الفصل الرابع
السقوط ومشكلة الألـم
لماذا يولد بعض الأطفال مشوَّهين..؟! وكيف نفسر آلام من يعاني نتائج شرور لم يقترفها؟! مثل أم فقدت ابنها في حادث سيارة يقودها مدمن! أو مريض يعاني كل أيام حياته! أو مؤمن يُهان ويُضرب ويُجرح..! وهناك أسر تحوّلت بيوتها إلى مستشفى كبير للأمراض النفسية والعصبية!! ألسنا نقول: إنَّ الله محبة ورحيم وعادل.. فلماذا لا يتدخل ليمنع المآسي، ويُجفف دموع البشر، ويعاقب الأشرار على شرورهم؟!
على هذه الأسئلة وغيرها يكاد أن يكون الجواب مستحيلاً، إذا فكّرنا أنَّ العالم بصورته الحالية هو من صنع الله وحده ولا علاقة للإنسان به، وأنَّ كل ما يحدث فيه هو من مشيئة الله وبحسب إرادته!
أمَّا القول بأنَّ الله قادر على إزالة الشر ولكنَّه لا يريد فهذا ضد رحمته! وأمَّا أنَّه يريد إزالته ولكنَّه غير قادر فهذا يعني محدوديته! وهكذا تتعقّد المشكلة.
العقل ومشكلة الألم
إنَّ أيّ إنسان لا يستطيع أن يُنكر كل ما في العالم من خير، فالنظام في الطبيعة، والفضيلة في الإنسان، والأُمومة في المرأة، والتضحية في سبيل الوطن، والسعى إلى العدل والخير.. كل هذا يبعث ثقتنا في الله ويُقوّى إيماننا به، لأنَّ القيم الإيجابية لا تأتي من قوى عمياء، بل هى تقتضي ذكاءً عادلاً وخيّراً...
ولكننا لا نرى في هذا العالم انتصار العدل على الظلم بصورة مُطلقة، فكثيراً ما يسود الشر ويتقهقر الخير، فنرى مقاومة الخُطاة للفضيلة، والأشرار يَقتلون بغير عقاب، والأبرياء يُضطهدون بلا سبب..!! وهذا لا يجعلني أنسب ما يحدث إلى الله، لأنَّ العقل يُقرر أنَّ أصل الخير لا يمكن أن يكون هو أصل الشر.
وهل نُنكر أنَّ الشمس ليست هى سبب الظلمة؟! فالشمس مصدر النور، ولكن إذا غاب النور خيَّمت الظلمة على الأرض، ولا ينشأ المرض من قوى حيّة سليمة، ولا يعود سبب جهل التلميذ إلى الأستاذ القدير، كما لا يعود أصل البرد إلى النار.. ففي هذه الأمثلة يتدخّل عنصر خارجيّ: الشخص الذي يبتعد عن النور، العامل المرضيّ، التلميذ الذي لا يُصغي إلى المعلم، الشخص الذي لا يوقد النار أو لا يدنو منها.
نستطيع أن نُشبّه الألم بقطعة نقود مكسورة، ولا يوجد سوى نصفها فقط، فيرى البعض في ذلك دليلاً على أنَّ نصفها الثاني موجود، ويرى البعض الآخر في هذا دليلاً على أنَّ مؤسسة صك النقود لا وجود لها!!
والحق إنَّ كل من يتّهم الله بما يحدث في العالم من تشوهات.. يتناسى أنَّ البشر هم الذين خرّبوا العالم الذي خلقه الله حسناً من أجلهم! ولو أنَّ الناس مجرد أشخاص آليين تُحرّكهم مجموعة من الغرائز، لكان كل ما يحدث في العالم يُنسب إلى الله، ولكنَّ الإنسان خُلق على صورة الله، فهو إُذاً كائن حر ويملك إرادة حرّة، يستطيع أن يُغيّر بها نفسه والعالم من حوله.
إذاً، كل المصائب التي تحدث في الكون أو التي تُصيب البشر، تعود إلى الإنسان وليس الله، وها نحن نتساءل: من أين تأتي أمراض القلب والسكر..؟ من أين تأتي جرائم القتل وخطايا الشهوة والزنى..؟ لماذا لا نُسلّم بأنَّ الأخطاء البشرية، هى التي قلبت النظام الذي وضعه الله، ألم يقل سليمان الحكيم: " اللَّهَ صَنَعَ الإِنْسَانَ مُسْتَقِيماً أَمَّا هُمْ فَطَلَبُوا اخْتِرَاعَاتٍ كَثِيرَةً !" (جا29:7).
إنَّ الكمبيوتر الذي لا يعمل لا يكون دليلاً على عدم كفاءة الشركة المنتجة، فقد يكون أُسيء استعماله! ولهذا تُعطي الشركة كُتيب ضروريّ عن التعليمات الهامة والضرورية لحفظ الجهاز وكيفية استعماله.. وقد أعطانا الله وصايا مقدسة، لو عملنا بها ما فسدت صورتنا أو تشوّهت حياتنا.
هناك خطر يُربك العقول عندما نتحدّث عن مشكلة الشر بمعزل عن الإرادة، فالإنسان الحر يستطيع أن يقبل ويرفض ويناقش الله، والله الذي وهَبَه الحرية عليه أن يتقبّل منه الرفض والعصيان.
ولا يعني هذا أنَّ الله يرغب الشر! حاشا! إنَّما الله يحترم حرية الإنسان، حتى إن كان خاطئاً لا يعمل بوصاياه، أو مُلحداً يُنكر حقيقة وجوده، بمعنى أنَّه وهو يعترف بالحرية التي وهبها للإنسان، عليه أن يتركه يفعل ما يشاء، ويتحمّل وحده نتائج أعماله، لأنَّ " الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً " (غل7:6).
والعجيب في الإنسان أنَّه كثيراً ما يتحدّث عن حريته، وذلك قبل السير في أي طريق فيقول: " أنا حر "، ولكنَّه عندما يسقط وتتعثر خُطواته، يلقي بالمسئولية على الله! لماذا?! لأنَّه سمح بأن يسقط في المستنقع المُلوّث!!
عناية الله
ويتساءل البعض عن عناية الله للإنسان إزاء الألم فنجيب: بأنَّ ما في أعماقك من قدرات وسائل وهبها لك الله، تستطيع بها أن تُقاوم أشياء كثيرة مما تحدث في الكون، فالإنسان بقدراته حل مشاكل كثيرة مثل: الأوبئة، المجاعات، الكوارث.. لأنَّه مُميّز عن الحيوان في تلك النزعة التي تدفعه إلى البحث عن الأفضل، إلى الكمال، وهذه النزعة هى سر تطوّره.
كما أنَّ الله قد أعطى الإنسان الفكر، لكي يغير أُسلوبه ومنهجه في الحياة، ويُفكّر بموضوعية في كل ما يُصادفه من مواقف، وهل نُنكر أنَّ الله يُرسل لك يومياً رسائل شخصية، وأنت الذي تغيّر موجة الجهاز لكي لا تسمع؟! أليست الوصايا الإلهيّة رسائل من الله إن أطعتها عشت في راحة وسلام.. وإن خالفتها عشت في ألم وشقاء..؟ وماذا نقول عن دور الروح عندما نسمو بها؟ أعتقد أنَّ كثيرين ما أن تابوا وعبدوا الله بالروح والحق، فسرعان ما تغيّر سلوكهم وسادت الأُلفة بينهم وبين غيرهم.
إلاَّ أنَّ هناك تدخّلات كثيرة من قِِبل الله عن طريق الطبيعة نفسها، وهى ما نطلق عليها " معجزة "، وذلك لكي يُعلن مجده، ويعرف الإنسان حدوده، فيتقوى روحيّاً ويثبت في الإيمان والرجاء والمحبّة..
والحق إننا غالباً ما نرفض الألم ونُقابله بكلمة " لا "، وننسى أنَّ الألم وسيلة للنمو والارتقاء.. فالألم يحث الإنسان على الجهاد، ويدفعه إلى التقرّب من الله، ويُعلّمه التواضع.. ولولا الألم ما دخلنا مدرسة الصلاة.. ولهذا ينظر كثيرون إلى الألم على أنَّه وسيلة لارتقاء الجنس البشريّ، وهل نُنكر أنَّ ألم المعدة من طعام ما، هو تحذير للإنسان ليبتعد عن هذه الأطعمة؟ إنُّها آلام نافعة وما أكثر فوائدها.
حتى وإن كانت هناك آلام لا ذنب لنا بها، مثل الكراهية التي نتحمّلها لأننا أولاد الله، فهى أيضاً تُفيد الإنسان لو استخدمها كوسيلة تهذيب وعصا تأديب، والحكيم هو من لا يحكم على المحصول إلاَّ بعد الحصاد.
الله والألم
لماذا الألم؟! لقد طرحت أم هذا السؤال باكية!! ونحن لا نُنكر أنَّ التفكير في مشكلة الألم يُغرق البشر في الحيرة! ولكن أليس سر التجسّد الإلهيّ يغمرنا بالرجاء، لماذا؟ لأنَّه يُعلّمنا أنَّ الله قد نزل من السماء، لكي يساعد البشر ويرفع من شأنهم... جاء ليرفعهم إليه حتى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، ونحن نعرف كم احتمل المسيح من آلام حُبّاً بنا ورغبة في خلاصنا؟!
إنَّ مجرد نظرة صامتة لجسد قدوس لم يفعل خطية وهو مُعلّق على الصليب! لهى كافية أن تحل كل معضلات الألم، لأنَّ الصليب هو أعظم إعلان للمحبّة الإلهيّة، وينفي عن الله تهمة مسئوليته عن الألم.
قديماً كانت الشعوب تنظر إلى الألم على أنَّه عقاب إلهيّ! إلى أن جاء السيد المسيح وغيّر تلك المفاهيم الخاطئة، عندما وُلد في مذود حقير وتكبّد مشقة الجوع والعطش والتعب.. إلى أن مات مصلوباً، وأصبح الذين يعترضون على الله لأنَّه لم يُخلّص الأبرياء.. يعجبون به لأنَّه قد بذل ابنه الحبيب لأجل خلاص البشر! وبهذه التضحية قد كوّن علاقة روحية مع أولاده المؤمنين، تُثمر اتحاداً أبدياً يربطه بهم! ألسنا من خلال التناول نثبت في الله وهو يثبت فينا (يو56:6).
إنَّ يسوع المصلوب يمثل مأساة الإنسان البريء، الذي تنصب عليه الأحقاد والكراهية والعنف.. دون أي سبب " أبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ " (يو15:25)، فالصليب يكشف عن قسوة الإنسان، ويُظهر الظلم البشريّ بكلّ أبعاده، وفي دمّ يسوع البار الذي لم يفعل خطية تتجمّع كل دماء الأبرياء " مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا " (مت35:23).
ولكنّ المسيح احتمل الألم كعطاء للذات، ولم يرفض الحياة أو يتذمّر على الله، بل قدّم حياته بكل حرية لأبيه من أجل خلاص العالم: " لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً " (يوحنا18:10).
لذلك ففي آلام المسيح وموته ينفكّ الارتباط بين الألم وفهمه كعقاب، لأنَّ الذي قد تألّم ومات على عود الصليب هو إنسان بريء، وهذا هو قمة الحب: " أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ " (يو13:15).
كما أنَّ البذل يؤكد لنا أنَّ الكلمة الأخيرة لله، ليست هى الخطية بل الخلاص، ولهذا نجد كل كلمة يقولها الله في الإنجيل عن الخطية يقابلها كلمات عن الخلاص، لأنَّ الإنسان مهما ابتعد عن الله, إلاَّ أنَّه يمكن أن يعود إليه في أيّة لحظة، وحتى لو كان ميتاً في الخطايا يمكنه أن يخلُص، إذا قدَّم توبة صادقة من قلبه حتى ولو في آخر نسمات حياته، وهذه هى الأخبار السارة، التي تؤدي إلى الفرح العظيم في إنجيل يسوع المسيح.
ضرورة الجهاد ضد الألم
نعترف بأنَّ الله المحبّة لا يتلذذ بمشهد الألم، بل هو يريد سعادة الإنسان وخلاصه: " الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ " (1تي4:2)، وعلى المسيحيّ أن يعمل على تخفيف آلام البشر إن كان يريد أن ْيكون تلميذاً للمسيح، الذي انكب في حياته على تخفيف آلام الناس.
ولكنَّ الألم هو عنصر من عناصر الطبيعة لا مناص منه، يمكن لنا أن نتحمَّله بمحبَّة أو بحقد، وهذان موقفان متناقضان من الألم يظهران في حياة المؤمن وغير المؤمن، وكل إنسان حر لاتّخاذ أحد هذين الموقفين.
أمَّا أن يُفكر الإنسان في السعادة المُطلقة على هذه الأرض التي لُعنت وتلوثت بدماء القتلى والزناة والمجرمين.. وانتفاء الألم من حياة الإنسان الأرضيّة فهو حلم مستحيل التحقيق، فالإنسان كما قال القديس أُغسطينوس: " يولد وعلى رأسه تاج الألم لأنَّه مولود من آدم الذي يستحق العقاب ".
ولهذا فإنَّ الألم سوف يبقى يمزّق قلب الإنسان وجسده مهما بلغ التقدّم الحضاريّ! والوصايا الإلهية لا تمحو الألم من الوجود، بل هى تهدف إلى التقليل منه، لِما فيها من تعزيات إلهية تقوّي الروح وتسمو بها، فتجعل الإنسان يحتمل بشكر كل ما يأتي عليه من تجارب وما يُصيبه من آلام..
إذاً، عندما نتكلم عن منافع الألم ودوره، لا ندعو إلى الاستسلام والخنوع والقبول بالظلم والشر، بل ندعو إلى الاحتمال بشكر ومساعدة بعضنا البعض، فقد أوصانا المسيح بمحبّة البشر " مَا مِنْ حُبٍّ أَعْظَم مِنْ حُبِّ مَنْ يَبْذُلَ نَفْسَه في سَبِيل أَحِبّائِه " (يو13:15).