عرض مشاركة واحدة
قديم 27 - 08 - 2012, 01:46 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
بنت معلم الاجيال Female
..::| مشرفة |::..


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 45
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 35
الـــــدولـــــــــــة : القاهرة
المشاركـــــــات : 58,212

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

بنت معلم الاجيال غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كوكب البريـــة الأنبــا انطونيــوس

ما هى البدعة الآريوسية ؟ ومن هو آريوس ؟

نظرا لأهمية هذا الموضوع فإننا نفرد لـه موجزا عاما :

مجمع نيقية المسكونى

ما المقصود بالمجمع المسكونى ، والمجمع المكانى ؟

اولا : المجمع المسكونى : كلمة " مسكونة " تعود على الكرة الأرضية ، وعندما ينعقد مجمع ( اجتماع ) ويجتمع فيه ممثلون من كنائس الأرض شرقا وغربا ، ككنائس الأسكندرية وكنيسة روما .....الخ ، ويتخذ المجمع قرارات بإجماع الحاضرين ... فإن هذا هو المقصود به ( مجمع مسكونى ) .... وقرارات المجامع المسكونية ملزمة لجميع الكنائس ، وعادة ما يناقش فى هذه المجامع أمورا عقائدية ، أو هرطقات تخالف تعاليم الكنيسة مثل هرطقة أريوس ، أو مقدونيوس ، أو نسطور .... كما سنرى .

ثانيا : المجمع المكانى : تعنى بلغتنا الدارجة ( المحلى ) .. كأن ينعقد مجمع فى نطاق قطر واحد بحضور أساقفة هذا البلد ، أو عدد محدود منهم ، أى لا يحضره ممثلون عن كل كنائس العالم ، ويمكن مناقشة الموضوعات وقرارات المجمع المكانى فى مجمع مسكونى لاحق ، إذا كانت هناك مشكلة عقائدية تشكل خطورة على الأيمان على مستوى العالم المسيحى ، وغالبا فإن المجامع المسكونية قد سبقتها انعقاد مجامع مكانية لمحاولة احتواء الهرطقات التى ظهرت ، وعندما عجزت هذه المجامع المكانية عن رد هؤلاء الهراطقة عن غيهم استدعى الأمر عقد المجامع المسكونية



هناك ثلاث مجامع مسكونية انعقدت هى :

مجمع نيقية .................

ومجمع القسطنطينية ..................

ومجمع أفسس .........................

مجمع نيقية

المجمع المسكونى الأول
مقدمة : النزاع الأريوسى الذى وصم تاريخ المسيحية فى القرن الرابع ، اتخذ مرحلتين

المرحلة الأولى : ماقبل مجمع نيقية ، كان طرفا النزاع أريوس ومن انضم إليه من جهة ، والطرف الثانى بطاركة الأسكندرية البابوات : بطرس وأرشيلاوس وألكسندروس من جهة .
والمرحلة الثانية : تميزت بمحاولة الأباطرة فرض الأريوسية بالقوة ، وكان طرفا النزاع فيها الأباطرة وأساقفة أريوسيين من جهة ، ومن جهة مقابلة البابا أثناسيوس الرسولى وألأنبا انطونيوس ؛ وأساقفة أرثوذكسيين .
وهناك مرحلة ثالثة وأخيرة وهى تتضمن تحريم الأريوسية ونهايتها .
وقد انتهى أريوس والأريوسية وعاش الفكر الأثناسيوسى الأرثوذكسى معبرا عن الأيمان المسيحى الأصيل . وها هو العالم المسيحى كله شرقا وغربا يشعر بقيمة الدور البطولى الذى قام به القديس أثناسيوس ، محتملا كل صنوف العذاب والتشريد نحو خمسين سنة من الزمان ، إنه بطل مصرى عظيم وقف كالجبل الأشم صامدا أمام العواصف التى هبت عليه عاتية من الداخل والخارج ، ووقف فى وجه الأمبراطورية البيزنطية بملوكها المتعاقبين فى زمانه بكل ما لهم من سلطان وقوة وعنف وانتصر أخيرا وكان نصره هو نصر للمسيحية كلها .
شخصية آريوس : أجمع الكثيرون على أن آريوس ولد بليبيا ، والأرجح عام 270 م ، وبعد أن تعلم بها بعض الرياضيات والفلسفة والعلوم الدنيوية إلتحق بمدرسة أنطاكية ، فتأثر بآراء معلمه لوقيانوس المتطرفة فيما يتعلق بألوهية السيد المسيح .
وبعد أن أتم دراسته جاء إلى الأسكندرية ، ودرس بمدرستها اللاهوتية أيضا ، وأظهر نبوغا كبيرا مما جعله يسعى لنوال درجات الكهنوت ، .. ورسم شماسا ثم قسا بعد ذلك .
بعد سيامته قسا لاحظ البابا بطرس أنه يتعمد فى عظاته إنكار لاهوت السيد المسيح فنصحه كثيرا ، ولما لم يعدل عن آرائه ، عقد البطريرك مجمعا فى الأسكندرية حرمه فيه ومنعه من شركة الكنيسة .
على أن هرطقة أريوس لظهورها فى تلك الأثناء ، أى زمن اضطهاد دقلديانوس ومساعديه ، لم تنل قوة ولا أنتشارا فى أيام الأستشهاد ، لأنشغال الناس عنها بما هم فيه من ألوان العذاب البشعة . وعندما قبض على البابا بطرس حاول أريوس الحصول على الحل منه ، فرفض بل أوصى تلميذيه أرشيلاوس وألكسندروس – اللذين صارا بطريركين من بعده ، على التوالى – بعدم قبول أريوس لعلمه بشر هذا المبتدع .

( نلاحظ يا أحبائى أن الشيطان فى حروبه ضد الكنيسة وجد أن إثارة الحكام باضطهاد المسيحيين وتعذيبهم وسفك دمائهم لم تزد الكنيسة إلا صلابة وقوة وانتشار للأيمان بصورة أكبر فى العالم كله ، أى أن خطة الشيطان بتحريك أناس وثنيين وأباطرة وأشخاص من خارج الكنيسة لم تنجح فى هدم الأيمان القويم ، فلجأ إلى هذه الحيلة الماكرة وهى استعمال أناسا من المؤمنين ، بل ومن رجال الكهنوت أمثال آريوس وآخرين كما سنرى لضرب الكنيسة من الداخل ، وبث روح الشقاق والأنقسام داخل الكنيسة ، وقد نجح فى ذلك بالفعل مع الأسف ! – وما زال الشيطان حتى يومنا هذا يحاول تفتيت الكنيسة إلى طوائف وبدع للعمل على تدميرها ، ولكننا نثق أن يسوع المسيح الذى قال : " على هذه الصخرة أبنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقدر عليها " ... هو وحده القادر على حماية الكنيسة من هذه الحروب الشيطانية ) .
بعد استشهاد البابا بطرس أرجع خليفته البابا أرشيلاوس ، أريوس إلى عضوية الكنيسة بناء على طلبه ،وزاد بأن عهد إليه برعاية كنيسة بوكاليس أقدم كنيسة فى الأسكندرية ، ولما توفى البابا أرشيلاوس رشح أريوس نفسه لمركز البطريركية ، ولكن الإكليروس والشعب اتفقوا معا على انتخاب ألكسندروس .
أثار هذا الأختيار حفيظة أريوس وألتهبت فى قلبه نار البغضاء ، وأخذ يجتهد فى نشر مذهبه ، واستطاع أن يجذب حوله جماعة من أهل الأسكندرية من الذين وجدوا فى أسلوبه الوعظى والتعليمى تجديدا وابتكارا ، ومن الذين أعجبوا بتعاليمه ، لأنه حسب الظاهر قد بسط الأمور محاولا إقناعهم بأنه يحافظ على عقيدة التوحيد بجعله من السيد المسيح كائن مخلوق .

بدعـــــة آريـــوس :
يمكن إرجاعها إلى ضلالين أساسيين :
الضلالة الأولى : قوله أن الكلمة قد ولد ، والله الآب سابق ( فى وجوده ) على الأبن ( الكلمة ) .... أى أنه كان هناك زمن لم يكن الله فيه أبا ..... ، وإلا كان هناك أثنان " غير مولودين " بدون أصل ، مما هو مخالف لوحدانية الله ، إذن كان هناك زمن لم يكن فيه الكلمة موجودا ، ......... هذا أول الضلالين .
والضلالة الثانية : .... حسب اعتقاده بأن الأبن " مخلوق " ، وفى هذه الحالة فالكلمة ليس اللـــه .. !! ولا مساويا للآب ، ولا هو من جوهر الآب نفسه ، ولا وجود له إلا بإرادة الآب ، نظير كل خليقة أخرى ، ولا هو يدعى أبن الله إلا مجازا أو مبالغة فى الكلام ، ولن تكون هناك ولادة إلا عن سبيل التبنى اللائق بقداسة الكلمة ....

قبل أن نواصل الحديث فى هذا الموضوع نلفت النظر بأن جماعة شهـــــود يهوه ، يؤمنون بهذه الهرطقات ، وبأن المسيح مخلوق مثل سائر البشر وإن كان خلقه قد سبق خلق الملائكة ... !! .



نعود لموضوع أريوس :
بالرغم من أن الكنيسة فى تلك الحقبة التاريخية كانت تنعم بالسلام فى وجود الأمبراطور قسطنطين الكبير ، ابن الملكة البارة هيلانة .. واعلان المسيحية دينا رسميا للدولة الرومانية ، بعد سنوات طويلة من الأضطهاد الذى عانته المسيحية على يد الوثنيين واليهود ، وفى وسط هذا السلام الشامل حاول أريوس أن يثير الأضطهاد من جديد ، فذاقت من ويلاته كنيسة الأسكندرية والشعب القبطى الكثير والكثير ، وبصورة أقسى مما ذاقته بيد الخارجين عن المسيحية ، وعندما فشل أريوس فى إثارة الشعب ضد البابا ألكسندروس هجر الأسكندرية ولجأ إلى آسيا الصغرى ليكون قريبا من نصيره أوسابيوس النيقوميدى .

انعقاد مجمع نيقية :
انعقد هذا المجمع المقدس عام 325 م بآسيا الصغرى بمدينة نيقية ، بدعوة من الأمبراطور قسطنطين الكبير ، بسبب ظهور بدعة آريوس ، وقد حضر هذا المجمع المقدس ( ثلاثمائة وثمانية عشر ) أسقفا .

شخصيات عظيمة فى المجمع :
حضر المجمع شخصيات فى مصاف القديسين مثل البابا ألكسندروس بابا الأسكندرية ، وتلميذه الشماس أثناسيوس ... وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسة وعشرين عاما .
وحضر أيضا القديس مكاريوس أسقف أورشليم ، وأوستاثيوس أسقف أنطاكية ، وليونتيوس أسقف قيصرية الكبادوك ، وهيباثيوس أسقف غنغرة ، وأرشيلاوس أسقف لاريسا .
ويؤكد جميع المؤرخون أن الأساقفة قد منحوا آريوس وأتباعه مطلق الحرية للتعبير عن آرائهم .
ولقد وقع الأختيار على هوسيوس أسقف قرطبة ليرأس هذا المجمع ، بحكم كبر سنه ، برغم أنه كان أسقفا لمدينة متواضعة ، فجلس عن يمين الأمبراطور .

وبعد مداولات مستفيضة ثبت لآباء المجمع ما يتردى فيه هؤلاء المبتدعون من ضلال ، فقرروا أن يضعوا دستورا للإيمان وأن يضمنوه العقائد المهمــة بكل وضوح وجلاء ، ... وبخاصة عقيدة مساواة الأبن للآب فى الجوهر .
وهذا الدستور هو التراث الذى وضعه الشرق للمسكونة بأسرها ، ذلك لأن الآباء الغربيين الذين كانوا أعضاء فى هذا المجمع المؤلف من 318 أسقفا لم يتجاوز عددهم الستة أساقفة .
والدستور الذى تم وضعه فى هذا المجمع العظيم هذا نصه :
" بالحقيقة نؤمن بإله واحد ، الله الآب ضابط الكل ، خالق السماء والأرض ، ما يرى وما لا يرى .. نؤمن برب واحد يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للآب فى الجوهر ، الذى به كان كل شىء ، هذا الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ، ومن مريم العذراء ، تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطى ، تألم وقبر وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب ، وصعد إلى السموات وجلس عن يمين أبيه ، وأيضا يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات ، وليس لملكه انقضاء ................... "

وقرر الآباء : " أن جميع الذين يقولون عن الأبن أنه جاء عليه حين من الدهر لم يكن فيه موجودا ، أو أنه لم يكن له أثر فى الوجود قبل أن يولد ، أو أنه ولد من العدم ، أو أنه من غير جوهر الآب ، أو أنه مخلوق ومعرض للتحول والتبدل ، فالكنيسة الجامعة الرسولية المقدسة تعلن وقوعهم تحت طائلة الحرم .... " .

نتائج مجمع نيقية :
يعتبر مجمع نيقية حدثا تاريخيا هاما فى تاريخ العقيدة المسيحية ، لأن فيه تقرر مسكونيا أن الأبن مساو للآب فى الجوهر ، وبالنسبة لكنيسة الشرق بوجه عام وكنيسة الأسكندرية بوجه خاص فقد استطاعت كنيسة الأسكندرية من خلال هذا المجمع أن تحتفظ بمكانتها فى الكنيسة الجامعة ، واستطاع بطريرك الأسكندرية البابا ألكسندروس وشماسه أثناسيوس ، إعلان العقيدة السليمة والتمسك بها والدفاع عنها ، وبذا أظهر أولوية الشرق على الغرب .
مجمع نيقية حسم بعض الخلافات ووحد الكنيسة ، وفوض لبابا الأسكندرية تحديد موعد عيد القيامة ، ووضع قانون الأيمان النيقاوى الذى أضحى فيما بعد قاعدة الأيمان الأرثوذكسى لكل كنيسة ، .... وإن كانت قرارت مجمع نيقية لم تقض على الأريوسية تماما ، لأن آريوس لم يطع ، .. وقسطنطين نفسه تذبذب وخلفاؤه المباشرون كانوا أريوسيين ، إلا أن مجمع نيقية قد وضع حجر الأساس للإيمان القويم ، الذى يقوم عليه الأيمان الأرثوذكسى كما كان منذ البدء .... ، وعندما يخرج شخص أو صاحب بدعة فى أى عصر من العصور عن هذه القاعدة يتم وضع تفسيراته واجتهاداته أمام دستور مجمع نيقية ليتضح صحة هذا القول لأى شخص مبتدع أو منحرف عن المسار السليم للأيمان .
كما أصدر مجمع نيقية عشرين قانونا مهما .
البابا أثناسيوس والقديس أنبا أنطونيوس وجهادهما ضد آريوس :
بعد نياحة البابا ألكسندروس وارتقاء الأنبا أثناسيوس الكرسى المرقسى ، وبينما كان منشغلا بزيارة شعبه بالقطر المصرى ، علم أن أريوس عاد إلى الشغب فى الأسكندرية ، فبعث إلى معلمه الأنبا أنطونيوس برسالة طلب إليه فيها أن يغادر عزلته ويقصد مع رهبانه إلى الأسكندرية ليقف فى وجه آريوس وأعوانه ، فلم يسع الشيخ القديس إلا أن يلبى نداء باباه الذى هو تلميذه أيضا وبادر إلى مقر الرياسة المرقسية فى جماعة من أبنائه الرهبان وأخذوا يقاومون البدعة ومبتدعيها ، ولم يحرؤ أحد من خصومهم على الوقوف فى وجوههم .

نهــــاية آريوس :
استمر آريوس فى حربه ضد الكنيسة ، مستغلا دهائه فى تأليب الأمبراطور مرة ، أو طوائف الشعب مرة أخرى ضد البابا أثناسيوس، حتى تسبب فى صدور أمر من الأمبراطور بنفى البابا أثناسيوس إلى خارج البلاد .
وفى إحدى المرات بينما كان آريوس يجوب شوارع القسطنطينية شعر بمغص شديد دفعه إلى دخول إحدى المراحيض العامة حيث اندلقت أحشائه وانطرح على الأرض صريعا ، وما أن ذاع هذا الخبر حتى تنفس الناس الصعداء ، وداوموا على الصلاة والصوم حتى عاد أبيهم المحبوب الأنبا أثناسيوس إلى كرسيه ، بركة صلواته تكون معنا آمين .

على أبناء كنيستنا الأهتمام بتاريخ الحقبة التاريخية القبطية من تاريخ مصر ، والتى تعمد المؤرخون اسقاطها من تاريخ بلادنا ، إن اسقاط تاريخ الحقبة القبطية من تاريخ مصر لهو خطأ جسيم فى حق الشعب المصرى كله ، لقد كانت هذه الحقبة عظيمة الأهمية ليس فقط من الناحية الدينية والعقائدية بل ومن الناحية الوطنية والعلمية والفلسفية ، فلقد أنارت مكتبة الأسكندرية القديمة ربوع العالم بما حوته من الآف المجلدات والمراجع لتكون مرجعا لكل دارس ، فى مختلف العلوم ، كما أن تاريخ شهدائنا وما قدموه من تضحيات بدمائهم وعذاباتهم .... هى التى حفظت لنا كنيستنا وبقائها حية لهذا اليوم ، اضافة إلى تاريخ الرهبنة ومؤسسها الأنبا أنطونيوس ومنه انتقلت الرهبنة إلى بلاد العالم المختلفة ، تاريخ الرهبنة يشمل دراسة تاريخ الأديرة الباقية أو التى اندثرت ، وكل يوم نكتشف أجسادا للشهداء والقديسين تزخر بهم صحراء مصر ، مثل شهداء الفيوم الذين تم العثور على أجسادهم كاملة بدير الملاك غبريال بالعزب بالفيوم .

+ + +


الأنبا انطونيوس والغيرة على خلاص النفوس

والقديس أنطونيوس فى فعلته هذه ، يظهر لنا ما يجب أن يتصف به خدام الدين جميعا من " الغيرة على خلاص النفوس " باذلين فى سبيل ذلك كل مرتخص وغال ، ومضحين من أجله بالنفس والنفيس ، وليدرك الخادم أنه بذلك إنما يعمل على قيام مجد الله وتسبيحه من الجميع كما يعمل لخير القريب وتخليصه من الشر والمعصية وبالتالى من العذابات الجهنمية إلى التمتع بالأمجاد السمائية .
أجل ... ما اسعد ذلك الخادم الذى يهبه الرب نعمة العمل بغيرة على خلاص النفوس ، " فمن رد خاطئا عن طريق ضلاله خلص نفسا من الموت وستر كثرة من الخطايا " ( يع 5 : 20 ) .
القديس انطونيوس يرغب فى الشهادة

عندما سمع الوالى أن القديس انطونيوس ورهبانه قد حضروا إلى الأسكندرية وابتدأوا يطوفون فى الشوارع والمنازل والسجون لتثبيت المؤمنين وتشجيعهم على احتمال الآلام لينالوا حياة أفضل ، أمر بطردهم جميعا وعندئذ رجع الرهبان وبقى الأنبا أنطونيوس الذى كان يرغب من أعماق نفسه أن يتال أكليل الشهادة ، واستمر يباشر عمله هذا بجد ونشاط وعدم مبالاه .
ومن فرط شجاعته ، أنه ذهب يوما إلى أحد الأماكن التى كان الوالى مزمعا أن يسير منها ، وهناك جلس فوق مكان عال – ليراه الوالى – يعظ ويعلم غير أن الرب الذى أراد أن يبقى القديس فى الحياة الدنيا لخير أولاده الرهبان أغمض عينى الوالى عنه ! فبقى فى الأسكندرية يثبت المؤمنين حتى انقضى زمن الأضطهاد .

ولما أنتهت الأضطهادات عاد الأنبا أنطونى إلى خلوته فى الصحراء ، فخرج أهل الأسكندرية عن بكرة أبيهم ليودعوه وليعربوا عن حبهم له وتقديرهم إياه ، وكان يقول لهم :
" إنى لا أخشى الله ولكنى أحبه ، والمحبة تنزع الخوف خارجا وتطرده بعيدا " ( 1 يو 4 : 18 ) .
الهروب من الكبرياء

كثر تلاميذ الأنبا أنطونيوس ورواده ، ثم كثرت بالتالى العجائب والمعجزات التى أجراها الرب على يديه المباركتين ، وذاع صيته وانتشر فضله ونسكه فى كل مكان ، ومن الغريب أن يكون هذا سببا فى ضجر القديس وألمه ! لقد خشى أن يحاربه الشيطان عن طريق الغرور والكبرياء ، وفى الوقت عينه عاودته لذة الخلوة وحنين الوحدة ، فصمم على أن يغادر مكانه فى البرية إلى مكان آخر يستأنف فيه الأتصال الدائم بينه وبين الله .
أرشده الله إلى المكان الذى يستطيع أن يستقر به فى هدوء ، ودبر له بعض الأعراب الذين رافقوه إلى البرية الشرقية ، وسافر معهم مسيرة ثلاثة أيام كاملة ، وفى اليوم الرابع وصل إلى جبل عال وجد تحته نبع ماء عذب وبعض أشجار نخيل مبعثرة هنا وهناك ، فسر بهذا المكان ورغب أن يسكن به .
وفى المكان الذى وصل إليه القديس أخيرا ، أسس ديره العظيم الذى لا يزال قائما إلى الآن يزخر بآثاره وآثار أبنائه ويحمل أسمه الكريم .

أثناسيوس الرسولى وسيرة القديس أنطونيوس :
لما رأى الأنبا أثناسيوس الرسولى ( البابا الأسكندرى الــ 20 ) القديس أنطونى يحيط به تلاميذه وصفهم بقولـه : " لقد غصت الصحارى بصوامع الرهبان التى كانت تموج بساكنيها الذين كرسوا حياتهم لتسبيح الله وتمجيده صباح مساء ، وقد ارتبطت قلوبهم بالمحبة الخالصة فرسموا للناس صورة بارعة تبين لهم كيف يكون المجتمع حين يسوده السلام والوئام ؛ فحق لنا أن نقول مع الوحى الإلهى : " ما أبهى خيامك يا يعقوب ، مساكنك يا إسرائيل ، كأودية ممتدة ، كجنات على نهر ، كشجرات عود غرسها الرب ، كأرزات على المياة " ( عدد 24 : 5 – 6 ) .
ولما كان الأنبا أنطونى قد صقلته الصلوات والخلوة مع الله ففاضت النعمة الإلهية فيضانا غزيرا ، ولم يقتصر أثره على بلاده وقومه بل تعداهم إلى آسيا وأوربا ، فلم تنقض ثلاثون سنة على انتقاله إلى دار الخلود حتى عثر فى تريف ( على الحدود الفرنسية البلجيكية ) على نسخة من كتاب للبابا الأسكندرى أثناسيوس الرسولى يحوى ترجمة حياة هذا الناسك العظيم ، وقد تجمع فى المنزل الصغير الذى وجدت فيه هذه النسخة الثمينة بعض النساك الذين اتخذوا حياة أنطونى نموذجا لحياتهم النسكية ، وحدث ذات يوم أن خرج الأمبراطور قسطنطين الصغير للصيد ، فانتهز فرصة غيابه عن البلاط الأمبراطورى أربعة من رجاله ، وخرجوا للتنزه فى أنحاء المدينة ، وفى أثناء مسيرهم رأوا بيتا صغيرا يسكنه بعض النساك ، فدخلوه بلا استئذان ، وفى هذا البيت عثروا على تلك النسخة التى تحوى حياة أنطونى ، فأخذوا فى قراءتها ، ولم يلبث أثنان منهم أن انضما إلى ساكنى هذه الصومعة الحقيرة ، وهجرا حياة البذخ التى كانا يقضيانها فى القصر الأمبراطورى ، وكان ذلك سنة 378 م . ش .

+ + +

ردوا كثيرين إلى البر :
سيرة أنطونى وتوبـــة أغسطينوس :
أحرز الكتاب الذى ألفه الأنبا أثناسيوس عن حياة الأنبا انطونى أعظم انتصاراته – فقد كانت قراءته السبب المباشر فى اجتذاب أوغسطينوس من حياة البذخ والأستهتار إلى حياة النسك والقداسة ، ذلك أن صديقه بونتيتياس – أحد رجال البلاط الأمبراطورى – ذهب لزيارته ذات مساء ، وقص عليه سيرة أبى الرهبان ثم ترك له نسخة من سيرة هذا الناسك المصرى الجليل ، وكان أوغسطينوس فى أثناء ذلك الحديث يشعر بنشوة روحية عميقة ملآنة حنينا خفيا إلى تلك الحياة الممتلئة نعمة بالتكريس لله ، وكان خلال أثنى عشرة سنة يتنازعه عاملان : عامل الأستمتاع بما فى العالم من ملاذ ، وعامل ترك هذا العالم المتسلط عليه ، فأحس فى تلك اللحظة بأنه قد آن الأوان لأن يهجر العالم ، وعند ذاك قامت فى داخله معركة عنيفة بين المفاتن العالمية وبين رغبته فى التنسك ، ولقد وصف أوغسطينوس نفسه هذه المعركة الحامية فى كتابه " الأعترافات " تتلخص فى ما يلى : " ما أن بلغت مسامعى كلمات بونتيتيانوس حتى اضطربت نفسى واضطرم قلبى بنار آكلة ، وحالما غادر منزلى أخذت أناقش نفسى الحساب وألهبها بلاذع الكلام لتراخيها وانسياقها نحو المفاسد الدنيوية ، وقد ظللت فى محاربتها بلا هوادة إلى أن نجحت فى إخضاعها للأرادة الإلهية . ومع أن أوغسطينوس لم يعش عيشة أنطونى الصحراوية ، إلا أنه افتقد أثره فى السعى إلى اخضاع الأرادة الأنسانية للأرادة الإلهية متخذا شعاره ما قاله أنطونى عن الأمكانيات الأنسانية حيث قال : " لا يتوهمن انسان أن بلوغ الكمال بعيد المنال أو غريب عن الطبيعة البشرية ، فالناس يركبون البحار ليتمكنوا من دراسة الفلسفة اليونانية ، أما مدينة الله فهى داخل القلب البشرى ، والصلاح الذى يتطلبه الله كائن داخل كل فرد منا ، ولا يتطلب إلا أن نخضع ارادتنا للأرادة الإلهية " .
+ + وإذا كان بعض قاصدى أنطونى طرقوا بابه ليشفيهم من أمراضهم ، أو ليعزى قلوبهم ، فإن البعض الآخر قد قصد إليه ليعيش معه ويشاركه حياة النسك والتقشف فى وحشة الصحراء ، ولما كانت الأديرة لم تنشأ بعد ، فإن المتنسكين فى البرارى المصرية كانوا يعيشون فى مغاور تعرف بالصوامع – وكل منهم ينفرد فى صومعة ، وكانت هذه الصوامع متقاربة بحيث يتسنى للجميع أن يجتمعوا مساء السبت وصباح الأحد للصلاة معا . وقد شبه الأنبا أثناسيوس الرسولى هذه الحياة النسكية بالحياة الملائكية ، فكما أن الملائكة يرددون أناشيد التسبيح والتمجيد للعزة الإلهية ، كذلك كان أولئك النساك يقضون حياتهم فى تسبيح الله وتمجيده .
+ + ولم يضع الأنبا أنطونى نظاما للحياة النسكية ، ولم يطالب النساك إلا بالصلاة والتقشف والعمل اليدوى اقتداء بالسيد المسيح الذى كان يعمل بيديه نجارا ، وببولس الرسول الذى كان يعيش من صنع الخيام ، وعملا بارشاد الملاك الذى ألبسه الأسكيم .
+ + وقد حدد الأنبا أنطونى الساعات التى تقام فيها الصلوات وتنحصر هذه الصلوات فى تلاوة بعض المزامير ، ومقتطفات من أسفار العهد الجديد ، وبعض الصلوات التلقائية الفردية والجماعية ، وكان الجميع يعدون الصلاة هى الصلة بينهم وبين الخالق .
أما التقشف فقد قصد أنطونى به الأحتفاظ بالعفاف التام ، ولو أنه كان يرى أن اخضاع الأرادة الأنسانية للأرادة الإلهية أسمى مرتبة من التقشف المؤدى إلى اخماد الحواس الجسمية ، بحيث أنه كان يشعر بعطف شديد نحو من ينزلقون فى هاوية الخطية الجسدية ثم يتوبون توبة صادقة
+ + وإذا كان الأنبا أنطونى لم يضع نظاما للأديرة ، إلا أنه وضع زيا خاصا بالنساك .

فى سبيل الأيمان

قال القديس أنطونيوس : " العناصر تتلظى غيظا ، وكل الخليقة تتصدع غضبا من جراء جنون الأريوسيين ! وقد رأت أن ربها الذى به ولأجله صارت كل الأشياء أصبح مثلها محاكيا لها ! "
كثرت البدع والهرطقات فى ذلك العصر بصورة عجيبة ، وتملكت على أذهان البسطاء لما يبذله المبتدعون من مجهود فى سبيل نشر سمومها فى جسم الكنيسة ، وكم حاول هؤلاء أن يتصلوا بالقديس فى خلوته لينالوا بذلك حظوة لدى المؤمنين تمكنهم من نفث أضاليلهم ، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا .
لقد ذهبوا إليه مرارا غير أنه طردهم من أمامه واظهر للمؤمنين خبث نواياهم كما حذرهم من أن ينخدعوا فيسيروا وراءهم ، وما أعظم قول القديس لتلاميذه : " إن كلام المبتدعين والهرطوقيين أشد من سم الأفاعى ! " .

+ + +

وقد بلغت الجسارة بالأريوسيين أن يشيعوا بأن القديس انطونيوس يعتقد معتقدهم ويرى رأيهم ! وما أن وصل ذلك إلى مسمع القديس حتى خف ومعه بعض رهبانه إلى الأسكندرية ليزيل هذا اللبس ويكشف الستار عن نيات المبتدعين الخبيثة ويفضح ادعاءاتهم الكاذبة ، وسرعان ما تجمهر المؤمنون ليروا رجل الله انطونيوس الذى بدأ يخاطبهم قائلا :
" إن كنت قد جئت مرة ثانية من خلوتى لأظهر بينكم فذلك لكى أؤدى شهادة جلية لحقيقة إيماننا المقدس ، إنهم قد تجاسروا على الطعن بإلوهية مخلصنا وقالوا إنه كان خليقة بسيطة ، كلا ... إن ابن الله ليس هو خليقة ولم ينشأ من العدم بل كان منذ الأزل لأنه كان كلمة وحكمة الآب . ولهذا لا تشتركوا قط مع هؤلاء الأريوسيين المنافقين لأنه لا يمكن أن يكون اتحاد بين النور والظلام ، إنه لكفر أن يقال أنه وجد وقت لم يكن فيه الكلمة لأن الكلمة كانت دائما مع الآب .
إنكم مسيحيون لأنكم فى التقوى الحقيقية وفى الأيمان الحقيقى ، وأما الأريوسيين فانهم حينما يقولون إن كلمة الآب ابن الله هو مخلوق فأنهم لا يختلفون فى شىء عن الوثنيين الذين يعبدون الخليقة عوضا عن الخالق ، فصدقوا إذن أن كل الخلائق تغضب ضدهم لأنهم يجعلون فى عداد المخلوقات رب وسيد كل الأشياء التى هى كافة صنع يديه ، فاهربوا إذن من مخالطتهم فمن لا يحب يسوع المسيح فليكن محروما .
وكم كان وقع خطاب انطونيوس هذا عظيما فى نفوس سامعيه ، لقد جدد فيهم العزم على الثبات على الأيمان المستقيم حتى النهاية والعمل على مناضلة تلك البدعة الأريوسية الغريبة بل ألهب فى نفوسهم الشوق إلى رؤية راعيهم الأمين الأنبا أثناسيوس الرسولى التى أبعدت مكايد الأريوسيين بينه وبينهم .

+ + +

ومع صغر الفترة التى قضاها القديس فى الأسكندرية ، فى زيارته الثانية هذه ، إلا أنها كانت سبب بركة للكثيرين ، فكم من مرضى نالوا الشفاء ، وكم من شياطين خرجت صارخة ، بل كم من وثنيين هرولوا لمشاهدة القديس وسماع أحاديثه العذبة ، لقد آمن كثيرون منهم واعتنقوا المسيحية على يديه ...
قال القديس أثناسيوس الرسولى : " إن الذين أقلعوا عن أباطيل الوثنية واعتنقوا الدين المسيحى فى تلك الأيام القليلة قد أربى عددهم عمن اهتدى فى سنة كاملة ! " .
وكثيرا ما كانت الجموع تزدحم حول القديس لنيل بركته ، وإذ يسرع تلاميذه لأبعادهم ، كان يخاطبهم قائلا : " دعوهم يقتربون منى فليس هؤلاء أكثر عددا من الشياطين الذين يحاربوننى فوق الجبل ! " .
رسالة من قسطنطين !
" يجب ألا تتعجبوا من كتاب الملك لى ، فهو رجل يكتب إلى رجل آخر ، ولكن تعجبوا من أن الله قد خاطبنا بإبنه الوحيد " انطونيــــوس

مع ما كان يبديه الأنبا أنطونيوس من المغالاه فى العزلة والأنفراد ، إلا أن الرب كان يزيده ظهورا ! فسرعان ما سمع الجميع عنه وعن حسن عبادته وما يجريه الله على يديه من عجائب ومعجزات حدت بالكثيرين أن يحجوا إليه فى خلوته لطلب البركة ونوال الشفاء .
ومن الغريب أن يصل خبر القديس إلى قصر الملك قسطنطين الذى إذ وقف على فضائل انطونيوس أراد أن يشارك شعبه فى نوال بركته ، فكتب له خطابا رقيقا أظهر فيه احترامه العظيم لشخصه الكريم وطلب منه أن يمنحه وأفراد بيته البركة والدعاء ! .
وصلت رسالة الملك على أيدى رسله إلى القديس ، وما أن تليت على مسامع رهبانه حتى داخلهم روح الفخر والكبرياء وطفقوا يقولون : " ما أعظم معلمنا ! هوذا الملك يراسله ويطلب بركته ! " ولقد خشى القديس أن يجد الشيطان فى ذلك ثغرة يهجم منها على أولاده ، لذا أظهر عدم اهتمام برسالة الملك ، ولما أبدى الرهبان دهشتهم من موقفه هذا خاطبهم قائلا : " لا تتعجبوا لأن ملوك الأرض كتبوا إلينا ، ولا يجب على المسيحى أن يستعظم هذا الأمر ويندهش منه ، أما الأمر العجيب حقا والمذهل للعقول ، فهو أن الله كتب شريعته من أجل البشر وأرسلها على أيدى أصفيائهم ، وفى آخر الأيام خاطبنا فى إبنه الوحيد الذى يسمو بما لا يقاس على كل الملوك والسلاطين ! "
ولما أنطفأت حدة غرورهم وكبريائهم بعث برده إلى قسطنطين مبديا اغتباطه وسروره لأنه وعائلته قد اهتدوا لعبادة الاله الحى ، ثم أرشدهم ونصحهم على ألا يغالوا فى استعمال سطوة الملك وسلطانه طالبا منهم أن يضعوا نصب أعينهم دواما يسوع المسيح الملك الحقيقى والأبدى الوحيد ، وأن يكون العدل والحق رائدهم فى إدارة شئون رعيتهم ، ثم ختم رسالته بعد أن منحهم البركة وخير الدعاء .


الأنبا انطونيوس
حتمية روحية وكنسية !
تحت هذا العنوان نقتطف بعض الفقرات مما كتب د . راغب عبد النور :
على مذبح الحب الإلهى قدمت الكنيسة من أبنائها ملايين الشهداء ، ولم تبخل الكنيسة بأبنائها بلا تردد حين توفرت الأدلة أن اللقاء بالموت بكل أنواع التعذيب هو الوقود الباقى الذى يضرم نار الأيمان .... واستمر الحال بالكنيسة وبأفرادها ... وهى تعانى من الطرد والتشريد والمصادرة ... على مدىقرون حتى أنه غدا عسيرا أن نفصل بين الكنيسة والأستشهاد .
لكننا لا نتصور كنيسة تتوفر لها أسباب الأيمان الحى وسلطان الرسالة الشاهدة ، وهى فى نفس الوقت تنفصل عن حركة الأستشهاد ، وأمومة الكنيسة للشهداء ( لأننا نترنم لها بأسم أم الشهداء ) ليست أمومة موقوته بزمان محدد ولا هى أمومة تقبل التوقف أو التعطل أو الشلل ، كما كانت الكنيسة أما للشهداء هكذا ينبغى أن تكون فخورة بأبنائها الشهداءمن جيل إلى جيل .. وإلى يوم الدين . لذلك رتبت عناية الله الحى أن يظهر فى أفق الكنيسة نجم الأنبا أنطونيوس برسالته إبتداء من القرن الثالث الميلادى – وهذه الرسالة نعتبرها حتمية كنسية تحفظ للكنيسة صورتها ولقبها كونها " أم الشهــــــداء " .
إن الزمن الذى نضجت فيه رسالة الأنبا أنطونيوس وقد أصبح رجلا صاحب مدرسة تعليمية وتطبيقية من مدارس الأيمان .... هذا الزمن كان الحلقة التى تصل بين آخر اضطهاد فرضه الوثنيون على الكنيسة وبين عهد المسالمة بين الكنيسة والدولة .
بابتداء عهد المعايشة والمصالحة بين الكنيسة والدولة تربص بالكنيسة خطر شديد البأس وكان هذا الخطر قاسيا جدا على روحانية الكنيسة وحيويتها ، والعجيب إن كان أشد خطرا على رسالة الكنيسة من الأضطهاد رغم فظاعة الأخير ، فبعد أن كان المؤمنون يلتفون حول وديعة الأيمان يحافظون عليه ويدافعون عنه ويبذلون من أجله كل شىء حتى النفس ... غدا هذا الأيمان بابتداء عهد المعايشة – موضوع مناقشة وجدل ، ورفع الغطاء عن المقدسات – بغير خجل أو تحفظ – وكل إنسان أعطى لنفسه الحق أن يحلل وأن يفلسف وأن ينحاز إلى هذا الجانب أو إلى ذاك .
كان الأضطهاد بذاته ينطوى على نداء دائم أن يكون الأنسان ساهرا ، لأننا لا نعلم متى يأتى العريس ، فكل نفس عليها أن تستعد لملاقاة العريس ، وحسبهم من التعليم ما تعلمهم به الكنيسة وتدربهم عليه .
ورسالة الأنبا أنطونيوس كانت أيضا صرخة داوية ... صرخة تدعو كل نفس أن تنصرف إلى العبادة وإلى الجهاد من أجل الإيمان ، لأن الجهاد من أجل الأيمان وقت السلم لا يقل أهمية عن نظيره فى زمن الأضطهاد لئلا نركن إلى الفراغ العقلى والقلبى ونستحلى الرخاوة واللامبالاه ، ويترتب على ذلك ما يترتب من نتائج مفسدة لحياتنا الروحية .
وأظنه واضحا لكل عين متأملة ، أن المناقشات الحامية قد استهلكت وقتا طويلا من عمر الكنيسة بمجرد أن انتهى عهد الأستشهاد ، ولا نشك أيضا أن عددا وفيرا انصرفوا عن العبادة الحقيقية ليدخلوا فى متاهات المناقشات وخسرت النفس ثمار الروح من فرح وسلام .
إن الدعاوى الهرطوقية المختلفة ظهرت والأضطهاد مازال قائما واستمرت حتى ما بعد الأضطهاد ، لكن الكنيسة أثناء الأضطهاد لم يكن لديها وقت لتضيعه إنصاتا لهذا الداعية أو انسياقا وراء الآخر .
شاغل واحد انشغل به المؤمن أن يكون حنطة يطحنه الأضطهاد فيتقدم للسماء خبزا .
أما بعد الأضطهاد ابتدأ يظهر فى جو الكنيسة أثر الدعاوى الهرطوقية فكان أثرا مخربا ومدمرا ، فكان على الأنبا أنطونيوس أن يكلف نفسه مشقة السفر إلى الأسكندرية ليعلن على الملأ إيمانه المستقيم وليفضح خداع المخادعين وليؤيد خادم الأيمان الصحيح القديس أثناسيوس الرسولى .
لم يكن الأنبا أنطونيوس على جانب من الفصاحة أو مالكا لأسباب المنطق والقياس والأستطراد ... لكنه كان يملك روحا تمرست على العبادة وعلى الجهاد الروحى ، وقبل فى نفسه حكم الموت فأنعم الرب عليه بنعم الأعلان والتمييز فأستطاعت الرهبنة وهى تملك نعمة الأمانة أن تقف سدا أمام تيار الهرطقة كما استطاع أن يقف الأضطهاد ذات الوقفة قبل ذلك بزمان .
" فكنيسة الرهبنة إذا هى كنيسة الشهداء ، وكنيسة الأتقياء والمجاهدين هى أيضا أم للشهداء "

كلمـــــة "لأ" :
لماذا أسمينا الشهيد شهيدا ؟ ....
لأنه بكل شجاعة قال كلمة " لأ " فى الوقت المناسب وتحمل من أجل ( لائه ) كل أنواع التعذيب ، ونستطيع أن نسمى الأتقياء العابدين الأمناء حتى الموت وفى حدود الوزنات الموهوبة " شهــــداء " طالما يحافظون على كلمة " لأ " يقولونها فى الوقت المناسب ويتحملون من أجلها أنواع الحرمان والعناء .
ولا ننكر أن النداء الذى يحمل فى طياته وعودا بالهناء واللذة .... ؟ أحيانا يكون من الصعب على النفس أن ترفضه ، لكننا إذ نتمسك بالله وبالمواعيد ونقابل كل شىء بالرفض والهروب ، فلا شك أننا بذلك نحمل صليب ربنا وهو فى طريقه إلى الجلجثة .
ذبيحة العبادة العقلية :
وأشد من هذا النداء من زاوية الألحاح والتمسك – هو النداء الداخلى ... نداء الرغبات والأنعطافات والميول والدوافع والطبيعة والأنسان القديم .. ففى داخلنا يسكن عدونا الألد – وأشد الوحوش أفتراسا – هو عدو دائم السهر يحاربنا فى صحونا كما فى نومنا .... وحتى فى أحلامنا .
ورغم كل ذلك فالرب يستطيع أن يعطينا نصرة عليه ، ومبارك هو من الله الذى يستقبل من ربنا نعمة الجهاد والتصميم ويتمسك بالصليب سلاحا وعونا وملجأ فيقولها لعدوه الداخلى كلمة صريحة " لأ " لأن كلمة الرفض ستعنى الكثير من الألم والعميق من الجراحات .
وعلى ذلك يعتبر الأنبا أنطونيوس صاحب نداء اليقظة والعودة بالأفراد إلى شركة الكنيسة المجاهدة ومع أنه اختار لنفسه ولتلاميذه أكرب الطرق وأضناها " وهو بذلك لم يخرج عن حدود الأنجيل ولا أخترع جديدا على وصايا ربنا يسوع " ، إلا أن حياته وأسلوبه الصادق الأمين فى العبادة والجهاد انعكست آثارها على سائر المؤمنين فى العالم ، فغدا مركز إشعاع للتعليم المسيحى المستنير على كل المستويات وفى كل الأتجاهات .
إن عزلة الأنبا أنطونيوس بالصحراء ما هى إلا انعطاف كلى نحو الله – وليست تعاليا على الناس أو امتعاضا منهم .
الرهبنة ليست دعوة إنعزالية ، إنما هى دعوة كمالية نحو الأفضل ، ولسنا نذكر جديدا حين نقرر أن صداقة قوية ربطت بين الأنبا انطونيوس والأنبا أثناسيوس ، وهى صداقة أكدها وثبتها اتفاق العملاقين فى الروحيات ، وفى المسئوليات وفى الفكر والرأى ، وهناك رأى يرى أن:
" مدرسة الأنبا أثناسيوس اللاهوتية تستمد بعض أصولها من مدرسة الأنبا أنطونيوس التعبدية " .
وحــــدة الخدمــــة والمســـئولية :
إذا التقينا بالأنبا أثناسيوس ساعيا نحو الأنبا أنطونيوس فى الصحراء فى أغلب المرات التى تحرجت فيها الأمور بالنسبة له وبالنسبة للأيمان المستقيم ، كما رأينا الأنبا أنطونيوس وفى رفقته مجموعة من تلاميذه يتوجه إلى الأسكندرية ليعلن بوضوح إيمانه المستقيم ..... إيمان أثناسيوس وإيمان كنيسة الأسكندرية .
فالدعوة الديرية ليست دعوة إنفصالية عن رسالة الكنيسة ومن بعض الزوايا فهى عملية إعدادية لإنضاج الأحساس بالمسئولية نحو رسالة الكنيسة العامة .
ودليلنا على ذلك أنه بعد انتشار أديرة الرهبان على حافة وادى النيل ، كنا نرى سكان المدن عشية السبت من كل أسبوع يحملون نذورهم إلى الأديرة ثم ينتظمون جلوسا مستمعين لكلمة منفعة من أحد الرهبان القادرين على الوعظ والتعليم .
وفى بعض العصور غدت هذه الخدمة من مهام الدير ومسئوليته نحو سكان المدن القريبة منه ، وحسبنا دليلا على ذلك سيرة الأنبا شنودة المتوحد .... الرجل الذى برز فى عصره بأنه أفصح من خطب أو وعظ باللغة القبطية .
وحتى المتوحدين والسياح لا نستطيع أن نستثنيهم من هذه القاعدة ، فإن ارتباطهم الأيمانى بالكنيسة وخدمتها ظل موضوع مشغوليتهم رغم توغلهم فى دروب النسك والوحدة – ويخدمنا فى هذا المجال شاهدا على ما ذهبنا إليه قصة لقاء القديس الأنبا أنطونيوس بأول السياح القديس الأنبا بولا الطيبى .
فى هذا اللقاء المشهور جرى الحديث بين القديسين حلوا عذبا ثم كشف الأنبا بولا عما يشغله رغم أنه الرجل الذى أنفصل جسديا عن العالم منذ أربعين سنة ، فسأل عن حال الكنيسة ، وعن الأضطهاد وتساءل هل ما زالت توجد فى العالم عبادة غير عبادة الرب يسوع .
دور الرهبنة فى الرسالة التثقيفية :
مع بدء رسالة الأنبا انطونيوس الرهبانية فى القرن الثالث الميلادى ، انتشرت الرهبنة والأديرة فى داخل البلاد فى جميع المناطق ، على أن الرهبنة فى ذاتها كانت رسالة تثقيفية لروادها من الرهبان ، فإنهم بجانب الصلاة والعبادة والعمل اليدوى يلتزمون بكلمة الله قراءة وتأملات وترديدا .... وهذه القراءة كانت موضوع الدراسة واستخلاص المنفعة فى صوامعهم ، أو حين يجتمعون معا .
فظهرت بين الرهبان طائفة النساخ للكتاب المقدس وما يتصل به من تعليقات ودراسات ... وهى خلاصة رأى الجماعة فى شتى الموضوعات الكتابية .
وما هى إلا بعض عشرات السنين حتى كان لكل دير مكتبته الخاصة ، وهى مكتبة على كل حال لا يستهان بها .
كانت هذه المكتبات مرجعا لكل الموضوعات الروحية والعقائدية ، للأستفادة منها ، وللرد على بعض الهرطقات عند ظهورها ، وهذا النمو الأيمانى بجانب التطور التثقيفى ، بجانب التفرغ للعبادة والتعليم – جعل الدير غنيا بطائفة الشيوخ – طائفة العلماء الأتقياء ، وكانوا مرجعا للأحداث من الرهبان كما كانوا ملجأ للسائلين من أهل العالم .
ثم انتهى القرن السادس وأغلقت مدرسة الأسكندرية أبوابها وفتش الناس عن بديل فوجدوه متوفرا فى كل الأديرة !!
لا شك أن رب الكنيسة رأى أن مدرسة الأسكندرية سوف تتنازل عن رسالتها بختام القرن السادس ، فهو بنعمته هيأ خدمة أخرى تستطيع أن تملأ الفراغ بحيث لا يتعطل العمل التعليمى الكرازى ، ولا تكف الكنيسة عن عملية إعداد الرجال الأكفاء الأتقياء والعلماء الذين يشتهون العمل .

+ + +


تجربة تقود إلى اكتشاف :
تعالى القديس انطونيوس فى الفضيلة والتقوى ، وتسامى فى عبادته ونسكياته ، وقطع فى هذا المضمار شوطا كبيرا ، مؤثرا العزلة ، عاكفا على الصلاة ، ملازما الصوم ، مداوما على السهر ....
فكر انطونيوس يوما ، أنه أول من سكن البرية ، وأول من سلك طريق الرهبانية وانفرد للنسك والعبادة فى ذلك المكان البعيد ! وهنا ابتدأ الشيطان يجربه بتجربة المجد الباطل ويحاربه بالغرور والعظمة غير أن رحمة الرب قد أدركته ، ويده القوية قد انتشلته فخرج ظافرا منتصرا
وكثيرون قد جربوا بهذه التجربة القاسية ، غير أن قليلين هم الذين استطاعوا أن ينتصروا ! ولقد ذكر التاريخ الكنسى أن القديس مقاريوس الكبير قد جرب بذات التجربة وخالجه نفس الفكر وعندئذ كشف له الرب عن حسن عبادة وتقوى إحدى السيدات المترملات فى الأسكندرية ، وسمع فى الحال صوتا يناديه قائلا : " يا مقاريوس ، إنك لم تبلغ إلى الآن فضيلة امرأة أرملة تسكن مع بنيها فى الأسكندرية ، ويمكنك إن أردت أن تشاهد ذلك عيانا ! " – وهنا انقطع الصوت السماوى فاشتعلت نار الشوق والرغبة فى رؤية هذه القديسة ، فى نفس الأنبا مقاريوس
توجه القديس مع تلاميذه إلى الكنيسة فى الأسكندرية ، وفى نهاية الصلاة أبصر امرأة قد تخلفت عن بقية النساء عن التوجه لنوال البركة من الآب البطريرك ، ووقفت فى ورع وتقوى عظيمين تسكب نفسها أمام أيقونة السيدة العذراء ! طالبة من الرب أن يدركها وأفراد بيتها برحمته وعنايته ، وكانت تذرف دموعها مع كلماتها ! فظن القديس أن هذه المرأة واقعة فى تجربة قاسية فتقدم إليها وسألها عن حالتها فابتدأت المرأة تشرح له كيفية سيرها مع أبنيها وزوجتاهما بكل محبة واخلاص فى بيت واحد ومعيشة واحدة !
عندئذ أدرك القديس مقاريوس أن هذه المرأة هى التى أعلن له عنها ، ثم عاد إلى ديره وهو يقول : " حقا إن الرب يمنح العلمانى كما يمنح الراهب لأنه إنما ينظر إلى القلوب النقية والضمائر السليمة دون سواها
بين أول الرهبان وأول السواح

عندما خالج انطونيوس فكر العظمة ، وظن أنه أول من سكن البرية الداخلية ، أوحى إليه بأن : " فى هذه البرية داخلا منك إنسانا لا يستحق العالم وطأة قدمه ! " .
ولوقته قام متوكئا على عكازه وسار فى البرية راغبا فى الوصول إلى اكتشاف منسك هذا الرجل العظيم ، الذى أوحى إليه عنه ، سار يوما كاملا ولم يجد شيئا ، فجثا على ركبتيه وصلى طيلة ليلة طالبا من الرب الأرشاد والهداية . وعندما بزغ نور الفجر قام ليواصل سيره ، وما أن انحدرت الشمس للمغيب حتى أبصر ذئبة صاعدة فوق جبل فسار وراءها حتى غابت عن بصره ، وكان الليل قد أرخى سدوله ، فأبصر مغارة قريبة ، وأدرك أنها قد تكون ضالته التى يبحث عنها ! اقترب نحو بابها ، فشعر بيد تمتد وتغلق الباب دونه !
وهنا يكتب القديس أنطونيوس بنفسه مصورا ما جرى بينه وبين الأنبا بولا أول السواح فيقول :
" أما أنا فجثوت على الأرض وصرخت باكيا وقلت : إننى لواثق انك تعلم من أنا ومن أين جئت ولماذا أتيت ، ولا يخفى عليك إنى لا أذهب من هنا أو أبصرك ! فهل يمكن أن تطرد الأنسان يا من تقبل الحيوان ؟ ! إنى طلبتك وقد وجدتك وقرعت بابك لتفتح لى ، وإن لم تقبلنى فسأموت هنا ، وأقل ما يكون أنك تلحدنى بعد موتى .
" فأجابنى من داخل قائلا : ما من أحد يطلب إحسانا بانتهار ، بل ببكاء وتنهد ، فإن كنت قد أتيت إلى لكى تموت ، فلماذا تتعجب من إنى لا أقبلك ؟ ! "
وهنا انفتح الباب ! فتعانق القديسان طويلا ، ودعا كل منهما الآخر بإسمه ! ثم التفت الأنبا بولا للأنبا أنطونيوس وقال : إبصر الآن من فتشت عليه بعناء عظيم ، ها هى أعضائى قد وهنت من الشيخوخة وقد ابيضت لحيتى كلها ، وجف جلدى ! أنظر إنسانا يرتد إلى التراب سريعا ! .
من هو الأنبا بولا ؟
أولا : هو رجل الزهد والتقشف

يرجع أغلب المؤرخين أن الأنبا بولا ولد سنة 229 م فى الأسكندرية من أبوين غنيين ، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره أنتقل والده ووالدته أيضا بعد أن هذباه بآداب اللغتين اليونانية والمصرية وعوداه على الوداعة وخوف الله وممارسة الفضائل المسيحية .
لما أثار الملك داسيوس الأضطهاد على المسيحيين سنة 249 م تنازع مع أخيه على الميراث فعمد الأخير على أن يقدمه للقضاء ، وبينما كانا سائرين صادفا نعشا محمولا يشيعه القوم إلى مقره الأخير ، وإذ سأل بولا عنه ، أجابه أحد المشيعين قأئلا : " هذا كان من عظماء المدينة يا ولدى ! وكان له من المال والغنى الشىء الكثير ، وهو ذا قد تركه بأجمعه ، وها أنت تراهم يمضون به إلى القبر بهذا الثوب الذى عليه "
وهنا تنهدبولا وقال : حقا ، انه ليس فى العالم سوى شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهوته ! ( 1 يو 2 : 16 ، 17 ) وما المال إلا أصل الشرور ( 1 تى 6 : 10 ) ، ثم رجع من منتصف الطريق بعد أن ترك كل الميراث لأخيه .
خرج إلى خارج المدينة حيث أقام ثلاثة أيام كاملة يصلى إلى الرب فى قبر مهجور ليرشده إلى ما يرضيه ، وعندئذ أرسل له الرب ملاكه الذى أقتاده وأوصله إلى البرية الشرقية الداخلية وتركه هناك بقرب عين ماء وشجرة نخيل !
ثانيا : ثم هو رجل الجهاد والصبر !
بقى فترة ليست بقليلة يقتات من ثمر النخلة ويشرب من عين الماء ! إلى أن قيض الله له غرابا يأتيه بنصف خبزة فى كل يوم ، وظل سبعين سنة كاملة لم ير فيها وجه إنسان !
ولعل البعض ينكر أو يستغرب إعالة الرب لصفيه الأنبا بولا بواسطة الغراب ، غير أن فى كتاب الله ما يزيل دهشتنا واستغرابنا ، هوذا الرب عينه يأمر ايليا النبى قائلا : " انطلق من ههنا واتجه نحو المشرق واختبىء عند نهر كريت الذى هو مقابل الأردن فتشرب من النهر ، وقد أمرت الغربان أن تعولك هناك ، فانطلق وعمل حسب كلام الرب وذهب فأقام عند نهر كريت الذى هو مقابل الأردن وكانت الغربان تأتى إليه بخبز ولحم صباحا وبخبز ولحم مساء وكان يشرب من النهر ! " ( 1 مل 17 : 3 – 6 ) .
لقد ظل الأنبا بولا يجاهد سنوات هذا مقدارها ، وما كلت عزيمته ، ولا خارت قواه ، بل كان يذكر فى كل وقت إن " من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص " ( مت 10 : 22 ، مر 13 : 13 ) .... كم من ضيقات أحتمل ، وكم من تجارب قبل ، وأخيرا أضحى مثالا حيا يحضنا أن نشترك فى احتمال المشقات كجنود صالحين ليسوع المسيح ( 2 تى 1 : 8 ) .
ثالثا : وهو رجل الصلاة أيضا !
وليس هذا بعجيب ، لقد سكب نفسه فى صلواته ، فاختبر قوتها ودخل إلى أعماقها وتذوق لذتها وعذوبتها ! لذا استحق أن يذكر عنه للقديس انطونيوس انه : " بصلاته يرسل الرب المطر والندى على الأرض ، ويأتى النيل فى حينه !! " السنكسار 2 أمشير
نعم ما أعظم الصلاة ، وما أقوى تأثيرها ، لقد كان ايليا إنسانا تحت الآلام مثلنا وصلى ألا تمطر السماء ثلاث سنين وستة أشهر فلم تمطر ! ثم صلى أيضا فهطل المطر مدرارا ! ( يع 5 : 17 ) .
اهتمام الرب بقديسيه

وبينما كان القديسان يتباحثان ويتفاوضان إذا بغراب يطير إليهما ، حاملا فى فمه رغيفا كاملا تركه بين أيديهما ، فنظر الأنبا بولا إلى ضيفه وقال : مبارك الرب الذى أرسل لنا مأكلا ! .... لتعلم يا أخى أنه منذ 60 سنة يأتينى هذا الغراب كل يوم بنصف رغيف فقط ، واليوم أتى برغيف كامل من أجلك ، فشكرا لله الذى يهتم بقديسيه ! " .
أو ليس فى ذلك ما يذكرنا بقول النبى : " كنت فتى وقد شخت ولم أرى صديقا تخلى عنه ولا ذرية له تلتمس خبزا ؟! " ( مز 37 : 25 ) " فاطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم ! " ( مت 6 : 33 ، لو 12 : 31 ) .
وما أعظم ما ذكره بعض الرواه إذ قالوا : " إن القديسين بعد أن شكرا الرب لاعتنائه بهما جلسا على حافة الينبوع وشرع كل منهما يكلف صاحبه بكسر الرغيف ، فكان بولا يحجم عنه قائلا : " أنت ضيفى وعلى أن أكرم مثواك واحفظ لك حقوق الضيافة ! " فقال انطونيوس : " وأنت أبى إذ قد تقدمتنى فى العمر والزهد ! " ، ولبثا هكذا فترة أتفقا بعدها على أن يمسك كل منهما بطرف الرغيف ويكسراه سويا !!
ثم أخذا فى تناول طعامهما ، وطفقا يتحدثان بعظائم الله ...
وبعدئذ صرفا الليل كله فى الصلاة والسهر .
أنتقال الأنبا بولا السعيد

كان الأنبا بولا عظيما فى حياته ، بل كان مثلا حيا للعظمة الحقيقية كما تعرفها المسيحية ! كما كان عظيما أيضا فى مماته !
فى صبيحة اليوم التالى استدعى القديس بولا الأنبا أنطونيوس وقال له : " لقد أعلمنى الرب منذ زمن بعيد أنك مستوطن فى هذه البرية ، ووعدنى بأنك مزمع أن تزورنى وتوارينى التراب ، وها قد دنا أجلى ، والعناية الالهية لم تأت بك إلى هنا إلا لكى ترد التراب إلى التراب ، وها أنذا أطلب إليك أن تعود إلى ديرك وتأتينى بالرداء الذى أعطاك أثناسيوس البطريرك لتكفننى به "
وهنا تأثر انطونيوس كثيرا ، وبكى بكاء غزيرا وطلب منه أن يطلب من السيد لكيما ينتقل معه ويتحرر من قيود هذا الجسد الترابى ، وأما القديس بولا فخاطبه قائلا : " يجب أن تبقى مدة أخرى من أجل أخوتك !" . فقام الأنبا انطونيوس لأداء مهمته ، وقام الأنبا بولا لتوديعه ، وتعانق الأثنان والدموع تهطل من أعينهما ، فلقد كان هذا آخر عناق بينهما !!
ولكن من الذى أعلم الأنبا بولا بهبة القديس أثناسيوس الرسولى لأنطونيوس ؟ إن ذكره لم يأت قط طيلة حديثهما ، غير أن الله قد كشف له ، إذ : " سر الرب لخائفيه " ( مز 25 : 14 ) .
ولماذا يصر الأنبا بولا على أن يكون رداء أثناسيوس دون غيره كفنا له ؟ !
كان ذلك لسببين : أولهما : لكى لا يحزن أنطونيوس كثيرا إذا ما شاهد انتقاله بنفسه ، وثانيهما : لكى يبين للملأ عظم جهاد أثناسيوس وغيرته فى سبيل الأيمان الذى يتحدهما اتحادا كليا .

+ + +

عاد الأنبا أنطونيوس مسرعا إلى ديره ، فى الوقت الذى كان تلاميذه يبحثون عنه بجد واهتمام ، إذ قد أقلقهم غيابه المفاجىء هذا ، وسرعان ما تلاقوا فسأله الرهبان فرحين مغتبطين برؤيته : " أين كنت يا أبانا ؟... أما هو فقال : " قللوا من فرحكم ، فما أنا سوى رجل خاطىء شقى ، ولست مستحقا أن أدعى خادم الرب ، الآن عرفت أننى لست شيئا ! نعم ، لقد وجدت يا أولادى من هو أفضل منى ، ... لقد رأيت يوحنا المعمدان فى البرية ! ورأيت ملاكا يسكن فردوسا أرضيا ! .. طلب التلاميذ أن يزيدهم ايضاحا ، فأجابهم : " للكلام وقت ، وللصمت آخر " ثم أخذ الرداء ورجع إلى موضع الأنبا بولا ، راجيا أن ينظره دفعة أخرى قبل انتقاله ! .
سار انطونيوس ولم يكد يصل إلى مغارة القديس حتى أبصر جوقة من الملائكة تحمل نفس البار بولا إلى السماء فرحة متلانمة ! فجهش أنطونيوس بالبكاء رغم هذا المنظر المفرح ، ولما دخل المغارة وجده ساجدا على ركبتيه ووجهه إلى الأرض ويداه مبسوطتان بشكل الصليب ، فأخذه وكفنه بالرداء واحتفظ لنفسه " بمسح الليف " الذى كان يلبسه القديس بولا ، وكان أنطونيوس يعتبره دواما أثمن ذخيرة لديه ويرتديه فى الأعياد والأحتفالات الرسمية .
وإذ أراد أنطونيوس أن يوارى جسد القديس التراب ، تحير فيمن يحفر له القبر ، فتقدم إليه أسدين وأبتدأ يحفران حتى أكملا ثم غادرا المكان .
عندئذ وضع أنطونيوس الجسد فى مثواه الأخير بعد أن اختلطت صلواته بدموعه !
ثم عاد إلى ديره ، وقد اتخذ من حياة البار بولا خير عظة يلقيها على تلاميذه شارحا لهم نسكه وجهاده ومبينا قداسته وفضائله ، طالبا منهم العمل على الأقتداء به ، وما أجمل ما قاله : " إن فضائلى لم تكن إلا امتحانات بالنسبة إلى فضائل هذا القديس الناسك العظيم ! " .
قال القديس ايرونيموس يمتدح الأنبا بولا : اننى أسأل الأغنياء الذين لا يعرفون كمية ثرواتهم لزيادتها ، الذين يسكنون المنازل الواسعة المزدانة بالرسوم والألوان ، ماذا أعوز هذا الشيخ المقدس من كل غنى ؟ أنتم تشربون فى كؤوس من فضة وذهب ، وبولا هذا يطفىء عطشه بكف يده ! أنتم تلبسون البرفير وهو يتردى بثوب من النخيل ! غير أن الأمر لا يبقى هكذا دائما ، وهذه الحال ستنقلب إلى حال أخرى ، فها أن السموات انفتحت لبولا المسكين وأنتم ستهبطون إلى حيث كنوزكم ! هو قبر فى لحد ليقوم للمجد ، وانتم تدفنون فى قبور من الرخام والمرمر لتحترقوا إلى الأبد ! " .
الرقاد الأخير
خمس سنين بعد المائة ، سلخها الأنبا أنطونيوس فى جهاد مضنى ، سالكا أضيق الطرق وأكربها إذ كان يدرك أنها توصل فى النهاية إلى الحياة الأبدية ! ( لو 13 : 24 ) .
وقد اعتاد القديس كما رأينا ، أن يتفقد أبناءه بين الحين والآخر ، وكان الرهبان يرون أن أعظم الفرص فى حياتهم هى التى يلتفون فيها حول أبيهم ومعلمهم ، ولعلنا ندرك ذلك من سعيهم وراءه عندما سار إلى البرية الداخلية إذ لم يطب لهم المقام بعيدا عنه .
درس الوداع
وإذ دنا أجل القديس حدثته نفسه بقرب انتقاله من الحياة الحاضرة ، فاشتاق أن يرى تلاميذه ، فخرج إليهم ، وسرعان ما اجتمعوا كعادتهم ، كل يسرع لتقبيل يده لنوال بركته ، ثم أحاطوا به احاطة السوار بالمعصم ، وهنا ابتدأ فى القاء الدرس الأخير ، إنه درس الوداع ! الدرس الذى يود التلاميذ تأخيره ولو إلى حين ، لكن كان عليهم أن يسمعوه مرغمين ! فأذعنوا صامتين ومنصتين ، وقال القديس : " هذه يا أولادى زيارتى الأخيرة لكم ، ولا أظن إنى أراكم بعد فى هذه الدنيا ! إن الماية والخمس سنين تضطرنى إلى أن أنحل من هذا الجسد الفانى ! " .
أجهش الجميع بالبكاء ، وفى ألم وحسرة ابتدأوا يتذكرون تلك الفوائد الروحية الجليلة التى يجنونها من تعاليمه وتجاربه ، غير أن القديس اسكتهم وقال : " يا أولادى انى مغادركم ، غير أنى لا أنفك عن محبتكم ، مارسوا دائما أعمالكم المقدسة ولا تتراخوا قط ، احرصوا كل الحرص لئلا تدنس أنفسكم شوائب الأفكار ، اجعلوا الموت نصب أعينكم واجعلوا قيد أبصاركم حياة القديسين واقتدوا بهم ، اتبعوا طريق الحق شجعانا ، وحذار أن تشتركوا مع الأريوسيين المعروفين بكفرهم ونفاقهم وذميم أعمالهم ! اهربوا منهم كما تهربون من الطاعون ، لا تتعجبوا من مساعدة ومناضلة الحكام عن تعليمهم ، فهذه السلطة الوهمية التى اختلسوها لا بد أن تتلاشى ، وليكن ذلك محرضا لكم على أن لا تكون لكم علاقة بهم ...
" حافظوا بكل تقوى على تقليدات آبائكم واثبتوا فى إيمان السيد المسيح ، وعلى ما تعلمتم من الأسفار المقدسة ، واستماعكم الأرشادات التى ألقيتها عليكم أنا العبد القاصر "
قام القديس ليغادر المكان ، فودعه أبناءه الرهبان ببكائهم ، وشيعوه لا بنظراتهم بل بقلوبهم ، إلى صومعته الخاصة ، وهناك انفرد كعادته وابتدأ يصلى إلى الله طالبا منه بكل اتضاع أن يغفر له خطاياه ثم صلى من أجل تلاميذه ومن أجل الكنيسة ، ثم صلى من أجل العالم بأسره .....
ساعة الأنتقال
تعب قليلا فاستدعى تلميذيه الأقربين مكاريوس وأماتاس وأوصاهما قائلا : " إننى يا ولدى العزيزين منطلق فى طريق الآباء ، الرب يدعونى ، إنى مستريح الأرتياح كله للخطوة بالأتحاد به تعالى ، أذكركما واحضكما ألا تضيعان فى يسير من الزمن جنى أتعاب سنوات كثيرة ، ضعا نصب أعينكما أنكما قد ابتدأتما اليوم فيداد عزمكما وحرارتكما بحفظ الواجب ، أنتما تعلمان مكايد ابليس وقساوته ، ولا تجهلان ضعفه ، فلا تخافاه قط بل آمنا بيسوع المسيح ، لأن الأيمان الراسخ يهزم الأبالسة ، تأملا دائما فى التعاليم التى أرشدتكما إليها ، عيشا كأنكما مزمعان أن تموتا كل يوم واسرا دون انقطاع على نفسيكما واذكرا زوال الحياة التى هى فى تقلب دائم فتحرزا عاجلا ثواب السماء ، اهربا من سم أرباب الشقاق والبدع لأنهم أبدا أعداء صليب المسيح ، اجهدا النفس فى حفظ وصايا الله فبعد مماتكما يلقكما الجميع فى منازل السماء كأصدقاء ، فكرا بهذه الأشياء وتصرفا فيها بفطنة وتحدثا عنها ما استطعتما .
" ثم انى أناشدكما الله إذا خطرت لكما فى بال ، وجاء فى فكركما ذكر أبيكما ، وإذا شئتما أن تبادلانى مالى عندكما من خالص المودة ألا تحملا جسدى إلى مصر مخافة أن يصان ! . وهذا هو السبب الذى حدا بى أن أعود إلى هنا لكى أموت فى هذا هذا الموضع فأنتما إذ تدفنانى فى بطن الأرض وتروان التراب على جسد أبيكما ، احفظا وصيتى هذه ولا تدعا أحدا سواكما يعلم أين موضع دفنى ، ورجائى وطيد أنى أقتبل هذا الجسد يوم القيامة ..... بلا فساد .
" أما ثيابى فأنى أوزعها كما يلى ، أعطيا للأسقف أثناسيوس جلد الغنم والرداء الذى استلمته جديدا أرده إليه باليا ، أعطيا الأسقف سيرابيون جلد الغنم الآخر واحفظا لكما مسحى .
" استودعكما الله يا ولدى العزيزين ، إن انطونيوس يفارقكما بالجسد ولكنه لا يفارقكما بروحه ! " .
( الأنبا أثناسيوس الرسولى ، والأنبا سيراليون أسقف دندرة هما كاتبا سيرة القديس انطونيوس )

+++
  رد مع اقتباس