عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 01 - 08 - 2018, 04:10 PM
الصورة الرمزية sama smsma
 
sama smsma Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  sama smsma غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 8
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : قلب طفلة ترفض أن تكبر
المشاركـــــــات : 91,915

المرض والشفاء في

اللاهوت الأرثوذكسي


كيف يفهم اللاهوتُ الأرثوذكسي وكيف يجب على الكنيسة أن تفهم المرضَ والشفاء، وذلك ليس بمفاهيم إيديولوجية مسيطرة أو مفاهيم نفسية نفعية؟ في محاولتنا لإعطاء إجابة على هذا التساؤل، سنستعير بعض المبادئ الأساسية التالية من اللاهوت الآبائيّ:
1- المرض، بكلّ أنواعه هو نتيجة سقوط الإنسان. هذا يعني أنّ المرض يرتبط مع الخطيئة، وليس مع الطبيعة البشرية. ليس بالأمر الطبيعي إذاً أن يمرض الإنسان، إنما هو أمرٌ مخالفٌ للطبيعة. يبدو هذا للوهلة الأولى أنه سيقودنا إلى ما أسميناه إيديولوجية مسيطرة، في هذه الحالة فإنّ العلاج والشفاء يعنيان التكيّف مع الطبيعة. إنّ طبيعة الإنسان بحدّ ذاتها، بما أنها من العدم، فهي قابلة للتغيّر، أي تميل نحو الفساد والموت، وبالتالي نحو المرض. لكنّ الطبيعة نفسها يمكنها أن تتجاوز هذا الميل، ليس بقوى فطرية داخلها، إنما باتحادها بالإله الأزلي والعادم الفساد. إنّ تجاوز كلّ من هذه النزعة الفطرية في الطبيعة البشرية وهذا الفساد، أُعطي للإنسان كـ “كلمة”، كهدف نهائي يعود تحقيقه إلى حرية الإنسان كشخص. دُعيَ الإنسانُ الأول، كشخصٍ حرّ، ليقود الطبيعة إما باتجاه ذاته أو خارجاً عن ذاته، أي نحو الله. أما الاختيار الحرّ للإنسان الأول، آدم، فقد كان الخيار الأول من بين الاثنين، أي ميل الطبيعة تجاه ذاتها، وهكذا تحوّل المرض من إمكانية طبيعية إلى حقيقة طبيعية. لم يكن ممكناً بعد ذلك ألا تمرض الطبيعة البشرية؛ أصبح المرض ظاهرةً طبيعية، ليس لأنه غدا أمراً لا مفرّ منه، بل لأنّ الحرية البشرية هي التي قادت إليه.
2- مثل الخطيئة هكذا أيضاً أصبح المرض، حقيقةً عامةً وجودية، ليس باستطاعة الحرية البشرية أن تغيّرها، إضافةً إلى أنّ إليها (الحرية البشرية) يعود ظهور المرض وشدته، وذلك لأنه بالموت، الذي دخل الوجود وتحوّل من إمكانيةٍ طبيعية بسيطة إلى حقيقةٍ طبيعية، تضعضعت الطبيعة البشرية. هكذا فإنّ حرية الإنسان الشخصية لا تؤثر في الطبيعة البشرية في مجملها، إذ يمرض ويموت ليس الخطاة فقط إنما القديسون أيضاً.
3- إنّ الشفاء النهائي والحقيقي كإزالةٍ تامة للمرض غير ممكن للطبيعة البشرية ولا للحرية البشرية. الفساد وعدم الخلود يتمّ توارثهما بيولوجياً من جيلٍ إلى جيل، ومعهما المرض. ولكسر هذه الحلقة المفرغة، نؤمن باللاهوت الذي يقول بوجود حاجةٍ إلى تدخلٍ خارجي، تدخلٍ يتمّ لأجلنا في شخص المسيح الذي به اتحدت الطبيعة البشرية مع الإلهية، الأمر الذي هو دعوة وهدف الإنسان الأول، وهذا الاتحاد يتحقق دون العبور من الولادة البيولوجية التي تخلّد الفساد والموت، وهو أمرٌ غير ممكنٍ لكلّ إنسان ساقط. المسيح هو بالحقيقة الإنسان الوحيد والمعافى، ليس لأنه إلهٌ فقط- إذ لا تطبّق صفات الصحيح المعافى والمريض على الله- إنما لأنّ طبيعته البشرية تتجاوز الفساد والموت، إذ هي معتَقة من الفساد الموروث ومتحدة بالله على الدوام، طوعاً وبحرية وبفضل أقنوميته أي اتحاده الشخصي مع الله. وبالتالي فإنّ أيّ شفاءٍ كمحي حقيقي وجذري للمرض لا يمكن فهمه خارجاً عن المسيح. الشفاء ممكنٌ فقط من خلال الاتحاد بالمسيح الذي هو الإنسان المعافى حقيقة. ولذلك فإنّ الكنيسة تؤكد على أهمية سرّ الشكر الإلهي في الشفاء. لا تكفي أبداً المحاولة النسكية للحرية البشرية في الشفاء.
4- ومع ذلك فإنّ الحرية البشرية تبقى المفتاح لأجل فهمٍ قويم لمعاني المرض كما لعلاجه. فطالما أنّ المرض جاء إلى الوجود بسبب الحرية البشرية، فالعلاج والشفاء لا يمكن أن يتحققا إلا بالمرور عبر الباب عينه. هذا السرّ أدركه جيداً آباء الكنيسة النساك، ولهذا فقد أولوا أهميةً كبيرة لممارسة الحرية البشرية، باعتبارها المحررة من الأهواء. في هذه النقطة مهمٌّ جداً ما قدمه القديس مكسيموس.
المسلَّمات العلاجية للقديس مكسيموس:
إنّ جوهر المرض حسب القديس مكسيموس يكمن في حبّ الذات. حبّ الذات ليس مجرّد هوى، إنه السبب الذي عنه تتولّد كافة الأهواء: “أتريد أن تتحرر من الأهواء، اطرد أولاً أمّ كلّ الأهواء، أي حبّ الذات”. كما يحلّل فوتيوس فكر القديس مكسيموس، فإنّ حبّ الذات الذي حلّ مكان حبّ الله هو الذي ولّد اللذة، ولأنّ اللذة كانت ممزوجة مع الألم، وقع الإنسان في محاولةٍ يائسة ولا نهاية لها لحفظ اللذة والتخلص من الألم، عن هذه المحاولة الجاهدة وُلِد “حشد الأهواء”. يشرح فوتيوس فكر القديس مكسيموس بأننا إذا رفضنا اللذة وأبقينا على حبّ الذات فإننا نثير الشراهة والكبرياء وحبّ المال وكلّ ما يستدعي اللذة بطريقةٍ أو بأخرى، وإذا تجنبنا الألم وأبقينا أيضاً على حبّ الذات فإننا نثير الغضب والحقد واليأس وكلّ ما فيه حرمان من اللذة. وإذا رفضنا الاثنين معاً، أي اللذة والألم، وأبقينا على حبّ الذات فإننا نقع في الرياء والتملق والنفاق…
1- لا يتحقق الشفاء من الأهواء بقتال الأهواء مباشرةً، بل على العكس، طالما أنّ مشكلة المرض الروحي تولد بسبب الحرمان من اللذة، وبالعلاقة مع حبّ الذات، فكلما سبّبنا حرماناً أكبر، تولدت أهواءٌ أكثر. ماذا يعني هذا؟ ألكي نُشفى من الأهواء يجب أن نسمح لها أن توجد وتعمل؟ بالطبع لا، إنما يعني أنه كلما دام حبّ الذات، يصبح استئصال أهواءٍ محددة ليس فقط مستحيلاً بل حتى وإن تحقق فإنه يكون خطيراً، لأنه مع الحرمان من اللذة تولد أهواءٌ أخرى. هكذا يحدث دوماً مع الذين يتحررون من أهواءٍ جسدية، فإنهم يعززون هوى حبّ المال أو الكبرياء… لا يمكن الشفاء إذاً عندما تُمحى أهواء محددة. الشفاء الوحيد يكمن في محو حبّ الذات الذي هو أصل كلّ الأهواء.
2- لأنّ الألم يعدّ جزءاً لا يتجزأ من اللذة في حالة الإنسان الساقطة، فهو يعطي تصوّراً خاطئاً حول المرض وهو ما أسميناه مقاربة نفعية مؤلمة، الأمر الذي يبدو سائداً في فلسفة الطب المعاصرة. لا يُمحى الألم بحذفه إنما بقبوله. يتمّ الشفاء باستدعاء الألم وباختباره. قد يحدث مراتٍ عديدة أن يكون الألم غير محمول وخبرته مهلكة. لذلك كلّ تربية علاجية يجب أن تتلاءم مع قدرة المريض (= تدبير). لكن لا يجوز أن نظن أنّ المريض قد نال الشفاء لمجرد أنه مرتاح نفسياً أو لكونه لا يعاني. تكمن تراجيدية الوجود في صليب المسيح نفسه، ولا يمكن لأي علاجٍ آخر أن يقابل الصليب. كثيراً ما ننسى أنّ اللذة ليست جسدية فقط، إنما نفسية أيضاً. وعندما نفصل الألم عن العلاج نسبب اللذة، الأمر الذي يشكّل ابتعاداً عن العلاج الحقيقي.
3- العلاج الصحيح من الأهواء يشترط، حسب القديس مكسيموس، التمييز بين ثلاثة أمورٍ أساسية، يصفها في المقطع التالي من كتاب مئويات في المحبة: “الذهن المحبّ لله، لا يجاهد ضد صور الأشياء، بل ضد الأهواء المتعلقة بهذه الصور. فهو لا يجاهد ضد المرأة، ولا ضد من يحزنه، ولا ضد الخيالات، بل ضد الأهواء المرتبطة بهذه الأمور. غاية جهاد الراهب ضد الشياطين هي فصل الأهواء عن معانيها، إذ بدون هذا الفصل، تستحيل الرؤية الصافية الخالية من الشهوة والهوى. الموضوع ومعناه أمران مختلفان. أما الهوى فأمرٌ مختلف. على سبيل المثال، الموضوع هو رجل، امرأة، ذهب وما إلى ذلك. أما المعنى فهو الفكر البسيط المتعلق بكل ما ذُكر. إلا أن الهوى هو المحبة غير العاقلة والمقت الحيواني لأي من المذكورات. وهكذا فإن حرب الراهب ليست ضد المواضيع بل ضد الهوى المرتبط بها” (المئوية الثالثة 40-42).
إنّ التمييز بين هذه الأمور التي يذكرها القديس مكسيموس أمرٌ هام إلى حدّ بعيد فيما يخصّ موضوع العلاج. أولاً، يعني أنّ محاربة الأهواء تعدّ طريقةً خاطئة لأنها تسبب تجارب وصعوبات. أن يقول هذا الكلام راهبٌ مثل القديس مكسيموس الذي هجر “الأشياء”، لهو أمرٌ يكشف لنا أنّ الهروب من الأشياء ليس هو الحلّ، ولا البقاء مع الأشياء، كما يحدث مع كلّ الذين يعيشون في العالم، هو الذي يسبب للمرض. فعلى سبيل المثال، أن نقترح الطلاق لشخصٍ يعاني نفسياً من حضور شريكته، لا يُعتبر علاجاً له. قد يرفع الطلاقُ الألمَ عن هذا الشخص إلى وقتٍ ما، لكنّ المشكلة تبقى قائمة. هكذا يجب أن يُعتبر الاعتقاد السائد أنّ الراهب يترك العالم لكي يُشفى من الأهواء متجنباً التجارب، اعتقاداً خاطئاً. ويؤكد التقليد النسكي بأكمله أنّ التجارب تصبح أكثر قوةً عندما يبتعد أحدٌ عن “الأشياء” التي تثيره، ذلك لأنّ “معاني” الأشياء التي تزعج الإنسان تبقى.
الأمر نفسه يحدث مع “معاني” الأشياء. إنّ تذكر وتصوّر الكائنات ليس مرفوضاً بحد ذاته. وعلى عكس ما يكتب القديس مكسيموس، نجد العديد يحاربون الفنّ والثقافة وأيّ شيءٍ آخر يُحضر عملاً للذهن البشري، وذلك لكي يتحرروا من الأهواء، كما في روحانية أورجانيس وإفاغريوس، التي كان القديس مكسيموس يحاربها بالتأكيد، لأنّ مثل هذه الأفكار كانت سائدة في عصره – وأخشى أن تكون حتى الآن – سائدة بين الرهبان. يؤكد مكسيموس أنّ محاربة الأهواء لا تتمّ ضد الأشياء ولا ضد معانيها، إنما ضد الأهواء “المرتبطة” بها. التمييز بين هذه الأمور يفرض علاجاً صحيحاً، عدا ذلك نحصل على مسوخٍ روحية وأشخاصٍ مرضى نفسياً يحتاجون إلى العلاج أكثر من أيّ شيءٍ آخر.
4- لكن كيف يمكن فصل الهوى عن الأشياء والمعاني. يجيب مكسيموس على هذا السؤال بأنّ الصورة الشهوانية هي الفكر المؤلَّف من الصورة والهوى معاً. فإذا فصلنا الهوى عن الصورة يبقى لنا الفكر البسيط. وهذا الفصل ممكنٌ بفعل المحبة الروحية والإمساك (أي ضبط النفس) وبالإرادة الحرة. تحتاج هذه العناصر إلى شرحٍ أكثر إسهاباً.
المحبة كحرية والحرية كمحبة:
رغم أنّ مفهوم المحبة وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم الحرية يُعتبران مفاتيح للعلاج القويم، فإنهما يخضعان للباثولوجيا الخاصة بهما. هكذا يمكن أن تحمل المحبة في جوهرها شكلاً من أشكال النرجسية، أي محبة الذات. تعتبر النرجسية مرضاً، لكنّ أشكالها عديدة ويصعب التمييز بينها لدرجة لا يمكن مواجهتها من جذورها. في الحقيقة، فإنّ كلّ محبةٍ شهوانية تحوي عناصر نرجسية، هذا ما أسميناه في لغة القديس مكسيموس بـ “حبّ الذات”. يعود “هوى” المحبة الشهوانية إلى طلب الخصوصية الكائنة فيها، بحيث أنّ الوجود برمته يقوم على شخصين، كما لو أنه لا وجود لكائناتٍ أخرى حولهما. الشهوانية في العمق هي شكلٌ من أشكال محبة الذات التي قد تقود إلى حالاتٍ مرضية عديدة (الاتكالية، القلق…).
الأمر نفسه نجده في الحرية. الحرية كانعتاقٍ من الآخر قد تعني أكثر أشكال حبّ الذات شراسةً، واستقلالاً مرَضياً عن الآخرين، وقد تقود إلى القنوط أو إلى الانتحار، وذلك عندما يؤكَّد أنّ الآخرين مهمون لنا لكن غير مرغوبٍ بهم. هنا تظهر المشكلة؛ بأيّ طريقةٍ يمكن لكلّ من المحبة والحرية ليس فقط أن يعتقانا من الأهواء، لكن أيضاً أن يطهرانا من الأمراض المتعلقة بهما. في هذه النقطة يمكن للاهوت أن يقدّم التالي:
1- تجاوز الخصوصية في المحبة. “إذا مقتَّ البعض، ولم تحبّ البعض الآخر ولم تمقتهم، وإذا أحببت البعض باعتدال، والبعض الآخر بتفريط، فاعلم أنك، من عدم المساواة هذه، بعيدٌ عن المحبة الكاملة التي تطالبك بمحبة الجميع على حدّ سواء” (المئوية الثانية، 10). الخصوصية تنفي المحبة لأنها تخفي نوعاً من حبّ الذات. نحبّ ذوينا وأولادنا وأقرباءنا أكثر من الآخرين لأننا ننتظر منهم تعويضاً ما أو لوجود حاجةٍ نفسيةٍ أو بيولوجية تربطنا بهم. محبة ذوينا تخفي هوى حبّ الذات.
2- محبة الأعداء. لا يوجد أيّ نوعٍ من أنواع المحبة أكثر حريةً من هذه المحبة، ولا أيّ شكلٍ من أشكال الحرية فيه محبة أكثر من محبة الأعداء. “إذا أحببتم أعداءكم فأيّ فضلٍ لكم…” (لو 6: 32). المحبة التي تترقب مقابلاً هي محبةٌ “خاطئة” ومَرَضية. أما المحبة التي لا تنتظر مقابلاً أو تلك التي تتوجه إلى كلّ الذين يؤذوننا، هي بالحقيقة نعمة أي “حرية”. محبة الله “بالمسيح” ومحبة أعداء الله ومحبة الخطاة هي وحدها المحبة الوحيدة الحرة.
نحصل على الشفاء إذاً فقط عندما تترافق المحبة مع الحرية. محبة دون حرية وحرية دون محبة هي حالات مرَضية تحتاج إلى علاج.
لكن من الناحية العملية، كيف يمكن أن يترافقا كلاهما معاً؟ من السهل أن يتظاهر أحدنا بما يجب أن يكون عليه، لكن ماذا يقول اللاهوت حول كيفية صيرورتنا ما يجب عليه أن يكون؟
الكنيسة كمشفى
نأتي الآن إلى النقطة الأهم في حديثنا. بأي طريقة يمكن للكنيسة أن تعالج الإنسان عملياً؟
في البداية وقبل كلّ شيء يجب أن نوضح سوء فهم يسود على نطاقٍ واسع. الكنيسة لا تعالج بما لديها فقط بقدر ما تعالج بما هي عليه. هذه النقطة شديدة الأهمية. كلنا نبحث في الكنيسة عن وسائل خلاصنا، لكن الخلاص يكمن في حدث الكنيسة بذاتها وفي الاتحاد بها. الفرق شاسعٌ وله معنىً عمليّ فيما يخصّ موضوع العلاج.
يوجد في الكنيسة آباءٌ روحيون وهناك سرّ الاعتراف، ولو أنه يفضَّل التعبير عنه بدقةٍ أكبر بسرّ التوبة، ولهذا السرّ أهمية كبيرة فيما يتعلق بموضوع العلاج. نطالب بأبٍ روحيّ كامل، بطريقةٍ كاملة ومثالية للاعتراف… وننسى أنّ الأب الروحي لا يشفي؛ قد يكون متعَباً ساعة الاعتراف أو قد لا يملك المعارف الملائمة، وهذه أمورٌ معتادة. لا يتمّ العلاج لحظة الاعتراف، لأنّ السر، ببساطة، يهدف إلى وحدة الإنسان مع جماعة الكنيسة، وهناك فقط، رويداً رويداً وعلى المدى الطويل سيتمّ العلاج. كيف سيحدث هذا؟
الكنيسة مشفى، لأنها تقدم الإمكانية للإنسان لكي ينتقل من حالة الفرد إلى حالة الشخص. لكن ما الفرق بينهما؟ وكيف يحدث هذا في الكنيسة؟
يحمل الفرد معنى رقمياً، يتأتى من عزلته عن الأفراد الآخرين. للفرد في العمق مفهوماً سلبياً. عندما يوجد الإنسان ويسلك كفرد، فإنه يعبّر عن ذاته نفسياً وينشقّ عن الآخرين. هنا تكمن حالةٌ مَرَضية، تضمّ مجموعة من الظواهر المرَضية، بل ربما مصدر كلّ الأمراض الذي يدعوه القديس مكسيموس “حبّ الذات”. لا يشكل الفرد مشكلةً ذات طبيعةٍ أخلاقية أو نفسية فقط، إنما له أبعادٌ وجودية، فهو يرتبط بالموت الذي يعزّز (الفرد) ويبطله في آنٍ معاً. الموت هو الذي يستثني الفردية بفصلها تماماً عن الآخرين (كلّ واحد يموت بمفرده)، لكي يحلّها ويفككها فيما بعد إلى الفناء. الفردية حاملة للأمراض، لأنها تخفي في العمق الخوف من الموت. الأمر نفسه يطبّق على الجسد. وإذ يربط القديس مكسيموس حبّ الذات مع الجسد، فهذا لا يعني أنّ الجسد سيئٌ، إنما لأنه يمثل حصناً للفردية، هناك حيث يعشعش احتمال انفصالنا عن الآخرين وحيث يسود الموت. الفردية هي المرحلة المرَضية الأولى التي يمرّ بها الإنسان عندما يكون محتاجاً للشفاء.
المرحلة الثانية هي الجماعة. لكي يشفى الإنسان من الفردية، يجب أن يَعبُرَ في علاقته مع الآخرين- بأيّ شكلٍ ولو كان سلبياً: أن يغضب ويضرب وحتى يقتل. ما يسمى عادة بالـ “ترويح عن النفس” هو عبارة عن شكلٍ من أشكال تجاوز الفردية وطريقة للعلاج حسب الطب النفسي. لا نتكلم هنا عن مفهوم الشخص إنما عن شكلٍ للعلاقة والجماعة، يظهر كعلاج دون أن يكون علاجاً.
المستوى الذي ترغب الكنيسة أن تنقل الإنسان إليه يكمن أبعد من هذا، في حالة الشخص.
ما هو الشخص؟
تستعير الكنيسة مفهوم الشخص من إيمانها بالإله المثلث الأقانيم مروراً بالخريستولوجيا وعقيدة الروح القدس. مفهوم الشخص لدى الثالوث القدوس يحمل معنىً إيجابياً، والعلاقة إيجابية وليست سلبية. الأشخاص الثلاثة في الثالوث القدوس يتميز واحدها عن الآخر، ليس بسبب عزلتهم بعضهم عن بعض، بل على العكس، لأنهم متحدون مع بعض دون انفصال. وكلما كانت هذه الوحدة أكثر قوةً، ينتج عن ذلك تمايزاً أكثر، الأمر الذي يضمن شموليةً وثباتاً وجودياً وغياباً للموت وحياةً حقيقية. لا يغدو الآخر عدواً بعد، بل تأكيداً لهويتي الخاصة وفرادتي: الـ أنت تجعلني أكون أنا، وبدون الـ أنت لا وجود للـ أنا ولا حتى يمكن تصور هذا الوجود.
أمرٌ آخر، أنه في الثالوث القدوس لا يُفهم التمايز والفرادة بطريقةٍ نفسية بل وجودية. الخصائص التي تميّز الأقانيم الثلاثة فيما بينها هي وجودية فقط: كلّ واحدٍ هو ما هو لا أكثر. لا يميَّز الشخص (الأقنوم) من خلال خاصياته، بل من التأكيد البسيط على هويته ككائنٍ فريد لا بديل له. الشخص ليس شخصانية، أي محصلة خاصيات (طول، حسن أو هيئة، فضيلة أو رذيلة، ذكاء أو غباء… الشخص حرّ من الخصائص ولا يُميَّز بها).
يَعبر مفهوم الشخص إلى الكنيسة من خلال محبة وحرية الله تجاه العالم، كما عبّر عنها “بالمسيح” بمحبة الأعداء والخطاة. الكنيسة هي المكان الذي لا يُحكم فيه على الإنسان حسب خاصياته – هذا يعني الغفران الذي يناله عند المعمودية وعند التوبة – لكن حسب ما هو. إنّ الغفران وقبول الإنسان كشخص وكهوية فريدة لا مثيل لها داخل جماعة الكنيسة، يشكل جوهر العلاج الكنسي. تعالج الكنيسة ليس بما تقول، بل بما هي: جماعة محبة، محبة ليست مجرد مشاعر نطلبها من داخل الفرد ومن رغبته، بل هي علاقة، وهذا يتطلب وجوداً مشتركاً وقبولاً في جماعةٍ محددة، جماعة محبة دون خصوصية أو حدود. تشفي الكنيسة لمجرد كونها جماعة كهذه، ينخرط فيها الإنسان فيعتاد على أن يحِبّ وأن يحَبّ بحرية، حسب قول القديس مكسيموس: “المحبة الكاملة لا تشطر الطبيعة الإنسانية الواحدة… المحبة تنظر على الدوام إلى الطبيعة الإنسانية التي خلقها الله، فتحبّ كلّ واحد على حد سواء… لهذا فإنّ ربنا يسوع المسيح أظهر لنا جميعاً محبته فتألم من أجلنا” (المئوية الأولى، 71).
لكنّ السؤال العملي والصعب هو هل الكنيسة جماعة محبة وهل هي مكانٌ يَعبُر فيه الإنسان من “حبّ الذات” إلى “حبّ الآخر” ومن المرض إلى الشفاء؟
إلى الدرجة التي عليها يكون الجواب إيجابياً، يتمّ الكلام حول الكنيسة كمشفى. خلاف ذلك تصبح متجراً لبيع الأدوية وتزويد الأشخاص المغرورين بالمسكّنات، دون أن تغيّرهم من أفرادٍ إلى أشخاص، لأنّ الأشخاص يشترط فيهم العلاقة والعلاقة تشترط جماعة، وإلا يبقون أفراداً منفصلين “بشعورٍ كاذبٍ بالقداسة”.
خسرت الكنيسة الأرثوذكسية مفهوم الجماعة إلى حدٍّ كبير، وإذا كانت تتحدث اليوم عن العلاج، فهي تقصد على الأغلب أنها متجر. لكنها لا تزال سفينةً للخلاص، لأنها تصون بحقّ، ليس إيمانها بالإله المثلث الأقانيم وبمسيح المحبة الجامعة وبالصليب وبالقيامة فقط، لكن لأنها أيضاً تبقى الجماعة الشكرية الأصيلة التي تقدم لها تلك العلاقات الودّية القادرة على علاج الإنسان، محولةً إياه من فردٍ إلى شخص. يجب أن نحافظ على أصالة هذا الإيمان وهذا الاجتماع وهذه الجماعة، إذا كنا نريد أن نعتبر الكنيسة كمشفى.
بعد كلّ ما سبق وذكرت أشعر بضرورة الإشارة إلى التالي:
العلاج بالنسبة للكنيسة واللاهوت ليس قضية نفسية أو أخلاقية بل وجودية. ليس هدف العلاج أن يرتاح الإنسان من نتائج الألم، بل أن يعيد ولادته من جديد، محوّلاً إياه من حيّزٍ يسود فيه “حبّ الذات” هناك حيث تولد الأهواء، إلى حيّز “حبّ الآخر”، حيث يكمن العلاج الحقيقي بواسطة المحبة. والعبور من حيّزٍ إلى آخر مؤلم، لأنه يتطلب صليباً أو حسب قول القديس مكسيموس، عيش الألم الذي يترافق مع اللذة. إنه عبورٌ يجب أن يسيَّر بانتباهٍ ورحمة، “لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحريّ يُشفى” (عب 12: 13).
ضمن هذه المحاولة، لا تضع الكنيسة واللاهوت تقنيةً أو تخصصاً بقدر ما تضع إيمانها بالله، الذي منه ينبع الإيمان بالإنسان كشخص، كصورةِ ومثالِ الله، ومحبة المسيح التي لا حدود لها والكنيسة كجماعة شكرية تحقق هذه المحبة كوجود حقيقي وعلاقة.
الجهاد ضد الأهواء والتحرر منها ليس هدف الكنيسة بحدّ ذاته، بل يهدفان إلى أن يتخلص منها الشخص، وأن يتمّ لـمّ شمل الطبيعة المتجزئة، وأن يعثر الإنسان من جديد على علاقته الصحيحة مع الله ومع الآخرين ومع الطبيعة المادية. الصحة بالنسبة لنا هي العلاقة الصحيحة للإنسان مع هذه العناصر الثلاثة: الله والآخرين والطبيعة، والتي تعبّر عن معنى الكيان البشري. المرض هو اضطرابٌ في هذه العلاقة الثلاثية الأبعاد. ربما هذا ما يميّز اللاهوت عن الطب النفسي، وربما لا. لكن الأمر المؤكد أنّ الكنيسة وكذلك علم الطب يجب أن يتفقا في هذه الحقيقة الأساسية، إن كان هناك احتمال تطوير حوار بينهما.

رد مع اقتباس