
قداسة البابا تواضروس الثانى
مغبوط هو العطاء     
         " مـن يترحم على إنسان ، يصيـر باب الـرب مفتوحاً لطلباته في كـل سـاعـة " .
( الشيخ الروحاني )  
" ومتـى جـاء ابـن الإنسـان فـي مجـده وجميع الملائكـة القديسين معـه  فحينيـذ يجلس على كرسـي مجـده . ويجتمـع أمامـه جميـع الشـعوب ، فيميـز  بعضـهم مـن بعـض كمـا يميز الراعـي الخـراف مـن الـجـداء ، فيقيم الخـراف  عـن يمينـه والـجـداء عـن اليسار . ثـم يقـول الملك للذين عـن يمينـه :  تعـالـوا يـا مبـاركي أبـي ، رثـوا الملكوت المعـد لـكـم منـذ تأسيس العالم  . لأني جعـت فـأطعمثموني . عطشت فسقيتموني . كنت غريباً فآويثموني .  غريانا فكسوتموني . مريضاً فزرتموني . محبوسـاً فـأتيثم إلـي . فيجيبـه  الأبـرار حينـد قـائلين : يـارب ، متى رأينـاك جائعاً فأطعمنـاك ، أو  عطشاناً فسقيناك ؟ ومتى رأيناك غريبـاً فآوينـاك ، أو غريانـاً فكسوناك ؟  ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك ؟ فيجيب الملك ويقول لهم :  الحـق أقـول لكم : بما أنكم فعلتُمـوه بأحـد إخـوتـي هـؤلاء الأصاغر ، فبي  فعلتُم . ثـم يقـول أيضاً للذين عن اليسار : اذهبوا عني يا ملاعين إلى  النّار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته ، لأني جعت فلم تطعموني . عطشت فلم  تسقوني . كنت غريباً فلـم تـأووني . غرياناً فلـم تكسـوني . مريضـاً  ومحبوسـاً فـلـم تزوروني . حينئذ يجيبونـه هـم أيضـاً قـائلين : يـارب ،  متى رأينـاك جائعـاً أو عطشـاناً أو غريبـاً أو غريانـاً أو مريضـاً أو  محبوسـاً ولم نخـدمك ؟ فيجيبهم قائلاً : الحـق أقـول لـكـم : بمـا أنـكـم  لم تفعلـوه بأحـد هـؤلاء الأصـاغر ، فـبـي لم تفعلـوا . فيمضـي هـؤلاء إلى  عـذاب أبـدي والأبـرار إلى حيـاة أبدية " ( مت ٢٥ : ٣١ - ٤٦ ) . 
" المسيحية والعطاء وجهان لعملة واحدة ، كلاهما حاضـر بحضـور الآخـر في  أعماقه " . وبصفة عامة فإن حياة العطاء مطوبة حسب قول الكتاب : " مغبـوط  هو العطاء أكثر من الأخـذ " ( أع ٢٠ : ٣٥ ) . والعطاء هو خطوتنا الخامسة في  مسيرتنا الروحية . 
 في البداية دعنا نرسي سويا مبادئ أساسية عن فضيلة العطاء :- 
 1 ـ الإنسان بحاجة إلى أن يعطي :- 
 إذ يحقق هذا وجوده وكيانه ويشعره بقيمته وآدميته ، وهذا الشعور هـو  إحدى مكونات الشخصية الناجحة ، حتى أن علماء النفس كثيراً مـا يـذكرون أن  العطاء مصحوب براحة قلبية . لذلك عندما يعطي أب ابنه الصغير مالاً لكي ما  يضعه الصغير في صندوق العطاء ، فإنه يزرع هذه الفضيلة فيه منذ الصغر ، بل  وينمي شخصيته . وكذلك الأب الذي يساعد أولاده لكي ما يقدموا هدية لوالدتهم  أو صـديق لهـم في أي مناسبة فإنه ينمي داخلهم هذه الفكرة . 
٢ ـ الله ليس محتاجاً على الإطلاق لما تعطيه :- 
 مهما كان ومهما ارتفعت قيمته المادية أو المعنوية ، والسبب أن اللـه  هو مصدر كل عطية .. فهو الخالق والواجد لهذا العالم ، ويعقـوب الرسـول  يـذكرنا : " كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هـي مـن فـوق ، نازلـة مـن عنـد  أبـي الأنوار ، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران " ( یع ۱ : ۱۷ ) . 
3ـ العطاء هو وسيلة للتعبير عن مشاعرك نحو الله :
  تأمل معي في قصة  السامرية حين قابلهـا رب المجـد وقـال لـهـا : " أعطيني لأشرب " ( يو ٤ : ٧  ) ، فهو له المجد لم يكن محتاجاً للماء ، لأن من عنده تجـري كـل الأنهار ،  وإنما كان في حاجة أن يعرف حقيقة مشاعرها الداخلية نحوه . وفضيلة العطاء  أو الصدقة تشكل إحدى ركائز الحياة الروحية ( صـوم + صلاة + صدقة ) ،  والمعروف أن كلمة " صدقة " وكلمة " صديق " مـن أصـل لغـوي واحد ، فكأن  الصديق هو الذي يصنع الصدقة وعندما قال سليمان الحكيم : " اذكر خالقك في  أيام شبابك " ( جا ١٢ : ١ ) إنما كان يتحدث بلغة العطاء ، لأنه معروف أن  حياة الإنسان تنقسم إلى مراحـل متتابعة : ( الطفولة ـ النضج / الرجولة ـ  الشيخوخة ) .. المرحلتان الأولى والثالثة هما مرحلتا أخذ ، أما المرحلة  الثانية وتحوي في داخلها مرحلة الشباب إنما هـي مرحلة عطاء بالدرجة الأولى .  وأنت يا صديقي تستطيع أن تعطي في فترة شبابك ورجولتك أكثر من أي مرحلة  أخرى . لك أن تسألني الآن ماذا أعطي ؟ هل مالاً .. أم وقتاً .. أم ماذا .. ؟  إني أُجيبك : إن ما تستطيع أن تقدمـه لا يمكـن حصـره ، إنما تستطيع أن  تتخيل معي سلماً عليه خمس درجات في ترتيب تصاعدي تمثل درجات العطاء    المـال- الجهاد - الـوقـت - التسبيح - النفس ( القلب ) بل ويمكن أن تمزج  بين هذه الدرجات الخمس ، فالصلاة هـي عطـاء وقـت وقلـب وتسبيح ... وفي خدمة  الآخرين يكمـن عطـاء المـال والوقت والجهـد والحب ، وهكذا وهنا لا يمكننا  أن ننسى أن قمة العطاء الذي بلا حدود هو في تجسّد ربنا يسوع ، فهو الذي  أعطانا دمه الثمين على عود الصليب ، وها هو كل يـوم يقـدم نفسه ذبيحة  لأجلنا من خلال القداس الإلهي . أيدور في ذهنك الآن كيف أعطي ؟ أريدك أولاً  أن تقرأ معي هذه القصة : بالرغم من الطقس البارد والثلج المتساقط ، كان  يجلس هذا الصبى ، خـارج منزله الحقير ، ولم يرتد في رجليه سوى حذاء رقيقاً ،  لا يصلح حتى لأيام الصيف . لقد كان يحاول بأقصى جهده ليفكر عما يقدر أن  يقدمـه لأمه بمناسبة عيـد الميلاد ، لكن من غير نتيجة ، فقد حاول كثيراً ،  حتى لو استطاع أن يفكر في شيء ما ، فليس بحوزته شيء من المال ، فمنذ وفاة  والده ، وهم يعيشون في حالة فقر دائم ، فكانت والدته تعمل بأقصى جهدها لأجل  أولادها الخمسة . فلم يكن لها إلا دخلاً ضئيلاً ، لكن تلك الأم بالرغم من  فقرها ، كانت تحب أولادها محبة بلا نهاية .  ، كان هذا الصبى حزيناً للغاية  ، فلقد استطاع إخوته الثلاثة ، إعـداد هدية لأمه أما هو وأخيه الصغير ،  فلم يستطيعا شـراء أي شيء ، واليوم هـو آخـر يـوم قبل عيد الميلاد . مسح -  هذا الصبى دموعه ، ثم أخذ يسير باتجاه المدينة ، ليلقى نظرة أخيرة على  الأماكن المزينة والمحلات المليئة بالهدايا والألعاب . كـان ينظـر من خلال  الواجهات ، إلى كل ما في الداخل ، وعيناه تبرقان ، كان كل شيء جميل للغاية ،  لكن لم يكن بمتناوله عمل أي شيء . بدت الشمس تعلن عن مغيبها ، فهم هذا  الصبى بالعودة إلى المنزل ، وهـو يسير حزينـاً مـنكس الـرأس ..وفـجـأة إذ  بـه يـرى شيء يلمـع عـلى الأرض ، اندفع هذا الصبي مسـرعاً ، وإذ بـه يلتقط  10 قروش مـن عـلى الأرض ... ملأ الفرح قلبه ، وإذ به يشعر وكأنـه يملـك  كـنـزاً عظيماً ، ولم يعـد يـبـالـي بـالبرد ، إذ كان في حوزته عشرة قروش  دخل إحدى المحلات ، عله يستطيع شراء شيء ما ، لكـن يـا لخيبـة الأمـل فقد  أعلمه البائع ، بأنه لن يستطيع شـراء أي شيء بـ 10 قروش ، دخـل هـذا الصبى  محلاً آخر لبيع الورود ، كان هناك العديد من الزبائن ، فانتظر دوره بعد بضع  دقائق ، سأله البائع عما يريد ... قـدم هـذا الصبي إلى البائع الـ 10 قروش  التي في حوزته ، ثم سأل إن كان بإمكانه شـراء وردة واحدة لأمه بمناسبة عيد  الميلاد . نظر صاحب المحل إلى هذا الولد الصغير ملياً ، ثـم أجابه :  انتظـرني قليلاً ... سأرى عما باستطاعتي عمله ... دخل البائع إلى الغرفة  الداخليـة ، ثـم بعد قليل عاد وهو يحمل في يديه اثنتي عشرة وردة حمراء ، لم  ير هذا الصبى نظيرها في الجمال من قبل ، ثـم أخـذ صاحب المحل ، يضع  بجانبهما الزينة وغيرها ، ثم وضعهما بكل عنايـة في علبة بيضـاء ، وقدمهما  إلى ذلك الصبي ، وقال : 10 قروش من فضلك أيها الشاب . هـل يعقـل مـا يسـمع .  لقـد قـال لـه البائع السابق ... لن تستطيع شراء أي شيء بـ 10 قروش ...  فهل يعقـل مـا يسمعه شعر البائع بتردد الولـد فـقـال لـه : أنت تريـد أن  تشتري ورود بـ 10 قروش ، أليس كذلك ؟ فإليك هذه الورود بـ 10 قروش ، فهـل  تريدها بكل سـرور أجاب الولد ، معطياً كل ما لديه للبائع ... فتح البائع  الباب للصبى ، ثم ودعه قائلاً : عید میلاد سعید یا ابنی  عاد البائع إلى  منزله ، وأخبر زوجتـه بـالأمر العجيـب الـذي حصـل معـه في ذلك اليوم ، فقال  لها : في هذا اليوم وبينما أحضـر الورود ... جاءني صوت يقـول اختر ۱۲ وردة  حمراء من أفضل الورود التي لديك ، وضعهما جانباً ... لهدية خاصة ... لم  أدر معنى هذا الصوت ، لكنني شعرت بقرارة نفسي بأنه ينبغي عليّ أن أطيعه ،  وقبل أن أغلق المحل ، جاءني صبي صغير تبدو عليه علامات الفقر والعـوز ،  راغباً أن يشتري لأمـه وردة واحدة ، ومقدماً لي كل ما يملك ، 10 قروش ...  وأنا إذ نظرت إليه ، ذكرت نفسـي ، كيـف عنـدما كنت في سـنه ، كيف لم أملك  أي شيء لأقدم لأمى في عيد الميلاد ، وذات مرة صنع معـي إنساناً لم أعرفه من  قبل معروفاً ... لم أنسـه إلى هـذا اليـوم امتلأت عينـا الرجل وزوجته  بالدموع ، ونظرا إلى بعض ، وشكرا الله . دعنا الآن نسرد سويا كيف تُعطي من  خلال تأملنا في القصة السابقة : 
1-	بالمحبة :
 أترى كيف كان حب هذا الولد لأمه ... لا بد أن تكون المحبة  هـي الـدافع الأول وراء صدق المشاعر التي تقدم بها عبادتنا وعطايانا لله  وللآخرين ، وكـما قـال سـفر النشيد : " إن أعطى الإنسـان كـل ثـروة بيتـه  بـدل المحبة ، تُحتقـر احتقاراً " ( نش ۸ : ۷ ) . فأنت لا تقدم مدفوعاً  بشعور الواجـب أو الخجـل أو الاضطرار ، ولا حباً في الكرامة والتقدير ، أو  طلباً للإعلان أو المديح ... إنما من قلب فياض بالمحبة . ... 
2-	بسخاء :
 طلب الولد الصغير وردة واحـدة قيمتهـا عـشـرة قـروش ،  فأعطاه البائع اثنتي عشـرة وردة مـن أجـمـل مـا يـكـون هذا هو العطاء  الحقيقـي بدون حساب للماديات ، لأن اللـه ينظـر ويعـرف والكتاب يقـول : "  المعطي فبسخاء " ( رو ۱۲ : ۸ ) ، لأننـا بـذلك نتمثـل ب اللـه الـذي يعطي  الجميع بسخاء ولا يعيـر " ( يـع ١: ٥ ) . والعطـاء هـنـا كـالزرع " مـن  يـزرع بالشـح فبالشـح أيضـاً يحصد " ( ۲ کو ٩ : ٦ ) . 
3-	بفرح وسرور :
 أترى كيف كان الولد الصغير والبائع سعيدين بعطائهما ..  يقول الكتـاب المقدس : " المعطي المسرور يحبه الله " ( ۲ کو ۹ : ۷ ) ،  والوصية تقـول : " من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين " ( مت 5 : ٤١ ) .  ( والمقصود بالميل الثاني أنك ذهبت راضياً حراً ) . 
بقي لنا عزيزي أن  نتأمل في صفات ما نقدمه من عطايا : 
 1 ـ أن تكون أفضل ما عندنا : 
إن العطاء هو مشاعر قبل أي شيء ومشاعرنا  تعبر عنها بأفضل ما عنـدنا .إن هابيل الصديق قدم أفضل ما عنده من الذبائح ،  بينما أخـوه قـايين اختـار تقدمة من ثمار الأرض دون أن يدقق فيها ( تك ٤ :  ٤ - ٥ ) إن هذا المبدأ ينطبـق  في حياتنا العملية بأمثلة كثيرة منها :- 
 اختيار الوقت الأفضل المناسب للصلاة ، كالصباح الباكر . 
 اختيار الذهن النشط المناسب لقراءة الكتاب المقدس . 
 تقديم النقود في حالة جيدة ، وليس القديم أو المستهلك . 
 تقديم التسابيح والألحان بأفضل ما عندنا من أنغام وأصوات . 
2- أن تكون في الخفاء :
 وليس هناك أبلغ مـن قـول الكتاب : " لا تُعرف  شمالك ما تفعل يمينك " ( مت ٦ : ٣ ) ، ويعتبر هذا مبدأ مشترك في كل أركان  العبادة ... أما إن كان العطـاء طلباً للدعاية أو لنوال مركز أو لمدح الذات  ، فإنه يفقد قيمته ويصير دينونة . 
 3 ـ أن تكون ذا نفع لمن تعطى له : 
فليست العبرة أن تُعطي وحسب ، إنما في احتياج الآخرين لهذا العطاء . 
 أتركك الآن مع بعض الآيات عن العطاء : -  
" منك الجميع ومـن يـدك أعطيناك " ( ١ أخ ٢٩ : ١٤ ) .  
 " من يرحم الفقير يقرض الرب ، وعن معروفه يجازيه " ( أم ١٩ : ١٧ ) .  
 " هاتوا العشور ... وجربوني " ( ملا 3 : ۱۰ ) .  
 " أعطوا تعطوا " ( لو ٦ : ٣٨ ) . 
" ليعطك الرب حسب قلبك " ( مز ٢٠ : ٤ ) . 
قداسة البابا تواضروس الثانى البابا ال١١٨ 
عن كتاب خطوات