ما هي الأدلة علي صحة هذا التعريف وعلي كون المسيح كاهناً بهذا المعني ؟
لنا لإيضاح صحة هذا التعريف وكون المسيح كاهناً بمعني هذه الكلمة الحقيقي الأدلة الآتية:
الأول : استعمال هذه الكلمة الشائع وحقيقة الكهنوت عند جميع الأمم وفي كل القرون. فإن البشر شعروا بالخطية في كل مكان وزمان وذلك الشعور يشمل الحس بالإثم والفساد وانتفاء الحق في الاقتراب إلي الله. وكانت ضمائرهم دائماً تعلمهم ضرورية التكفير عن الخطية بإيفاء العدل الإلهي حقه وعجزهم عن ذلك وعدم أهليتهم لتقديم كفارة كافية أو تحصيل رضي الله بواسطة اجتهادهم. ولذلك ابتغوا دائماً إنساناً أو رتبة من الناس يعملون بالنيابة عنهم ولأجلهم ما علموا أنه يجب أن يعملوه مع عجزهم أن يعملوه لأنفسهم. فأقاموا الكهنة ليستعطفوا الله بواسطة الذبائح الكفارية والتقدمات والصلوات. فيكون القول أن الكاهن إنما هو معلم ديني فقط مخالف لشهادة التاريخ.
الثاني : استعمال كلمة كاهن وحقيقة وظيفته في النظام الموسوي. لأن الكاهن في العهد القديم هو إنسان مختار من الشعب ومعين للوساطة بينهم وبين الله وللاقتراب إليه تعالي عنهم ولتقديم ذبائح كفارية وللشفاعة في المتعدين. فلم يؤذن للشعب أن يقتربوا من الله بل للكاهن فقط ولا سيما رئيس الكهنة الذي كان يدخل إلي داخل الحجاب بالدم الذي كان يقدمه لأجل نفسه ولأجل خطايا الشعب. وكل ذلك تمثيلي ورمزي لأن الكهنة اللاويين كانوا رموزاً والمسيح مرموزاً إليه وكل ما كان رمزاً في وظيفتهم وأعمالهم تم فيه. هم كانوا الظل وهو الحقيقة وهم علموا الشعب الطريق العتيدة أن تنزع بها الخطية وهو نزعها بالفعل. ولهذا إنكار كهنوت المسيح حسب معني هذه اللفظة في العهد القديم يبطل معني الكتاب المقدس ويؤدي إلي مبادئ التفسير تغير كل تعليمه.
الثالث : تعريف الكاهن وبيان حقيقة وظيفته في العهد الجديد. قال الرسول لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس (أي لأجل خيرهم وفي مكانهم) في ما لله لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا (عب 5 : 1) وجميع ما قررناه آنفاً هو في معني هذا النص أي أن الكاهن هو إنسان معين لأجل الآخرين ليقترب إلي الله ويقدم ذبائح.
الرابع : ما ورد في الرسالة إلي العبرانيين فإن الرسول سمي المسيح فيها كاهننا وبين فيها ما يأتي :
1 – أن له جميع الصفات التي تؤهله لتلك الوظيفة.
2 – أنه تعين من الله.
3 – أنه كاهن علي رتبة أعلي من رتبة هارون.
4 – أن كهنوته يبطل كل كهنوت آخر ويغني عنه.
5 – أنه قد عمل جميع أعمال تلك الوظيفة وهي الوساطة والذبيحة والشفاعة.
6 – أن فاعلية ذبيحته كلية دائمة فلا احتياج إلي تكرارها أي أنه بواسطة تقديم نفسه مرة واحدة
حصل لنا فداء أبدياً.
الخامس : فوائد ممارسة المسيح هذه الوظيفة لأجلنا وهي :
1 – التكفير عن خطايانا.
2 – استعطاف الله أي إرضاؤه.
3 – مصالحتنا معه تعالي الناتجة من التكفير والاستعطاف ومن كل ذلك تصدر جميع البركات الداخلية الروحية والحياة الأبدية. وجميع هذه الفوائد لا يمكن تحصيلها بواسطة التعليم والآداب والقدوة ولا بواسطة تغيير داخلي فينا. والحاصل مما تقدم أن المسيح هو كاهن بالحقيقة حسب معني هذه الكلمة في الكتاب المقدس تماماً.
ومن أخص تعاليم الكتاب المقدس في الوظيفة الكهنوتية :
1 – وجوب إقامة الكاهن من بين البشر لينوب عنهم (عب 5 : 1 و 2 وخر 28 : 9 و 12 و 21 و 29).
2 – وجوب اختياره من الله وفرزه لتلك الغاية (عب 5 : 4 و عد 16 : 5).
3 – وجوب كونه قدوساً طاهراً مكرساً لخدمة الرب (لا 21 : 6 و 8 ومز 106 : 16 وخر 39 : 30 و 31).
4 – أن يكون له حق الاقتراب إلي الله بتقديم الذبائح والشفاعة في الشعب (عد 16 : 5 وخر 19 : 22 ولا 16 : 3 و 7 و 12 و 15).
فالكاهن بموجب ما سبق وسيط من بين البشر ليقف أمام الله
أولاً : لأجل تقديم الذبائح (عب 5 : 1 و 2 و 3)
وثانياً : لأجل الشفاعة (خر 30 : 8 ولو 1 : 10 ورؤ 5 : 8 و 8 : 3 و 4) وقد دعي المسيح كاهناً في الكتاب المقدس (مز 110 : 4 وعب 5 : 6 و 6 : 20 وزك 6 : 13) ونسبت إليه الأعمال الكهنوتية (أش 53 : 10 و 12 ودا 9 : 24 و 25) وكان هو المرموز إليه في الكهنوت اللاوي ولا سيما في رئيس الكهنة العظيم وفي الذبائح وقد أبان ذلك كاتب الرسالة إلي العبرانيين بأجلى بيان. وكان المسيح إنساناً من بني جنسنا (عب 2 : 16 و 4 : 15) ومختاراً من الله (عب 5 : 5 و 6) قدوساً وطاهراً (لو 1 : 35 وعب 7 : 26) وله حق الاقتراب إلي الله والقبول لديه تعالي في النيابة عنا كرئيس كهنتنا العظيم (يو 16 : 28 و 11 : 42 وعب 1 : 3 و 9 : 11 – 14) فالقول أن المسيح كاهن لينوب عنا في ما يختص بالله بالذبائح والشفاعة من أوضح تعاليم الكتاب المقدس.
بين من الكتاب المقدس أن المسيح تمم وظيفة الكاهن فعلاً ؟
قلنا أن وظيفة الكاهن تحيط أولاً : بالكفارة وثانياً : بالشفاعة وورد أن المسيح توسط بين الله والناس (يو 14 : 6 و 1 تي 2 : 5 وعب 8 : 6 و 12 : 24) وأنه قدم ذبيحة كفارية (أف 5 : 2 وعب 9 : 26 و 10 : 12 و 1 يو 2 : 2) وأنه شفع في الشعب ولا يزال يشفع فيهم (رو 8 : 34 وعب 7 : 25 و 1 يو 2 : 1) ولا ريب أن المسيح أجرى هذه الأعمال الكهنوتية حقيقة لا مجازاً لأنه كان المرموز إليه برموز العهد القديم والرمز إشارة إلي ما هو حقيقي ولا يكون الرمز إشارة إلي رمز آخر (عب 9 : 10 – 12 و 10 : 1 وكو 2 : 17) وتمم المسيح هذه الوظيفة العظيمة جزئياً علي الأرض (عب 5 : 7 – 9 و 9 : 26 – 28 ورو 5 : 19) وكلياً في السماء حيث قدم ذبيحة في قدس الأقداس السماوية وهو حي إلي الأبد يشفع فينا (عب 7 : 24 و 25 و 9 : 12 و 24).
كيف يتكلم الكتاب المقدس علي كهنوت المسيح ؟
الكلام في الكتاب المقدس علي كهنوت المسيح مؤسس علي الاصطلاحات والفرائض المختصة بالذبائح والخدمة الكهنوتية في النظام الموسوي غير أنه ورد فيه أن المسيح كاهن وذبيحة معاً أي أنه قدم الذبيحة باعتبار كونه كاهناً وأن الذبيحة التي قدمها كانت نفسه وكان باعتبار كونه ذبيحة بلا عيب كافياً مقبولاً كاملاً لأنه حمل الله المذبوح لأجل خطية العالم وكان باعتبار كهنوته كاهناً تمت فيه جميع شروط تلك الوظيفة وما تقتضيه بل كان علي رتبة الكهنوت اللاوي وعلي رتبة ملكي صادق أيضاً.
وفي الكتاب المقدس استعارات أخري غير ما أخذ من الفرائض الموسوية لإيضاح ماهية عمل المسيح الكهنوتي ومنها ما أخذ من مصطلحات التجارة كتنزيل الخاطئ بمنزلة مديون للعدل الإلهي والمسيح موفي الدين. وكذلك ما أخذ من وقائع الحرب كتشخيص الخاطئ أسيراً والمسيح الفادي الذي دفع ثمن فدائه. ومثله ما أخذ من مصطلحات الشرع كاعتبار الخاطئ مذنباً والله المبرر بسبب بر المسيح وما أخذ من مصطلحات الأحكام المدنية كاعتبار الخاطئ عاصياً يحصل علي العفو بواسطة توسط المسيح وشفاعته. والأمر الجوهري في كل هذه الاستعارات هو أن المسيح وسيط لأجل رفع الخطية وإنقاذ المذنب من لعنة الشريعة بتقديم ذبيحة نيابية تعتبر وسيلة كافية إلي إنقاذ الخاطئ من الدينونة وفتح باب المصالحة بينه وبين الله فبهذا المعني كانت وساطة المسيح من أولها إلي آخرها ذبيحة نيابية لأجل خلاص البشر.
بماذا ارتفع شأن كهنوت المسيح علي الكهنوت اللاوي ؟
1 – بسمو شخصه فإن الكهنة اللاويين كانوا بشراً والمسيح كان ابن الله الأزلي وهم كانوا خطاة التزموا أن يقدموا ذبائح أولاً : عن خطاياهم وثانياً : عن خطايا الشعب والمسيح كان قدوساً بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلي من السموات (عب 7 : 26 و 27) وكان اقترابه إلي الله علي سبيل الاتحاد السري الذي لا يقدر عليه أحد من البشر سواه (يو 10 : 30).
2 – بقيمة ذبيحته الفائقة فإن ذبائح اللاويين عاجزة بذاتها عن التطهير من الخطية وكانت تتكرر علي الدوام وكانت ظل الذبيحة المنتظرة (عب 10 : 1 – 4) ولكن ذبيحته كانت فعالة ولم تتكرر (عب 10 : 10 – 14).
3 – في أنه كهنوته لا يزول خلافاً لكهنوت اللاويين الذي كان ينتقل من شخص إلي آخر علي توالي الأزمنة (عب 7 : 24) وأقيمت كهنتهم بلا قسم ولكن هو بقسم (عب 7 : 20 – 24).
4 – في كون كهنوت المسيح مختص بالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد أي الذي ليس من هذه الخليقة وهو قدس الأقداس السماوي وهناك يظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا (عب 9 : 11 – 24) وشفاعة المسيح تقدم من العرش السماوي ولها فعل مطلق لا يرد (رو 8 : 34 وعب 8 : 1 و 2).
5 – في أن المسيح نبي وكاهن وملك معاً خلافاً لكهنة العهد القديم (زك 6 : 13).
بأي معني كان المسيح كاهناً علي رتبة ملكي صادق ؟
إن الكهنوت من نسل هارون كان رمزاً إلي كهنوت المسيح غير أن ذلك الرمز كان ناقصاً في بعض الأمور أي أنه لم يشر إلي حقائق ظهرت في المرموز إليه وذلك في كونه اختص بأشخاص مائتين ينتقل كهنوتهم علي توالي الأزمنة ولم يكن أحد منهم من الرتبة الملكية له شئ من السلطان الملكي في كهنوته ولكن ملكي صادق ظهر بغتة في تاريخ العهد القديم كاهناً وملكاً معاً وسمي ملك البر وملك السلام (تك 14 : 18) ولا نعرف من أمره سوي أنه كان ملكاً وكاهناً وأنه في وظيفته كان بلا سابق وبدون خلف أي لا أحد سبقه ولا أحد خلفه في وظيفته الخاصة ولذلك كما قال صاحب رسالة العبرانيين كان مشبهاً بابن الله (عب 7 : 1 – 3 ومز 110 : 4). وقيل أن المسيح كاهن إلي الأبد علي رتبة ملكي صادق بمعنيين الأول : أنه يشير إلي كهنوت أبدي والثاني : أنه يشير إلي اجتماع الوظيفة الملكية والوظيفة الكهنوتية في شخص المسيح.
كيف يتبين أن المسيح كاهننا الوحيد ؟
ذلك يتبين من حقيقة هذه الوظيفة والقصد بها :
1 – أنه ليس لأحد من البشر غير الرب يسوع المسيح حتى القدوم إلي الله لأنهم خطاة ويحتاجون إلى من يقترب إلي الله عنهم.
2 – أنه لا تقدر ذبيحة غير ذبيحته أن تنزع الخطية.
3 – أن الله يرحم الخطاة بواسطته فقط.
4 – أن الفوائد التي تصدر من رضى الله إنما تجرى إلي شعبه تعالى بواسطة المسيح.
وقد تقدم أن كهنة العهد القديم كانوا أمثلة ورموزاً إلي المسيح الكاهن الحقيقي وأن ذبائحهم لا تقدر أن تطهر الضمير من الخطية بل تقتصر علي التطهير الظاهر الطقسي. فكانت تفيد المصالحة مع الله في كونها رموزاً إلي تلك الذبيحة الحقيقية أي ذبيحة المسيح الذي هو موضوع الإيمان وأساس الثقة. ومن ثم كما قال الرسول كانت تقدم علي الدوام لأنها لما كانت بلا فاعلية في نفسها كان الشعب محتاجاً إلي أن يفطن دائماً بإثمه واحتياجه إلي تلك الذبيحة الفعالة المنبأ بها في أسفارهم المقدسة.
بأي معني ينسب إلي جميع المؤمنين حقوق كهنوتية في الكتاب المقدس ؟
بما أن المسيحي المؤمن متحد بالمسيح اتحاداً روحياً فهو يشترك في فوائد موته وفي أمجاد نصرته وله حقوق خاصة من نعمة الله مبنية علي تلك الشركة ومنها حق القدوم رأساً إلي الله بالمسيح حتي حق الدخول إلي الأقداس بدم يسوع (عب 10 : 19 – 22) وإذا تقدم علي هذه الكيفية بقلب صادق وبنفس متجددة فله أن يقدم ذبائح روحية لا كفارية كالتسبيح والتضرع والتشكر باسم يسوع المسيح وأن يشفع في غيره من الأحياء (عب 13 : 15 و 1 تي 2 : 1 و 2 و 1 بط 2 : 5 و 9).
وبذات هذا المعني هم أنبياء وشركاء في سلطان المسيح الملكي (1 يو 2 : 20 ويو 16 : 13 ورؤ 1 : 6 و 5 : 10