حديث نّهر الاردن
مرّ الكثيرون من هنا .. مرّوا بجانبي ، وشربوا من مائي ، واغتسلوا من أدرانهم .
مرّ القادة من كلّ الأمم بسنابكهم وخوذاتهم وعبوسهم .
مرّت الجيوش بجحافلها ومعدّاتها ، فأزعجت سكينتي ، وعكّرت مياهي وحياتي .
مرّ الغنيّ والفقير والأرملة والروماني واليهودي والحثّي والآرامي .
مرّ النّسر والأسد واليمامة .
مرّ المعمدان فصرخ وهدر وتوعّد ، وراح يغسل النفوس بماء التّوبة .
مرَّ التّاريخ مُثقلا بالحوادث والحادثات ، يجرّ تارة رجليه جرًّا ، وتارة يركض ويعدو ، وأخرى يغنّي .
مرّوا جميعًا وامّحت آثارهم ، محتها العاصفة والهدير ، ولم يبق منهم في ذاكرتي إلا السديم والضباب !
ومرّ يسوع .. فغرّدت موجاتي ، وصفّقت أشجار الصّفصاف الصنوبر ، وخشع البرقوق والجوريّ والياسمين .
مرّ يسوع فاغتسلت جوانحي ، وتطهّر مائي ،" وحملقت" الى فوق ، الى صوت آتٍ من السّماء : " هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا"
مرّ يسوع فتسابقت السّمكات لكي تقع في شباك بطرس واندراوس ، وكلّ واحدة تقول : أنا .. أنا .
مرّ يسوع فهرب البرَص لا يلوي على شيء ، وفرّ الجوع أمام قفف الخبز المُحمّر بالمحبّة .
مرّ وكل يومٍ يمرّ بخاطري .. أنا الأردن ، النهر الصغير الغافي بين جبال ومروج ارض الميعاد .. كُنتُ نسيًا منسيًا ، كنت جدولا من آلاف الجداول تمرّ فوقها النسور فلا تلتفت ، ويمرّ بجانبها التاريخ فلا يتوقف الا نادرًا .. إلى أن جاء ذاك المُحمّل بالأزهار والأشواك والآلام والطعنات .
جاء فرفعني إلى فوق ..
رفعني فوق عمالقة الأنهار .
سما بي فوق التاريخ وأهله، وخطّني في كتاب الأيام قصيدة جميلة .
جاء " فسرقني " من ذاتي ، وأنساني نفسي ، وهو ينثر درره فوق موجاتي ؛ هذه الموجات التي تمرّدت مرّةً ثم عادت واستكانت كما الطفل في حضن امّه .
اقترَشني – أنا الأردن- بساطًا لو تعلمون ، ومشى واثقًا ، وكدت أموت ضحكًا حين مشى بطرس الصيّاد فوقي خطوات ، ثمّ شهق : إنّي أغرق .. ومدّ السيّد يمينه كما يمدّها كل يوم .
لماذا شككتَ ؟ !
مرَّ الكثيرون ونسيتهم الذاكرة !
ومرَّ الله فغنّت جوانحي وأمواجي وما زالت تغنّي ..
\