قيل عن شيخٍ آخر إنه في وقتٍ أتاه اللصوصُ وقالوا له: «جئنا لنأخذ جميعَ ما في قلايتِك»، فقال لهم: «خذوا ما شئتم أيها الأولاد». فلما أخذوا جميعَ ما وجدوه مضوْا ونسوا مخلاةً مستورةً بخوصٍ، فلما نظرها الشيخُ أخذها وخرج يخطر وراءهم وهو يصيح ويقول: «يا بَنيَّ، خذوا ما قد نسيتم». فلما رأوا ذلك منه عجبوا من دعتِهِ وسلامةِ قلبِهِ، وردوا كلَّ ما أخذوه إلى قلايتِهِ. وقال بعضُهم لبعضٍ: «بحقٍ إن هذا رجلُ الله»، وكان ذلك سبب توبتهم وتركهم ما كانوا عليه من اللصوصيةِ.
ذكروا عن أحدِ الإخوةِ أنه كان مجاوراً لشيخٍ من المشايخ له فضلٌ، فكان يدخل في قلايتِه كلَّ يومٍ ويسرق ما يجده فيها، وكان الشيخُ يفهم ذلك ولا يوبخه ولا يعاتبه، بل كان يكدُّ ويُزيدُ على وظيفتهِ في عملهِ، ويقول في نفسِه: «لعل الأخَ إنما يفعلُ هذا بسببِ الحاجةِ». وكان الشيخُ شديدَ التعبِ والكدِّ بسببِ ذلك لدرجةِ أنه ما كان يَفْضُل له ما يأكل به خبزاً. فلما حضرت الشيخَ الوفاةُ، أحاط به الإخوةُ، فنظر وإذا بذلك الأخِ الذي كان يسرق متاعَه بينهم، فقال له: «ادّنُ مني يا ابني». واندفع يقبل يديه ويقول: «يا إخوة، أنا أشكرُ هاتين اليدين اللتين بهما أدخلُ ملكوتَ السماءِ». فلما سمع الأخُ ذلك، رجع إلى نفسِه وندم على فعلِه، وكان ذلك سبباً في توبتهِ.
من قول البابا أثناسيوس الرسولي: قد يعرض أن يقولَ أحدٌ: «أين هو زمانُ الاضطهادِ حتى كنتُ أصيرُ شهيداً»؟ فأقول له أنا: «الآن يتجه لك أن تكونَ شهيداً إن أردتَ، متّ عن الخطيةِ، أَمِت أعضاءَك التي على الأرضِ، وبذلك تصيرُ شهيداً باختيارِك، فأولئك الشهداءُ كانوا يقاتلون ملوكاً ورؤساءً جسديين، أما أنت فإنك تقاتلُ ملكَ الخطيةِ، محتالاً عنيداً، والشياطين رؤساءَ الظلامِ. أولئك كانوا ينصبون للشهداءِ عقوباتٍ مختلفةً لأجلِ عبادةِ الأصنامِ، فتفطَّن الآن فإنه توجد مائدةٌ ومذبحٌ وصنمٌ مرذولٌ، وقد يكلفون العقلَ للسجودِ، فالمائدةُ هي نهمُ البطنِ، والمذبحُ هو التلذذ بما دَسِمَ من الأطعمةِ، والصنمُ هو شهوةُ الزنى المرذولة والمصوِّرة لتركيب الأجسام. وكذلك فإن من واظب على اللّذاتِ وتعبد للزنى فقد جحد يسوعَ وسجدَ للصنمِ، لأن له في ذاتهِ صنمَ الزهرةِ وهو لذة الأجسامِ القبيحة. ومَن كان مغلوباً من الغيظِ والغضبِ فقد أنكر يسوعَ وله في نفسِه المديحُ إلهاً، وهو يسجدُ للغيظِ الذي هو صنمُ الجنونِ، ومن انغلب لحبِ الفضةِ، وأغلق تحننَه عن الفقراءِ، فقد كفر بيسوعَ وعَبَدَ الأصنامَ لأن له في نفسِه صنمَ عطارد وقد عَبَدَ البَرِية دون باريها. فإن أنت ضبطتَ هواك من هذه الأمورِ، وتحفّظتَ منها فقد وطأت الأصنامَ وصرتَ شهيداً والربُ يسوعُ المسيحُ يساعدك».
قصد راهبان أحدَ الشيوخِ، وكان أحدُهما شيخاً والآخرُ شاباً، فشكا الأكبرُ من الأصغرِ، فتأمَّل الشيخُ إلى الشابِ وقال له: «أصحيحٌ ما قاله عنك»؟ فقال: «نعم يا أبانا لأني أحزنتُه»، ثم فكَّر الشابُّ في قلبهِ ونَدِمَ على ما قاله، وقال: «لستُ أنا بل هو الذي أحزنني، إلا أني جعلتُ اللائمةَ على نفسي بكلامي». وتوقف ولم يقدر أن يجيبَ بشيءٍ آخر. وأن الشيخَ صاح بصوتِه، فقالوا له: «لماذا صحتَ يا أبانا»؟ فأجاب: «بأنه عند دخولِ هذين الراهبين عندي رأيتُ زنجياً واقفاً قدامهما وبيده قوسٌ ونشَّابٌ، وكان ينشب نحوهما، وما كانت النشابةُ تصيب سوى ثيابهِما، فلما تذمر الشابُ، أرسل الزنجيُ النشَّابَ نحوه فكادت تقتله، من أجل ذلك كان صراخي هذا عليه كيلا يقتله». ثم أن الأخوين سألا من الشيخِ شفاءَ العارضِ، فقال لهما الشيخُ: «متى وقعت بينكما خصومةٌ فتذكرا الزنجي، فيكُفَّ تأثيرُ الخطيةِ عنكما». فعادا وفعلا ذلك وشُفيا.
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ما هو نجاحُ الراهبِ»؟ فقال: «التواضع، لأن بدونِه لا يكون نجاحٌ، وبمقدارِ نزولِه في التواضع يكون مقدارُ صعودِهِ إلى علوِ الفضيلةِ». فسأله أيضاً: «فكيف تقتني النفسُ الفضيلةَ»؟ فقال: «إذا هي اهتمت بزلاتِها وحدِها».
قال أنبا إيليا: «أيُّ مقدرةٍ للخطيةِ حيث تكونُ التوبةُ، وأيُّ منفعةٍ للمحبةِ حيث تكون الكبرياءُ»؟