شهوات أُخرى
كان حُب المال هو الباعث الأقوى لخيانة يهوذا، لكنّه لم يكن الحافز الوحيد، وإلاَّ ما اكتفى أن يأخذ من اليهود ثلاثين من الفضة ثمن تسليمه ليسوع، بل لانتهز الفرصة ليأخذ مبلغا أكبر، ولكان أفضل له أن يبقى أميناً للصندوق يختلس منه ما شاء، لكنَّ الحقيقة إنَّ شهوات أُخرى كانت تتأجج نيرانها فى قلبه، فلابد أنَّه ظن أنَّ المسيح قد جاء ليُقيم مملكة أرضية كسائر الممالك، فطمع كما طمع يعقوب ويوحنا ابنا زبدي فى منصب رفيع (مت21:20)، فلمَّا خاب أمل يهوذا عرض عنه ونفر منه، وتحوّل من تلميذ له إلى عدو ضده.
هذا وقد علل القديس يوحنا الحبيب مسلك يهوذا البشع بعبارة بليغة قالها وهى " دخله الشيطان " (يو13: 7)، ويؤكد هذا ما قاله يسوع: " أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ! قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ " (يو70:6،71).
لقد نظر يهوذا إلى ممالك الأرض الواسعة، ومدن داود وسليمان الرائعة، واشتهى أن يشهر سيفه مع سيوف التلاميذ لينتصر المسيح، ويكون له مكان على عرش فى إحدى الولايات، فما أروع المملكة فى الصباح وهى ترتدى ثوبها الفضيّ، وما أبهاها فى المساء وهى تتزين بزيها الذهبيّ، أمَّا خاتم المُلك فما أجمله بين أصابع الأمراء، وتاج العرش ما ألمعه على جباه الولاه.
ولكن يهوذا لم يخطر على باله أن وراء ما ينظر ملكوت أسمى يحكمه من غدر به! وهل يمكن لمن يحوط الأرض بجناحيه أن ينشد ملجأ فى عش مهجور؟! أم هل يرتفع الحي ويتشرّف بواسطة لابسي الأكفان؟!
إن مملكة المسيح ليست من هذه الأرض، وعرشه لم يُبنَ على جماجم الموتى، أمَّا رأسه فلم ترغب سوى تاج الأشواك، وعلى كل الذين يرغبون مملكة أُخرى غير مملكة الروح، أن ينحدروا إلى مقابر أمواتهم حيث يعقد ذوو الرؤوس المتوّجة منذ القديم مجالسهم فى قبورهم، ليعطوا مجداً لعظام جدودهم وآبائهم!
فلا عجب إن تخيل يهوذا نفسه أميراً، يُعامل الرومان بقسوة مثلما عاملوا اليهود، خاصة وأن يسوع قد تكلم عن مملكته، فاعتقد أنه اختاره قائداً ولذلك تبعه برضى، ثم اكتشف أنه لم يأتِِِ ليؤسس مملكة أرضية، أو أن يُحررهم من ذل الرومان واستعبادهم، لأنَّ مملكته لم تكن سوى مملكة القلب، ولهذا يُخيل إلي أنَّ روح يهوذا كانت تتمرر وقلبه يتحجّر، عندما كان يسوع يتكلم عن المحبة والرحمة وفضائل الروح! لأنَّ ملك اليهود الذي تمنّاه تحول فى نظره إلى عازف على القيثارة لكي يسكّن حِدة أفكار البشر!
لا نُنكر أنَّه أحبّه ولكن مثل غيره من النفعيين، ولأنَّ من طبيعة النفعيّ أن يتنقل من شخص إلى آخر حسبما تقتضى المصلحة، كان ولابد ليهوذا أن يبتعد عن المسيح، ولكنه نسى أن الأنانيّ يعيش على حساب نفسه قبل أن يعيش على حساب الآخرين!! فلمَّا رأى أن يسوع لم يحرك يداً لتحريرهم من ذلك النير، ملأ اليأس قلبه وتبددت جميع آماله، فقال فى نفسه: إنَّ من يقتل آمالي ويُبدد أحلامي لابد أن يُقتل!