ثالثاً: تفسير المزمور:
القسم الأول: توسّل وشكوى من خطيئة البشر. كذب وكبرياء باطل ورياء ( 1- 3):
1 – لكبير المغنين على ثمانية أوتار
كما شرحنا في المزمور السادس " ثمانية أوتار" يمكن أن تعني اليوم الثامن، يوم الحساب، أو هذا القرن الأبدي ( مائة عام)، الذي سيهبه الله لقديسيه عند انقضاء هذا الزمان الذي يسير على وتيرة السبعة أيام؛ يقول القديس أغسطينوس: لتؤخذ كلمة "الثامن" بمعنى "الأبدية". فإنه بعد انقضاء الزمن الحاضر، الذي هو دورة سبعة أيام متعاقبة، يأتي (الثامن) كنصيب للقديسين. يقول المرتل: "المنافقون حولنا يمشون (في دائرة)"، أي يمشون في شهوة الزمنيات، والتي تدور كعجلة في حلقات متكررة من سبعة أيام، لهذا لا يبلغون اليوم الثامن، أي لا ينعمون بالأبدية التي هي عنوان المزمور. وقد كان العبرانيون يستخدمون هذا المزمور في اليوم الثامن، يوم الختان.
2- خلاصك يارب، فالأتقياء انقطعوا، وزال الأمناء من بني البشر.
رأي داود أن الكذب قد انتشر، والخيانة استشرت بين جميع من يحيطون بالملك والحاشية، لم يرى الصادق البار، الذي يتقي الرب، فشاول يخونه ومعه رجاله ، فصرخ خلص يا رب، فلم يبق ولا بار، فمن كثرة الاضطهاد فني الأبرار وكادوا يبيدون، وساد الشر فاحتاج العالم لمخلص، وكأن صرخة داود "خلّص يا رب " هي بروح النبوة، صرخة نداء البشرية كلها لله، كي يتجسد المسيح المخلص، حيث زاغ الجميع وفسدوا.
v خلاصك يا رب :
الخلاص أمل كل إنسان مسحوق، رجاء كل شعب تحت الاستبداد، أنين كل قلب حزين في رجاء يرنو نحو مخلص موعود، يترجاه الجميع وينتظرون بلهف وترقب حلوله على الأرض ليخلص شعبه من العبودية. يكاد يعتبر الفعل" خلص" في الإيمان اليهودي والاستعمال الكتابي، قاصراً على الله الذي قال حين تراءى لموسى في العليقة "نظرت غلى معاناة شعبي الذين في مصر وسمعت صراخهم من ظلم مسخريهم.. نزلت لأخلصهم من ايدي المصريين" (خروج 3: 7-8 ).
وقد سبق الله فخلص شعبه بزراع قوية ويد قديرة من عبودية الفرعون في أرض مصر، فضرب مصر عشر ضربات موجعات وشق البحر الأحمر وعبر بهم وفجر لهم عيون المياه من الصخور وقاتهم بالمن والسلوى وقادهم إلى أرض الميعاد، هذا هو معنى الخلاص عند اليهود، ولا أحد غير "يهوى" إله إسرائيل، يستطيع أن يخلص. وهكذا يجد النبي داود نفسه في ضيق يصرخ طالباً الخلاص من رب الخلاص ، أنها صرخة استغاثة ورجاء .
v فالأنقياء انقطعوا وزال الأمناء من بني البشر :
يزيد الأمور تعقيداً وسوأً أن يجد داود البار نفسه وحيداً. فكما يحتاج العالم إلى القديسين والأبرار كشهود لعمل الله وبركة للآخرين، يحتاج هؤلاء إلى العون الأخوي والتضامن الروحي، وعلى نقيض القديسين، فإن العالم مكتظ بالأشرار الذين يتحالفون ضد الأبرار، بينما هو يحارب وحده.
لم يجد المرتل الحق بين بني البشر، بل الكذب، وبتعبير أكثر دقة "الفراغ"، وهو تعبير يحمل معنى "البطلان"، "عدم الإخلاص" و"التسيّب". فقد تطلع النبي في مرارة نفسه ليجد جيله قد خانه ولم يبق بينهم من يثق فيه. حتى شاول الملك الذي أنقذه من العار وخلصه من جليات الجبار، جنّد كل طاقات الدولة ضده، كما خانه أهل زيف قعيلة (1 صموئيل 24، 26). لهذا شعر داود كأنه لا يوجد إنسان أمين في العالم،وهو هنا يشبه إيليا حين تصوَّر أن الأبرار انتهوا من الأرض ولم يبق سواه فصرخ قائلاً:"يا رب قتلوا أنبياءك، وهدموا مذابحك، وبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليهلكوها" (1ملوك 10:19).
الحالة نفسها صوّرها الأنبياء (أشعياء 7: 1؛ 59: 13؛ وهو شع 4: 1) وقال فيها ميخا النبي : "قد هلك الصفيّ من الأرض، وليس بشر مستقيم. جميعهم يكمنون للدماء، وكل منهم يصطاد أخاه بشرك" (ميخا 7: 2). أنقطع الأتقياء وليس هناك من يتقي الله سواء لأنهم ضلوا مع من ضلّ عن طريق الرب وناموسه، "الجميع فسدوا وزاغوا"، نجح الأشرار في القضاء على الكثير من الأبرياء حتى كادوا يقضون عليهم جميعاً، ولم يبق سوى المرنم يشعر بالوحدة تحيط به وتلفه ويرى حالة الكفر التي يعيشها شعب الله فيحسّ بالألم ويتوجه إلى الله مخلصه يناجيه ويبثه خلجات قلبه داعياً إيّاه للتدخّل، وتنقلب صلاته إلى دعوة على المنافقين ليقطع الرب ألسنتهم ويُسكت شفاهَهم المملوءة كذباً، كما تتعمق لتصير نداء إلى كلمة الله لكي تحميه وسط عالم يسيطر عليه الشرّ.
وفي هذا يقول القديس اغسطينوس:" فني اي لم يعد له وجود، كما نقول عندما تفرغ الحنطة والنقود، لأن الحق ضعف وهان بين البشر. لكن تظل دوما هناك باقية حقيقة تنير القلوب والعيون البارة، وتنعكس في كل نفس كما ينعكس نفس الوجه في مرايا عديدة".
3- كل واحد يكذب على الآخر وبلسانين وقلبين يكلمه:
أنقرض الأتقياء المستقيمون الذين لا يعرف الخداع والكذب والغش طريقاً إلى أفواههم، والتفت حول البار جماعة من الغشاشين المرائين المخادعين المتملقين الذين يعيشون في ازدواجية تامة، ليس فقط على المستوى الخارجي : الكلام واللسان، بل أيضاً على المستوى الداخلي، إنهم لا يعرفون الحب الحقيقي، فهم ذووا قلبين ولا يعترفون بالطيبة والصدق والأمانة كأساس للتعامل والحياة...إنهم زائفو القلب والعقل واللسان. فقد رأى داود قلة الأمانة والكذب تنشر بين الناس فهم غير أمناء ولا يقولون الحق.. ومن أبرز علامات الرياء والفساد، ازدواج القلب " بقلب فقلب يتكلمون".