قوتل أخان بالزنى، فانطلقا إلى العالمِ وتزوَّجا، وبعد ذلك ندما وقال أحدُهما للآخرِ: «ماذا ربحنا، لقد تركنا عملَ الملائكةِ وجئنا إلى هذه النجاسة، ومصيرُنا بعد ذلك أن نمضي إلى جهنم النار. لنرجع إلى البريةِ ونتوب». فرجعا إلى البريةِ، وأتيا إلى الشيوخِ وسألاهم أن يطلبوا إلى الله من أجلهما. فأمروهما أن يحبسا نفسيهما سنةً واحدةً ويتضرعا إلى الله كي يتحنن عليهما. وكانوا يعطونهما خبزاً وماءً بالتساوي. فلما انقضى زمانُ توبتهما وخرجا من حبسِهما، أبصر الشيوخُ أحدَهما متغير الوجه معبَّساً، وأبصروا الآخرَ حسنَ المنظرِ باشّاً، فعجب الآباءُ من ذلك، لأن حبسَهما وطعامَهما كان واحداً. ولكن منظرهما ليس بواحدٍ. فسألوا المتغير الصورةِ: «ماذا كان تفكيرُك أثناء مدة حبسِك»؟ فقال: «كنتُ أتذكر الشرورَ التي عملتُها، والعذابَ المعدَّ لي، ومن شدة فزعي لصق لحمي بعظمي». ثم سألوا الآخر: «وأنت ماذا كنتَ تفكر وأنت جالسٌ في حبسِك». فقال: «كنتُ أشكر الله الذي خلَّصني من نجس العالم ومن العذاب الدائم، وأنعم عليَّ بأن أعمل عملَ الملائكةِ، وعلى ذلك كنتُ أفرح». فقال الشيوخ: «إن توبةَ كليهما واحدةٌ عند الله».
أخٌ من الرهبان قوتل بالزنى، فقام بالليلِ وذهب إلى أحدِ الشيوخِ وكشف له سرَّه، وسأله أن يصلي من أجلهِ، فعزاه الشيخُ وشجَّعه. ولما رجع الأخُ إلى قلايته، اشتد عليه القتالُ، فرجع ثانية إلى الشيخ، وفعل ذلك مراراً، وكان الشيخُ في كلِّ مرةٍ لا يُحزنه، ولكنه كان يكلِّمه بما فيه منفعة نفسِه قائلاً: «كلما قاتلك هذا الشيطان تعال وبُح به فإنه ليس شيءٌ يُبعد شيطان الزنى مثل إظهار أفكارِه وأعمالِه وفضيحتِه، وليس شيءٌ يفرِّحه غير كتمان ذلك». تردد ذلك الأخُ على الشيخِ في تلك الليلةِ إحدى عشرة مرة، وهو يكشف له أفكاراً، أخيراً قال:« قُل لي يا أبي كلمةً»؟ فقال له الشيخ: «ثق يا ابني لو أن الله يدع فكري وقتالي وقفاً عليك لما احتملتَ، ولكنتَ أنت تسقط بالأكثر إلى أسفل». فلما قال الشيخُ هذا الكلام باتضاع، كفَّ الله القتال عن الأخِ.
قيل عن أخٍ كان ساكناً في ديرٍ إنه من شدة القتال كان يسقط في الزنى مراراً كثيرةً. فمكث يُكره نفسَه ويصبر كيلا يترك إسكيم الرهبنة، وكان يصنع قانونَه وسواعيه بحرصٍ، ويقول في صلاتهِ: «يا ربُّ أنت ترى شدة حالي وشدة حزني، فانتشلني يا ربُّ إن شئتُ أنا أم لم أشأ، لأني مثل الطين، أشتاقُ وأحبُّ الخطيةَ، ولكن أنت الإله الجبار اكففني عن هذا النجس، لأنك إن كنتَ إنما ترحم القديسين فقط فليس هذا بعجيبٍ، وإن كنتَ إنما تخلِّص الأطهار فما الحاجة، لأن أولئك مستحقون، ولكن فيَّ أنا غير المستحق يا سيدي أرِ عجب رحمتك لأني إليك أسلمتُ نفسي». وهذا ما كان يقوله كلَّ يومٍ، أخطأ أو لم يخطئ، فلما كان ذات يوم وهو دائمٌ في هذه الصلاة، أن ضجرَ الشيطانُ من حُسن رجائهِ ووقاحتهِ المحمودة، فظهر له وجهاً لوجه وهو يرتل مزاميره، وقال له: «أما تخزى أن تقف بين يدي الله بالجملةِ وتسمي اسمَه بفمِك النجس»؟ فقال له الأخ: «ألستَ أنت تضربُ مرزبةً وأنا أضربُ مرزبةً؟ أنت توقعني في الخطيةِ، وأنا أطلب من الله الرحوم أن يتحنن عليَّ، فأنا أضاربك على هذا الصراع حتى يدركني الموتُ. ولا أقطع رجائي من إلهي، ولا أكف من الاستعداد لك، وستنظر من يغلب: أنت أو رحمة الله». فلما سمع الشيطانُ كلامَه قال: «من الآن لا أعود إلى قتالك، لئلا أسبب لك أكاليل في رجائك بإلهك». وتنحى الشيطان عنه من ذلك اليوم، ورجع الأخُ إلى نفسِه وأخذ ينوح ويبكي على خطاياه السالفة، فإذا كان الفكرُ يقول له: «نِعمَّا لأنك تبكي». فكان يجيب فكرَه بذِكرِ خطاياه. وإذا قال الفكرُ له: «أين تذهب لأنك فعلتَ خطايا كثيرة»، يقول: «الربُّ يفرحُ بحياةِ الميِّت ووجود الضال».
سُئل أنبا بيمين: «ما هي التوبة»؟ فقال: «الإقلاع عن الخطية وأن لا يعاود فعلها، لأنه لذلك دُعي الصديقون لا عيب فيهم، لأنهم أقلعوا عن الخطيةِ فصارا صديقين».
سأل أخٌ الأب شيشوي قائلاً: «ماذا أفعلُ يا أبتاه، فقد سقطتُ»؟ قال له الشيخُ: «انهض أيضاً». قال الأخُ: «نهضتُ ورجعتُ وقعت». فأجابه الشيخُ: «انهض أيضاً». فقال الأخُ: «إلى متى أيها الأب»؟ قال له: «إلى أن نؤخذ، إما في الخير وإما في السقطةِ، لأن الإنسانَ فيما يوجد فيه يؤخذ».
قال الأب أموس: «ستةُ دروبٍ توجد للتوبةِ: ذمُ الخطايا والإقلاعُ عنها، الإقرارُ بها، الندامةُ عليها، الصفحُ عن خطايا القريبِ، تركُ دينونةِ المخطئين، وتمسكن القلبِ».
قال أحدُ الشيوخِ: «احرص بكلِّ جَهدِك لئلا تسقط، لأن الوقوعَ لا يليقُ بالمجاهدِ القوي، فإن عَرَضَ لك أن تقع، للوقتِ اطفُر واستمر أيضاً في الجهادِ، ولو عَرض لك ذلك ربواتٍ من المراتِ لتربحَ النعمةَ ربواتٍ من الدفعاتِ. وليكن ذلك، أعني النهوضَ والقيامَ، إلى حينِ موتِكَ، لأنه مكتوبٌ: إن سقط البارُ سبعَ مراتٍ، يعني طولَ الدهرِ السباعي، فإنه يقومُ سبعَ دفعاتٍ، إنك تُحسَب مع القائمين ما دمتَ ممسِكاً بسلاحِ التوبةِ بدموعٍ، فتذرَّع بهذه الوسيلةِ إلى الله لأنك وإن سقطتَ، فإنك تُمدَح بالأكثرِ ما دمتَ ملازماً الرهبانِ، مثلَ جندي شجاعٍ يقبلُ الضرباتَ مواجهة. حتى ولا في حالِ ضربهم، إياك أن تتراخى وتتباعد، ولكن إن انفصلتَ عن الرهبانِ فإنك تُضرب على ظهرِك كهاربٍ جبانٍ طارحٍ سلاحَه».
قال شيخٌ آخرُ: «إني رأيتُ قوةَ النعمةِ الإلهيةِ الحالة في عمادِ النورِ، هي كما هي، حالةً في وقتِ التسربل بالزي الإسكيمي، أما الذي يطرحُ عنه زي الرهبنةِ فلا حظَّ له مع المؤمنين، بل يُرتَّب مع جاحدي الإيمان، ويُعاقَب، متى لم يتب لله توبةً بالحقِ من كلِّ قلبهِ».
قيل عن أخ إنه وقع في تجربةٍ، ومن الشدةِ ترك إسكيمَ الرهبنةِ، لكنه رجِع وندِم، وأراد أن يبدأَ في تدبيرِه الأول، فساعده الربُّ ولم يتركه حتى خلص من مناصبةِ العدوِ.
في بعضِ الأوقاتِ، قامت سفينةٌ من ديولفن، ورمتها الرياحُ إلى بعضِ الجبالِ حيث كان هناك رهبانٌ، فخرجت امرأةٌ من السفينةِ، وجلست على الشاطئِ فوقَ تلٍّ من الرملِ، واتفق حينئذ أن جاء أحدُ الرهبانِ ليملأَ جرَّتَه، فأبصرَ المرأةَ، فرمى الجرةَ وعاد مبادِراً إلى رئيسِ الديرِ وقال: «يا أبتاه عند النهرِ امرأةٌ جالسةٌ». فلما سمع الشيخُ قولَه، خفق قلبُه، ثم أخذ عصاه وخرج بسرعةٍ وهو يصيحُ قائلاً: «أغيثوني، فقد جاءنا لصوصٌ أشرارٌ». فلما أبصروا انزعاجَ الشيخِ لَحِقوا به حاملين عِصيهم إلى النهرِ، فلما رأى النوتية قدومَهم عليهم هكذا، خطفوا المرأةَ من فوقَ التلِ بسرعةٍ، ووضعوها في السفينةِ، وقطعوا حبلَ السفينةِ وتركوها منحدرةً في جريانِ النهرِ.
قال أنبا إيليا السائح: إنه كان في مغارةٍ في أحد الجبال، فلم يأتِ نصفُ النهارِ في شدةِ الحرِ في شهرِ أغسطس، حتى قرع إنسانٌ على مغارتهِ، فخرج وأبصر امرأةً، فقال لها: «ماذا تصنعين ههنا»؟ قالت له: «أنا بقربِك في مغارةٍ على ميلٍ واحدٍ، أسيرُ سيرَتَك، وفيما كنتُ أدورُ في البريةِ عطِشتُ من شدةِ الحرِ، فاصنع محبةً يا أبي واسقني قليلَ ماءٍ». ثم قال: «فسقيتُها وأخليتُ سبيلَها، فلما انصرفَتْ تملَّكني قتالُ الزنى، فهُزمتُ له، وأخذتُ عصاي ومضيْتُ سائراً إلى مغارتِها في ساعةِ حرٍّ صعبٍ، فلما دنوتُ من مغارتِها والشهوةُ تُلهبُني، سَهوْتُ فأبصرتُ الأرضَ قد انفتحت وظهر من تحتِها أجسادُ موتى كثيرين مُنتِنةٌ جداً، وكان إنسانٌ بهيٌ يُريني تلك الأجسادَ ويقول لي: إلى أين أنت ذاهبٌ يا راهب، وماذا تريد؟ هلم الآن وانظر أجسادَ هذه النسوة التي كانت حسنةَ الصورة كيف صارت رائحتهم، فاشفِ الآن شهوتَك من أيهِا شئتَ، وأبصر كم من الأتعابِ تريدُ أن تُهلكَ من أجلِ هذه الشهوةِ المنتنةِ، وتحرم نفسَك مُلكَ السماءِ. ومن شدةِ رائحةِ النَتَن وقعتُ على الأرضِ، فأقامني ذلك الرجلُ، وأزال عني القتالَ، ورجعتُ إلى مغارتي أسبِّحُ الله وأمجدُه على خلاصي». فانظروا يا إخوتي كيف أن القربَ من النساءِ هو مُهلكٌ، ويسببُ القتالَ حتى للرجالِ الأبرارِ المتعَبين بالنسكِ طول أيامِهم.
أخبر أحدُ الشيوخِ: إنه في بعضِ الليالي، في أثناءِ صلاتِه وهو في البريةِ الجوانية، سمع صوتَ بوقٍ يضربُ ضرباً عالياً، كمثل ما تُضرب أبواقُ الحربِ، فتعجب متفكراً بأن البريةَ مقفرةٌ وليس فيها آدمي، فمن أين صوتُ البوقِ في هذه البريةِ، أَتُرى حربٌ ها هنا؟ وإذا بالشيطانِ قد وقف مقابلَه وقال بصوتٍ عالٍ: «نعم يا راهب، حربٌ هي، إن شئتَ فحارب، وإلا سلِّم لأعدائك».
سُئل شيخٌ: «كيف يقتني الراهبُ الفضيلةَ»؟ فأجاب: «إن شاء أحدٌ أن يقتني فضيلةً، إن لم يمقُت أولاً الرذيلةَ التي تضادها فلن يستطيعَ أن يقتنيها. فإن شئتَ أن يحصلَ لك النوحُ فامقت الضحكَ. وإن آثرتَ أن تقتني التواضعَ فابغض الكبرياءَ. وإن أحببتَ أن تضبطَ هواك فامقت الشرَّ والتحريفَ في الأشياءِ. وإن شئتَ أن تكونَ عفيفاً فامقت الفسقَ. وإن شئتَ أن تكونَ زاهداً في المقتنياتِ فامقت حبَ الفضةِ. ومن يريدُ أن يسكنَ في البريةِ فليمقت المدنَ. ومن يشتهي أن يكونَ له سكوتٌ، فليمقت الدالةَ. ومن أراد أن يكونَ غريباً من عاداتِهِ فليبغض التخليطَ. ومن يريد أن يضبطَ غضبَه فليبغض مشيئتَه. ومن يريد أن يضبطَ بطنَه فليبغض اللّذاتِ والمقامَ مع أهلِ العالمِ. ومن أراد عدمَ الحقدِ فليبغض المثالبَ. ومن لا يقدر أن يكابدَ الهمومَ فليسكن وحدَه منفرداً. ومن يريد أن يضبطَ لسانَه فليسد أذنيه لئلا يسمع كلاماً كثيراً. ومن يريد أن يحصل على خوفِ الله، فليمقت راحةَ الجسدِ ويحب الضيقةَ والحزنَ. فعلى هذه الصفةِ يمكنك أن تعبدَ الله بإخلاصٍ».
قال شيخٌ: «أشرفُ أعمالِ الرهبنةِ أن يُحقِّرَ الإنسانُ نفسَه دائماً، ويردَّ اللومَ عليها».
وقال أيضاً: «البابُ إلى اللهِ هو الاتضاع ومنه دخل آباؤنا إلى الملكوتِ بغنيمةٍ عظيمةٍ».
وقال أيضاً: «إن الذي يخاصمه أخوه ولا يَحزن قلبُه، فقد تشبَّه بالملائكةِ، فإن خاصمه هو أيضاً ثم رجع صالحه من ساعتِهِ فهذا هو عمل المجاهدين. فأما الذي يُحزن إخوته ويَحزن منهم ويُمسك الحقدَ في قلبهِ، فهذا مطيعٌ للشيطانِ مخالفٌ لله، ولا يغفر له الله ذنوبَه إذا لم يغفر هو لإخوتهِ».
وقال أيضاً: «كما أن الذي يُصفِّي الذهبَ، إذا كان يحمِّي النارَ ويشعلها حيناً ثم يخمدها ويطفئها حيناً آخر، لا ينتفع، كذلك الراهب إذا كان يحرص مرةً ويسترخي أخرى».
قال شيخٌ: «إن إبراهيم أول دخولهِ أرضَ الميعادِ اشترى قبراً، فوَرِثَ هو وزرعُه الأرضَ بكمالِها، هكذا الذي يتخذ له بيتاً لموتِهِ من هذا العالمِ، ويحزن فيه على نفسِه، فإنه يرث أرضَ الحياةِ».
قيل عن أحدِ الشيوخِ: إنه كان رجلاً وديعاً كثيرَ الحبِّ. ولم يفكر في الشرِّ أصلاً، وحدث مرةً أنَّ أحدَ الإخوةِ سَرَقَ زنابيلَ وحملها وأودعها عندَه ولم يعلم الشيخُ بسرِّها، فبعد أيامٍ عُرفت الزنابيل، فاتُّهم الشيخُ بسرقَتِها، فلما اتُّهم أنه السارق، سجد مطانية وقال: «اغفروا لي يا إخوتي من أجلِ الله فأتوب من هذه الدفعةِ الواحدةِ». وصار يبكي، فلما نظر الإخوةُ بكاءَه تركوه، وبعد أيامٍ قلائل جاء الأخُ الذي سرق الزنابيل، وأنشأ خصومةً مع الشيخِ قائلاً: «أنت سارقٌ، وقد سرقتَ زنابيل فلان». فسجد الشيخُ بين يديه قائلاً: «اغفر لي يا أخي كما غفر لي بقيةُ الإخوةِ». وكان هذا الشيخُ دائماً إذا غلط أخٌ وأنكر غلطَتَهُ، يسجد هو قائلاً: «اغفروا لي يا إخوتي هذه الغلطةَ». وكان كلامُه على الدوام بهدوءٍ واتضاع وسكينةٍ، ولم يخاصم أحداً قط، ولا سبَّب وجعَ قلبٍ لأحدٍ قط في وقتٍ من الأوقاتِ حتى ولو بكلمةٍ صغيرةٍ.
قيل عن شيخٍ آخر إنه في وقتٍ أتاه اللصوصُ وقالوا له: «جئنا لنأخذ جميعَ ما في قلايتِك»، فقال لهم: «خذوا ما شئتم أيها الأولاد». فلما أخذوا جميعَ ما وجدوه مضوْا ونسوا مخلاةً مستورةً بخوصٍ، فلما نظرها الشيخُ أخذها وخرج يخطر وراءهم وهو يصيح ويقول: «يا بَنيَّ، خذوا ما قد نسيتم». فلما رأوا ذلك منه عجبوا من دعتِهِ وسلامةِ قلبِهِ، وردوا كلَّ ما أخذوه إلى قلايتِهِ. وقال بعضُهم لبعضٍ: «بحقٍ إن هذا رجلُ الله»، وكان ذلك سبب توبتهم وتركهم ما كانوا عليه من اللصوصيةِ.
ذكروا عن أحدِ الإخوةِ أنه كان مجاوراً لشيخٍ من المشايخ له فضلٌ، فكان يدخل في قلايتِه كلَّ يومٍ ويسرق ما يجده فيها، وكان الشيخُ يفهم ذلك ولا يوبخه ولا يعاتبه، بل كان يكدُّ ويُزيدُ على وظيفتهِ في عملهِ، ويقول في نفسِه: «لعل الأخَ إنما يفعلُ هذا بسببِ الحاجةِ». وكان الشيخُ شديدَ التعبِ والكدِّ بسببِ ذلك لدرجةِ أنه ما كان يَفْضُل له ما يأكل به خبزاً. فلما حضرت الشيخَ الوفاةُ، أحاط به الإخوةُ، فنظر وإذا بذلك الأخِ الذي كان يسرق متاعَه بينهم، فقال له: «ادّنُ مني يا ابني». واندفع يقبل يديه ويقول: «يا إخوة، أنا أشكرُ هاتين اليدين اللتين بهما أدخلُ ملكوتَ السماءِ». فلما سمع الأخُ ذلك، رجع إلى نفسِه وندم على فعلِه، وكان ذلك سبباً في توبتهِ.
من قول البابا أثناسيوس الرسولي: قد يعرض أن يقولَ أحدٌ: «أين هو زمانُ الاضطهادِ حتى كنتُ أصيرُ شهيداً»؟ فأقول له أنا: «الآن يتجه لك أن تكونَ شهيداً إن أردتَ، متّ عن الخطيةِ، أَمِت أعضاءَك التي على الأرضِ، وبذلك تصيرُ شهيداً باختيارِك، فأولئك الشهداءُ كانوا يقاتلون ملوكاً ورؤساءً جسديين، أما أنت فإنك تقاتلُ ملكَ الخطيةِ، محتالاً عنيداً، والشياطين رؤساءَ الظلامِ. أولئك كانوا ينصبون للشهداءِ عقوباتٍ مختلفةً لأجلِ عبادةِ الأصنامِ، فتفطَّن الآن فإنه توجد مائدةٌ ومذبحٌ وصنمٌ مرذولٌ، وقد يكلفون العقلَ للسجودِ، فالمائدةُ هي نهمُ البطنِ، والمذبحُ هو التلذذ بما دَسِمَ من الأطعمةِ، والصنمُ هو شهوةُ الزنى المرذولة والمصوِّرة لتركيب الأجسام. وكذلك فإن من واظب على اللّذاتِ وتعبد للزنى فقد جحد يسوعَ وسجدَ للصنمِ، لأن له في ذاتهِ صنمَ الزهرةِ وهو لذة الأجسامِ القبيحة. ومَن كان مغلوباً من الغيظِ والغضبِ فقد أنكر يسوعَ وله في نفسِه المديحُ إلهاً، وهو يسجدُ للغيظِ الذي هو صنمُ الجنونِ، ومن انغلب لحبِ الفضةِ، وأغلق تحننَه عن الفقراءِ، فقد كفر بيسوعَ وعَبَدَ الأصنامَ لأن له في نفسِه صنمَ عطارد وقد عَبَدَ البَرِية دون باريها. فإن أنت ضبطتَ هواك من هذه الأمورِ، وتحفّظتَ منها فقد وطأت الأصنامَ وصرتَ شهيداً والربُ يسوعُ المسيحُ يساعدك».
قصد راهبان أحدَ الشيوخِ، وكان أحدُهما شيخاً والآخرُ شاباً، فشكا الأكبرُ من الأصغرِ، فتأمَّل الشيخُ إلى الشابِ وقال له: «أصحيحٌ ما قاله عنك»؟ فقال: «نعم يا أبانا لأني أحزنتُه»، ثم فكَّر الشابُّ في قلبهِ ونَدِمَ على ما قاله، وقال: «لستُ أنا بل هو الذي أحزنني، إلا أني جعلتُ اللائمةَ على نفسي بكلامي». وتوقف ولم يقدر أن يجيبَ بشيءٍ آخر. وأن الشيخَ صاح بصوتِه، فقالوا له: «لماذا صحتَ يا أبانا»؟ فأجاب: «بأنه عند دخولِ هذين الراهبين عندي رأيتُ زنجياً واقفاً قدامهما وبيده قوسٌ ونشَّابٌ، وكان ينشب نحوهما، وما كانت النشابةُ تصيب سوى ثيابهِما، فلما تذمر الشابُ، أرسل الزنجيُ النشَّابَ نحوه فكادت تقتله، من أجل ذلك كان صراخي هذا عليه كيلا يقتله». ثم أن الأخوين سألا من الشيخِ شفاءَ العارضِ، فقال لهما الشيخُ: «متى وقعت بينكما خصومةٌ فتذكرا الزنجي، فيكُفَّ تأثيرُ الخطيةِ عنكما». فعادا وفعلا ذلك وشُفيا.
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ما هو نجاحُ الراهبِ»؟ فقال: «التواضع، لأن بدونِه لا يكون نجاحٌ، وبمقدارِ نزولِه في التواضع يكون مقدارُ صعودِهِ إلى علوِ الفضيلةِ». فسأله أيضاً: «فكيف تقتني النفسُ الفضيلةَ»؟ فقال: «إذا هي اهتمت بزلاتِها وحدِها».
قال أنبا إيليا: «أيُّ مقدرةٍ للخطيةِ حيث تكونُ التوبةُ، وأيُّ منفعةٍ للمحبةِ حيث تكون الكبرياءُ»؟
كان أحدُ الرهبانِ صامتاً وقد شاع فضلُه وعملُه، فزاره في أحدِ الأيامِ اثنان من الفلاسفةِ، فقام وصلَّى وسلَّم عليهما وجلس صامتاً يُضَفِّر الخوصَ ولا يرفع نظرَه إليهما، فقالا له: «يا معلم، انفعنا ولو بكلمةٍ واحدةٍ لأننا لهذا أتينا إليك». فأجابهم الراهبُ قائلاً: «اعلما أنكما أفنيتما أموالَكما لتتعلما فخرَ الكلامِ وتحسينَه، وأما أنا فقد أهملتُ العالمَ وأتيتُ إلى ههنا لا لأقتني جَوْدَةَ الكلامِ بل السكوتَ». فلما سمعا قوله أُعجبا كثيراً وانصرفا منتفعيْن منه.
جلس راهبٌ من الرهبانِ في البريةِ صامتاً في قلايته، فضغط عليه الضجرُ وأقلقه الفكرُ وضيَّق عليه شديداً حاثاً إياه على الخروجِ منها. فقال في ذاتِه: «يا نفسي لا تضجري من الجلوسِ في القلايةِ، وإن كنتِ لا تعملين شيئاً، يكفيكِ هذا، أنكِ لا تُحزنينَ أحداً. ولا أحدٌ يُحزنك، فاعرفي كم من الشرورِ خلَّصكِ الله، لأن في سكوتِك وصلاتِك لله تكونين بلا همٍّ يشغلك ولا تتكلمين كلاماً باطلاً، ولا تسمعين ما لا ينفعك ولا تبصرين ما يضرك، وإنما قتالكِ واحدٌ، وهو قتالُ القلبِ، والله قادرٌ أن يبطلَه، وإذا اقتنيتِ الاتضاعَ عرفتِ ضعفك». فعند افتكار الأخ بهذا، صار له عزاءٌ كثيرٌ في صلاتِهِ.
في بعضِ الأوقات قوتل أنبا مقاريوس بالعظمةِ وهو في قلايتهِ. وحثه فكرهُ على الخروج منها، والذهاب إلى رومية لينفع كثيرين بحسب ما أملته عليه أفكارُ العظمةِ. فلما ألحت عليه الأفكارُ بذلك، ألقى بنفسِهِ داخل قلايتِهِ عند بابِها، وأخرج رجليه من البابِ، ثم قال لأفكارِ العظمةِ: «أخرجوني إن قدرتم، فإني لن أخرج طائعاً، فإن لم يمكنكم ذلك فلن أطيعَكم». ولم يزل ملقى وهو يقول هذا الكلام إلى الليلِ حيث اشتد عليه القتال والأفكار. وأخيراً أخذ قفةً وملأها رملاً وحملها، وأخذ يطوف بها البريةَ حتى لقيه القديس فسطوس، فقال له: «ماذا تحملُ يا أبتاه، أعطني إياه، ولا تتعب أنت». فقال له: «أريد أن أشقي من يشقيني، فإنه إذا ما نالته الراحةُ سبَّب لي الأسفارَ والشقاءَ». واستمر هكذا إلى أن كفت عنه الأفكارُ. فرجع إلى قلايتِهِ وهو يشكر اللهَ.
سُئل شيخٌ: «لماذا تقاتلنا الشياطين جداً»؟ فقال: «لأننا طرحنا سلاحَنا أعني الطاعةَ والاتضاعَ والمسكنةَ».
قال شيخٌ: «إذا لم يأتِ علينا قتالٌ، حينئذ ينبغي لنا أن نتضعَ جداً، عالمين أن الله لمعرفتِه بضعفِنا رفع عنا القتالَ، وإن افتخرنا يرفع عنا سِتْرَه فنهلك».
سُئل شيخُ: «ما هو كمالُ الراهبِ»؟ فقال: «الاتضاع، فإذا بلغ الإنسانُ إلى الاتضاع فقد أتى إلى الكمالِ».
قال أحدُ الشيوخِ: «إذا قال الراهبُ لصاحبهِ: اغفر لي، باتضاعٍ، تحترق الشياطين».
قال شيخٌ: «إن جاءك إحساسٌ بالعظمةِ وبدأتَ تفتخر، فانظر في نفسِك هل حفظتَ الوصايا، أن تحبَّ مبغضيك وتفرح بصلاحِ عدوك وتحزن لحزنه وتحسب نفسَك عبداً بطالاً، وأنك أخطأ كلِّ الناسِ، وأن لا تفتخر إذا قوَّمتَ كلَّ صلاحٍ؛ حيث أنه يجب أن تعلم أن هذا الإحساسَ يُهلك ويُبطل جميعَ الحسنات».
قال أنبا بيمين: «كما أن الأرضَ لا تسقط لأنها أسفل، هكذا من يضع نفسَه لا يسقط».
وسأله أخٌ: «كيف أستطيع ألا أقع في الناسِ»؟ فقال له: «إذا لام الإنسانُ نفسَه حينئذ يكون عنده أخوه أكرمَ منه وأفضلَ، وإذا ظن في نفسِه أنه صالحٌ، حينئذ يكون عنده أخوه حقيراً ومهاناً ويقع فيه».
قال شيخٌ: «احذر بكلِّ قوتك ألاَّ تقل شيئاً يستحقُ اللائمةَ، ولا تحب التصنع».
وقال أيضاً: «إن نزل الاتضاعُ إلى الجحيمِ فإنه يصعد حتى السماءِ، وإذا صعدت العظمةُ إلى السماءِ فإنها تنزل حتى الجحيمِ».
سأل أخٌ أنبا ألينس في معنى تحقيرِ الإنسانِ نفسه فقال له: «هو أن ترى كلَّ الخليقةِ حتى البهائم أخيرَ منك، وتعلم أنهم لا يدانوا».
قال شيخٌ: «أُحبُّ أن أكونَ مغلوباً باتضاع أفضلَ من أن أكونَ غالباً بافتخار».
وقال آخر: «لو لم يخضع يوسف للعبوديةِ أولاً، لما صار لمصرَ سيداً، وإن لم يُخضع الراهبُ نفسَه للعبوديةِ أولاً بكلِّ تذللٍ ومحقرةٍٍ، فلن يصيرَ سيداً على الأوجاعِ، ولن تخضعَ له الشياطينُ».
من سيرةِ الأب باخوميوس: في بعضِ الأحيانِ ظهر الشيطانُ للأب باخوميوس يتجلى بصورةِ السيدِ المسيحِ، وقال له: «افرح يا باخوميوس لأني جئتُ لافتقادِك». ففكر في نفسِه قائلاً: «من شأنِ المناظرِ الإلهيةِ أنها من لذةِ بهجتِها وحلاوةِ نعيمِها تسبي تخيل مستحقيها إليها ولا يبقى لهم فكرٌ آخر، ولكن أفكاري الآن تروي فنوناً وألواناً». فلما وجده الشيطانُ مفكراً، أخذ في استئصالِ أفكاره، فقال الأب في نفسِه: «إني كنتُ أفكرُ أفكاراً والآن فلا وجود لها». وإذ قال ذلك في نفسِه قام إلى الشيطانِ وهو باسطٌ يده كمن يريد أن يمسكَه، وفي الحال صار كدخانٍ وتلاشى.
قيل عن أحدِ الآباءِ إن الشيطانَ تراءى له في شبهِ ملاكٍ نوراني وقال له: «أنا غبريال، قد أُرسلت إليك». أجاب الشيخُ: «لعلك أُرسلت إلى غيري وأما أنا فخاطئٌ». فلما سمع الشيطانُ هذا الكلام منه باتضاعٍ، اختفى ولم يره.
كان أحدُ الشيوخِ جالساً في قلايتهِ مجاهداً، وكان ينظرُ الشياطينَ عياناً ويحتقرهم، فلما رأى إبليسُ نفسَه مقهوراً من الشيخِ، ظهر له قائلاً: «أنا هو المسيحُ». فأغمض الشيخُ عينيه، فقال له الشيطانُ: «أنا المسيح، وتغمض عينيك»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «لا أريدُ أن أبصرَ المسيحَ ههنا». فلما سمع إبليسُ منه ذلك، غاب عنه.
قال أنبا أور: إني أبصرتُ إنساناً في البريةِ خَيَّلت له الشياطينُ طغماتَ ملائكةٍ ومراكبَ حافلةً، وملكاً في وسطهم، فقال له: «أيها الإنسانُ، لقد أتقنتَ كلَّ شيءٍ، إذن خرَّ لي ساجداً وأنا أرفعك كما رفعتُ إيليا». فقال الراهبُ في فكرِه: «أنا في كلِّ يومٍ أسجدُ لملكي المسيح، فلو كان هذا هو المسيح حقاً، لما التمس مني السجودَ الآن». ولما جال هذا في فكرِه قال: «إن ملكي هو المسيح وأنا دائماً أسجدُ له، وأما أنت فلستَ ملكي». ولما قال هذا الكلامَ، تلاشى ذلك الخيالُ للوقتِ، هذا ما شرحه ذلك الأب كأنه عن غيرِه، وأما الآباء الذين كانوا معه فقالوا: «إنه هو الذي رأى ذلك».
حكى راهبٌ تقي قائلاً: إني في حالِ سفري لأسجدَ في أورشليم جئتُ إلى موضعٍ حيث كان هناك جَرفٌ عالٍ وفيه مغارةٌ، ومن تحتهِ يوجد ديرٌ، فدخلتُ إليه، فقال لي سكانُه إن أحدَ الرهبانِ أراد أن يسكنَ تلك المغارةَ، وسأل الرئيسَ في ذلك، فقال له: «يا ولدي، إنك لا تقدر أن تسكنَ المغارةَ، لأنك لم تُخضِع أسقامَ نفسِك بعد، ولا آلامَ جسمِك للقوةِ الناطقةِ، كما أنك لا زلتَ تجهل حيلَ إبليسِ المتفننةِ، فالأجود لك أن تقيمَ بالديرِ، وتخدم آباءَك وتربح صلواتِهم ولا تبقى وحدَك مقاتِلاً شياطين خبثاء». ولكنه لم يقتنع، فأفسحَ له الرئيسُ في ذلك، وصعد إلى المغارةِ ورفع السُّلمَ. وكان أحدُ الإخوةِ يُحضر له طعاماً ويرفعه في زنبيلٍ. ثم أن إبليسَ، الذي لم يزل محارباً للسالكين طريقَ الفضيلةِ، دبَّر له وهقاً ليرميه في هوةِ الكبرياءِ ويأخذه أسيراً، فظهر له في شكلِ ملاكٍ نوراني وقال له: «اعلم أيها الأخ، إنه لطُهرِ نيَّتِك وشرفِ سيرتك، أرسلني الربُّ خادماً لقدسِكَ». فأجابه الراهبُ: «وما الذي فعلتُه حتى تخدمني ملائكةٌ»؟ قال له ذاك: «إن جميعَ أعمالِك جليلةٌ عظيمةٌ، ازدريتَ بزخارف العالمِ، وتنسَّكتَ، وتوافرتَ على الصومِ والصلاةِ والسهرِ، ثم انعزلتَ عن الرهبانِ، وسكنتَ وحدَك في هذا الموضعِ، فكيف لا تخدمك ملائكةٌ»؟ بهذه الأقوالِ وأمثالِها نفخ التنينُ في ذلك الراهبِ، وصار يأتيه في كلِّ يومٍ ويخاطبه بمثلِ هذا الكلامِ. ثم أنه حدث في بعضِ الأيامِ أن رجلاً وقع بين اللصوصِ وسلبوا مالَه، فهذا جاء إليه، فتقدَّم إبليسُ وجاء إليه في صورةِ ملاكٍ وقال له: «إن إنساناً مقبلاً إليك سرق اللصوصُ بيتَه ووضعوا ما أخذوه منه في مكانِ كيت وكيت». فأتى الرجلُ وسجد تحت المغارةِ فأجابه الراهبُ من فوق: «مرحباً بك يا أخي، قد عرفتُ حزنَك، إن لصوصاً أخذوا حاجاتك وهي كذا وكذا، وهي مخبأةٌ في المكانِ الفلاني، امضِ خذها وصلِّ عليَّ». فرجع الرجلُ إلى ذلك المكانِ ولما وجد أشياءَه ذُهِلَ، وأشاع الخبرَ بين الناسِ أن الراهبَ ساكنَ المغارةِ يعلمُ الغيبَ. فأقبل إليه جمعٌ غفيرٌ، رجالاً ونساءً وأحداثاً متسائلين، ودخل فيه الشيطانُ وصار يُخبر كلَّ واحدٍ بما ناله في زمانهِ، وبما يناله. فلما سمع رهبانُ ديرِه عجبوا كيف بلغ هذه المنزلةَ في زمنٍ يسيرٍ.
وفي يومٍ الاثنين ثاني أسبوعِ القيامةِ، ظهر له إبليسُ وقال له: «اعلم أيها الأبُ، إنه لحسنِ سيرتِك فإن ملائكةً كثيرين مرسَلون خلفَك ليحملوك إلى السماءِ حتى تعاين المجالَ الذي هناك. وإن الإله المتحنن لم يشأ هلاكَه، فألهمه أن يُطْلِعَ الرئيسَ على هذا الأمرِ، فراسله بيد الأخِ الذي يأتيه بالطعامِ، فلما سمع الرئيسُ بذلك أسرعَ بالمضي إليه وقال له: «يا ولدي لماذا استدعيتني»؟ فأجابه قائلاً: «بماذا أكافئُك يا أبي عن جميعِ ما عملتَه مع حقارتي»؟ فأجابه الرئيسُ: «وماذا عملتُ معك من الخيرِ»؟ فقال له: «خَيْرُك عليَّ كثيرٌ: بك استحققتُ لبس هذا الزي، بك سكنتُ هذه المغارةَ، بك بلغتُ أن أنظرَ ملائكةً، بك أُلهمتُ بعلمِ الغيبِ». فلما سمع ذلك قال له: «أأنت يا شقي تنظر ملائكةً وتعلم الغيبَ؟ أما قلتُ لك لا تصعد إلى المغارةِ لئلا تُضلك الشياطين»؟ فقال الراهبُ: «لا تقل هكذا يا أبي المكرَّم، إني بصلواتِك أنظرُ ملائكةً، وفي يوم الصعودِ ها أنا عتيدٌ أن أرتفعَ معهم إلى السماءِ بجسدي هذا، وإذا وصلتُ إلى هناك فإني أسألُ ربي يسوعَ المسيحَ أن يأمرَ بأن ترفعَك الملائكةُ أنت أيضاً، لتكونَ معي تعاين المجدَ الذي هناك». فلما سمع الرئيسُ هذا لطم على وجهِه وحدَّثه قائلاً: «لقد جُننتَ يا شقي، وضاع رُشدُك، ولكن على كلِّ حالٍ ها أنا مقيمٌ معك حتى أعاينَ آخِرَ أمرك، فإذا رأيتَ ملائكتَك الأرجاس، أعلمني». ثم أنه أمر برفعِ السُّلم، وأقام معه مصلياً الإبصالتس وصائماً، فلما كان اليومُ المُعيَّن لارتفاعِه نظر الشياطينَ قادمةً إليه، فقال: «لقد جاءوا أيها الأب». حينئذ احتضنه الرئيسُ وصرخ بصوتٍ جهوري: «أيها الرب يسوع المسيح ابن الله، آزر الأخَ المخدوعَ». فأرادوا أخذَه من يدِ الرئيسِ، فزجرهم باسمِ الربِّ، فما كان منهم إلا أن أخذوا وزرةَ الأخِ وغابوا مقدارَ ساعةٍ، وإذا بالوزرةِ ساقطةٌ نحو الأرضِ. فقال له الرئيسُ: «أنظرتَ يا شقي ماذا فعل الشياطينُ بوزرتِك؟ هكذا أرادوا أن يعملوا بك». ثم أنه أحضر السُّلم وأنزل الأخَ معه إلى الديرِ ورسم له أن يخدمَ في المخبزِ والمطبخِ مدة سنة، وبذلك ذلَّل فكرَه.
قال القديس قاسيانوس الرومي: «كان إنسانٌ شيخٌ اسمه إيرنيس، هذا منذ أيامٍ قلائل، كابدَ سقطةً يُرثى لها قدام أعيننا، إذ هزأت به الشياطين، فهبط من تلك الرفعةِ إلى قعرِ الجحيمِ بسببِ شظفِ الطريقِ الذي سلكه، إذ سكن البراري مدة خمسين سنةً مستعملاً تقشف السيرةِ والنسك، طالباً أبداً أطرافَ البريةِ والتفرّدَ أكثر من كلِّ أحدٍ، فهذا بعد الأتعابِ الكثيرةِ، تلاعب به إبليسُ وطرحه في سقطةٍ ثقيلةٍ، وسبَّب به للآباءِ القدماء الذين في البريةِ ولكلِّ الإخوةِ مناحةً عظيمةً، ولو أنه استعمل الإفرازَ لما لحقه ما قد لحقه. وذلك أنه تبع فكرَه في الأصوامِ والانفرادِ بعيداً عن الناسِ لدرجةِ أنه حتى ولا في يومِ الفصحِ المجيد كان يجيء مع باقي الآباءِ إلى الكنيسةِ كي لا يضطره الحالُ إلى أن يأكلَ مع الآباء شيئاً مما يوضع على المائدةِ، مثل قطاني أو غيره، لئلا يسقط عن الحدِّ الذي حدَّده لنفسِه من النسكِ، فهذا ظهر له الشيطانُ بشبهِ ملاكِ نورٍ، فسجد له وأقنعه أن يرمي نفسَه في بئرٍ عميقةٍ ليتحققَ عملياً عناية الله، وأنه لن يلحقه ضررٌ عظيمٌ لعِظم فضيلتهِ، ولما لم يميز بفكرِه من هو هذا المشير عليه بهذه المشورةِ لظلامِ عقلهِ، فطرح نفسَه في بئرٍ في منتصفِ الليلِ، وبعد زمانٍ عرف الإخوةُ أمرَه، وبالكدِّ والتعبِ الكثيرِ انتشلوه وهو بين الحياةِ والموتِ، ولم يعش بعد ذلك سوى يومين ومات في اليومِ الثالثِ، وخلَّف للإخوةِ حزناً ليس بقليلٍ. أما الأب بفنوتيوس، فلما بعثته محبتُه للبشرِ، أمر بأن يُقدَّم عنه قربانٌ مثل المتنيحين، ذاكراً أتعابَه الكثيرة وصبرَه على شقاءِ البريةِ».
وراهبٌ آخر كان ينظر دائماً في قلايتهِ ضوءَ سراجٍ، فانقاد لعدم التمييز، وقَبِلَ في بعضِ الأوقاتِ شيطاناً على أنه ملاكٌ، فأمره ذلك الشيطانُ أن يُقدِّمَ للهِ ولداً له كان معه في الديرِ لينال بذلك كرامةَ أبي الآباءِ إبراهيم. فانقاد لهذه المشورةِ لدرجةِ أنه كاد يتمِّمها بالفعلِ، لولا أن الغلامَ نظره يسنُّ السكينَ بخلافِ العادةِ ويُجَهِّز ما يربطه به، فهرب منه ونجا.
كذلك راهبٌ آخر اسمه نومينوس، هذا أظهر من ضبطِ الهوى مقداراً زائداً، ومكث سنين كثيرةً حابساً نفسَه في قلايةٍ، فهذا تلاهت به الشياطينُ فيما بعد وهزأت به بإعلاناتٍ ومناماتٍ أظهروها له، فتهوَّد واختتن بعد أتعابٍ وفضائل جزيلةٍ فاق بها جميعَ الإخوةِ، لأن الشيطانَ لما رام خديعته أراه مراراً مناماتٍ صادقةً ليحسِّن قبول نفاقِه، ويجعله حَسِنَ الانصياعِ لقبولِ الضلالةِ التي كان عتيداً أن يمليها عليه أخيراً، فأراه في بعضِ الليالي شعبَ المسيحيين مع الرسلِ والشهداءِ مظلمين مكمَّدين معبَّسين مغمومين من كلِّ خزي، ثم أراه شعبَ اليهودِ مع موسى والأنبياءِ متلألئ ضياءً، باشاً مستبشراً، وعرض عليه المُخادعُ قائلاً: «إن شئتَ نوال فرح وضياء هذا الشعب فتهوَّد واختتن». فيلوح من جميع ما قيل، أن السالف ذكرهم تلاهت بهم الشياطين لخلوِهم من نعمةِ الإفرازِ.
من كتابِ الدَّرج: المصدِّق المنامات يشبه من يريدُ أن يلحقَ ظلَّه ليُمسكَه، فإنَّ شياطينَ العجرفةِ ينذروننا في الحلمِ بما يكون مكراً منهم، فإذا تمت المنامات نتخشع نحن كأننا قد تقرَّبنا من نعمةِ النبوةِ، فيتعجرف فكرُنا جملةً، طائعين الشيطان. إن الشيطانَ هو روحٌ علاّمٌ بما في طقسِ الهواء، فإذا عرف أنه قد مات فلانٌ يسرع ويخبر به ويخدع الخفيفي العقول، وقد يتشكَّل دفعاتٍ بشكلِ ملاكِ نورٍ أو شهيدٍ من الشهداءِ، ويرينا ذلك في الحلمِ وإذا انتبهنا يملأنا فرحاً وأبهةً.
قال أحدُ الشيوخِ: حتى ولو ظهر لك ملاكٌ حقيقيٌ فلا تقبله بل حقَّر ذاتَك قائلاً: «أنا عايشٌ بالخطايا فلا أستحقُ أن أنظرَ ملاكاً».
جلس أحدُ الرهبانِ ناسكاً في قلايتهِ، فأراد الشياطين أن يخدعوه بصورةِ ملائكةٍ، وإنهم أنهضوه للذهابِ إلى اجتماع الكنيسةِ وأروه أنواراً، فجاء إلى شيخٍ وقال له: «يا أبانا، إن الملائكةَ تأتيني بصورةٍ وتقيمُني لأذهبَ إلى اجتماعِ الكنيسةِ». قال له الشيخُ: «لا تقبل منهم ذلك يا ولدي، إنهم شياطين، فإذا أتوك قل لهم: أنا متى أردتُ قمتُ، ومنكم لا أسمع». وفي الليلةِ التالية جاء الشياطيُن فنبَّهوه كعادتهم، فأجابهم بما قاله له الشيخُ، فقالوا له: «هذا الشيخُ السوء الكذاب إنما يخدعك، فقد أتاه أخٌ يستعير منه شيئاً كان عنده، لكنه كذب وقال: ليس عندي، وصرفه دون أن يعطيه شيئاً». فجاء الأخُ في الغداةِ إلى الشيخِ وأخبره بما كان، فقال له الشيخُ: «أمّا ما طلبه الأخ مني وكان عندي ولم أعطه فذلك لأني عرفتُ أنه شيءٌ يسبب له خسارةَ نفسِه، فرأيتُ أن أتجاوزَ وصيةً واحدةً ولا أتجاوز عشر وصايا كي لا ينتهي أمرُنا إلى الحزنِ، فأما أنت فلا تسمع من الشياطين الذين يريدون أن يخدعوك». وبعد أن دعَّمه الشيخُ بالتعليم صرفه إلى قلايته.
دخل راهبٌ إلى البريةِ وكان يصوم الستةَ أيامٍ، وفي اليوم السابع كان يأتي إلى الصلاةِ ويتناول الطعامَ، ولا يزيدُ عن الصلاةِ كلمةً، فهذا مضى إليه الشياطينُ وخدعوه في أشياءٍ كثيرةٍ وأنذروه بأمورٍ جرت في بلدانٍ مختلفةٍ، فصدَّق بما خُيِّل له وظن بالمخيلين له أنهم أرواحُ قواتٍ قديسةٍ، واتفق وقتئذ أن مضى ليفتقد أخاً مريضاً وتظاهر لقومٍ كانوا هناك كأنه يحكي عن غيرِه فقال: «هل يمكن لإنسانٍ أن يعلمَ ما يجري في العالمِ»؟ فلما سمعوه فهموا أنه هو المخدوع، فزجروه قائلين: «إن شَغلتَ فكرَك بمثل هذا الخداع فلا تَعُد إلينا». وللوقت انتبه وندم، فلما عادت الشياطين تخبره، دعاهم كذبةً، وللوقت تغيرت صورهم إلى حيواناتٍ مفزعةٍ وتهددوه وانصرفوا عنه.
وراهب آخر اسمه ولاس، قورنثاني العقل متشامخ، هذا جاء إلى البريةِ وسكن مع الآباءِ لعدةِ سنين، وأتقن التقشفَ وشظفَ السيرةِ إلى أقصى غايةٍ، فخُدع من الأُبهةِ وتناهى في العجرفةِ كثيراً، وأقنعه إبليسُ بأنَّ الملائكةَ تخدمُه في كلِّ ما يحتاج إليه، وكما حكى عنه رفاقُه، إنه في وقتٍ من الأوقاتِ وهو يُخيِّط الزنابيلَ في ليلٍ معتمٍ داجٍ أن رمى بمسلةِ الخياطةِ على الأرضِ فظهرت له شمعةٌ بفعلِ إبليسِ، فتعجرف واستكبر من هذا الحادثِ المرِّ، فاتفق أنَّ قوماً غرباءَ أحضروا إلى الإخوةِ فاكهةً، فأرسل الأب مقاريوس الطوباوي لكلِّ واحدٍ نصيباً بمقدار حفنةٍ، وأنفذ له ضمناً، فلم يأخذ ما أُرسل إليه، بل شتم وضرب موصِّلَه وقال له: «امضِ وقل لمقاريوس، ما أنا دونك لتُنفذ لي بركةً». فعلم الأب أنه قد خُدعَ، وبعد يومٍ مضى إليه ليعزيه، وقال له: «يا أخي لقد تلاهت بك الشياطينُ، فكُفّ واطلب من الله أن يرحمَك». فلم يُصغِ إلى كلامِه، فمضى من عندِه حزيناً متحققاً انخداعه، فلما رأى إبليسُ أنه قد انخدع له وانقاد إليه، تشكَّل له بشكلِ المخلصِ وأتاه بالليلِ مع شياطينِه كملائكةِ الربِّ حاملين أنواراً، وظهر له في كرةٍ ناريةٍ تخيَّل له في وسطها المخلص، وإن واحداً من الشياطين قال له إن المسيح قد أحب سيرتَك وقد جاء لينظرَك، فاخرج من قلايتِك ولا تعمل شيئاً آخرَ سوى أنك تقوم من بعيدٍ، وإذا نظرته قائماً وسطَ الكلِّ، خر له ساجداً، ثم ارجع إلى قلايتِك. فلما خرج ولاس وراء المصاف وحاملي الأنوار، وقف على بعدٍ وسجد لضد المسيح، وهكذا انخدع عقلُه المفسود لدرجةِ أنه جاء إلى البيعةِ في اليوم الثاني وبمشهدٍ من جماعةِ الإخوةِ قال: «إني لستُ في حاجةٍ إلى قربانٍ لأني بالأمس شاهدتُ المسيحَ». حينئذ ربطه الآباءُ بالحديدِ مدة سنةً كاملةً حتى كسروا عجرفتَه وكبرياءَه بسيرةٍ لا عجب فيها، وشفوا الضدَّ بالضدِّ على ما يقال. فإن كان مع غروس الفردوس نَبَتَ عودُ معرفةِ الشر والخيرِ، فلا عجب إن نبتت مع المناقبِ الشريفةِ أثمارٌ رديئةٌ تولِّد الموتَ، فيليق بالمفرِز أن يكونَ كلَّ حين حذراً، لأنه مراراً كثيرةً تصير الفضائلُ الجليلةُ أسباباً لسقطاتٍ عظيمةٍ، متى لم يحكمها محكم بنيةٍ متضعةٍ ذات إفرازٍ، وعلى ما كُتب: «رأيتُ صدِّيقاً هالكاً ببرهِ»، مع أن البرََِّ لم يكن سببَ الهلاكِ بل العجرفة.
وأيضاً شابٌ آخر إسكندري، كان رشيقاً ذكياً فطناً حسنَ السيرةِ، هذا بعد إحكامهِ سيرةً فاضلةً، وصل إلى ذروتها وبلغ غايتها بأتعابٍ كثيرةٍ وأعراقٍ جزيلةٍ، فتشامخ وتعجرف حتى أنه رفع عنقَه على جميعِ الآباءِ، بتيه وأُبهةٍ، وتجاسر على شتيمةِ الكلِّ وفي جملتهم شَتَمَ القديس أوغريس قائلاً: «إن كلَّ الراسخين لتعاليمِك مخدوعون، لأنه لا معلم غير المسيح وحده»، واستشهد حسب جهالته قائلاً إن المخلص نفسه قد جزم قائلاً لا تدعوا لكم معلماً على الأرضِ. وأظلمَ عقلُه لتعجرفِه، فانحطَّ انحطاطاً يُرثى له، حتى أنه غُلَّ بالحديد. ولقد كان كثيرون يتحدثون بشدةِ نسكِه، وقال قومٌ إنه كان يصوم ثلاثة أشهر لا يأكل فيها إلا ما كان يتناوله من القربانِ في يومِ الأحد مع ما يتفق له مِن الحشائش البرية. ولقد كانت لي أنا به خبرةٌ مع ألبيانوس الطوباوي، ففي وقتٍ من الأوقاتِ مضينا إلى الإسقيط وكان بيننا وبين الإسقيط أربعين مرحلةً، أكلنا فيها دفعتين وشربنا ماءً ثلاثة أيام وهو لم يذق فيها شيئاً، بل كان يتلو محفوظاته وما كنا نلحقه ماشياً. وهكذا ضبطه العدو أخيراً لما اقتنع برأيهِ وفي عروض ذلك أمسكته حمى محرقةٌ فما أمكنه الجلوس في القلايةِ، فمضى إلى الإسكندريةِ ولعل ذلك كان بسياسةٍ إلهيةٍ كما قال: دفع مسماراً بمسمارٍ. لأنه أسلم ذاتَه باختيارِه لعدم الإفراز، فوجد فيما بعد خلاصاً غيَر طوعي، فصار يحضر المشاهد وطرد الخيل، ومن كثرةِ أكلهِ وغرامهِ بشربِ النبيذ مال جداً لمحبةِ النساءِ، ولما شارف الوقوع في تلك البئرِ، حدث له، ولعله بسياسةٍ إلهية، أن مرض في عضوِ تناسلهِ مدة ستة أشهر حتى أن تلك الأعضاء تهرأت وسقطت منها وبها، وفيما بعد برئ وعاد عادماً تلك الأعضاء، فانتبه وذكر السيرة السمائية واعترف بجميعِ ما عرض له للآباءِ القديسين، ولم يفسح له الأجل فتنيح بعد أيامٍ قلائل.
وآخر اسمه أبطلما، عاش عيشةً يعسُر وصفُها، هذا أولُ أمرهِ سكن فوق الإسقيط في الموضع المعروف بالمفارج، وهو مكانٌ لم يسكنه قط ساكنٌ من الآباءِ، وكان بينه وبين الماءِ ثماني عشرة مسافة، واتخذ لنفسِه جرةً ولقَّانين (وعاءين) وكان يجمع الندى بإسفنجٍ من على الصخورِ في شهريْ كانون الأول وكانون الثاني ويعصره في تلك الأوعيةِ ويرفعه للصيفِ، ومكث على تلك الحال خمسَ عشرةَ سنةً لا يكلم أحداً، وتغرََّب من ملاقاةِ رجالٍ أبرارٍ ومخاطبتهم، وعَدِمَ التعليمَ الروحاني والتناولَ من الأسرارِ الطاهرة، فجعل يبحث عن حقائقِ الأمورِ وغوامضها، فجُنَّ، وصار يقول: «إن الأشياءَ ليس له مدبرٌ وإنها موجودةٌ مدبَّرةٌ منها وبها، فلأيِّ شيءٍ أُشقي نفسي، وأيُّ ثوابٍ يكونُ لمن يبلغ إلى هذا التعبِ»؟ فلما أجال في فكرهِ هذه الأفكار تَوَسْوَسَ وضاع عقلُه، فنزل إلى مصرَ، وهكذا أخذ يدور من مكانٍ إلى مكانٍ ليلاً ونهاراً مطرِقاً إلى أسفل وهو لا يحادث أحداً، وكان منظرهُ يُرثى له، كما كان كلُّ واحدٍ من النصارى يراه يبكي عليه إذ صار ملهاةً ولعبةً لمن لا يعرفُ سيرتنا، وقد لحقت به هذه المصيبةُ الكبرى لتيهِهِ وصلفِه وظنهِ بنفسِه أنه قد فاق سائرَ الآباءِ ظاناً بنفسِه ما ليس هو فيه، ومن حيث أنه لم يصغِ إلى مشورةِ أحدٍ من الآباءِ فقد هبط هبوطاً فظيعاً ومات أشرَّ ميتةً. ويشبه حالُه حالَ شجرةٍ مورقةٍ وبالأثمارِ مخصبة، ضربتها ريحٌ شديدةٌ فسقطت بغتةً وتعرَّت من أوراقها وأثمارها وبقيت يابسةً، وهذا هو ما يلحقُ بمن يتدبر برأي نفسِه ولا يسمع مشورةَ الحكماءِ.