وأخذوا بالمسير الى مصر (متى ص2ع14).*

رابعاً: أنها أظهرت بأبلغ نوع رجاءها بالله عندما ألتمست من أبنها صنع الأعجوبة في عرس قانا الجليل، لأنها بعد أن قالت له: أن ليس عندهم خمرٌ: وهو أجابها: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فمع ذلك أي غب أن سمعت منه تعالى هذا الجواب الذي كان يظهر منه أنه أنكر مطلوبها، فلم يضعف فيها الرجاء، بل قالت للخدام: أفعلوا كل ما يأمركم به: (يوحنا ص2ع3) كما تم بالحقيقة رجاؤها بأن يسوع أمر الخدام بأن يملأوا الست الأجلجين ماءً وأحال الماء اللا خمرٍ.*

قلنتعلم اذاً من مريم العذراء أن نتكل على الله بحسن الرجاء كما ينبغي لا سيما في الأشياء الملاحظة ذاك العمل العظيم المختص بخلاصنا الأبدي، الذي ولئن كان محتاجاً الى أعمالنا نحن أيضاً، فمع ذلك يلزمنا أن نرجوا من الله وحده النعمة في أن نحصل عليه، ميؤوسين بالكلية من قوانا الذاتية. وليقل كلٌ منا مع الرسول الإلهي: أنا أقوى على كل شيءٍ بذاك الذي يقويني: (فيليبوسيوس ص4ع13):*

فيا أيتها البتول أمي الكلية القداسة. أنكِ أنتِ هي أم الرجاء المقدس. كما تقولين عن لسان أبن سيراخ: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والرجاء المقدس: (ص24ع24) بل أن الكنيسة المقدسة تسميكِ الرجاء بالذات بقولها نحوكِ: السلام عليكِ يا رجانا: فاذاً أيُّ رجاءٍ أنا أطلب مفتشاً. والحال أنكِ أنتِ بعد يسوع هي رجائي بأسره. فهكذا كان يدعوكِ القديس برنردوس: وكذلك أنا أدعوكِ قائلاً: فيكِ أوطد كل رجائي: وأقول لكِ دائماً مع القديس بوناونتورا: يا خلاص المستغيثين بكِ خلصيني.*



كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل السادس

* في فضيلة عفة البتول والدة الإله الكلية الطهارة *

أنه اذ كان بعد سقطة الأب الأول آدم قد تمرد في الإنسان ألم الشهوة على العقل، فقد أضحت ممارسة أفعال فضيلة العفة ذات صعوبات أبلغ مما سواها من الفضائل. كما يقول القديس أوغوسطينوس:" أنه توجد داخل كل منا معركةٌ قويةٌ جداً، حيث تتحارب العفة مع الآلام محاربةً متصلةً بقليل من الأنتصار. فليكن مباركاً الرب الذي أعطانا في شخص العذراء مريم نموذجاً حياً لفضيلة العفة". فيقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه بالصواب تسمى والدة الإله عذراء العذارى. لأنها اذ كانت هي أول من قدم لله طوعاً حفظ البتولية الدائمة، خلواً من نموذجٍ سبق مثله، ومن دون مشورةٍ تقدمت لها. فهي بذلك أعطته تعالى كل البتولات اللواتي أقتدين بنموذجها، كما سبق داود النبي قائلاً: أن العذارى يبلغن الى الملك في أثرها... ويدخلن الى هيكل الملك: (مزمور45ع15) وأنما قلت أن العذراء كرست بتوليتها الدائمة خلواً من نموذج ومن دون مشورة. لأن القديس برنردوس يخاطبها هكذا:" ترى من هو الذي علمكِ أيتها العذراء بأنكِ ترصين الله بحفظكِ البتولية، وبأن تعيشي على الأرض بسيرةٍ ملائكية". فيجيب عن ذلك القديس صفرونيوس قائلاً: أنه لأجل هذه الغاية قد أختار الله أماً له بالجسد هذه البتول الكلية الطهارة. لكي تكون هي للجميع نموذجاً للعفة: ولذلك يدعوها القديس أمبروسيوس: مقدام فضيلة العفة وقائدتها:*

بل أن الروح القدس نفسه خاطبها لأجل نقاوتها وعفتها هكذا: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) وكما يفسر العلامة أبونيوس: يمامةً كلية الطهارة: ولذلك لقبت أيضاً بالسوسن والزنبق كقوله تعالى: مثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات: (نشيد ص2ع2) وهنا ينبه القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله: أن البتول المجيدة قد سميت سوسناً أو زنبقاً أم وردةً بين الأشواك. لأن البتولات الأخرات كلهن كن أشواكاً وقرطباً وعثراتِ أما لغيرهن، وأما لذواتهن، فأما هذه الطوباوية فلم تكن كذلك: لأنها كانت بمجرد النظر إليها تجلب في القلوب أفكار الطهارة والعفاف والميل نحو محبة النقاوة والعفة: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن جمال خلقة البتول المجيدة كان يحرك ناظريها الى العفة: ثم كتب القديس أيرونيموس، بأنه هو متمسكٌ برأيه في أن القديس يوسف الخطيب قد حفظ البتولية ليكون رفيقاً لهذه العذراء المجيدة، غير مفارقٍ إياها، لأنه أي القديس أيرونيموس بكتابته ضد الفيديوس الأراتكي الناكر بتولية هذه الأم الإلهية يقول له هكذا: فأنت تزعم أن مريم والدة الإله لم تستمر فيما بعد حافظةً عذريتها. وأنا بضد ذلك أقول، بل أرتأي بأكثر من هذا بأن القديس يوسف أيضاً عروسها قد حفظ البتولية لأجل هذه العروسة الدائمة بكارتها". وقد قال أحد العلماء: أن الطوباوية مريم العذراء كانت بهذا المقدار منشغفة القلب بمحبة فضيلة العفة. حتى أنها لكي تحفظ هي عذريتها دائمةً لقد كانت ترفض أن تقبل لالدعوة الكلية العظمة والسمو وهي الوالدية لله، لو كان يقترن بهذه الدعوة فقدها بتوليتها: وهذا يستنتج واضحاً مما أجابت هي به زعيم الملائكة جبرائيل قائلةً له: كيف يمكن أن يكون هذا وأنا لم أعرف رجلاً: (لوقا ص1ع34) وأيضاً مما أختتمت به خطابها معه بقولها: فليكن لي كحسب قولك: مشيرةً بهذا ومفسرةً به نيتها في أنها أنما قد أعطت رضاها بتجسد كلمة الآب من أحشائها، بالنوع الذي قاله لها رئيس الملائكة. وهو أنها كانت مزمعةً أن تصير أماً بهذه الطريقة فقط، وهي بحلول الروح القدس عليها وبتظللها بقوة العلي، أي بفعلٍ فائق الطبيعة بقوة الروح القدس.*

ويقول القديس أمبروسيوس: أما الذي يحفظ عذريته فملاكٌ هو وأما الذي يخسرها فشيطانٌ: أي أن أولئك الذين يعيشون بالعفاف فيصيرون كالملائكة. كقوله تعالى: لأنهم في القيامة لا يزوجرون ولا يتزوجون، لكن يكونون كملائكة الله: (متى ص22ع30) وأما الزناة والفاسقون فيضحون مبغوضين من الله نظير الشياطين. وكان القديس راميجيوس من عادته أن يقول:" أن أكثر البالغين سن الرجولية يهلكون لأجل رذيلة الدنس". لأن الأنتصارات ضد هذه الرذيلة هي شيءٌ نادرٌ. كما أوردنا في ذلك كلمات القديس أوغوسطينوس عند بداية هذا الفصل. ولكن ما السبب في أن الأنتصارات هي نادرةٌ. فأنما السبب هو من عدم ممارسة الوسائط الضرورية لأكتساب الغلبة، فهذه الوسائط هي ثلاث حسبما يبرهن معلموا السيرة الروحية. جملةً مع بيلرمينوس وهي: الصوم، والأبتعاد عن الأسباب، والصلاة، فبالصوم الذي هو الواسطة:

الأولى: تفهم أماتات الحواس، خاصةً النظر والحنجرة. فمريم البتول ولئن كانت هي ممتليئةً نعمةً إلهيةً، فمع ذلك كانت تميت حاسة نظرها محدقةً بعينيها الى الأرض دائماً. كما يقول القديسان أبيفانيوس ويوحنا الدمشقي، ويوردان عنها انها منذ طفولتها كانت متصفةً بأحتشام فريد مذهل ناظريها، ولذلك يوضح القديس لوقا كيفية مضيها لزيارة القديسة أليصابات بقوله: وذهبت مسرعةً: لكيلا تشاهد من كثيرين في مسيرها. وأما بخصوص قناعتها في المأكل، فيخبر فيليبارتوس بأنه قد اوحي الى السائح فيليكوس بأن مريم العذراء اذ كانت طفلةً رضيعةً، فلم تكن ترضع الحليب من أمها سوى مرةٍ واحدةٍ في النهار. ويشهد القديس غريغوريوس الطورنازي، بأنها في أيام حياتها كلها كانت تمارس الصوم، كما يقول القديس بوناونتورا: أنها لما كانت هي قط فازت بنعمٍ هكذا عظيمةٍ، لولا تكون كلية القناعة. وذلك لأن النعمة لن تتفق أصلاً مع الحنجرة. وبالأجمال أن هذه البتول القديسة كانت تمارس الأماتة في الأشياء كافةً، ولذلك بالصواب قيل عنها: قمت، لأفتح لحبيبي يداي قطرتا مراً، وأصابعي مملؤةٌ مراً فائقاً: (نشيد ص5ع5) أما الواسطة:

الثانية:فهي الهروب من الأسباب، لأنه مكتوبٌ: أن من يحذر الفخاخ فيكون مطمأناً: (أمثال ص11ع15) ولذلك كان القديس فيلبس نيري من عادته أن يقول: أن الغالبين في معركة آلام الشهوة أنما هم الجنود الأندال الذين يولون هرباً: أي الذين يهربون من سبب الخطيئة. فمريم العذراء كانت بمقدار أمكانها تهرب من مواجهة الرجال. ولذلك في ذهابها الى الجبل الى بيت زخريا ذهبت مسرعةً كما تقدم الإيراد. ويقول أحد العلماء: أن والدة الإله قد رجعت من بيت زخريا قبل أن يبلغ زمن إيلاد القديسة أليصابات، وهذا يفهم من ألفاظ الإنجيل عينها وهي: فأقامت مريم عند أليصابات نحو من ثلاثة أشهرٍ وعادت الى منزلها. ولما تم زمان أليصابات لتلد فولدت أبناً ألخ: (لوقا ص1ع56) فلماذا لم تستمر هي ماكثةً عند أليصابات لحين ميلاد السابق يوحنا، فأنما فعلت ذلك هرباً من مخالطتها الجيران والمعارف والزوار الذين هي لحظت جيداً أنهم كانوا مزمعين أن يترددوا الى بيت زخريا في حادث فرح ميلاد أليصابان أبناً في حال شيخوختها.*

وأما الواسطة الثالثة:فهي الصلاة، فيقول الحكيم: ولما عرفت أني لا أستطيع أن أكون عفيفاً أن لم يعطيني الله أن أكون، وهذا هو حكمةٌ أن أعلم ممن كانت لي هذه العطية، فذهبت الى الرب وتضرعت إليه: (سفر الحكمة ص8ع21) فالبتول الكلية النقاوة عينها قد أوحت للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس (كما يورد القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتاب حياة المسيح) بأنها لم تمتلك هي فضيلةً ما من فضائلها من دون صلواتٍ متواترة وأتعابٍ متكاثرة. وقال عنها القديس يوحنا الدمشقي:" أن مريم كانت طاهرةً في ذاتها ومغرمةً في حب الطهارة". وبالتالي لا تحتمل هي الناس الدنسين، الا أن الذي يكون معرقلاً برذيلة الدنس ويلتجئ الى هذه العذراء الفائقة الطهر مستغيثاً بها، فمن دون ريبٍ يفوز بالنجاة من دناساته، بل ينجو من تجارب اللحم بمجرد أستدعائه برجاءٍ وحسن أتكالٍ أسم هذه الأم الإلهية مريم. كما يثبت ذلك يوحنا أفيلا المكرم بقوله: أن كثيرين جداً قد أختبروا في ذواتهم النجاة من التجارب المضادة العفة. وأنتصروا عليها بمجرد أنعطافهم نحو البتول البريئة من الدنس:*

فيا أيتها الحمامة الكلية النقاوة مريم العذراء أواه كم هم كثيروا العدد أولئك الذين هلكوا في جهنم من قبل رذيلة الدنس. فأنقذينا منها أيتها السيدة. وأجعلينا أن نلتجئ إليكِ دائماً في حين التجارب التي تثب علينا ضد العفة. وأن نستغيث بكِ قائلين: يا مريم عينينا، يا مريم خلصينا آمين.*



كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل السابع

* في فضيلة الفقر التي كانت البتول المجيدة متصفةً بها *

أن مخلصنا الكلي الحب اذ أراد أن يعلمنا أحتقار خيرات الأرض. قد أرتضى بأن يولد في حال الفقر ويصير مسكيناً في هذا العالم. كما يقول الأنبا المصطفى (قرنتيه ثانية ص8ع9): أنكم تعرفون بنعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم تمسكن وهو الغني، لتستغنوا أنتم بمسكنته. فمن ثم فادينا عينه يحرض كل من يريد أن يكون تابعاً إياه اذ يقول: أن كنت تريد أن تكون كاملاً أمضِ فبع كل ما لك وأعطه للمساكين... وتعال فأتبعني: (متى ص19ع21) فهوذا مريم البتول تلميذة مخلصنا الأكثر كمالاً هي التي قد أتبعت حسناً نموذج أبنها الإلهي. لأن الأب كانيسيوس يبرهن على أن هذه البتول قد كانت ورثت عن والديها وأقاربها موجوداتٍ ذات مداخيل كافيةٍ أن تعيش بكل راحةٍ. فهي أبقت لذاتها منها الشيء القليل، ووزعت الأكثر في أسعاف الفقراء وفي تقدماتٍ لهيكل الرب حتى أن كثيرين يرتأون بأنها صنعت نذر الفقر عينه. بل أنه لمعلومٌ هو أنها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنني منذ البداية قد نذرت على ذاتي في قلبي أن لا أمتلك شيئاً من خيرات الأرض: ثم أن الهدايا التي قدمها لها المجوس في بيت لحم لم تكن ذات ثمنٍ قليلٍ من ذهبٍ ولبانٍ ومرٍ. ولكن هي أعطت كل شيءٍ للفقراء حسبما يشهد القديس برنردوس قائلاً:" أن الذهب الذي قدمه لها المجوس لم يكن ذا كميةٍ جزئيةٍ، بل كان وافراً بنوعٍ لائقٍ بعظمةٍ ملوكيةٍ في تقدمةٍ كذا. الا أن مريم العذراء قد فرقته بواسطة خطيبها البار يوسف على المساكين من دون أن تستبقي لذاتها منه شيئاً". وهذا يتضح من البرهان الآتي إيراده. وهو أن هذه الأم الإلهية حينما قدمت أبنها في هيكل الرب الأورشليمي عند نهاية الأربعين يوماً من ولادتها إياه، فلم تقرب عنه خاروفاً أبن سنةٍ، كالمرسوم على الجميع، ما عدا الفقراء وهذه هي ألفاظ الشريعة: أن الأمرأة اذا أكملت أيام تطهيرها، أبناً ولدت أم أبنةً، فلتأتِ بحملٍ حولىٍ للوقود، وبفرخ حمام أو يمام للخطيئة الى باب قبة الشهادة، وتدفعها الى الكاهن... وأن لم تقدر على تقدمة حملٍ. فلتأخذ زوج يمامٍ، أو فرخي حمامٍ الواحد للوقود والآخر للخطيئة: (أحبار ص12ع6) أما البتول المجيدة فقدمت فرخي حمامٍ أو يمامٍ الأمر المختص بالفقراء اذ يقول البشير: فلما كملت أيام تطهيرها كناموس موسى صعدوا به الى أورشليم ليقيموه للرب كما هو مكتوبٌ في ناموس الرب. أن كل ذكرٍ فاتح مستودعٍ يدعى قدوساً للرب. ولكي يقربوا ذبيحةً كما قيل في ناموس الرب زوج يمامٍ أو فرخي حمامٍ: (لوقا ص2ع22) بل أن هذه السيدة نفسها قد اوحت للقديسة بريجيتا بقولها: أن جميع ما كنت أملكه قد أعطيته للمحتاجين، ولم يكن عندي سوى لوازم القوت الضروري والكسوة التي لا بد منها.*

ثم أن هذه الأبنة الشريفة حباً بالفقر والمسكنة قد أرتضت بأن تخطب هي عروسةً لرجلٍ فقير نجار الذي هو القديس يوسف، وأكتفت بأن تعيش معه فيما بعد من تعبها وكدها بعمل يديها، مجتنيةً سد أحتياجاتها من مكسب عزل القطن أو الصوف. أم من أجرة الخياطة، كما يشهد القديس بوناونتورا. بل أن ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا عن هذه السيدة قال لها: أن البتول مريم كانت تحتقر الأموال والغنى الأرضي كأحتقارها الطين. وبالأجمال أن العذراء المجيدة قد عاشت مدة حياتها فقيرةً جداً، وماتت كذلك. لأنه حين نياحها لم يعرف عنها أنها تركت شيئاً من الموجودات، سوى ثوبين حقيرين من ملبوسها قد أوصت بهما، إيهاباً لأبنتين كنتا خدمتاها في حياتها. كما يورد الميتافرانسته. ونيكيفوروس.*

فالقديس فيلبس نيري كان من عادته أن يقول: أن من يحب الموجودات الأرضية لا يصير قديساً: وتصيف الى ذلك القديسة تريزيا بقولها: أنه ينتج بالصواب أن من يجري وراء أشياء ضائعةٍ معدةٍ ذاتياً للفقدان، فهو أيضاً يضيع معها مفقوداً: وبالعكس تقول هذه القديسة نفسها: أن فضيلة الفقر والمسكنة هي خيرٌ يحوي ضمنه الخيرات الأخرى كلها. وأنما قلت فضيلة الفقر، لأن هذه الفضيلة التي لا تتوقف على هذا الأمر فقط وهو أن مقتنيها يكون في حال الفقر بل على أن يحبه أيضاً. كما يقول القديس برنردوس هكذا: أنه ليس الفقر بل محبة الفقر هي الفضيلة. ولذلك قال الرب: طوبى للمساكين بالروح فأن لهم ملكوت السموات: (متى ص5ع3) وأنما طوباويون هم هؤلاء من حيث أن الذين لا يريدون شيئاً غير الله ففيه تعالى يجدون كل الخيرات، وفي حال فقرهم يصادفون على الأرض ملكوتهم السماوي. كما قد صادفه القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن الله هو إلهي وهو كل شيءٍ لي: فلنحببن اذاً ذاك الخير الوحيد الموجودة فيه الخيرات بأسرها. حسبما يحرضنا القديس أوغوسطينوس بقوله:" أحبب يا هذا خيراً واحداً يحوي في ذاته كل خيرٍ". ولنتضرعن إليه مع القديس أغناتيوس القائل نحوه تعالى:" هبني بنعمتك حبك وحده، وبذلك أكون أنا غنياً كفاية". وحينما يقدح بنا الفقر محزناً إيانا بشدة مرائره، فلنعزين ذواتنا بتفكرنا وقتئذٍ في أن يسوع ومريم عاشا على الأرض في حال الفقر نظيرنا، حسبما يقول القديس بوناونتورا: أن المسكين يقدر أن يتعزى بتذكره فقر يسوع ومسكنة مريم.*

فيا أمي الكلية القداسة أنكِ بالصواب كنتِ تقولين: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي: لأنكِ في هذا العالم لم تتفاخري بالمجد. ولم تحتسبي خيراً شيئاً آخر خارجاً عن الله. فأجتذبيني وراكِ أيتها السيدة مقتلعةً من قلبي محبة العالم. وأجعليني أن أحب ذاك الخير الواحد الذي هو وحده يستحق أن يحب. آمين*

كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الثامن

* في فضيلة الطاعة التي تلألأت في مريم العذراء الكلية القداسة*

أن البتول المجيدة لأجل حبها فضيلة الطاعة لم ترد أن تسمي ذاتها، حينما بشرها زعيم الملائكة جبرائيل بالحبل الإلهي سوى عبدةٍ بقولها: ها أنا أمةٌ للرب: وهذا بكل صدقٍ، كما يقول القديس توما الفيلانوفي:" أن هذه الأمة الأمينة لم تقاوم أرادة سيدها الرب لا بالأعمال ولا بالأفكار أصلاً، بل اذ جردت ذاتها في كل شيء على الدوام من أرادتها الذاتية، فعاشت طائعةً في الأشياء كلها للمشيئة الإلهية". وهي نفسها قد أوضحت أن الله قد أرتضى بطاعتها هذه المتضعة بقولها: لأنه تعالى نظر الى تواضع أمته: (لوقا ص1ع48) لأن هذه هي الصفة الحقيقية في العبيد والجواري، أي الطاعة الكاملة لأرادة أسيادهم ومواليهن. فيقول القديس أوغوسطينوس:" أن هذه الأم الإلهية قد أصلحت بطاعتها، وأشفت بخضوعها ما عكسته الأم الأولى حواء بعدم طاعتها، وما سقمت به طبيعتنا بعصيانها". فطاعة مريم البتول قد كانت أكثر كمالاً جداً من طاعة جميع القديسين. على أن البشر كلهم لأجل أنهم من قبل مفاعيل الخطيئة الأصلية يميلون الى الشر. فكافةً يشعرون بالصعوبات في عمل الخير، الا أن العذراء الطوباوية لم تكن كذلك. فقد كتب القديس برنردينوس قائلاً: أنه في البتول المغبوطة لم يكن يوجد شيءٌ يعيق دوران بكرة كونها المتحركة على الدوام بموجب أرادة الروح القدس". أي من حيث أنها وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية ومن أنفعالاتها، فلم يكن يوجد فيها مانعً ما يصد تمام طاعتها لله. بل كانت نظير كرةٍ مستعدةً للدوران بحسب حركات ألهامات الروح الإلهي كلها. ومن ثم لم تصنع هي شيئاً في هذه الأرض (كما يقول القديس برنردينوس عينه) سوى أنها كانت تلاحظ تلك الأشياء المرضية لله وتمارسها بالعمل. فعن هذه السيدة قيل: نفسي قد ذابت اذ تكلم حبيبي: (نشيد ص5ع6) ويضيف الى ذلك ريكاردوس بقوله: أن نفس العذراء وجدت نظير المعدن المذاب مستعدةً لأن تقتبل مطبوعةً فيها الصور كلها التي كان الله يريد أن يرسمها فيها:*

وبالحقيقة أن هذه البتول الشريفة قد أظهرت بالعملية كم كانت هي حسنة الأستعداد للطاعة:

أولاً: بخضوعها لأوامر الملك أفغسطوس فيصر بسفرها السريع من الناصرة الى بيت لحم مسافة تسعين ميلاً، في زمن فصل الشتاء وهي حبلى لتكتتب مع خطيبها. مع أنها لحال فقرها أضطرت لأن تلد هناك أبنها في مغارة البهائم.

ثانياً: حالما سمعت من القديس يوسف ما أمره به الملاك في الحلم من قبل الله بالسفر الى مصر. فمن دون أعاقةٍ أخذت بالمسير ليلاً في طريقٍ شاسعة البعد ومملؤة من المشقات والأخطار. وهنا العلامة سيلفايره يسأل كمستفهمٍ، لماذا أن الوحي بالهرب الى مصر قد صار الى القديس يوسف، وليس الى والدة الإله التي كانت مزمعةً أن تتكبد به أعظم مشقةً. وكان يخصها معرفة ذلك أكثر من خطيبها، وهو نفسه أي سيلفايره يرد الجواب عن ذلك قائلاً: لكي يعطى بهذا سببٌ للعذراء المجيدة من أن تمارس أفعال الطاعة التي هي كانت كلية الأستعداد لها.*

ثالثاً: وبنوع فائق على كل ما سواه أظهرت هذه الأم الإلهية طاعةً كلية السمو! وتكميلاً لأرادة الله قدمت هي أبنها بحسن خضوع تام ضحيةً للموت على خشبة الصليب. من أجل خلاص العالم بثبات عزمٍ وبشجاعةٍ فريدةٍ، حتى أنها كانت مستعدةً لتتميم المشيئة الإلهية. وطاعةً للمراسيم الأزلية لأن تصلب بيديها ذاتيهما أبنها هذا الحبيب، لو أنه لم يوجد الصالبون، كما يقول القديس أيدالفونسوس. ولذلك العلامة بيدا المكرك في ارأس40 من تفسيره بشارة لوقا عند تكلمه على الجواب الذي أعطاه مخلصنا لتلك الأمرأة التي رفعت صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما. اذ أجابها مخلصنا: أنما الطوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها: (لوقا ص11ع27) قد كتب هكذا: أن مريم البتول قد وجدت سعيدةً مغبوطةً طوباويةً لأجل طاعتها للمشيئة الإلهية أكثر مما لأجل حال كونها أختيرت والدةً للإله وحملته تعالى في بطنها وأرضعته ثدييها.*

ولهذا هم مقبولون جداً عند هذه السيدة أولئك الذين يحبون فضيلة الطاعة. فيوماً ما ظهرت هي عينها للأب أكورسوس أحد رهبان القديس فرنسيس حينما كان داخل قلايته، ولكن لأنه وقتئذٍ هو دعي بأمر الطاعة ليذهب فيستمع أعتراف إنسانٍ مريضٍ، وبالتالي ترك والدة الإله المترائية له، وأنطلق متمماً أمر الطاعة. فحينما رجع الى قلايته شاهد هناك هذه السيدة لم تزل منتظرةً إياه، وقد مدحت كثيراً حسن طاعته، والنوع الذي هو تصرف به. وبضد ذلك اذ كان يوماً ما أحد الرهبان متأخراً في نهاية عملٍ ذي عبادةٍ، ولم يذهب حالاً الى المائدة حينما دق ناقوس الغداء قد وبخته العذراء على تصرفه هذا (كما يوجد مدوناً عند الأب ماركاتي في الكتاب اليومي المختص لوالدة الإله) ثم اذ كانت العذراء المجيدة تخاطب القديسة بريجيتا في شأن الطاعة لمعلم الأعتراف قالت لها: أن الطاعة تقود الجميع الى الدخول في المجد الأبدي: والقديس فيلبس نيري كان يقول أعتيادياً: أن الله لا يحاسب أحداً على الأشياء التي يكون هو صنعها بأمر الطاعة، اذ أنه تعالى هو نفسه قال: من سمع منكم فقد سمع مني ومن أهانكم فقد أهانني: (لوقا ص10ع16) بل أن هذه السيدة عينها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أن الله قد منحني مكافأةً لأستحقاقات طاعتي له، أن جميع الخطأة الذين يلتجئون إليَّ نادمين على مآثمهم يفوزون بالغفران.*

فيا ملكتنا وأمنا الجليلة صلي من أجلنا لدى يسوع أبنكِ، وأستميحي لنا منه بأستحقاقات طاعتكِ أن نكون أمينين في طاعتنا لمشيئته الإلهية ولأوامر مرشدينا الروحيين. آمين*



كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل التاسع

* في فضيلة الصبر التي بموجبها تصرفت البتول المجيدة*

*في شدائدها*

أنه بالعدل والصواب قد سميت هذه الأرض وادي الدموع. من حيث أنها هي مكان الأستحقاقات، لأننا قد وضعنا ههنا جميعاً لكي نتألم مكتسبين لأنفسنا بواسطة فضيلة الصبر الحيوة الأبدية المغبوطة، كما قال الله عينه: أنكم بصبركم تقتنون أنفسكم: (لوقا ص21ع19) فالحق سبحانه وتعالى قد أعطانا مريم البتول نموذجاً للفضائل كلها، ولكن بنوع خاص لفضيلة الصبر. ففيما بين الأشياء الأخرى التي يلاحظها القديس فرنسيس سالس أنه لأجل هذه الغاية نفسها قد أعطى مخلصنا والدته العذراء في عرس قانا الجليل الجواب بقوله لها: مالي ولكِ أيتها الأمرأة، لم تأتِ ساعتي بعد: مظهراً كأنه أعتبر قليلاً تضرعاتها، لكي يعطينا هذه الأم الإلهية نموذجاً للصبر: ولكن على ماذا نجول مفتشين عما نقوله عن فضيلة صبرها، في الوقت الذي فيه نرى أن حياتها كلها على الأرض كانت رياضةً متصلةً، وممارسةً دائمةً لأفعال هذه الفضيلة. لأنها قد عاشت على الدوام فيما بين الآلام، حسبما أوضح ملاك الرب للقديسة بريجيتا قائلاً:" كما أن الوردة تنبت وتنمو فيما بين الأشواك، هكذا قد عاشت هذه البتول المكرمة على الأرض فيما بين الشدائد". على أن توجعها من أجل آلام أبنها يسوع فقط قد وجد كافياً لأن يجعلها شهيدةً لفضيلة الصبر. ومن ثم يقول عنها القديس بوناونتورا:" أنها قد صلبت منذ حبلها بالمصلوب". فكم أحتملت هذه السيدة بعد ذلك في هربها الى مصر. وفي مدة أقامتها هناك، وكذلك في كل الزمان الذي عاشت هي فيه مع أبنها داخل دكان النجارة في مدينة الناصرة. فعن هذا وذاك قد أشرنا بكفايةٍ في المقالة السابقة بتكلمنا عن أحزان والدة الإله بوجه العموم والخصوص. ويكفي ما تلألأت به فضيلة صبرها في حين وجودها على جبل الجلجلة تحت صليب ابنها، ومشاهدتها آلامه وموته. وكم ظهرت بذلك شجاعتها وثباتها في الصبر، حيث أنها، كما يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: لأجل صبرها هذا العجيب قد أستحقت أن تصير أمنا أجمعين.*

فأن كنا اذاً نرغب أن نوجد حقاً أولاداً لها، فيلزمنا أن نجتهد في أن نقتفي أثرها في فضيلة الصبر. فيقول القديس كبريانوس: ترى أي شيءٍ يمكنه أن يصيرنا أغنياء بالأستحقاقات في مدة حياتنا على الأرض، وبنوالنا المجد العظيم في الأبدية، الا أحتمالنا الآلام بصبرٍ: فقد قال الله على لسان نبيه هوشع (ص2ع6): فلأجل هذا، هأنذا أسيج طريقك بالشوك. وقد أضاف الى ذلك القديس غريغوريوس الكبير بقوله: أن طرق المنتخبين مسيجة بالشوك: على أنه كما أن الشوك يستعمل سياجاً لكروم لحفظها من الخطفة. فهكذا الباري تعالى يسيج بشوك المصائب والأحزان والآلام عبيده الأبرار، ليحفظهم بذلك من أن تتعلق قلوبهم بمحبة الأشياء الأرضية، ولهذا يختتم قوله القديس كبريانوس:" بأن الصبر هو ذاك الذي ينقذنا من الخطيئة ومن الجحيم". بل أن الصبر هو الذي يصير المتمسكين به قديسين كاملين. كما يشير الى ذلك القديس يعقوب الرسول بقوله: والصبر فليكن له عملٌ لتكونوا كاملين وتامين غير ناقصين في شيءٍ: (يعقوب جامعه ص1ع4) وهكذا تحتمل بالصبر تلك الصلبان التي يفتقدنا الله بها، أي الأمراض والفقر وباقي الشدائد، وكذلك الصلبان التي تأتينا من قبل البشر، كالأضطهادات والأهانات وأمثالها. فالرسول الحبيب يوحنا في جليانه قد أخبرنا بأنه قد شاهد القديسين كافةً حاملين بأيديهم سعف النخل التي هي علامة الأستشهاد قائلاً: ومن بعد هذا رأيت جمعاً كبيراً لا يقدر أحدٌ أن يحصي عددهم من كل أمةٍ وكل سبطٍ وكل شعبٍ وكل لسانٍ وقوفاً قدام الكرسي وأمام الخروف، وعليهم لباسٌ أبيض وبأيديهم سعف النخل: (أبوكاليبسي ص7ع9) مريداً بهذا أن يفهمنا أن جميع الذين يموتون بعد بلوغهم السن الرجولي يلزمهم أن يكونوا شهداء أما بسفك دماءهم، وأما بفضيلة الصبر. فهنا القديس غريغوريوس الكبير يهتف صارخاً: فلنفرح اذاً متهللين ولنسر مبتهجين، لأنه يمكننا أن نصير شهداء من دون سفك دمائنا وأحتمال عذابات الألات الحديدية، بل بواسطة صبرنا الثابت. فاذا نحن أحتملنا آلام هذه الحياة بصبرٍ ورضاءٍ. وبفرحٍ أيضاً. كما يقول القديس برنردوس، فترى كم تكون عظيمةً الأثمار التي نجتنيها في الفردوس السماوي عن كلٍ من الآلام التي نكون أحتملناها لأجل الله. ومن ثم يشجعنا الرسول الإلهي بقوله: خفيف ضيقنا الوقتي، في حين بمقدار أفراطه وأسرافه يصطنع لنا ثقيلاً من المجد أبدياً. اذ لا نترقب التي ترى بل التي لا ترى، لأن التي ترى وقتيةٌ والتي لا ترى أبديةٌ: (قرنتيه ثانية ص4ع17) ثم أنها لجيليةٌ هي كلمات القديسة تريزيا المقولة منها في هذا الموضوع أي:" أن الذي يعتنق الصليب برضاه لا يشعر بثقله". وقالت في محل آخر أنه حينما يقصد الإنسان معتمداً على أن يتألم فكأنه بهذا القصد تألم وأنتهت آلامه:" الا أننا حينما نحس بذواتنا متضايقين من ثقل الصليب، فعلينا بالألتجاء الى مريم البتول المدعوة من الكنيسة المقدسة: معزية الحزنى". وكما يسميها القديس يوحنا الدمشقي: دواءً قاطعاً شافياً لأوجاع القلوب كلها:*

فيا سيدتي الكلية الحلاوة أنكِ أنتِ البارة البرية من كل عيبٍ وزلةٍ، قد أحتملتِ الآلام الشديدة بصبرٍ تام، فهل أرفض أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم. فأنا اليوم ألتمس منكِ يا أمي هذه النعمة، وهي، لا أن أنجو معتوقاً من الصلبان، بل أن أحتملها بصبرٍ، فأتوسل إليكِ بحق حبكِ ورأفتكِ أن تستمدي لي من الله هذه النعمة من دون ريبٍ. فهكذا أرجو وكذلك فليكن لي آمين.*



كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل العاشر

* في فضيلة الصلاة الممارسة بنوعٍ سامٍ من والدة الإله العذراء*

أنه ما وجدت قط على الأرض نفسٌ نظير مريم البتول أتبعت بدرجاتٍ ساميةٍ كاملةٍ تعليم مخلصنا العظيم: في أنه يلزم أن تصير الصلاة كل حينٍ من دون أهمالٍ: (لوقا ص18ع1) على أنه يقول القديس الفقديس بوناونتورا:" أننا لا نستطيع أن نتخذ النموذج من أحدٍ، ونفهم ألتزامنا وأحتياجاتنا الى الثبات على الصلاة، أفضل مما نتخذ ذلك من العذراء المجيدة". لأن الطوباوي ألبارتوس الكبير يشهد لنا: بأن هذه الأم الإلهية قد وجدت في فضيلة الصلاة هي الأكمل من كل ما سواها بعد يسوع المسيح، من الذين عاشوا في الأرض ومن العتيد وجودهم حتى يوم القيامة. وذلك:

أولاً: لأن صلاتها كانت متواترةً بأتصالٍ وبثباتٍ. على أن هذه السيدة منذ الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها البريئة من الدنس. ومعاً قد فازت وقتئذٍ بمعرفةٍ كاملة لتمييز الخير من الشر (حسبما برهنا في بدء الجزء الثاني للفصل الثاني من المقالة الأولى من هذا القسم الثاني وجه 360) فهي منذ الدقيقة المذكورة أبتدأت بأن تمارس فضيلة الصلاة.*

ثانياً: أنها لكي تتفرغ بأفضل نوعٍ وتعتني بأكمل طريقةٍ في أتقان هذه الفضيلة، قد أرادت أن تكون من حين تمام السنة الثالثة من عمرها منفردةً كحبيسةٍ في هيكل الرب الأورشليمي، حيث كانت فيما بين الأزمنة الأخرى المعينة للصلوات. أختارت لذاتها ساعة نصف الليل أيضاً، التي فيها كانت هي تنهض من رقادها، وتمضي أمام هيكل الرب مثابرةً على الصلاة، حسبما أوحت بذلك هي نفسها للبارة أليصابات الراهبة (كما هو مورد من القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتابه على حيوة المسيح).*

ثالثاً: أنها لأجل هذه الغاية كانت فيما بعد تزور بتكاثر الأماكن المقدسة المختصة بميلاد أبنها وبآلامه ودفنه لكي تمارس هناك بأفضل نوع تأملاتها في أسرار حياته تعالى وموته، كما يبرهن العلامة أوديلونه.*

رابعاً: أن صلواتها كلها كانت مصنوعةً منها برصد عقلٍ تام، ناجيةً من كل أنعطافٍ غير مرتبٍ. فقد كتب القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن البتول المجيدة في حين صلواتها لم يكن يحدث لها شتات الأفكار، ولا عواطف غير ملائمةٍ، ولا أشياء باطنية أو خارجة تعيق فيها تأملاتها بأنوارٍ سماوية في الأشياء الإلهية.*

ولهذا لأجل حبها الشديد نحو ممارسة الصلوات قد أحبت دائماً الأنفراد عن الناس، والأبتعاد عن ضوضاء العالم، كما أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها حينما كانت مقيمةً في هيكل أورشليم قد أجتهدت بالا تواجه أحداً. حتى ولا والديها الا نادراً. فالقديس أيرونيموس اذ يتفلسف عن كلمات النبي أشعيا القائل (ص7ع14): ها العذراء تحبل وتلد أبناً ويدعون أسمه عمانوئيل: يقول: أن لفظة عذراء في اللغة العبرانية تفسر بالحصر عذراء منفردةً عن الناس: فاذاً حتى من النبي المذكور عينه سبق الأيعاز عن محبة مريم للأنفراد. ويقول ريكاردوس: أن زعيم الملائكة قال لهذه البتول:: أفرحي الرب معكِ: لأجل محبتها الوحدة والأبتعاد عن الناس". ولذلك كتب القديس فينجانسوس فراري:" أن البتول القديسة لم تكن تخرج من بيتها الا حينما كانت تمضي الى هيكل الرب. وحينئذٍ كانت تنطلق مملؤةً من الأحتشام، وعيناها دائماً ناظرتين الى الأرض". ومن ثم حينما مضت الى زيارة القديسة أليصابات، قد ذهبت مسرعةً، الأمر الذي كقول القديس أمبروسيوس ينبغي أن تتعلم منه البتولات الا يظهرن مشاعاً، بل يحببن الخلوة. وكتب القديس برنردوس: أن الحب الذي كان متقداً في قلب العذراء المجيدة لممارسة الصلوات والأبتعاد عن ضوضاء العالم، قد صيرها أن تجتهد على الدوام في الأمتناع عن مخاطبة الرجال. ولهذا قد سماها الروح القدس يمامةً بقوله: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) فيفسر ذلك فارجالوس:" بأن اليمامة لأجل أنفرادها تشير الى قوة الأتحاد العقلي". ولذلك العذراء قد عاشت أيام حياتها على الأرض معتزلةً بمقدار ما أمكنها عن الناس في الأختلاء كأنها في قفرٍ غير مسلوكٍ. ولهذا قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور: (نشيد ص3ع6) وعن هذه الكلمات كتب روبارتوس مخاطباً العذراء المجيدة بقوله: كذلك أنتِ قد صعدتِ من القفر اذ كنتِ حاصلةً على نفسٍ محبة الأنفراد.*

أما فيلونه فيقول: أن الله لا يخاطب الأنفس الا في الأختلاء والوحدة. بل الله عينه قد أوضح ذلك بواسطة نبيه هوشع بقوله: لأجل هذا فهأنذا أتملقها وأوديها الى البرية وأتكلم الى قلبها: (ص2ع14) ولذلك كان يهتف القديس أيرونيموس قائلاً: يا أيها الأنفراد السعيد كم أنت مغبوطٌ، لأن فيك يتفاوض الله والنفس معاً متخاطبين كخليلين. وهذا بالصواب، لأن القديس برنردوس قال: أنه في الأنفراد، وفي الصمت الذي المرء يتمتع به بالتوحد. تلتزم النفس بأن تخرج بأفكارها عن هذا العالم. وتنعكف على التأمل في خيرات السماء.*

فيا أيتها البتول الكلية القداسة أنتِ أستمدي لنا محبة الصلاة والأنعطافات نحوها ونحو الأنفراد والأختلاء، حتى اذا ما أنفصلت قلوبنا من محبة المخلوقات، يمكننا أن ننعطف نحو الله وحده، ونتشوق الى الفردوس السماوي، حيث نرجوا أن نشاهدكِ يوماً ما، لكي نمدحكِ على الدوام، ونحب أبنكِ يسوع ونحبكِ الى أبد الأبدين.

فقد تفوه الحكيم أبن سيراخ عن لسان البتول الكلية القداسة بقوله: ميلوا إليَّ يا معشر المشتاقين وتمتعوا بغلاتي: (ص24ع26) فغلات مريم البتول أنما هي فضائلها. قال سادوليوس: أن العذراء المجيدة لم يسبقها قط أحدٌ شبيهٌ بها. ولم يأتِ بعدها إنسانٌ مماثلٌ لها. ومن ثم يخاطبها هو نفسه هكذا قائلاً: أنكِ أنتِ وحدكِ أيتها الأمرأة قد أرضيتِ المسيح بنوعٍ لا نظير له على الأطلاق.*



فلنتقدم بدالة الى عرش النعمة، لنأخذ نعمة، ونجد رحمة، لمعونة نستفرصها. (عبرانيين 4/6)

من كان للعذراء عبداً لا يدركه الهلاك أبداً
  رد مع اقتباس