![]() |
رحلوا لكني لم أستطع أن أرحل معهم
رحلوا لكني لم أستطع أن أرحل معهم في مارس 2022، وجد ميكولا نفسه في لحظةٍ لا يمكن لإنسان أن يصفها، بين الحياة والموت، بين صوت الرصاصة ووقع التراب على جسده. كان كل شيء قد بدأ في بيت العائلة البسيط، حين داهمه عدد من الرجال المسلـحين واصطحبوه هو وإخوته بعيدًا، دون أن يعرفوا إلى أين. في قبوٍ مظلم لا يرى فيه سوى العتمة، تعرّض ميكولا وإخوته للضرب والتهديد، وامتلأ المكان بأنين مكتوم وصرخات قصيرة انقطعت فجأة مع كل ضربة. وبعد أيامٍ من الخوف والعذاب، اقتيدوا إلى أرضٍ مهجورة. هناك، أمام حفرةٍ حُفرت في صمت، أُجبروا على الركوع وأُغمضت أعينهم. لم يكن أمام ميكولا سوى أن يصلي في قلبه بصمت، يتمنى أن تكون النهاية سريعة. لكن القدر كان يخبئ له طريقًا آخر. سمع صوت الرصاصة الأولى، فخرّ شقيقه على الأرض، ثم الثانية… ثم جاء دوره. انطلقت الرصاصة الثالثة، اخترقت خده وخرجت قرب أذنه، فشعر بحرارة الدم تسيل على وجهه، لكنه لم يفقد وعيه. في تلك اللحظة الحاسمة، اختار أن يتظاهر بالموت. جمّد أنفاسه، وأسلم جسده للسكون التام، بينما الأقدام تدوس من حوله، والأنفاس الغريبة تقترب ثم تبتعد، قبل أن يسود الصمت ويبدأ التراب يتساقط عليه. تراكم التراب شيئًا فشيئًا حتى غطّى وجهه، وبدأ الهواء يختـنق في صدره. جسد شقيقه الثقيل كان فوقه، يمنعه من الحركة، لكن قلبه ظل ينبض، رافضًا أن يستسلم. ببطءٍ، ووسط ظلام خانق، حرّك يديه المقيدتين، ودفع جسد أخيه جانبًا، ثم بدأ يحفر طريقه نحو النور. كانت كل حركة تشبه معجزة، وكل نفسٍ يأخذه يشبه عودةً من الموت. حين خرج أخيرًا من الحفرة، كان جسده يرتـجف، ووجهه مغطى بالدم والطين. لم يكن حوله سوى السكون والليل، لكن داخله اشتعلت شرارة الحياة من جديد. زحف على الأرض متتبعًا خيوط الأفق البعيدة، حتى لمح بيتًا صغيرًا مضاءً في الظلام. طرَق الباب بيد مرتعشة، ففُتح له، ونظرت إليه امرأة بذهول… وجه غارق بالدماء، وثياب ممزقة، وعيون لم يطفئها الرعب. أدخلته في صمتٍ وقد أدركت أن أمامها إنسانًا عاد من الموت حقًا. في اليوم التالي، حين وصل إلى بيته، وقفت أخته تحدق فيه غير مصدقة، تلمس وجهه كأنها تتحقق من أنه ليس شبحًا. سألته بصوتٍ مبحوح: "أين إخوتك؟" فأجابها وهو ينظر إلى الأرض: "رحلوا... لكني لم أستطع أن أرحل معهم." مرت الأيام، وعاد ميكولا إلى المكان الذي شهد موته ونجاته، ليمنح أحبّته قبورًا تليق بذكراهم. أما هو، فبقيت الندبة على وجهه شاهدة على الرصاصة التي لم تقـتله، وعلى تلك اللحظة التي فهم فيها معنى أن يولد الإنسان مرتين. |
الساعة الآن 02:57 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025