بل أصبح الحُب اتجاهـاً روحانياً يسمو بالغـريزة، وينظر للمخلوق البشريّ على أنَّه كائن سماويّ قد خُلق على صورة الله، ويتّجه نحو الآخر لا لكي يُدنّسه ويُشوه صورته، وإنَّما ليخدمه ويرعاه ويُسهم في تحقيق سعادته، ويشترك معه في تثبيت دعائم ملكوت الله على الأرض!
والحق إنَّ المحبة أصبحت من الفضائل السامية، بل أسمى فضائل المسيحية، ومهما حاولت أن أُفسر حُب المسيحيّ لعدوه فلن أجد سوى هذه العبارة: إنَّه حُب فريد لا تفسير له سوى أنَّه لا يُفسر! ولهذا كانت أعظم رسالة وجهها الله للبشر، تلك التي أوصى فيها بمحبة الأعداء: " أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (مت44:5).
إننا نحيا في عصر نرى الإنسان يذبح أخاه بسيف حاد علناً، وعلى مرأى من الجميع! كما أنَّه عقّد الحياة بما أدخله عليها من مظاهر الاصطناع والافتعال وشتّى أساليب التنافس والصراع، متفنناً في إيذاء غيره أو تحدّيه أو القضاء عليه! ولا علاج لكل هذا سوى الحُب، الذي يُسقط ذلك الحاجز السميك الذي يفصل بين البشر، ويُزيل من نفس الإنسان تلك الأنانية التي تعزله عن غيره، ويُشعره بأنَّ الهوة العميقة، التي كانت تفصل بينه وبين الآخرين قد زالت تماماً! ومعنى هذا: إنَّ الحُب هو الذي يُخرج الإنسان من قوقعته الذاتية، ليندمج في الآخرين، بـل يتّحد مع الإنسانية بأسرها!
والحق إنَّ أُناساً كثيرين بقوا قساة، غيورين.. لمجرد أنَّ قلوبهم لم تنبض بذلك الإحساس الجميل، أعنى الحُب، ولو سلّطنا على هؤلاء أشعة الحُب الطاهرة والمُطهّرة، لاستطعنا أن ننزع من قلوبهم تلك الكراهية السوداء، وأدركنا أنَّ وراء أسوار قلوبهم الغليظة، تكمُن نفوس ساطعة تستطيع أن تُرسل ما لا حصر له من الأضواء!
بالحُب وحده يستطيع كل إنسان أن يعرف، أنَّ كل وجه بشريّ هو " عيد من الأنوار!" فما أن يخرج الإنسان من عالم الشهوة المُظلم، فسرعان ما يتحوّل إلى شعلة متوهّجة من النور والنار، والنار إن كانت تحرق كل ما تُلامسه إلاَََّ أنَّها تُضيء ما هو حولها.
إنَّ الحُب هو نار تُطهّر معادن النفوس، وتُزيل الشوائب من داخل القلوب، وقد يكون أعجب ما في الحُب أنَّه تجربة مُركّزة، كما لو كان قطعة سكر لذيذة! يستطيع الإنسان أن يُذيبها في حياته المائعة، فيشرب كل يوم شيئاً من مائها الحلو، فتهدأ حواسه، وتتعزى نفسه، فما من إنسان إلاََََّ واختبر طعم مرارة الحياة التي تجرح حلق البشر، وما الحُب إلاَََّ تلك العذوبة التي - على الأقل - تُقلل من حِدة مرارة الحياة إن لم تُزلها!