وقد يكون من بواعث نجاح تلك الدراسة وأبحاثها أن يتفرغ كل فريق من الباحثين والكتاب إلى فرع خاص منها فمنهم من يتولى اتمام دراسة تاريخ زعماء الرهبنة باستفاضة ، وعلى سبيل المثال : كالأنبا بولا ، والقديس أنطونيوس ، والأنبا شنودة رئيس المتوحدين ، والقديس باخوميوس ، والقديس مكاريوس الكبير ، ..... الخ ، على أن تصدر هذه الأبحاث فى سلسلة.كتب ومراجع مترابطة يسهل على أبناء الكنيسة دراستها بسهولة ويسر .
+ + +

تمهيــــــد :
من هو الراهب المسيحى ؟
هو انسان يثقل قلبه بمحبة المسيح ..
فيغوص فى أعماقه الجوانية ، ويكتشف داخله عريسه وعرسه ويجد لقاءه مع محبوبه مستحيل وسط الناس وصخب المسئوليات المتلاحقة
فيختار البعد عن الكل ليرتبط بضابط الكل .
لذا يختار السكنى فى الهدوء .. فى الجبال والصحارى والمغاير ،
من هنا نجده فى الموضع الجديد ،
يعطى أسم جديد ،
وثياب جديدة ،
فى بكر يوم جديد ، وبعد رقوده أمام باب هيكل الله يقوم آخذا بركة وأذن الجماعة التى يسكن بينها ... ليجد نفسه فى مواجهة باب الهيكل .... فمع أنه محب للاله إلا أنه يرتعد ويرهب الوقوف قدامه ... فيخرج بعد تناول القربان فى الصباح يحمل رهبة لله كل أيام حياته .
لذا يسمونه راهب لأنه يرهب الله : فى نومه ويقظته ، فى مشيه ورقوده ، فى صمته وحديثه ، فى خموله ونشاطه ، فى أكله وصومه ، فى ضعفه وفى نصرته
وما هى الرهبنـــة فى المسيحية
هى ليست رتبة فوق الأيمان المسيحى ...
إنما هى تطبيق للأيمان المسيحى ، وسلوك نحو الملكوت الأبدى ، وهى بذلك عشرة مع يسوع ، فتصبح ملامحها خاشعة لسمات العشرة الصادقة ليسوع .
الراهب يعيش الأعتزال ، وينكر الأنعزال ، ويقدس الجمال
فالرهبنة فى الراهب محب المسيح تضيف إلى روحه المجاهدة جمال
وتعطى لجسده الممات جمال
وتكسو مسكنه البسيط بالجمال ...

القديس انطونيوس
مقدمة
من واجبنا أن نتساءل عن الثمار التى جناها الفكر الإنسانى من حياة الصحراء ، وهذه الثمار تبدو لأول وهلة قليلة إذا قيست بالعدد غير المحصى من الذين عاشوا فى البرارى القاحلة ، ومما يزيد فى ندرتها الظاهرية أن فطاحل المسيحية أمثال أثناسيوس الرسولى وباسيليوس وذهبى الفم لم يقضوا بها إلا فترة من الزمن ثم تركوا سكينتها وعاشوا فى صخب هذا العالم .
غير أن من يدقق النظر فى حياة النساك يجد أن الثمار التى جنتها الأنسانية من حياة الصحراء لا تقع تحت حصر . لأن أولئك النساك وإن لم يقدموا لنا كتبا مستفيضة تضارع ما كتبه فلاسفة المسيحية إلا أنهم قدموا لنا حياتهم مثلا حيا لإيمان راسخ وعقيدة ثابتة ويكفى للتدليل على صحة هذه الحقيقة التاريخية أن أحد هؤلاء النساك كان يملك نسخة واحدة من الكتاب المقدس ؛ فباعها ليوزع ثمنها على الفقراء ، ولما سئل عما فعل قال : " لقد نفذت الأمر الإلهى القائل ( بع كل ما لك وأعطه للفقراء ) " ... ولو أن العالم سار على منوالهم وأبدل القول بالعمل لتحول بين عشية أو ضحاها إلى جنة النعيم من جديد ، وهذه الحقيقة دليل ساطع على أن الذين اعتزلوا العالم وسكنوا الصحارى قد بلغ السلام أعماق نفوسهم فتذوقوا متعة الخلوة مع الله – وبالتالى كانت حياتهم المثل الفعلى لهذا السلام الذى ينبع من الداخل .
وهذه الصفة هى التى حببت الجماهير فيهم فتقاطروا عليهم ، ولم تلبث الصحارى أن تحولت إلى جنات من الخير والبركات تقدست بأنفاس لباس الصليب ،
وهكذا وجد الأنبا أنطونى أبو الرهبان نفسه محاطا بجمع غفير قطع عليه الخلوة التى كان ينشدها .
وأن البار الأنبا بولا – مع أنه يعد أول النساك – إلا أن الذى أنار السبيل أمام البشرية لحياة النسك فى عزلة الصحراء هو العظيم الأنبا أنطونى .
تمتاز كنيستنا القبطية الأرثوذكسية عن بقية كنائس العالم بالآتى :
(1)الفلاسفة العالميين الذين عملوا على دفع كل فرية توجه صوب عبادتهم المقدسة دفعا علميا قويا لا يوجد معه أى ثغرة للخصم يستند عليها .
(2)شهدائها الأبطال : الذين استعذبوا الموت حبا فى فاديهم ومخلصهم رب المجد يسوع ، عالمين أن : " الآم الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا " رو 8 : 18
(3)نشأة " الدعوة الرهبانية " فيها ، فما أن بزغ فجر القرن الرابع الميلادى حتى لمع فى سماء البرية ذلك الكوكب الوضاء : " الأنبا أنطونيوس " الذى اعتزل العالم مؤثرا الوحدة والأنفراد عاكفا على تقديم العبادة خالصة لله ، مجاهدا ضد العالم والجسد والشيطان ، وبقدر تجاربه وآلامه خرج منتصرا وظافرا !
لقد رأينا حياة النصرة الحقيقية من خلال جهاده الروحى .. رأينا أساليب محاربة العدو وحيله ..
لهذا نجد أن كل الكنائس شرقا وغربا تتخذ من القديس أنطونيوس أبا ومعلما ومرشدا .. يقول القديس أثناسيوس : " إننى أعد مجرد التذكر بأنطنيوس من جليل المنافع لنفسى ! . والوقوف على صفات أنطونيوس لمن اكمل السبل التى ترشد إلى الفضيلة " .
كم كان تأثير حياة القديس أنطونيوس عظيما فى النفوس ! لقد وصل القليل منها لمسامع القديس أغسطينوس فكان كافيا لأنتشاله من سقطته وانتقاله من حياة الشر إلى حظيرة المسيح القدوس !
قال القديس ايرونيموس : " انه لما ذهب أثناسيوس الرسول إلى رومية أخذ معه موجز سيرة القديس أنطونيوس الذى كان قد ألفه ، وأن أناسا كثيرين بعد أن قرأوا الخبر هجروا العالم وترهبنوا " .

حيـــــــاة كـــوكب البريـــــــــة
النشأة الصالحـــــة :
ولد الأنبا أنطونيوس حوالى عام 251 م ، فى بلدة تسمى قمن العروس ( إحدى قرى بنى سويف ) .. من أبوين تقيين مسيحيين فى عهد داريوس الملك ، وقد اعتنيا والداه كل الأعتناء بتربيته وتهذيبه ، حسبما تقتضى الوصايا الألهية واضعين نصب أعينهما قول الحكيم : " رب الولد فى طريقه فمتى شاخ أيضا لا يحيد عنه ، أبو الصديق يبتهج ابتهاجا ومن ولد حكيما يسر به " ( أم 23 : 24 ) .
حقا ، ما أحلى التربية وقت الصغر ، وما أعظم التهذيب فى الحداثة ، إن البيت هو المدرسة الأولى التى يتلقن فيها الطفل ما يكفى لصقل شخصيته واظهارها إما فى صورة ملك جليل ، أو فى هيئة شيطان رذيل !! ..
ما الطفل .. إلا وديعة طاهرة نتسلمها من الرب فإذا بواجبات تفرض على أبويه إزائه .. هو عجينة لينة تصاغ كيفما نريد .. منها نصنع تمثالا عجيبا جميلا .. ومنها نصنع شكلا مخيفا قبيحا .. ، فاذا فلتت الفرصة من والديه فعليهم أن يقدموا حساب وكالتهم .. ! .
من أمثلة العهد القديم أم موسى النبى ، التى سقت أبنها فى سنى حياته الأولى لبن الأيمان مع لبن ثدييها ، وهذبته حسب مخافة اللــــه ، ومع أنه لم يبق مع أمه سوى سنى الطفولة الا أن أربعين سنة كاملة سلخها فى قصر فرعون لم تكن لتغير من خلقه أو تحولـه ولو قيد أنملة عما تشبع به وقت الصغر !! .. وليس أدل على ذلك من أنه لما كبر " أبى أن يدعى أبن أبنة فرعون مفضلا بالحرى أن يذل مع شعب الله من أن يكون له تمتع وقتى بالخطية " ... وما الخطية هذه فى نظر موسى النبى ؛ هى شعوره بتميزه فى معيشته عن بقية أخوته العبرانيين ... الذين نظر إليهم فى أثقالهم وذلهم على يد المصريين .. ثم نراه يدافع عن العبرانى الذى من جنسه ويقتل المصرى ويطمره فى التراب .
عرف بولس الرسول قيمة التربية والتهذيب فى الصغر فقال يمتدح تلميذه تيموثاوس : " إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالأيمان الذى فى المسيح يسوع " ( 2 تى 3 : 15 ) .
وكم يدرك الآباء والأمهات عاقبة الأهمال وسوء التربية فى وقت الصغر عندما يعرضون لحياة عالى الكاهن الذى قضى لأسرائيل أربعين سنة ( 1 صم 4 : 18 ) .. لقد أهمل تربية ولديه حفنى وفنحاس اللذين سارا على حسب أهوائهما وعبثا ببيت الله ، واذ أراد عالى ردعهما فى وقت الكبر لم يستطع الى ذلك سبيلا وعندئذ جاءه رجل الله وقال له : " هكذا يقول الرب لما تدوسون ذبيحتى وتقدمتى التى أمرت بها فى المسكن وتكرم بنيك على لكى تسمنوا أنفسكم بأوائل كل تقدمات إسرائيل شعبى ، لذلك يقول الرب إله إسرائيل إنى قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامى إلى الأبد والآن يقول الرب حاشا لى ، فإنى اكرم الذين يكرموننى والذين يحتقروننى يصغرون هوذا تأتى أيام اقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ فى بيتك وترى ضيق المسكن فى كل ما يحسن به الى اسرائيل ......... وهذه لك علامة تأتى على ابنيك حفنى وفنحاس فى يوم واحد يموتان كلاهما وأقيم لنفسى كاهنا أمينا يعمل حسب ما بقلبى ونفسى وابنى له بيتا أمينا فيسير أمام مسيحى كل الأيام ويكون ان كل من يبقى فى بيتك يأتى ليسجد له لأجل قطعة فضة ورغيف خبز ! . " ( 1 صم 2 : 27 – 36 ) .
++ كبر أنطونيوس قليلا وما كاد يتم دور الطفولة حتى كان قد تعود على الذهاب الى بيت الله للصلاة فى كل أوقات العبادة ، دخل الكنيسة فطبعت محبتها فى قلبه وقال حقا : " ان الوقوف على عتبة بيتك خير من الجلوس فى خيام الأشرار " ( مز 84 : 10 ) . سمع كلام الحياة فقال ما أحلاه .. نظر إلى الصبية أترابه ورأى طريقهم المعوج فابتعد عنهم مؤثرا العزلة عالما أن : " المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة " ( 1 كو 15 : 33 ) .
وقد وهبه الله حكمة وفهما عظيمين حتى أنه كان يحفظ كلام الله بمجرد سماعه ! .
يقول عنه القديس أوغسطينوس : " إن انطونيوس الراهب المصرى الذى كان رجلا قديسا قد تعلم عن ظهر القلب كل الكتب المقدسة لمجرد سماعه الآخرين يقرأون وقد فهم كنة معانيها بالتأمل والأفتكار فيها مليا " .
وهكذا كان أنطونيوس :
" ينمـــــو فى النعمـــــــــة وفى معــــــرفــة ربــنـــــــا ومخلصنـــــــا يســـــوع المسيــــح " ( 2 بط 3 : 18 ) .

قســـــــوة الحـــيـــــــــاة ! ! :
" إن فرح العالم ليس فيه شىء يعتبر راهنا ثابتا ولكنه زائل جميعه ، وهو يشبه النهر الذى يجرى عند انسكاب الأمطار على الأودية فيظن من يراه أنه ثابت يدوم وهو بالحقيقة نهر مستعارة مياهه وتنتهى بغتة مع أنتهاء المطر ! . "( يوحنا ذهبى الفم ) .
ما أن وصل الفتى أنطونيوس إلى الثامنة عشر من عمره حتى تعرض لتجربة وفاة والده ! وهنا كانت الصدمة ! بل هنا كانت التجربة ... انه يافع صغير وله أخت أصغر منه ، .. ولم يعتد مثل هذه الآلام ، كما أنه لا يقوى على تحمل أعباء العائلات بعد ، فماذا يفعل أنطونيوس ؟ .. لم تزده التجربة إلا إيمانا وثباتا ورسوخا
ولم يكد يفيق من تجربة رحيل والده حتى انتقلت والدته أيضا ، فحرم من الأثنين .. وعندئذ ازدوجت التجربة ! نظر فإذا به وحيدا ليس له فى البيت سوى أختا صغيرة ...
حرم من والده ؛ فحرم من التربية الأسرية والنصائح والأرشادات ، ووجد هذه الجوانب فى عطف والدته ومحبتها ورعايتها له ولأخته ، ثم شاءت الأقدار أن يحرم من والدته أيضا .. فأصبحا وحيدين ، إلا أن احساسهم بأبوهم السماوى لم يفتر ... وكذلك عوضتهم الكنيسة وارتباطهما بها عن حنان الأم وعطفها .. بل زادت عن الأم الجسدية بالبركات الروحية ، وكأنى بأنطونيوس وأخته يناجيان أباهما السماوى
" إننا نعلم أن اسمك برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع " ( أم 18 : 10 ) .
إن القديس أنطونيوس فى صدمته هذه يرينا كيف يجب على المؤمن الحقيقى أن يقبل التجربة بشكر دون أن تفل من عزمه أو أن تؤثر فى إيمانه إذ : " كثيرة هى بلايا الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب " ( مز 34 : 19 ) . ..... "... لأننى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى " ( 2 كو 12 : 9 ، 10 ) .
فى صفحات التاريخ نجد أن أعظم الرجال قد اجتازوا بين الضيق والألم
فايديسون مخترع الكهرباء باع الجرائد والمجلات فى الشوارع والطرقات !!
وملتون الشاعر العظيم كتب أبلغ قصائده بعد أن فقد بصره !
وبيتهوفن وضع أعظم مقطوعة موسيقية وهو أصم !!
