يوليان يصبح قيصر فى غاليه
وفي وسط هذا التخفي والخوف استدعى مرة أخرى إلى المثول بين يدي الإمبراطور في ميلان؛ وتردد أول الأمر في الذهاب خشية العقاب، لكن الإمبراطورة يوزيبيا أرسلت إليه تبلغه أنها دافعت عنه لدى الإمبراطور، وأنه لن يصاب بمكروه، وما كان أشد دهشته حين زوجه الإمبراطور من أخته هلينا Helena، وخلع عليه لقب قيصر، وعهد إليه حكم غالة (355). وارتدى الرجل الأعزب الحي الذي قدم على الإمبراطور في ثياب الفيلسوف الخشنة حلة القائد الرسمية على مضض، وقام بواجبات الزوجية. وما من شك في أنه قد ضايقه فوق هذا وحيره أن يعرف أن الألمان قد اغتنموا فرصة اشتعال نيران الحرب الأهلية التي كادت تقضي على ما للإمبراطورية في الغرب من قوة حربية، فغزوا الولايات الرومانية الممتدة على ضفاف الرين، وشتتوا شمل جيش روماني، ونهبوا المستعمرة الرومانية القديمة في كولوني، واستولوا على أرع وأربعين مدينة غيرها، وفتحوا الألساس كلها، وتقدموا مدى أربعين ميلاً في غالة، ولما أن واجه قنسطنطيوس هذه الأزمة العصيبة، طلب إلى الشاب الذي يرتاب فيه ويزدريه أن يبذل نفسه من فوره فيجعل منها نفس جندي حازم وإداري حازم، وأعطى يوليان حرساً مؤلفاً من ثلثمائة وستين رجلاً، وكلفه بإعادة تنظيم الجيش المربط في غالة، وأمره بعبور جبال الألب.
وقضى يوليان الشتاء في فين Vienne ويانه على نهر الرون، يدرب نفسه التدريب العسكري، ويدرس فنون الحرب دراسة الرجل المجد المتحمس لأداء واجبه. وفي ربيع عام 356 جمع جيشاً عند ريمس Reims صد به الغزاة الألمان واسترد منهم كولوني؛ ولما حاصرته قبيلة الألماني -التي أصبح اسمها علماً على ألمانيا كلها - في سنس Sens ظل يصد هجمات المحاصِرين ثلاثين يوماً، واستطاع أن يحصل على ما يحتاجه جنوده وأهل المدينة من المؤن حتى نفد صبر الأعداء. ثم زحف نحو الجنوب والتقى بجيش قبيلة الألماني الأكبر عند استرسبورج، ونظم جيشه على شكل إسفين هلالي، وقاده قيادة الرجل العارف بأفانين الحرب المملوء القلب بالشجاعة، فانتصر نصراً على قوات العدو التي تفوق قواته عدداً ، وتنفست غالة الصعداء بعد هذا النصر المؤزر؛ ولكن قبائل الفرنجة الضاربة في الشمال كانت لا تزال تعيث فساداً في وادي الموز Meuse، فزحف عليها يوليان بنفسه، وأوقع بها هزيمة منكرة، وأرغمها على عبور الرين ، ثم عاد إلى باريس عاصمة الولاية متوجاً بأكاليل النصر، ورحب به أهل غالة وشكروا له حسن صنيعه ورأوا في القيصر الصغير يوليوساً Julius جديداً؛ وما لبث جنوده أن هجروا بأملهم في أن يجلس عما قريب على عرش الإمبراطورية.
وبقى في غالة خمس سنين، يعمر الأرض المخربة بالسكان، ويعيد وسائل الدفاع عن نهر الرين. ويمنع استغلال الأهلين الاقتصادي والفساد السياسي، ويعيد الرخاء إلى الولاية، ويملأ خزائنها بالمال، ويخفض في الوقت عينه ما كان مفروضاً على البلاد من الضرائب. وعجب الناس كيف استطاع هذا الشاب الغارق في التفكير، الذي لم ينتزع من بين كتبه إلا من وقت قريب، أن يبذل نفسه فيجعل منها - كأنما قد مسته عصا ساحر- قائدأ محنكاً، وحاكماً عظيماً، وقاضياً عادلاً . وكان هو الذي وضع في القضاء ذلك المبدأ القائل : " بأن المتهم يعد بريئاً حتى تثبت إدانته ". وكان سبب تقرير هذا المبدأ أن نومريوس Numerius أحد حكام غالة النربونية السابقين اتهم باختلاس الأموال التي عهد إليه تحصيلها ولكنه أنكر التهمة ، ولم يكن من المستطاع دحض حجة من الحجج التي أدلى بها. وأغتاظ القاضي Delfedius لنقص الأدلة التي تثبت التهمة عليه فصاح قائلاً: "أي قيصر عظيم! هل يمكن أن يدان إنسان إذا كان مجرد إنكاره التهمة يكفي لبراءته؟" فكان جواب يوليان. "وهلا يمكن أن يبرأ إنسان إذا كان كل ما في الأمر أنه اتهم؟" "وكان هذا" كما يقول أمنيانوس شاهداً من الشواهد الكثيرة، الدالة على فلسفته والحكمه الدنيوية التى ظل يدرسها طيله حياته ".
غير أن إصلاحاته قد خلقت له أعداء. فالموظفون الذين كانوا يخشون بحثه وتنقيبه، أو يحسدونه لحب الناس له، أخذوا يتهمونه سراً لدى قنسطنطيوس بأنه يعمل للاستيلاء على عرش الإمبراطورية. فلما علم بذلك يوليان رد عليهم بأن كتب يمتدح الإمبراطور مدحاً فيه كثير من المبالغة. ولكن ذلك لم يبدد شكوك قنسطنطيوس، فاستدعى إليه سالست Sallust الذي كان من أخلص أعوان يوليان. وإذا جاز لنا أن نصدق أميانوس فإن الإمبراطورة يوزيبيا، التي لم يكن لها ولد، والتي كانت الغيرة من يوليان وزوجته تأكل قلبها، قد رشت بعض حاشية زوجة يوليان بأن يعطوها عقاراً مجهضاً كلما حملت. ولما أن وضعت هلينا. على الرغم من هذا، طفلاً ذكراً، قطعت القابلة حبل سرته قريباً من جسمه إلى حد نزف من الدم حتى مات.