العبادة السماويّة
بعد أن قدّم لنا السيد المسيح الجوانب الثلاثة للعبادة المسيحيّة أراد توضيح غايتها، ألا وهي رفع القلب النقي إلى السماء، ليرى الله ويحيا في أحضانه، محذّرًا إيّانا ليس فقط من تحطيمها خلال "الأنا" وحب الظهور، وإنما أيضًا خلال "محبّة المال" التي تفقد القلب المتعبّد حيويّته وحريّته، إذ يقول السيد: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلا اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون" [19-20].
من يتعبّد لله بقصد المجد الزمني الباطل يكون كمن جمع كنوزه على الأرض، سواء في شكل ثياب فاخرة يفسدها السوس، أو معادن تتعرّض للصدأ، أو أمور أخرى تكون مطمعًا للصوص. هكذا يرفع قلوبنا إلى السماء لننطلق بعبادتنا إلى حضن الآب السماوي، يتقبّلها في ابنه كُسِرّ فرح له وتقدِمة سرور، لا يقدر أن يقترب إليها سوس أو لصوص ولا أن يلحقها صدأ!
يُعلّق القديس أغسطينوس على حديث السيد المسيح: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض"، قائلًا:
+ لو أخبركم مهندس معماري أن منزلكم يسقط حالًا، أفلا تتحرّكون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا مؤسّس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدّقوه؟!.. أسمعوا إلى صوت نبوّته: "السماء والأرض تزولان" (مت 24: 35).. استمعوا إلى مشورته!..
الله الذي أعطاكم المشورة لن يخدعكم، فإنكم لن تخسروا ما تتركونه، بل تجدوا ما قدّمتموه أمامكم.. أعطوا الفقراء فيكون لكم كنز في السماء! لا تبقوا بلا كنز، بل امتلكوا في السماء بلا هّم ما تقتنونه على الأرض بقلق. أرسلوا أمتعتكم إلى السماء. إن مشورتي هي لحفظ كنوزكم وليس لفقدانها..
ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنّه هل يقدر أن يكسر باب السماء؟إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل يستطيع أن يقتل الله حافظها؟..
فالفقراء ليسوا إلا حمّالين ينقلون أمتعتنا من الأرض إلى السماء. إذن فلتعطوهم ما لديكم فإنهم يحملونها إلى السماء.. هل نسيتم القول: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت.. لأني جعت فأطعمتموني.. وكل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 34-40) (القديس أغسطينوس).
بهذه الوصيّة يرفع الرب عبادتنا للسماء، محذّرًا إيّانا من "المجد الباطل" ومقيمًا حراسًا عليها، ألا وهي أعمال الرحمة المملوءة حبًا. فالصدقة الحقيقية بمعناها الواسع والتي تضم العطاء المادي والمعنوي، ترفع القلب بعيدًا عن الزمنيّات الماديّة والمعنويّة، وتحوّل أرصدته في السماء.
ويرى القدّيس يوحنا ذهبي الفم أن السيّد المسيح يحدّثنا عن الحب والرحمة في دستوره الإلهي بطريقة تدريجيّة هكذا: