الرؤيا والسيد
قال إشعياء فى مطلع الأصحاح السادس : « فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل ، فإذا قارنا هذا بما جاء فى إنجيل يوحنا الأصحاح الثانى عشر والعدد الحادى والأربعين : « قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه » ... أدركنا أن السيد المسيح هو الذى ظهر لإشعياء فى مجده وجلاله وعظمته فى هيكل اللّه فى أورشليم ، ... وقد حدثنا إشعياء عن وقت الرؤيا ، غداة وفاة الملك عزيا ، ولعل إشعياء كان ذهنه مشغولاً وممتلئاً بعزيا الملك ، وكان عزيا من أعظم الملوك الذين ظهروا فى حياة إسرائيل ، ... ولكنه فعل فى أخريات حياته شيئاً تعساً محزناً ، إذ حاول أن يكول ملكاً وكاهنا معاً ، فطرده اللّه لكبرياء قلبه ، بعد أن أصيب بالبرص ، وبقى فى بيت برصه إلى يوم وفاته ، ... إنه على أية حال كان يمثل الإنسان البشرى العظيم ، ونقطة النقص والضعف اللاحقة بعظمته .. لكن إشعياء تحول من الملك الناقص ، إلى الملك القدوس ، رب الجنود ، الذي له وحده عرش الجلال والكمال ، ... تحول من المشهد الأرضى إلى اللّه الذى السماء ليست بطاهرة أمام عينيه ، وإلى ملائكته ينسب حماقة !! ... والمسيح دائماً هو مثال الكمال ، عندما ما نفجع فى برص الناس ونقصهم وضعفهم وخيانتهم وقصورهم ، ... على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر ، إذ تكشف عن الملك الدائم ، عندما يتحول الملك من إنسان إلى آخر ، أو عندما نتطلع فلا نجد أحداً يملأ المكان ، ويستولى علينا اليأس والقنوط ، ... مات عزيا الملك وبقى الملك السرمدى الأبدى الحى الذى لا يموت ، وهى الرؤيا التى نحتاج إليها فى أتعس الأوقات وأحلك الليالى ، عندما صرخ دوجلاس زعيم العبيد فى الولايات المتحدة ، وهو يعدد الظروف التعسة القاتلة التى تواجه العبيد البائسين هناك وهو يقول : كل شئ ضدنا !! .. الظروف ضدنا !! .. الناس ضدنا !! .. صاحت فيه امرأة زنجية : ولكن يا دوجلاس اللّه حى ولم يمت !! .. فثاب الرجل إلى رشده ، وأدرك أن العروش على الأرض تهوى ، ولكن اللّه يسود فى عرشه ويملك ويحكم !! .. هل نستطيع أن نرى اللّه مستقراً وجالساً على كرسى عال ومرتفع مهما أحاط بنا الظلام والفزع والضيق والحزن والأضطراب ؟؟ .
الرؤيا والملائكة
لم يكن إشعياء محتاجاً أن يرى اللّه فحسب ، بل كان عليه أن يرى كيف يخدم السرافيم اللّه والكلمة « سرافيم » من أصل عبرى معناه « الملتهبين » « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة » " مز 104 : 4 " وكان لكل واحد ستة أجنحة ، فهناك جناحان للطيران ، وبهما يطير ملتهباً فى غيرته لخدمة اللّه !! ... والخدمة المسيحية ، لابد أن تكون هكذا ، ... كان واحد من خدام اللّه الصينيين ، وكان غيوراً للمسيح ، فى الولايات المتحدة ، ينتقل فى القطارات وهو يوزع النبذ المسيحية ، وذات مرة رأى أمامه سيدة تبدو غنية وأنيقة ، وقدم لها نبذة عن الخلاص ، ... وإذا سألته عما فيها قال : إنها قصة جميلة أرجو أن تقرأيها ، فصاحت في ووجهه : لا أريد ، وألقتها فى وجهه ، .. وقد راعه أكثر أن الكمسارى قال له : إن هذا ممنوع وتألم الرجل ، وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن يمنع هذا فى بلد خرج منه المرسلون إلى العالم لينادوا ببشرى الخلاص ؟ ... ولكن واحداً من الجالسين تقدم إليه وهز يده قائلا : إنك هززت قلبى من الأعماق ، إذ أرى أحدهم يشتغل بعمل سيده !! ... كان هذا الخادم يأخذ أجنحة السرافيم وهو يقف فى الطريق يصلى ويرنم بالأغانى المسيحية ، وقد هز نفوساً كثيرة بحياته الملتهبة فى خدمة سيده !! ... على أن السرافيم يعطوننا صورة أخرى ، صورة الإتضاع فى حضرة اللّه ، إذ يغطى كل واحد منهم وجهه بجناحين ، لأنه لا يجسر أن ينظر إلى وجهه اللّه !! ... وفى الحقيقة إن الاتضاع من أهم صفات الخادم المسيحى ، وما ير هذا الخادم نفسه على وضعها الحقيقى فى حضرة اللّه ، كما كان يرى داود نفسه كبرغوث أو كلب ميت أو لا شئ على الإطلاق ، ... فإنه لا يستطيع أن يقوم بالخدمة أبداً !! .. تقابل أحد خدام اللّه مع عضو ثرثار ، وكان هذا العضو يتحدث كثيراً ، ويكرر الكلام ، والراعى مستعجل يريد الذهاب إلى مكان ما ، وأخيراً قال له : أنا مشغول وينبغى أن أذهب بسرعة !! ... ألا تعرف من أنا !! ؟ ... وقال العضو : نعم أعرف ، فانت الواعظ !! ... ولكن هذه الكلمة رنت فى أذن خادم اللّه وقال : هل ينظر الناس إلى أنا ، وهل أوجه الالتفات إلى نفسى أم إلى المسيح!!؟… وذهب إلى بيته ، وأغلق على نفسه ، وظل هناك حتى صلب الإنسان العتيق … وعاد ليعظ : « ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص » " يو 3 : 03 ز .. كان هناك واعظ ينقلونه من كنيسة إلى كنيسة ، لأنه كان جافاً ويترك الجفاف فى كل مكان ذهب إليه!!.. وقال له الشخص المسئول فى المجمع : أنا لا أستطيع أن أعينك فى كنيسة ، إنهم يصفونك بالقصبة العجوز الجافة … وبكى الرجل العجوز وقال : أعطنى هذه الفرصة الأخيرة … فعين فى قرية ، وفزعت القرية إذ سمعت بخبر تعيينه .. لكنه دخل إلى مخدعه ، وصارع مع اللّه ، وعندما خرج ، خرج إنساناً آخر ، حتى كانوا يصفونه بالقول : إن القصبة العجوز اشتعلت فيها النار بعد الاتضاع والبكاء فى حضرة اللّه !! … وكان الجناحان الأخيران يغطيان القدمين ، وهو الأمر الثالث فى الخدمة ، ونعنى به الاحترام الكلى لعمل اللّه ورسالته ، … تعود أحدهم أن يدخل الكنيسة دون أن يرفع قبعته ، وإذ سأله الراعى عن السر فى ذلك … قال : لا تؤاخذنى لعدم رفع القبعة ، فقال الراعى : لا مؤاخذه . فهذا ليس بيتى !! … إن من أهم مقومات الخدمة المسيحية الإجلال والاحترام الكامل للّه وبيته وخدمته ورسالته !!
الرؤيا والنفس
بعد أن أبصر إشعياء اللّه ، والملائكة ، رأى نفسه وحالته فصاح : « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين » ( إش 6 : 5 ) هذا ما أحس به إشعياء وهو فى بيت اللّه ، ونحن فى العادة نرى تصرف الناس فى بيت اللّه يختلف إلى حد كبير عن هذه الرؤيا إذ عندما يحضرون ، ما أكثر ما يهنئون الواعظ على العظة البليغة الممتازة الى ألقاها ، وينصرفون إلى الراعى دون أن يروا أنفسهم !! ... وقال أحدهم : إن الكثيرين يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم يههنئون أنفسهم بالبركة والتعزية التى حصلوا عليها ، ثم يأكلون طعامهم ويشربون شرابهم ، ويمكن أن يقال لهم : لقد أكلتم ، واحتسيتم وامتلأتم من القهوة أو الشاى ، لأنكم لم تروا أنفسكم وخطاياكم لكى يصيح الواحد منكم : ويل لى إنى هلكت » ..
جاء فى قصة قديمة أن شاباً غنياً استجاب لرسالة المسيح ، وعمده الرسول يوحنا ، وعندما علم أبوه بذلك خيره أن يختار فى أربع وعشرين ساعة بين دينه القديم وثروة أبيه ، أو المسيح يسوع !! ... وقال الشاب : إنى أختار المسيح ، وخرج من بيت أبيه وعاش فى أوساط المسيحيين الفقراء مدة عامين ، ... وفى يوم عيد الميلاد كان يتجول فى غابة ، وكانت نفسه فى أقسى حالات التجربة ، وتصادف أن تقابل مع كاهن وثنى ، وسأله الكاهن : لماذا يتجول بعيداً عن أصحابه وهداياهم !! ؟ … ثم ابتدره – على ما تقول القصة – بالسؤال : هل يمكن أن يعطيه – أى للكاهن - اسم المسيح ، وفى مقابل ذلك سيعطيه الكاهن ما يشتهى من ثروة وجاه ونفوذ ؟!! ... وقبل الشاب المبادلة ، وسار فى إتجاه بيته القديم ، ليجد أباه فى ضجعة الموت ، وقال له الأب : إنى آسف يابنى لأنى عاملتك هذه المعاملة القاسية ... هل لك أن تعلمنى عن السر المسيحى ؟ وارتبك الشاب وهو يقول : « انتظر يا أبى قليلا ... حتِى أشرح لك السر !! . وقال له الأب : لا أستطيع الانتظار ، ومات بين يديه !! ... وصرخ الشاب وهو يدرك أن سر تلعثمه راجع إلى أنه خضع للتجربة ، فبكى وهو يقول « ويل لى إنى هلكت » وانحنى أمام اللّه تائباً !! ... لقد عرت الرؤيا الإلهية إشعياء وشعبه ، فرأي البرص يملأه ويملأ الأمة بأكملها !! ... عندما رأى بطرس جلال المسيح صاح : « أخرج من سفينتى يارب لأنى رجل خاطئ» "لو 5 : 8 " نرى هل رأيت هذه الصورة أيها القارئ وأنت فى حضرة اللّه ؟!! .
الرؤيا والتطهير
ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك فى الحال ما قاله الرب على لسانه : « هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصـــــوف » ( إش 1 : 18).. ولم يحتج إلى وقت حتى يظهر ، إذ طار واحد من السرافيم ، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه ، والسؤال : لماذا هى جمرة ، ولماذا أخذت من على المذبح !!؟ إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس النارى . .. ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفارى ... واللّه ينتزع خطايا إشعياء وخطاياى وخطاياك بفداء المسيح ، وتأثير الروح القدس ، ... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه ، أو ينظر إليه بغضب ، أو يذله بها، بل سارع فى الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها .
جاء فى قصة أن أحد المؤمنين القديسين بعد أن تتجدد عرض للكثير من الضعفات والتجارب التى أسقطته ، وحلم ذات يوم أنه ذهب إلى السماء ، وإذ رأى المسيح أحنى رأسه خجلا ، وقال : يا سيدى إن خطاياى كثيرة ... وأنا حزين عليها !! ... ولشدة دهشته سمع السيد يقول : « إنى لا أذكر البتة خطية لك ، لقد محوتها جميعاً !! ..
الرؤيا والرسالة
«من أرسل ومن يذهب من أجلنا ؟ » .. " إش 6 : 8 " ونحن نلاحظ هنا أن اللّه لم يوجه الدعوة مباشرة إلى إشعياء أو يأمره بها ، لقد أعطاه مطلق الحرية للاختيار أو الرفض ، … وهو القائل دائما : إن أراد أحد أن يأتى ورائى !! .. " مت 16 : 24 “ ومن العجيب أن الدولة لا تترك لأحد أبنائها الحرية ليقبل الواجب أو يرفضه ، فالمواطن لا يدفع الضريبة بالاختيار ، والجندى لا يذهب إلى الجندية بملء إرادته ، لكن اللّه لا يرغم أحداً على الرسالة التى يلزم أن يؤديها !! .. إنه يطلق النداء العام ، وعليك أن تقبل أو ترفض ، .. وقد أجاب إشعياء على الرسالة بالإيجاب وهو يقول : « ها أنذا أرسلنى » … " إش 6 : 8 "… ومع أن الرسالة كانت من أصعب الرسائل وأقساها ، إذ تحدث عن خراب بلاده لأنها لا تطيع اللّه ، والنفس التى لا تطيع ، معرضة للضياع على الدوام !! ،كان على الرجل الذى ترك حياة القصور أن يدفع الضريبة ، فى سبيل الخدمة ، … وقد فعل على أعظم وجه يمكن أن يفعله نبى أو رسول أو خادم للّه فى الأض !! ..
إشعياء والفكر اللاهوتى فى سفره
سفر إشعياء غنى بالأفكار اللاهوتية ، ومع أنه ليس من السهل حصرها فى صفحات، إلا أنه يهمنا أن نركز النظر على أهم صورها !! .. ويمكن أن نراها بوضوح فى :
سيادة اللّه
ومن الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية اللّه فهو ، يذكر : « أنا الرب وليس آخر ، لا إله سواى ... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيرى . إله بار ومخلص . ليس سواى » " إش 45 : 5، 21 " .. هذا الإله المهيب العظيم المرتفع ، الذى يعلو على كل متعظم وعال : « أدخل إلى الصخرة واختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته ، توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده فى ذلك اليوم . فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال ، وعلى كل مرتفع فيوضع » " إش 2 : 10 - 12 " ... وستسقط أمام عظمة اللّه كل الآلهة التى هــى من صنــــــع الناس : « وامتلأت أرضهم أوثاناً ، يسجدون لعمل أيديهم ، لما صنعته أصابعهم ... وتزول الأوثان بتمامها ... فى ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التى عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش ليدخل فى نقر الصخور ، وفى شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض » " إش 2 : 8 ، 18 ، 20، 21 " « الذين يصورون صنما كلهم باطل ومشتهياتهم لا تنقطع وشهودهم هى . لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى .. من صور إلهاً وسبك صنما لغير نفع » ( إش 44 : 9 ، 10 ) .. وأمام سيادة اللّه وعظمته ، ما هو الإنسان ، مهما علا شأنه وامتدت قوته ؟ أنه كما صوره إشعياء : « كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة لأنه ماذا يحسب » " إش 2 : 22 " .. « الجالس على كرة الأرض وسكانها الجندب الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن . الذى يجعل الغطاء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل … فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس ؟ ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه . من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة ، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد . لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقى عن الرب وفات حقى إلهى . أما عرفت أم لم تسمع ؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا ويعيا . ليس عن فهمه فحص . يعطى المعيى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً وأما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " إش 40 : 22 ، 23 ، 25 - 31 " .
قداسة اللّه
وقد سمع إشعياء فى الهيكل هتاف السرافيم : « قدوس قدوس قدوس » ، والتعبير فى مفهومه العبرى تعبير عن القداسة الكلية المرتفعة المتعالية ، وهى عندنا - كمؤمنين بالثالوث - هى الصفة الإلهية للاب والابن والروح القدس وهى ليست مجرد الانفراد والعزلة عن الخطية ، أو الكمال الأدبى المطلق ، بل هى - أكثر من ذلك - السمو المرتفع الذى ينفرد به اللّه وحده !! .. وهذه القداسة هى التى لا يمكن أن تتقابل مع الخطية أو تتهاون معها ، .. والخطية هى القذارة والاتساخ والبرص ، ولهذا صرخ إشعياء فى التو والحال : « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشقتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6 : 5 " ... والخطية هــى العصيان : « ربيت بنين ونشأتهــــم أما هم فعصوا على ّ » " إش 1 : 2 " وهــــى المرض : « من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية . لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت » .. " إش 1 : 6 " وإشعياء يؤكد أن عقابها رهيب ، وأن يوم اللّه لابد أن يقضى على الخطية والخطاة .
الإيمان باللّه
والإيمان ، عند إشعياء ، يرتبط بالسكينة والهدوء ، والاطمئنان والأمن : « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » " إش 7 : 9 " « من آمن لا يهرب » " إش 28 : 16 " « لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم » " إش 03 : 51 ".. وهو الذى يعطى الإنسان السلام العميق فى وسط زوابع الحياة وعواصفها !! ..
خلاص اللّه
وقد رأى إشعياء عمانوئيل ، والابن العجيب ، الإله السرمدى ، يتدخل بالخلاص فى حياة الأمة ، ويكفى أن نركز أبصارنا آخر الأمر على الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء ، .. وقد صاح جيروم عندما بدأ فى ترجمته من العبرانية إلى اللاتينية وهو يقول : « بالتأكيد إن هذا الأصحاح من مبشر فى العهد الجديد أكثر منه من نبى فى العهد القديم !! .. وقال ديلتش العالم الألمانى العظيم فى اللغة العبرانية والمفسر المشهور فى القرن التاسع عشر : « إن الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء ، يبدو كما لو أن كاتبه كتبه وهو تحت الصليب فى الجلجثة ... إن هذا الأصحاح هو الأصحاح المركزى ، إنه أعمق وأسمى أصحاح ، فى العهد القديم » ، وقد حاول البعض أن يعتبره موجهاً إلى إسرائيل ورمزاً له ، لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يفسروا كيف ينطبق هذا على إسرائيل فى الأوضاع المختلفة ، وهو يشير إلى فرد بوضوح لا يقبل شكاً ، بل إن هذا الأصحاح يتحدث عن شخص سيكون ضحية لأجل آخرين وإسرائيل لم يكن فى يوم من الأيام هذه الضحية ، .. إن هذا الأصحاح هو حديث عن المسيح لا سواه !! .. ولعله من الملاحظ أن الجزء الأخير من الأصحاح الثانى والخمسين ، وهو مرتبط تماماً بالأصحاح الثالث والخمسين ، قد تحدث عن مجد المسيح، قبل أن يتحدث عن اتضاعه ، وهو يرينا الحقيقة المؤكدة قى قصد اللّه الأزلى ، أن الصليب سينتهى إلى المجد ، وهذا المجد ليس أكيداً فحسب ، بل هو عظيم ورائع أيضاً !! .. فإن نصرته ستكون حاسمة ، وستسكت الملوك والأمراء والأمم والأجيال!!..
ومن المؤسف أن إسرائيل كثيراً ما رفض أن يصدق ما أعلنه الرب ، وأظهر به ذاته وذراعه ، ... وقد نبتت آلام عبد الرب أو المسيح من مولده فهو العود الرطب الذى نبتت فى الأرض اليابسة ، وجاء من أم فقيرة قروية ، ولم يكن له أين يسند رأسه ، ومع أنه أبرع جمالا من بنى البشر ، إلا أن الحياة القاسية التى وجد فيها ، لم تجعل الناس يتطلعون إليه ليبصروا جماله أو يشتهوا منظره ... إن مأساة البشر أنهم ينظرون إلى الجمال عندما تحــــف به المظاهر الخداعة ، والأوضاع الشكلية ، .. وعندما جاء المسيح إلى أرضنا خلواً من هذه المظاهر احتقره الناس ، ولم يحتقروه فحسب ، بل خذلوه أيضاً ، أو فى لغة أخرى ، إن الاحتقار لم يكن سلبياً ساكناً فحسب ، بل أكثر من ذلك كان متحركاً موجعاً ، قد يحتقر إنسان آخر دون أن يتعامل معه ، ويظل احتقاره تعبيراً دفيناً فى القلب ، ولكن المسيح لم يحتقر فحسب ، بل خذل من الناس الذين رفضوا مجيئه ونداءه ورجاءه وشركته . وقد تحول هذا إلى وجع عميق فى قلبه . وإلى حزن عميق فى نفسه ، فحوله إلى رجل أوجاع ومختبر الحزن . وما يزال المسيح إلى اليوم يعانى من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه ، ويخذلون آماله فيهم ، ومايزال يبدو أمامنا ، وقد رفضه الناس ، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق . ومن الملاحظ أن النبى كشف عن الألم النيابى للمسيح ، إذ أن الذين رأوا الألم فى ظاهره ظنوه ألماً أصيلا أو عقاباً : « ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من اللّه مذلولاً » .. " إش 53 : 4 " .. لكن الأمر لم يكن كذلك ، بل كان الألم النيابى الذى يحمله إنسان لأجل آخرين ، وقد حمل المسيح أحزان الناس وأوجاعهم ، إذ رفعها عن كاهلهم، لقد جال هو فى أرض فلسطين ، ورأى المرضى والمتألمين والحزانى ، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم ومراضهم وفى سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأن ... على أنه فى المعنى الأعمق ، حمل عنا أوجاع الخطية وشرها وإثمها على الصليب ، ولم تكن الآلام النيابية آلاماً هينة ، بل كانت فى منتهى القسوة والعنف ، فهو لم يجرح من أجل معاصينا فحسب ، بل سحق أيضا بالحزن والعار الذى كسر قلبه ... ، ولم يؤدب ، بل ضرب بالسياط ، وقد كان هذا من أجلنا نحن العصاة الأثمة المتمردين ، ولم يكن هناك من سبيل إلى الخلاص من عصياننا وشرنا وتمردنا والعودة إلى السلام والصحة ، إلا بآلامه من أجلنا ، فهذه آلام كفارية تكفر عنا أمام اللّه ، وفى الوقت نفسه مطهرة تشفينا ، وتعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا !! ... لقد ضللنا وأثمنا ، ولكنه كان هو حمل اللّه الذى يرفع خطية العالم !! ..
على أنه من الواضح أيضاً أن آلام المسيح لم تكن قهراً أو رغماً عنه ، قد يؤخذ الجندى ليموت من أجل بلده ، ولكنه يؤخذ فى كثير من الأحايين قهراً ، أما المسيح فقد كان موته اختيارياً تطوعياً . ظلم فقبل الظلم والمذلة ، دون أن يحتج أو يشكو ، ولقد كان مثلا عجيباً فى تحمل الضغط والدينونة عندما حكم عليه ، وهكذا بدا فى موته عظيماً ، لأنه تطوع بهذا الموت لأجل الآخرين !! .. ومن العجيب أن تكون هذه الآلام برضى اللّه وسروره ، إذ سر بأن يسحقه بالحزن ، وقد سر اللّه بهذه الآلام إعلاناً عن محبته للخطاة ، وتأكيداً للنصر الذى سيتأتى عنها ، وقد كانت هذه مشورة الرب لخلاص البشر !! ..
كان إشعياء - كما أسلفنا - يعنى « خلاص الرب » وقد أدنانا - فى حديثه عن سيادة الرب ، وقداسته ، والإيمان به - من الخلاص العجيب الذى أعده لنا اللّه كاملا على هضبة الجلجثة ، والذى يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم : التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا اللّه وليس آخر » .. !! .. " إش 45 : 22 " .