3. إيليَّا يلتقي بآخاب:
"فكان كلام الربإلىإيليَّا التشبِّي قائلًا:
قم انزل للقاء آخاب ملك إسرائيل الذي في السامرة،
هوذا هو في كرم نابوت الذي نزل إليه ليرثه" [17-18].
بموت نابوت وأولاده ظنّ آخاب وإيزابل بأن هذه المسرحيَّة قد انتهت وتحقَّق حلم آخاب بأبسط الطرق. استراح قلب آخاب وتهلَّل بما ملك، ولكن عينيّ الرب تتطلَّعان إلى المظلومين. يقول حبقوق النبي: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشرّ، ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين وتصمت حين يبلع الشرِّير من هو أبرّ منه، وتجعل الناس كسمك البحر، كدبابات لا سلطان لها" (حب 1: 13-14).
إله الحق أرسل إيليَّا النبي إلى المشترك في جريمة القتل لكي يرث. حدث هذا في اليوم التالي للجريمة (2 مل 9: 26)، فلم يتمتَّع بالكرم أكثر من ساعات قليلة، قبل أن يضع خطَّته لتجميل الكرم كان القضاء الإلهي قدر صدر ضدَّه.
عندما أراد الله أن يقدِّم للملك رسالة للتشجيع بالنصرة على بنهدد أرسل إليه واحدًا من الأنبياء في كل مرة. أمَّا الآن فإذ احتاج الأمر إلى موقف فيه جرأة وقوَّة للحديث بصراحة عما سيحل بالملك وأسرته فالأمر محتاج إلى إرسال أب الأنبياء، إيليَّا، يقدِّم له الحكم الإلهي الصادر ضدَّه كقاتلٍ وظالمٍ.
النبى ايليا يوبح آخاب و إيزابل
"وكلمه قائلًا: هكذا قال الرب:
هل قتلت وورثت أيضًا؟
ثم كلمه قائلًا: هكذا قال الرب في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا" [19].
لقد ورث الكرم بسفك دماء بريئة ولم يدرك أنَّه "ويل للباني مدينة بالدماء، وللمؤسس قرية بالإثم" (حب 2: 12).
هل لحست الكلاب دم آخاب في نفس الموضع الذي فيه لحست دماء نابوت اليزرعيلي؟ تحقَّق هذا مع إيزابل، أولًا لأنَّه كما سلم آخاب الأمر بين يديها وأعطاها خاتمه لتحقِّق خطَّتها، فصار سفك دمها في هذا الموقع إنَّما هو سفك دم آخاب، وما فعلته الكلاب بجثمانها كأنَّما تم مع آخاب نفسه. ولحست الكلاب دم آخاب عند بركة السامرة حيث غسلت مركبته وسلاحه هناك بعد أن نال جرحًا قاتلًا في رامة جلعاد، ويرى البعض أنَّه في هذا الموقع رجم نابوت (2 مل 22: 38). أمَّا ابنه يورام فقد قُتل بالسهم في حقل نابوت اليزرعيلي، وحتما لحست الكلاب دمه، وربَّما نهشت جثمانه (2 مل 9: 25-26). كما لحست الكلاب دم إيزابل ونهشت جثمانها في ذات الحقل.
"فقال آخاب لإيليَّا: هل وجدتني يا عدوي؟
فقال: قد وجدتك، لأنَّك قد بعت نفسك لعمل الشرّ في عينيّ الرب" [20].
لاحظ آخاب على علامات وجه إيليَّا أنَّه في حالة غضبوثورة، وأدرك أن الله بعثه ليقدِّم رسالة مُرَّة. لهذا حسبه عدوه: "هل وجدتني يا عدوي؟" لقد ظنّ الملك أنَّه توجد عداوة شخصيَّة بينه وبين النبي، لكن إيليَّا النبي أوضح له أنَّه هو عدوّ نفسه، إذ باعها للشرّ في عينيّ الرب. فالإنسان الشرِّير عدوّ نفسه، يبيعها فيصير عبدًا للخطيَّة وكما يقول الرسول: "وأمَّا أنا فجسدي مبيع تحت الخطيَّة" (رو 7: 14)، لأن الخطيَّة وهي متَّخذة فرصة بالوصيَّة خدعتني بها وقتلتني" (رو 7: 11).
كان يليق به أن يدرك خطأه ويتَّضع عوضًا عن أن يواجه النبي بثورة ويتَّهمه بالعداوة. مع أنَّه في آخر لقاء معه بعد قتل كهنة البعل كانا صديقين (1 مل 18: 46). لكن الخطيَّة التي ارتكبها أثارت فيه الشعور بأن الله نفسه صار عدوًا له، وبالتالي يكون نبيِّه.
اعتبر الملك أن من ينطق بالحق يصير عدوًا له. وكما كتب القدِّيس بولس إلى أهل غلاطية: "أفقد صرت إذا عدوًا لكم لأني أصدق لكم؟!" (غلا 4: 16).
جعلت الخطيَّة من الملك إنسانَّا جبانًا، كمن يهرب من مواجهة الحق، لذا في رعبٍ قال له: "هل وجدتني يا عدوِّي؟" كانت رؤيته لإيليَّا كرؤية بيلشاصَّر لليد الخفيَّة التي كتبت أمامه على الحائط، تعلن الحكم الإلهي الصادر ضدُّه، فاضطرب واصطكَّت ركبتاه وهما ترتعشان رعبًا.
أجابه: "قد وجدتك"، فإنَّك لن تقدر أن تهرب من عينيّ الله ولا من يده. لقد أرسلني إليك.
"هانذا أجلب عليك شرًا،
وأبيد نسلك،
وأقطع لآخاب كل بائلٍ بحائطٍ ومحجوزٍ ومطلقٍ في إسرائيل.
واجعل بيتك كبيت يربعام بن نباط وكبيت بعشا بن أخيّا،
لأجل الإغاظة التي أغظتني ولجعلك إسرائيل يخطئ" [21-22].
اللعنة التي سقط تحتها آخاب تشبه تلك التي سقط تحتها يربعام وبعشا (1 مل 14: 10-11؛ 16: 3-4).
"وتكلَّم الرب عن إيزابل أيضًا قائلًا:
إن الكلاب تأكل إيزابل عند مترسة يزرعيل" [23].
في المدن القديمة كان يخصِّص موضع خارج السور تُلقى فيه البواقي وجثث الحيوانات والطيور الميِّتة. في هذا الموضع تحوم الطيور الجارحة وتعيش الكلاب المتوحِّشة حيث تجد طعامها.
"من مات لآخاب في المدينة تأكله الكلاب،
ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء.
ولم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشرّ في عينيّ الرب،
الذي أغوته إيزابل امرأته" [24-25].
صار آخاب مثلًا رديئًا وفريدًا لمن يبيع نفسه لعمل الشرّ في عينيّ الرب، مسلِّمًا حياته في يد زوجته الوثنيَّة التي لم يتسلَّمها من الرب بل من الشيطان. لقد أحكمت هذه الشرِّيرة السيطرة على رجلها كما على المملكة.
يرى القديس أمبروسيوس
أن من نظر إلى امرأة ليشتهيها يرتكب ما فعله آخاب وإيزابل اللذين قتلًا وورثا ما ليس من حقِّهما. [إنَّك تتطلَّع إلى ممتلكات الأيتام وتسحبهم من أرض آبائهم[226]].
* عندما تتوق نفوسنا إلى الله الحيّ (مز 83: 3) تكون الشهوة (المقدَّسة) طعامنا. ولكن عندما يشتهي أحدنا زوجة الغير تصير الشهوة طعام وحوش مفترسة، وذلك كشهوة آخاب مثلًا، وكتصرف إيزابل بخصوص كرم نابوت اليزرعيلي[227].
العلامة أوريجينوس
"ورجس جدًا بذهابه وراء الأصنام،
حسب كل ما فعل الأموريُّون الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل" [26].
4. اتِّضاع آخاب:
"ولما سمع آخاب هذا الكلام شقَّ ثيابه،
وجعل مسحًا على جسده،
وصام واضطجع بالمسح ومشى بسكوت" [27].
إذ سمع بالحكم الإلهي على فم إيليَّا النبي قدَّم توبة؛ مزَّق ثيابه، ولبس المسوح وصام، وكان يسير حافي القدمين في صمت. ارتدى ثوب الصوم المقدَّس.
* "لذلك سيطر عليهم كبرياؤهم، تغطُّوا بإثمهم وشرُّهم" (مز 73: 6). فالإثم يوفِّر غطاءًا رديًا، وإن أراد أحد أن يكسونا به، يجب أن نخلعه، وإلاَّ أتى معنا إلى القضاء. وإن حاول أحد أن يخلع عنَّا رداءنا الروحي الذي تسلَّمناه، اخلعوا أنتم ثوب الإثم والبسوا غطاء الإيمان والصبر الذي بهما غطَّى داود نفسه في الصوم، لئلاَّ يفقد ثوب الفضيلة. والصوم نفسه غطاء، فحقًا ما لم يغطِّ الصوم المقدَّس يوسف لعرَّته الزانية الشهوانيَّة (تك 39: 12). لو كان آدم قد اختار أن يغطِّي نفسه بذلك الصوم ما تعرَّي! لكن لأنَّه تذوَّق من شجرة معرفة الخير والشرّ، معاندًا الحَرم السماوي، ومتعدِّيًا للصوم الذي فرض عليه بتناوله طعامًا "الانصياع للشهوة الحسِّيَّة"، فقد عرف أنَّه عريان! (تك 3: 6-11). لو صام لحفظ ثوب الإيمان وما رأى نفسه عاريًا. فلننأى نحن عن تغطية ذواتنا بالإثم والسكر، لئلاَّ يُقال عن أحدنا "لبس اللعنة كثوب!" (مز 109: 18). فقد كسى آدم نفسه بكساء رديء، وراح يتلمَّس أغطية من أوراق الشجر، لهذا نال حكم لعنة[228].
القديس أمبروسيوس
"فكان كلام الربإلىإيليَّا التشبِّي قائلًا:
هل رأيت كيف اتَّضع آخاب أمامي؟
فمن أجل أنَّه قد اتَّضع أمامي لا أجلب الشرّ في أيَّامه،
بل في أيَّام ابنه أجلب الشرّ على بيته" [28-29].
عجيبة هي مراحم الله الفائقة، وصلاحه، فإنَّه يشتهي خلاص الكل. يترقَّب دائمًا توبة كل إنسان لكي يفيض عليه من خيراته.
* هل قرأنا عن أحد بين الملوك أشرّ من آخاب، إذ يقول عنه الكتاب:"ولم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشرّ في عينيّ الرب"...؟ يا للندامة السعيدة التي تجتذب إليها عينيّ الرب، والتي باعترافها بالخطأ غيَّرت الحكم الصادر عن غضب الله![229]
* عندما اجتمع الشعب في المصفاة أعلن صموئيل صومًا فتقوَّوا وبهذا غلبوا العدوّ (1 صم 7: 7). هجوم الآشوريِّين تحطَّم بقوَّة، وقوَّة سنحاريب تهشَّمت بدموع الملك حزقيا ومسوحه واتِّضاعه بالصوم. وأيضًا مدينة نينوى أثارت بالصوم حنوّ الرب ونزعت تهديدات غضبه... آخاب أكثر الملوك شرًّا بالصوم وارتداء المسوح نجح في الهروب من حكم الله أجل دمار بيته إلى أجيال لاحقة[230].
* خطيَّة آخاب وخطيَّة ايزابيل واحدة، لكن إذ تاب آخاب تأجَّلت عقوبته لكي تحلّ على أولاده (الأشرار)، أمَّا إيزابيل فإذ أصرَّت على شرَّها لاقت مصيرها (المؤلم) هنا وهناك[231].
* كرم يزرعيل "زرع الله" يتطلَّب انتقامًا منك، إذ حوَّلته حديقة للملذَّات وبذرة للشهوات. يرسل لك الله إيليَّا ليخبرك عن الآلام والموت. ليتك تحني نفسك وترتدى مسوحًا إلى حين لعلّ الله يقول لك ما قاله لآخاب: "هل رأيت كيف اتَّضع آخاب أمامي؟! فمن أجل أنَّه قد اتَّضع أمامي لا أجلب الشرّ في أيَّامه"[232].
* فحص الرب آخاب عندما قتل نابوت وأخذ كرمه، وجُرْمه بأن يُسفك دمه. أُرسل إيليَّا النبي إليه يقول: "هل قتلت وورثت أيضًا؟! [19]. للحال ضربه ضميره وعذَّبه، فأحنى رأسه وسار وعيناه مسبولتان إلى أسفل. هذا هو الملك الشرِّير الملتحف بالأرجوان. يقول الكتاب المقدَّس بعد ذلك أنَّه ذهب مرتديًا المسوح تحت ثوبه الملوكي، وإذ رآه الله هكذا قال: "من أجل أنَّه قد اتَّضع لأجلي، لا أجلب الشرّ في أيَّامه" [29].تتحقَّق قوَّة المسوح والصوم وكيف تغسل دموع التواضع الدم! هذا هو الطريق اللآئق لترتدي المسوح، والطريق المناسب للصوم، الأمر قد لا يلاحظه أحد[233].
القديس جيروم
* إن أردت أن تطير صلواتك مرتفعة إلى الله، هب لها جناحين: الصوم والصدقة[234].
القديس أغسطينوس
من وحي 1 مل 21
قتل وورث!
*ضاق القصر بآخاب الشرِّير.
كره حياته فارتمى على سريره ينام.
اتَّجه نحو الحائط هاربًا من الحديث مع أي إنسان.
تثقَّلت نفسه بالمرارة وجسده بالمرض.
مسكين آخاب، فإنَّه لم يقدر أن يقتني كرم نابوت.
*تطلَّعت إليه إيزابل الشرِّيرة فتعجَّبت قائلة:
ترى هل زوجي ملك أم طفل عاجز؟
لماذا أنت كئيب؟
هب لي خاتمك، وأنا أهبك سؤل قلبك.
في أيَّام قليلة، صرخت:
خذ خاتمك، نابوت وأولاده قتلى.
قم رِثْ الكرم مجانًا، لماذا أنت خائر؟
*سحبت إيزابل قلب آخاب كأسير ذليل.
فتتبنى تدمير كل ما للرب، وإقامة عبادة الأوثان.
جعلت منه هادمًا للمذابح، وقاتلًا للأنبياء.
جعلته قاتلًا لمواطن بسيط أمين لكي يرث كرمه.
لقد قتل وورث!
*وهبتني قلبي قصرًا بديعًا يحمل ملكوتك السماوي.
لن يتسلَّل إليه قلق يحطِّم أعماقي.
لن تشتهي نفسي كرمًا لآخر.
بالحق تحوَّل أعماقي إلى جنَّتك العجيبة.
تدعو ملائكتك إليها فيصير في داخلي عرس لا ينقطع.
لماذا أقتل لأرث ما ليس لي؟
مسيحي بحبِّه سلَّم نفسه للقتل.
مسيحي قُتل لكي أرث،
حملني بصليبه إلى شركة مجده.
*آخاب الشرِّير قتل وورث.
أمَّا أنا فأشتهي أن أُصلب مع مخلِّصي،
فأرث معه في مجد.