منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=845236)

Mary Naeem 12 - 02 - 2022 06:50 PM

كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري

الفصل الاول: تفسير السلام عليك ايتها الملكة ام الرحمة والرأفة... - كتاب امجاد مريم











الفصل الأول




* في تفسير الكلمات الأولى من الصلاة الآتي ذكرها وهي*
السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة، السلام عليك يا حياتنا ولذتنا ورجانا، إليكِ نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء ونحوك نتنهد نائحين وباكين في هذا الوادي وادي الدموع، فأصغي إذاً إلينا يا شفيعتنا وأنعطفي بنظرك الرأوف نحونا وأرينا بعد هذا المنفى يسوع ثمرة بطنك المباركة، يا شفوقة يا رأوفة يا مريم البتول الحلوة اللذيذة آمين*


*ويشتمل هذا الفصل الأول على أربعة أجزاء*




الجزء الأول
* في كم يجب أن يكون رجانا وطيداً في مريم والدة الإله من
حيث أنها هي الملكة أو الرحمة*
أنه لأجل أن مريم البتول الكلية القداسة قد حازت منالله هذه الرتبة الكلية السموّ، وهي أنها صارت والدةً لملك الملوك وسيد الممالك جميعها، فبكل عدلٍ واستحقاقٍ قد كرمتها الكنيسة بصفة ملكة، وتريد من الجميع أن يكرمونها بهذه الصفة المجيدة. على أنه يقول القديس أثناسيوس: أن كان الابن هوملكاً فيلزم بكل عدلٍ أن تدعى والدته ملكةً وتعتبر كذلك. ويضيف الى هذا القديس برنردينوس السياني (في العدد الحادي والخمسين من المجلد الثاني) قائلاً: أنه من الوقت الذي فيه قد ارتضت مريم البتول بأن تكون أماً للكلمة الأزلي، فقد استحقت منذ تلك الساعة أن تصير ملكة العالم وكل المخلوقات. والأنبا القديس أرنولدوس يبرهن هكذا بقوله: أنه أن كانت لحمان جسم العذراء المجيدة لم تكن متميزة عن لحمان ابنها يسوع، فكيف يمكن أن يكون شخصها منفصلاً عن صفة التملك في مملكة ابنها، مع كونها أمه. ولذلك يلزم أن يقال أن مجد المملكة ليس فقط هو مشتركاً فيما بين الابن ووالدته ومشاعاً لهما، بل أيضاً هو خاص لكلٍ منهما*
ويقول الأنبا روبارتوس: أنه أن كان يسوع المسيح هو ملك الكائنات أجمع. فمريم والدته هي أيضاً ملكة المخلوقات بأسرها: فمن ثم كتب القديس برنردينوس المار ذكره: أن كل المخلوقات التي تخدم الله يلزمها أن تخدم مريم أيضاً، لأن جميع الملائكة والبشر وكل الموجودات في السماء والأرض، فبحسب كونهم مخضعين لمملكة الله فهم مخضعون لسلطان مريم البتول أيضاً(ف 61 كتاب 2) فلهذا يتجه الأنبا غواريكوس نحو هذه الأم الإلهية مخاطباً إياها هكذا: فداومي إذاً يا مريم على ممارسة سلطان تملكك أمينةً مطمئنة، وتصرفي كما تشائين بخيرات ابنكِ جميعها، لأنكِ من حيث كونكِ أماً وعروسةً لملك العالم فيلزم أن تخضع لكِ المملكة. إذ أنكِ ملكةٌ ويخصكِ التولي على المخلوقات بأسرها.*
فإذاً مريم البتول هي ملكةٌ، ولكن فليعلم كل واحدٍ لأجل التعزية العمومية، أنها هي ملكةٌ كلية العذوبة والحلاوة والحلم والشفقة، منعطفةٌ لصنيع الخير معنا نحن المساكين الأذلاء ولذلك تريد منا الكنيسة أن نسلم عليها بهذه الصلاة مسمين إياها: ملكة الرحمة: ثم ان صفة ملكة تشير كما يقول الطوباوي البرتوس الكبير الى الحنو والعناية نحو الفقراء خلافاً لتسمية مسلطة مقتدرة المشيرة الى الصرامة والخوف. فسينكا الفيلسوف يعلّم قائلاً: أن جلالة الملوك والملكات أنما تتلألأ في اسعافهم المساكين واحسانهم اليهم. أما المغتصبون المختطفون الكراسي الملوكية اختلاساً واغتصاباً، فانما غايتهم هي خير ذواتهم لا غير. وأما الملوك الشرعيون فيلزم أن تكون غايتهم خير رعاياهم. ولذلك جرت الرسوم في أن تدهن هامة الملك يوم احتفال تتويجه بزيتٍ، دلالةً على الليونة والرحمة والرأفة، لكي يتذكر ألتزامه في أن يلاحظ فضلاً عن كل شيءٍ ما به يصنع الرحمة والإحسان مع المخضعين لولايته*
فمن ثم تلتزم الملوك بأن يجتهدوا بالوجه الأول في أعمال الرحمة، ولكن ليس بنوعٍ هذا حدّه، حتى أنهم يتناسون أن يمارسوا واجبات العدل في عقاب المذنبين حينما يحتاج الأمر لذلك. غير أن تصرف مريم البتول ليس هو على هذه الصورة. لأنها ولئن كانت هي ملكةً، فمع ذلك ليست هي ملكةً مؤدبةً معاقبةً منتقمةً من المذنبين بل هي: ملكة الرحمة: المنعطفة الى الشفقة وصنيع الرحمة فقط والى منح الغفران للخطأة. ولهذا قد شاءت الكنيسة تقصداً أن ندعوها نحن بالحصر: ملكة الرحمة. فعندما كان يتأمل المعلم جرسون العظيم أول مسجلي الديوان الملوكي في مدينة باريس، تلك الكلمات الداودية الموردة من المرتل في العدد الثاني عشر من المزمور الحادي والستين وهي قوله: مرةً واحدةً تكلم الرب وهاتين الاثنتين سمعت أن العزة لله ولك يا رب الرحمة لأنك أنت تجازي كل واحدٍ نظير أعماله: فقد فسرها هو هكذا قائلاً:( في البحث الرابع من القسم الأول من تأليفه):" أنه إذ كانت مملكة الله قائمةً ومتوقفةً على هاتين الاثنتين وهما العدالة والرحمة. فالرب قد قسم لذاته ملك العدل، حافظاً لشخصه فقط الانتقام، ووهب قسم مملكة الرحمة لمريم والدته، راسماً بأن المراحم كلها التي يمنحها للبشر تكون موزعةً منه بواسطة ملكة الرحمة هذه حسبما تشاء هي وتريد". وقد أثبت ذلك القديس توما اللاهوتي في مقدمته على الرسائل القانونية بقوله: أن البتول القديسة حينما حبلت في أحشائها بالكلمة الأزلي وولدته تعالى، فقد حازت نصف مملكة الله بصيرورتها ملكة الرحمة. وحفظ يسوع ابنها لذاته صفة ملك العدل*
فالآب الأزلي انما أقام يسوع المسيح ملكاً للعدل، ولذلك جعله قاضياً ودياناً مطلقاً للعالم بأسره. ومن ثم يهتف المرتل قائلاً: اللهم أعط حكمتك للملك وعدلك لابن الملك:( مزمور72 ع1) فهنا أحد مفسري الكتاب المقدس البارعين يخاطب الله بقوله: أيها الرب أنك أنما أعطيت ابنكَ مملكة العدل، ووهبت مريم البتول والدته مملكة رحمتك. والقديس بوناونتورا يغير الألفاظ الداودية المذكورة كموجب هذا التفسير قائلاً: اللهم أعط عدلك للملك ورحمتك لأم الملك. وكذلك يقول السيد أرباسطوس رئيس أساقفة براغا: أن الآب الأزلي قد خصص الابن بوظيفة قاضٍ معاقبٍ بالعدل. ومنح الأم وظيفة الاشفاق والرحمة نحو المساكين والسعي في اسعافهم: ومن ثم فالنبي داود نفسه سبق مشيراً الى أن الله قد مسح (لكي يقول هكذا) مكرساً مريم البتول ملكة الرحمة بزيت البهجة (مزمور.ع 45) لكي نبتهج نحن بأجمعنا أولاد آدم الأشقياء المساكين، ونتهلل عند تذكرنا أن لنا في السموات ملكةً ممسوحةً بزيت الرحمة، مملؤةً من الرأفات والاشفاق نحونا، حسبما يقول القديس بوناونتورا (في الفصل7): أن مريم هي ممتلئةٌ من مسحة الرحمة ومن زيت الرأفة كما قيل أن الله قد مسحك بزيت البهجة*
ففي هذا الموضوع حسناً جداً يخصص الطوباوي البرتوس الكبير بوالدة الإله خبرية أستير الملكة، التي قد كانت رسماً وصورةً لملكتنا الشريفة. ففي الأصحاح الرابع من سفر أستير يورد. أنه اذ كان متملكاً أحشوروش الملك قد خرج أمرٌ الى جميع حدود مملكته في قتل اليهود جميعاً، فحينئذٍ مردخاي الذي كان هو واحداً من هؤلاء المقضى عليهم بالموت. قد استخدم أستير شفيعةً في أمر مصائبهم، لكي تدخل واسطةً مع الملك، وتجتذبه لأن ينقض الحكومة المبرزة ضدهم. فهذه الملكة قد رفضت في الأول أن تتداخل في هذه القضية، لخوفها من أن تسبب للملك أحشوروش زيادة الغيظ. غير أن مردخاي قد عنفها وأرسل يقول لها بأنها لا تفتكر في أن تخلص نفسها فقط معرضةً عن أبناء جنسها. في الوقت الذي فيه أنما رفعها الرب الى كرسي الملك، لكي تنال الخلاص لليهود كافةً. فهكذا قال مردخاي وكذلك نحن الخطأة الأذلاء يمكننا أن نقول لملكتنا مريم المجيدة: لا تفتكري أيتها السيدة بأن الله قد رفعكِ الى مرتبة ملكة العالم لكي تعتني في شأن خيركِ أنتِ وحدكِ، بل حتى أنكِ اذ حصلتِ عظيمةً سامية الاقتدار، تستطيعين أن تترأفي مشفقةً علينا ومهتمةً في أسعافنا نحن البائسين*
فأحشوروش الملك حينما شاهد أستير ماثلةً أزائه قد سألها بحبٍ قائلاً: مالكِ يا أستير الملكة وما هي طلبتكِ: فأجابته وقالت له: أن وجدتُ في عيني الملك نعمةً وان رأى الملك أن يهب لي نفسي في سؤالي وأمتي في طلبتي:: فالملك قد قبل ألتماسها. وأمر حالاً بأن لا تبلغ مفعولها مراسيمه المبرزة ضد اليهود. فإذاً ان كان الملك احشوروش قد استجاب طلبة أستير لأجل حبه اياها، ووهب اليهود نعمة الخلاص من الموت أكراماً لها. فكيف يمكن للباري تعالى ان لا يقبل طلبات مريم البتول، مع أنه يحبها حباً غير متناهٍ. أو كيف يمكن أن يرفض توسلاتها في شأن خير الخطأة الذين يلتجئون اليها مستغيثين بشفاعاتها حينما تقول هي له عز وجل. أنني أن كنت وجدت لدى عينيك نعمةً أيها الملك. فهبني شعبي الذين أتوسل إليك من أجلهم (هذا مع أن البتول الأم الإلهية تعلم جيداً أنها هي وحدها المباركة في النساء والطوباوية في جميع البشر لأنها وجدت النعمة التي هم أضاعوها. وتعرف أنها هي كلية القبول لدى سيدها، ومحبوبة منه أفضل حباً من جميع الملائكة والبشر معاً) فهل هو ممكن أنها تلتمس منه تعالى قائلةً:" أن كنت تحبني أيها السيد فأمنحني واهباً هؤلاء الخطأة الذين أتضرع إليك من أجلهم". وهو جلت قدوسيته لا يقبل طلبتها. فمن تراه يجهل مقدار قوة تضرعات هذه السيدة أمام الله. مع أن شريعة الرحمة في لسانها كما قيل عنها في العدد 26 من الاصحاح 31من سفر الامثال: فكل تضرعٍ تصنعه هي فهو محسوبٌ بمنزلة شريعةٍ مرسومة من الله. بأن توهب الرحمة والنعمة لكل أولئك الذين تتوسل هي من أجلهم. فالقديس برنردوس في تفسير هذه الصلاة أي: السلام عليكِ يا ملكة الرحمة: يسأل كمستفهمٍ لماذا أن الكنيسة تسمي مريم العذراء ملكة الرحمة، ثم يجيب هو نفسه على سؤاله هذا قائلاً: لأننا نحن نوقن معتقدين بأنها هي تفتح أبواب رحمة الله التي لا قرار لعمقها، وتهب هذه الرحمة لمن تريد وحينما تشاء وبالنوع الذي ترومه. ولهذا لا يوجد أصلاً خاطئ ما مهما كانت مآثمه متفاوتة كل الشناعات يمضي هالكاً، أن كانت مريم تحامي عنه*
ولكن أهَل نستطيع نحن أن نخاف من أن هذه الأم الإلهية، لا تتنازل لأن تدخل وسيطةً وشفيعةً لدى الله من أجل الخاطئ، لأجل أنها تشاهده حاملاً وسقاً ثقيلاً من خطايا كثيرة. أو هل ربما أننا نستوعب رهبةً وارتجافاً من سمو جلالة مقام هذه الملكة، ومن علوّ قمة القداسة الحاصلة هي عليها. لا لعمري، لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير (في الرسالة 47من كتابه1): أنه بمقدار ما أن هذه الملكة هي عالية الشأن وسامية في القداسة، فبمقدار ذلك هي ذات عذوبةٍ أفضل وحنوٍ أعظم واشفاقٍ أكمل، نحو اسعاف الخطأة الذين يرومون النجاة من مآثمهم تائبين، ويقصدون شفاعاتها مستغيثين. فأي نعم أن عظمة سطوة الملوك، وسمو جلالة الملكات، يسببان في قلوب رعاياهم الرهبة، ويصدانهم عن سهولة الامتثال أمامهم في البلاط الملوكي لخوفهم منهم. غلا أنه يقول القديس برنردوس: أي خوفٍ يمكنه أن يعتري الخطأة البائسين من أنهم يلتجئون الى ملكة الرحمة هذه. في الوقت الذي فيه لا تظهر هي شيئاً من الرعدة أو الصرامة ضد من يتقدم اليها مستغيثاً بها. بل تعلن له ذاتها بكليتها مملؤةً من العذوبة والرفق والحنو، وهي نفسها تقدم للجميع لبناً وصوفاً: أي أنها ليس فقط تمنح السائل مسألته، بل أيضاً هي عينها تقدم لنا جميعاً لبن الرحمة، لكي تشجعنا على توطيد الرجاء في شفاعاتها، وصوف الحماية الذي اذا ما تردينا به فننجوا من صواعق انتقام العدل الإلهي*
فيخبرنا سفاسطونيوس عن الملك تيطس قيصر بأنه لم يكن يعرف هذا الملك أن يرفض ايهاب نعمةٍ ما عن أي من كان يلتجئ اليه في طلبها منه، بل الابلغ من ذلك أنه هو نفسه بعض الاحيان كان يعد بايهاب النعم بأكثر مما كان ينتظر منه، زكان من عادته أن يعطي الجواب لمن كان يجتهد في تهذيب هذا السخاء فيه قائلاً له: أنه يلزم الملك أن لا يصرف أحداً من حضرته غير راضٍ منه بعد أن يكون سمح له بالحضور أمامه وبأستماع طلبته:
نعم أن هذا الملك كان يقول هكذا، الا أنه بالحقيقة كان يتفق له مراتٍ كثيرةً أن يستعمل الافك. أو يخرم في مواعيده غير متممٍ اياها. ولكن ملكتنا هذه الإلهية لا يمكنها أن تكذب، بل وتستطيع أن تستمد لعبيدها كل ما تريده لهم. ويضاف الى ذلك (كما يقول عنها لودوفيكوس بلوسيوس في الرأس12 من كتابه4) أنها هي حاصلةٌ على قلبٍ بهذا المقدار موعب حنواً ورأفةً، حتى أنها لا تستطيع أن تحتمل هذا الأمر. وهو أن أحداً مهما كان في ذاته، من الذين يتضرعون اليها يمضي من أمامها غير راضٍ، وغير متعزٍ بنوال مطلوبه: بل أن القديس برنردوس (في تفسيره الصلاة المار ذكرها) يخاطب هذه السيدة هكذا قائلاً: ترى كيف تقدرين يا مريم أن ترفضي اسعاف البائسين المستغيثين بكِ، في الوقت الذي فيه أنتِ هي ملكة الرحمة. وترى من هم أولئك الرعايا المخضعين لملكة الرحمة سوى الفقراء المساكين الاذلاء. فأنتِ هي ملكة الرحمة وأنا هو الخاطئ الأكثر دناءةً من الجميع. فاذاً أنا هو الأكبر فيما بين الرعايا المخضعين لمملكتكِ، ولذلك يلزم أن تكون عنايتكِ بي أشد فاعليةً من أهتمامكِ في جميع الآخرين*
فارحمينا اذاً يا ملكة الرحمة واهتمي في خلاصنا، ولا تقولي لنا أنكِ لا تستطعين أسعافنا لأجل أن خطايانا هي كثيرةً جداً، اذ أنكِ حاصلةً على سلطانٍ هكذا عظيمٍ ومطلقٍ. وعلى قلبٍ بهذا المقدار حنون ومترفق، حتى أن مآثمنا مهما كانت عدبيدةً ومتكاثرة، فلا يمكنها أن تسمو على سلطانك وأشفاقك، فلا شيءٌ من الأشياء يمكنه ان يقاوم سلطتكِ، لأن خالقكِ ومبدعنا أجمعين اذ كان يريد أكرامكِ بحسب كونكِ أماً له. فيعتد شرفكِ وتكريمك راجعين لشخصه، على أنه (كما ينتج واضحاً من أقوال القديس غريغوريوس النيكوميدى، في خطبته على نياح مريم البتول، وعنه هي مأخوذة الألفاظ المتقدم ايرادها) ولئن كانت هذه السيدة مملؤةً من الالتزام ومعرفة الجميل نحو ابنها الإلهي على ما أنعم هو به عليها برفعه اياها الى مقام والدةٍ حقيقيةٍ له، فمع ذلك أمرٌ غير قابل الإنكار هو أن هذا الابن عينه هو ملتزمٌ ليس بالقليل لامه هذه، لأجل اعطائها اياه الطبيعة الانسانية من دمائها النقية، فمن ثم لكي يكافئ يسوع المسيح والدته ويفي على نوعٍ ما التزامه نحوها، فيسر بتمجيدها واكرامها في أنه بنوعٍ خاصٍ يستجيب دائماً طلباتها كلها*
فكم ينبغي اذاً أن يكون رجاؤنا وطيداً في هذه الملكة، عند معرفتنا عظمة الاقتدار الحاصلة هي عليه لدى الله. ويضاف الى ذلك تأملنا في كم هي غنيةً ومملؤةٌ من الرحمة، بنوع أنه لا يوجد انسانٌ يحيى على الأرض من دون أن يشترك بمفاعيل اشفاقها واسعافها، الأمر الذي قد أعلنته هذه السيدة المجيدة نفسها للقديسة بريجيتا. (كما يوجد مدوناً في الرأس6 من الكتاب1 من سيرة حياة هذه القديسة) التي خاطبتها البتول والدة الإله قائلةً: أنني أنا هي ملكة السماء وأم الرحمة، وأنا هي فرح الأبرار والباب الذي بواسطته تدخل الخطأة الى الله، فلا يوجد على الأرض خاطٍ ما يعيش هذا المقدار ملعوناً ويستمر خالياً من اسعاف رحمتي. لأنه أن كان كل أحدٍ لا يحصل من مفعول شفاعتي من أجله، شيئاً آخر، فينال قلما يكون هذه النعمة، وهي أن تقل عنه تجارب الشياطين، بنوع أنها لكانت ضده قويةً جداً لولا شفاعتي. فلا يوجد أحدٌ، بحيث أنه لا يكون قد لعن مطلقاً (أي باللعنة الأخيرة المحكوم بها من دون أمكانية نقض الحكومة) يمضي مطروداً من أمام الله، بعد أن يكون استدعاني الى معونته مستغيثاً بي، ولا يرجع اليه تعالى ويتمتع برحمته الإلهية! فأنا قد سميت من الجميع أم الرحمة وبالحقيقة أن رحمة الله نحو البشر قد صيرتني هكذا شفوقةً رأوفةً نحوهم... فلهذا شقيٌ هو وسيكون شقياً على الدوام في الحياة العتيدة. ذاك الذي مع أمكانه أن يلتجئ اليَّ وهو في هذه الحياة. أنا التي بهذا المقدار شفوقةً نحو الجميع، وراغبةٌ عمل الخير مع الخطأة، فلا يستغيث بي بل يتكردس هالكاً*.
فلنلتح اذاً الى هذه الملكة الكلية العذوبة والرأفة. ولكن التجاءً متصلاً، أن كنا نريد أن نجعل أمر خلاصنا الأبدي في أمان. واذا كان تأملنا في كثرة خطايانا يخيفنا ويضعف شجاعتنا، فلنفكر في أن مريم لأجل هذه الغاية عينها قد أقيمت من الله ملكةً للرحمة، وهي لكي تخلص بواسطة حمايتها الخطأة الأشد شقاءً والأوفر تيهاً في طريق الهلاك. الذين يلتجئون اليها. لأن هؤلاء عتيدون أن يكونوا لها في السماء نظير اكليلٍ مستديرٍ حولها. حسبما يخاطبها عروسها الإلهي في الاصحاح الرابع من سفر النشيد قائلاً: تعالي يا عروستي من لبنان، هلمي من لبنان تجيئين فتتكللين من صير الأسود ومن جبال النمورة. فترى ما هي صير الوحوش الضارية هذه سوى الخطأة الأشقياء الذين أضحت أنفسهم صيراً للمآثم التي هي وحوشٌ شنيعة الصور بنوعٍ متفاوت حدود الشناعة. فحسبما يفسر الأنبا روبارتوس (في كتابه3 على سفر النشيد) قائلاً: من صير هذه الأسود تتكللين، فخلاصهم يكون تاجاً لكِ: على أن هؤلاء الخطأة الأذلاء بالخصوص الذين يفوزون بالخلاص الأبدي بوساطتكِ أيتها الملكة العظيمة، فهم الذين عتيدون أن يكونوا أكليلاً لك في الفردوس السماوي، لأن خلاصهم هو تاجٌ لك. وبالحقيقة أنه لتاجٌ لائقٌ وملائمٌ واستحقاقيّ لمن هي ملكة الرحمة التي هي أنتِ.*
* نموذج *
أنه لمدونٌ في سيرة حياة القديسة كاترينا المختصة بالقديس أوغوسطينوس. أنه في المكان الذي فيه كانت موجودةً خادمة الرب هذه، قد كانت هناك امرأة أسمها مريم، التي اذ أنها منذ حداثتها قد كانت تمرغت في حمأة المآثم، وتأصلت فيها الرذائل الشنيعة. فحينما تقدمت في العمر والسنين لم تكن بعد تركت سيرتها الأولى الرديئة المدنسة بهذا المقدار من الخطايا حتى أن أهل بلدتها قد طردوها من وطنهم، ونفوها الى مغارةٍ بعيدةٍ عنهم. كي تعيش هناك حيث ماتت فيما بعد مرذولةً منتةً، من دون تناول الأسرار المقدسة ولذلك قد دفنت جثتها في أحد الحقول كجثة وحشٍ مكروهٍ. فالبارة كاترينا التي كانت من عادتها أن تقدم تضرعاتٍ حارةً من أجل أولئك الذين كانت تسمع عنهم أنهم فارقوا هذه الحياة بالموت. فقد أهملت الصلاة من أجل نفس هذه الإمرأة التعيسة لظنها فيها نظير ما كان ظن الجميع أنها قد ماتت هالكةً في الجحيم. فبعد أن مضى من الزمن أربع سنوات، واذا يوماً ما بنفسٍ من الأنفس الكائنة في المطهر قد ظهرت للبارة كاترينا قائلةً لها: أيتها الأخت كاترينا كم هو تعسٌ حظي، فأنتِ دائماً تتوسلين لله من أجل أسعاف كل الأنفس التي تسمعين خبر انتقالها من هذه الدنيا. فكيف من أجلي أنا فقط لم توجد عندكِ شفقةٌ: فعبدة الرب كاترينا قد سألتها قائلةً: ومن هي أنتِ: فأجابتها هذه النفس بقولها: اني هي تلك المرأة المسكينة مريم، التي ماتت منفيةً في المغارة: فأردفت عليها السؤال كاترينا مستفهمةً بقولها لها: كيف جرى الأمر، أهَل أمكنك أن تخلصي من الهلاك: فأجابتها – نعم أنني فزت بالخلاص بواسطة مراحم مريم البتول. فقالت لها كاترينا: وكيف تم ذلك. فأخذت تلك تخبرها قائلةً: أنني حينما رأيت ذاتي مدنفةً قريبةً من الموت، فاذا تأملت في شقاوتي. وفي كم أنني مملؤةً من المآثم ومهملةٌ من الجميع، فقد أتجهت نحو والدة الإله قائلةً لها: أنك أيتها السيدة أنت هي ملجأ المتروكين المهملين، فأنت هي رجائي الوحيد وانت وحدكِ تقدرين أن تعينيني، فأرحميني وترأفي عليَّ: فالبتول القديسة قد استمدت لي من الله نعمة الندامة الصادقة. وهكذا قد مت ونجوت من الهلاك، ثم أن القديسة ملكتي قد استماحت لي من الرب هذه النعمة أيضاً. وهي أن زمن أقامتي في العذابات المطهرية لا يكون مستطيلاً، بل اختصرته لي بنوع أني أتكبد العذاب مضعفاً، بدلاً مما كان يلزمني أحتمله أزمنةً مستطيلةً من السنين، ولذلك فأنا الأن لست محتاجةً، لأجل خلاصي من المطهر، سوى الى بعض قداديس تتقدم لله من أجلي. فمن ثم أتوسل اليك بأن تهتمي في أن تصيري بعض الكهنة أن يتمم ذلك، وأنا أعدك بأن أتضرع من أجلك دائما لدى الله ولمريم البتول: فالبارة كاترينا من دون تأخيرٍ قد اجتهدت في تقدمة تلك القداديس عن نفس مريم المذكورة، التي ظهرت لها مرةً ثانيةً بعد أيام وجيزة ملحفةً بالأنوار الأكثر لميعاً من ضياء الشمس وقالت لها: أنني أشكر فضلكِ أيتها الأخت كاترينا، فهوذا أنا الآن منطلقةٌ الى السماء لكي أسبح رحمة الله إلهي وأتضرع لديه من أجلكِ.*
† صلاة †
يا سيدتي ووالدة إلهي مريم الطوباوية، أن مسكيناً مقرحاً بالجراح مستكرهاً منظره يتقدم أمام ملكةٍ عظيمة الجلالة. فأنا هو هذا المسكين، وقد أمتثلت أمامكِ أنتِ التي هي ملكة السماوات والأرض، متوسلاً لديكِ بألا تكرهي أن تنظري اليَّ من علو السدّة التي أنتِ جالسةٌ فوقها، بل أرمقيني بعين رأفتكِ أنا العبد الخاطئ الذليل، فأنما الله قد جعلكِ غنيةً لكي تسعفي البائسين، وأقامكِ ملكةً للرحمة ليمكنكِ أن تترأفي على الأشقياء التعيسين، فأنظري إذاً اليَّ، وأشفقي عليَّ، لاحظيني بطرف رأفتكِ، ولا تتركيني ألمَّ تنقليني من حال كوني خاطياً الى حال القداسة. فأنا أعلم ذاتي يقيناً أنني لا أستحق شيئاً من ذلك، بل بالأحرى أنني مستأهل لأجل عدم معرفتي جميل المحسن اليَّ، أن أعرى من النعم كلها التي حزتها من الرب بواسطتكِ. ولكن من حيث أنكِ أنتِ هي ملكة الرحمة، فلا تفتشين ولا تطلبين استحقاقاتٍ، بل تفحصين عن الأشقياء المهملين لكي تسعفيهم: فترى من هو أكثر مني احتياجاً وأشد مني شقاوةً*
فأنا أعلم أيتها البتول العالية الشأن، أنكِ بحسب كونكٍ ملكة المخلوقات بأسرها، فأنتِ هي ملكتي أنا أيضاً. الا أنني أريد بنوعٍ أخص وأشد التزاماً أن أكرس ذاتي بجملتي لخدمتكِ وعبادتكِ، لكي تتصرفي بي حسبما تشاءين وتريدين. ومن ثم أتفوه نحوكِ بكلمات القديس بوناونتورا قائلاً: أنني أريد أن أسلم ذاتي لولايتكِ أيتها السيدة لكي تعضديني وتدبري أحوالي كلها، وأن لا تتركيني على هواي: فعينيني أنتِ يا ملكتي وأحفظيني ولا تهمليني على هوى نفسي، أمريني وأستخدميني كما ترومين، بل عاقبيني أيضاً بالتأديب حينما لا أسلك ضمن حدود الطاعة لكِ، لأن القصاصات التي تأتيني من يدكِ هي مفيدةٌ خلاصيةٌ لي في الغاية، فأنا أفضل حال كوني عبداً لكِ، وأعتبره أشرف لي من أن أكون متملكاً على الأرض كلها، أنا لكِ فخلصيني. أقبليني خاصتكِ، وبحسب أنني أنا لكِ فأنت أفتكري في أن تخلصيني. فأنا لا أريد بعد الآن أن أكون لذاتي، بل أنني أهبكِ نفسي وأن كنت فيما مضى قد خدمتكِ بئس الخدمة. لأني أهملت الفرص والموضوعات المفيدة التي كان يمكنني أن أكرمكِ بها، فأرغب منذ الآن فصاعداً أن أتحد مع عبيدكِ المتمسكين بحبكِ أشد تمسكاً، والمستحرين في عبادتكِ أكثر حرارةً، بل لا أرتضي بأن أحداً منهم يسبقني في تكريمكِ وحبه لكِ أيتها الأم ملكتي المحبوبة في الغاية. فهكذا أعد وكذلك أرجو أن أتمم وعدي بواسطة معونتكِ آمين*

الجزء الثاني
* في كم ينبغي أن يكون رجاؤنا وطيداً في مريم البتول*
* بنوع أفضل، من حيث أنها هي أمنا*
أنه ليس من دون أفادةٍ ولا بطريق العرض تدعى مريم البتول من عبيدها بتسمية أمٍ لهم، ويبان كأنهم لا يعرفون أن يستدعوها بتسميةٍ غير هذه، بل ولا يشبعون من تكرارها في أفواههم، وذلك بكل صوابٍ، لأن هذه القديسة الجليلة هي حقاً أمنا لا الطبيعية بل الروحية، أي هي حقيقةً أمٌ لأنفسنا ولسعادتنا الأبدية. فالخطيئة حينما أعدمت أنفسنا نعمة الله قد أعدمتها في الوقت عينه الحياة الروحية. فمن ثم اذ بقيت أنفسنا على هذه الصورة مائتةً بتعاسةٍ عظيمة قد جاء يسوع مخلصنا، وبرأفةٍ وحبٍ عديم الادراك قد أسترد لنا الحياة التي كنا فقدناها. مكتسباً لنا إياهابواسطة موته من أجلنا على خشبة الصليب. حسبما قال هو تعالى نفسه: فأما أنا فأتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل: (يوحنا ص10ع10) على أن يسوع المسيح. كما يبرهن اللاهوتيون، قد جلب علينا خيراتٍ أعظم وأفضل بواسطة سرّ الافتداء الذي صنعه، مما قد جلبت علينا خطيئة آدم من الخسران. وهكذا اذ قد صالحنا تعالى مع الله أبيه. فصار أباً لأنفس الذين هم في شريعة النعمة، بالنوع الذي سبق النبي أشعيا وتنبأ عنه مسمياً إياه أبا العالم الآتي، رئيس السلام: (أشعيا ص9ع6) فان كان يسوع هو أباً لأنفسنا، فمريم هي أمٌّ لها، لأنها اذ أعطتنا يسوع فأعطتنا الحياة الحقيقية. واذ قدمت فيما بعد على جبل الجلجلة ابنها، ابنها الحبيب من أجل خلاصنا. فقد ولدتنا حينئذٍ لحياة النعمة الإلهية*
ففي زمنين اذاً حسب أقوال الآباء القديسين قد أضحت مريم البتول أماً روحيةً لنا. فالزمن الأول هو حينما أستحقت هي أن تحبل في أحشائها البتولية بإبن الله كما يقول الطوباوي ألبرتوس الكبير وبأكثر أتساعٍ يتكلم عن ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله (في الخطبة السادسة المختصة بالبتول القديسة): أن هذه العذراء المجيدة عندما بشرها ملاك الرب بالحبل الإلهي، وهي أعطت رضاها المنتظر من الكلمة الأزلي بأن يصير أبناً لها، فمنذ تلك الساعة قد التمست هي من الله خلاصنا بحبٍ فائق الادراك، وأخذت تجتهد من ذلك الوقت في أمر فدائنا وأستنقاذنا بهذا المقدار، حتى أنها حوتنا في مستودعها نظير أمٍ كلية الانعطاف والحب: ثم أن القديس لوقا الانجيلي يقول في الاصحاح الثاني من بشارته اذ يخبر عن ميلاد مخلصنا، أن مريم قد ولدت أبنها البكر، فهنا يتفلسف حسناً أحد العلماء بقوله، فاذاً أن كان الانجيلي يعلن لنا أن مريم البتول قد ولدت حينئذٍ ابنها البكر، فيلزم أن يفترض أنها قد ولدت بعد ذلك أولاداً آخرين، والا لما كان سُمي يسوع ابنها البكر والحال أنها لقاعدةً من قواعد الايمان هي أن مريم العذراء لم يكن لها ابن آخر بالجسد سوى يسوع. ولم تلد قط جسدياً أبناً آخر غيره، فاذاً يلزمها أن تكون حصلت على أولادٍ آخرين روحيين. وهؤلاء البنون أنما هم نحن أجمعون، وهذا الأمر نفسه قد أعلنه الرب لعبدته القديسة جالترودة التي اذ كانت يوماً تقرأ النص الانجيلي المتقدم ذكره قد حصلت مبهوتةً، لأنها لم تكن تعلم أن توفق هذين الشيئين معاً، وهما أن مريم العذراء لم تكن أُماً سوى ليسوع المسيح فقط، فكيف اذاً هذا الأبن الوحيد أن يدعى أبنها البكر، فالباري تعالى قد تنازل لأن يفسر لها ذلك بأن يسوع هو ابن هذه البتول البكر بحسب الجسد، والبشر هم أولادها الثانين بحسب الروح*
وبهذا النوع يلزم أن تفهم الألفاظ المدونة في العدد الثاني من الاصحاح السابع من سفر النشيد عن مريم العذراء وهي: جوفكِ عرمة حنطة مسيَّجة بالسوسن: فيشرح ذلك القديس أمبروسيوس (في ارشاده عن البتولية) قائلاً: أنه ولئن لم يكن يوجد في جوف مريم البتول الكلي الطهر، الا حبةٌ واحدةٌ فقط من الحنطة وهذه الحبة هي يسوع المسيح، فمع ذلك يقال عن جوفها أنه عرمة حنطة، من حيث أنه في تلك الحبة الوحيدة قد كان يوجد المختارون أجمعون، الذين قد كانت مريم مزمعةً أن تصير هي أُمهم: ومن ثم كتب الأنبا غوليالموس (في العدد13 من الرأس4 على سفر النشيد): أن مريم بميلادها يسوع الذي هو مخلصنا وحياتنا قد ولدتنا كلنا للخلاص وللحياة*
وأما الزمن الثاني الذي فيه قد تبننت بنا هذه القديسة وصارت هي فيه أمنا، اذ ولدتنا بالنعمة، فهو حينما قدمت للآب الأزلي عند جبل الجلجلة ابنها الحبيب من أجل خلاصنا بآلامٍ شديدة المراس. ولذلك يبرهن القديس أغوسطينوس (في الرأس6 على البتولية) بأنه اذ كانت هذه الأم الإلهية قد ساعدت حينئذٍ مشتركةً بالعمل بواسطة حبها، لكي يولد المؤمنون لحياة النعمة فقد صارت لأجل ذلك أيضاً أماً روحيةً لنا أجمعين نحن الذين هم أعضاءٌ لرأسنا الذي هو يسوع المسيح، وهذا هو تفسير ما يقال في العدد السادس من الاصحاح الأول من سفر النشيد عن هذه الطوباوية هكذا جعلوني في الكرم حافظةً، وما حفظت كرمي. على أن مريم لأجل خلاص أنفسنا قد أرتضت بأن تقرب حياة إبنها الحبيب ضحيةً بالموت كما يقول عنها غوليالموس: أنها لكي تصنع الخلاص لأنفس كثيرة العدد قد قدمت هي نفسها للموت. فمن تراه كان هو نفس مريم البتول سوى يسوع ابنها الذي كان هو حياتها وموضوع حبها الكلي، ولأجل ذلك قد كان سبق البار سمعان الشيخ وأخبرها بأن سيفاً كان عتيداً أن يجوز في نفسها يوماً ما بأوجاعٍ شديدة (لوقا ص2ع55) كما قد تم بالحقيقة. لا سيما بتلك الحربة التي طعن بها جنب يسوع، الذي هو روح هذه الأم الطوباوية، وحينئذٍ قد ولدتنا للحياة الأبدية بأوجاعها الإلهية، ومن ثم نستطيع كلنا أن ندعى أولاد أوجاع مريم. فأمنا هذه الكلية الحب قد كانت دائماً متحدةً بجملتها مع مشيئة الله. ولذلك يورد القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذه القديسة عندما لاحظت محبة الآب الأزلي للبشر، حتى أنه كان يريد أن يموت أبنه لأجل خلاصنا. وأعتبرت محبة الأبن بارادته أن يموت عنا. فهي لكي توافق مفاعيل هذا الحب الشديد، المضطرم سعيره في الآب والابن نحو الجنس البشري، فقدمت هي أيضاً بكلية ارادتها المحرقة، مرتضيةً في أن أبنها يموت لكي نخلص نحن*
فأي نعم أن المسيح يسوع في تخليصه الجنس البشري بموته عنهم، أراد أن يكون هو وحده فادياً، كما يقول أشعيا النبي (ص63ع3): أنني دست معصرةً وحدي: غير أنه اذ رأى تعالى أشواق مريم العظيمة، الى أن تكون هي أيضاً مساعدةً ومهتمةً في خلاص البشر، فرتب أنها بواسطة تقدمتها قرباناً حياة ابنها يسوع نفسه، تصير مساعدةً ومشتركةً في عمل خلاصنا. وهكذا تعود هي أماً لأنفسنا، وهذا قد أوضحه فادينا حينما كان على الصليب قبل أن يموت، لأنه نظر الى والدته مريم، والى تلميذه يوحنا واقفين تحت صليبه. فقال أولاً لمريم: يا أمرأة ها أبنكِ: (يوحنا ص19ع26) وكأنه أراد أن يقول لها، ها أنكِ قدمت حياتي لله، ذبيحةً من أجل خلاص ذاك الانسان الذي قد ولد بالنعمة. ثم بعد ذلك التفت يسوع نحو القديس يوحنا قائلاً: يا تلميذ ها أمك: فيقول القديس برنردينوس السياني (في العظة55من كتابة1): أن مريم البتول بواسطة هذه الكلمات، قد صارت أماً ليس للقديس يوحنا الرسول فقط، بل لكل البشر أيضاً. لأجل شدة الحب الذي أحبتهم به: ولذلك يتفلسف حسناً العلامة سيلفاريا. بأن القديس يوحنا الانجيلي عينه في تخبيره عن هذا الحادث قد كتب هكذا: ثم قال يسوع للتلميذ ها أُمك. فمن ثم يلزم أن تعتبر جيداً هذه الكلمات وهي أن يسوع المسيح لم يقل ذلك متوخياً شخص يوحنا. بل قال للتلميذ من دون أن يدعوه بأسمه يوحنا، ليوضح أنه تعالى قد أقام والدته أماً عامةً مشاعةً، لكل أولئك الذين من حيث أنهم مسيحيون فمطلقةٌ لهم تسمية تلاميذ له تعالى.*
فأنا هي أم الحب الجميل: تقول مريم العذراء (حكمة ابن سيراخ ص24ع24) على أن حبها، كما يقول أحد العلماء الذي يصير أنفسنا جميلةً لدى عيني الله فقد جعل هذه الأم المتقدة بالمحبة تقبلنا أولاداً لها: لأنها هي كلها محبةٌ نحونا نحن المقبولين منها أولاداً لها. ولأجل ذلك يهتف نحوها القديس بوناونتورا قائلاً: ترى أية أمٍ تحب أولادها وتجتهد دائماً في خيرهم، بمقدار ما تحبيننا أنتِ يا ملكتنا الكلية العذوبة وتجتهدين في خيرنا ونمونا*
فطوباويون هو أولئك الذين يعيشون تحت حماية أمٍ هي بهذا المقدار محبةٌ ومقتدرةٌ. فالنبي داود ولئن لم تكن بعد في زمانه ولدت مريم المجيدة، فمع ذلك كان يبتغي من الله الخلاص بحسب كونه أبناً لها بقوله (مزمور86ع16): خلص ابن آمتك: فيقول القديس أوغوسطينوس (في تفسيره المزمور 86): ومن هي آمتك: فأنما هي التي قالت لجبرائيل: ها أنا آمةٌ للرب فليكن لي حسب قولك. ثم يهتف الكردينال بالارمينوس بقوله (في تفسير السبع الكلمات): فمن تراه يستطيع أن يتجاسر على أن يخطف هؤلاء البنين من حضن مريم، بعد أن يكونوا التجأوا إليها هاربين ليخلصوا من أيدي أعدائهم. وأي رجزٍ جهنمي، أو غضب ألميٍ يقدر أن ينتصر عليهم، أن كانوا يضعون رجاءهم تحت حماية هذه الأم العظيمة: فيخبر الطبيعيون عن السمكة البحرية المسماة بالينا، أنها حينما تشاهد أولادها كائنةً في خطرٍ أما من قبل أختباط البحر بالعاصفة، وأما من قبل الصيادين، ففي الحال تفتح فاها وتبتلع أولادها في جوفها، فعلى هذه الصورة يقول نوفاريوس: أن أمنا الحنونة حينما ترانا نحن أولادها في الخطر الأعظم، الذي يحيق بنا من قبل شدة التجارب فماذا تصنع، أنها حينئذٍ تخفينا بجبٍ كأنه داخل أحشائها، وهناك تحامي عنا ولا تهملنا من محافظتها حتى تبلغنا الى مينا الفردوس السماوي الأمين. فلتكوني دائماً مباركةً أيتها الأم الكلية الحب والجزيلة الترأف والأشفاق، وليكن على الدوام مسبحاً الإله الذي أعطانا إياكِ أماً لنا. وملجأً أميناً نهرب إليه من مخاطر هذه الحياة*
ثم أن هذه الأم الرحومة نفسها قد أوحت الى القديسة بريجيتا (رأس38 كتاب4) قائلةً لها هكذا: أنه كما أن أحدى الأمهات اذا شاهدت أبنها كائناً فيما بين سيوف الأعداء، فتبذل كل قوتها وأستطاعتها في أستنقاذه منهم. فهكذا أنا أصنع كل وقتٍ مع أولادي ولئن كانوا خطأة. وذلك كل مرةٍ يلتجئون اليَّ لكي أعينهم: فلأجل هذا السبب نحن ننتصر في معركتنا مع القوات الجحيمية، وسنكون على الدوام غالبين ولراية الظفر بتأكيدٍ حاملين، بواسطة التجائنا الى والدة الإله أمنا قائلين لها: تحت ذيل حمايتك نلتجيء يا والدة الإله القديسة: فكم وكم من هذه الأنتصارات العظيمة قد حصلت للمؤمنين ضد القوة الجهنمية بتلاوتهم هذه الصلاة التي أي نعم أنها قائمةٌ من كلماتٍ وجيزةٍ، الا أنها حاويةٌ قوةً كلية الاقتدار. وفيما بين الآخرين قد أنتصرت دائماً على الشياطين بواسطة هذه الصلاة، الأخت ماريا كاترينا كروجيفيسا من رهبنة القديس بناديكتوس*
فأفرحوا مبتهجين اذاً يا جميع الذين هم أولاد مريم العذراء وأعلموا أن هذه السيدة تقبل بنيناً لها، كل أولئك الذين يريدون أن يحصلوا على هذا التبني، فتهللوا اذاً. لأنه أي خوفٍ يمكنه أن يعتريكم من ان تهلكوا، في الوقت الذي فيه أنتم حاصلون على حماية هذه الأم المقتدرة المناضلة عنكم. ولذلك كان يخاطب نفسه القديس بوناونتورا قائلاً: لماذا تخافين يا نفسي وما الذي يروعكِ، فلا تقلقي لأن قضية خلاصك الأبدي لا يلتحقها الخسران، اذ أن الحكومة العتيدة أن تبرز في شأنها، هي متعلقةٌ بارادة يسوع الذي هو أخوكِ، وبحماية مريم التي هي أمكِ: فنظير هذا القديس يمكنه أن يشجع ذاته ويخاطب نفسه كل أنسانٍ يحب هذه الأم الصالحة، وتكون له فيها ثقةٌ ورجاءٌ وطيدٌ. وبموجب ذلك عينه كان يهتف القديس أنسلموس فرحاً مشجعاً نفسه وأيانا معاً(في تضرعه نحو البتول) قائلاً: يا له من رجاء مغبوطٍ، ويا له من ملجأ أمينٍ. وهو أن والدة الإله هي والدتي. فأي تأكيدٍ وطمأنيةٍ يلزمنا أن نؤمل أفضل من هذه وهي أن أمر خلاصنا هو متعلقٌ، على ارادة أخينا الصالح وأمنا الشفوقة، ومتوقفٌ على مشيئتهما: فهوذا أمنا تسمعنا صوتها، وتدعونا إليها قائلةً: من كان صغيراً فليأتِ إليَّ:(سفر الامثال ص9ع4) فمن عادة الأطفال والصغار في السن أن يوجد أسم أمهم متكرراً في أفواههم، ومن ثم في كل خطرٍ يداهمهم، وفي كل خوفٍ يعتريهم، فحالاً تسمع أصواتهم صارخين يا أمي يا أمي. فأواه يا مريم الكلية الحلاوة، آه يا أيتها الأم الشديدة الحب نحو أولادها. أن هذا هو بالحصر الأمر الذي ترغبينه، وهو أننا اذ نحصل صغاراً أطفالاً، فندعوكِ دائماً، لأنك تريدين أن تعينينا وتخلصينا، نظير ما خلصتِ جميع البنين الذين – قصدوكِ والتجأوا إليكِ*
*نموذج*
أنه لمحررٌ في الفصل السابع من الكتاب الخامس من تاريخ تأسيس الرهبنة اليسوعية في مملكة نابولي، ما يأتي ذكره عن شابٍ شريف الحسب والنسب جداً يدعى غوليالموس الفينسطونيوس، أصله من بلاد سكوتسيا، وهو أن هذا الشاب قد كان نسيباً للسلطان يعقوب، واذ أنه ولد وتربى في الأرتقه، فأستمر عائشاً في ضلالها. ولكن ضياء النعمة الإلهية قد أشرق في قلبه، ومن ثم أخذ يكتشف على فساد معتقده، فسافر الى بلاد فرنسا، حيث أنه بواسطة ارشادات أحد الآباء اليسوعيين الفضلاء الذي كان هو أيضاً من بلاد سكوتسيا، وبأكثر من ذلك بواسطة شفاعة والدة الإله من أجله، قد عرف أخيراً صدق الإيمان الكاثوليكي وفساد الأرتقه، فرفضها وأعتنق الأمانة الأرثوذكسية، ثم حضر بعد ذلك الى مدينة رومية، وهناك اذ رآه يوماً ما أحد أصدقائه حزيناً باكياً، وسأله عن سبب ذلك، فأجابه الشاب بأنه في تلك الليلة قد ظهرت له أمه في الحلم، وأخبرته بأنها هلكت في جهنم، وقالت له نعماً صنعت يا أبني بتمسكك بالإيمان الكاثوليكي، لأني أنا أنما هلكت لأني مت أراتيكيه. فالشاب بعد هذه الرؤيا قد أستحر بأفضل نوعٍ في عبادته لوالدة الإله، مختاراً إياها أماً وحيدةً له. وهي قد ألهمته لأن يتمسك بالدعوة الرهبانية، كما أعتمد هو على ذلك، وصنع به على ذاته نذراً، ولكن من حيث أنه كان وقتئذٍ عليل المزاج، فسافر من روميه الى مدينة نابولي بحجة تغيير الهواء الا أن الرب قد اراد أن هذا الشاب يموت في نابولي راهباً، على أنه رأى ذاته هناك مدنفاً على التلف، شرع يتوسل بدموعٍ لرئيس الرهبان، وللجمعية في أن يقبلوه أخاً لهم، فمن ثم قد أبرز النذور الرهبانية أمام القربان الأقدس، الذي تناوله زوادةً أخيرةً. وهكذا أحصي في عدد الرهبان اليسوعيين، وبعد هذا قد حرك الحاضرين أجمعين الى الخشوع وذرف الدموع، عند مشاهدتهم إياه متهللاً يقدم الشكر بقلبٍ مملوءٍ من الحب لأمه العذراء المجيدة، على ما فاز به من الله من النعم بشفاعاتها، في رفضه الأرتقة وتمسكه بالإيمان المستقيم وحصوله أخيراً فيما بين الرهبان على أن يموت ناذراً في بيت الرب، ولهذا كان يهتف مبتهجاً بقوله، يا لها من سعادةٍ، ويا لها من ميتةٍ مجيدةٍ، أن يسلم الانسان نفسه بيد الله فيما بين رفقةٍ ملائكية. واذ قال له البعض محرضاً على أن يفتكر بأن يأخذ قليلاً من الراحة هادياً. فأجابه قائلاً: أنه ليس هو زمن الراحة، لأني الآن قد دنوت من نهاية حياتي: ثم بعد ذلك قبل أن يرقد بالرب قال للحاضرين: يا أخوتي أما تنظرون ههنا هؤلاء الملائكة المحيطين بي ليسوا أعدائي: وعندما سمعه أحد الرهبان يتكلم بصوتٍ منخفضٍ، سأله بماذا كان يتفوه، ومن كان يخاطب، فأجابه الشاب بأن ملاكه الحارس قد أخبره بأن زمن أقامته في المطهر كان وجيزاً، وأنه من دون أبطاءٍ كان مزمعاً أن يفوز بالسعادة الأبدية، قال هذا ورجع مخاطباً والدة الإله مكرراً نحوها الشكر وقائلاً: يا أمي يا أمي: وهكذا أسلم الروح كطفلٍ مبتهجٍ على ذراعي والدته وفي حضنها، وبعد هذا بزمنٍ وجيزٍ قد أوحى الى أحد الرهبان الأبرار، بأن نفس غوليالموس المذكور قد حصلت على السعادة السماوية*
† صلاة †
يا أمي الكلية القداسة، كيف هو ممكن أن اعيش أنا في المآثم. بعد أني حاصلٌ على أمٍ بهذا المقدار سامية في القداسة. وكيف أن أمي هي ملتهبةٌ بنيران الحب الشديد نحو الله، وأنا أحب المخلوقات، هي غنيةٌ بهذا المقدار من الفضائل الجليلة. وانا فقيرٌ منها بالكلية، فأي نعم يا أمي أنني لم أعد مستحقاً أن أكون أبناً لكِ، لأني ظهرت بالحقيقة عديم المعروف، وناكر الجميل بزيادة من قبل سيرتي الرديئة، ولكنني أكتفي بأن تقبليني عبداً لك، ولكي أحصل على ذلك أي قبولك إياي فيما بين عبيدك الأكثر دناءةً، فأنا مستعدٌ لأن أرفض أملاك العالم بأسره، أي نعم أني راضٍ بهذا، ولكن أتوسل إليكِ بأن لا تمنعي عني الاستطاعة على أن أسميكِ أمي، لأن هذه التسمية تملأني من البهجة والتعزية، وتجتذبني الى الخشوع والندامة، وتذكرني بالألتزام المتوجب عليَّ في أن أحبكِ. وتصيرني أن أوطد رجائي فيكِ بأفضل نوعٍ، لأنه حينما يشتملني الخوف من قبل كثرة خطاياي. ويكتنفني الجزع من صرامة الدينونة الإلهية الرهيبة، فعندما أفتكر بأنكِ أنتِ أمي، فأشعر حالاً في ذاتي بالشجاعة، طارحاً عني اليأس بعيداً، فأسمحي لي اذاً بأن أدعوكِ أمي الجليلة، أمي المحبوبة مني في الغاية، فهكذا أنا أسميكِ وكذلك أريد أن أدعوكِ دائماً، فأنتِ بعد الله يلزم أن تكوني على الدوام رجائي وملجأي وموضوع حبي في وادي الدموع هذا، ومن هنا أؤمل أن أموت مسلماً نفسي في دقيقة حياتي الأخيرة بين يديك المقدستين، قائلاً يا أمي مريم، يا أمي عينيني وأسعفيني وأرحميني آمين*

الجزء الثالث
* في كم هو عظيمٌ الحب الذي به تحبنا هذه الأم الإلهية*
فأن كانت اذاً مريم البتول هي أمنا. فيمكننا أن نتأمل كم هو صدق الحب الذي فيها نحونا. فالمحبة التي بها البنون يحبون والدتهم هي محبةٌ ضروريةٌ لازمةٌ. وهذا هو السبب الذي من أجله رسمت الشريعة الإلهية على الأولاد. الوصية بمحبة والديهم (كما يورد القديس توما اللاهوتي في الرأس4 من كتيبه الستين) غير أنه بالخلاف لا توجد وصيةٌ ما خصوصيةٌ مرسومةٌ على الوالدين بأن يحبوا بنيهم. من حيث أن المحبة الكائنة في الوالدين نحو المولودين منهم. هي محبةٌ مغروسةٌ فيهم طبيعياً. وثابتةٌ وطيدةٌ في قلوبهم غريزياً بقوةٍ شديدة. حتى أن الوحوش الأشد شراسةً: حسبما يعلم القديس أمبروسيوس في الفصل4 من كتابه6: لا تستطيع أن تهمل حبها لأجروتها المولودة منها. ولذلك يورد المؤرخون عن النمرة الكلية الشراسة طبعاً، أنها اذا سمعت صوت أجروتها المخطوفة بأيدي الصيادين ضمن المركب في البحر، فتطرح ذاتها في المياه سابحةً، وتسرع لتدرك المركب الذي منه تسمع هي صوت أولادها، فاذاً تقول مريم أمنا الكلية الحب نحونا، أنه أن كان حتى ولا النمرات أنفسهن لا يستطعن أن ينسين أجروتهن. فكيف أنا يمكنني أن أنسى أن أحبكم أنتم أولادي ومن ثم يقول أشعيا النبي عن لسان الله: هل تنسى الامرأة أبنها، أو هل ما ترحم أولاد جوفها، فأن نست الامرأة أولادها الا أني لست أنساك يقول الرب الضابط الكل: فهنا مريم تردف كلامها نحونا قائلةً: أنه اذا أتفق أن يحدث هذا الأمر الذي يبان أنه غير ممكنٍ، وهو أن والدةً تنسى بنيها، أو لا ترحم أولاد جوفها، فمع ذلك لا يمكن لي أن أهمل من محبتي نفساً ما تكون متبننةً لي*
فمريم هي أمنا لا الطبيعية (كما قلنا قبلاً) بل هي أمنا بالحب. حسبما يقال في سفر حكمة ابن سيراخ: أنا هي أم المحبة الجميلة: (ص24ع24) فاذاً المحبة وحدها التي هي تحبنا بها. فهذه جعلتها أن تصير أمنا. ولذلك يقول أحد العلماء: أن مريم تفتخر بحال كونها أم المحبة. لأنها اذ أتخذتنا بنيناً لها فأضحت بكليتها حباً متقداً نحونا. لأنه ترى من يستطيع أن يصف عظم المحبة، التي هي في قلب مريم نحونا نحن الأشقياء البائسين. فيقول أرنولدوس كانوطانسه (في شرحه عن لفظة سيد): أنها أي مريم البتول، قد كانت حين موت أبنها يسوع المسيح تشتهي بحرارةٍ فائقة الوصف أن تموت هي أيضاً مع أبنها حباً بنا: ويضيف الى ذلك القديس أمبروسيوس (في الرأس7من ارشاده فيما يخص البتولية) بقوله: أنه كما أن الابن كان معلقاً على الصليب منازعاً. فهكذا أمه مريم كانت تقدم ذاتها للجلادين لتبيح حياتها من أجلنا*
فهنا يلزمنا أن نبحث عن علل هذا الحب وبراهينه، لأننا بذلك نفهم بأفضل نوعٍ مقدار ما تحبنا به هذه الأم الصالحة. فالسبب الأول الذي من أجله تحب مريم البشر محبة هكذا مضطرمةً، فأنما هو الحب العظيم الذي به تحب هي الله، لأن وصية المحبة لله ووصية المحبة للقريب، فأنما هما وصيةٌ واحدةٌ هي هي نفسها. حسبما يعلمنا القديس يوحنا الرسول بقوله: فهذه الوصية لنا منه، أن من يحب الله، يحب أخاه أيضاً:(يوحنا أولى ص4ع21) بنوع أنه بمقدار ما يزداد الحب لله، فبمقدار ذلك ينمو الحب للقريب متزايداً. ولهذا نحن نعلم أن القديسين لأجل أنهم كانوا يحبون الله حباً وافراً، فمارسوا نحو القريب الأعمال التي نحن ننذهل منها عند تأملنا إياها، لأنهم قد توصلوا ليس فقط الى أن يفقدوا حريتهم واضعين ذواتهم تحت الأسر، بل لأن يبيحوا حياتهم أيضاً من اجل خلاص القريب. فليقرأ ما صنعه القديس فرنسيس سافاريوس في بلاد الهند، حيث أنه لرغبته في أن يسعف أنفس أولئك الشعوب البرابرة، كان يجتاز صاعداً الى الجبال الغير المسلوكة، مطوحاً ذاته في أخطارٍ ختلفة الأنواع، ليمكنه أن يجد أولئك المساكين، الذين كانوا يقطنون في المغاير والكهوف نظير الوحوش الفاقدة الأستيناس، ويكتسبهم الى معرفة الله والى الإيمان به تعالى. والقديس فرنسيس سالس لكي يجتذب الأراتقة سكان أقليم كامبلاي الى الإيمان الكاثوليكي، قد أستمر مدة سنةٍ يلقي ذاته يومياً في خطر الموت، بأجتيازه ماشياً على يديه ورجليه من فوق سارية خشبٍ، كانت ممتدةً على النهر، مجلدةً مع المياه من شدة البرد، لكي يكرز على الشعوب القاطنين في عبر النهر. المصرين على ضلالهم، والقديس باولينوس قد باع ذاته أسيراً لكي يستفك من السبي أحد الشبان ويرده لأمه الأرملة، والقديس فيداله قد أرتضى بأن يموت من أجل أكتسابه الى الرب أولئك لأراتقة الذين كان ينذرهم بالإيمان المستقيم. فاذاً من حيث أن القديسين كانوا يحبون الله حباً شديداً، فقد أتصلوا الى أن يصنعوا أشياء مثل هذه حباً بالقريب، ولكن ترى من هو الذي أحب الله نظير ما أحبته مريم العذراء، فهذه الطوباوية قد أحبته تعالى منذ البرهة الأولى من حياتها، محبةً أعظم مما أحبه به القديسون أجمع، والملائكة قاطبةً في أزمنة حياتهم كلها، كما نحن عتيدون أن نتكلم عن ذلك بأكثر أتساعٍ في تكلمنا عن فضائل هذه الأم الإلهية. التي هي نفسها قد أوحت الى الأخت البارة ماريا كروجيفيسا (حسبما يوجد مدوناً في الرأس5 من كتاب2 من سيرة حياتها) بأن الحب الذي كان يتقد لهيبه في قلبها نحو الله، كانت ناره بهذا المقدار ملتهبةً، حتى أنه لو وضعت الأرض والسماوات في ذاك الأتون، لفنيت مستحيلةً الى رمادٍ، ومن ثم بالنسبة والمقابلة لحرارة هذا الحب لم تكن حرارة قلوب السيرافيم سوى كنسيم صبحٍ باردٍ، فاذاً من حيث أنه لم يكن يوجد فيما بين الأرواح الطوباويين بأسرهم، من يماثل حبها لله، فهكذا نحن لا نستطيع أن نجد بعد الله من يحبنا نظير هذه الأم الكلية الحب، حتى أنه اذا أجتمع معاً حب جميع الأمهات الذي به يحببن أولادهن، جملةً مع حب كل العرسان لعروساتهم. والقديسين والملائكة للمتعبدين لهم فلا يبلغ مقدار هذا المجموع العظيم، لأن يوازي حب مريم البتول لنفسٍ واحدةٍ فقط من أنفسنا، بل أن الأب نيارامبارك يقول، أن المحبة الكائنة في قلوب جميع الأمهات نحو بنبنهن، اذا أجتمعت معاً، فلا تصور ولا ظل المحبة التي في قلب هذه البتول نحو أحدٍ فقط منا، حتى أنها هي وحدها تحبنا أشد حباً، مما يحب بعضهم بعضاً الملائكة كافةً والقديسون أجمعون*
وما عدا ذلك أن أمنا هذه الصالحة أنما تحبنا هكذا حباً شديداً، لأجل أننا قد سلمنا لملاحظتها من أبنها الإلهي يسوع المسيح المحبوب منها فوق كل شيءٍ، حينما قال لها وهو على الصليب قبل موته: يا امرأة ها ابنك: معلناً لها في شخص تلميذه، يوحنا أشخاصنا نحن البشر جميعاً، كما تكلمنا عن ذلك آنفاً. وهذه الكلمات قد كانت هي الأخيرة المقالة منه لوالدته الطوباوية. والحال أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن التوصيات التي يتركها الأشخاص المحبوبون في ساعة موتهم، فتعتبر وتكرم من محبيهم ولا تهمل منسيةً. ثم يضاف الى هذا كله أننا نحن بنون أعزاء جداً على قلب أمنا هذه الحنونة. وبالتالي— وهو من قبل ثمن الأوجاع الشديدة التي— تبنتنا بها...ومما لا شك فيه أن الأمهات اللواتي يكن تكبدن أوجاعاً زائدةً، ومخاطر خصوصيةً، من أجل حفظ حياة البعض من أولادهن، فيكون حبهن نحو هؤلاء أشد مما هو نحو باقي بنيهن الآخرين، فنحن هم هؤلاء الأولاد الذين، لكي تكتسب لنا حياة النعمة، أمنا هذه الإلهية قد التزمت بأن تحتمل تلك الأوجاع الشديدة، التي بها قدمت عنا حياة ابنها الطبيعي يسوع مصلوباً على الخشبة، مرتضيةً بأن تتكبد تلك المشاهدة الموعبة مرارةً، وهي موت وحيدها أمام عينيها، فيما بين العذابات من أجل خلاصنا. ومن قبيل ذلك القربان المقدم منها على هذه الصورة نحن ولدنا حينئذٍ لحياة النعمة. وبالتالي أنها ــ شاركتنا بأوجاع هذا عظم مقدارها. ولذلك نحن لديها أولادٌ كليوا القيمة. فمن ثم بموجب ما هو مكتوبٌ عن الحب الذي به أحب الآب الأزلي البشر، بأعطائه أبنه الوحيد فديةً عنهم، كما هو مدون في الأنجيل المقدس: أنه هكذا أحب الله العالم حتى أنه بذل أبنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به: (يوحنا ص3ع16) فكذلك. يقول القديس بوناونتورا، يمكن أن يمثل القول بأنه هكذا أحبت مريم العالم، حتى أنها بذلت أبنها الوحيد من أجلهم. ولكن متى بذلت مريم ابنها الوحيد من أجل البشر، فيجيب الأب نيارا مبارك بأنها قد بذلته عنهم:
- أولاً: حينما سمحت له بأن يمضي الى الموت.
- ثانياً: قد بذلته عندما كان يمكنها أن تحامي هي بمفردها أمام القضاة عن حياة ابنها. في الوقت الذي فيه أهمله الجميع. أما بروح البغضة وأما بحركة الخوف، وهي لم تفعل ذلك. مع أن كلمات أمٍ مملؤةٍ من الحكمة مثلها، وبراهينها السديدة، قد كانت تحصل على أعتبارٍ عظيمٍ قلما يكون في منبر بيلاطوس الذي هو نفسه كان مقتنعاً ببراءة يسوع. وبالتالي لكانت هي تقدر أن تؤخر عن أن يبرز حكومة الموت ضد ابنها، فمع ذلك لم ترد هي أن تفه ولا بكلمةٍ واحدةٍ بالمحاماة عنه، لكيلا تمنع موته الذي به كان متعلقاً أمر خلاصنا الأبدي.
- ثالثاً: وأخيراً قد بذلته عنا ألوف مراتٍ على جبل الجلجلة، بوقوفها تحت صليبه مدة ثلاث ساعات نزاعه، حاضرةً موته. ففي كل رفة عينٍ من تلك الثلاث الساعات، كانت تقرب حياته ذبيحةً من أجلنا بأوجاعٍ فائقة الوصف وبحبٍ شديد نحونا، وقد كان عزمها بهذا المقدار ثابتاً على بذل حياة ابنها عنا، حتى أنه حسبما يقول القديسان أنسلموس وانطونينوس: أنه لو أتفق حينئذٍ الا يعود يوجد من الجلادين أحدٌ، ليكمل ضد ابنها حكومة الموت، لكانت هي نفسها أماتته مصلوباً لتتمم بذلك ارادة الآب الأزلي، الذي كان يشاء موته لأجل خلاصنا، على أنه أن كان أب الآباء أبراهيم عينه قد اتصف بشجاعة مثل هذه، منطلقاً بأبنه الحبيب أسحق الى الجبل لكي يذبحه بيديه ذاتيهما قرباناً لله، فيلزمنا أن نصدق من دون ريبٍ، بأن مريم البتول الأعظم قداسةً من ابراهيم، والأوفر طاعةً منه لأوامر الله، لكانت بالحقيقة تممت بيديها هذه الذبيحة بأكثر شجاعةٍ وبأشد عزمٍ، لو لم يوجد من الجلادين من يميته، فلنعد الآن اذا الى موضوعنا، وهو أنه كم يلزمنا أن نعيش حافظين معرفة الجميل نحو أمنا هذه الحنونة، مقابلةً للحب الذي بهذا المقدار من السمو تحبنا هي به، أي لتأملنا بتقدمتها ابتها قرباناً بأوجاعٍ هكذا مرة، لكي تكتسب لجميعنا الخلاص، فالباري تعالى قد كافأ حسناً عزم أبينا ابراهيم على أستعداده لأن يذبح له أبنه. وأما نحن فماذا يمكننا أن نكافئ به هذه السيدة الجليلة، عن حياة ابنها يسوع التي قربتها ضحيةً عنا، مع أن هذا الابن الإلهي هو أشرف وأعز وأفضل بما لا يحد من اسحق بن ابراهيم أبينا. فيقول القديس بوناونتورا: أن حب مريم إيانا بهذا النوع قد ألزمنا التزاماً كلياً بأن نحبها. اذ نتأمل بأنها أحبتنا أشد حباً من كل أحدٍ، لأنها بذلت عنا ابنها الطبيعي الوحيد الذي كانت تحبه أعظم من حبها نفسها*
فمما تقدم ايراده يتلد السبب الثاني الذي من أجله تحبنا والدة الإله محبةً هكذا شديدةً، وهو لأنها تشاهد واضحاً أن أنفسنا هي ثمن دم ابنها الوحيد يسوع المسيح وموته على أنه اذا أتفق أن أماً ما تشاهد أمامها عبداً ما قد أشتراه ابنها الحبيب بهذا الثمن. وهو أنه أستمر مدة عشرين سنةً مسجوناً، يتكبد أنواع الشدائد والآلام التي أكتسبه بها. فترى كم لكانت هذه الأم لأجل ذلك بمفرده تعتبر ذاك العبد وتكرمه. فمريم تعلم جيداً أن ابنها الإلهي لم يأتِ الى العالم، الا لكي يخلصنا نحن المساكين. كما يعلن هذا الأمر هو تعالى نفسه بقوله: أن ابن البشر أنما جاء ليخلص الهالك: (لوقا ص19ع15) ولأجل تخليصنا قد ارتضى بأن يبيح حياته عينها، مخضعاً ذاته حتى الموت أي موت الصليب. (فيليبوسيوس ص2ع8) فاذاً لو كانت مريم تحبنا قليلاً، لكانت توضح انها تعتبر كلا شيء ثمن دم ابنها الذي هو قيمة خلاصنا، فقد أوحى الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن مريم البتول منذ كانت عائشةً في هيكل الرب بأورشليم، لم تكن تصنع شيئاً آخر سوى أن تتضرع من أجلنا، بتوسلاتها لله في أن يرسل عاجلاً ابنه ليخلص العالم. فمن ثم كم يلزمنا أن نعتبر أنها الآن تحبنا بأفضل نوعٍ. بعد أن شاهدت أن أبنها قد كرمنا بهذا المقدار، حتى أنه لم يأنف من أن يشترينا بثمنٍ هذا سمو قيمته*
ومن ثم حيث أن البشر جميعاً قد افتدوا من يسوع، فلهذا مريم تحبهم كافةً من دون استثناءٍ، وتسعى في خيرهم أجمعين. فالقديس يوحنا الانجيلي رآها في جليانه ملتحفةً بالشمس، كما هو مدون في بدء الاصحاح الثاني عشر من الابوكاليبسي هكذا "وظهرت أيةٌ عظيمةٌ في السماء امرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس". فيقال أنها ملتحفة بالشمس، لسبب أنه لا يوجد في الأرض كلها أحدٌ لا تتصل إليه حرارة الشمس، كما يقول المرتل: وليس من يختفي من سخونتها: (مزمور 19ع6) فعلى هذه الصورة لا يوجد أنسانٌ حي على وجه الأرض معدوماً من حب مريم اياه، فالعلامة أيديوطا يخصص كلمات: وليس من يختفي من سخونتها: بالحب الشديد الحرارة الذي في قلب مريم نحو الجميع، ويقول القديس أنطونينوس: ترى من يستطيع أن يعقل بالكفاية مقدار سمو عناية هذه الأم نحونا كافةً. ولذلك هي توزع رحمتها على الجميع، فاتحةً حضن رأفتها لكل واحدٍ: ويثبت ذلك القديس برنردوس بقوله: لأجل أن أمنا هذه قد رغبت قلبياً خلاص الجميع، فساعدت مشتركةً بعمل خلاصهم كافةً: ومن ثم لمفيدةٌ هي في الغاية الطريقة المستعملة من البعض من عبيد هذه الأم الإلهية، وهي أنهم كما يخبر كورنيليوس الحجري، من عادتهم أن يتوسلوا الى الرب في أن يمنحهم تلك النعم، التي تطلبها من أجلهم الطوباوية مريم البتول، اذ يبتهل كلٌ هكذا قائلاً: يا رب أعطني الشيء الذي تلتمسه منك لأجلي مريم العذراء الكلية القداسة: فيقول كورنيليوس المذكور أنهم بالصواب يصنعون هذه الطلبة. من حيث أن أمنا هذه الحبيبة ترغب لنا خيراتٍ أعظم من تلك التي نحن نفتكر فيها، ثم أن برنردينوس البوسطي الحسن العبادة يقول (في عظته الخامسة): أن مريم تحب أن تصنع معنا الخير، وأن توزع علينا النعم، حباً أعظم مما نحن نبتغي أن نفوز بالخير والنعم المشتهاة منا. ولهذا فالطوباوي البرتوس الكبير يخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في سفر الحكمة (ص6ع14) وهي: أنها تبادر الى من يشتهي إليها أن تظهر لهم اولاً: أي أن مريم تسبق هي متقدمةً لقبول الذين يلتجئون إليها. لكي تظهر لهم قبل أن يفتشوا عليها، فبهذا المقدار هو شديد الحب الذي تحبنا به هذه الأم الصالحة. يقول ريكاردوس، حتى أنها حالما تلاحظ أحتياجاتنا فهي نفسها تأتي لمعونتنا*
فأن كانت اذاً مريم جوّادةً سخيةً نحو الجميع، حتى نحو أولئك الناكري الجميل أيضاً والمتوانين والذين يحبونها قليلاً ويقصدونها نادراً، فكم بأكثر من ذلك تتلألأ جودتها وصلاحها ومفاعيل حبها نحو أولئك الذين يحبونها جداً، ويستغيثون بها بتواترٍ مستدعينها مراتٍ كثيرةً لمعونتهم، فبالحقيقة: أن الذين يحبونها يبصرونها بسهولةٍ، والذين يبتغونها يصادفونها: (سفر الحكمة ص6ع13): فكم هو شيءٌ ساهلٌ (يردف كلامه الطوباوي البرتوس بكلامه) أن تصادف مريم من الذين يحبونها. حيث يجدونها مملؤةً من الرأفة والحنو والحب نحوهم: (أمثال ص8ع8) فهي تعلن واضحاً أنها لا تستطيع أن لا تحب من يحبها. ثم أنه ولئن كانت هذه السيدة الكلية الانعطاف تحب البشر أجمعين. بحسب كونهم أولادها، فمع ذلك يقول القديس برنردوس هي تعرف أن تعتبر جيداً، وأن تحب بنوعٍ خاصٍ متميز، أولئك الذين يحبونها بأكثر أنعطافٍ وبأشد تعلقٍ، فمحبوا مريم هؤلاء السعيدون ليس فقط هم محبوبين منها، بل أيضاً هي تخدمهم كما يقول أيديوطا*
ففي تاريخ رهبنة القديس عبد الأحد، يورد عن أحد هؤلاء الآباء المدعو لاوناردوس، الذي كان من عادته مئتين مرةٍ في النهار يستغيث بمريم أم الرحمة، فهذا اذ كان مدنفاً على الموت، قد شاهد ملكةً فائقاً وصف جمالها الفريد، قد جاءت اليه وجلست بجانبه. ثم قالت له: أتريد يا لاوناردوس أن تموت وتحضر عند أبني وعندي. فأجابها الراهب المذكور قائلاً: وأنتِ من هي: فقالت له: أني أنا هي البتول أم المراحم. فأنت قد استدعيتني مراتٍ هكذا عديدةً. وهوذا أني الآن قد أتيت لآخذك، فلنذهب اذاً الى الفردوس السماوي. ومن حيث أن لاوناردوس قد رقد بالرب في ذلك النهار عينه، فنؤمل أن يكون لحق هذه السيدة الى السعادة المغبوطة*
فالطوبى لمن يحبك أيتها البتول الكلية العذوبة. أن الأخ يوحنا باركمانس المكرم الراهب اليسوعي، كان من عادته أن يقول هكذا: أن كنت أنا أحب مريم، فأنا متأكدٌ أني أفوز بنعمة الثبات الأخيرة، وسأنال من الله كل ما أريده: ومن ثم لم يكن يغفل هذا الشاب الحسن العبادة، أو يشبع من أن يكرر مراتٍ عديدةً في ذاته هذه الكلمات وهي: أني أريد أن أحب مريم، أني أشاء محبة مريم: ولكن أن حب هذه الأم الصالحة لبنيها، يتفاوت بما لا يحد حب أولادها اياها جميعاً، ولو مهما أحبوها بكل أستطاعتهم، فيقول القديس أغناتيوس الشهيد المتوشح بالله: أن مريم هي أشد حباً مع محبينها: فليحبوها اذاً نظير القديس سطانيسلاوس كوستكا، الذي كان يحبها بأنعطافٍ قلبيٍ هذا حده. حتى أنه حينما كان يتكلم عنها ويخاطب الآخرين في شأنها، فقد كان يحرك في قلوب سامعيه أشواقاً متقدةً لحبها، وقد أخترع لذاته كلماتٍ خصوصيةً وألقاباً جديدةً ينعت بها أمه هذه العزيزة لديه ويكرمها، فلم يكن يبتدئ عملاً ما قبل أن يلتفت أولاً نحو أحدى أيقوناتها مستمداً منها البركة، وعند تلاوته الفرض المختص بها. أم المسبحة الوردية، أو صلواتٍ أخرى راجعة لعبادتها. فكان يتمم ذلك بعواطف باطنيةٍ وبدالةٍ بنويةٍ. كما لو يكون يخاطب شخصها نفسه وجهاً بازاء وجهٍ. وحين أستماعه ترتيل الصلاة المبدوة: السلام عليك يا ملكة الرحمة: فكان يتقد كله بحرارة نار الحب ليس باطناً فقط. بل خارجاً أيضاً، بعلاماتٍ تظهر في وجهه، فيوماً ما سأله أحد آباء جمعيتهم اليسوعية، اذ كان ذاهباً برفقته لزيارة أيقونةٍ مختصةٍ بهذه السيدة الطوباوية قائلاً: كم هو مقدار الحب الذي به أنت تحب مريم البتول، فأجابه سطانيسلاوس: أنه ماذا يمكنني أن أقول لك أيها الأب أكثر من هذا، وهو أنها هي أمي: ولكن يخبر الأب المشار اليه، بأن الشاب القديس قد تلفظ بالكلمات المذكورة بصوتٍ خشوعيٍ، وبحركات عواطف الاحتشام والحب بهذا المقدار، حتى أنه كان يظهر ليس كأنسانٍ بل كملاكٍ يخاطبه عن محبة مريم*
فليحبوها نظير الطوباوي أرمانوس الذي كان يسميها عروسته بالحب، لأجل أنه قد كان كرم هو من هذه السيدة نفسها بلقب عريسٍ. فليحبوها نظير القديس فيلبس نيري، الذي كان يمتلئ تعزيةً وفرحاً بمجرد تأمله اياها، ولذلك كان يدعوها لذته وتنعمه. ثم فليحبوها بمقدار ما كان يحبها القديس بوناونتورا، الذي ليس فقط كان يسميها سيدته وأمه، بل ليظهر عظم انعطافه نحوها وحبه الشديد اياها، فكان يدعوها أيضاً قلبه ونفسه وروحه. فليحبوها نظير القديس برنردوس محبها العظيم، الذي بهذا المقدار كان انشغافه متزايداً في محبته أمه هذه العزيزة، حتى أنه كان يسميها: سالبة القلوب: فختطفة الألباب. ولكي يوضح حقائق الحب الذي كان لها في جوارحه متقداً، فكان يقول لها هكذا: أما أنكِ خطفتِ قلبي. وليسموها حبيبتهم ومعشوقتهم: كما كان يسميها القديس برنردينوس السياني، الذي كان يومياً يمضي ليزور أيقونتها. لكي يوضح لها حبه اياها بمخاطباتٍ خشوعيةٍ كان يتفوه بها مع ملكته هذه العظيمة، ولذلك حينما كان يسأله أحدٌ الى أين ماضٍ. فكان يجيبه: أني ذاهبٌ عند معشوقتي لكي أراها. فليحبوها نظير القديس لويس غونزاغا، الذي بهذا المقدار كان يلتهب بالحب نحوها، حتى أنه كان يسمع ذكر أسمها الحلو فكان شهبُ نار المحبة المتقد في قلبه يظهر في وجنتيه ووجهه أحمراراً طافحاً كلون الورد، بنوعٍ كان يلاحظ عياناً من الجميع. فليحبوها شبه القديس فرنسيس صولانس، الذي على نوعٍ ما قد جن (ولكن جنوناً مقدساً) في حبه اياها، حتى أنه أحياناً كان يستعمل بعض آلات الطرب في ترتيله أمام بعض أيقوناتها تراتيل ومدائح عشيقةً مقدسةً. وكان يقول أنه نظير ما تصنع العشاق العالميون حباً بمعشوقاتهم، فهو كان يصنع أفراحه مع حبيبته وملكته مريم الطوباوية*
فليحبوها كما أحبها عددٌ هكذا عظيمٌ من القديسين والأبرار والعباد. الذين لم يكونوا يعودوا يعلمون بأية طرائق يمكنهم أن يظهروا حقائق حبهم اياها الشديد، فالأب لأيرونيموس الطراكسوى الراهب اليسوعي. كان يمتلئ سروراً عند تسميته ذاته أسير مريم، ودلالةً على كونه أسيرها، كان يمضي مراتٍ كثيرةً ليزورها في كنيسةٍ مشيدةٍ على أسمها، وهناك ما عساه كان يصنع. أنه عند وصوله الى تلك الكنيسة كان يبل البلاط بدموعه المنسكبة من عينيه، بحبٍ خشوعيٍ مشتعلة ناره في قلبه نحو هذه السيدة. وبعد ذلك كان يكنس البلاط بلسانه ووجهه، مقبلاً اياه ألف مرةٍ تقريباً، لتفكره في أن ذلك البيت هو مسكن سيدته وملكته المحبوبة منه. والأب دياكوس مارتيناس اليسوعي الذي لشدة حرارة حبه وعبادته لهذه المثلثة القداسة. قد كرم من الملائكة بأنهم أخذوه مخطوفاً الى السماء في أيام أعيادها المقدسة، ليشاهد هناك كم من الاحتفال العظيم يصنع في الأيام المختصة بتكريمها. فهذا الأب البار كان من عادته أن يقول هكذا: اواه ليتني أمتلك قلوب جميع الملائكة والقديسين، لكي أحب مريم نظير ما هم يحبونها، وأني أتمنى أن أنال سني حياة البشر كلهم. لكي أصرفها جميعها في أعمال الحب لهذه السيدة: فليحبوها نظير ما كان يحبها كارلوس أبن القديسة بريجيتا، الذي كان يقول، انه لم يعد يعلم أي شيءٍ يمكنه أن يعزيه في هذا العالم ويبهجه، بمقدار ما كان يحصل على ذلك، عند تأمله في أن مريم هي بهذا المقدار محبوبة من الله، وكان يضيف الى ذلك بقوله: أنه لقد كان هو أحتمل بأختيارٍ ورضى، أشد ما يمكن أحتماله من أمر العذابات، لكيلا تخسر مريم درجةً ما من درجات المجد العظيم الحاصلة هي عليه في السماء، ولو كان أمراً ممكناً هو أن تلم بها هذه الخسارة. وأنه على فرضيةٍ محاليةٍ وهي أن العظمة المالكة عليها مريم في المجد السماوي، تكون موهوبةً له ومختصةً به، لكان تنازل عنها وأعطاها لهذه السيدة، ليصير مجدها وعظمتها ذات استحقاقٍ أفضل*
ثم فليشتهوا أن يقدموا حياتهم عينها ضحيةً برهاناً على حقيقة حبهم لمريم، كما كان يشتهي ذلك ألفونسوس رودريكوس. وأخيراً فليبلغوا الى أنهم ينقشون على صدورهم مكتوباً بنخس الأبر، أسمها المحبوب في الغاية، كما صنع فرنسيس بينانسيوس الراهب، وكذلك راداغونده عروسة السلطان كلوطاريوس، أو أنهم يتصلون الى أن يدمغوا لحمانهم بحديدٍ محمى: محفور فيه أسم هذه الطوباوية العذب. لكي يستمر مرتسماً بأبلغ نوع في أجسادهم، كما فعل باتيستا أركينتوس، وأوغسطينوس أسبينوزا الراهبان اليسوعيان علامةً لشدة حبهما هذه الأم الإلهية*
فمهما كان حبهم شديداً نحو مريم، ولو أنهم أجتهدوا بكل قوتهم. وأهتموا في أن يخترعوا أنواعاً غريبةً، مما تصنعه العشاق والمغرمون في المحبة. ليظهروا لاولئك الحبوبين منهم حقائق غرامهم وتعلق قلوبهم بالحب لهم، فمع ذلك هؤلاء أي محبوا مريم، لا يستطيعون أن يبلغوا الى أن يحبوها بمقدار ما هي تحبهم. ولهذا يقول القديس بطرس داميانوس (في العظة الأولى على ميلادها): أنا عالمٌ يا سيدتي أنه فيما بين أولئك الذين يحبونك، فأنتِ هي المتصفة بالحب نحوهم أكثر من جميعهم، لأنكِ تحبيننا محبةً لا يمكن أن ينتصر عليها حبٌ ما مهما كان شديداً: فمرةً ما اذ كان واقفاً أمام أحدى أيقونات والدة الإله، المكرم ألفونسوس رودريكوس اليسوعي. وهناك شعر بزيادة التهاب قلبه بنار الحب نحو هذه الطوباوية، فطفرت الدموع من مقلتيه، وهتف مخاطباً حبيبته البتول قائلاً: أنني لعالمٌ يا أمي المحبوبة في الغاية أنكِ تحبينني، ولكنكِ لا تحبينني بمقدار ما أنا أحبكِ: فحينئذٍ مريم العذراء كمن أهين في موضوع المحبة، قد أجابته من الأيقونة قائلةً: ماذا تتكلم يا ألفونسوس. وأي شيء تقول، هيهات أن تدرك مقدار تفاضل الحب الذي أنا أحبك به، عن المحبة التي أنت تحبني بها، فأعلم أنه لم يكن البعد الشاسع الكائن فيما بين السماء والأرض، موازياً لبعد زيادة الحب الذي لي نحوك، عن الحب الذي لك نحوي*
فاذاً بكل صوابٍ يهتف القديس بوناونتورا صارخاً: يا لهم من طوباويين بالحقيقة وسعيدين، أولئك الذين هم مالكون الحظ المغبوط، في أن يدوموا أمينين في التعبد لهذه الأم الكلية الحب، وثابتين على محبتهم اياها، وذلك لأن هذه الملكة المكافئة المعروف، لا يمكن أن تدع ذاتها أن تغلب أصلاً من محبة المتعبدين لها: فمريم اذ أتبعت في ذلك نموذج فادينا يسوع المسيح الكلي المحبة نحونا، فتمنح الذين يحبونها أضعاف الحب، مفيضةً عليهم أنعاماتها ومواهبها وأسعافاتها لهم. (فاذاً مباحٌ لي أن أهتف أنا أيضاً، مع القديس أنسلموس في مناجاته البتول وأبنها قائلاً): فليلتهب من أجلكما قلبي دائماً. ولتذب نفسي كلها بنار الحب نحوكما، يا مخلصي يسوع المحبوب: ويا أمي العزيزة مريم، فأمنحا هذه الموهبة لنفسي بأن أحبكما، لأنني من دون نعمتكما لا أستطيع أن أحبكما. فأعطياني لأجل أستحقاقاتكما، لا لأجل أستحقاقاتي هذه النعمة. وهي أن أحبكما بمقدار ما تستحقان... فيا أيها الإله المحب البشر، أنه لقد أمكنك أن تموت متجسداً من أجل أعدائك، فهل أنك تستطيع بعد ذلك أن تنكر أيهاب طلبة من يلتمس منك أن تمنحه أن يحبك، ويحب والدتك المجيدة.*
* نموذج *
أنه يوجد مسطراً في الرأس السابع من المجلد الثاني من تأليف الأب أورياما، أن أبنةً مسكينةً من بنات الفلاحين، مهنتها رعاية الغنم. كانت متعبدةً لوالدة الإله بتعلق قلبٍ هذا حده، حتى أن نعيمها ولذتها وسرورها. كان قائماً في أن تتردد على كنيسةٍ صغيرةٍ حقيرةٍ. مبنيةٍ على أسم هذه السيدة المجيدة، كائنة في الجبل الذي فيه تلك الأبنة كانت تترك الغنم أن ترعى، وهي تنفرد في المصلى المذكور لتصلي، وتكرم أمها العذراء الفائقة القداسة، من حيث أنها شاهدت أن شخص هذه البتول المجسم الموجود هناك، لم يكن مكتسياً برداءٍ لائقٍ. فطفقت تكد وتعمل بيديها وشاحاً لذاك التمثال المقدس بقدر مكنتها، ثم أنها يوماً ما قد أقتطفت من زهور الحقل باقةً وصنعت منها أكليلاً، وجاءت به الى المصلى، حيث صعدت فوق الهيكل، ووضعت أكليل الزهور فوق هامة شخص البتول القديسة قائلةً لها: أنني لقد كنت أتمنى يا أمي أن أضع على رأسكِ أكليلاً من ذهبٍ مرصع بالجواهر، ولكن لعدم مقدرتي على ذلك، اذ أني فقيرةٌ، فأتوسل إليكِ بأن تقبلي مني هذا الأكليل الحقير المؤلف من الزهور، وليكن مقبولاً لديك عربوناً للحب الذي أنا أحبك به: فبهذه الأنواع وأمثالها كانت تلك الأبنة البتولة تكرم سيدتها الجليلة، متعبدةً لها ببساطة قلبها فلنتأمل الآن كيف أن هذه الأم الإلهية كافأت تلك الفتاة أبنتها، عن زياراتها أياها في ذاك المعبد، وعن مفاعيل حبها الأبني نحوها. فقد أنطرحت الأبنة الراعية مريضةً مرضها الأخير، ودنت به من زمن أنتقالها من هذه الحياة، فأتفق أن أثنين من الرهبان كانا عابري طريق في تلك الأرض، فتعبا من مشقة السفر، أتكآ تحت شجرةٍ ما ليستريحا، حيث أن أحدهما خط في النوم. والآخر لبث ساهراً. الا أنهما معاً قد شاهدا هذه الرؤيا، وهي أن مصافاً جزيل العدد من العذارى الجميلات الصور قد أقبلن مجتازاتٍ من عليهما، وفيما بين ذاك المصاف كانت توجد واحدة منهن، فائقة عليهن كافةً بألبهاء والجمال والعظمة والهيبة، فأحد ذينك الراهبين قد سأل تلك الأمرأة الجليلة قائلاً: أيتها السيدة من أنتِ، والى أين تمضين في هذه الطريق: فأجابت هي وقالت له: أني أنا هي والدة الإله، وهوذا أني منطلقةٌ وصحبتي هؤلاء البتولات القديسات، لنزور في القرية القريبة فتاة مسكينة راعية غنم مشرفةً على الموت. لأنها مراتٍ كثيرةً كانت تزورني: قالت هذا وغابت الرؤيا عن أبصار ذينك الراهبين اللذين قال أحدهما للآخر. قم بنا لنمضي نحن أيضاً لنشاهد هذه الأبنة. فنهضا مسرعين، وطفقا يفتشان في القرية على بيت تلك العذراء المريضة، الى أن وجداه ودخلاه فنظراها متكئةً فوق قليل من التبن، وبعد أن سلما عليها قالت هي لهما: أطلبا الى الله أيها الأخوان العزيزان، أن يمنحكما أن تشاهدا الجمعية المحيطة بي والمساعدة اياي، فالراهبان جثيا حالاً على ركبتهما مصليين، فرأوا مريم والدة الإله قائمةً بجانب الأبنة المريضة وبيدها أكليلٌ، وكانت تعزي المنازعة وتشجعها، وهوذا بمصاف تلك البتولات قد ابتدأن أن يرتلن، وفيما بين أصوات تلك التراتيل قد أنفصلت نفس الأبنة المباركة من جسدها، وحينئذٍ مريم البتول وضعت على رأس النفس ذاك الأكليل الذي كان بيدها، وأخذتها صحبتها مع المصاف بأسره وصعدن الى السماء*
† صلاة †
أيتها السيدة أنني أدعوكِ مع القديس بوناونتورا: مختطفة القلوب اذ أنك بواسطة حبكِ نحو عبيدكِ. وبمواهبكِ التي تمنحيهم اياها، تستولين على قلوبهم مخطوفةً بيدكِ، فأحفظي قلبي أيضاً أنا الحقير القلب الذي يشتهي أن يحبكِ كثيراً، فأنتِ لأجل جمال نفسكِ العظيمة قد أكتسبتِ حب الله الشديد اياكِ، حتى أنكِ أجتذبتيه من السماء الى الأرض متجسداً من أحشائكِ البتولية، فهل أني أعيش من دون أن أحبكِ، كلا، بل أنني أهتف نحوكِ مع عبدكِ الآخر المنشغف في حبكِ. وهو أبنكِ يوحنا باركمانس الراهب اليسوعي قائلاً: أنه لا يمكنني أن أهجع أصلاً أن أدعوكِ، الى أن أتأكد يقيناً أنني فزت بالمحبة لكِ حباً ثابتاً وطيداً خشوعياً نحوكِ، أنتِ يا أمي التي قد أحببتيني محبةً جزيلةً، في الوقت عينه الذي فيه أنا كنت عديم المعروف وناكر الجميل. فترى ماذا لقد كان يحل بي من الويل، لولا تكونين أحببتيني وأستمديتِ لي مراحم هكذا عظيمةً، فأن كنتِ اذاً أنعطفتِ بالحب نحوي، في الوقت الذي فيه لم أكن أنا أحبكِ، فكم يلزمني بالأكثر أن أرجو من صلاحكِ ما أبتغيه، حيث أنني أحبكِ الآن، أي نعم أني أحبكِ يا أمي، وأتمنى أن أحصل على قلبٍ أحبكِ به. بدلاً من كل أولئك المنكودي الحظ الذين لا يحبونكِ، وأشتهي أن يكون لي لسانٌ يوازي ألف لسانٍ، لكي أمدحكِ به وأعظمكِ. مبرهناً ومخبراً ومعلماً كل أحدٍ بمقدار عظمتكِ. وبسمو قداستكِ، وبغنى رحمتكِ، وبشدة محبتكِ نحو الذين يحبونكِ، فلو كنت مثرياً من الأموال، لكنت أصرف غناي جميعه فيما يأول لتكريمكِ. ولو أكون حاصلاً على رعايا مخضعين لسلطاني، لكنت أجتهد في أن أجعلهم كافةً منشغفين في حبكِ، وأخيراً أريد أن أصرف من أجل مجدكِ وأكراماً لشخصكِ ثمن دمي، وحياتي أيضاً أن لزم الأمر. فأنا اذاً أحبكِ يا أمي، ولكنني في الوقت عينه أخشى من أن لا تكون محبتي لكِ كائنة حقاً، لأني أسمع ما يقال من الفيلسوف: أن الحب يجعل المحبين شبيهين بالأشخاص المحبوبة منهم: فاذاً عندما أرى ذاتي بهذا المقدار بعيداً عن أن أكون شبيهاً بكِ، فأستدل من هذه العلامة على أن حبي لكِ ليس بكائنٍ، لأنكِ أنتِ كلية الطهارة والنقاوة. وأنا مملؤ من الدرن والأدناس. أنتِ هكذا متواضعةً وأنا بالضد متكبرٌ، أنتِ بهذا المقدار ساميةٌ في القداسة. وأنا بجملتي موعبٌ من الآثام. ولكن من حيث أنكِ تحبينني أيتها الأم الحنونة. فيخصكِ أن تصنعي هذا الأمر. وهو أن تصيريني شبيهاً بكِ. فأنتِ حصلتِ على الأستطاعة بأن تغيري القلوب. فاذاً خذي قلبي هذا وغيريه. وبذلك تظهرين للعالم كم هو عظم أعمالك. ومقدار أنعامك نحو الذين تحبينهم. فقدسيني وأجعليني أهلاً لأن أكون أبناً مرصياً لكِ. فهكذا أرجو وكذلك فليكن لي آمين
https://upload.chjoy.com/uploads/164469166527593.jpg
الجزء الرابع
*في أن مريم العذراء هي أم الخطأة أيضاً الراجعين الى الرب بالتوبة*
ان مريم والدة الإله قد أوحت الى القديسة بريجيتا (رأس138 كتاب4) بأنها هي أمٌّ ليس للأبرار والصديقين فقط. بل للخطأة وللأشرار أيضاً. بحيث أنهم يريدون أن يرجعوا عن المآثم: فدائماً هو مستعدٌ قلب هذه الأم الحنونة. لأن تسعف كل من يلتجئ اليها من الخطأة متذللاً أمام قدميها. راغباً عمل التوبة. ولأن تعامله بالحنو والرحمة أكثر من أمٍ طبيعيةٍ له. وهذا هو ما كتبه القديس غريغوريوس الكبير الى الأميرة ماتيلده (كتاب4 رسالة47) قائلاً: أقصدي الا ترجعي الى الخطيئة. وأنا أضمن لكِ أنكِ تجدين مريم مستعدةً لأعانتكِ في كل ما ترتاحين اليه. أكثر من أستعداد أمٍ طبيعيةٍ لكِ: ولكن من يشتهي أن يكون أبناً لهذه الأم العظيمة، فيلزمه أولاً أن يترك الخطيئة، وبعد ذلك يؤمل أن يقبل منها فيما بين أولادها، فيتأمل ريكاردوس في تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (ص31ع28) وهي: أنهضت أولادها: ويبرهن كيف أنه يقال أولاً عن النهوض، ثم بعده يذكر التبني، علامةً على أن من لم يهتم قبل كل شيءٍ في أن ينهض من خطاياه التي كان سقط فيها، فلا يمكن أن يكون أبناً لمريم. اذ أنه لا يستحق أن يدعى أبناً لأمٍ هكذا عظيمة ذاك الذي هو في حال الخطيئة المميتة، لأنه كما ينبه القديس بطرس الذهبي النطق: بأن من يصنع أعمالاً مضادةً لأعمال مريم، فينكر بالفعل حقيقة ارادته في أن يكون أبناً لها: فمريم هي متواضعةٌ وهو يريد أن يعيش متكبراً، مريم هي طاهرةٌ وهو دنسٌ، مريم هي مملؤةٌ من الحب، وهو يريد أن يبغض قربه. وبذلك جميعه يعطي علامةً على أنه ليس هو أبناً لهذه الأم القديسة. بل ولا يرغب حقاً التبني لها، ومن ثم يردف ريكاردوس كلامه السابق بهذه الكلمات قائلاً: أن أولاد مريم هم متشبهون بها بالطهارة والتواضع والوداعة والحلم والرحمة. لأنه ترى من يمكنه أن يتجاسر على أن يريد أن يصير أبناً لهذه الأم الجليلة، مع أنه يغيظها بسيرته الرديئة. فأحد الخطأة يوماً ما اذ كان يخاطب والدة الإله قال لها: أظهري ذاتك بالفعل أنكِ أمٌ: فأجابته البتول القديسة: أظهر ذاتكَ أنتَ بالفعل أنكَ أبنٌ: (كما هو مدون من الأب أورياما) وخاطٍ آخر مرةً ما اذ كان يسميها أم الرحمة مستدعياً اياها، فأجابته هذه الأم الإلهية قائلةً: أنكم أنتم أيها الخطأة حينما تريدون أني أساعدكم وأعينكم، فتسموني أم الرحمة، وبعد ذلك لا تكفوا عن أن تجعلوني بواسطة خطاياكم أم الشقاوة والحزن: أما ريكاردوس فيخصص بمريم العذراء ما قاله الله في حكمة ابن سيراخ (ص3ع18): أن من شتم أمه لعنة الله تنزل به: أي أن لعنة الله تحل بأولئك الذين يحزنون قلب هذه الأم الصالحة بسيرتهم الرديئة، وبأصرارهم على آثامهم*
فقولي بأصرارهم على الخطيئة، وذلك لأن الخاطئ الذي يجتهد مغتصباً ذاته على الخروج من المآثم، فهذا ولئن لم يكن بعد خرج بالكلية عن الخطيئة، فعند ما يلتجئ الى والدة الإله، فهذه ألم الرأوفة تعضده وتسعفه لأن يرجع الى حال نعمة الله، كما قد سمعت ذلك القديسة بريجيتا من فادينا نفسه في أحد الأوحية بخطابه مع والدته قائلاً لها: أن أولئك الذين يجتهدون مغتصبين ذواتهم على القيام من سقطتهم راجعين الى الله. فأنتِ تساعدينهم بالمعونات من دون أن تتركي أحداً من تعزيتكِ: فاذاً حينما يكون الخاطئ مصراً على مآثمه من دون ارادة الرجوع الى الله، فمريم لا تقدر أن تحبه، ولكن اذا هو شاهد ذاته ربما موثوقاً برباطات ألمٍ ما، أو رذيلةٍ ما قد صيرته أسيراً للعدو الجهنمي، فبحيث أنه قلما يكون يلتجئ الى البتول القديسة بالصلوات برجاءٍ وطيد وبمواظبة، في أن تنتشله من الأثم وتخرجه من الخطيئة، فهذه الأم الصالحة تمد اليه يدها المقتدرة، وتفكه من تلك القيود والسلاسل، وتقوده الى الطريق المستقيمة، وتضعه في الحال الخلاصية. فالمجمع التريدنتيني المقدس قد حرم الأرتقة التي بموجبها يقال، أن كل الصلوات والأعمال التي يصنعها الخاطئ وهو في حال الخطيئة، أي هو عادم نعمة الله هي خطايا. فيقول القديس برنردوس: أن الصلاة في فم الخاطئ ولئن لم تكن جميلةً. لأنها غير مرافقة من المحبة، فمع ذلك هي مفيدةً له ومثمرةٌ وملائمةٌ لخروجه من الخطيئة: لأنه كما يعلم القديس توما اللاهوتي: بأنه أي نعم أن صلوات الخاطئ هي عديمة الأستحقاق. ولكنها فعالةٌ حسناً لأن تستمد من الله نعمة الغفران. من حيث أن قوة نوال الطلبات هي مؤسسة لا على أستحقاق المتضرع بها، بل على جود الله وخلاصة. وعلى أستحقاقات يسوع المسيح ومواعيده القائل بها: أن كل من سأل أعطى، ومن طلب وجد، ومن قرع فتح له: (لوقا ص11ع10) فهذا عينه يجب أن يقال عن أولئك الذين يتضرعون الى والدة الإله القديسة. فيقول القديس أنسلموس: أن كان الذي يتوسل لا يستحق أن تستجاب توسلاته، فأستحقاقات مريم التي هو يلتجئ اليها تصير ان تقبل طلبته: ومن ثم فالقديس برنردوس (في عظته الثالثة المصنوعة منه في بارمون الميلاد) يحرض الخطأة كافةً، وكلاً منهم على الألتجاء الى مريم أم الرحمة بالتوسلات. وعلى أن يوطدوا رجاءهم كثيراً في مفعول شفاعاتها، لأن الخاطئ اذا لم يستأهل بذاته أن ينال مطلوبه. فالباري تعالى لأجل سمو أستحقاقات هذه الطوباوية التي تتضرع اليه من أجله، يهبه تلك النعم التي تكون هي ألتمستها له منه عز وجل. فهكذا يقول القديس نفسه: لأنك يا هذا أن كنت غير مستحق أن يعطى لك مطلوبك. فيعطى لمريم لكي تأخذ منها أنت ما تأخذه: لأن هذه هي وظيفة الأم الصالحة (يقول القديس عينه في محل آخر) التي يكون لها ابنان وهي تعلم أن كلاً منهما هو عازمٌ في قلبه على أن يقتل الآخر ببغضةٍ متبادلةٍ، فترى ماذا تصنع أمٌّ هذه صفتها في حادثٍ كهذا، سوى أن تبذل ما عندها من الجهد، في أن تصالح أحدهما مع الآخر وتزيل العداوة من بينهما. فهكذا مريم العذراء التي هي أمٌ ليسوع المسيح. وأمٌ للانسان (أي لكل البشر) فهذه حينما تشاهد خاطياً ما كائناً في حال العداوة ليسوع المسيح، فلا تقدر أن تحتمل ذلك، بل تبذل عنايتها كلها في أن توقع الصلح والسلام فيما بينهما: فهذه السيدة الكلية الحنو لا تطلب شيئاً آخر من الخاطئ، سوى أن يلتجئ اليها، وتكون نيته أن ينقي ذاته من خطاياه بالتوبة. على أنها متى رأت الخاطئ آتياً أمام قدميها مستغيثاً بها وطالباً الرحمة، فهي لا تلاحظ المآثم المتدنس هو بها، بل تنظر الى نيته وقصده الصالح الذي به التجأ هو اليها. فاذاً حينما يقصدها الخاطئ بعزمٍ جيد وبنية مقدسة، فهي تعنقه وتقبله. ولا تستنكف من أن تشفيه من كل جراحاته الأثيمة المقرحة بها نفسه، ولو كان هو قبلاً صنع الخطايا الموجودة في العالم بأسرها، لأن هذه الأم الكلية الحب لبنيها مدعوة منا بقلب أم الرحمة، لا نعتاً وتبجيلاً وتكرمةً، بل هي حقاً وصدقاً كذلك. وبالعملية تظهر حقائق تسميتها هذه، وتعلنها الى الجميع، بالحب والرأفة والانعطاف والحنو الرحمة، التي بها تسعفنا وتساعدنا وتنعم علينا. وهذا جميعه يتضح جلياً من كلمات هذه السيدة الفائقة القداسة عينها. المقولة منها حياً للقديسة بريجيتا (كتاب1 رأس23 من سيرة حياتها) بهذه الألفاظ وهي: أن الخاطئ مهما صنع من الشر وأقبل اليَّ بحسن عبادةٍ، فلا ألاحظ كثرة مآثمه، بل أنظر الى نيته وعزمه اللذين أقبل اليَّ بهما. ولا أستنكف من أن أضمد جراحاته وأشفيه منها، لأني ألقب بأم الرحمة وأنا بالحقيقة كذلك*
فمن حيث اذاً أن مريم هي أمٌّ للخطأة الذين يريدون الرجوع عن الخطيئة، فلا يمكن أن لا تأخذها الشفقة عليهم والانعطاف نحوهم، بل بالحري يظهر كأنها تشعر في ذاتها بمرارة شقاوة بنيها وبأمراضهم، كما لو تكون ملتحقةً بها هي نفسها. فالأمرأة الكنعانية حينما كانت تتوسل الى يسوع المسيح، من أجل شفاء ابنتها المعذبة من الشيطان قالت له تعالى: ارحمني يا رب يا ابن داود فأن ابنتي يعذبها الشيطان عذاباً شديداً" (متى ص15ع22) فلماذا قالت له ارحمني أنا. والحال أن ابنتها لا هي كانت تتعذب من الشيطان، وبالتالي كان يلزمها أن تقول، يا رب يا ابن داود ارحم ابنتي، لا أن تقول ارحمني أنا، ولكن بالصواب وليس من دون سببٍ قالت هكذا، لأن الأمهات يشعرن في ذواتهن بمرارة مصائب أولادهن، كأنها مصائبهن الشخصية، فلأجل ذلك يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس (في مدائح البتول): ان مريم حينما يلتجئ اليها أحد الخطأة مستغيثاً بها، فهي تتوسل من أجله لدى الله، وكأنها تقول له تعالى هكذا: يا سيدي أن هذه النفس المسكينة الحاصلة في الخطيئة هي ابنتي. فلهذا أسألك أن ترحمني أنا، أحرى من أن أقول لك أرحمها هي، لأني أنا أمها: أواه فليرتض الله بأن الخطأة جميعاً يلتجئون الى هذه الأم الحلوة العطوفة، لأنهم من دون ريبٍ يفوزون منه تعالى بالغفران عن مآثمهم. ففي هذا الموضوع يهتف القديس بوناونتورا منذهلاً وصارخاً: أنكِ يا مريم تعتنقين بحبٍ والديٍ الخاطئ المرذول من العالم بأسره، ولا تتركينه الى أن تصالحيه مع ديانه الذي هو ابنكِ: فهذا القديس بعني بالألفاظ المذكورة، أن جميع الخلائق حتى العناصر العديمة الحس نفسها، كالنار والهواء والأرض تبغض الخاطئ المصر على آثامه. وكأنها تريد أن تطرده مقصياً وتنتقم منه معاقبةً، لكي تصلح الأهانة المصنوعة منه ضد خالقها وسيدها المطلق، وتعوض الكرامة المسلوبة عنه بالخطيئة. ولكن اذا التجأ هذا ااخاطئ المنكود الحظ الى مريم، فهل أنها تطرده راذلةً كلا، أنها لن تقصيه، بل متى كانت نيته أن يستمد منها المعونة في تخليصه ذاته من الخطيئة، فتقبله بكل بشاشةٍ وحبٍ بحسبما هي أمٌ له، ولا تتركه ألم يفز بواسطة اقتدار شفاعتها بالمصالحة مع الله، وبالحصول على نعمة التقديس من الجود الإلهي*
فالأصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الثاني يخبرنا، عن الخطاب الذي تفوهت به مع داود الملك، تلك الأمرأة التقية الحكيمة بهذا المضمون قائلةً له: يا سيدي الملك أنه قد كان لي ابنان، ولأجل سوء حظي قد قتل أحدهما الآخر وبالتالي قد فقدت الواحد منهما. والأن تريد الشريعة أن تعدمني الابن الثاني الذي بقي لي وحيداً. فأرحمني أنا الأم المسكينة، وصيرني الا أفقد الابنين معاً: فحينئذٍ داود أخذته الشفقة على هذه الأم، فخلص من حكومة الموت أبنها القاتل ورده اليها مطلوقاً. فعلى نوعٍ ما يظهر أن مريم تستخدم هذه الألفاظ، حينما ترى الباري تعالى مغتاظاً ضد ذاك الخاطئ الذي يكون التجأ اليها مستغيثاً بها، فتقول له: إلهي أنه لقد كان لي ابنان، وهما يسوع والانسان، فالانسان قد قتل يسوع مصلوباً على الخشبة، والآن شريعة عدلك الإلهي تريد بحكومتها أن تهلك الانسان، فيا سيدي أن ابني يسوع قد مات. فأشفق عليَّ اذاً وصيرني الا أفقد ابني الثاني الباقي لي. بعد أني عدمت الابن الأول: فحقاً أن الله بغير شكٍ لا يمكن أن يهلك أولئك الخطأة الذين يستغيثون بمريم، وهي تتوسل لله من أجلهم، اذ أن الله عينه قد جعل هؤلاء الخطأة أولاداً لها، بصيرورته اياها أماً لهم. فالرجل الحسن العبادة لابسارجيوس يجعل كأنَّ الباري تعالى يتكلم هكذا قائلاً: أنني قد سلمت الخطأة لمريم بمنزلة بنين ومن ثم هي بهذا النوع مهتمة في أن تكمل واجبات وظيفتها هذه، وليس أحدٌ من أولئك الذين سلموا لعنايتها، خاصةً الذين يستغيثون بها، يمضي مهملاً منها الى الأبادة، بل أنها تقود الجميع اليَّ بكل قدرتها.*
ويقول بلوسيوس: ترى من يستطيع أن يصف بالكفاية عظم الرحمة والخيرية والعناية والمحبة، التي بها تهتم أمنا هذه الإلهية في أمر خلاصنا، حينما نستدعيها لمعونتنا ونلتجئ اليها: ويقول القديس برنردوس (في أحد ميامره): فلنتقدم اذاً أمام هذه الأم الصالحة جاثين لدى قدميها المقدسين. ولنضبطهما شديداً، ولا نفارقها ولا نطلقها ألمَّ تباركنا، وبذلك تقبلنا أولاداً لها متبننةً بنا: فمن يمكنه أن يرتاب أو يضعف رجاؤه في هذه الأم الرأوفة، أو في شفقتها نحونا (يقول القديس بوناونتورا) حتى ولو أنها قتلتني، فأنا لا أزال وطيد الرجاء فيها وأؤمل بكلية أملي أن أموت أمام أيقونتها. وهكذا أفوز بالخلاص: فكل أحد من الخطأة حينما يلتجئ الى هذه الأم الكلية الشفقة، يلزمه كذلك أن يتفوه نحوها قائلاً: أيتها السيدة أمي، أنني لأجل مآثمي أستحق أن ترفضيني مقصياً من أمامك، وأن تعاقبيني بالقصاصات المستزوجبتها خطاياي، ولكن ولو أنك رذلتيني وقتلتيني فأنا لا يمكن أن أضعف رجائي فيكِ، ولا يحيق بي اليأس من رحمتكِ. بل أثق بأن أنال الخلاص بواسطتك. فأنا كلي الأمل فيكِ وشديد الاتكال عليكِ. وارجو أن أحصل على هذا الحظ السعيد، وهو أن أموت أمام أحدى أيقوناتكِ، مسلماً نفسي بين يدي رحمتك. وبذلك أطمئن بألا أمضي هالكاً، بل أنطلق الى السماء لكي أسبحكِ برفقة عبيدكِ الكثير عددهم، الذين لاستغاثتهم بكِ في ساعة موتهم، ولأعانتكِ أياهم بقوة شفاعاتك المقتدرة، قد فارقوا هذه الحياة فائزين بالخلاص: وهنا فليقرأ النموذج الآتي إيراده، ليفهم أن كان يمكن لأحد الخطأة، أن يقطع رجاءه من رحمة هذه الأم الصالحة، أو من مفاعيل حبها الشديد اذا التجأ اليها.*
* نموذج *
إن بالواجانسه يخبر (في مطلع تاريخه) بأنه قد كان في مدينة ريدوليوس في بلاد انكلترا سنة 1430 شابٌ شريف الأصل، أسمه أرناسطوس، الذي بعد أن وزع جميع الميراث المخلف له عن مورثيه، وكل ما كان يملكه على الفقراء والمحتاجين، قد ترهب في أحد الديورة، حيث كان يجتاز أيامه بسيرةٍ مملؤةٍ من حقيقة روح الكمال الانجيلي، حتى أن رؤساءه أنفسهم كانوا يعتبرون فضيلته ويكرمونه، لا سيما لأجل عبادته الخصوصية الحارة نحو والدة الإله، فحدث في تلك الأيام أن الطاعون قد دخل في المدينة المذكورة، ولذلك قد التجأءت سكانها الى رهبان ذلك الدير، طالبين منهم تقدمة التضرعات من أجلهم، فرئيس الدير قد رسم على أرناسطوس أن يمضي الى الكنيسة، ويمارس الصلوات أمام هيكل العذراء المجيدة بأتصالٍ، وألا يباين الهيكل ألمّ يحصل على جوابٍ ما من هذه السيدة الجليلة، فالشاب قد تمم ذلك وأستمر مدة ثلاثة أيام الى أن فاز أخيراً من البتول القديسة، بأنها علمته أن الشعب يتلون بعض صلواتٍ مرسومة منها، لينجوا من الطاعون، كما أنهم قد أكملوا ذلك وفازوا بالنجاة تماماً، فأتفق فيما بعد أن ذلك الشاب قد فترت حرارة عبادته نحو العذراء المجيدة. ومن ثم قد وثب عليه الشيطان بتجارب قوية جداً، لا سيما بأشياء مضادة العفة، محركاً في عقله العزم على أن يهرب من الدير، ومن حيث أن هذا المسكين لم يتجه بالأستغاثة نحو ملجأ المحاربين. فقبل هواجس أبليس، وعزم على أن يطرح ذاته من أحد جدران الدير الى خارجٍ ويفر هارباً. ولكن وفيما هو بهذا العزم مجتازاً من رواق الدير، حيث كانت توجد أيقونةٌ لوالدة الإله، فقد خاطبته هذه السيدة من تلك الأيقونة قائلةً: يا أبني لماذا قد أهملتني: فحينئذٍ أرناسطوس قد أنطرح في الأرض أمامها مملوءاً من الأنذهال والهلع والندامة معاً، وأجابها قائلاً: ألا تنظرين يا سيدتي كيف أنني ما عدت أقدر أن أحتمل التجارب. فلماذا أنتِ لم تعينيني: فقالت له القديسة: وأنتَ لما تغافلت، عن أن تستغيث بي، فلو أنكَ التجأت اليَّ وأستدعيتني الى معونتك، لما بلغت الى الحال الكائن أنتَ بها، فمنذ الآن وصاعداً أتكل عليَّ وأستغث بي ولا يخامرك ريبٌ: فأرناسطوس قد رجع الى قلايته ولكن قد وثبت عليه التجارب جديداً. ومن كونه لم يهتم في أن يلتجئ الى العذراء المجيدة فقد غلب أخيراً من عدوه الجهنمي، وهرب من الدير. وسلم ذاته لمفاعيل الآلام الرديئة بسيرةٍ كلية الشناعة، مجتازاً من فعل خطيئة الى أخرة حتى أنه صار قاتلاً وناهباً، لأنه أستنكرى فندقاً يستقبل فيه الغرباء تحت أجرةٍ بائعاً أياهم في النهار قوتاً وخمراً. وفي الليل كان يقتل من يمكنه قتلهم ويسلب أمتعتهم. ففي ليلةٍ ما قد وجد فيما بين الذين أماتهم على هذه الصورة أبن عم والي تلك البلدة، فهذا الوالي بموجب الدلائل التي حصل عليها في قيام الفحص ولأجل ما أتى ذكره قد حكم على أرناسطوس بالشنق. غير أنه في الزمن الذي كان فيه الفحص مقاماً قبل أبراز الحكومة، قد ــ جاء الى الفندق شابٌ ما شريف المقام، وعندما أستقبله أرناسطوس قد صمم عزمه على أن يقتله ليلاً، كما كان فعل بالآخرين، فلما بلغت الساعة المقصودة منه، دخل سراً الى المسكن الراقد فيه ذاك الشاب ليميته على فراشه، فلم ير الشاب، عوضاً منه شاهد مطروحاً فوق الفراش شخص مخلصنا يسوع المسيح مسمراً على الصليب مملؤاً من الجراحات، الذي قد نظر اليه بعين رأفةٍ قائلاً له: أما يكفيك يا ناكر الجميل أنني قد مت مرةً واحدةً من أجلك، بل تريد أن تميتني مقتولاً بيدك من جديد، فأمدد ذراعك سريعاً وأقتلني ثانيةً: فحينئذٍ أرناسطوس طفق يبكي بمرارةٍ وأجابه قائلاً بدموعٍ: هوذا أنا يا سيدي أمامك، ومن حيث أنك أستعملت معي رحمةً هكذا عظيمة، فأنا أريد أن أعود اليكَ راجعاً: قال هذا وحالاً خرج من الفندق ليمضي الى الدير ويمارس أفعال التوبة، ولكن فيما هو مجتاز قد صادفته خدام الشريعة فمسكوه وأتوا به الى القاضي، فلما مثل في ديوانه قد أعترف مقراً بجميع ما كان صنعه. وبقتله كل الذين أماتهم في الفندق. فحينئذٍ الوالي أبرز ضده حكم الموت مشنوقاً. من دون أن يعطيه زمناً ليعترف بخطاياه في منبر سر التوبة. فوقتئذٍ أرناسطوس التجأ الى أم الرحمة مستغيثاً بها. فالجلاد أي نعم أنه شنقه الا أن والدة الإله قد حفظته في الحياة، وفكته من الحبل وسرحته آمرةً اياه بقولها له: أرجع الى الدير وأعمل توبةً. وفي اليوم الذي فيه تشاهد في يدي ورقةً توضح أن خطاياك قد غفرت، فحينئذٍ هيء ذاتك للموت. فأرناسطوس عاد الى ديره، وأخبر رئيسه بهذا جميعه، وشرع يباشر أفعال التوبة الأشد صرامةً، وأستمر على ذلك عدةً من السنين، الى أنه يوماً ما رأى في يد الطوباوية مريم البتول ورقة الغفران، ومن ثم أستعد حالاً الى الموت، ورقد بالرب بميتةٍ مقدسة*
https://upload.chjoy.com/uploads/164469166527593.jpg


† صلاة †
يا مريم الكلية القداسة. أيتها الملكة المسلطة، والدة الإله المستحقة هذه الرتبة السامية الجلال، أنني اذ ألاحظ ذاتي بهذا المقدار مملؤاً من الذل والأدران والخطايا، فلم يكن يليق بي أن أتجاسر على التقدم اليكِ، وعلى أن أدعوكِ أماً لي، ولكن لا أريد أن شقاوتي هذه تعدمني التعزية العظيمة، والرجاء الأمين اللذين أشعر بهما عندما أسميكِ أمي، فأنا أعلم أني مستحقٌ أن تطرديني مقصياً من أمامكِ، الا أنني أتوسل اليك بأن تتأملي في جميع ما تكبده من الآلام، وما صنعه من أجلي يسوع أبنكِ. وبعد ذلك أطرديني أن قدرتِ. فأنا هو أحد الخطأة البائسين. ولكنني أهنت العزة الإلهية أكثر من الآخرين، الا أن الشر قد صار، وفات ما مضى، فالآن أنا ألتجئ اليكِ، وأنتِ قادرةٌ أن تعينيني، فغيثيني يا أمي وساعديني، ولا تقولي لي أنكِ لا تستطيعين أسعافي، لأني أعرف أنكِ قادرةٌ على كل ما تشائين! وتنالين من إلهكِ، جميع ما ترغبين، وأما أن قلتِ لي أنكِ لا تريدين أن تعينيني، فقلما يكون عرفيني الى من التجئ لكي يساعدني في حال مصائبي هذه الثقيلة. فأنا أهتف اليك والى أبنكِ بألفاظ القديس أنسلموس قائلاً: أما أنك أنت يا مخلصي ترحمني بمغفرتك لي آثامي، وأنتِ يا أمي تشفقين عليَّ معينةً إياي، وأما أنكما تقولان لي من هم الأشخاص الأقوى منكما لأستغيث بهم. ومن هم الذين أستطيع أن أتكل عليهم. فلا يوجد لا في السماء ولا على الأرض أحدٌ يمكنني أن أحصل منه على رحمةٍ وشفقةٍ أكثر منكما، أو يستطيع هو أن يساعدني أفضل منكما، فأنت هو أبي يا يسوع. وأنتِ هي أمي يا مريم، فأنتما تحبان من هم أكثر أحتياجاً، وأوفر شقاوةً وتمضيان في طلبهم لتخلصانهم. فأنا هو أحد الأثمة المستحقين أن يطرحوا في جهنم، بل الأشد قبحاً وتعاسةً من جميعهم، ولكن لا حاجة بكما لأن تجولا ههنا وهنا لتطلباني، بل ولا أنا أدعي بأنه يلزمكما التفتيش عليَّ، لكني أقدم لكما ذاتي برجاءٍ وطيدٍ في أنكما لا تعرضان عني، وتتركاني مهملاً منكما. فهوذا أني منطرحٌ على أقدامكما، فأغفر لي يا يسوع مخلصي، وأنتِ يا مريم عينيني آمين!*
لم يسمع قد أن أحداً
ألتجأ إليكِ وعاد خائباً
أيتها السيدة الرؤوفة

Mary Naeem 02 - 08 - 2022 07:41 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
الفصل الثاني




https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg






هراً وبيت الله على قمم الجبال،


ويستعلي فوق أعلى التلال، ويجيء إليه


كل الأمم، ويسير نحوه شعوب كثيرة.(أشعيا 2/ 12)


في شرح ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: يا حياتنا ولذتنا: †


* وفيه ثلاثة أجزاء *


أنه سيكون في آخر الأيام، جبل الرب


ظا† الجزء الأول


* في أن مريم البتول هي حياتنا، لأنها تستمد لنا غفران خطايانا *

أنه لكي تفهم جيداً العلة التي من أجلها تجعلنا الكنيسة المقدسة، أن نسمي مريم العذراء حياتنا، فيلزم أن يعرف أنه كما أن النفس تعطي الحياة للجسد، فهكذا النعمة الإلهية تعطى الحياة للنفس. لأن النفس من دون النعمة الإلهية. نعم أنها تسمى حيةً، ولكنها بالحقيقة مائتةٌ هي، كما قيل في سفر الرؤيا (ص3ع1) لملاك كنيسة سرديس: أني أعرف أعمالك أن لك أسماً حي ولكن أنت ميت. فاذاً اذ تستمد مريم البتول للخطأة بواسطة شفاعاتها أكتساب نعمة الله، فبهذا النوع ترد لهم الحياة. فأسمع كيف أن الكنيسة تجعل مريم متكلمةً عن ذاتها. بتخصيصها لها الكلمات المقولة في العدد السابع عشر من الاصحاح الثامن من سفر الأمثال وهي: أن الذين يبتكرون اليَّ يجدونني: أي أن الذين يطلبوني باكراً يعني حالما يمكنهم فحقاً يجدونني. بل أن السبعين مترجماً قد وضعوا عوضاً من لفظة يجدونني هذه الكلمات وهي: يجدون نعمةً، ومن ثم أن الذين يلتجئون الى مريم يحصلون على نعمة الله. ثم أنه في العدد الأخير من الاصحاح المذكور توجد مدونةً هذه الكلمات وهي: أن من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من الرب: فهنا القديس بوناونتورا يهتف عند تفسيره الكلمات المقدم ذكرها قائلاً: أسمعوا يا معشر الذين يشتهون الحصول على ملكوت الله. فكرموا مريم تجدوا الحياة والخلاص الأبدي*
والقديس برنردينوس السياني يقول (في الرأس8 عظة61 ممن المجلد الأول من تأليفه): أن الله أنما لم يرد أن يبيد الانسان من الوجود بعد سقوطه بالخطيئة في عدن، لأجل الحب الخاص الذي كان يحب به هذه الابنة العتيدة: ثم بعد ذلك يقول هذه الألفاظ الأخرى وهي: أنني لا أرتاب في أن كل المراحم والغفرانات التي فاز بها الخطأة في زمن الناموس القديم، فالله قد منحهم اياها ملاحظةً لهذه البتول المباركة لا غير.*
فلهذا يحرضنا حسناً القديس برنردوس بقوله: أن كنا أضعنا نعمة الله نحن الأشقياء، فلنجتهد في أن نكتسبها ثانيةً بواسطة مريم: لأننا أن كنا أضعنا هذه النعمة فمريم قد وجدتها، ومن ثم كان القديس المذكور يسميها: واجدة النعمة: أو ظافرة بالنعمة. وهذه الصفة قد نعتها بها لتعزيتنا العظيمة القديس جبرائيل رئيس الملائكة بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمةٍ من عند الله: (لوقا ص1ع30) ولكن لأمرٌ محقٌ هو أن مريم قط لم توجد خاليةً من نعمة الله. فكيف اذاً زعيم الملائكة جبرائيل يقول لها: قد وجدت نعمةً: أو ظفرت بنعمةٍ من عند الله: والحال أن من يجد شيئاً أو يظفر بشءٍ، فيلزم أن لا يكون هو قبلاً حاصلاً عليه. فالبتول القديسة قد كانت دائماً مع الله، وحاصلةً على الدوام في حال النعمة، بل ممتلئة منها، كما أعلن ذلك القديس جبرائيل رئيس الملائكة نفسه، حالما أنتصب أمامها هاتفاً نحوها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ: فأن كانت اذاً مريم لم تجد هذه النعمة أو تظفر بها لذاتها، لأنها وجدت دائماً ممتلئةً منها. فلمن وجدتها؟ فيجيب عن ذلك في تفسيره النص المتقدم ذكره الكردينال أوغون الجليل قائلاً: أن مريم قد وجدتها للخطأة الذين كانوا أضاعوها، فليسرع اذاً جرياً نحو مريم أولئك الخطأة الذين أضاعوا النعمة، لأنهم عندها من دون ريب يجدون هذه النعمة المفقودة منهم، وليقولوا لها هكذا: أيتها السيدة أن الشيء الضائع يلزم أن يرد لمن أضاعه. فهذه النعمة التي أنتِ وجدتيها ليست هي لكِ، لأنكِ أنتِ قط ما أضعتيها. فهي لنا لأننا نحن الذين أضعناها. ولهذا يلزمكِ أن ترديها لنا. ثم يستنتج من هذا الرأي ريكاردوس الذي من سان لورانسوس (في كتابه2 على العذراء) بقوله: فأن كنا اذاً نرغب أن نحصل على نعمة الله، فلنذهب نحو مريم التي قد وجدت هذه النعمة. ودائماً هي واجدتها: ولأنها قد كانت على الدوام، كما هي الآن ولم تزل سرمداً محبوبةً عزيزةً لدى الله، فإذا ما التجأنا اليها، فمن دون كل ريبٍ نحصل على النعمة: ثم مما جاء مدوناً عن هذه السيدة في العدد العاشر من الاصحاح الثامن والأخير من سفر نشيد الانشاد المقدس وهو: أنا سورٌ وثدياي كبرجٍ. فكنت أنا في عينيه كواجدة سلامٍ: يتضح أن الله قد أقامها سوراً وملجأً لنا لأجل حمايتنا. وواسطة فيما بيننا نحن الخطأة وبينه تعالى للسلام، فسنداً على الكلمات المقدم ذكرها يشجع القديس برنردوس الخاطئ قائلاً له: أمضِ الى أم الرحمة هذه، وأكشف لها الجراحات الكائنة في نفسك من قبل خطاياك، وحينئذٍ هي بتأكيدٍ تتضرع الى ابنها بأن يغفر لك أكراماً للحليب الذي أرضعته إياه من ثدييها، وابنها لحبه اياها العظيم يستجيب من كل بد تضرعها من أجلك: كما يتضح من عملية الكنيسة المقدسة التي تجعلنا أن نطلب من الله أن يمنحنا معونة شفاعة مريم ذات الاقتدار، لكي ننهض من أحداث خطايانا. وذلك بواسطة تلك الصلاة الاعتيادية وهي: امنح أيها الإله الرحوم عوناً لضعفنا، حتى نحن المحتفلين بتذكار القديسة والدة الإله، فبمعونة شفاعاتها نكون ناهضين من سقطات مآثمنا وقباحتنا.*
فاذاً بالصواب يسمي مريم البتول القديس لورانسوس يوستينياني: رجاء عمال الأثم. لأنها هي وحدها تلك التي تستمد لهم من الله غفران خطاياهم. وكذلك بكل لياقةٍ يدعوها القديس برنردوس: سلم الخطأة: لأن هذه الملكة الشفوقة. اذ تمد يدها الى الأثمة المساكين الواقعين في حفرة الخطيئة، فتنتشلهم مصعدةً أياهم من هوة الأثم الى الله كعلى سلمٍ. وهكذا بكل عدالةٍ يسميها القديس أوغوسطينوس: (في عظته18 على القديسين) "رجانا نحن الخطأة". لأننا بوساطتها هي وحدها نترجى الصفح عن ذنوبنا كلها، وهذا نفسه يقوله القديس يوحنا فم الذهب أي: أن الخطأة بشفاعات مريم فقط يفوزون بالغفران من الله. ومن ثم بعد ذلك يحييها بالسلام عن لسان جميع الخطأة (في فرض عيد ميلادها) قائلاً: السلام عليكِ من الرب يا والدة الإله وأمنا، أيتها العرش السماوي حيث يجلس الله، فأنت هي السدة التي منها يوزع الرب أنعامه كلها، فتوسلي الى يسوع دائماً من أجلنا، لكي نستطيع بواسطة صلواتكِ أن نستمد الغفران في يوم المحاسبة، ونفوز بالمجد الطوباوي الى الأبد.*
وأخيراً بالصواب تدعى مريم مطلع الصبح كما هو مدون عنها هكذا: من هي هذه المستشرقة كمطلع الصبح جميلة كالقمر منتخبة كالشمس: (نشيد الانشاد ص6ع9) أي نعم أنها هي الفجر الصباحي، لأن الحبر الأعظم أينوشانسيوس يقول (في عظته الثانية على صعودها): أنه من حيث أن الصباح هو نهاية الليل وبداية النهار، فبالصواب أن مريم البتول قد شبهت بالصبح، لأنها هي نهاية الرذائل وبداية الفضائل: فالمفعول عينه الذي صنعته مريم في العالم حين ميلادها تفعله في نفس كل انسانٍ حين تتلد فيه العبادة نحوها، ولذلك يخاطبها القديس جرمانوس (في عظته الثالثة على نياحها) قائلاً: يا والدة الإله أن حمايتكِ ونصرتكِ هي عديمة الفناء، وشفاعتكِ هي الحيوة: وفي عظته المختصة بعيد وضع زنارها يقول: أن إسم مريم لمن يتلفظ به بحسن عبادةٍ وحبٍ هو علامة وجود الحياة. أو أنه من دون أبطاءٍ يحصل المتلفظ به على الحياة.*
فقد رتلت هي نفسها قائلةً: ها منذ الآن يعطيني الطوبى جميع الأجيال: (لوقا ص1ع48) فيقول نحوها القديس برنردوس. (في عظته المختصة بالعنصرة): أي نعم يا سيدتي لأجل ذلك يدعوكِ طوباوية البشر جميعهم. لأن عبيدكِ كلهم ينالون بواسطتكِ حياة النعمة والمجد الأبدي: (ويقول في خطبته على ميلادها) أن الخطأة بكِ يجدون الغفران، وأما الصديقون فيحصلون بكِ على نعمة الثبات، وبعد ذلك على الحياة السرمدية: (وهنا يتكلم المتعبد لها يرنردينوس البوسطي في عظته على ميلادها قائلاً): لا يقل رجاك أيها الخاطئ، حتى ولو أنك تكون أرتكبت أفعال الخطايا كلها. بل ألتجِ بطمأنينةٍ الى هذه السيدة لأنك تجدها مملؤة اليدين من الرحمة... فمريم ترغب أن تصنع معك الخير وتهبك النعم. بأكثر وأفضل مما أنت ترغب وتشتهي أن تقتبل منها.*
ثم أن القديس أندراوس الأقريطشي يسمي مريم: طمأنينة الغفران الإلهي: وهذا يفهم به أنه حينما تلتجئ الخطأة الى مريم لكي يتصالحوا مع الله، فالباري تعالى يعدهم بالغفران بنوعٍ أمينٍ كليّ الطمأنينة، ويعطيهم عربوناً لهذه الطمأنينة مريم نفسها، التي قد وهبناها عز وجل محاميةً عنا، ولأجل شفاعاتها يغفر الخطايا بقوة أستحقاقات يسوع المسيح لأولئك الذين يستغيثون بها ويقصدون نصرتها. والقديسة بريجيتا قد عرفت من الملاك (في الرأس9) أن الأنبياء القديسين كانوا يتهللون عندما عرفوا أن الله لأجل تواضع مريم وطهارتها، كان مزمعاً أن يرتضي بمصالحة الخطأة، وبان يتقبل في نعمته أولئك الذين كانوا أغاظوه.*
فلا ينبغي لكائنٍ من كان من الخطأة أن يخاف أصلاً، من أنه يمكن أن مريم تطرده خارجاً، اذا أستدعاها لمعونته مستغيثاً برأفتها، كلا، لأنها هي أم الرحمة، وبحسب صفتها هذه ترغب خلاص الخطأة الأكثر شقاوةً. فيقول القديس برنردوس: أن مريم هي تلك السفينة التي كل من يحتمي فيها لا يدركه الغرق الأبدي: فداخل سفينة نوح قد خلصت من الطوفان البهائم والوحوش أيضاً. وهكذا ضمن حماية مريم وتحت ظل عنايتها تخلص الخطأة أيضاً. فالقديسة جالتروده قد شاهدت في الرؤيا يوماً ما مريم البتول مقتبلةً تحت أذيال برفيرها كثرةً من الوحوش الضارية، أسوداً، نمورةً، دبباً وغيرها، ثم لاحظت كيف أن مريم ليس فقط لم تكن تطرد من حولها تلك الوحوش، بل بالعكس كانت بأشفاقٍ وحنوٍ تجمعها وتلاطفها وتنعطف نحوها، ومن هذه الرؤيا قد عرفت القديسة أن الخطأة الأشد تعاسةً والأكثر أثماً، حينما يبادرون الى حماية هذه الأم الرأوفة، فلا يقصون من أملهم مطرودين، بل يقبلون منها مخلصين من الموت الأبدي، فلنذهب اذاً وندخل ضمن هذه السفينة، ولنلتجِ تحت ذيل حماية مريم التي من المؤكد لا تطردنا، بل من دون ريبٍ تهتم في أمر خلاصنا*

* نموذج *

أن الأب بوفيوس يخبرنا فيما بين الأشياء الأخرى عن أمرأة رديئة السيرة أسمها هيلانه. فهذه اذ أتفق لها يوماً ما بطريق الصدفة، أن تستمع في الكنيسة عظةً مختصةً بالوردية، فلما خرجت من المعبد الإلهي أشترت مسبحةً من مسابح الوردية، الا أنها حملتها خفيةً كيلا يراها أحدٌ، ثم شرعت فيما بعد تمارس صلاة هذه المسبحة، ومع أنها كانت تتلوها من دون عواطف العبادة، فمع ذلك قد أفاضت البتول القديسة في قلبها عذوبةً وتعزيةً بهذا المقدار عظيمةً عندما كانت تصلي بها، حتى أنها ما عادت تعرف تهمل تلاوتها، وبذلك قد حصل عندها تكرهٌ ونفورٌ من سيرتها القبيحة، بنوع أنها لم تعد تحتمل توبيخ ضميرها الشديد، أو تجد راحةً لأفكارها القلقة. ومن ثم شعرت بنفسها منجذبةً بأغتصابٍ الى أن تمضي تعترف بخطاياها في منبر التوبة. كما فعلت حقاً بتوجعٍ وندامةٍ قلبيةٍ بهذا المقدار عظيمةٍ، حتى أن معلم أعترافها قد أستوعب من ذلك أنذهالاً، فبعد نهاية الاعتراف ذهبت أمام هيكل والدة الإله، لكي تقدم الشكر لمعينتها هذه المقتدرة، وهناك أكملت صلوة الوردية، فالأم الإلهية قد تنازلت لأن تخاطبها من تلك الأيقونة قائلةً لها: يكفيكِ يا هيلانه ما قد أغظتِ به الله لحد الآن، وما أهنتيني به، فمنذ هذا اليوم فصاعداً غيري سيرتكِ، وأنا سأهبكِ جانباً ليس بقليلٍ من أنعامي: فهيلانه الخاطئة المسكينة قد أمتلأت خجلاً وأنذهالاً وأجابتها هاتفةً: أيتها البتول الكلية القداسة، أنني بالحقيقة قد عشت لحد هذا الوقت خاطئةً أثيمةً شقيةً دنسةً، ولكن أنتِ من حيث أنكِ قادرةٌ على كل ما تشائين، فعينيني لأني أهبكِ ذاتي بجملتها. وأريد أن أصرف ما بقي من حياتي في أعمال التوبة وفاءاً عن مآثمي. ثم خرجت من الكنيسة وبمعونة والدة الإله قد وزعت كل ما كانت تملكه على الفقراء والمحتاجين، وشرعت تمارس أفعال التوبة الأشد صرامةً. فأي نعم أن التجارب قد نهضت لمحاربتها ووثبت عليها بقوةٍ كلية. الا أنها أي هيلانه لم تكن تغفل عن الألتجاء المتصل الى معينة التائبين، وبذلك كانت دائماً تنتصر على أعدائها الجهنميين، وقد حصلت على انعامٍ وافرةٍ فائقة الطبيعة، حتى أنها فازت بأوحيةٍ وجلياناتٍ سماوية وبروح النبوة أيضاً. وأخيراً قبل نياحها بأيامٍ وجيزة، قد أنذرتها والدة الإله مخبرةً اياها عن وقت خروجها من هذه الحياة. ولما جاءت الساعة قد حضرت اليها هذه الأم الإلهية عينها مع ابنها الحبيب لتعزيتها، وعند أنفصالها من الجسد قد شوهدت نفسها بصورة حمامةٍ بيضاء جزيلة الجمال، قد تراقت متطايرةً الى السماء لتمجد الله في السعادة الأبدية سرمداً.*

† صلاة †

هوذا أنني منطرحٌ على قدميكِ يا والدة إلهي. يا رجاي الوحيد أنا الخاطئ الشقي طالباً منكِ الرأفة. فأنتِ تدعين من الكنيسة كلها ومن المؤمنين أجمعين: ملجأ الخطأة: فاذاً أنتِ هي ملجأي ويخصكِ أن تخلصيني: فأنتِ تعلمين كم هي عظيمة رغبة ابنكِ أمر خلاصنا، وتعرفين يا والدة الإله الكلية الحلاوة مقدار ما يسر وحيدكِ المبارك بتخليصنا: (غوليالموس الباريسي) ومعلومٌ هو لديكِ كم قد أحتمل يسوع لأجل خلاصي، فأنا أذكركِ يا أمي بألام حبيبكِ. وهي البرد الذي تكبده في مغارة بيت لحم، مشقة هربهِ الى مصر، أتعابه، أعراقه، دمه الذي سفكه، أوجاع الموت التي أحتملها أمام عينيكِ مقتولاً على الصليب، فأوضحي ذاتكِ أنكِ تحبين هذا الابن الإلهي. في الوقت الذي فيه أنا أتوسل اليكِ بأن تعينيني حباً به. أمددي يدكِ اليَّ أنا الواقع الملتمس منكِ الشفقة. فلو أني أكون قديساً لما كنت طلبت الرحمة، بل من حيث أني خاطٍ فأنا ملتجٍ اليكِ لكونكِ أم المراحم، فأنا أعلم أن قلبكِ الحنون يتعزى كثيراً بأعانة البائسين، حينما يمكنكِ أن تعينيهم اذ لا تجدينهم مصرين على آثامهم. فاذاً أبهجي اليوم قلبكِ الرأوف وعزيني، لأنه توجد لكِ حجة لأن تخلصيني. اذ أني مسكينٌ مستحق جهنم، وتقدرين أن تساعديني، لأني لا أريد أن أكون مصراً على عمل الخطيئة. فأنا أضع ذاتي في يدكِ، فقولي لي ماذا يجب أن أصنع. وأستمدي لي قوةً لأقدر أن أتمم ما ترسمينه عليَّ، في الوقت الذي فيه أنا أقصد أن أفعل كل ما يمكنني صنعه، لكي أرجع الى حال النعمة الإلهية. فأنا أهرب محتمياً تحت كنف وقايتكِ، وابنكِ يسوع يريد أن التجئ اليكِ. حتى لأجل مجده ومجدكِ بحسب كونكِ أمه يسعفني للخلاص ليس فقط دمه المسفوك لهذه الغاية، بل معونة صلواتكِ أيضاً من أجلي لديه. فهو أرسلني اليكِ لكي تعينيني، وهوذا أنا أسرعت مستغيثاً بكِ. وواثقاً فيكِ برجاءٍ وطيدٍ، فأنتِ تطلبين متضرعةً من أجل الكثيرين. فصلي من أجلي أنا أيضاً ولو كلمةً واحدةً. قولي لله أنكِ تريدين أن تخلصيني. وحينئذٍ لا ريب في أنه تعالى يخلصني، فقولي له أني أنا خاصتكِ، وأكثر من هذا أنا لا أطلب منكِ.*




الجزء الثاني


https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg





* أن مريم هي حياتنا كونها تستمد لنا نعمة الثبات في البر*


بي تمتلك الملوك، والذين يعملون فيَّ لا يخطئون (أمثال 8/15)


مغبوط الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يوم عند أبوابي


ويحفظ أوزان مداخلي. (أمثال 8/34) †

أن نعمة الثبات الأخيرة هي موهبة إلهية عظيمة جداً، وكما حدد المجمع التريدنتيني المقدس هي موهبةٌ مجانيةٌ مطلقاً، لا يمكننا أصلاً أن نستحقها بذواتنا، بل كما يعلّم القديس أوغوسطينوس أن كل أولئك الذين يلتمسون من الله نعمة الثبات فينالونها، وحسبما يقول سوارس أنهم حقاً ينالونها من دون خللٍ، طالما يداومون على أن يطلبوها من الله بأجتهاد لحد نهاية حياتهم، لأن هذا الثبات على ألتماسها يومياً. كما يقول الكردينال بالارمينوس يعتبر كبرهان على أنهم يومياً ينالونها. فإن كان أمراً حقيقياً هو أن كل النعم التي تفاض علينا من الله. فتتوزع علينا بواسطة مريم البتول. حسب الرأي الكائن الأن رأياً عاماً، والذي أنا أعتده صادقاً، كما سأبرهن عنه في الفصل السادس من هذا القسم، فكذلك يكون أمراً حقيقياً هو اننا بواسطة مريم فقط. يمكننا أن نرجوا نعمة الثبات الأخيرة هذه العظمى وأن نفوز بها. ومن دون ريبٍ نحن ننالها أن كنا نطلبها بدالةٍ وبحسن أتكالٍ دائماً من هذه القديسة، التي هي نفسها وعدت بأن تمنحها لكل أولئك الذين يخدمونها بأمانةٍ في هذه الحيوة. حسبما تستخدم الكنيسة المقدسة عن لسانها في خدمة عيد الحبل بها، كلمات العدد الثلاثين من الاصحاح الرابع والعشرين من سفر حكمة ابن سيراخ، وهي هذه: أن الذين يعملون فيَّ لا يخطئون، ومن شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية.*
فلكي ننحفظ نحن في حياة النعمة الإلهية، فضروري لنا هو أن نكون حاصلين على القوة الروحية، ليمكننا أن نصادم كل أعداء خلاصنا، فهذه القوة نحن نقدر أن نحصل عليها بواسطة مريم فقط، كما جاء عنها في العدد الرابع عشر من الاصحاح الثامن من سفر الأمثال بهذه الكلمات: لي هي القوة بي تتملك الملوك: فاذاً مريم تقول أن هذه القوة هي لي. لأن الله قد دفع في يدي هذه الموهبة لكي أوزعها أنا على المتعبدين لي. وبي تتملك الملوك، أي أن عبيدي بواسطتي يتملكون مسلطين على حواسهم كلها، وعلى آلامهم، وبهذه الصورة يؤهلون لأن يملكوا فيما بعد الملك السماوي الى الأبد. فيا لها من قوة عظيمة هي تلك الفائز بها المتعبدون لهذه السيدة الكلية العظمة، وبها ينتصرون على تجارب الجحيم كلها. ثم أن مريم العذراء هي ذاك البرج المدون عنه هكذا: أن عنقكِ هو كبرج داود المبني بالمحاصن المعلق عليه ألف ترسٍ وكافة أسلحة المقتدرين: (نشيد الانشاد ص4ع4) فهي نظير البرج الحصين المستدير بالأسوار لمحافظة محبينها الملتجئين اليها لتحامي عنهم، والمتعبدون لها يجدون في هذا البرج الذي هو مريم، كل الأسلحة التي بها يحاربون عن ذواتهم ضد قوات الجحيم.*
فمن ثم تدعى البتول الكلية القداسة شجرة الدلب كما جاء عنها القول في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع19) هكذا أنني كالدلب أرتفعت على شط الماء في الشوارع. فالكردينال أوغون يفسر ذلك، بأن شجرة الدلب لها أوراقها بصورة الأتراس، وبذلك يتضح المعنى بأن مريم تتخذ على ذاتها حماية كل أولئك الذين يلتجئون اليها مستغيثين بمعونتها وترد عنهم قوة أعدائهم. ثم أن الطوباوي آماداوس (في ميمره الثامن) يعطي هذا النص تفسيراً آخر وهو: أن مريم تسمى شجرة الدلب، لأنه كما أن هذه الشجرة هي ذات كبرٍ وأغصانٍ ضخمةٍ وأورقٍ مدغمةٍ، وبالتالي تعطي تحتها وحولها ميداناً واسعاً، فيه يستظل المسافرون عابروا الطريق مستترين بفيها من حرارة الشمس، ومحتمين تحتها من الأمطار. فهكذا تحت أذيال حماية مريم وعنايتها، يجد البشريون ميداناً فيه يلتجئون من حرارة نيران الشهوات والآلام، ومن شدة عواصف التجارب:*
فيا لتعاسة تلك الأنفس التي تبتعد عن هذا الملجأ الأمين، وتهمل التعبد لهذه السيدة. وتتغاضى عن الأستغاثة بها في حين الأحتياج، فيقول القديس برنردوس: ترى كيف يكون حال العالم سوى ظلمةٍ حالكةٍ دائمةٍ مكروهةٍ. اذا أفترضنا أن الشمس لا تعود تشرق في جلد السماء، فكذلك اذا خسرت نفسٌ ما عبادتها لمريم، فحالاً تضحى تائهةً في تلك الظلمة المقال عنها من المرتل: جعل الظلمة فكان ليلٌ وفيه تعبر سائر وحوش الغاب: (مزمور104/ع20) أي حينما لا يشرق في نفسٍ ما النور الإلهي، فيصير ظلامٌ وتضحى النفس مربضاً لوحوش الخطايا كافةً وللشياطين أيضاً. فالويل اذاً (يقول القديس أنسلموس) ثم الويل لأولئك الذين يحتقرون ضياء هذه الشمس، أي يرفضون التعبد لمريم محتقرينه: ومن ثم بالصواب كان القديس فرنسيس بورجيا يرتاب في أمكانية أن يفوز بنعمة الثبات الأخيرة، أنفس أولئك الذين لا توجد فيهم عبادةٌ خصوصيةٌ نحو البتول الطوباوية، فهذا القديس يوماً ما دخل عند المبتدئين في الرهبانية، وأخذ يفحصهم سائلاً كل واحدٍ منهم عن القديس الذي كانت له نحوه عبادةٌ أشد حرارةً، ومن ذلك عرف أن البعض منهم لم تكن فيهم هذه العبادة لمريم العذراء، فأستدعى معلم المبتدئين وحرضه بالسهر بنوعٍ خاص على تصرفات المشار اليهم، الذين قد تحقق عنهم فيما بعد بالعمل أنهم أضاعوا أثمار دعوتهم بتعاسةٍ. لأنهم خرجوا من الرهبنة. فاذاً ليس من دون برهان راهن كان القديس جرمانوس يسمي والدة الإله: نسمة حياة المسيحيين: مبرهناً ذلك بقوله (في خطبته على والدة الإله): أنه كما أن الجسد لا يمكنه أن يحميى من غير التنفس فهكذا النفس لا يمكنها أن تحميى من دون أن تلتجئ الى مريم، التي بوساطتها نحن بالحقيقة نكتسب النعمة الإلهية حياة النفس وننحفظ بها. فقد أتفق يوماً ما أن الطوباوي ألانوس قد حصل في تجربةٍ لفعل الخطيئة، ومن كونه تغاضى عن أن يلتجئ الى والدة الإله مستغيثاً بمعونتها، فكاد عما قليلٍ أن يتكردس متهوراً في هوة الأثم، الا أن هذه السيدة قد ظهرت له، ولكي تجعله في المستقبل أكثر حرصاً، قد لطمته على خده قائلةً له: أنك لو كنت أستدعيتني لمعونتك حالاً، لما كنت حصلت في هذا الخطر المبين.*
وبالعكس (تقول مريم): مغبوطٌ هو الانسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (سفر الأمثال ص8ع34: كما ترتل الكنيسة في عيد الحبل بهذه السيدة) أي الطوبى لذلك الانسان الذي يصغي الى صوتي، ولذلك يلبث مستيقظاً ويأتي بأتصالٍ ليقرع أبواب رحمتي، ويستمد مني الاستنارة والمعونة. على أن البتول مريم تهتم في أن تستميح من الله لهذا المتعبد لها نوراً وقوةً. ليمكنه أن يخرج من عوائده الرديئة، ويسلك في سبل الفضائل، ولذلك نعتت العذراء المجيدة من الحبر الأعظم أينوشانسيوس الثاث في عظته الثانية على صعودها الى السماء بهذه الكلمات وهي: أن مريم هي قمرٌ في الليل، ونجمةٌ في الصبح، وشمسٌ في النهار: فهي قمرٌ لمن هو أعمى في ليل الخطيئة. لكي تنيره لمعرفة الحال الشقية الكائن هو بها المؤدية إياه الى الهلاك. وهي نجمة الصبح أي (سابقة الشمس ومنذرة بقرب أشراقها) لمن قد أستنار عقله. وعرف سوء حاله، لكي تصيره أن يخرج من هوة الآثام ويرجع الى حال النعمة الإلهية، وهي أخيراً شمسٌ لمن هو حاصلٌ على نعمة التقديس، لكيلا يرجع متهوراً بالسقوط في خطيئةٍ ما.*
ثم أن العلماء يخصصون مريم الطوباوية بتلك الكلمات المقولة في حكمة ابن سيراخ وهي: أن رباطاتها هي رباطات الخلاص: (ص6ع31): فما هي رباطات الخلاص (يسأل القديس لورانسوس يوستينياني، ويجيب هو على سؤاله بقوله) هي أن مريم توثق عبيدها برباطات الحفظ الخلاصية، لكيلا يتوهوا في طريق الرذائل: والقديس بوناونتورا في تفسيره الكلمات الأخرى وهي في جمهور القديسين مقامي: (ابن سيراخ ص24ع16) يقول هكذا: أن مريم ليس فقط أن مقامها هو في جمهور القديسين، بل أيضاً هي تحفظ القديسين (أي الأبرار الأحياء في العالم) لكيلا يرجعوا الى الوراء متقهقرين. وتحفظ فضائلهم كيلا تنقص فيهم، وتمنع الشياطين لكيلا يضروهم بشيء رديء:*
وقد يقال أن المتعبدين لمريم هم متردون بأثوابٍ مضعفةٍ، كما هو مكتوب: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضاعفةً (أمثال ص31ع21) فكورنيليوس الحجري يفسر ما هي هذه الثياب المضعفة بقوله: أن البتول القديسة تزين عبيدها الأمناء بفضائل أبنها وبفضائلها هي أيضاً، واذ يكونون على هذه الصورة لابسين أثواب الفضائل. فينحفظون في نعمة الثبات: ولذلك القديس فيلبس نيرى كان دائماً يرشد تلاميذه قائلاً لهم: يا أولادي أن كنتم ترغبون نعمة الثبات الأخيرة. فكونوا حسني العبادة لمريم العذراء: وكذلك كان يقول الطوباوي الأخ يوحنا باركمانس اليسوعي: أن من يحب مريم ينل نعمة الثبات الأخيرة: ونعما الرأي هو ما يلاحظه الأنبا روبارتوس في مثل الابن الشاطر بقوله: أنه لو كانت أم هذا الابن المتمرد بعد حيةً. فأماً أنه لم يكن قط أبتعد عن بيت أبيه. وأما أنه لما كان تأخر عن الرجوع كل ذاك الزمان المستطيل: ويعني بهذا أن من هو ابنٌ لمريم البتول. فأما أنه لا يبتعد أصلاً عن الله. وأما اذا أبتعد لسوء حظه فلا يبطؤ عن الرجوع اليه تعالى بالتوبة.*
فليت كل البشر يحبون هذه السيدة الكلية الأشفاق والمحبة، وفي حين محاربتهم من التجارب يلتجئون اليها سريعاً، فاذا فعلوا ذلك أهل يسقط أحدٌ منهم في الأثم، او هل يمضي أحدٌ منهم هالكاً، كلا، بل أنه يسقط في هوة الخطيئة وينحدر الى هاوية الجحيم من لا يلتجئ الى هذه الملكة. فالقديس لورانسوس يوستينياني يخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المقالة في سفرحكمة ابن سيراخ (ص24ع8) وهي: في أمواج البحر مشيت: ثم يجعلها أن تتكلم هكذا: أنني أمشي جملةً مع عبيدي فيما بين العواصف حيث هم يوجدون، لكي أساعدهم معينةً، وأخلصهم منجيةً من هوة الأثام ومن بحر الخطيئة.*
فيخبر الأب برنردينوس البوسطي أن البعض من مربي الطيور المناغية كان علم طيراً صغيراً هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم: ليناغي بها. فيوماً ما أنقض الطير الخطاف وهو الباشق على ذاك الطير الصغير ليخطفه ممزقاً، الا أنه حالما الطير صرخ السلام لكِ يا مريم: فالباشق سقط في الأرض مائتاً، فبهذا الحادث أراد الباري تعالى أن ينبهنا، على أنه أن كان طيرٌ عديم التعقل قد خلص من الموت، لتلفظه بأسم مريم، فكم بأولى حجةٍ ينجو من التجارب ومن وثبات الشياطين. ذاك الذي يهتم في أن يعود ذاته على الألتجاء الى هذه السيدة مستغيثاً بها. فيقول القديس توما الفيلانوفي (في عظته على ميلاد البتول) أنه لا يلزمنا أن نصنع شيئاً آخر في حادث التجارب حينما تأتي ضدنا الأبالسة لتجربنا، سوى ما تصنعه فراخ الدجاجة حينما ترى الطير الخطاف، أي أنها تهرب سريعاً وتختفي تحت جناحي الدجاجة، فهكذا نحن عندما نشعر بقدوم التجربة وبالهواجس الرديئة، فمن دون أبطاءٍ ومن غير أن نتكلم شيئاً ما عن التجربة. فلنسرع واضعين ذواتنا تحت كنف هذه الأم الإلهية: (ثم يقول أيضاً): وأنتِ أيتها السيدة أمنا يلزمكِ أن تحمينا منجيةً لأنه لا يوجد لنا بعد الله ملجأٌ آخر سواكِ، فأنتِ هي رجاؤنا الوحيد والمحامية عنا الفريدة، وبكِ نثق مطمئنين.*
فلنختتم اذاً الأيراد مع القديس برنردوس (في ميمره على أنجيل البشارة) بقوله: أيها الإنسان من أية رتبة كنتَ، فأنتَ تعلم أنك في هذه الحياة لا تزال سائراً في بحرٍ عجاجً فيما بين الأخطار والتهلكات المملؤة منها هذه الأرض، فان كنت لا تريد أن تغرق هالكاً، فلا تحد نظرك عن هذه النجمة التي هي مريم، بل تفرس فيها وأستغث بها، ثم في أخطار الخطايا، وفي حدوث الأنزعاجات والمصائب والتجارب والأرتيابات، وفي الأشياء التي يلزمك أن تمارسها وتعتمد عليها، أفتكر دائماً في أن مريم تقدر أن تعينك، ولذلك أدعها اليك مستغيثاً بها، فهي تعضدك وتنقذك، فلا يبرح من قلبك أسمها المقتدر بحسن الأتكال، ولا ينتزح عن شفتيك بأستدعائك اياها لمعونتك، فان كنت تتبع هذه السيدة لاحقاً، فلا تضل في الطريق تائهاً عن سبيل الخلاص، وطالما أنتَ ملتجٍ اليها. فلا يمكن أن تخيب من رجائك، واذا هي مسكتك بيدها، فلن تسقط أبداً، وان هي حامت عنك، فليس لك أن ترتاب في خلاصك، وان هي قادتك، فمن دون تعبٍ أنت تبلغ الى السعادة الأبدية، وبالأجمال أن كانت مريم تهتم في أمورك، فمن دون ريب أنت تمتلك السماء.*

* نموذج *

أنها لشهيرة هي حياة القديسة مريم المصرية المدونة في الكتاب الأول من سير الآباء. فهذه اذ كان عمرها أثنتي عشرة سنةً، هربت من بيت أهلها ومضت الى المدينة الاسكندرية حيث عاشت بسيرة هكذا قبيحة، حتى أنها صارت حجر عثرةٍ لجميع سكان المدينة. فبعد أن أستمرت على عمل القبائح مدة ست عشرة سنة، مضت الى أورشليم في زمن الأحتفال بعيد رفع الصليب المقدس. وتحركت لأن تدخل هي أيضاً الى الكنيسة بروح التفرج أحرى مما بروح العبادة، ولكن عندما دنت من باب المعبد الإلهي، شعرت بيدٍ غير منظورة كانت تردها غصباً الى الوراء كيلا تدخل داخلاً، واذ أمتحنت الأمر مرةً ثانيةً ثم ثالثةً ورابعةً، ومنعت بقوةٍ فائقة الطبيعة عن الدخول الى الكنيسة. فحينئذٍ قد أنفردت في ناحيةٍ من النرتكس، وعرفت الشقية ليس من دون أشراق النور الإلهي في عقلها، أن الله لأجل قبائح سيرتها قد كان يرذلها من كنيسته أيضاً، فلأجل حسن حظها قد رفعت عينيها حيث كانت، فرأت أمامها على الحائط أيقونة العذراء المجيدة، فأتجهت نحوها بدموع قائلةً: يا والدة الإله أرحمي هذه الخاطية المسكينة، فأنا ألاحظ أنه لأجل كثرة خطاياي لا أستحق أن تنظري اليَّ، ولكن أنتِ هي ملجأ الخطأة، فعينيني حباً بأبنكِ يسوع، وأجعليني أن أدخل الكنيسة، لأني أريد أن أغير سيرتي، وأمضي فأمارس أفعال التوبة حيثما تريدين: فحينئذٍ قد شعرت كأن البتول القديسة كانت تقول لها باطناً: أنه لأجل أنكِ التجأتِ اليَّ قاصدةً أن تتوبي عن مآثمكِ، فأنهضي وأدخلي الكنيسة لأن بابها عاد مفتوحاً لكِ: فقامت ودخلت بيت الرب وسجدت للصليب المقدس وبكت على خطاياها، ثم رجعت أمام الأيقونة قائلةً: يا سيدتي أوضحي لي أين أنفرد لعمل التوبة. اذ أني مستعدةٌ لأن أتمم ما ترسمينه عليَّ: فأجابتها العذراء الطوباوية بقولها: أذهبي الى جايز الاردن، وهناك تجدين مكان راحتكِ: فأنطلقت وأعترفت بخطاياها وتناولت القربان الأقدس وأجتازت نهر الاردن، ودخلت الى القفر الذي فهمت هي أنه فيه كان يلزمها أن تباشر أفعال التوبة. ففي مدة السبع عشرة سنة الأولى التي مكثت بها في ذلك القفر، قد أحتملت محارباتٍ شديدةً من التجارب الشيطانية، ولكن ماذا كانت تصنع هي حينئذٍ، أنها لم تكن تفعل شيئاً آخر سوى الألتجاء المتصل لوالدة الإله. وهذه الأم الرأوفة قد أستمدت لها من الله قوةً لأن تقاوم الأرواح الجهنمية في بحر تلك السنين وتنتصر عليها، وهكذا عند نهاية السبع عشرة سنة قد هدأت عنها التجارب، وأستمرت هي في ذلك القفر الى حد السنة السابعة والخمسين من أنفرادها فيه. فلما بلغت الى السنة السابعة والثمانين من حياتها. فبعنايةٍ إلهيةٍ قد وجدها هناك الأنبا القديس زوسيموس، الذي أخبرته هي بسيرة حياتها كلها، وتوسلت اليه بأن يأتيها في السنة المقبلة بالقربان الأقدس. كما تمم هو مطلوبها برجوعه اليها وبمناولته اياها السر المسجود له، ثم بعد ذلك تضرعت اليه بأن يزورها في السنة الأخرى أيضاً. الا أنه حينما رجع اليها في الميعاد قد رآها مائتةً، وكان جسدها محاطاً بأشعةٍ نورانيةٍ، ورأى مكتوبةً عند رأسها هذه الكلمات وهي: أدفن في هذا المكان جسدي أنا الخاطئة المسكينة وصلي من أجلي لدى الله. فقد دفنها عندما جاء اليه أسدٌ وحفر له الأرض، ثم رجع الى ديره وأخبر بعجائب الرحمة الإلهية التي صنعها الله مع هذه التائبة السعيدة.*

† صلاة †


أيتها الفائقة القداسة أم الرأفة مريم البتول، هوذا عند قدميكِ منطرحٌ الإنسان الخائن. الذي لأنه أوفى بئس المكافأة، بل بنكران لجميل النعم التي نالها من الله بواسطتكِ، فحصل خائناً لله ولكِ، ولكن أعملي أيتها السيدة أن شقاوتي هذه ليس فقط لا تنزع مني رجاي فيكِ، بل أيضاً توطده وتزيدني أملاً وثقةً بكِ، لأني أعتبر أن شقاوة حالي تضاعف فيكِ الشفقة نحوي. فأظهري ذاتكِ يا مريم، أنكِ أنتِ بالنسبة اليَّ هي تلك الرحومة عينها نحو كل أولئك الذين يستغيثون بكِ، المملؤة من السخاء والرأفة، فيكفيني أن ترمقيني بنظركِ العطوف وأن تشفقي عليَّ، فان كان قلبكِ يحنو عليَّ، فلا يمكنكِ أن لا تحامي عني. واذا صرت أنا في حمايتكِ فممن أخاف، كلا أنني لا أخشى من شيءٍ أصلاً، لا من قبل خطاياي، لأنكِ أنتِ قادرةٌ أن تصلحي فيَّ الضرر الذي حدث، ولا من الشياطين، لأنكِ أنتِ أقوى من الجحيم بأسره، ولا من قبل أبنكِ المغتاظ عليَّ بعدلٍ، لأنه تعالى بكلمةٍ واحدةٍ تتوسلين بها لدية من أجلي يهدأ غضبه. فأنا أنما أخاف من شيءٍ واحدٍ فقط، وهو أني أنسى أن ألتجئ اليكِ حينما تداهمني التجربة، وهكذا أهلك، ولكن هذا هو الشيء الذي أريد اليوم أن أعد به، وهو أني دائماً أسرع اليكِ ملتجئاً، فأنتِ ساعديني على أن أتمم ذلك، ثم لأحظى هذه الفرصة الجيدة التي فيها أنتِ ترغبين أن تكملي مسرتكِ، وهي أن تسعفي أحد البائسين الأذلاء الذي أنا هو.*

فرجائي هو فيكِ عظيمٌ يا والدة الإله، ومنكِ أنتظر نوال النعمة بأن أبكي على خطاياي كما هو متوجبٌ عليَّ. وبأن أفوز بالقوة على أن لا أرجع الى الخطيئة، فأن كنت أنا سقيماً، فأنتِ قادرةٌ على أن تشفيني أيتها الطبيبة السماوية، وأن كانت مآثمي قد صيرتني ضعيفاً، فمعونتكِ تجعلني قوياً، فأنا أرجو كل شيء منكِ يا مريم المجيدة، لأنكِ تقدرين على كل شيءٍ لدى الله آمين.*




من يبتعد عني يضر نفسه،


وكل مبغضيّ يحبون الموت (أمثال 8/36)


يا مريم أنتِ رجائي، وخلاصي متعلق بكِ.



الجزء الثالث


https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg


* في أن مريم البتول الحلوة اللذيذة، تجعل الموت عذباً*


* للمتعبدين لها*

أنه مكتوبٌ: أن الصديق يكون محباً في كل زمانٍ وأن الأخ يعرف في حين الشدائد: (أمثال ص17ع17) فالأصدقاء المحقون والأقرباءالخصيصون، لا يعرفون جيداً في زمن السعادة، بل في حين المصائب والتعاسة. فأما الأصدقاء العالميون فلا يهملون صديقهم طالما هو في السعة والنجاحات، ولكناذا سقط هو في محنةٍ، ألمت به شدة لا سيما عندما يدنو من الموت، فحينئذٍ يتركونه حالاً معرضين عنه. وأما مريم البتول فلا تتصرف هكذا مع عبيدها، لأن هذه السيدة الصالحة والأم العطوفة، لا تهمل خدامها الأمناء المتعبدين لها. ولا تتغافل عنهم في أوقات أحتياجاتهم، لا سيما عند موتهم الذي هو الوقت الأكثر أحتياجاً، لأنه زمن الشدة الأمر من كل شدائد العالم، وبحسبما أنها صارت علة حياتنا في مدة سكنانا في الأرض التي نحن فيها منفون، فهكذا توضح ذاتها أنها هي تعزيتنا ولذتنا حين موتنا، بأكتسابها لنا ميتةً حلوةً مغبوطةً، لأن هذه السيدة منذ ذاك اليوم العظيم الذي فيه حصلت هي على الحظ السعيد، وعلى الحزن الشديد معاً، بحضورها تحت صليب ابنها عند موته، فاذ كان هو رأس المنتخبين للمجد، فقد أكتسبت هي هذه النعمة، وهي أن تحضر عند جميع المختارين حين موتهم، ولذلك تصيرنا الكنيسة المقدسة أن نتوسل الى هذه البتول الطوباوية، بأنها تساعدنا بنوعٍ خاص في ساعة موتنا، بقولنا لها في السلام الملائكي: صلي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا آمين.*
فشدائد المنازعين هي كثيرةٌ وأحزانهم مرةٌ، أولاً: لأجل توبيخ ضمائرهم عن الخطايا التي فعلوها. ثانياً: لأجل الخوف من المحاسبة والدينونة القريب حدوثها، ثالثاً: من قبل عدم معرفة حقائق أمر خلاصهم الأبدي. ففي ذاك الوقت بنوعٍ أخص تثب على تلك النفس المنازعة قوات الجحيم متسلحةً ضدها، والشيطان يبذل كل أستطاعته في أكتسابها حصته قبل أن تدخل الى الأبدية، لمعرفته أن زمناً وجيزاً بقي له في محاربتها. وأنه اذا نفذت هي من يده في تلك الساعة، فلا يعود يمكنه أن يكتسبها أبداً. كما هو مكتوبٌ في الأبوكاليبسي (ص12ع12): الويل للأرض والبحر لأن ابليس نزل اليكما، وله غضبٌ عظيمٌ، لأنه يعلم أن زمناً قليلاً بقي له. ولذلك فالشيطان الذي أعتاد أن يجرب تلك النفس في مدة حياتها، فلا يكتفي بأن يجربها هو وحده في حين أنفصالها من الجسد، بل يستدعي معه آخرين من رفاقه، كما قال أشعيا النبي: وتمتلئ بيوتهم تنانين: (ص13ع21) أي أنه حينما يدنو الإنسان من الموت، فيمتلئ بيته من الشياطين الذين يتحدون معاً لمحاربته وخسارته.*
فيورد عن القديس أندراوس أفالينوس، أنه حينما دنت ساعة موته، قد جاءت اليه عشرة آلاف شيطاناً ليحاربوه بالتجارب. ولذلك قد حصل هو في حين نزاعه على معركةٍ قويةٍ جداً من القوات الجهنمية بهذا المقدار هائلة، حتى أن جميع الرهبان الذين كانوا محيطين به قد أرتاعوا خوفاً، وقد شاهدوا وجه القديس قد أنتفخ بزيادةٍ من شدة المجاهدة، وأستحال الى السواد. ونظروا أعضاء جسده كلها ترتعش فرقاً بأنزعاجٍ قويٍ، وعينيه مدرفةً تياراتٍ من الدموع، ورأسه يختبط بأغتصابٍ، وهذه العلامات كلها كانت تدل بكفايةٍ على شدة المعركة التي كان القديس يحارب بها قوات الجحيم. فالجميع طفقوا يبكون من التوجع له، ويضاعفون الصلوات والابتهالات من أجله، في الوقت الذي فيه كانوا يرتجفون من شدة الخوف والهلع اللذين ألما بهم، عند مشاهدتهم ديساً يموت على هذه الحال، غير أن تعزيتهم الوحيدة كانت قائمةً في أنهم، كانوا يشاهدونه مراتٍ مترادفةً يحول بعينيه نحو أيقونة والدة الإله الموجودة بالقرب من فراشه كمن يلتمس منها المعونة، متذكرين ما كان يقوله هو لهم في مدة حياته مراتٍ كثيرةً، بأن مريم البتول مزمعةٌ أن تكون ملجأه في ساعة موته. فقد أرتضى الله أخيراً بأن عبده هذا البار يفوز بالأنتصار الكامل المجيد، لأن جسمه قد هدأ من أختباطه، وزال أنتفاخ وجهه، وأرتد الى لونه القديم، وأحدق بنظره بعبادةٍ في تلك الأيقونة محنياً لديها رأسه بأحترامٍ، كمن يشكر فضلها، (ويظن بالصواب أن البتول المجيدة قد ظهرت له حينئذِ) وهكذا بكل هدوءٍ وسلامٍ قد أنتقل الى الحياة الأبدية، مسلماً نفسه بيدي هذه السيدة الجليلة بعذوبةٍ سماويةٍ، وفي تلك الساعة عينها كانت أحدى الراهبات الكبوجيات مدنفةً على الموت، فهتفت نحو الراهبات الحاضرات عندها قائلةً: يا أخواتي أتلون السلام الملائكي، لأنه الآن قد مات قديسٌ:*
فيا لها من تعزيةٍ عظيمةٍ وهي أن المردة الجهنميين يهربون عند حضور هذه الملكة، فان كنا نحن نحصل على مريم عند ساعة موتنا محاميةً عنا، فأي خوفٍ يمكن أن يعترينا من قوات الجحيم كلها. فالنبي والملك داود عندما ألم به الخوف من التفكر في ساعة موته، قد شجع ذاته بقوة الرجاء بأستحقاقات موت مخلصه العتيد، وفي قوة شفاعة مريم البتول، ومن ثم هتف مرتلاً: أن أنا مشيت في وسط ظلال الموت فلا أخشى الشر لأنك معي، عصاك وقضيبك هما يعزياني (مزمور 22/3) فالكردينال أوغون يفسر هذه العصا بعود الصليب الذي عليه مات فادينا، ويعني بالقضيب مريم البتول، التي قيل عنها: يخرج قضيبٌ من أصل يسى، وتصعد زهرةٌ من أصله: (أشعيا ص11ع1) ثم يقول القديس بطرس داميانوس: أن هذه الأم الإلهية هي ذاك القضيب الذي به تغلب أغتصابات الأعداء الجهنميين. ولذلك أنطونينوس يشجعنا بقوله: أن تكن مريم معنا فمن يقدر أن يقاومنا. فالأب عمانويل باديال اليسوعي حينما أدنف على الموت، قد ظهرت له مريم العذراء مشجعةً إياه بقولها له: هوذا الآن قد جاءت الساعة التي فيها تفرح معك الملائكة مقدمين لك التهنئة وقائلين: يا لها من مشقاتٍ وأتعابٍ سعيدةٍ، ويا لها من أماتاتٍ وتقشفاتٍ قد كوفئت حسناً: ثم في الوقت عينه قد شوهد عددٌ جزيلٌ من الشياطين هاربين برجزٍ وصارخين: أواه يا لتعاستنا أننا ما عدنا نقدر أن نصنع شيئاً، لأجل أن تلك التي هي بريئة من العيب تحامي عنه. ومثل ذلك الأب كاسبار هيافود قد وثبت عليه الشياطين ساعة موته بتجربة قوية جداً ضد الإيمان، أما هو فألتجأ حالاً الى والدة الإله الكلية القداسة. وبعد ذلك سمع صوته هاتفاً أنني أشكركِ يا مريم لأنكِ أتيتِ لمعونتي:*
أما القديس بوناونتورا: فيقول: أن مريم ترسل زعيم الملائكة ميخائيل مع ملائكته ليحاموا عن عبيدها في ساعة موتهم، ويصدموا عنهم عاجلاً محاربة الشياطين، ولكي يتسلموا أنفسهم كافةً، لا سيما أولئك الذين كانوا يلتجئون اليها على الدوام.*
وأما أشعيا النبي فيقول: أن الجحيم من أسفل تمرمر من تلقاء مجيئك أثار لك الجبابرة: (ص14ع9) أي أنه عند خروج الإنسان من هذه الحياة يقلق الجحيم، ويرسل الشياطين الأشد رداوةً لكي يجربوا تلك النفس قبل أنفصالها من الجسد، ثم ليرافقوها بعد خروجها منه الى الى المحكمة الإلهية، حيث مزمعة أن تحاكم من يسوع المسيح ليشتكوا عليها هناك. الا أن ريكاردوس يقول: أنه حينما تكون تلك النفس في حماية مريم العذراء، فالشياطين لا يتجاسرون ولا على أن يشتكوا ضدها، لمعرفتهم أن القاضي قط لم يكن قبلاً حكم بالهلاك، على نفسٍ ما تكون والدته العظيمة قد حامت عنها، بل ولا هو عتيدٌ أن يحكم مثل ذلك على نفسٍ توجد تحت حمايتها. والقديس أيرونيموس كتب في رسالته الثانية الى البتول أوسطوكيو: أن مريم تساعد عبيدها المحبوبين وتعينهم. ليس في ساعة موتهم فقط، بل أنها تأتي أيضاً لملاقاتهم في دخولهم الى الحياة العتيدة، لكي تشجعهم وترافقهم الى المحكمة الإلهية، وهذا هو مطابق لما قالته والدة الإله عينها للقديسة بريجيتا، بتكلمها عن المتعبدين لها حينما يدنون من ساعة موتهم هكذا: أنني بحسب كوني سيدتهم وأمهم المكرمة منهم، أعتني بهم حين موتهم وأملأهم من التعزية والنعيم. ويضيف الى ذلك القديس فينجانسوس فراري بقوله (في عظته على عيد نياحها): أن هذه الملكة الكلية الحب تقتبل تحت برفيرها أنفس عبيدها، وهي ذاتها تقدمهن لدى أبنها الديان، وبهذا النوع تستمد لهن الخلاص من دون ريبٍ. وهذا نفسه قد حدث لكارلوس ابن القديسة بريجيتا، وهو أنه اذ مات هذا الشاب حينما كان خادماً بالوظيفة الجندية المخطرة، في مكانٍ بعيدٍ عن والدته القديسة، فهذه قد حصلت في أرتيابٍ بأمر خلاصه، الا أن الطوباوية مريم البتول قد أوحت اليها، بأن كارلوس قد فاز بالخلاص، لأجل الحب الذي كان هو يحبها به، ولذلك هي عينها قد ساعدته، وحركته الى أبراز أفعال الفضائل الضروري فعلها من المسيحيين في تلك الساعة، ثم أن القديسة قد رأت في الوقت عينه يسوع المسيح جالساً على العرش، وأن الشيطان قد أمتثل أمامه متشكياً من قضيتين، وهما أن البتول مريم قد منعته عن أن يجرب كارلوس في ساعة موته، وأنها هي أحضرت نفسه في المحكمة الإلهية وخلصتها من دون أن تعطيه زمناً لأن يقدم ضد هذه النفس، البراهين التي لأجلها كان يقتضي على زعمه أن تهلك وتكون خاصته، ثم شاهدت أخيراً أن الديان الإلهي قد طرد الشيطان من أمامه مقصياً، وأن نفس كارلوس قد أخذت الى السعادة الأبدية.*
فيقول يشوع بن سيراخ (ص6ع29و31): أن رباطاتها هي رباطة الخلاص: فأن في أواخرك تجد الراحة بها: فالطوبى لك أيها الأخ أن كنت في آخر حياتك ساعة الموت، توجد مقيداً بقيود الحب العذبة نحو والدة الإله، لأن هذه السلاسل هي رباطات الخلاص، التي تضمن لك أمر سعادتك الأبدية، وتجعلك أن تتمتع حين موتك بتلك الراحة والسلام وبالهدوء المغبوط الذي يكون هو بدء السلام الدائم والنعيم السرمدي. فيخبرنا الأب بيناتي بأنه اذ أتفق له أن يحضر عند أحد المتعبدين لمريم الأتقياء حين موته، فقد سمع هو من فمه قبل رقوده هذه الكلمات وهي: آه لو كنت يا أبتي تعلم حقيقة التعزية العظيمة والسرور الباطن، اللذين أشعر أنا بهما لأجل أني خدمت والدة الإله الكلية القداسة، فأنا لا أستطيع أن أشرح لك ماهية الأبتهاج والتهليل الحاصلين في قلبي الآن في ساعة الموت: والأب سوارس لأجل أنه كان حاراً جداً في عبادته لهذه الطوباوية (حتى أنه كان يقول أن أستحقاق تلاوة السلام الملائكي مرةً واحدةً هو لديه أشرف من علومه كلها) فقد حصل ساعة موته على فرحٍ بهذا المقدار عظيمٍ، حتى أنه تفوه بهذه الكلمات حال أنفصال نفسه من جسده قائلاً: أنني لم أكن قط أتصور بعقلي أن الموت بهذ المقدار هو لذيذٌ. فمن دون شكٍ أنك أنت أيضاً أيها القارئ المتعبد لمريم، ستشعر بهذه التعزية والسرور حين موتك، أن كنت في تلك الساعة تفتكر في أنك قد أحببت في حياتك هذه الأم الصالحة، التي لا تعرف أن لا تكون أمينةً نحو أولادها، الذين يكونون أمينين في خدمتها، ويكرمونها بزيارات كنائسها أو أيقوناتها وبتلاوة ورديتها وبصياماتٍ ما. وبأكثر من ذلك بتقدمة الشكر لها مراتٍ كثيرةً، وبمدائحها وبالألتجاء المتكرر الى كنف وقايتها وطلب معوناتها.*
ثم لا يمكن أن يعدمك هذا الأبتهاج الباطن تفكرك بحال كونك في زمنٍ ما قد كنت خاطئاً، هذا أن كنت منذ الآن فصاعداً تهتم في أن تعيش بسيرةٍ صالحةٍ، وفي أن تخدم هذه السيدة الكلية الحنو والأشفاق والأمينة نحو عبيدها، فهي في حين شدائدك، وفي أوقات التجارب التي يثب عليك بها الشيطان لكي يسقطك في قطع الرجاء تعضدك وتشجعك، حتى أنها هي نفسها تحضر عندك ساعة موتك لتسعفك. فالقديس بطرس دامانوس يخبر بأن شقيقه مرتينوس، قد مضى يوماً ما أمام هيكل والدة الإله، ليكرس ذاته أسيراً لها، من أجل أنه كان يعرف ذاته أنه أغاظ الله بفعلٍ أثميٍ، ثم وضع زناره في عنقه علامة أسره لها قائلاً: يا مرآة الطهارة سيدتي، أني أنا الخاطئ التعيس قد أهنت إلهي وأغظتكِ بأثلامي ختم العفة، فلا يوجد عندي دواءٌ آخر سوى أن أقدم ذاتي أسيراً لكِ، فهوذا أني اليوم أكرس نفسي عبداً لكِ، فأقبلي هذا اليائس العاصي المتمرد ولا تعرضي عنه مستكرهةً منه: ثم وضع عند درج الهيكل كميةً من المال، واعداً بأن يقدم مثلها كل سنةٍ بمنزلة جزيةٍ وخراجٍ تأكيداً لكونه أسيرها. فبعد مدةٍ من الزمان قد مرض مرتينوس المرض الأخير، ولكن قبل أن يموت قد سمعه البعض في أحد الأيام صباحاً يتكلم هكذا: قوموا ناهضين، أنتصبوا واقفين وقدموا الأكرام منحنين لسيدتي: ثم بعد ذلك قال: ما هذه النعمة العظيمة يا ملكة السماء، أهكذا أنت تتنازلين مرتضيةً بأن تزوري هذا العبد الخاطئ، فباركيني يا سيدتي، ولا تسمحي بأن أمضي هالكاً بعد أنكِ شرفتيني بحضوركِ عندي: واذ دخل حينئذٍ اليه أخوه القديس بطرس، فمرتينوس قد أخبره بمجيء والدة الإله عنده، وبأنها باركته، الا أنه تشكى له من أن أولئك الأشخاص الذين كانوا حاضرين عنده، أستمروا جالسين على الكراسي بحضرة هذه السيدة الجليلة، قال هذا وبعد برهةٍ رقد بالرب بسلامٍ وعذوبةٍ هادياً. فعلى هذه الصورة ستكون ميتتك أيها القارئ العزيز، أن كنت تعيش أميناً في عبادتك لمريم. هذا ولو كنت فيما مضى أغظت الله بآثامك، فمع ذلك هي تعتني في أنك تحصل على ميتةٍ صالحةٍ حلوةٍ لذيذةٍ. واذا أتفق أنك في حين الموت تمتلئ خوفاً ورعدةً، ويضعف رجاؤك عند تأملك كثرة خطاياك، فهذه الأم الحنونة تأتي اليك لتشجعك وتقويك، كما فعلت مع أدولفوس صاحب مقاطعة الساتسيا، الذي بعد أن كان هجر العالم وترهب تحت قانون القديس فرنسيس، كما يورد في تاريخ هذه الرهبنة. فقد أضحى كلي التعبد لوالدة الإله، فلما بلغ الى أيام حياته الأخيرة، وحضرت أمام عينيه عقلياً جميع تصرفاته التي كان مارسها في العالم، وما عامل به الرعايا الذين كانوا مخضعين له، ثم تأمل صرامة دينونة الله العادلة، فبدأ يخاف كثيراً من الموت، لأرتيابه في أمر خلاصه الأبدي. فحينئذٍ مريم (التي لا تنام حين وجود عبيدها في الشدائد) قد جاءت اليه مرافقةً من عددٍ وافرٍ من القديسين، واذ أخذت تشجعه قالت له هذه الكلمات المملؤة عذوبةً هكذا: يا أدولفوس العزيز لدي جداً، أنت هو خاصتي. وقد أعطيت لي، فالآن لماذا تخاف بهذا المقدار من الموت: فوقتئذٍ عبد مريم المذكور عندما سمع منها هذه الألفاظ قد زال عنه كل خوفٍ وأستوعب بهجةً، وهكذا تنيح مسروراً بسلامٍ.*
فلنتشجع نحن أيضاً ولئن كنا خطأة، ولنسلح ذواتنا بهذا الرجاء وهو أن مريم عتيدة أن تأتي لمعونتنا في ساعة الموت، ولتعزيتنا بحضورها عندنا، هذا أن كنا نخدمها بأمانةٍ ومحبةٍ في زمن حياتنا الباقية لنا على الأرض. فملكتنا هذه اذ خاطبت يوماً ما القديسة ماتيلده، قد وعدت بأنها تأتي في ساعة الموت عند جميع المتعبدين لها، الذين يكونون في زمن حياتهم خدموها بأمانةٍ لكي تسعفهم وتعينهم، وهذه هي كلماتها:" أني أريد بحسبما أنا أمٌ كلية الحنو والأشفاق، أن أحضر من غير نقصٍ في ساعة الموت، عند جميع أولئك الذين يكونون في حياتهم خدموني بحسن عبادةٍ، لكي أحامي عنهم وأعزيهم". فيا لها من تعزيةٍ لا توصف تكون لنا في ذلك الوقت الأخير، الذي يداركنا فيه قيام الدعوى المعلقة بها الحكومة الأبدية على أنفسنا وهي، أن نشاهد عندنا ملكة السماوات مساعدةً لنا، ومشجعةً ايانا بوعدها لنا في أن تحامي عنا في تلك المحكمة الرهيبة. فما عدا النموذجات المتقدم ايرادها في شأن مساعدة مريم عبيدها ساعة الموت، توجد مدونةً في كتبٍ كثيرةٍ ومختلفةٍ، أخبارٌ غير محصاة عدداً تحقق لنا ذلك. وفيما بين الآخرين قد فازت بهذه النعمة القديسة كياره، والقديس فيليكوس الكبوجي، والطوباوية كياره التي من جبل فالكو، والقديسة تريزيا، والقديس بطرس الكانتراوي. ولأجل زيادة تعزيتنا نشير الى هؤلاء الآخرين أيضاً بأختصارٍ. فيخبر الأب كراسات بأن القديسة مريم أونياجانسه، قد رأت البتول الطوباوية واقفةً عند فراش امرأةٍ أرملةٍ مدنفة على الموت في مدينة فيلامبروى، التي كانت متعوبةً جداً من شدة الحمى الحاصلة لها، فمريم الكلية القداسة كانت تعزيها وترطب عنها سعير الحمى بواسطة مروحةٍ كانت بيدها. والقديس يوحنا دي ديو الذي كان جزيل التعبد لهذه السيدة، قد كان ينتظر حضورها اليه ساعة موته، واذ لم ير ذاته حاصلاً على أتمام هذا الأمل قد أعتراه الغم الشديد، وربما أنه أخذ يشكو من ذلك، الا أنه في الزمن المرسوم قد حضرت عنده هذه الأم الكلية الطوبى، وكأنها أرادت أن تؤنبه على ضعف رجائه. فقالت له هذه الكلمات الجليلة التي ينبغي أن توعب قلوب جميع عبيد مريم شجاعةً وتعزيةً وهي: أنه ليس من عادتي يا يوحنا أن أترك في ساعة الموت المتعبدين لي: وكأنها كانت تقول له بماذا كنت تفتكر يا يوحنا خاصتي، أهل أنك ظننت أني تغافلت عنك، أما تعلم أني لا أعرف أن أترك في ساعة الموت المتعبدين لي مهملةً إياهم، فأنا ما أتيت اليك قبل هذا الوقت، لأنه لم يكن بعد جاء الزمن، وأما الآن فاذ حضرت الساعة، فهوذا أني جئت لأخذك، فهلم معي لنذهب الى الفردوس السماوي: وبعد ذلك ببرهةٍ قد رقد القديس بالرب وأرتقت نفسه الى النعيم الأبدي لتشكر فضل ملكتها الكلية الحب. (وهذا جميعه هو مدون في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثامن من شهر آذار).*

* نموذج *

فالآن نحن ننهي هذا الجزء بالنموذج الحاضر أيضاً، الذي منه يفهم الى أي حدٍ من الحنو والرأفة والشفقة تتصل هذه الأم الصالحة نحو أولادها في ساعة موتهم (وهذا الخبر هو مدون في الرأس 38 من القسم3 من تأليف كريسوغونوس الملقب بالعالم المريمي) وهو أن خوري أحدى الكنائس اذ كان حاضراً عند أحد الأغنياء المدنف على الموت الذي كان كان قاطناً في دار مزينةٍ بأمتعةٍ ثمينةٍ مخدوماً من كثرةٍ من العبيد ومن الأقرباء والمحبين، فنظر الشياطين محتاطين بالمسكين بصورة كلابٍ ينتظرون موت ذاك الغني، ليأخذوا نفسه الى الجحيم، كما قد تم لأنه مات في حال الخطيئة، ففيما كان الخوري مقيماً عنده حين منازعته قد دعي ليأخذ القربان الأقدس زوادةً أخيرةً الى امرأةٍ فقيرةٍ من أهل رعيته مرضة. قد ألتمست أن تقتبل الأسرار المقدسة قبل أن يدركها الموت، فالخوري لأنه لم يمكنه أن يترك نفس ذاك الغني المحتاجة الى المساعدة القصوى، قد أرسل بدلاً منه كاهناً آخر لخدمة تلك الأمرأة، فالكاهن أخذ القربان المقدس من الكنيسة وأنطلق الى بيت الأمرأة التي حينما وصل الى مكان سكناها لم ير هناك لا عبيداً يخدمونها، ولا أصدقاء ومعزين، ولا أمتعةً غنيةً في البيت، لأن تلك الأمرأة الصالحة كانت فقيرةً وربما راقدة على قليلٍ من التبن، ولكنه شاهد الأمر العجيب في الغاية، وهو أن البيت كان يلمع بأشراق أنوارٍ لا يحدق بها، وبجانب مرقد الأمرأة كانت واقفةً والدة الإله المثلثة القداسة تعزي المريضة، وبيدها لفافة رفيعة كانت تمسح بها عرق الموت عن تلك المنازعة. فالكاهن عند نظره هذه السيدة أمتلأ تهيباً وتوقف عن الدخول الى المخدع الراقدة فيه المريضة. الا أن البتول القديسة أشارت اليه بأن يدخل، وهي نفسها قدمت له الكرسي الذي كان هناك ليجلس عليه ويستمع أعتراف عبدتها المريضة، التي حينئذٍ قد أعترفت لديه وبعده تناولت من يده القربان الأقدس بعبادةٍ كلية. وأخيراً سلمت نفسها بين يدي أم الرحمة متنحيةً بالرب.*
† صلاة †
آمين.* †
أواه ترى كيف عتيدةً أن تكون ميتتي أنا الخاطئ التعيس يا أمي الكلية الحلاوة، فأنا عند تأملي في تلك الساعة التي فيها مزمعة أن تنفصل نفسي من جسدي. وتحضر الى المحكمة الإلهية، فمنذ هذا الوقت أرتعد خائفاً وأجزع مرتعشاً، وأرتاب مشككاً في أمر خلاصي، لتذكري بأني مراتٍ كثيرةً قد سجلت أنا بعيني حكومة الهلاك على نفسي، أي كل مرةٍ أرتكبت الخطيئة المميتة، الا أن رجاي كله مستندٌ على أستحقاقات دم أبنكِ يسوع يا مريم الطوباوية. ومؤسس على اقتدار شفاعاتكِ، فأنتِ هي ملكة السماء وسيدة العالمين، ويكفي القول أنكِ والدة الإله، فاي نعم أنكِ لعظيمة الجلال، ولكن عظمتكِ لا تبعدكِ عن الأنعطاف والتنازل لملاحظة شقاوتنا وذلنا، الذي هو نفسه يجتذبكِ للحنو نحونا. فمحبوا العالم عندما يرتفعون الى مقامٍ عالٍ ويحصلون على مرتبةٍ شريفةٍ، فيبتعدون مستنكفين حتى من النظر أيضاً الى أصدقائهم الأولين الفقراء الأذلاء... غير أن قلبكِ الشريف المملوء من الحب ليس هو كذلك، بل حيثما يشاهد الناس الأكثر مسكنةً، والأشد ذلاً، والأوفر أحتياجاً، فهناك ينعطف أعظم أنعطافاً لأسعافهم، فأنتِ حالما تستدعين منا، تسرعين الى أغاثتنا، بل بالأحرى تسبقين تضرعاتنا بأيهابكِ إيانا ما نحتاج اليه، وتعزينا في حال أحزاننا، وتبددين عنا زوابع التجارب وعواصف المحن، وتصدين عنا أعداءنا، وبالأجمال لا تهملين فرصةً ما من أنت تسعي بها فيما يأول الى خيرنا، فلتكن مباركةً تلك اليد القادرة على كل شيء، التي جمعت في شخصكِ الجليل، مع سمو العظمة والرفعة، شدة الأنعطاف والحنو، ومع جلالة المرتبة والوظيفة، حرارة الحب والعناية، فأنا أشكر إلهي دائماً على هذه المواهب، وأفح بها متهللاً مع ذاتي، لأني أضع في سعادتكِ سعادتي أنا أيضاً، وأحتسب شرفكِ وحسن حظكِ كانه خاص بي.
فيا معزية الحزانى عزي حزيناً ملتجياً اليكِ، فأنا أشعر بالغم والحزن من قبل توبيخ ضميري المثقل بخطايا هكذا عديدة، التي لا أعلم أن كنت بكيت عليها ومن أجلها بكفايةٍ، وألاحظ أن أعمالي كلها مملؤةٌ من الوحل والحماة ومن النقائص الشنيعة. وأنظر أن قوات الجحيم هي منتظرة موتي لكي تشتكي عليَّ في المحكمة الرهيبة، وأتأمل في كيف أن العدل الإلهي المهان مني يريد حق الوفاء عن الأهانة، فما عساه أن يحل بي يا أمي، لأنه أن كنتِ لا تسعفيني فلا شك في أني أهلك، فماذا تقولين الا تريدين أن تعينيني، فعزيني أيتها البتول الروأفة، وأستمدي لي قوةً لأن أصلح سيرتي، ولأن أثبت أميناً نحو الله في المدة الباقية من حياتي. وعندما بعد ذلك أحصل في ساعة الموت، فلا تهمليني يا رجائي، بل أسعفيني حينئذٍ بأوفر عنايةٍ. شجعيني بالا أيأس عند نظري كثرة خطاياي التي من أجلها يقاومني الشيطان في المحاسبة، ثم أغفري لي يا سيدتي جرأتي في ألتماسي منكِ أن تأتي اليَّ وقتئذٍ أنتِ بذاتكِ، لكي تعزيني بحضرتكِ، فأنتِ منحت هذه النعمة لكثيرين، فاذاً أنا أيضاً أرغبها ملتمساً، واذا كانت جسارتي بهذا الطلب هي باهظةً، فجودتكِ وصلاحكِ يفوقانها عظمةً، لأنكِ تفتشين على الأشد دناءة والأوفر ذلاً لتنعمي عليهم. ومن ثم أنا واثقٌ بصلاحكِ، فليكن مجد أفتخاركِ مؤبداً في أنكِ خلصتِ نفساً من قعر الجحيم بعد أن كانت هلكت، وأقتدتيها الى مملكتكِ التي فيها أرجو أن أتعزى بوجودي دائماً أمام قدميكِ. لكي أشكركِ وأبارككِ وأحبكِ الى الأبد. يا مريم أنا أنتظركِ، فلا تدعيني أن أمضي خائباً من هذه التعزية التي أرجو نوالها. فليكن فليكن كل تضرع تصنعه هي، فهو محسوبٌ بمنزلة شريعة مرسومة من الله،
بأن توهب الرحمة والنعمة لكل أولئك الذين تتوسل هي من أجلهم. (أمثال31).

Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:26 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
الفصل الثالث: السلام عليك يا رجانا - كتاب امجاد مريم

https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg


الفصل الثالث
† فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: السلام عليكِ يا رجانا: †
*وفيه جزءان *
الجزء الأول
* في أن مريم البتول هي رجاء الجميع *
أن الأراتقة المتأخرين لا يستطيعون أن يحتملوا منا أن نسلم على والدة الإله. بتسميتنا إياها رجانا. ويقولون أن الله وحده هو رجاؤنا. وأن من يصنع رجاءه في الخليقة فهو ملعون من الله عينه على لسان أرميا النبي القائل: ملعون الرجل الذي يتوكل على الإنسان: (ص17ع5) فيصرخون بأن مريم هي مخلوقةٌ. فكيف يمكن للخليقة أن تكون رجانا هذا ما تقوله الأراتقة. ولكن مع ذلك فالكنيسة المقدسة تريد أن كلاً من الكنائسين ومن الرهبان يرفع صوته نيابةً عن المؤمنين كافةً، ويستدعي مريم بهذا الإسم الحلو قائلاً: السلام عليكِ يا رجانا أجمعين:*
فالقديس توما المعلم الملائكي يبين أنه على نوعين يمكننا أن نضع رجانا في شخصٍ ما، وهما بحسب كونه علةً أصليةً وبحسبما هو علة الواسطة، فأولئك الذين يرجون من الملك نعمةً ما فيرجونها منه بحسبما هو سيدٌ مطلقٌ، ثم يرجونها من أحد وزرائه أو من أحد المحبوبين لديه، بحسبما هو شفيعٌ ووسيطٌ عند الملك في نواله إياها لهم، فاذا منحت تلك النعمة، فتكون منحت من الملك بحسبما هو علةٌ أصليةٌ، ولكنها إنما تتصل الى المنعم عليهم بها بواسطة الشخص المقبول لديه، ومن ثم ليس من دون حجةٍ، ذلك الذي يطلب النعمة يسمي الرجل المتوسط والمتشفع في نوالها رجاءه. فالملك السماوي الذي هو الجودة المحضة الغير المتناهية، يرغب جداً أن يغنينا بخيرية صلاحه وبأنعامه، ولكن من حيث أنه من قبلنا أمرٌ ضروري لذلك هو أن يوجد فينا الرجاء وحسن الإتكال، فلكي يمني عز وجل فينا هذا الأمل والثقة، قد أعطانا والدته عينها أماً وشفيعةً ووسيطةً، مانحاً إياها كل الأستطاعة في أن تسعفنا وتعيننا، ولهذا يريد تعالى الى أن نضع فيها وعليها رجاء خلاصنا الأبدي وأمل كل خيرنا، أما أولئك الذين يضعون رجاهم في المخلوقات فقط، من دون أن يكون هذا الرجاء متعلقاً بالله وراجعاً اليه، كما يفعل الخطأة الذين يكتسبوا الصداقة والخير لذواتهم من إنسانٍ ما فيرتضون بأن يغيظوا الله، فهؤلاء هم بالحقيقة ملعونون من الله، كما يقول أرميا النبي، وأما أولئك الذين يرجون مريم واضعين فيها رجاءهم بحسب كونها والدة الإله، المقتدرة على أن تستمد لهم منه جلت خيرية صلاحه النعم والحياة الأبدية. فهؤلاء هم مباركون، وبذلك يسرون قلب الله، الذي يريد أن يشاهد بهذا المقدار مكرمةً من خليقته، تلك المخلوقة التي أحبته في هذا العالم أكثر من جميع البشر والملائكة.*
فمن ثم نحن بكل صوابٍ وعدلٍ نسمي هذه البتول القديسة رجانا، اذ نرجوا أن ننال بواسطة شفاعتها، ذاك الشيء الذي لا يمكننا أن نناله بواسطة مجرد صلواتنا (كما قال الكردينال بالارمينوس) ثم يقول القديس أنسلموس: انما نتوسل الى العذراء حتى أن علو مقام هذه المتشفعة عنا يكمل نقصنا ويسد عن دناءتنا وعدم استحقاقنا. وأن تقديم تضرعاتنا للبتول القديسة برجائنا فيها ليس هو قطع الرجاء من رحمة الله، بل هو خوفٌ من نقص أستعدادنا وتأهبنا.*
فاذاً ليس من دون حجةٍ راهنةٍ، الكنيسة المقدسة تخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في حكمة ابن سيراخ وهي: أنا هي أم الرجاء المقدس: (ص24ع24): وانما تدعوها بهذا اللقب، لأنها تصير أن يتلد فينا الرجاء ولكن لا الرجاء في خيرات هذه الأرض الفاسدة العابرة، بل الرجاء المقدس في خيرات الحياة الأبدية، أي الخيرات المغبوطة العديمة الفناء والفائقة الإدراك. فالقديس أفرام السرياني (في مديحه على البتول المجيدة) يحيي هذه الأم المباركة هكذا قائلاً: السلام عليكِ يا رجاء نفسي، يا خلاص المسيحيين الأكيد، يا غياث الخطأة ومعونتهم، يا حماية المؤمنين وملجأهم، يا خلاص العالم: والقديس باسيليوس الكبير ينبهنا على أنه بعد الله لم يكن يوجد لنا رجاءٌ ما في أحدٍ، الا في مريم العذراء ولذلك كان يدعوها هكذا: يا رجانا الوحيد بعد الله: والقديس أفرام في المكان المذكور آنفاً، بعد أن يتأمل في ترتيب العناية الإلهية الحاضر الذي به رسم الله (كما يقول القديس برنردوس، وحسبما نحن مزمعون أن نبين ذلك في محله) أن كل أولئك الذين يفوزون بالخلاص. فيحلصون عليه بواسطة مريم البتول، يهتف نحوها هكذا مخاطباً: أيتها السيدة لا تهملي أن تحفظينا، وأن تضعينا تحت ذيل حمايتكِ، لأنه بعد الله ليس لنا رجاءٌ آخر سواكِ. وهذا عينه يقوله القديس توما الفيلانوفي مسمياً إياها: ملجانا الوحيد، وعوننا الفريد، وحمايتنا وحصننا الوطيد.*
ويبان أن القديس برنردوس يشير عن العلة في ذلك بقوله: تأمل يا أنسان الرسم الإلهي، الذي قد صنعه الله، ليوزع علينا بواستطه رحمته بأكثر سخاءٍ وبأوفر طلاقةٍ، لأنه اذ أراد أن يفدي الجنس البشري، فقد وضع قيمة الفداء كلها في يد مريم لكي توزعه هي حسبما تشاء وتحب.*
فالباري تعالى قد أمر نبيه موسى بأن يصنع المغتفر كله من ذهبٍ نقي، مبيناً له أنه من فوق المغتفر كان مزمعاً أن يخاطبه، كما هو مدون في سفر الخروج (ص25ع17ع22) هكذا: وتصنع موضع الغفران من ذهبٍ نقي... ومن هناك أنا أوصيك وأكلمك من فوق الغشاء. فيقول أحد العلماء (وهو باجيوكالي): أن هذا المغتفر هو مريم الطوباوية، التي بواسطتها يكلم الله البشر، ومن هناك يهبنا الغفران والنعم والعطايا: ولذلك يقول القديس ايريناوس (في الرأس33 من كتاب3 ضد فالنتينانوس): أن الكلمة الإلهي قبل أن يتجسد في أحشاء مريم، قد أرسل اليها رئيس الملائكة جبرائيل، لكي يطلب رضاها بذلك، لأنه أراد أن من مريم يبلغ الى العالم سر التجسد: ومن ثم يقول أيديوطا: أن الخيرات كلها، والمعونات بأسرها، والنعم كافةً، التي أقتبلها من الله البشريون فيما مضى، والعتيدون أن يقتبلوها الى حين نهاية العالم، فهذه كلها قد أتصلت وتتصل اليهم بواسطة شفاعات مريم وبوساطتها: فاذاً ليس من دون حجةٍ راهنةٍ يهتف بلوسيوس المتعبد لها صارخاً: ترى من هو ذاك الأحمق والتعيس معاً الذي لا يحبكِ يا مريم، أنتِ التي هي بهذا المقدار موضوعٌ شهي للمحبة، وحسنة المكافأة لمحبيكِ، فأنتِ في حال الشك والأرتياب والقلق، تنيرين عقول أولئك الذين يلتجئون اليكِ حين شدائدهم، وتعزين الحزان الذين يتكلمون عليكِ عند وجودهم في الأخطار، وتسعين كل من يدعوكِ مستغيثاً بكِ، فأنتِ هي بعد أبنكِ الإلهي خلاص عبيدكِ الأمنا الأكيد، فالسلام عليكِ اذاً يا رجا الميؤوسين، يا معونة المهملين، أنكِ لقادرةٌ على كل ما تشائين يا مريم، لأن أبنكِ يريد أن يكرمكِ بصنيعه حالاً كل ما تريدينه منه.*
والقديس جرمانوس لمعرفته أن مريم هي بمنزلة ينبوعٍ لكل خيرٍ، وعلة للنجاة من كل شرٍ، فيستدعيها لمعونته قائلاً هكذا: يا سيدتي أنكِ أنتِ هي السند الوحيد المعطى لي من الله، وأنتِ قيادي ورشدي في مدة غربتي هذه، وأنتِ قوةٌ لضعفي، وغنى عظيم لفقري ومسكنتي. ونجاةٌ لي من قيودي، وأنتِ هي رجاء خلاصي. فأتضرع إليكِ بأن تستجيبي طلباتي، وبأن تشفقي على تنهداتي، اذ أنكِ أنتِ هي ملكتي وملجأي وحياتي، ومعونتي ورجائي وحمايتي وحصني.*
ثم بالصواب اذاً يخصص القديس أنطونينوس بهذه السيدة، الكلمات المدونةفي سفر الحكمة وهي: قد جاءتني الخيرات كلها معها: (ص7ع11) قائلاً: فمن حيث أن مريم هي والدة الإله وموزعة كل الخيرات، فيمكن حسناً أن يقول العالم، وبنوعٍ أخص أولئك الذين في العالم يحيون متعبدين لهذه الملكة. أنهم جملةً مع العبادة لها قد فازوا بالخيرات كلها: ومن ثم يقول الأنبا جالانسه قولاً مطلقاً: أن من يصادف مريم فيصادف كل الخيرات والنعم والفضائل: لأنها تستمد هي له بواسطة شفاعاتها المقتدرة، كل شيء يحتاج اليه لأن يصير غنياً بالنعمة الإلهية. فهي توضح لنا أنها حاويةٌ عندها خزائن غنى الله، أي الرحمة الإلهية. لكي توزعها في أسعافات محبينها: فعندي الغنى والمجد وأقتناء العظمة والعدل... لكيما أغني الذين يحبونني: (أمثال ص8ع18ع21) ولهذا كان يقول القديس بوناونتورا: أنه يلزمنا جميعاً أن نرفع أعيننا دائماً الى يدي مريم. لكي نقتبل بواسطتها ذاك الخير الذي نبتغيه.*
فكم وكم من المتكبرين قد أقتنوا بواسطة عبادتهم لمريم فضيلة التواضع، والغضوبون الحلم، والعميان النظر، والميؤوسون الرجاء والهالكون الخلاص! وهذا هو بالحصر الأمر الذي سبقت هذه البتول الطوباوية، وقالته هي نفسها في بيت نسبيتها القديسة أليصابات، حينما تلفظت بتلك التسبحة الجليلة قائلةً: فها منذ الآن يعطيني الطوبى سائر الأجيال" (لوقا ص1ع48) فهذه الكلمات اذ كررها القديس برنردوس في عظته الثانية على العنصرة قد قال: هوذا أن الشعوب كلهم يدعونكِ طوباويةً. لأنكِ أعطيتِ الشعوب كافةً الحيوة والمجد، لأن الخطأة بكِ يصادفون الغفران والصديقين بكِ يجدون الثبات في حال نعمة الله. ومن ثم يقول الرجل العابد لانسبارجيوس، مصيراً كأن الرب يخاطب البشر هكذا: أيها الناس المساكين أولاد آدم العائيشون فيما بين أعداءٍ كثيرين، والمحاطون من كل ناحيةٍ بالشدائد والأحزان، أجتهدوا في أن تكرموا بعبادةٍ خصوصيةٍ وبمحبةٍ متقدةٍ والدتي وأمكم. لأني أنا قد منحت العالم هذه الأم نموذجاً، لكي تتعلموا منها أن تعيشوا كما يجب عليكم، أعطيتكوها ملجأً، لكي تسرعوا اليها مستغيثين بها في أحزانكم، فأنا خلقت هذه الأبنة بالصفات الحاصلة هي عليها. بنوع أنه لا يوجد أحدٌ يخاف من أن يتقدم اليها، أو أنه يمسك ذاته عن الأستغاثة بها، ولذلك قد كونتها بخلقةٍ ذات أشفاقٍ وتعطفٍ ورحمةٍ بهذا المقدار من الكمال، حتى أنها لا تعرف أن ترفض أحداً أو تأنف منه، أم تتغاضى عنه من الملتجئين اليها، ولا تعلم أن تنكر أحسانها على أحدٍ مطلقاً من الطالبين معونتها، فهي دائماً توجد باسطةً رداء رحمتها، ولا تسمح بأن يمضي أحدٌ من أمام قدميها غير معتزٍ: فلتكن اذاً على الدوام مباركةً خيرية صلاح إلهنا الغير المتناهية. على إيهابه إيانا هذه الأم الإلهية والمحامية الشفوقة الكلية الحب.*
ثم أن القديس بوناونتورا المغرم بشدة الحب ليسوع المسيح ولوالدته المجيدة يقول هكذا:" أنه ولو أن الرب قد رذلني حد الرذل، فأنا أعلم أنه لا يمكنه أن يرفض من يحبه ومن يطلبه من كل قلبه، فأنا أمسكه بحبي إياه ولا أطلقه أن لم يباركني، وهو من دوني لا يمكنه أن يبتعد عني، فاذا لم أقدر أن أفعل شيئاً آخر، فقلما يكون أختفي في جراحاته، واذ أكون هناك، فهو لا يستطيع أن يراني خارجاً عن ذاته". وأخيراً يضيف الى ذلك هذا القول: فأن كان مخلصي يطردني من أمام قدميه بسبب خطاياي. فحينئذٍ أنا أنطرح على قدمي والدته مريم، وهناك أستمر جاثياً من دون أن أفارقها، أ، لم تستمد هي لي الغفران، لأن أم الرحمة هذه لا تعرف، بل وقط لم تعلم أن لا تشفق على المساكين البائسين، أو لا تعضد المستغيثين بها المضنوكين المستمدين منها الأعانة، ولهذا اذا لم يكن من قبل الألتزام، فقلما يكون من قبل الشفقة تجتذب أبنها لأن يهبني الغفران.*
فلنختتم اذاً الإيراد مع العلامة أفتيموس قائلين: أنظري إلينا بعينيكِ الشفوقتين يا أمنا الكلية الرأفة، لأننا نحن عبيدكِ. وفيكِ قد وطدنا رجانا بأسره.*
* نموذج *
أنه يوجد مسطراً في خبرية الأعجوبة الخامسة والثمانين، من التأليف الملقب: بكنز الوردية: أن رجلاً ما شريف الحسب والوظيفة، قد كان كلي التعبد لهذه الأم الإلهية، ومن ثم كان شيد داخل داره الواسعة كنيسةً صغيرةً، وهناك كان من عادته أن ينفرد مصلياً أمام أيقونة والدة الإله المصورة فيها ببراعةٍ. ولم يكن يمارس هذه الصلوات نهاراً فقط بل في زمن الليل أيضاً، معدماً ذاته لذة النوم ساعاتٍ بجملتها ليكرم سيدته المحبوبة منه. فأمرأة هذا الرجل الشريف، مع أنها هي أيضاً كانت من النساء الأكابر الحسنات الديانة، قد دخل عندها الشك وروح الغيرة، عند ما كانت تلاحظ رجلها هذا ينهض من فراشه في الساعة الأكثر هدواً من زمن الليل، ويخرج من مكان رقاده الى خارجٍ، ولا يرجع الا بعد زمنٍ ليس بقليل، فلما أزداد يوماً فيوماً الأرتياب في عقل هذه المسكينة، قد فكرت لنجاة قلبها من هذه الشوكة أن تسأل قرينها هذا بجرأةٍ، أن كان يوجد في قلبه حبٌّ ما لأمرأة أخرى غيرها؟ فالرجل الجليل أجابها مبتسماً بقوله: أعلمي أنني أحب أمرأةً سيدةً لا يوجد في العالم مثلها موضوعٌ شهيٌ للحب الشديد، وقد وهبتها قلبي بجملته، ولقد يمكنني أن أموت بالأحرى قبل أن أنتزح عن حبي أياها، ولو أنكِ تعرفينها، لقلتِ لي أنتِ نفسكِ أن أحبها بأبلغ نوع مما هي الآن محبوبةٌ مني! وأنما كان يشير بذلك جميعة عن البتول الكلية القداسة، التي حقاً كان هو يحبها بهذا المقدار. غير أن أمرأته عند سماعها منه هذا القول، قد توطد أرتيابها السابق بزيادةٍ ولكنها لكي تتحقق الأمر أفضل تحقيقاً، قد سألته أيضاً، أن كان سبب قيامه من فراشه ليلاً، وخروجه من البيت هو لكي يمضي عند هذه الأمرأة؟ فالرجل الذي لم يكن يعلم روح الغيرة والشك الكائن في قلب أمرأته قد أجابها، أي نعم أن الأمر هو كذلك. فترى ماذا صنعت هذه الزوجة التي عمي عقلها بتصديق أرتيابها الكاذب، لأنها ليلةً ما عندما نهض رجلها حسب عادته من فراشه، وذهب خارجاً الى المصلى السابق ذكره، فهي من زيادة الغم أخذت السكين كمقطوعة الرجاء، وجزت بها عنقها ذابحةً ذاتها حيث بعد برهةٍ ماتت، أما الرجل فعند نهاية صلواته قد رجع الى خدره لينام، ولكنه شعر بالفراش مغرقاً كأنه بمياه غزيرة، فصرخ الى أمرأته بأسمها، واذ لم ترد عليه جواباً، أوقد المصباح وحضر إليها، واذ هي مذبوحةً، والمرقد عائمٌ بالدم، فحينئذٍ فكر بالصواب أنها ذبحت نفسها بروح الغيرة ميؤوسةً. فما الذي فعله هو حينئذٍ. أنه أغلق باب الحجرة على أمرأته، ورجع الى المصلى حيث جثا أمام أيقونة والدة الإله الكلية القداسة، وأبتدأ يقول لها هكذا بدموعٍ منحدرةٍ من عينيه تياراتٍ: أنظرتِ يا أمي في أية حالٍ من الحزن أنا كائنٌ، فان كنت لا تعزيني أنتِ فالى من التجئ لأفوز بالتعزية منه، فافتكري بأنه لأجل مجيئي الى هنا لكي أكرمكِ، قد أحاقت بي هذه المصيبة العظمى، وهي أن أشاهد قرينتي مذبوحةً وهالكةً أيضاً، فأنتِ قادرةٌ يا أمي على مداواة الأمر: فحقاً أن من يتضرع الى أم الرحمة هذه بحسن الرجاء فينال كل ما يبتغيه، لأن هذا الرجل الشريف عندما أنهى صلاته المقدم إيرادها، سمع صوت واحدةٍ من جواريه تقول له: يا سيدي أرجع الى حجرتك، لأن سيدتي أمرأتك تدعوك اليها. فالرجل خرج من المصلى حالاً، لكنه من زيادة الفرح لم يصدق ما قيل له، بل لأجل الأمتحان طلب من الجارية أن تذهب ثانيةً الى الحجرة، لترى أن كانت حقاً سيدتها تريد رجوعه الى هناك، فالجارية مضت وعادت اليه مؤكدةً له أن زوجته طلبت ذهابه إليها عاجلاً لأنها تنتظره بشوقٍ، فأنطلق حينئذٍ هو بثقةٍ وفتح باب الخدر فرأى أمرأته حيةً، التي قد أنطرحت على قدميه باكيةً ومتوسلةً اليه بأن يغفر لها قائلةً له: أواه يا قريني العزيز أن والدة الإله لأجل تضرعاتك لديها من أجلي قد خلصتني من جهنم، وهكذا أثناهما معاً مضيا الى المصلى بدموعٍ غزيرةٍ من شدة الفرح، ليقدما الشكر الواجب للبتول الكلية الأقتدار، ثم أن الرجل في اليوم المقبل صنع وليمةً لجميع الأقرباء والأنسباء، وصير أمرأته أن تخبرهم بالحادث كما تم، وهي شرحت لهم حقائقه مريةً إياهم في عنقها علامة الجرح، الذي حفظ ظاهراً لتأكيد الأعجوبة، ومن ثم قد أزدادت في الجميع حرارة العبادة والحب نحو هذه السيدة والأم الإلهية.*
† صلاة †
https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg
يا أم الحب المقدس، يا حياتنا وملجانا، أنكِ لتعلمين أن أبنكِ يسوع، اذ لم يكتف بأن يقيم ذاته شفيعاً أبدياً فينا ومن أجلنا لدى أبيه الأزلي، قد أراد أنكِ أنتِ أيضاً تهتمين بعنايتكِ نحوه هو ذاته، في أن تستمدي لنا منه الرحمة الإلهية، فهو قد رسم ورتب أن صواتكِ وتضرعاتكِ تفيدنا للخلاص، وقد منح توسلاتكِ قوةً عظيمةً لأن تنال كل ما تطلبينه. فاذاً أنا الخاطئ المسكين اليكِ التجي يا رجاء المويسين. وهكذا أرجو يا سيدتي أن أنال الخلاص بأستحقاقات أبنكِ يسوع المسيح، وبقوة شفاعاتكِ، فهذا هو رجاي، وأنا واثقٌ به ومتكل عليكِ بهذا المقدار بأمانة، حتى أن خلاصي لو كان الآن هو في يدي لكنت أسلمكِ إياه، لأني أعتمد على مفعول رحمتكِ وحمايتكِ أفضل من أعتمادي على أعمالي كلها، فلا تهمليني يا أمي ورجاي كما أستحق، بل لاحظي شقاوتي وأنعطفي مشفقةً عليَّ بأعانتكِ إياي لكي أنال الخلاص. فأنا أعترف بأني مراتٍ كثيرةً قد أغلقت باب قلبي ضد الأنوار السماوية، وضد المعونات الإلهية التي قد أستمديتيها لي من الرب. ولكن أشفاقكِ نحو البائسين، وأقتدارات شفاعاتكِ لدى الله تفوق عدد خطاياي كلها، وتسمو على شرها وخباثتها، فأمرٌ معلومٌ هو عند أهل السماء والأرض، أن من تحامي أنتِ عنه لا يمكن أن يهلك، فليهملني اذاً الجميع وينسوني، بحيث أنكِ لا همليني أنتِ يا والدة الإله المقتدرة على كل شيءٍ، قولي لله أنني أنا عبدكِ، وأنكِ محاميةٌ عني وهذا يكفيني لأن أفوز بالخلاص، فأنا أتكل عليكِ يا مريم رجائي، وفي هذا الرجاء أعيش وبه أريد أن أموت كما أؤمل. ومن ثم لا أكف أصلاً من أن أقول، أن يسوع هو رجائي الوحيد، وبعد يسوع رجائي الوحيد هو في مريم البتول.*

https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg
الجزء الثاني
* في أن مريم العذراء هي رجاء الخطأة *
أن الله بعد أن خلق الأرض قد أبدع نيرين ليضيئا عليها، كما هو مدون في سفر التكوين: أن الله صنع نيرين عظيمين، فالنير الأكبر لسلطان النهار، والنير الأصغر لسلطان الليل: (ص1ع16) أي الشمس والقمر، فيقول الكردينال أوغون في تفسيره هذا الاصحاح: أن الشمس هي رسمٌ ليسوع المسيح الذي تتمتع الأبرار بنوره اذ يحيون في نهار النعمة الإلهية. وأما القمر فهو رسمٌ لمريم البتول التي بواسطتها يستنير الخطأة العائشون في ليل المآثم: فمن حيث اذاً أن مريم هي هذا القمر السعيد المفيد للخطأة الأذلاء فاذا أتفق لأحدهم، كما يقول البابا أينوشانسيوس الثالث (في عظته على نياح البتولة) أن يوجد ساقطاً في ليل الخطيئة، ترى ماذا يصنع بعد أن يكون فقد نور الشمس بفقدانه النعمة الإلهية. فليلتجِ الى نور القمر. أي فليتوسل الى مريم وهي تنيره ليعرف شقاوة حاله، وتهبه قوةً لأن يخرج سرعةً من طريق الأثم: ويقول القديس متوديوس: انه بواسطة صلوات مريم الطوباوية يرجع الى الله بالتوبة على الدوام عددٌ غير محصى من الخطأة.*
فأحدى الصفات والنعوت التي الكنيسة المقدسة تصيرنا أن نلتجئ الى هذه الأم الإلهية، والتي تشجع الأثمة البائسين بأبلغ نوعٍ على الرجوع الى التوبة. هي هذه الصفة أو التسمية أي: ملجأ الخطأة: التي بها تستدعيها هي بالطلبات، فبموجب رسوم العهد العتيق قد كانت في بلاد اليهودية مدينةٌ تسمى الملجأ، حيث أن المذنبين الذين كانوا يفرون هاربين من الأمكنة التي فيها أرتكبوا الذنب الى تلك المدينة، فكانوا ينجون بدخولهم اليها من القصاصات المرسومة ضد ذنوبهم، أما في الزمن الحاضر فلم تعد توجد مدن الملجأ كما كانت سابقاً، ولكن عندنا واحدة فقط، وهي مدينة الله مريم التي يشير اليها النبي والملك داود هاتفاً: قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله: (مزمور87 عدد3) الا أنه يوجد هذا الفرق فيما بين مدن الملجأ القديمة وبين هذه المدينة، وهو أنه في تلك لم تكن الخطأة كافةً ولا المذنبون بكل أنواع المآثم يجدون الحماية وحق اللجاية، وأما في هذه المدينة، أي تحت كنف حماية مريم العذراء فبالخلاف تجد الخطأة أجمعون، والمذنبون بأنواع الفواحش والسيئات كافةً، ملجأً أميناً وحصناً منيعاً. متى هربوا محتمين بها، كما يسميها القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الثاني على نياحها) متكلماً عن لسانها بقوله: أني أنا هي مدينة الملجأ لجميع أولئك الذين يأتون اليَّ من دون أستثناء.*
فيكفي للهارب أن يبلغ الى هذا الملجأ لأن ذاك الذي يكون حصل على الحظ السعيد بأن يدخل ضمن هذه المدينة، لا يعود محتاجاً للتكلم عن شيء لكي يفوز بالخلاص، حسبما يقول أرميا النبي (ص8ع14): لماذا نجلس، أجتمعوا وندخل القرية الحصينة ونسكت هناك: فيفسر هذا النص الطوباوي ألبرتوس الكبير قائلاً: أن هذه القرية الحصينة هي القديسة مريم البتول المحصنة بالنعمة والمجد: وكذلك يقال في التفسير الملقب غلوسا عن لفظة: ونسكت هناك: أننا لأجل كثرة خطايانا اذ ليس عندنا جرأةٌ ولا لنا دالةٌ لأن نطلب من الرب الغفران، فيكفينا أن ندخل هذه المدينة الحصينة، ونسكت هناك، لأن مريم حينئذٍ تتكلم هي وتتوسل من أجلنا. ولذلك يحرض الخطأة كافةً أحد العلماء (وهو بناديكتوس فارناندس) على أن يهربوا ملتجين تحت كنف حماية مريم قائلاً: أهرب يا آثم ويا حواء ويا جميع أولادهما كلكم الذين قد أغظتم الله، أهربوا وفوزوا بالنجاة، بألتجائكم الى حماية هذه الأم الصالحة. وهكذا القديس أوغوسطينوس يقول: الا تعلمون أن مريم هي مدينة الملجأ الوحيدة. وملجأ الخطأة الفريد.*
فمن ثم يهتف القديس أفرام السرياني (في مديحه البتولة) قائلاً: أنتِ هي المحامية الوحيدة عن الخطأة. والمناضلة الوحيدة عن أولئك الذين لا معين لهم. فالسلام عليكِ يا ملجأ الخطأة وسندهم ومأواهم، الذي فيه وحده يمكنهم أن يجدوا الحماية والمهرب الأمين. وهذا هو ما يتأمل به أحد الكتبة بأن الملك والنبي داود قصد أن يشير اليه بهذه الكلمات وهي: لأنه أخفاني في خيمته، وفي يوم ضري سترني في ستر مظلمته (مزمور27ع5) فيقول أن الرب أخفاني في خيمته، فترى من هي خيمة الله الا مريم البتول حسبما يدعوها القديس جرمانوس بقوله: أن مريم هي الخيمة المصنوعة من الله التي لم يدخل اليها الا العلي وحده، لكي يكمل فيها عمل الخلاص السري بأفتداء الجنس البشري. وفي هذا الشأن قال معلم الكنيسة العظيم القديس باسيليوس: أن الله قد أعطانا مريم العذراء بمنزلة بيمارستان عمومي مشاع حيث يمكن لجميع المرضى والمسقومين الذين هم فقراء وعادمون كل المعونات أن يجدوا فيه مأواهم وراحتهم. فالآن أنا أسأل مستفهماً، بأنه اذ كانت البيمارستانات أنما تشيدت لتقبل فيها المساكين، فمن هم أولئك الذين لهم حق أصرم ممن سواهم على أن يقبلوا فيها الا أولئك الأكثر فقراً والأجزل أحتياجاً والأوفر سقماً والأشد مرضاً؟.*
فمن ثم أن من يوجد حاصلاً على شقاوةٍ أبلغ، لأجل أنه يكون أشد فقراً من الأستحقاقات، والمثقل بأمراض النفس والأكثر خطراً وهذ أنما يكون من مصاف الخطأة فيبان أنه يمكن له أن يقول نحو مريم: يا سيدتي أنتِ هي البيمارستان ملجأ المرضى المساكين. فلا تطرديني اذاً في الوقت الذي أنا فيه لأجل أني أكثر فقراً من الآخرين وأشد شقماً منهم فيوجد لي الحق بأبلغ نوع وبأكثر صرامة من البقية على أن أقبل في هذا البيمارستان: فلنقل اذاً ما قاله القديس توما الفيلانوفي: يا مريم أننا نحن الخطأة الأذلاء البائسين لا نعرف. ولا يمكننا أن نجد ملجأً آخر سواكِ، أنتِ هي رجاؤنا الوحيد الذي فيه نضع أمر خلاصنا الأبدي، لأنكِ أنتِ هي المحامية الوحيدة عنا لدى يسوع المسيح، وإليكِ نهرب كلنا مستغيثين بكِ.*
ففي أحد الأوحية التي حصلت عليها القديسة بريجيتا تسمي مريم: النجم المتقدم أمام الشمس: وهذا يرشدنا لكي نفهم أنه حينما توجد في نفس أحدٍ من الخطأة علاماتٌ ظاهرةٌ تدل على أن ذاك الإنسان هو متعبد لهذه الأم الإلهية، فهذا هو دليلٌ أكيدٌ على أنه بعد قليلٍ من الزمن تحصل تلك النفس غنيةً من النعمة الإلهية. أما القديس بوناونتورا المجيد فلكي ينعش في قلوب الرجاء في حماية مريم، يصور لنا بحراً ما مزيداً مختبطاً هائجاً بعواصف شديدةٍ، حيث يوجد الخطأة الذين سقطوا فيه من سفينة النعمة الإلهية غارقين فيما بين تموج قلق الفكر، وأختباط الأرادة، وعواصف توبيخ الضمير، وبين أنزعاج الخوف من دينونة العدل الإلهي، تائهين من دون قائدٍ، وخلواً من نورٍ يرشدهم، حاصلين على أواخر أنفاس الرجاء وعلى قرب الأبادة باليأس، فعلى هذه الصورة اذ يبان أن القديس المذكور يريد أن يظهر للخطأة كيف أن مريم هي نجمة البحر، كما يدعوها الجميع بهذه الصفة، فمن ثم يعلى صوته صارخاً نحوهم هكذا: أيها الخطأة المساكين المنزعجون الحاصلون في الأبادة، لا تيأسوا ولا يضعف رجاؤكم، بل أرفعوا عيونكم الى هذه النجمة البهية الجميلة، وأهجعوا من أختباطكم مستنشقين النسمة وأطمأنوا بثقةٍ، لأن هذه النجمة هي تصيركم أن تخرجوا من الغرق وتبلغكم الى مينا الخلاص.*
وبهذا الروح نفسه القديس برنردوس يخاطب الخاطئ قائلاً له: فأن كنت لا تريد أن تهلك غارقاً في العاصفة، فأتجه نحو النجمة وأدعُ الى معونتك مريم لأجل أنها (كما يقول العابد بلوسيوس) هي السند الوحيد والدواء الشافي لخلاص أولئك الذين سقطوا في حال أغاظة الله بالخطيئة، وهي ملجأ جميع المجربين والمصابين: فأم الرحمة هذه هي محسنةٌ عذبةٌ لطيفةٌ رأوفةٌ بكليتها ليس نحو الصديقين فقط، بل نحو الخطأة الميؤوسين أيضاً. ولذلك أنها حينما ترى هؤلاء يقصدون معونتها بألتجائهم اليها، وتلاحظ أنهم حقاً يصنعون هذا قلبياً، فحالاً تساعدهم وتعينهم وتستمد لهم من أبنها الغفران، ومن عادتها الا ترذل أحداً. ولا تتغاضى عن مطلوبه ولو مهما كان هو عديم الأستحقاق، ولذلك لا تنكر على أحدٍ مطلقاً حمايتها وعنايتها، بل تعزي الجميع، ويكفي مراتٍ كثيرةً أنها تستدعى ويستغاث بها فتوجد حالاً مكملةً مرغوب من يقصدها، وبواسطة عذوبتها تجتذب الخطأة الى التعبد لها، وتيقظهم من رقاد الخطيئة، ولو كانوا من أولئك المعدومة منهم محبة الله والمتمرغين في حماة الرذائل، وهكذا بواسطة أفعال التعبد لها يتأهبون لأن يقتبلوا النعمة الإلهية، وأخيراً يصيرون أهلاً لنوال المجد الأبدي. على أن الله قد كوَّن أبنته هذه المحبوبة منه تكويناً مملوءاً من الرأفة والعذوبة والرفق والحلم، بنوعٍ أنه لا يوجد أحدٌ يمكنه أن يرتاب في أنها تقبله، متى التجأ إليها لأنها لا تعرف أن ترد أحداً خائباً من مفاعيل شفاعاتها من أجله. ثم ينهي إيراده الكاتب العابد المقدم ذكره بقوله أخيراً: أنه ليس هو من الممكن أن يمضي هالكاً من يمارس بأتضاعٍ وأهتمامٍ، واجبات العبادة لهذه الأم الإلهية.*
ثم أن هذه السيدة قد سميت في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع19) بشجرة الدلب، لأنه كما أن شجرة الدلب تعطي تحتها وفي ظلها ميداناً، لألتجاء المسافرين من حرارة الشمس، فهكذا مريم عندما تشاهد نار غضب العدل الإلهي متقدةً ضد الخطأة، فتدعوهم لأن يستظلوا في ظل حماية شفاعاتها. فالقديس بوناونتورا يتأمل في كيف أن النبي أشعيا كان يتشكى في أزمنته قائلاً: ها أنتَ غضبتَ يا رب فأخطأنا نحن... ليس من يدعو بإسمكَ ومن يقوم ويمسككَ: (ص64ع5وع7) أي أنكَ أنتَ يا رب مغتاظٌ بكل عدلٍ وحقٍ من الخطأة: ولا يوجد من يمكنه أن يسترضيكَ عنا ويرجوكَ بالرضى علينا. فبكل صوابٍ قال النبي هذه الكلمات من حيث أنه في ذلك الوقت لم تكن بعد جاءت مريم الى العالم. وأما الأن فاذا كان الباري تعالى مغتاظاً ضد أحد الخطأة، ومريم شرعت تستعطفه محاميةً عن ذاك الخاطئ فلا ريب في أنها تهدئ غضب أبنها الإلهي عن أن يعاقبه وهكذا تخلصه، بل الأبلغ من ذلك (يتبع القديس بوناونتورا كلامه بكلامه) هو أنه لا يمكن أن يوجد أحدٌ أكثر أستطاعةً من مريم على المحاماة عنا، حتى أنها تمد يدها وتمسك سيف العدل الإلهي مانعةً إياه عن أن ينقض فوق عنق الخاطئ. ثم أنه حسب الفاظ هذا القديس يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن الله قبل ميلاد مريم البتول في العالم كان يشكو من أنه لم يكن يوجد وقتئذٍ من كان يهدئ غضبه عن أن ينتقم من الخطأة، كما يقول تعالى على لسان حزقيال النبي (ص22ع30): أني قد طلبت فيهم رجلاً يتواسط بالسياج ويقاومني عن الأرض كيلا أخربها فلم أجد: الا أنه بعد أن جاءت مريم الى الدنيا، فهي التي تستعطفه جلت خيرية صلاحه وتهدئ غضبه بوساطتها:*
فلهذا القديس باسيليوس الكبير يشجع الخطأوة (في خطبته على عيد البشارة) قائلاً: لا تيأس أصلاً أيها الخاطئ بل التجِ الى مريم في أحتياجاتكَ كلها، وأستدعيها الى معونتكَ، فتجدها مستعدة على الدوام لمساعدتك، لأن هذه هي الإرادة الإلهية، أي أن مريم تعضد الكل معينةً إياهم في كل شيءٍ يحتاجون إليه ضرورةً: فأم الرحمة هذه تحب من كل قلبها راغبةً أن تخلص الخطأة الأشقياء الميؤوسين، رغبةً هكذا متقدةً حتى أنها هي نفسها تفتش عنهم مجتهدةً في إعانتهم، ولذلك اذاً أستغاثوا بمساعدتها مستدعينها لأسعافكم فهي تعرف حسناً أن تجد الطريقة التي بها تصيرهم مقبولين لدى الله ومحبوبين منه. فأسحاق رئيس الآباء اذ كان يشتهي أن يغتذي بلحوم بعض الحيوانات البرية، قد طلب من أبنه عيسو أن يصطاد له منها ما يمكنه. ويصلحها له أطعمةً موعداً إياه بأن يمنحه البركة الأبوية، الا أن رفقا زوجته أم عيسو نفسه لآرادتها في أن أسحاق يمنح البركة لأبنها الآخر يعقوب لا لعيسو، فطلبت من يعقوب قائلةً له: أمضِ الى الغنم وأتنني بجديين رخصين، فأصلحهما أطعمةً لأبيكَ على نحو ما يحب ليأكل منها وتباركك نفسه قبل مماته: (تكوين ص27ع9) فيقول القديس أنطونينوس: ان رفقا كانت رسماً لمريم التي تقول للملائكة أيتوني بالخطأة (الذين قد مثلوا بالجداء) لكي أصلحهم أنا بطريقةٍ ملائمةٍ (أي بأكتسابي لهم نعمة الندامة والعزم على عدم الرجوع الى الخطيئة) وأجعلهم مقبولين مستحبين لدى سيدي: ثم أن الأنبا فرانكونه اذ أتبع هذا التفسير يقول: أن مريم تعرف جيداً أن تصلح هؤلاء الجيداء أطعمةً لذيذةً، بنوع أن ذوقهم ليس فقط يماثل ذوق لحمان الخشف والغزلان والأيل، بل أيضاً مراتٍ كثرةً يفوقها لذةً.*
على أن البتول الكلية الطوبى عينها قد أوحت الى القديسة بريجيتا بأنه لا يوجد في العالم خاطٍ ما مهما كان بأثمه عدواً لله. يلتجئ إليها مستمداً منها المعونة، الا ويرجع اليه تعالى تائباً ويكتسب ثانيةً نعمته الإلهية التي كان فقدها: والقديسة بريجيتا نفسها قد سمعت يوماً ما يسوع المسيح مخاطباً والدته الطوباوية، بأنها تستطيع هي أن تنال منه عز وجل لصالح لوسيفوروس عينه، أن يرجع الى حال النعمة الإلهية، أن كان هو يتضع ويلتجئ إليها طالباً منها المعونة، فأي نعم أن أركون الظلام هذا، الروح المتعجرف لا يمكن أن يواضع ذاته لأن يلتمس حماية مريم. ولكن اذا فرضنا هذا الحادث الغريب، وهو لو أمكن للوسيفوروس أن يتواضع مستغيثاً بمريم، فهي لكانت تحنو عليه، وبقوة صلواتها الفعالة لكانت تستميح له من الله الغفران والخلاص، غير أن الشيء الذي لا يمكن حدوثه مع الشيطان، فهذا بلا ريب يبلغ مفعوله مع الخطأة الذين يلتجئون الى أم الرحمة هذه.*
ثم أن سفينة نوح قد كانت توجد بالصواب رسماً لمريم المجيدة. فكما أنه في تلك السفينة كانت توجد حيوانات الأرض كلها جنسياً ونوعياً، فهكذا تحت أذيال حماية مريم يجد ملجأً أميناً الخطأة أجمعون الذين لأجل رذائلهم وعوائدهم الوحشة وخطاياهم اللحمية هم شبيهون بالوحوش والحيوانات الأخرى، ولكن بهذا الفرق، كما يقول أحد العلماء (وهو باجيوكالى): أي أن الوحوش كما دخلت السفينة كذلك خرجت منها وحوشاً من دون تغييرٍ، اذ أن الذئب الذي دخل اليها خرج منها ذئباً، والنمر أستمر نمراً، وأما تحت حماية مريم فالذئب يستحيل الى خروفٍ، والنمرة تصير حمامةً. فيوماً ما القديسة جالتروده قد شاهدت في الرؤيا عدةً من الوحوش، أسوداً، دبباً، نموراً، كائنةً تحت برفير مريم البتول المفتوح للجميع، ولاحظت أن مريم ليس فقط لم تكن تطرد عنها تلك الوحوش، بل بأكثر من ذلك كانت بيدها الجوادة تلمها وتملسها، ثم أخبرت هذه القديسة أي جالتروده بأن تلك الحيوانات هي الخطأة الأشقياء البائسون، الذين حينما يلتجئون الى مريم، فهي تقتبلهم بعذوبةٍ ورأفةٍ ومحبةٍ.*
فاذاً بالصواب أمكن للقديس برنردوس أن يهتف نحو هذه الأم المجيدة قائلاً: انكِ أيتها السيدة لا ترذلين أحداً من الخطأة، مهما كان عاتياً منافقاً رديئاً، متى قصدكِ مقترباً منكِ لجايةً، واذا التمس منكِ المعونة فلا تأنفين مستكرهةً من أنكِ تمدين يدكِ ذات الأشفاق وتخرجينه من عمق يأسه ومن أقصى شقاوته: فليكن مباركاً على الدوام وممجداً بالشكر الواجب إلهنا الصالح، الذي صنعكِ يا مريم المحبوبة في الغاية، مملوةً من الحلاوة والأنعطاف. حتى نحو الخطأة الأكثر شقاوةً، فحقاً أنه تعيسٌ هو ذاك الذي لا يحبكِ ومع أنه يستطيع أن يلتجئ اليكِ، فمع ذلك لا يتكل عليكِ ولا يثق بكِ. لأن من لا يستغيث بمريم يمضي هالكاً، وبالعكس من هو الذي خاب من رجائه وأدركه الهلاك من الذين تمسكوا بها:.*
فالكتاب المقدس يخبرنا في الاصحاح الثاني من سفر راعوث بأن بأعاز قد سمح لهذه الأمرأة راعوث بأن تتبع الحصادين المستأجرين منه في أراضيه، وتلتقط لذاتها السنبل الذي كان يسقط من أيديهم على الأرض، فيقول القديس بوناونتورا (في تفسيره هذا النص): أنه كما أن راعوث قد وجدت نعمةً في عيني باعاز فهكذا مريم قد وجدت نعمةً في عيني الرب بأن تستطيع أن تجمع ملتقطةً السنبل الذي يهمله الحصادون مطروحاً في الأرض، فالحصادون أنما هم الفعلة الأنجيليون، المرسلون، الواعظون، المرشدون، المعرفون الذين يومياً يجمعون الأنفس لله ويكتسبونها له تعالى، ولكن توجد بعض الأنفس عاصيةً عليهم ومصرةً على الأثم حاصلةً في قساوة القلب ولذلك تهمل من هؤلاء الحصادين، فسمح لمريم وحدها الأقتدار على أن تخلص بقوة شفاعاتها، هذه السنبلات المهملة المتروكة من الفعلة الأنجيليين، الا أنهم لتعيسون بالحقيقة أولئك الخطأة الذين هذه صفتهم، أن كانوا لا يتركون مريم أن تلتقطهم، لأنهم حينئذٍ من غير شكٍ يضحون ملعونين هالكين، وبالعكس لمغبوطين هم أولئك المهملون الذين يستغيثون بمريم الأم الصالحة: لأنه (كما يقول العابد بلوسيوس) لا يوجد في العالم خاطٍ بهذا المقدار هالكٌ في حماة المآثم، ويرذل من مريم مطروداً، بل اذا أقبل نحوها طالباً منها المعونة، فهي كأمٍ حنونةٍ تقدر جيداً وتعرف حسناً، وتريد حقاً، أن تصالحه مع أبنها وتكتسب له المغفرة.*
فبمواجب الأستئهال يسلم عليكِ أيتها الملكة سيدتي القديس يوحنا الدمشقي هاتفاً: السلام عليكِ يا رجا مقطوعي الرجاء. وكذلك القديس لورانسوس يوستينياني يسميكِ: رجاء عمال الأثم: والقديس أوغوسطينوس يدعوكِ: ملجأ الخطأة الوحيد: والقديس أفرام يلقبكِ: بمينا الخلاص الأمين للمسافرين في البحر العالمي: وهو نفسه في مكانٍ آخر ينعتكِ: بمحامية عن الهالكين: وهكذا القديس برنردوس يحرض الخطأة حتى القاطعين رجاهم على أن لا ييأسوا، ومن ثم يهتف نحوكِ مملوءاً فرحاً بكِ أنتِ أمه المحبوبة منه في الغاية صارخاً: ترى من يمكنه أيتها السيدة أن لا يثق بكِ متكلاً عليكِ بحسن الرجاء بعد أنكِ تسعفين المقطوع رجاهم أنفسهم، فأنا لا أرتاب أصلاً بأننا حالما نحن نلتجئ اليكِ فدائماً نفوز بكل ما نبتغيه، فليرجوكِ اذاً المقطوع رجاهم: ثم أن القديس أنطونينوس يخبرنا بأنه اذ كان يوماً ما أحد الخطأة حاصلاً في حال الأثم معدوماً نعمة الله، قد رأى ذاته حاضراً في المحكمة الإلهية أمام يسوع المسيح، وشاهد الشيطان يقدم عليه الشكايات، ومريم البتول تحامي عنه ضدها، فالعدو الجهنمي قدم حينئذٍ سجلاً مدونةً فيه مآثم هذا الخاطئ كلها، واذ وضع ذاك السجل في ميزان العدل الإلهي بأزاء الأعمال الصالحة التي كان هو فعلها، قد وجد أثقل بما يجد من تلك الأعمال، فماذا صنعت وقتئذٍ مريم المحامية العظيمة عن الخاطئ، فقد مدت يدها الحلوة على كفة الميزان فوق الأعمال الصالحة وجذبتها، فوجدت أثقل كثيراً من سجل الخطايا، وبذلك أوضحت للخاطئ في تلك الرؤيا، أنها هي تستمد له من الله الغفران أن كان يغير هو سيرته الأثيمة، كما تم الأمر حقاً، بأن الخاطئ المومى اليه حينما رجع الى ذاته قد تاب عن خطاياه بسيرةٍ صالحة.*
* نموذجٌ *
لقد أخبرنا الطوباوي يوحنا أرولتوس الملقب تواضعاً بالتلميذ. عن رجل مقترن بسر الزيجة كان عائشاً في الخطيئة معدوماً نعمة الله، فأمرأته التي كانت صالحةً اذ لم يمكنها أن تجلبه الى ترك الخطيئة، قد توسلت اليه بأن يمارس، وهو في تلك الحال الشقية قلما يكون هذه العبادة نحو والدة الإله، وهي أنه كل مرةٍ يجتاز من مكان توجد فيه أيقونةً ما لهذه السيدة، فيتلو تكريماً لها: السلام لكِ يا مريم الخ: فالرجل المومى اليه قد أبتدأ أن يمارس ذلك، فليلةً ما اذ كان هذا المنافق ذاهباً ليصنع الخطيئة قد شاهد أمامه نوراً لامعاً. واذ حدق به فرآه مصباحاً متقداً أمام أيقونةٍ لمريم البتول مصورةٍ حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي يسوع. فحينئذٍ حسب عادته صلى السلام الملائكي، ولكن ماذا رأى، أنه شاهد الطفل يسوع مكسى الجسم، بجراحاتٍ متخنة تقطر دماً جارياً منها، فللوقت هو أستوعب أنذهالاً وتوجعاً معاً بأفتكاره في أن كثرة خطاياه كانت علةً لجراحات المخلص، فطفق يبكي بدموعٍ غزيرةٍ، الا أنه لاحظ أن الطفل الإلهي كان يعطيه ظهراً غير مريدٍ أن ينظر اليه، الأمر الذي أملأه من القلق والغم، ومن ثم أتجه نحو والدته المجيدة متضرعاً اليها بقوله: أن أبنكِ يطردني من أمامه يا أم الرحمة، فأنا لا أقدر أن أجد محاميةً عني ذات أقتدارٍ ورأفةٍ مثلكِ لديه، اذ أنكِ أمه، فعينيني أنتِ يا ملكتي وصلي من أجلي أمامه: فالأم الإلهية قد أجابته من تلك الأيقونة قائلةً: أنكم أنتم أيها الخطأة تسموني أم الرحمة، ولكن في الوقت عينه لا تهملون أن تجعلوني أم الشقاوة، بتجديدكم آلام أبني وأوجاعي معاً: الا أنها مع ذلك لحنوها العظيم الذي من أجله لا تعرف أن تصرف أحداً من الملتجئين اليها من غير تعزيةٍ. قد التفتت الى أبنها وشرعت تتوسل اليه من أجل ذاك الخاطئ بأن يغفر له، فيسوع أستمر يظهر نفوراً من هذه الطلبة، فحينئذٍ البتول قد وضعت الطفل في تلك الحنية التي كانت نظير هيكلٍ، وسجدت أمامه قائلةً له: أنني لا أنهض من أمام قدميكَ يا أبني أن لم تغفر لهذا الخاطئ: فوقتئذٍ أجابها يسوع بقوله: أنه لا يمكنني يا أمي أن أنكر عليكِ شيئاً. أفتريدين أن أغفر له. فأنا حباً بكِ أسامحه عن ذنوبه، فأدعيه الى ههنا ليقبل جراحاتي. فالخاطئ تكميلاً لأمره الإلهي تقدم باكياً مرتعداً وبدأ يقبل تلك الجراحات واحدة بعد الأخرى، وفي حين تقبيله كلاً منها كان يشفى الجرح، وأخيراً الطفل الإلهي عانقه علامةً للغفران وهكذا رجع ذاك الخاطئ الى بيته متعزياً، وغير سيرته الرديئة وعاش بالصلاح مغرماً بالحب لوالدة الإله التي أستمدت له هذه النعمة العظيمة.*
† صلاة †
https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg
أنني أسجد يا مريم البتول الكلية الطهارة لقلبكِ المثلث القداسة. الذي صودف بيت راحةٍ وموضوع تنعمٍ لله الضابط الكل، قلباً مملوءاً من التواضع والنقاوة والحب الإلهي. فأنا الخاطئ التعيس آتي اليكِ بقلبٍ موعبٍ آلاماً رديئة وحماةً، ولكن ليس لأجل ذلك تستنكفين يا أم الرأفة مني، بل أنعطفي بأوفر أشفاقٍ نحوي وعينيني، ولا تطلبي فيَّ لكي تساعديني، لا أستحقاقاتٍ ولا فضائل، فأنا أنسانٌ ضال لا أستحق سوى الجحيم، ولكني أتوسل اليكِ بأن تلاحظي فيَّ هذا الأمر فقط. وهو الرجاء الذي لي فيكِ. والأرادة الحقيقية في أن أتوب عن شروري، فأنظري ما الذي صنعه وأحتمله من أجلي يسوع أبنكِ. وحينئذٍ أهمليني أن كنت تقدرين أن تهمليني، فأنا أضع أمامكِ كل آلام حياته، البرد الذي تكبده في الأسطبل، السفر الذي صنعه بذهابه الى مصر، الدم الذي سفكه، الفقر الأعراق، الأحزان، الموت الذي أحتمله حباً بي بحضوركِ، وهكذا أكراماً لحبكِ أبنكِ أهتمي بخلاصي، فأنا لا أريد أن أخاف يا أمي، بل ولا أقدر أن أخشى من أنكِ تطرديني الأن أنا ألتجئ اليكِ طالباً أن تسعفيني، لأني لو كنت أرتاب في ذلك لصنعت أفتراءً على رحمتكِ التي تفتش على البائسين لتساعدهم، فلا تنكري أيتها السيدة رأفتكِ على من لم ينكر عليه يسوع أبنكِ دمه. ولكن أستحقاقات هذا الدم لا تتخصص بي أن كنتِ لا تتوسلين أنتِ من أجلي لدى الله، فأنا منكِ أرجو خلاصي، في الوقت الذي فيه أنا لا أطلب لا أموالاً ولا كراماتٍ، ولا شيئاً آخر من خيرات الأرض، بل ألتمس منكِ نعمة الله، والحب لأبنكِ، وتكميل أرادته، والفردوس السماوي، لكي أحبه هناك الى الأبد. فهل يمكن أن لا تقبلي طلبتي هذه كلا، أني أؤمل أن تستجيبيني، فصلي لأجلي بأن أنال النعمة التي طلبتها، وأقبليني تحت كنف وقايتكِ. ولا تتركيني يا أمي، بل داومي التضرع من أجلي طالما لا تشاهديني بلغت الى السما مخلصاً، حيث أنطرح على قدميكِ لكي أبارككِ وأشكركِ الى الأبد آمين.


Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:29 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
الفصل الرابع: اليك نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء - كتاب امجاد مريم


الفصل الرابع
*فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: اليكِ نصرخ نحن المنفيين.أولاد حواء*
* وفيه جزءان*
الجزء الأول
* كم هي مستعدة مريم الطوباوية لأن تعين من يصرخ اليها*
فيا لشقاوتنا نحن الذين اذ كنا أولاداً لأمنا حواء التعيسة. ولأجل ذلك نحن مدنسون أمام الله بجريرة خطيتها نفسها، ومحكومٌ علينا بالعقاب عينه الذي حكم به عليها، فنسير تائهين في وادي الدموع هذا منفين من وطننا، باكين محزونين من قبل أوجاع كثيرة ملمة بأنفسنا وبأجسدنا. ولكن لمغبوطٌ هو ذاك الذي فيما بين هذه الشقاوات يلتجئ مراتٍ مترادفةً الى معزية العالم، ملجأ المساكين والدة الإله متعبداً لها يدعوها مستغيثاً بها كما قيل عنه: مغبوطٌ الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (أمثال ص8ع34) فتقول مريم مغبوط من يصغي الى مشورتي، ولا يهمل أن يواظب على الدوام الألتجاء الى أبواب رحمتي مستغيثاً بشفاعاتي وملتمساً معونتي. فمن ثم تعلمنا حسناً أمنا الكنيسة المقدسة كم يلزمنا أن نلتجئ برجاءٍ وأهتمامٍ الى هذه المحامية عنا المقتدرة المملؤة حباً نحونا، راسمةً علينا نحن أولادها بأن تكون عبادتنا خصوصيةً نحو هذه الكلية القداسة ومتميزةً جداً، وأمرتنا بأن نحتفل في مدار السنة بأعيادٍ كثيرة لتكريمها، وبأن يوماً واحداً من كل سبتٍ يكون مختصاً بها ومكرساً بنوعٍ خاص لأجلها، وبأن جميع الأكليروس العلماني والقانوني يتلون يومياً في الفرض الإلهي نيابةً عن الشعب المؤمن كافةً الكلمات المختصة بالأستغاثة بها وبأستدعائها لمعونتنا، وبأن ثلاث مراتٍ في كل يومٍ أي صباحاً وظهراً ومساءً عند قرع الناقوس يحييها المؤمنون بالسلام الملائكي. ثم لقد كان يكفي لكي يفهم ذلك واضحاً أن يصير التأمل في أن كل مرةٍ تحدث الشدائد العمومية. فدائماً تمارس الكنيسة الطلبات والسهرات والزيحات وزيارات المعابد والأيقونات المختصة بهذه السيدة الجليلة، التي أنما تريد هي منا هذه العبادات ليس كأنها محتاجةٌ اليها، ولا تكريماً لشخصها ترغب هكذا أن ندعوها بأتصالٍ ونستغيث بها، لأن هذه جميعها هي شيء جزءي حقير بالنسبة الى شرفها ومقامها الكلي العظمة، بل لكي ينمو فينا نحوها الرجاء وحسن الأتكال وحرارة العبادة والحب، وبذلك يمكنها هي أن تسعفنا بأبلغ نوع وتعزينا. كما يقول القديس بوناونتورا هكذا: انها هي تطلب أولئك الذين يقدمون اليها بحسن عبادةٍ وبأحترامٍ لأنها تحب هؤلاء وتعولهم وتقبلهم بصفة بنين لها:.*
ثم يقول القديس بوناونتورا عينه: أن الأمرأة راعوث التي يفسر أسمها ناظرةً ومسرعةً كانت رسماً لمريم البتول، على أن مريم هذه المجيدة اذ تنظر حال شقاوتنا وذلنا وأعوازنا فتسرع مهتمة في أن تسعفنا برحمتها: وكذلك نوفارينوس يضيف الى هذا قائلاً: أن مريم لأجل رغبتها وأشواقها الى عمل الخير معنا، لا تعرف أن تتأخر أصلاً عن ذلك، ومن حيث أنها لم تكن بخيلةً في حفظها أنهامها، فبحسب كونها أم الرحمة لا تقدر أن تمسك ذاتها عن أن تسكب بكل سرعةٍ ممكنةٍ على عبيدها خزائن سخائها.*
فيا لحسن أستعداد هذه الأم الصالحة لأسعاف من يستدعيها لمعونته، كما قيل عنها: ثدياكِ كخشفي ظبيةٍ توأمين: (نشيد ص4ع5) فريكاردوس الذي من سان لورانسوس اذ يفسر هذه الكلمات يقول: أن ثديي مريم هما مهيئان لأن يفيضا بسرعةٍ لبن الرحمة لكل من يلتمسها نظير أسراع خشف الظبية: ثم أن المعلم المذكور يؤكد لدينا أن رأفة مريم تباح منها نحو كل أحدٍ يستمدها. ولئن لم يكن يستعمل هو نحوها في التماسه الرحمة تضرعاتٍ أو أبتهالاتٍ آخر سوى السلام الملائكي، ولذلك يشهد نوفارينوس بأن مريم لا تسرع فقط بل تطير ايضاً لمساعدة من يستغيث بها، فهي عند أستعمالها الرحمة لا تعرف أن تبتعد عن أن تتشبه بإلهها، فكما أن الرب يسوع كأنه طائرٌ ليعين حالاً أولئك الذين يستمدون منه الأسعاف، لأنه كلي الأمانة في أتمام مواعيده التي وعدنا بها قائلاً: أسألوا تعطوا: فهكذا مريم حينما تستدعى فحالاً توجد حاضرةً لأن تعين من يستغيث بها متضرعاً: وبهذا يفهم من هي تلك الأمرأة التي قيل عنها في الأبوكاليبسي (ص12ع14) هكذا: فأُعطيت الأمرأة جناحي نسرٍ عظيم لتطير الى البرية. فالمعلم ريبايرا يفسر ذلك بأن هذين الجناحين هما الحب الذي به مريم البتول طارت الى الله: الا أن الطوباوي أماديوس يقول: أن هذين الجناحين اللذين هما جناحا النسر يفسران السرعة الكلية التي اذ تفوق بها مريم على خفة جولان السيرافيم أنفسهم فتسعف من ثم أولادها على الدوام بمعوناتها:*
فلأجل ذلك اذ يخبرنا القديس لوقا البشير في الأنجيل المقدس، عن سفر الطوباوية مريم لزيارة نسيبتها القديسة أليصابات، ولكي تملأ تلك العيلة كلها من النعم، لم تستعمل الأبطاء في مسيرها، بل كما يقول هذا الأنجيلي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً الى الجبل الى مدينة يهوذا: (لوقا ص1ع39) الأمر الذي لا يذكر أنها فعلته عند رجوعها، ولذلك يقال عن مريم: ان يديها هما مخروطتان من ذهب: (نشيد ص5ع14) فيقول ريكاردوس: أنه كما أن الأعمال التي تمارس بواسطة صنعة الخراطة هي الأكثر سهولةً وسرعةً في أنجازها، فهكذا مريم هي الأكثر أستعداداً وسرعةً من جميع القديسين في إعانة المتعبدين لها وفي أسعافهم: فهي حاصلةٌ على أشواقٍ عظيمةٍ دائماً لتعزية الجميع، وحالما تسمع صوت من يستغيث بها، فعلى الفور تقتبل التضرع وتقضي الحاجة بكل أنعطافٍ (حسبما يقول بلوسيوس) فبالصواب اذاً يسميها القديس بوناونتورا: خلاص من يستغيث بها: مريداً أن يعني بأن من يشاء أن يفوز بالخلاص، فيكفيه أن يلتجئ الى هذه الأم الإلهية التي على قول ريكاردوس أنها تهيئ ذاتها دائماً لأسعاف من يدعوها. لأن برنردينوس البوسطي يورد: أن هذه السيدة العظيمة تشتهي أن تهبنا نعماً أشد أشتهاءً من رغبتنا نحن أن نقبل النعم لذواتنا.*
ثم أن كثرة خطايانا لا ينبغي أن تضعف رجانا في أن تستجيب مريم طلباتنا حينما نلتجئ لدى قدميها. فهي أم الرحمة، والحال أن الرحمة لا يعود لها مكانٌ عندما لا يوجد معوزون يفتقرون اليها. ومن ثم كما أن الأم الصالحة لا تأنف مستكرهةً من أن تضع دواءً شافياً لأبنها المبتلي بداء الجرب، ولئن كانت مداواته صعبةً محركةً الى الأستكراه والنفور، فهكذا أمنا هذه الحنونة لا تعرف أن تهملنا حينما نستغيث بها، ولئن كانت وافرةً هي نتانة خطايانا التي تشفينا هي منها. فهذا هو ما يورده ريكاردوس، وهذا ما قد قصدت أن تشير اليه هذه الأم الإلهية نفسها حينما أظهرت للقديسة جالتروده، كبف أنها كانت تبسط برفيرها لكي تقتبل تحت حمايتها كل من يأتي اليها، وحينئذٍ قد فهمت هي أي القديسة جالتروده أن الملائكة كافةً يهتمون في أن يحاموا عن المتعبدين لمريم ضد قوات الجحيم.*
فبهذا المقدار هي عظيمةٌ الرأفة الكائنة في قلب هذه الأم الصالحة نحونا، وهكذا هو شديدٌ الحب الذي تحبنا به، حتى انها لا تنتظر تضرعاتنا لتعيننا. فقيل في سفر الحكمة (ص6ع14): أنها هي تبادر الى من يشتهيها وتظهر لهم هي أولاً: فالقديس أنسلموس يخصص هذه الكلمات بمريم، ويقول أنها هي تسبق وتبادر لتعضد الذين يشتهون حمايتها، وبذلك يلزمنا أن نفهم أنها هي تستمد لنا من الله أنعاماً كثرةً قبل أن نطلبها نحن منها. ولهذا يقول ريكاردوس الذي من سان فيتورة: أن مريم تسمى قمراً، لأنها هي ليس فقط مثل القمر قريبةً منا وسريعة الإجابة لمن يستغيث بها، بل بأكثر من ذلك هي محبةٌ خيرنا بهذا المقدار حتى أنها في أحتياجاتنا تسبق هي تضرعاتنا، ورحمتها هي مستعدةٌ لأعانتنا أكثر من حركتنا نحن لأن نستمد منها الرحمة. وهذا أنما يصدر (يتبع قوله ريكاردوس عينه بقوله) من قبيل أن صدر مريم هو مملؤٌ من الرأفة والأشفاق. ولذلك حالما تشعر هي بأحتياجاتنا فلا يتأخر هذا الصدر السخي عن أن يفيض حالاً لبن الرحمة، لأن هذه الملكة الحنونة لا تقدر أن تعلم أفتقار نفس أحدٍ الى الأسعاف ووجودها في حال الضرر ولا تمد هي يدها لمعونتها وقضاء حاجتها.*
فهذه الأم الرأوفة من حينما كانت عائشةً على الأرض، قد أعطتنا هذا البرهان أيضاً، فيما بين البراهين الأخرى الدالة على أنها هي نفسها من شدة أشفاقها علينا تسبق، وتهتم في سد أعوازنا وأسعافنا في أحتياجاتنا قبل أن نتوسل اليها، والبرهان هو المورد عنها من القديس يوحنا الأنجيلي في الاصحاح الثاني من بشارته في خبرية عرس قانا الجليل، أي أن هذه الأم الشفوقة عندما شاهدت حينئذٍ الغم الحاصل للعروس ولعروسته، من قبل نقص الخمر من ذلك العرس اذ لم يعد لهما أستطاعة على أحضار خمرٍ آخر لأهل الوليمة بعد نهاية الخمر الأول، ومن ثم أستحوذ عليهما الخجل من المجتمعين الى العرس، فتحركت هي الى الشفقة عليهما من دون أن يلتمسا منها أعانةً ما، بل بمجرد نظرها إياهما في تلك الحال وأسرعت لأسعافهما، لأنها لا تقدر أن تشاهد أحداً معوزاً ولا تبادر لمساعدته، فلهذا توسلت الى ابنها يسوع بأن يعزيهما مخبرةً إياه بأحتياجهما وقائلةً: أن ليس عندهم خمرٌ: فبعد هذا لكي يعزي مخلصنا تلك الجمعية وبنوع خاص لكي يرضي قلب والدته المملؤ حنواً نحوهم قد صنع الأعجوبة المشهورة بأحالته الى خمرٍ الماء الموعب في الأجاجين. فهنا نوفارينوس يبرهن مستنتجاً بأنه: أن كانت مريم هي مستعدةً بهذا المقدار لأن تسعف المحتاجين الذين لم يلتمسوا منها الأعانة، كما تم في الحادث المذكور، فكم هي بأبلغ نوعٍ وبأعظم أشفاقٍ مستعدةٌ دائماً لأن تعزي من يستغيث بها. ويلتجئ اليها ملتمساً منها المعونة.*
ومن ثم البابا أينوشانسيوس الثالث يوبخ ذاك الإنسان الذي يدخله الريب في مساعدة هذه السيدة إياه مبرهناً بقوله: أترى ممكنٌ هو أن يوجد في الكون إنسانٌ ألتمس من هذه السيدة العذبة مريم المجيدة معونةً ولم تسعفه هي. وكما يقول الطوباوي أوتيكيانوس: ترى من هو ذاك الذي يلتجئ اليكِ أيتها البتول الطوباوية بأمانةٍ، ويرجع خازياً مهملاً من حمايتكِ وعنايتكِ التي تقدر أن تعين كل أحدٍ من الأشقياء البائسين. وتخلص الخطأة الميؤوسين والأكثر خطراً للهلاك. فهذا الحادث ما أتفق قط ولن يكون أبداً وهو أن ترفضي أحداً من المتكلين عليكِ. ويقول القديس برنردوس: أنني أرتضي كل الرضا بأن لا يعود يتكلم خيراً ولا يمدح رحمتكِ أيتها البتول القديسة. ذاك الذي يكون أستغاث بكِ في أحتياجاته ويفتكر بأنه لم ينل منكِ الأهتمام بقضاء حاجته، هذا أن أمكن أن يوجد إنسانٌ كذا.*
وبأشد بلاغةٍ يقول العابد بلوسيوس: أنه لأسهل هو أن تخرب السماوات والأرض، من أن مريم ترفض أن تعين من يتضرع اليها بنيةٍ صالحةٍ طالباً مساعدتها وواثقاً بها برجاءٍ ثابت: ثم أن القديس أنسلموس يضيف الى ذلك ما يزيد أتكالنا وأعتمادنا على هذه السيدة الرحومة بقوله: أننا عندما نلتجئ الى هذه الأم الإلهية يلزمنا ليس فقط أن نكون مطمأنين في مفاعيل حمايتها إيانا، بل أيضاً أننا بعض الأحيان نصدق أن طلبتنا تقبل ونفوز بالخلاص بأكثر سرعةٍ بالتجائنا الى مريم مستغيثين بأسمها المقدس، من أن نستغيث بأسم يسوع مخلصنا، والسبب في ذلك أي بمصادفتنا الخلاص بأوفر سرعةٍ بالتجائنا الى الأم مما بألتجائنا الى الابن هو، لا كأن مريم هي أكثر أقتداراً من أبنها الإلهي على خلاصنا، اذ أننا نعلم أن يسوع هو مخلصنا الوحيد، الذي بأستحقاقاته هو فقط قد أكتسب ويكتسب لنا الخلاص، بل من حيث أننا اذ نتقدم الى يسوع بأللتجاء، ونتأمل وقتئذٍ في كيف أنه هو دياننا أيضاً المختص به أن يعاقب الخائنين ناكرين الجميل. فيمكن أن ينقص فينا من ثم حسن الرجاء الضروري لنوال مطلوباتنا، الا أننا حينما نتقدم الى مريم التي لم تكن لها وظيفةٌ أخرى سوى أن تشفق علينا بحسب كونها أم الرحمة، وأن تحامي عنا بحسب كونها شفيعتنا، فيبان أن رجانا وثقتنا وأتكالنا يكون بأوفر طمأنينةٍ وبأعظم ثباتٍ: على أنه يتفق ليس نادراً أن أشياء كثيرةً تلتمس من الله فلا تعطى، وتلتمس من مريم فتعطى، فكيف يكون هذا، فيجيب نيكيفوروس: بأن هذا يحدث لا كأن مريم هي أعظم أستطاعةً وقدرةً من الله، بل لأن الله نفسه قد حكم ورسم بأن يكرم والدته على هذه الصورة.*
على أنها لذيذةٌ ومسرةٌ هي المواعيد التي وعد الرب عينه بأن يصنعها وهي أنه يقرأ في الرأس الثمانين من الكتاب الأول من الأوحية الصائرة للقديسة بريجيتا، أنه يوماً ما قد سمعت هذه القديسة يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: أطلبي مني يا أمي كل ما تريدين لأني لا أنكر عليكِ أعطاء شيءٍ ما من جميع ما تسألينه، وأعلمي أن كل أولئك الذين يطلبون مني شيئاً من النعم حباً بكِ. حتى ولئن كانوا خطأة بحيث أن تكون فيهم أرادةٌ للرجوع عن الخطيئة، فأنا أعدهم بان أستجيب لهم: وهذا نفسه قد أوحى به الى القديسة جالترودة حينما سمعت مخلصنا عينه قائلاً لوالدته، بأنه بحسب قدرته الضابطة الكل قد منح أن يستعمل الرحمة مع أولئك الخطأة الذين يستغيثون بها، بأي نوعٍ وطريقةٍ تشاء هي أستعمال الرحمة معهم. فليقل اذاً كل أولئك الذين يستدعون مريم أم الرحمة لمعونتهم برجاءٍ عظيم، ما كان يقوله نحوها القديس أوغوسطينوس هكذا: أذكري أيتها السيدة الرأوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان التعيس الأول. أي بعد أن التجئ اليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ فارغاً:*
* نموذجٌ *
فالقديس فرنسيس سالس قد أختبر في ذاته حسناً مفاعيل الصلاة المقدم ذكرها، كما يورد في الرأس الرابع من الكتاب الأول من سيرة حياته. على أن هذا القديس قد كان في السنة السابعة عشرة من عمره تقريباً مقيماً في مدينة باريس مهتماً في درس العلوم. في الوقت عينه الذي فيه كان غرامه ولذته الأنعكاف على أفعال التعبد والحب المقدس لله، الأمر الذي وجد لديه نعيماً فردوسياً على الأرض. فالباري تعالى لكي يختبره بأفضل نوعٍ ويضمه بأشد تعلقٍ نحو حبه، قد سمح بأن الشيطان يصور له مجيِّداً في عقله أن جميع ما كان هو يمارسه من الخير لم يكن يفده بتةً، من حيث أنه هو بموجب سابق علم الله وحكمه أحصي في عدد المرذولين، فتبرقع العقل واليبس الروحي اللذان تركه فيهما الله بأرادةٍ مقصودةٍ في هذا الزمن عينه، حتى أنه كان يوجد حينئذٍ هو عديم الحس في جميع التصورات الأكثر عذوبةً، التي كانت تستحضر منه في شأن خيرية صلاح الله وجوده الغير المتناهي، قد أوقعاه بزيادة الحزن، وأعطيا التجربة قوةً أعظم لأن تفعم جوف هذا الشاب مرارةً علقميةً، بنوع أنه لخوفه وأرتيابه المومى اليهما قد عدم شاهية الأكل، وفقد راحة النوم، وتغيرت سحنة وجهه، وأبتعدت عنه أمارات التعزية والفرح متى أن كل من يراه في تلك الحال لم يكن يمكنه الا يتوجع له من أجلها*
ففي مدة دوام هذه الزوبعة المهيلة لم يكن يعلم هذا القديس أن يفتكر في شيءٍ آخر أو أن يفه بكلمات أخرى سوى فيما يزيده توجعاً وغماً وضعف رجاءٍ، ومن ثم كان يقول هكذا: فاذاً أنا سأكون معدوماً نعمة إلهي الذي فيما مضى قد أظهر لي ذاته بهذا المقدار موضوعاً شهياً للحب والعذوبة، فيا أيها الحب ويا أيها الجمال اللذان أنا كرست لكما عواطف قلبي كلها فهل لا أعود أتمتع بعد بتعزياتكما، يا والدة الإله العذراء أيتها الفائقة جمالاً على بنات أورشليم كلهن. أهل أنني لا أقدر اذاً أن أشاهدكِ في الفردوس السماوي، آواه أيتها السيدة أن كنت أنا لست بعتيدٍ أن أرى وجهكِ الكلي الجمال، فقلما يكون لا تسمحي بأني في جهنم ألعنكِ وأجدف عليكِ: فهذه الأقوال كانت حينئذٍ ثمرة أنفعالات قلبٍ نعم أنه مغرم في الحب لله وللبتول الطوباوية، الا أنه مفعمٌ من الحزن الشديد. فالتجربة المذكورة قد أستمرت مستحوذةً على هذا البار مدة شهرٍ كاملٍ، الا أن الرب قد تنازل أخيراً لأن يمنجيه منها بواسطة معزية العالم مريم الكلية القداسة. التي كان قبلاً هذا القديس كرس بتوليته تكريماً لها، وكان من عادته أن يقول أنه وضع فيها رجاه كله، فيوماً ما عند رجوعه مساءً نحو مكان سكناه قد دخل الى كنيسةٍ، وهناك شاهد لوحاً معلقاً على الحائط مكتوبةً فيه الصلاة السابق ذكرها المقالة من القديس أوغوسطينوس وهي: أذكري أيتها السيدة الرأوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان الأول التعيس، أي بعد أن ألتجئ اليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ مرذولاً: فتقدم القديس فرنسيس أمام هيكل والدة الإله في تلك الكنيسة وتلى هذه الصلاة بعواطف حبٍ مضطرم، وجدد هناك نذر حفظ البتولية لهذه الأم الإلهية موعداً بأن يتلو يومياً مسبحتها الوردية. ثم أضاف الى ذلك جميعه قائلاً: كوني محاميةً عني يا ملكتي لدى أبنكِ الذي أنا لا أجسر أن التجئ اليه، فأن كنت أنا التعيس يا أمي لا أستطيع في العالم الآتي أن أحب سيدي الذي أنا أعلم أنه بهذا المقدار هو مستحقٌ أن يحب، فقلما يكون أستمدي لي أنتِ هذه النعمة وهي أن أحبه تعالى في هذا العالم أعظم حباً أقدر عليه. فهذه الموهبة أطلبها منكِ وأرجو نوالها: قال هذا وأسلم ذاته بكليتها بين يدي الرحمة الإلهية خاضعاً كل الخضوع لمشيئة الله. ولكن عندما أنهى صلواته المقدم ذكرها قد خلصته حالاً أمه الإلهية الكلية العذوبة من تلك التجربة، وفاز بالسلام الباطن تماماً ومعاً شفي من مرضه الجسدي، ومن ثم داوم مستسيراً بحسن العبادة لمريم التي بعد ذلك لم يعد يكفف مدة حياته كلها، عن أن يذيع تسابيحها ومدائحها ومفاعيل رحمتها وينذر بها في مواعظه وتأليفاته الجليلة.*
† صلاة †
يا والدة الإله ملكة الملائكة ورجاء البشر أنصتي الى من يدعوكِ وأصغي الى من يناجيكِ. فهوذا أني اليوم منطرحٌ على قدميكِ أنا الشقي المستأسر من الجحيم. مريداً أن أكرس ذاتي عبداً لكِ على الدوام موعداً بأن أخدمكِ وأكرمكِ في جميع أيام حياتي بكل أستطاعتي. فأنا ألاحظ جيداً أن عبودية أسيرٍ هكذا دنيءٍ عاصٍ مثلي لا تكرمكِ، اذ أني قد أهنت كثيراً أبنكِ ومخلصي يسوع، ولكن أنتِ اذا قبلتِ عبداً لكِ أسيراً عديم الأستحقاق، وبواسطة شفاعاتكِ غيرتِ حاله السيئة مصيرةً إياه أهلاً لخدمتكِ، فرحمتكِ هذه عينها المستعملة منكِ نحوه بهذا النوع تعطيكِ الكرامة التي أنا الحقير الذليل لا أقدر أن أكرمكِ بها. فأقبليني اذاً ولا ترفضيني يا أمي، فالكلمة الأزلي قد أنحدر من السما الى الأرض ليطلب هذه الأغنام الضالة، واذ أراد أن يخلصها قد صيركِ أمه بتجسده منكِ، أفهل أنكِ تحتقرين خروفاً من هذه الأغنام يلتجئ اليكِ لكي يجد بواسطتكِ يسوع. فالثمن قد دفع لأجل خلاصي من الأسر ولنوالي الحياة الأبدية. لأن مخلصي قد سفك دمه الذي هو كافٍ لأن يفدي عوالم غير متناهي عددها. ولم يعد باقياً سوى أن أستحقاقات هذا الدم تتخصص بي أنا أيضاً. ولكن كما يقول لي القديس برنردوس أنه متعلقٌ بكِ أيتها البتول المباركة. أن توزعي الأستحقاقات المذكورة على من تريدين. ومختصٌ بكِ كرأي القديس بوناونتورا أيضاً هو أن تخلصي من تشائين. فاذاً عينيني يا ملكتي وخلصيني يا سلطانتي، فأنا أسلمكِ نفسي الآن بجملتها. وأنتِ أفتكري في أمر خلاصها، فيا خلاص من يستغيث بكِ حسبما يقول القديس المذكور عينه أنتِ خلصيني.
الجزء الثاني
* في كم هي مقتدرةٌ مريم البتول على أن تحامي عمن يستغيث *
*بها في حين التجارب المسببة له من الشيطان*
أن مريم الكلية القداسة هي سلطانةٌ ليس على السماوات والقديسين فقط، بل على الجحيم والشياطين أيضاً، لأجل أنها أنتصرت عليهم أنتصاراً مجيداً بقوة فضائلها. فالباري تعالى منذ بدء الخليقة سبق وأخبر الحية الجهنمية بالغلبة والسلطة اللتين كانت عتيدةً ملكتنا هذه أن تفوز بهما ضدها، بأيعاذه إليها عن الأمرأة المزمع أتيانها الى العالم للأنتصار عليها، عندما قال عز وجل لهذه الحية: ولأجعلن العداوة فيما بينكِ وبين الأمرأة وفيما بين نسلكِ وفيما بين نسلها وهي تسحقُ رأسكِ (تكوين ص3ع15) فمن هي هذه الأمرأة عدوة الحية الا مريم التي بواسطة تواضعها الجميل وحياتها المقدسة قد أنتصرت دائماً على الحية وأخمدت قوتها، فيشهد القديس كبريانوس بقوله أن الوعد من الله بتلك الأمرأة كان عن والدة سيدنا يسوع المسيح، مبرهناً بأن الله لم يقل للحية قد جعلت العداوة فيما بينكِ وبين الأمرأة ليفهم بها حواء بل قال لأجعلن العداوة قولاً يخص المستقبل، ليبين لها أن هذه العداوة لم تكن مع حوا التي كانت وقتئذٍ في الوجود، بل مع أمرأةٍ أخرى عتيدة أن تولد من نسل حواء وتجلب للأبوين الأولين خيراً أعظم من الذي خسراه بخطيتهما: كما يقول القديس فيخانسوس فراري، فمريم اذاً هي تلك الأمرأة العظيمة القوية الشجاعة التي غلبت الشيطان، وسحقت رأسه بأخماد كبرياه كقوله تعالى عنها: وهي تسحق رأسكِ: فبعض المفسرين يرتابون في أن كانت هذه الكلمات قيلت عن مريم أم عن يسوع المسيح، لأن السبعين مترجماً قد كتبوا: ونسلها يسحق رأسكِ: الا أنه يوجد عندنا في النسخة العامة (التي هي مثبتة من المجمع التريدنتيني) كما قلنا أعلاه أي: وهي تسحق رأسكِ: وهكذا فهم معناها القديسون أمبروسيوس وأيرونيموس وأوغوسطينوس ويوحنا فم الذهب وغيرهم كثيرون جداً. ولكن هب أن الأمر هو كما يريد البعض الآخرون أي: نسلها يسحق رأسكِ: فالمعنى هو واحدٌ لأنه سواء كان المسيح بواسطة هذه الأمرأة أمه سحق رأس الحية أو أن مريم بقوة أبنها المسيح سحقته، فمن دون ريبٍ أن لوسيفوروس المتعجرف بالتغطرس قد غلب مقهوراً وسحقت هامته مكسورةً من هذه البتول مريم المباركة، التي فازت عليه بالأنتصار التام حسبما يقول القديس برنردوس، ومن ثم نظير أسيرٍ مأخوذٍ في الحرب هو مضطرٌ جبراً عن مشيئته لأن يخضع لأوامر هذه الملكة، ثم يقول القديس برونونه: أن حواء بواسطة أنغلابها من الحية قد جلبت لنا الموت والظلمات. الا أن البتول الطوباوية بأنتصارها على الشيطان قد جلبت لنا الحياة والنور، وقد ربطت الشيطان بنوع أنه ما عاد يقدر أن يتحرك لفعل أدنى ضررٍ للمتعبدين لها.*
فحسناً يفسر ريكاردوس الذي من سان لورانسوس تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (ص31ع11) عن الأمرأة الشجاعة وهي: أن قلب رجلها يثق بها ولا يحتاج الى غنائم، من هذه الحال حالها لن تعوزها ذخائر تملكها. فيقول: أن الله قد أستودع في يد مريم قلب يسوع لكي تهتم هي في أن تصير البشر أن يحبوه كما يفسر كورنيليوس، وبهذا النوع لن تعوزه ذخائر يملكها أي أكتساب الأنفس، لأنها هي تغنيه بكثرة الأنفس اللواتي كان الجحيم أغتنمهن لذاته بتخليصها إياهن بقوة مساعدتها المقتدرة.*
فأمرٌ معلومٌ هو أن أغصان النخل هي علامة الأنتصار، فلهذا قد وضعت ملكتنا في عرشٍ عالٍ لتشاهد من جميع السلطات نظير نخلةٍ، علامةً للغلبة الأكيدة التي يمكن لجميع الذين هم تحت حمايتها أن يعدوا بها ذواتهم، ولهذا قيل عنها في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع18): كمثل النخلة أرتفعت في قادس: لكي أحامي حقاً عنكم: حسبما يضيف الى ذلك الطوباوي البرتوس الكبير (كأن مريم تقول نحونا): أنه حينما يثب عليكم الشيطان يا أولادي ليحاربكم فألتجئوا اليَّ وأنظروني وتشجعوا، لأنكم تشاهدون بي أنا المحامية عنكم حقيقة أنتصاركم: فمن ثم أن الألتجاء الى مريم هو واسطة كلية الأمن للفوز بالغلبة على قوات الجحيم كلها: من حيث أنها (كما يقول القديس برنردينوس السياني) هي ملكة الجحيم أيضاً وسيدة الشياطين، لأنها هي التي تحاربهم وتغلبهم، ولهذا قد سميت هذه الملكة: مخيفةً كالصفوف المرتبة (نشيد ص6ع3) فهي مخيفةٌ مرعبةٌ لسلطات الجحيم، وهي كالصفوف المرتبة لأنها تعلم أن ترتب حسناً سلطانها وأقتدارها ورحمتها وتضرعاتها، لخذل الأعداء وإبادتهم. ولأنتصار عبيدها ونجاحهم وأسعافهم، عندما يلتجئون إليها. خاصةً حينما تحاربهم التجارب مستغيثين بها وملتمسين عونها.*
ثم أن الروح القدس يجعل مريم متكلمةً هكذا: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحة طيبةً: (ابن سيراخ ص24ع23) فيقول القديس برنردوس في تفسيره هذا النص: أنه كما أن الحيات والأفاعي تهرب من الجفنة، فهكذا الشياطين يهربون من تلك النفس السعيدة التي هم يشعرون برائحة تعبدها لمريم، ولهذا تسمى أيضاً هذه الملكة أرزاً كما قيل عنها: كالأرز أرتفعتِ في لبنان. (ابن سيراخ ص24ع17) وذلك ليس فقط من حيث أن قلب شجر الأرز هو سالم من الفساد والسوس، كما وجدت مريم معصومةً من الخطيئة، بل أيضاً لأنه كما أن رائحة الأرز تجعل الحيات أن تهرب بعيداً، فهكذا مريم بواسطة قداستها تصير الشياطين أن يهربوا: حسبما يقول الكردينال أوغون في تفسيره الكلمات المذكورة.*
ففي بلاد اليهودية قد كانت تحصل الأنتصارات للشعب الاسرائيلي بواسطة تابوت العهد. ومن ثم كان موسى النبي ينتصر على الأعداء بقوله عندما كان يرفع هذا التابوت: قم يا رب ولتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمام وجهك: (سفر العدد ص10ع35) وعلى هذه الصورة قد فاز بنوا اسرائيل بالأنتصار على مدينة أريحا ثم على الشعوب الفلسطينيين فيما بعد: لأن هناك تابوت الله يومئذٍ كان معهم: (سفر الملوك الأول ص14ع18) فأمرٌ معلومٌ لدى الجميع هو أن تابوت العهد قد كان رسماً لمريم العذراء لأنه (يقول كورنيليوس الحجري) كما أن هذا التابوت كان يحوي ضمنه المن، ومثله ضمن مريم يوجد يسوع الذي نظير ذلك كان المن رسماً له، فبواسطة هذا التابوت (الذي هو مريم) يعطى الأنتصار على الأعداء الذين هم في الأرض والذين هم في الجحيم ولهذا يقول القديس برنردينوس السياني: أن مريم التي هي تابوت العهد الجديد حينما أرتفعت الى مقام ملكة السماء فوقتئذٍ ضعفت سلطة الجحيم على البشر وغُلبت.*
فكم من الخوف والهلع يعتري الشياطين، وكم ترتعد أرتجافاً من مريم المجيدة ومن ذكر أسمها العظيم قوات الجحيم. كما يقول القديس بوناونتورا. فهذا القديس يقابل هؤلاء الأعداء ممثلاً إياهم بأولئك الأعداء المذكورين من أيوب البار بقوله: أنهم في الظلام ينقبون البيوت كما تواعدوا بالنهار ولم يروا النور، وأن طلع الصبح سريعاً فيحسبونه ظلال الموت ويسلكون في الظلمة كأنها هي نور (أيوب ص24ع16وع17) أي أن السارقين يذهبون في ظلام الليل ليسرقوا البيوت، ولكن متى أشرق ضياء الصبح فيهربون كما لو تكون ظهرت لهم صورة الموت وظله: فهكذا أن الشياطين (يقول القديس بوناونتورا) يدخلون الى النفس في وقت الظلام أي حينما توجد النفس مظلمةً بالجهل، ولكن حالما تأتي الى تلك النفس نعمة مريم ورحمتها، فنجمة الصبح هذه الجليلة تزيح الظلمات وتصير الأعداء الجهنميين أن يهربوا مدبرين من النفس كمن ظلال الموت، فاذاً مغبوطٌ هو ذاك الذي في وقت معركته مع قوات الجحيم يستغيث بإسم مريم العظيم.*
ثم أنه مطابقةً لما تقدم ذكره قد أوحي الى القديسة بريجيتا بأن الله قد وهب مريم قوةً بهذا المقدار شديدةً على الشياطين، حتى أنه في كلٍ من الأوقات التي فيها هؤلاء يحاربون أحد عبيدها بالتجار، وهذا يستغيث بأسمها، فعلى أية إشارةٍ تعطيها هي ضدهم يهربون حالاً بعيداً مرتجفين هلعاً. ويرتضون بالأحرى بأن تتضاعف عليهم العذابات عاجلاً من أنهم يشاهدون ذواتهم مطرودين من مريم بقوةٍ هكذا عظيمة*
أما كورنيليوس الحجري، ففي تفسيره الكلمات التي بها العروس الإلهي يمدح في سفر النشيد عروسته هذه المحبوبة قائلاً: كمثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات (ص2ع2) يتفلسف مبرهناً بقوله: كما أن زهرة السوسن هي دواءٌ قويٌ ضد الحيات والسموم. فهكذا أن أستدعاء أسم مريم هو دواءٌ فريد المنفعة للأنتصار على جميع التجارب، لا سيما المضادة العفة. حسبما يختبر ذلك بالعمل برأيٍ عامٍ كل أولئك الذين يستعملونه:*
والقديس يوحنا الدمشقي (في تكلمه على البشارة بسر التجسد) يقول: أنني اذ كنت وطيد الرجاء فيكِ يا والدة الإله، فمن دوون ريبٍ أنا مخلصٌ ويمكنني أن أطرد أعدائي مهزماً لحصولي على عنايتكِ ومعونتكِ الكلية الأقتدار بمنزلة ترسٍ، فكذلك يستطيع أن يقول كل من يكون حاصلاً على السعادة بتعبده لهذه الملكة العظيمة: أنني اذا دعوتكِ مترجياً بكِ يا والدة الإله فمن المؤكد أنا لا أغلب من أعدائي، لأني اذ أكون معضداً بحمايتكِ. فأجري في أثر هؤلاء الأعداء طارداً، ولكوني أضع ضدهم مساعدتكِ إياي ومعونتكِ الكلية الإقتدار نظير الترس المنيع، فمن دون ريبٍ أنا أنتصر عليهم غالباً. وكما يقول أحد آباء الروم العلماء يعقوب الراهب (في عظته على ميلاد البتولة) مخاطباً للرب في شأن مريم هكذا: فأنتَ يا سيدي قد أعطيتنا هذه الأم سلاحاً كلي القدرة الذي بواسطته نحن ننتصر بتأكيدٍ على أعدائنا أجمعين.*
ثم أن العدد الحادي والعشرين من الاصحاح الثالث عشر من سفر الخروج يخبرنا بأن الله في أقتياده الشعب الاسرائيلي من مصر الى أرض الميعاد: كان يتقدمهم بعمود غمامٍ نهاراً ليظهر الطريق وبعمود نارٍ في الليل، وما فقد عامود الغمام نهاراً ولا عمود النار ليلاً قدام كافة الشعب: فيقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن في هذا العامود الكائن تارةً عمود غمامٍ وتارةً عمود نارٍ الذي في الحالتين كان رسماً لمريم، توجد الوظيفتان المستعملتان على الدوام من هذه الأسطوانة العظيمة مريم في خيرنا، فهي كعامود غمامٍ تحمينا من حرارة ونار غضب العدل الإلهي، وكعمود نارٍ تحامي عنا ضد وثبات الشياطين: ويضيف الى ذلك القديس بوناونتورا: أنها هي عمود نارٍ، لأنه كما أن الشمع يذوب من أمام وجه النار، فهكذا الشياطين يفقدون قوتهم ضد أنفس أولئك الذين مراتٍ مترادفةً يذكرون أسم مريم ويستغيثون به بعبادةٍ، وبنوع أفضل اذا أهتموا في أن يقتدوا بنموذجاتها:*
ويؤيد ذلك القديس برنردوس بقوله: أن الأبالسة يرتعدون هلعاً ويرتجفون أرتعاشاً من مجرد سماعهم ذكر أسم مريم المجيدة: ويضيف الى هذا توما الكامبيسى قائلاً: أنه نظير ما يحدث للبشر أن يسقطوا مطروحين في الأرض اذا أنقضت صاعقةٌ من السماء غائصةً في الأرض بالقرب منهم، فعلى هذه الصورة تسقط الشياطين مغلوبين حالما يسمعون التلفظ بأسم مريم، فكم وكم حصل المتعبدون حسناً لهذه السيدة على أنتصاراتٍ غريبةٍ مجيدةٍ ضد هؤلاء الأعداء عند أستغاثتهم بأسمها الكلي القداسة، فبهذا الأسم قد غلب أعداه الجهنميين القديس أنطونيوس البدواني، ومثله الطوباوي أريكوس صوسونه مع آخرين كثيرين، من المغرمين بمحبة هذه السيدة. ثم لشهيرٌ هو في تاريخ الرسالة الى بلاد الجامبون: أنه مرةً قد ظهر لأحد المسيحيين هناك عددٌ عظيمٌ من الشياطين بصورة وحوشٍ ضارية مخيفة جداً متهددين اياه بالأفتراس، الا أن هذا المسيحي قد أجاب وقال لهم هكذا: أنه لا توجد معي أسلحةٌ ما التي أنتم تخافون منها مرتعدين، فأن كان الله قد سمح لكم بضرري فأفعلوا بي ما يحسن عندكم، غير أني أنما أستعمل بالمحاماة عن نفسي ضدكم الأسمين الكلية عذوبتهما. وهما أسما يسوع ومريم: فحالما هو تلفظ بهذين الأسمين المجيدين، واذا بالأرض قد أنفتحت وأبتلعت في قلبها تلك الأرواح المتعجرفة. والقديس أنسلموس يشهد بأنه بالأمتحان العملي قد شاهد كثيرين وسمع عن غيرهم، بأنهم عند أستغاثتهم بأسم مريم قد نجوا حالاً من الأخطار التي داهمتهم*
أما القديس بوناونتورا ففي مزموراته المختصة بالبتول الطوباوية يقول هكذا: أن أسمكِ العظيم يا مريم هو مجيدٌ في الغاية ومحبوبٌ جداً، فأولئك الذين يفكرون بأن يتلفظوا به في ساعة موتهم لا يخافون من الجحيم بجملته، لأن الشياطين عند سماعهم تسمية مريم يتركون حالاً تلك النفس، ويضيف الى ذلك بقوله: أنه لا يؤثر خوفاً في قلوب العساكر المحاربين على وجه الأرض خبر مجيء أعدائهم، بجيوشٍ عظيمة العدد والقوة والأسلحة ضدهم، بمقدار ما يؤثر من الخوف في قلوب قوات الجحيم ذكر أسم مريم وأقتدارها. ويقول القديس جرمانوس: أنكِ أيتها السيدة تجعلين عبيدكِ أمينين مطمأنين من غوائل وثبات العدو كلها، وذلك بمجرد أستدعائهم أسمكِ الكلي الأقتدار: فيا حبذا لو كان المسيحيون يستمرون منتبهين على أن يستغيثوا برجاءٍ وثقةٍ في حين هجوم التجارب ضدهم بأسم مريم، اذ أنهم بذلك ينجون حتماً وتأكيداً من السقوط بالخطيئة، لأن الطوباوي الأنوس يقول: أن الهتاف بهذا الأسم العظيم يرعب الشيطان مهزماً ويرتجف الجحيم مرعداً. بل أن والدة الإله نفسها قد أوحت الى القديسة بريجيتا، بأن العدو الجهنمي يغرب حالاً هارباً بعيداً عن أنفس أولئك الذين كانوا تحت حوزته، ولو مهما وجدوا من الخطأة الأشد تعاسةً، والأكثر بعداً عن الله، والأوفر دنواً من الهلاك، والأقوى أسراً لهذا العدو عينه، وذلك حالما يسمعهم يستغيثون بأسم مريم ذي الأقتدار طالبين معونتها بنيةٍ حقيقيةٍ على عدم الرجوع الى الخطيئة، غير أن تلك النفس (كقول والدة الإله عينها في الوحي المومى اليه) أن كانت لا تنفي ذاتها وتنزع عنها الخطيئة بواسطة الندامة والتوجع، فالشياطين من دون تأخيرٍ يرجعون اليها ويجددون أخذ التملك عليها كما كانوا قبلاً.*
* نموذجٌ *
قد كان في مدينة راجيسبارجيوس أحد طغمة الأكليروس المدعوين: تابعي القانون: أسمه أرنولدوس جزيل التعبد لوالدة الإله الطوباوية، فهذا عندما دنا من ساعة الموت قد تناول الأسرار المقدسة، وتوسل الى ذوي جمعيته بالا يهملوه في ذاك الوقت الأخير، فعما أنهى كلماته معهم واذا به قد أستحال الى حالٍ أخرى بحضورهم، مملؤة من القلق والأضطراب والأرتعاش. مكدوداً بعرقٍ باردٍ، ثم بصوتٍ مرتجفٍ صرخ نحوهم قائلاً: أما تنظرون هؤلاء الشياطين المريدين أن يختطفوني الى جهنم. ثم بعد ذلك عج صارخاً بقوله: يا أخوتي أستغيثوا لأجلي بأسم مريم وأستمدوا لي منها المعونة، لأني أرجو منها أن تهبني الأنتصار والغلبة الكاملة فعند ذلك أبتدأ الحاضرون لديه بتلاوة طلبة العذراء المجيدة، وحين قولهم: يا قديسة مريم صلي لأجله: هتف المنازع نحوهم قائلاً: كرروا كرروا ذكر أسم مريم لأني الآن قد دنوت من المحكمة الإلهية، ثم بعد أم هجع قليلاً قال: أي نعم أنني فعلت ذلك. ولكن صنعت عنه توبةً: وفي غضون هذا القول التفت نحو البتول القديسة قائلاً: يا مريم أنا أخلص ناجياً أن كنت تعينيني، فبعد ذلك بزمنٍ ما قد وثبت عليه الشياطين من جديد محاربين إياه بالتجارب، الا أنه كان هو يحامي عن نفسه برسم الصليب المقدس، وبأستغاثته بمريم البتول، وعلى هذه الصورة أجتاز كل تلك الليلة، فلما أشرق ضياء الفجر فأرنولدوس أمتلأ تعزيةً وأبتهاجاً وصرخ قائلاً: أن مريم سيدتي وملجأي قد أستمدت لي الغفران والخلاص: وبعد هذا اذ كان متفرساً في الطوباوية الداعية إياه لأن يتبعها قال لها: أني آتي يا سيدتي آتي وراكِ، وكان يغتصب ذاته لينهض من على الفراش، ولكن اذ لم يمكنه أن يتبعها بالجسد، فحالاً رقد بهدوٍ وسلامٍ وهكذا أتبعها بالنفس الى الملك السماوي كما نؤمل*
† صلاة †
هوذا أنا الخاطئ المسكين طريحٌ على قدميكِ يا مريم رجائي. بعد أني مراتٍ كثيرةً حصلت بخطاياي أسيراً للشيطان والجحيم، فأنا أعلم جيداً أني أهملت ذاتي أن أُغلب من إبليس المحال لعدم ألتجائي اليكِ يا ملجأي، لأني لو كنت دائماً أهرب الى حمايتكِ، وأستغثت بأسمكِ لما كنت سقطت أصلاً، الا أنني أرجو يا سيدتي المحبوبة في الغاية أن أكون بواسطتكِ قد خرجت من حوزة الشيطان وملائكته وأن يكون الله جاد عليَّ بالغفران. ولكنني أرتعد خائفاً من أن أسقط جديداً في المستقبل ضمن قيود أعدائي الشياطين، لأني أعرف أنهم ما قطعوا أملهم من أن ينتصروا عليَّ ثانيةً. وهوذا هم يعدون لي تجارب وأمتحاناتٍ جديدةً ليثبوا عليَّ بها. فيا ملكتي وملجأي عينيني تحت ذيل برفيركِ، ولا تسمحي بأن تشاهديني مرةً أخرى ساقطاً في أسرهم، فأنا أعلم أنكِ تسعفيني وتهبيني الأنتصار عليهم طالما أنا أستغثت بكِ، ومن هذا القبيل أنا لا أخشى، ولكني أخاف من أن أنسى في حين هجوم التجارب عليَّ أن أستدعيكِ لمعونتي، فاذاً أنما الآن أتضرع اليكِ بأن تمنحيني هذه النعمة التي أريدها منكِ أيتها البتول الكلية القداسة، وهي أن أفتكر فيكِ دائماً لا سيما حينما أوجد في ميدان المعركة، فأجعليني أن لا أهمل حينئذٍ أن أدعوكِ مراتٍ مترادفةً قائلاً، يا مريم عينيني، ساعديني يا مريم. وأخيراً عندما يكون بلغ اليوم النهائي لنجاز حربي مع الجحيم أي ساعة موتي، فوقتئذٍ أسعفيني يا سيدتي بأبلغ نوع. وأنتِ نفسكِ ذكريني في أن أستغيث بكِ بأكثر أتصالٍ. أما بفمي وأما بقلبي، حتى اذا ماأسلمت روحي في حال وجود أسم أبنكِ يسوع الكلي القداسة وأسمكِ الكلي الحلاوة في فمي.
فأستطيع أن آتي أمام قدميكِ لأبارككِ
وأمدحكِ من دون أن أنفصل عنكِ
الى الأبد آمين.*

Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:31 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
الفصل الخامس: نحوك نتنهد نائحين وباكين في - كتاب امجاد مريم


الفصل الخامس
†فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: نحوكِ نتنهد نائحين وباكين في †
†*هذا الوادي، وادي الدموع*†
*وفيه جزءان*
الجزء الأول
في عظم أحتياجنا الى شفاعة مريم البتول في شأن
*خلاصنا الأبدي*
أن الأستغاثة والتضرع الى القديسين، وبنوعٍ خاص الى سلطانتهم كافةً مريم الكلية القداسة، لكي يستمدوا لنا من الله نعمه الإلهية هو شيء ليس فقط جائزٌ بل أيضاً مفيدٌ حميدٌ مقدسٌ، وهذه هي قاعدةٌ من قواعد الإيمان محددةٌ في المجامع المقدسة، ضد الأراتقة الذين يرفضونها كأنها ذات إفتراءٍ على يسوع المسيح الذي هو الوسيط الوحيد فيما بيننا وبين الله أبيه، على أنه أن كان أرميا النبي بعد موته بسنين هكذا عديدة صلى أمام الله، متضرعاً من أجل خلاص مدينة أورشليم من يد نيكانور قائد جيوش الملك ديمتريوس، كما هو مدون في الاصحاح الخامس عشر من سفر المكابيين الثاني، وأن كانت الشيوخ المذكورون في سفر الأبوكاليبسي يقدمون لله صلوات القديسين، وأن كان الطوباوي بطرس الرسول وعد تلاميذه بأن يذكرهم بعد موته، والقديس أستفانوس صلى من أجل مضطهديه. والقديس بولس تضرع من أجل رفاقه، وبالأجمال أن كان القديسون يستطيعون أن يصلوا من أجلنا. فكيف لا نقدر أن نتوسل اليهم لكي يتضرعوا من أجلنا لدى الله. فالقديس بولس يطلب من تلاميذه أن يصلوا لأجله قائلاً: يا أخوتي صلوا عنا: (تصالونيكيه أولى 5ع25) والقديس يعقوب الرسول يحرض المؤمنين على أن يصلي بعضهم من أجل بعضٍ بقوله: وليصلي بعضكم على بعضٍ لتخلصوا: (يعقوب جامعه ص5ع16) فاذاً نحن أيضاً يمكننا أن نصنع ذلك.*
فأي نعم أنه لا ينكر أحدٌ أصلاً أن يسوع المسيح هو وسيط العدل الوحيد، الذي بواسطة أستحقاقاته قد أكتسب لنا المصالحة مع الله، ولكن بالضد منكرةٌ هي بل أثمةٌ نفاقيةٌ هذه القضية وهي، أن الله لا يتنازل لأن يهب أنعامه قبولاً منه لتضرعات القديسين، لا سيما والدته مريم الكلية القداسة، التي يرغب فادينا يسوع رغبةً عظيمةً أن يراها محبوبةً ومكرمةً من كل أحدٍ، فترى من يمكنه أن يجهل أن الكرامات التي تعطى للأمهات هي راجعةٌ للبنين كما هو مكتوب: أن فخر الأولاد هو أباؤهم: (أمثال ص17ع6) فمن ثم يقول القديس برنردوس: لا يفكر أحدٌ بأن من يمدح كثيراً الأم فيظلم أشراق مجد الأبن، لأنه بمقدار ما تعظم الأم فبأكبر من ذلك يمدح الأبن: ويقول القديس أيدالفونسوس: أن الكرامات بأسرها التي تتقدم للأم وللملكة فهي راجعةٌ للأبن وللملك، على أنه لا يرتاب أحدٌ في أنه بقوة أستحقاقات يسوع قد أعطى لمريم أستطاعةٌ عظيمةٌ جداً على أن تكون هي وسيطة في أمر خلاصنا، لكن لا وسيطة العدل بل وسيطة النعمة والشفاعة، فبهذه الصفة بالحصر يسميها القديس بوناونتورا بقوله: أن مريم هي وسيطة خلاصنا الأمينة: والقديس لورانسوس يوستينياني يقول: كيف لا تكون ممتلئةً نعمةً التي هي سلم الفردوس، وهي باب السماء وهي الوسيطة الحقيقية فيما بين الله والبشر.*
فلهذا حسناً ينبه القديس أنسلموس بأنه حينما نحن نتوسل الى العذراء المجيدة في أن تستمد لنا النعم، لا نيأس من الرحمة الإلهية، بل بالأحرى أننا نيأس من أستحقاقنا، ونتضرع الى مريم لكي تستعمل علو شأنها ورتبتها العظيمة في عيني الله، متممةً نقص أستحقاقنا نحن الأذلاء الحقيرين:*
فاذاً لا ريب ولا أشكال في أن الألتجاء الى شفاعة مريم البتول سوى شيءٌ مفيدٌ ومقدسٌ، ولا ينكر ذلك الا أولئك الذين نقص منهم الإيمان، غير أن الشيء الذي نحن ههنا نهتم في أثباته هو، أن شفاعة مريم هي ضروريةٌ أيضاً لأمر خلاصنا. ولكن لكي نتكلم كما يجب فنقول أن شفاعتها هي ضروريةٌ لخلاصنا لا ضرورةٍ مطلقةٍ، بل بضرورةٍ أدبيةٍ، مبرهنين بأن هذه الضرورة الأدبية هي صادرةً عن إرادة الله نفسه، الذي شاء أن النعم كلها التي هو يوزعها بسخائه الإلهي تجتاز الينا عن يد مريم. كما يرتأي القديس برنردوس، وهذا الرأي يمكن حسناً أن يقال عنه أنه هو الآن رأيٌ عموميٌ فيما بين اللاهوتيين والعلماء كما يسميه رأياً عاماً مؤلف الكتاب الملقب: مملكة مريم: وقد أعتنق الرأي المذكور العلماء فاغا، وماندوتسا، وباجيوكالى، والسنيري، وبواره. وكواسات، مع لاهوتيين آخرين ماهرين لا يحصى عددهم، حتى أن الأب ناطاليس أسكندر الرجل العلامة المدقق جداً في تعاليمه وإيراداته، يقول هو عينه في الرسالة السادسة والسبعين من المجلد الرابع من لاهوته النظري: أن إرادة الله هي أن النعم كلها نحن ننتظرها بواسطة شفاعة مريم البتول الكلية الأقتدار التي نحن نستغيث بها. ثم أنه يستشهد في تأييد هذا الرأي كلمات القديس برنردوس الشهيرة وهي قوله: هكذا هي إرادة الله أن كل شيءٍ نحن نفوز به فنناله بواسطة مريم. وهذا نفسه يرتئيه الأب كونتانصونه، وذلك في تفسيره كلمات يسوع المسيح التي قالها لتلميذه الحبيب يوحنا وهو على الصليب أي: ها أمك: وكأنه يقول أنه ليس أحدٌ يشترك بأستحقاق دمي مستفيداً الا بشفاعة أمي، فجراحاتي هي ينابيع النعم ولكنها لا تتصل هذه الينابيع الا بواسطة مريم أمي التي هي القناة. وأنت يا يوحنا تلميذي ستكون محبوباً مني بمقدار المحبة التي أنت بها تحبها:*
فهذه القضية أي أن كل الخيرات التي تتصل الينا من الرب، فتأتي علينا كافةً بواسطة مريم، لم تكن مرضيةً جداً لمعلمٍ من المحدثين الذي ولئن كان يتكلم بحسن ديانةٍ، وبقواعد علميةٍ في تمييزه العبادات الصادقة من الباطلة. فمع ذلك اذ يتعاطى الكلام عن العبادة المختصة بهذه الأم الإلهية، فقد أظهر على ذاته البخل الزائد في أن لا يخصص هذه البتول القديسة بصفةٍ هي مجيدةٌ لها، مع أن القديسين جرمانوس، وأنسلموس، ويوحنا الدمشقي، وبوناونتورا، وأنطونينوس، وبرنردينوس السياني، ثم الأنبا كالاس المكرم، مع علماء آخرين كثيرين لم يجدوا أدنى صعوبة في أن يخصصوها بها بقولهم، أنه لأجل السبب المذكور آنفاً، فشفاعة مريم البتول المجيدة ليس فقط هي مفيدةٌ للخلاص، بل أيضاً هي ضروريةٌ أدبياً لنواله، أما المعلم المنوه عنه فيقول أن قضيةً هذه صفتها وهي، أن الله لا يمنح نعمةً ما الا بواسطة مريم العذراء هي قضيةٌ متسعةٌ جداً غير محدودةٍ. وهي نوعٌ من المبالغة قد جاءت على أفواه البعض من القديسين بحرارة عبادتهم، وأننا اذا أردنا أن نفهم معنى قولهم بنوعٍ مستقيمٍ، فيمكن من هذا القبيل فقط أن تصدق كلماتهم، وهو من كوننا بواسطة مريم، قد حصلنا على يسوع المسيح متجسداً، الذي بأستحقاقاته نحن نقتبل جميع النعم، والا فعلى زعمه أنه لضلالٌ هو الأعتقاد بأن الله لا يقدر أن يعطي النعم من دون تضرعات مريم، لأن الرسول بولس يقول: أن الله واحدٌ هو والوسيط بين الله والناس واحدٌ هو الإنسان يسوع المسيح (تيموتاوس أولى ص2ع5) فهذا ما قاله المعلم المحدث المشار اليه*
غير أني بروح السلام ذاته الذي هو يعلمني به في كتابه عينه أجاوبه بأنه شيءٌ هو وسيط العدل بقوة الأستحقاقات، وشيءٌ آخر هو وسيط النعمة بطريقة التضرع والشفاعة، وكذلك شيءٌ هو القول أن الله لا يقدر أن يعطي النعم من دون شفاعة مريم البتول، وشيءٌ آخر هو القول أنه لا يريد تعالى أن يمنحها من غير شفاعتها، فنحن نعترف جيداً بأن الله هو ينبوع كل خيرٍ، وأن الرب هو حرٌّ مطلقٌ في منح النعم، وأن مريم العذراء لم تكن وليست هي شيئاً آخر سوى خليقةٍ محصنةٍ، وبأن كل ما تناله هي من الله فأنما تناله نعمةً مجانيةً منه عز وجل، ولكن ترى من يمكنه أن ينكر أنه أمرٌ صوابيٌ عادلٌ لائقٌ جداً هو القول، أن الله لكي يرفع شأن هذه المخلوقة الجليلة، التي قد كرمته وأحبته في مدة حياتها أكثر من المخلوقات كلها، وأنه جلت خيريته اذ أنتخب هذه البتول القديسة أماً حقيقيةً بالجسد لأبنه الوحيد والمخلص العام. فيريد أن النعم كلها التي يهبها للأنفس المفيداة بدم أبنه عينه تتوزع بواسطة هذه الأم الإلهية. ثم أننا نعترف حقاً بأن يسوع المسيح هو وسيط العدل الوحيد حسبما بينا آنفاً، وأنه بأستحقاقاته الغير المتناهية قد أكتسب لنا النعم والخلاص، ولكن نحن نقول أن مريم هي وسيطة النعمة، وأنه ولئن كان جميع ما تناله هي فأنما تناله بقوة أستحقاقات يسوع المسيح، فمع ذلك كل النعم التي نحن نلتمسها نحصل عليها بواسطة شفاعة هذه السيدة.*
ففي هذا الرأي لا يوجد بالحقيقة شيءٌ مضاد للقضايا الدينية المقدسة، بل بالأحرى هو مطابقٌ لها بكل أجزائه، وهو حسب تعليم الكنيسة التي في صلواتها المشاعة المثبتة منها تعلمنا بأن نلتجئ بأتصالٍ الى هذه الأم الإلهية، وبأن نستغيث بها. وبأن ندعوها: شافية المرضى: ملجأ الخطأة: معونة المسيحيين: حياتنا: رجانا: ثم من حيث أن الكنيسة عينها في صلوات الفرض الإلهي المرسومة تلاوته في أعياد مريم البتول، تخصصها بالكلمات المدونة في الكتاب الإلهي عن الحكمة، فبهذا تعلمنا أننا في مريم نحن نجد كل رجاءٍ: فيَّ أنا كل رجاء حياةٍ وفضيلة: في مريم كل نعمةٍ: فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ: وبالأجمال في مريم الحياة والخلاص الأبدي: من شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية: أن الذين يعملون بي لا يخطئون: من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عند الرب. فهذه كلها هي أشياء توضح لنا الضرورة التي من أجلها نفتقر الى شفاعة مريم من أجلنا (وهي مسجلة في الاصحاح الرابع والعشرين من سفر حكمة ابن سيراخ وفي الاصحاح الثامن من سفر الأمثال).*
فهذا هو ذاك الرأي الذي يوطدنا فيه آباء قديسون كثيرون جداً، وعلماء لاهوتيون جزيلوا العدد، ولذلك ليس هو عادلاً قول المعلم الحديث المشار اليه آنفاً، وهو أن البعض من القديسين لكي يرفعوا شأن مريم أوردوا هذه القضية الواسعة الغير المقيدة، وأنها جاءت في أفواههم كألفاظ مبالغةٍ، والحال أن ذلك يوجب الزيغان عن الحق الأمر الذي لا يجب أن نقوله عن أنامٍ قديسين قد تكلموا بروح الله الذي هو روح الحق. وهنا فليسمح لي بأن أدخل حاشيةً مختصرةً موضحاً بها رأيي. وهو أنه حينما يوجد رأيٌ أو حكمٌ يكون راجعاً لكرامة البتول مريم الكلية القداسة، ويكون له أساسٌ ما، ولا يتضمن تضاداً ما لا لقواعد الإيمان، ولا لمراسيم الكنيسة الجامعة وأوامرها، ولا للحق، فعدم التمسك بتلك الحكومة أم الرأي، أو مقاومته سنداً على أن الرأي المضاد يمكن أن يكون حقيقياً. فهذا يعلن قلة العبادة لوالدة الإله. أما أنا فلا أريد أن أكون من عدد هؤلاء الأشخاص القليلي العبادة لها، وأشتهي أن لا تكون ولا أنت أيها القارئ العزيز من مصافهم، بل بالأحرى أن تكون من عدد أولئك الذين يعتمدون بثبات العزم وبملو التصديق على كل شيءٍ يمكن من دون ضلالٍ أو غلطٍ أن تعتقد به في شأن تمجيد مريم وتكريمها، كما يتكلم عن ذلك الأنبا روبارتوس الذي يضع فيما بين التكريمات المقبولة من هذه الأم الإلهية، الأعتقاد بثباتٍ في كل ما يلاحظ عظمتها ومجدها. على أنه اذا لم يكن عندنا نموذجٌ آخر في أن نمدح مريم المجيدة بتقريظاتٍ وتكريماتٍ ما، ونكون أمينين من الخوف من أن نتجاوز بذلك الحدود الواجبة، فيكفينا نموذج الأب العظيم فيما بين آباء الكنيسة الجامعة، وهو القديس أوغوسطينوس الذي يقول: أننا حينما نورد في مديحنا مريم كل شيءٍ ممكن أن يقال من المديح والوصف والتقريظات والتكريمات، فهذا جميعه هو قليلٌ وجزئيٌّ بالنسبة الى ما تستحقه رتبتها السامية، وشرف حال كونها والدة الإله: ثم أن الكنيسة المقدسة وضعت في خدمة القداس الإلهي المختص بمريم الطوباوية هذه الكلمات وهي: لأنكِ أنتِ سعيدةٌ ومستحقةٌ في الغاية أيتها البتول القديسة مريم المدائح والتقريظات والتسابيح كلها.*
ولكن فلنرجعن الآن الى موضوعنا، ولنسمعن ماذا يقول القديسون في شأن الرأي المقدم ذكره، فالقديس برنردوس يتكلم هكذا قائلاً: أن الله قد أملأ مريم من النعم جميعها لكي يقتبل البشريون بعد ذلك بواسطة مريم عينها، كأنها مجرى أو قناةٌ، كل ما يتصل اليهم من الخيرات. ثم أن القديس المذكور يضيف الى ذلك هذه الملاحظة المعتبرة أيضاً ومن ثم يقول: أن نهر هذه النعم الإلهية لم يكن موجوداً في العالم ولا جارياً الى الجميع قبل أن تخلق هذه البتول الكلية القداسة، وذلك لأنه لم يكن بعد وجد هذا المجرى، ولا كونت هذه القناة المشتهاة في الغاية... ولهذا قد أعطيت مريم للعالم، حتى أنه بواسطة هذه القناة تجري إلينا على الدوام النعم الإلهية.*
فلذلك كما أن اليفانا قائد جيوش بختنصر ملك الأشوريين حينما حاصر مدينة بيت فالوا أمر غلمانه بأن يهدموا قناة الماء الجاري الى المدينة، فالشيطان على هذه الصورة يعتني بكل جهده وأستطاعته في أن يجعل الأنفس أن تخسر حسن تعبدها لوالدة الإله، لكي يغلق بذلك قناة النعم. وهكذا بسهولةٍ كليةٍ يمكنه أن يكتسب تلك الأنفس لذاته ويضعها تحت حوزته. وفي هذا الصدد ينبه القديس برنردوس عينه المؤمنين بقوله: تأملي أيتها الأنفس المسيحية بكم من الحب والأنعطاف وحسن التعبد يريد الرب منا أن نكرم ملكتنا هذه، بألتجائنا دائماً الى حمايتها، وبأعتصامنا بالرجاء في شفاعاتها، لأنه تعالى قد أدخر فيها ملء الخيرات كلها، حتى أننا نعلم أن جميع ما يوجد عندنا بعد ذلك من الرجاء والنعم والخلاص، فأنما نحصل عليه بواسطة مريم. وكذلك يقول القديس أنطونينوس: أن المراحم كلها التي أستعملت نحو البشر، فجميعها جاءتهم بواسطة مريم.*
ومن ثم مريم: هي لقبت بالقمر، فيقول القديس بوناونتورا: أنه كما أن القمر هو كائنٌ فيما بين الشمس والأرض. وأن الشيء الذي يقتبله هو من الشمس (أي الأشعة والضياء) يمنحه هو للأرض، فهكذا مريم تقتبل من السماء أشعة أنعام الشمس الإلهية لكي تفيضها علينا نحن القاطنين في الأرض.*
ولهذا هي قد لقبت أيضاً بباب السماء كما تدعوها الكنيسة المقدسة بقولها: أفرحي يا باب السماء السعيد. فحسبما يبرهن القديس برنردوس نفسه: بأنه كما أن كل مرسومٍ ملوكيٍ يمنح بقوته الملك نعمةً ما، يلزم أن يخرج من باب ديوانه الملوكي، فكذلك نحن أعطينا مريم كباب يجتاز الينا بواسطتها جميع ما نحصل عليه. ويضيف الى هذا القديس بوناونتورا قائلاً: أن مريم تسمى باب السماء لأنه لا يمكن لأحدٍ أن يدخل الى السماء من دون أن يجتاز بواسطة مريم التي هي الباب.*
ثم أن القديس إيرونيموس يوطدنا في هذا الرأي في عظته على صعود البتولة (ولئن كان حسب رأي البعض أن هذه العظة هي لرجلٍ قديم مجهول الأسم وأندرجت فيما بين تأليفات هذا القديس) حيث يقول: أن في يسوع المسيح وجد ملء النعم كلها كوجوده في الهامة،... ومن هذه الهامة تتصل الينا نحن أعضاء جسده السري كل الأرواح الحية، أي المعونات الإلهية لكي نحصل على الخلاص الأبدي، ثم أنه في مريم أيضاً قد وجد ملؤ هذه الأنعام عينها كوجودها في العنق أو الرقبة. التي بواسطتها تلك الأرواح الحية تجتاز من الرأس الى الأعضاء، وهذا الرأي قد توطد من القديس برنردينوس السياني الذي قد فسر القول المقدم ذكره تفسيراً ذا أيضاحٍ أبلغ بقوله: أنه بواسطة مريم ترسل الى المؤمنين الذين هم جسد يسوع المسيح السري جميع نعم الحياة الروحية، التي تنحدر على هذه الأعضاء من يسوع المسيح الذي هو رأسها.*
وهنا القديس بوناونتورا يورد السبب مبرهناً بقوله: أنه اذ كان الباري تعالى قد أرتضى بأن يسكن في مستودع هذه العذراء القديسة، فعلى نوعٍ ما قد أكتسبت هي تولياً على النعم كلها، لأنه من حيث أن من مستودعها الطاهر المقدس قد خرج يسوع المسيح، فقد خرجت منها صحبته أنهر المواهب الإلهية كأنها من بحرٍ محيطٍ. ونظير ذلك يقول القديس برنردينوس السياني بأفصح عبارةٍ هكذا: أنه من حينما حبلت هذه الأم البتول بالكلمة الإلهي متجسداً في أحشائها. فقد أكتسبت هي (لكي نقول على هذه الصورة) حجةً ما وحقاً خصوصياً على المواهب التي تنحدر علينا من الروح القدس، بنوعٍ أنه فيما بعد لم تتصل الى خليقةٍ ما من الخلائق ولا نعمةٌ واحدةٌ من الله، الا بواسطة مريم وعن يدها:*
وهكذا أحد العلماء (من كراسات في كتاب العبادة لمريم) قد فسر على هذا النوع نفسه كلمات النبي أرميا (ص31ع22) المقولة منه عن تجسد الكلمة الأزلي من مريم بقوله: أن الرب خلق شيئاً جديداً في الأرض أنثى تحيط رجلاً: حيث يبرهن قائلاً: كما أنه من النقط الكائن في وسط دائرةٍ ما لا يخرج ولا خط ما من الخطوط المتحدة به خارجاً عن الدائرة، من دون أن يجتاز قبلاً بالخط المحيط على الدائرة نفسها، فهكذا ولا نعمةٌ من النعم تخرج ممنوحةً من يسوع المسيح الذي هو ينبوع النعم والخيرات كلها مفاضةً علينا، من دون أن تجتاز بمريم التي أحاطت به تعالى، بعد أن أقتبلته في مستودعها ومن ثم نحن ننال النعم بواسطة هذه الأنثى التي أحاطت رجلاً.*
ولهذا يقول القديس برنردينوس عينه: أنه لأجل ذلك كل المواهب وجميع الفضائل وسائر النعم تتوزع عن يد مريم، على أولئك الذين هي تروم أن تمنحهم إياها. وفي الأوقات التي هي تشاء منحها، وبالأنواع التي هي تريد توزيعها، وكذلك ريكاردوس يقول: أن جميع الخيرات التي يصنعها الله مع خلائقه، فيريد أن تجتاز عن يد مريم موزعةً عليهم بواسطتها: ومن هذا القبيل الأنبا جالاس المكرم يحرض كل أحدٍ على أن يلتجئ الى خازنة النعم هذه. كما هو يسميها هكذا: لأنه بواسطتها فقط ينبغي أن يقتبل العالم وكل البشر الخيرات بأسرها التي يمكنهم أن يرجوها. فمن هذا جميعه يتضح جلياً أن القديسين والعلماء الموردة أوقوالهم آنفاً، المصرحين بأن كل النعم التي تأتينا من الله أنما تتوزع علينا بواسطة مريم، لم يقصدوا بذلك أن يبينوا هذا فقط. وهو أننا من مريم قد حصلنا على يسوع المسيح كلمة الله متجسداً، الذي هو ينبوع النعم والخيرات كلها. الأمر الذي قصد المعلم الحديث المنوه عنه في بدء هذا الجزء أن يفسر به أقوالهم بل أنهم قد أكدوا لنا هذه الحقيقة أيضاً، وهي أن الله بعد أن أعطانا أبنه الوحيد يسوع المسيح، يريد أن النعم كلها التي توزعت وتتوزع على البشر من حين تجسد أبنه الى منتهى العالم، ممنوحةً لهم بأستحقاقات هذا الأبن الإلهي نفسه، تكون معطاة لهم وهم يفوزون بها عن يد مريم وبواسطة شفاعاتها لديه.*
فاذاً يختتم القول الأب سوارس بأنه في هذه الأيام قد أضحى الرأي المذكور رأياً عاماً في الكنيسة، وهو أن شفاعة مريم البتول هي لا مفيدةٌ فقط لنا لأجل نوال الخلاص الأبدي، بل هي ضروريةٌ أيضاً لذلك، لا ضرورةٍ مطلقةٍ كما نبهنا في محله، لكن بضرورةٍ أدبيةٍ، لأن وساطة يسوع المسيح هي وحدها ضروريةٌ لخلاصنا بضرورةٍ مطلقةٍ، على أن الكنيسة ترى مع القديس برنردوس بأن الله قد رسم مريداً أن النعم كلها من دون أستثناءٍ تتوزع علينا بواسطة مريم، بنوع أنه ولا نعمةٌ منها تعطى لنا الا عن يدها، وقبل القديس برنردوس قد أثبت هذا الرأي القديس أيدالفونسوس بقوله نحو والدة الإله: يا مريم أن الرب قد حكم بأن يسلم بيديكِ كل الخيرات التي أعدها هو لأن يوزعها على البشر، ولذلك قد أئتمنكِ على الخزائن كلها وعلى كنوز النعم جميعها. ولهذا يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله لم يرد أن يتجسد متأنساً الا برضا مريم أولاً: لكي نوجد كلنا ممنونين لها بنوعٍ عظيمٍ من المنة.
ثانياً: لكي نفهم أن العناية بأمر خلاصنا أجمعين قد فوضت لهذه البتول القديسة:*
فمن ثم اذ تأمل القديس بوناونتورا في كلمات أشعيا النبي المدونة منه في بدء الاصحاح الحادي عشر من نبؤته وهي: ستخرج عصا من أصل يسى وتصعد زهرةٌ من أصله وتستريح عليها روح الرب. فقال هو أي القديس بوناونتورا عن ذلك هذه الألفاظ الجليلة وهي: أن كل من يرغب مشتهياً أن ينال نعمة الروح القدس، فليفتش على الزهرة في العصا، أي على يسوع في مريم، لأننا بواسطة العصا نجد الزهرة وبواسطة الزهرة نجد الله: ثم يضيف الى ذلك قائلاً: فأن كنت يا هذا تريد أن تحصل على هذه الزهرة، فأهتم بواسطة التضرعات في أن تجتذب الى صالحك عصا الزهرة، وهكذا تفوز بالزهرة عينها. وألم تفعل ذلك يقول الأب المعلم السرافيمي بوناونتورا في تفسيره الكلمات الإنجيلية وهي أن المجوس، دخلوا البيت فوجدوا الصبي مع مريم أمه. (متى ص2ع11) فلا تحصل على يسوع الذي لا يوجد الا مع مريم وبواسطة مريم: ويختتم قوله بأنه: عبساً ومن دون فائدةٍ يطلب أن يجد يسوع ذاك الذي لا يفتش على أن يجده مع مريم. ومن ثم يقول القديس أيدالفونسوس هكذا: أنا أريد أن أكون عبداً للأبن، ومن حيث أنه لا يكون أصلاً أحدٌ عبداً الأبن أن لم يكن عبداً للأم، فلهذا أنا أبذل كل أهتمامي في تعبدي لمريم:*
* نموذج *
لقد أخبرنا المعلمان بالواجانسه وكيساريوس عن شابٍ ما ذي أصلٍ شريفٍ، بأنه بعد أن كان أصرف جميع الغنى الواسع المخلف له ميراثاً من أبيه مبدداً إياه في المعاصي والقبائح، قد حصل أخيراً فقيراً سبروتاً فاقداً كل شيءٍ، حتى أنه أضطر لحفظ حياته لأن يدور متوسلاً يجتذئ صدقةً، ولذلك أي لخجله من حاله تلك سافر من وطنه الى بلدةٍ أخرى ليكون فيها مجهولاً، ففي مسافة هذا السفر قد صادف في الطريق أحد أولئك الذين كانوا عبيداً لأبيه، فلما شاهد ذاك العبد أبن سيده في تلك الحال السيئة من الفقر مملؤاً من الحزن والأكتئاب، تقدم اليه معزياً وشرع يطمئنه موعداً إياه بأنه مزمعٌ أن يقوده أمام أحد الأمراء المعظمين، الذي يهتم به في كل ما كان يعوزه، فهذا العبد كان رجلاً ساحراً منافقاً، ومن ثم جاء في اليوم المعين منه عند ذاك الشاب. فأخذه وذهب به الى البرية ودخلا في حرشٍ كائنٍ بجانب بحيرةٍ. وهناك بدأ يتكلم مع شخصٍ غير منظور، فلهذا سأله الشاب مستفهماً بقوله له: مع من أنت تتكلم، فأجابه ذاك: أنني أتكلم مع الشيطان، ولكنه اذ رأى الشاب أمتلأ خوفاً من هذا الجواب فأخذ يشجعه ويطمئنه. وهكذا أستمر يخاطب الشيطان قائلاً له: يا سيد أن هذا الشاب قد بلغ الى أقصى الفقر والقلة، ويريد أن يرجع الى سعادة حاله الأولى: فالعدو الجهنمي أجاب وقال له: أنه لما يريد الشاب أن يطيعني فأنا سأرجعه أكثر غنىً من ذي قبل، ولكن قبل كل شيء يلزمه أن ينكر الله: فالشاب أستوعب أشمئزازاً ونفوراً من هذا الطلب، الا أن ذاك الساحر اللعين قد أجتذبه لأن يكفر به تعالى فكفر به، ثم أن الشيطان أردف كلامه بقوله: أن هذا لا يكفي بل يلزمه أن ينكر مريم البتول أيضاً، لأن هذه هي تلك التي نحن نعرف جيداً أن خسارتنا هي صادرةٌ من قلبها بالأكثر، فكم وكم هي تختطف من أيدينا من الأنفس وتردها الى الله وتخلصها: فالشاب قال له: كلا، أنا لا يمكن أن أنكر مريم أمي لا هذه هي رجائي بأسره بل أني أرتضي بالأحرى بأن أدور أتسول بحال الفقر الكلي جميع أيام حياتي من أني أفعل ذلك. قال هذا وأنصرف من ذاك المكان، ففي رجوعه أتفق له أن يمر من على باب إحدى الكنائس المشيدة على أسم والدة الإله، فدخل اليها مملؤاً من الحزن والغم، وجثا أمام أيقونتها باكياً، وأخذ يتوسل اليها بحرارةٍ في أن تستمد له غفران خطاياه، فهذه الأم الرأوفة شرعت تطلب من أجله الى أبنها الإلهي، أما يسوع ففي الأبتدا قال لها: أن هذا الخائن قد نكرني يا أمي، ولكن عندما نظر أن والدته لم تزل تتضرع اليه فأخيراً قال لها: أنني أنا قط ما نكرت عليكِ شيئاً، فليكن لهذا الشاب الغفران عن خطاياه لأجل طلبتكِ: فالرجل الغني الذي كان في ما مضى أشترى من ذاك الشاب جميع أملاكه ومقتناه رويداً رويداً، وهو أي الشاب كان أصرف أثمانها في الرذائل، قد شاهد بمنظرٍ سريٍ هذا الحادث، ولاحظ الرأفة المصنوعة من والدة الإله نحو هذا المسكين. فأرسل أستدعاه اليه وقدم له أبنته الوحيدة عروسةً له وزوجه بها، وجعله وريثاً لجميع الغنى الذي كان يملكه، وعلى هذه الصورة قد أكتسب الشاب نعمة الله ومعاً حصل على خيراتٍ أرضيةٍ غنية بأبلغ مما كان قبلاً.*
† صلاة †
تأملي يا نفسي كم هي جليلةٌ فضيلة الرجاء بالخلاص والحياة الأبدية التي منحكيها الرب، بأعطائه إياكِ رحمةً منه الثقة والرجاء في شفاعة أمه وحمايتها، هذا بعد أنكِ لأجل خطاياكِ قد أستحقيتِ مراتٍ كثيرةً سقوطكِ من نعمته تعالى، وحصولكِ تحت غضبه معدةً للهلاك في جهنم، فأشكري اذاً إلهكِ وأمدحي شفيعتكِ مريم التي تنازلت لأن تقبلكِ تحت ستر حمايتها، حسبما تحقق لكِ كثرة النعم التي حصلتِ عليها لحد الآن بواسطتها، أي نعم أنني أشكركِ يا أمي المحبوبة مني جداً من أجل جميع الخيرات التي صنعتيها معي أنا الشقي المستحق جهنم، فكم هس كثيرة الأخطار التي أنتِ قد نجيتيني منها يا ملكتي. كم من الأنوار وهبتيني وكم منالمراحم أفضتِ عليَّ مستمدةً لي ذلك جميعه من الله. ولكن أية مكافأةٍ بالخير صنعت معكِ وأية تكرمةٍ قدمت لكِ، أنتِ التي بهذا المقدار أعتنيتِ بي وأفضلت عليًّ.*
فاذاً خيريتكِ وحدها هي التي أجتذبتكِ لذلك، فمن يعطيني أن أبيح من أجلكِ دمي وحياتي، بل أن هذا هو شيءٌ قليل بالنسبة لما أنا ملتزمٌ به لكِ، وللمنة التي لكِ عليَّ. لأنكِ قد أنقذتني منالموت الأبدي، وقد صيرتيني أن أكتسب من جديد كما أؤمل النعمة الإلهية التي كنت فقدتها بخطاياي، وبالأجمال أنني أعترف بان سعادتي كلها هي آتية من قلبكِ ومسببة لي منكِ، فأنا يا سيدتي المحبوبة في الغاية لا أستطيع أن أكافئكِ بشيءٍ آخر، سوى بأن أبارككِ وأسبحكِ وأمدحكِ دائماً، فلا تأنفي من أن تقبلي مني ذلك أنا الخاطئ الذليل المغرم بمحبة صلاحكِ، فأن يكن قلبي غير مستحقٍ أن يحبكِ لأنه غير نقي بل مملؤٌ من الأنعطافات نحو الأشياء الأرضية، فيخصكِ أنتِ أن تغيريه، ثم أتحديني بإلهي وشدي وثاق حبي إياه بنوع أني لا أعود أقدر أن أنفصل عن محبته، فهذا هو الشيء الذي أنتِ تطلبينه مني وهو أن أحب إلهكِ، وهذا أنا أطلبه منكِ، فأستمدي لي منه أن أحبه حباً شديداً على الدوام، وغير ذلك أنا لا أشتهي آمين.
الجزء الثاني
* في موضوع الجزء الأول نفسه*
أن القديس برنردوس يقول: أنه كما أن رجلاً وأمرأة قد أشتركا
بالعمل الذي صدر عنه خرابنا وتعاستنا وأبادتنا، فهكذا كان.
من الصواب والواجب بلياقةٍ أن رجلاً آخر وأمرأةً أخرى يشتركان بالعمل الذي منه يحصل لنا أكتساب ما كنا فقدناه، وهذا قد تم بواسطة الشخصين العظيمين وهما يسوع المسيح ومريم البتول والدته، فلا ريب ولا أشكال في أن يسوع المسيح وحده هو كلي الكفاية لأن يفيدنا، ولكن الأليق هو أن خلاصنا يكون مسبباً من شخصين رجلٍ وأمرأةٍ، كما أن هلاكنا كان مسبباً من شخصين رجلٍ وأمرأةٍ:*
فمن ثم البارتوس الطوباوي يسمي مريم: المشتركة بالعمل في سر الأفتداء. فهذه البتول عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا بأنه كما أن آدم وحواء قد باعا العالم لأجل تفاحةٍ، فهكذا هي وأبنها يسوع بقلبٍ واحدٍ فيهما قد أفتديا العالم، ثم يقول القديس أنسلموس: أن الله قد أستطاع جيداً أن يخلق العالم من العدم ولكن حينما هلك العالم ضائعاً بالخطيئة. لم يرد تعالى أن يكمل أصلاح العالم وخلاصه من دون أن تكون مريم مشتركةً في هذا العمل:*
أما الأب سوارس فيفسر ذلك بأن مريم قد أشتركت بعمل سر الأفتداء لأجل خلاصنا على ثلاثة أنواعٍ. وهي أولاً لكون هذه البتول قد أستحقت بأستحقاق اللياقة والمناسبة تجسد الكلمة الأزلي في أحشائها. ُثانياً لأجل أنها أهتمت كثيراً بالتضرعات من أجلنا حينما كانت عائشةً على الأرض. ثالثاً لكونها أختيارياً قدمت لله حياة أبنها ضحيةً لأجل خلاصنا، فلهذا قد رتب الرب عدلاً أنه لأجل أشتراكها، بحبٍ عظيمٍ في عمل خلاص البشر كافةً الأمر الصادر عنه مجدٌ إلهيٌ هكذا سامٍ فالبشر أجمعون بواسطة شفاعاتها ينالون الخلاص الأبدي.*
فمريم تسمى: شريكة عمل تبريرنا: لأن الله أئتمنها على النعم كلها لتوزعها علينا، ولهذا يبرهن القديس برنردوس مثبتاً بقوله: أن جميع البشر الماضين والحاضرين والمستقبلين يلزمهم أن يلاحظوا مريم بمنزلة واسطة لخلاص كل الأجيال. والموضوع الملائم لذلك.*
ثم أن مخلصنا يسوع المسيح يقول في أنجيله المقدس: أن ما من أحدٍ يقدر على الأتيان اليَّ الا من أجتذبه الآب الذي أرسلني: (يوحنا ص6عدد4) أي أنه لا يمكن لأحدٍ أن يحصل على فادينا ويكون من خاصته ألم يمنحه الآب نعمته الإلهية، فهكذا يقول مخلصنا عن والدته. حسبما يورد ريكاردوس في تفسيره العدد الثالث من الاصحاح الثاني من سفر النشيد: ما من أحدٍ يقدر على الأتيان اليَّ الا من أجتذبته أمي بواسطة تضرعاتها لدي من أجله: على أن يسوع هو ثمرة أحشاء مريم. حسبما هتفت القديسة أليصابات قائلةً نحوها: مباركةٌ هي ثمرة بطنكِ: ( لوقا ص1ع42) فلما كان يلتزم كل من يريد أن يحصل على الثمرة أن يمضي ساعياً نحو الشجرة، فهكذا اذاً كل من يروم أن يحصل على يسوع فيلزمه أن يذهب الى مريم. ومن يجد مريم فمن دون ريبٍ يجد يسوع. فالقديسة أليصابات حينما رأت البتول الكلية القداسة داخلةً الى منزلها، لم تعد هي تعلم بأية ألفاظٍ تقدم لها الشكر عن هذه الزيارة، سوى أنها بأتضاعٍ عميقٍ هتفت نحوها قائلةً: من أين لي مثل هذا أن تأتي أم ربي اليَّ: (لوقا ص1ع43) ولكن هنا لقائلٍ أن يقول كيف يكون هذا. أهل أن أليصابات كانت تجهل أن ليس مريم وحدها دخلت منزلها، بل يسوع أيضاً جاء ليزورها، فاذاً لماذا قالت عن ذاتها أنها لم تكن مستحقةً مجيء مريم إليها، ولم تقل بالأحرى أنها غير مستحقةٍ دخول يسوع الى بيتها. فالجواب هو أن القديسة المذكورة كانت تعلم جيداً أنه حينما تأتي مريم، فتأتي بيسوع أيضاً معها. ولذلك قد أكتفت هي بأن تقدم الشكر للأم من دون أن تذكر الأبن.*
ثم أنه قد كتب عن الأمرأة الشجاعة: أنها صارت كمركب تاجرٍ ومن بلدةٍ بعيدةٍ جمعت خبزها: (أمثال ص31ع14) فمريم هي هذا المركب السعيد الذي جلب الينا من السماء يسوع المسيح الخبز الحي النازل من السماء ليعطينا الحياة الأبدية. كما يقول هو تعالى: أنا هو الخبز الحي الذي نزلت من السماء ومن أكل من هذا الخبز يحيى الى الأبد (يوحنا ص6ع51) فمن ثم يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن في بحر هذا العالم يباد غارقاً كل أولئك الذين لا يوجدون مقتبلين داخل هذا المركب، أي الذين لم تكن مريم محاميةً عنهم، فكل مرةٍ نوجد نحن في خطر الغرق. أما من قبل التجارب التي تثب علينا، وأما من قبل الآلام المتجندة في أعضائنا، فيلزمنا أن نصرخ ملتجئين الى مريم ونهتف نحوها قائلين. عينينا عاجلاً أيتها السيدة، وخلصينا أن كنت لا تريدين أن تشاهدينا هالكين: يا سيدة نجينا فأننا نهلك. فلاحظ هنا كيف أن ريكاردوس المذكور لم يكن يتوسوس من أنه يمكن القول لمريم البتول: يا سيدة نجينا فأننا نهلك، خلافاً لما كان يضع من الصعوبات الكثيرة المعلم الحديث المشار اليه في الجزء السابق ضد هذا القول، بل أنه كان يمنع مطلقاً أن يقل نحو العذراء المجيدة: يا مريم خلصينا. زاعماً أن خلاصنا هو مختصٌ بالله وحده. ولكن فليقل لنا هذا المعلم. أهل لا يمكن لإنسانٍ محكومٍ عليه بالموت أن يقول لرجلٍ من المحبوبين عند الملك: خلصني بوساطتك لدى الملك متشفعاً بي في أن يعفي عني واهباً لي الحياة، فأن كان ذلك ممكناً بدون ريبٍ فلماذا نحن لا نقدر أن نقول نحو والدة الإله خلصينا بأستمدادكِ لنا من الله نعمة الحياة الأبدية. فالقديس يوحنا الدمشقي لم يجد صعوبةً في أن يهتف نحو هذه العذراء المجيدة (في خطبته على مديحها): أيتها الملكة البريئة من الدنس خلصيني منقذةً إياي من الهلاك الأبدي: والقديس بوناونتورا يسميها: خلاص المستغيثين بها: والكنيسة المقدسة قد ثبتت بالعملية الدائمة يومياً أستدعاء مريم بصفة شافية المرضى وخلاص السقماء. ومع ذلك جميعه أيمكن لنا أن نتوسوس من قولنا: خلصينا يا مريم: مع أنه لا يفتح باب الخلاص لأحدٍ الا بواسطتها: كما يقول العلامة باجيوكالى، بل قبل هذا كان القديس جرمانوس نفسه قال: أنه لا يخلص أحدٌ الا بواسطتكِ أيتها العذراء (كما هو مدون في خطبته على وضع زنارها)*
ولكن فلنعد الى موضوعنا متأملين في ماذا يقول غير ذلك القديسون، كيف أن شفاعات هذه الأم الإلهية هي ضروريةٌ لنا، فالمجيد القديس غايطانوس سيوضح علانيةً: أنه أي نعم أننا نقدر أن نفتش على النعم. ولكن لا يمكننا أن نفوز بنوالها من دون شفاعة مريم من أجلنا: وهذا القول يثبته القديس أنطونينوس متفوهاً بهذه العبارة الجليلة وهي: أن من يطلب النعم ويريد أن يحصل عليها من غير شفاعة مريم، فهو كمن يدعي بأن يطير من غير جناحين. لأنه كما أن فرعون قال ليوسف البار: أن أرض مصر كلها هي في يدك: وكما أن كل أولئك الذين كانوا يلتجئون الى فرعون طالبين الأسعاف كان هو يقول لهم: أمضوا الى يوسف، فهكذا الباري تعالى حينما نحن نلتمس منه النعم فيرسلنا الى والدته بقوله لنا: أمضوا الى مريم: لأنه عز وجل قد رسم، حسبما يقول القديس برنردوس: بالا يمنح نعمة ما الا عن يد مريم: فمن ثم يبرهن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس قائلاً: أن خلاصنا هو في يد مريم بنوع أنه يمكننا نحن المسيحيين أن نقول لها بأفضل مما قاله المصريون ليوسف: أن خلاصنا هو في يدك. وكذلك يقول أيديوطا المكرم: أن خلاصنا هو في يد مريم. وهذا عينه يقوله كاسيانوس بأقوى عبارة هاتفاً: أن خلاص العالم كله قائمٌ في عناية مريم الوافرة: أي أن خلاص الجميع هو متعلقٌ بالأجمال في أن يكونوا مستعفين من مريم ومحامى منها عنهم، لأن من تحامي عنه مريم يخلص، ومن لا تحامي مريم عنه يهلك. ثم أن القديس برنردينوس السياني يقول نحو والدة الإله: أيتها السيدة أنكِ اذ أنتِ هي موزعة النعم كلها، ونعمة الخلاص أنما تعطى بواسطتكِ أنتِ فقط. فاذاً خلاصنا هو متعلقٌ بكِ:*
فلأجل هذا بالصواب يقول ريكاردوس: أنه نظير ما يسقط الحجر متكردساً في الحفرة، متى نقيت من تحته الأرض التي كانت تسنده، فكذلك النفس اذا عدمت أسعاف مريم أياها فتسقط أولاً في حفرة الخطيئة وبعد ذلك تهبط الى هاوية جهنم: ويضيف الى هذا القديس بوناونتورا قائلاً: أن الله لايهبنا نعمة الخلاص من دون شفاعة مريم... وكما أن الطفل الرضيع اذا عدم مرضعته لا يمكنه أن يعيش، فهكذا اذا عدم أحدنا أن تحامي عنه مريم وتساعده. فلا يمكنه أن يفوز بالخلاص. ولذلك أحرضك يا إنسان على حفظ هذه العبادة دائماً والا تهملها حتى تبلغ الى السماء وهناك تقتبل من مريم البركة: ويقول القديس جرمانوس (في ميمره على عيد وضع زنار العذراء) هاتفاً نحوها: ترى من يعرف الله جيداً الا بواستطكِ يا مريم الكلية القداسة، من تراه عتيدٌ أن يخلص، من هو ذاك الذي ينجو من الأخطار، من يمكنه أن يحصل على نعمةٍ ما الا بواسطتكِ يا والدة الإله. يا أماً وبتولاً معاً يا ممتلئةً نعمةً: ثم يقول لها مخاطباً (في عظته على نياحها): أنكِ اذا لم تفتحي أنتِ للناس الطريق، فلا يوجد أحدٌ ناجياً من لسع أسنان اللحم والخطيئة:*
ثم أن القديس برنردوس يبرهن قائلاً: كما أنه لا يمكننا أن ندنوا من الله الآب الأزلي الا بواسطة يسوع المسيح ، فعلى هذه الصورة ليس لنا طريقٌ بالدنو من هذا الإبن الأزلي يسوع المسيح الا بواسطة مريم أمه: وهوذا السبب الذي يورده القديس المذكور بأن الرب من أجله قد رسم في أننا كلنا نخلص بواسطة شفاعة مريم، وهو لكي نقتبل نحن في السماء بواسطة مريم ذاك المخلص نفسه الذي بواسطتها كان أعطى لنا في الأرض. ولهذا يسميها القديس: أم النعمة وأم خلاصنا: فمن ثم بالصواب يهتف القديس جرمانوس (في ميمره المذكور آنفاً) صارخاً نحوها هكذا: فاذاً ماذا لكان يحيق بنا، وأي رجاءٍ خلاصٍ لكان بقي لنا، لو كنتِ، تهملينا يا مريم أنتِ التي هي حياة المسيحيين أجمعين.*
الا أن المعلم الحديث المشار اليه في الجزء السابق يتفلسف بقوله: أنه أن كانت النعم كلها تتوزع بواسطة مريم، فاذاً عندما نحن نلتجئ الى القديسين طالبين منهم أن يسعفونا بتضرعاتهم من أجلنا، فيلزمهم أن يتجهوا نحو مريم عينها مستمدين منها نوال النعم، الأمر الذي لا يصدقه أحدٌ ولا حلم به إنسانٌ: فأجيب على ذلك أنه نظراً الى تصديق هذه القضية لا يوجد شيءٌ من الضلال في الإيمان، ولا عدم لياقةٍ أو مناسبةٍ. فأية عدمية لياقةٍ يمكن أن يوجد في هذا، وهو أن الله لكي يكرم والدته المجيدة، بعد أن أقامها ملكةً على القديسين. وأراد أن النعم كلها تتوزع بيدها. يريد أيضاً أن القديسين يلتجئون اليها حينما يرغبون أن يستمدوا للمتعبدين لهم بعض النعم، وأما نظراً الى القول بأن هذه القضية ما حلم بها إنسانٌ، فأنا ألاحظ أنها قد قيلت واضحاً من القديسين برنردوس وأنسلموس وبوناونتورا، ومع هؤلاء من الأب سوارس ومن كثيرين آخرين. فيقول القديس برنردوس: أنه عبثاً وسدى يلتمس أحدٌ بتضرعاته من القديسين الأخرين نعمةً ما يبتغي هو نوالها، أن كانت مريم لا تتوسط في أستمدادها له: وكذلك أحد العلماء في تفسيره كلمات النبي والملك داود بقوله: لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب: (مزمور 45عدد13) يورد ما تقدم ذكره قائلاً: أن أغنياء شعب الله العظيم أنما هم القديسون الذين حينما يريدون أن يستمدوا نعمةً ما لأحدٍ من المتعبدين لهم، فيصلون لوجه مريم ملتمسين منها أن تهتم في نوال تلك النعمة المطلوبة. ومن ثم بكل حقٍ وصوابٍ يقول الأب سوارس: نحن نتوسل للقديسين في أن يصلوا لوجه مريم بحسب كونها ملكتهم وسيدتهم من أجل خيرنا وأسعافنا:*
وهذا هو مطابقٌ لما وعد به القديس برنردوس للقديسة فرنسيسكا الرومانية، كما يخبرنا الأب مركيزة بقوله: أن القديس برنردوس ظهر يوماً ما للقديسة فرنسيسكا الرومانية، وإذ أتخذ على ذاته حمايتها والمناضلة عنها، فوعجها بأن يتوسل من أجلها لدى الأم الإلهية: ويضيف الى هذه القضية أثباتاً القديس أنسلموس مخاطباً للقديسة والدة الإله هكذا: أن ذاك الشيء الذي يمكن نواله بواسطة شفاعات هؤلاء القديسين كلهم المتحدة معكِ، فهذا يمكن نواله جيداً من دون مساعدتهم بواسطة شفاعتكِ أنتِ وحدكِ: فلماذا أنتِ وحدكِ حاصلةً على أقتدارٍ هكذا عظيمٍ، فأنما ذلك هو لأنكِ أنتِ وحدكِ والدة الإله مخلصنا العام أجمعين، وأنتِ هي عروسة الله، وأنتِ هي سلطانة السماء والأرض العامة. فأن كنتِ أنتِ لا تتضرعين من أجلنا ولا تتكلمين في صالحنا، فلا أحدٌ من القديسين يصلي من أجلنا أو يساعدنا، ولكن أن أنعطفتِ أنتِ لأغاثتنا، فالجميع يصلون عنا ويسعفونا، أي أن القديسين كافةً حينئذٍ يجتهدون في خيرنا: فمن ثم الأب السينيري (في كتابه الملقب بالتعبد للعذراء) يخصص مع الكنيسة المقدسة بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع8) وهي: أنا درت دائرة السماء وحدي: قائلاً: أنه كما أن الفلك الأول يحرك بواسطة حركته سائر الأفلاك الأخرى معاً، فهكذا حينما تتحرك مريم لأن تتضرع من أجل نفسٍ ما فبحركتها تجعل سكان السماء كافةً أن يتحركوا بالصلوات معها: وبأبلغ من ذلك يقول القديس بوناونتورا: أن مريم حينئذٍ بحسب كونها ملكةً تأمر كل الملائكة والقديسين بأن يتحدوا معها. وبأن يضيفوا الى صلواتها تضرعاتهم أيضاً.*
ثم على هذه الصورة أخيراً يفهم السبب الذي من أجله تحثنا الكنيسة المقدسة. على أن ندعوا هذه الأم الإلهية ونسلم عليها بتسميتنا إياها بهذا اللقب العظيم قائلين نحوها: يا رجانا: فلوتاروس المنافق كان يقول أنه لم يكن يستطيع أن يحتمل تصرف الكنيسة الرومانية بتسميتها مريم: رجانا: مع أنها أنما هي خليقةٌ محصنةٌ، ولذلك كان يصرخ قائلاً: لا أقدر أحتمل أن أدعو مريم رجائي وحياتي، لأن الله وحده ويسوع المسيح بحسب كونه الوسيط عنا فهما رجانا، بل أن الله يعلن عن لسان أرميا النبي من يضع رجاه في الخليقة بقوله: ملعون الرجل الذي يتوكل على الإنسان: (أرميا ص17ع5) الا أن الكنيسة المقدسة تعلمنا أن نستغيث بمريم في جميع الحوادث وأن نسميها رجانا بقولنا لها: السلام عليكِ يا رجانا: فأي نعم أنه بالحقيقة ملعونٌ هو ذاك الذي يضع رجاه في الخليقة من دون تعلقٍ أو أضافةٍ الى الله بالكلية، لأن الله هو وحده ينبوع كل الخيرات وموزعها. والخليقة من دون الله ليس عندها شيءٌ مطلقاً، ولا تقدر أن تعطي شيئاً، ولكن الأمر هو بالخلاف اذا كان الله عينه قد رسم كما أبنا فيما تقدم شرحه. بأن مريم تكون رجانا نظراً الى رسمه تعالى بأن النعم الإلهية كلها تتوزع علينا منه بواسطة مريم: ولذلك كان القديس برنردوس يدعوها: علة رجائه بأسره: ومثله كان يقول القديس يوحنا الدمشقي. الذي بمخاطيته البتول المجيدة يهتف قائلاً: أنني لقد وضعت يا سيدتي فيكِ رجائي كله، ومنكِ أنا أنتظر خلاصي أنتظاراً متصلاً. ويقول القديس توما اللاهوتي: أن مريم هي كل رجاء خلاصنا: والقديس أفرام السرياني يقول نحوها هكذا: أيتها البتول الكلية القداسة أقبلينا تحت حمايتكِ، أن كنتِ تريدين أن تشاهدينا مخلصين، لأنه لا يوجد عندنا رجاءٌ آخر في أمر خلاصنا الا بواسطتكِ.*
فلنختتم اذاً الإيراد مع القديس برنردوس القائل: فلنجتهدن في أن نكرم بعواطف قلوبنا الأشد حباً هذه الأم الإلهية مريم الكلية قداستها. لأن هذه مشيئة الرب الذي أراد أن نقبل من يدها كل خيرٍ. ولذلك فكل مرةٍ نشتهي راغبين الحصول على نعمةٍ ما. فلنهتم في أن نستمدها من الله بواسطة مريم. محسنين أتكالنا ورجانا وثقتنا في أننا ننال بوساطتها ما نبتغيه، ثم يقول القديس المذكور نفسه: أنك أن كنت يا هذا لا تستحق من الله نوال تلك النعمة التي أنت تلتمسها منه، فمريم هي مستحقةً لديه حسناً أن تكتسبها لك... على أن كل شيءٍ نقدمه نحن لله أن يكن أعمالاً وأن يكن صلواتٍ. فلنجتهد في أن نقدمه لديه تعالى عن يد مريم وبواسطتها، هذا أن أردنا أن الرب يقبل منا ذلك.*
* نموذج *
أنها لشهيرةٌ هي خبرية ثاوفيلوس المعرقل المدونة من البطريرك القسطنطيني أوتيكانوس، الذي كان هو شاهداً عيانياً على حقيقة الأمر الآتي إيراده المثبت من القديس بطرس داميانوس أيضاً. ومثله من القديسين برنردوس وبوناونتورا وأنطونينوس، ومن غيرهم آخرين كما يوجد مدوناً من الأب كراسات. فقد كان ثاوفيلوس هذا رئيس شمامسةٍ في كنيسة مدينة أدنه من أقليم كيليكيا وكان حاصلاً عند الشعب على أعتبارٍ عظيمٍ، حتى أن الرعية كانت تريد أرتسامه عليها أسقفاً، غير أنه قد رفض هو قبول هذه الدرجة تواضعاً منه، ولكن اذ حدث بعد ذلك أن البعض قدموا ضده شكاياتٍ، ومن جرائها قد عزل هو عن وظيفته، فأستحوذ عليه من ثم غمٌ بهذا المقدار شديدٌ، حتى أن الآلام النفسانية قد أعمت قلبه وروحه. ولذلك مضى الى أحد السحراء اليهود طالباً معونته، وهذا الساحر المنافق قد صيره أن يحصل على خطابٍ مع الشيطان مشافهةً مستمداً منه العون في أمر مصيبته، أما الشيطان فطلب من ثاوفيلوس هذا الشرط الأثيم أن كان هو يريد منه الأسعاف، وهو أن ينكر قبل كل شيءٍ يسوع ومريم أمه. وأن يدون رفضه إياهما في صكٍ محررٍ بخط يده ويدفعه اليه، فثاوفيلوس قد أرتضى بهذا الفعل الكلي النفاق وسطر الصحيفة بخطه وسلمها للعدو الجهنمي. ففي اليوم المقبل اذ أن أسقف المدينة فحص جيداً دعوى ثاوفيلوس. وعرف أنه كان بريئاً من تلك الشكايات، قد أستدعاه اليه وأستغفر منه وأرجعه الى وظيفته كما كان قبلاً، فحينئذٍ ثاوفيلوس شعر بتوبيخ ضميره شديداً بمرارةٍ كانت تمزق أحشاه على الفعل الأثيم الذي صنعه، وشرع يبكي تياراتٍ من الدموع الحارة بأتصالٍ. ثم أنطلق الى أحدى الكنائس وأنطرح أمام أيقونة والدة الإله الكائنة هناك. مغرقاً الأرض بالدموع المنسكبة منمقلتيه وهتف قائلاً: يا والدة الإله أنا لا أريد أن أقطع رجائي بعد أن لي شخصكِ مملؤاً من الرأفة والحنو ومقتدراً على أعانتي: ثم واظب على التضرعات والبكاء مدة أربعين يوماً يلتمس الغوث من هذه الأم الإلهية التي بعد ذلك ظهرت له في الليل قائلةً: ماذا صنعت يا ثاوفيلوس، لقد رفضت صداقتك وحبك لأبني ولي أنا أيضاً متنازلاً عنهما، وذلك بين يدي عدوي وعدوك الجهنمي: فأجاب ثاوفيلوس وقال لها: أنه يخصكِ أنتِ أيتها السيدة أن تغفري لي وأن تستمدي لي الغفران من أبنكِ: فاذ لاحطت هذه السيدة الرحوم قلبها حسن ثقة ثاوفيلوس ورجاه فيها قالت له: كن مطمأناً متعزياً لأني أريد أن أتوسل لله من أجلك: فثاوفيلوس اذ تشجع من هذا الوعد قد ضاعف أفعال التوبة وسكب الدموع والصلوات من دون أن يفارق مكانه أمام تلك الأيقونة، وهوذا العذراء المجيدة قد ظهرت له ثانيةً فرحةً وقالت له: أبتهج يا ثاوفيلوس مسروراً، لأني قدمت أمام الله صلواتك ودموعك وهو تعالى قد قبلها وقد غفر لك، ولكن يلزمك منذ الآن فصاعداً أن تكون عارف الجميل وأميناً نحوه عز وجل: فأجاب ثاوفيلوس قائلاً: يا سيدتي أن هذا لا يكفيني ليعزيني بالتمام لأن الشيطان لم يزل حافظاً عنده الصك الذي دفعته اليه مدوناً فيه رفضي أبنكِ وإياكِ، فأنتِ تقدرين أن تلزميه بأن يرد لي هذا الصك: فبعد ثلاثة أيامٍ اذ نهض ثاوفيلوس صباحاً من رقاده، قد رأى الصك نفسه موضوعاً على صدره، ومن ثم مضى في اليوم عينه الى الكنيسة حيث كان الأسقف حاضراً مع شعبٍ غفيرٍ، وأنطرح على قدمي هذا الراعي معترفاً جهاراً بما كان صنعه، ومخبراً بحقيقة الأعجوبة. ومسلماً بيد الأسقف ذاك الصك الذي حرقه الأسقف حالاً أمام جميع الشعب. الذين بدموعٍ غزيرةٍ من شدة الفرح كانوا يقدمون الشكر لله ممجدين رأفته ورحمته، ومسبحين حنو والدته أم الرحمة على ما فعلته مع ذاك الخاطئ، الذي من هناك رجع الى كنيسة والدة الإله مملؤاً من الفرح. وبعد ثلاثة أيامٍ فقط أنتقل من هذه الحياة وهو مكرر التسابيح والشكر ليسوع ولأمه الطوباوية.*
† صلاة †
يا أم الرحمة وسلطانة الرأفة الموزعة النعم على كل أولئك الذين يلتجئون اليكِ بسخاءٍ هكذا عظيمٍ بحسبما أنتِ ملكةٌ وبمحبة هذا حد حرارتها بحسبما أنتِ أمٌ لنا كلية الحب، فأنا اليوم أقصد فضلكِ ملتجياً اليكِ أنا المقفر جداً من الأستحقاقات والفضائل، والمثقل بالديون التي عليَّ للعدل الإلهي، فيا مريم أنتِ حافظةٌ في يديكِ مفاتيح الرحمة الإلهية الغير المتناهية فلا تنسي حال فقري وأحتياجي، ولا تتركيني سبروتاً بائساً هكذا في أقصى حدود المسكونة، فأنتِ بهذا المقدار سخيةٌ جوادةٌ نحو الجميع حتى أنكِ أعتدت أن تهبي أكثر مما يلتمس منكِ، فكوني نحوي أنا أيضاً نظير الآخرين. يا سيدتي حامي عني وهذا هو كل ما أطلبه منكِ، لأنكِ اذا قبلتيني تحت حمايتكِ مناضلةً عني، فلا يمكن أن أخاف من أحدٍ. أي لا أخشى من الشياطين لأنكِ أنتِ أشد قوةً من الجحيم بأسره، ولا من خطاياي لأنكِ تقدرين أن تستمدي لي من الله غفراناً عاماً عنها، وذلك بكلمةٍ واحدةٍ تقولينها لله في صالحي، بل أني أن حزت محاماتكِ عني فلا أخاف حتى ولا من غضب العدل الإلهي ضدي، لأن الله لأجل تضرعٍ واحدٍ تقدمينه لديه من أجلي يهدأ رجزه عني ويسترضي. وبالأجمال اذا حصلت أنا تحت ظلكِ معضداً منكِ فعندي الرجاء في أن أنال كل شيءٍ أبتغيه. لأنكِ تقدرين على كل شيءٍ، فأمرٌ معلومٌ عندي يا أم الرحمة أنكِ تسرين مبتهجةً وتفتخرين ممجدةً في أعانتكِ الفقراء الأكثر أحتياجاً والأشد شقاوةً، بحيث أنكِ لا تشاهدينهم مصرين على عمل الأثم وبذلك تقدرين أن تسعفيهم، فأنا أنما خاطٍ ولكنني لست مصراً على الخطيئة بل أريد أن أغير سيرتي وأصلحها. ومن حيث أنكِ تقدرين أن تعينيني، فاذاً عينيني وخلصيني، ها هوذا أنا في هذا اليوم أضع ذاتي بجملتها في يدكِ،
فقولي لي ماذا ينبغي أن أصنع لكي أرضي الله، لأني أريد
حالاً أن أتممه موملاً صنيعه بمعونتكِ يا مريم أمي
ونوري وتعزيتي وملجأي ورجائي
آمين.*

Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:34 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
الفصل السادس
† فيما يخص هذه الكلمات وهي: فأصغي اذاً إلينا ياشفيعتنا. †
*وفيه ثلاثة أجزاء *
الجزء الأول
* في أن مريم العذراء هي شفيعةٌ قادرةٌ أن تخلص الجميع*

أن السلطة التي للأمهات على أولادهن هي بهذا المقدار عظيمةٌ، حتى أنه ولئن كان البنون ملوكاً ولهم السلطان على جميع الشعوب الخاضعين لممالكهم، فلا يمكن على الأطلاق أن أمهاتهم يكن مخضعاتٍ لولايتهم كأنهن من الرعايا، فأي نعم أن يسوع المسيح هو الآن كائنٌ في السماء جالساً من عن ميامن الله الآب، أي بحسبما هو إنسان أيضاً (كما يفسر القديس توما اللاهوتي) له سلطانٌ أعلى مطلقٌ كلي الأقتدار على جميع الكائنات والمخلوقات، حتى على مريم العذراء أيضاً، بحسبما أن ناسوته هو متحدٌ من دون أنفصالٍ مع لاهوته ومتقنمٌ بأقنومه الإلهي الذي هو أقنوم الكلمة الأزلي. فمع ذلك أمرٌ حقيقيٌ هو على الدوام أنه تعالى وقتاً ما، أي حينما كان عائشاً بالجسد في الأرض، قد أراد أن يواضع ذاته ويكون خاضعاً لمريم أمه كمرؤوس لها، كما يشهد لنا القديس لوقا الأنجيلي (ص2ع51) بأن يسوع كان يعيش مع أمه مريم ومع خطيبها القديس يوسف في الناصرة خاضعاً لهما، بل بأكثر من ذلك يقول القديس أمبروسيوس: أنه من حيث أن يسوع أرتضى بأن يختار مريم أماً له فصار بالحقيقة ملزوماً بأن يطيعها خاضعاً لها. ولذلك يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: انه يقال عن القديسين الآخرين أنهم كائنون مع الله. الا أنه عن مريم وحدها يمكن أن يقال أنها حصلت على الحظ السعيد، وهو أنها ليس فقط وجدت مخضعةً لإرادة الله بل أيضاً أن الله قد أخضع ذاته تحت إرادتها... وفي الوقت عينه الذي فيه مكتوبٌ هو عن العذراى الآخرات أنهن يتبعن الخاروف الى حيثما يسير (أبوكاليبسى ص14ع4) ففيه نفسه يمكن أن يقال عن الخروف الإلهي عينه أنه كان يتبع مريم في هذه الأرض، لأجل أنه كان أخضع ذاته لها وصار مرؤوسها.*
فمن ثم نقول أن مريم ولئن لم تكن في السماء أيضاً قادرةً على أن تأمر أبنها. فمع ذلك أن تضرعاتها لديه هي دائماً تضرعات والدةٍ، ولهذا هي تضرعاتٌ كلية الأقتدار على أن تنال كل ما تطلبه، فيقول القديس بوناونتورا: ان مريم هي حاصلةٌ على هذا الأختصاص عند أبنها وهو أنها كلية الأقتدار على ان تستمد منه كل شيء تريده: ولما ذلك، أنه بالحصر هو للسبب الذي أشرنا إليه آنفاً والذي بعد قليلٍ نفحص عنه بأسهابٍ. أي لأن تضرعات مريم لديه تعالى هي تضرعات أمٍ له، ولأجل هذه العلة يقول القديس بطرس داميانوس: أن مريم العذراء تقدر على كل ما تريد كما في السماء كذلك على الأرض، اذ أنها تستطيع أن تعضد برجاء الخلاص المقطوعين من الرجاء أنفسهم. ثم يقول أيضاً: انه حينما تلتمس هي نعمةً ما لأجلنا من أبنها يسوع المسيح (المسمى من هذا القديس هيكل الرحمة حيث يفوز الخطأة من الله بالغفران) فأبنها الإلهي يعتبر بهذا المقدار تضرعاتها ويكرمها، ويريد أرادةً مطلقةً أن يرضيها، حتى أنها حينما تتوسل هي، فيظهر أنها تأمر أحرى من أن تتضرع، وتبان أنها سيدةٌ أحرى من عبدةٍ: فعلى هذه الصورة يريد يسوع أن يكرم هذه الوالدة العزيزة التي قد كرمته هي في مدة حياتها تكرمةً كلية القبول لديه، بأنه حالاً يستجيب طلباتها بقدر ما تشاء وبحسبما تشتهي، الأمر الذي يوطده القديس جرمانوس بألفاظٍ جليلةٍ (في ميمره على نياحها) قائلاً نحوها هكذا: أنكِ أنتِ هي والدة الإله الكلية الأقتدار على خلاص الخطأة. ولا تحتاجين لدى الله الى شيءٍ آخر يجعل كلامكِ مقبولاً عنده بعد أنكِ أنما أنتِ هي أم الحياة.*
ولأجل هذا لم يجد القديس برنردينوس السياني صعوبةً في أن يعطي هذه الحكومة قائلاً: أنه حينما تبرز مريم أوامرها، فالجميع يطيعون حتى الله عينه: مريداً بالحقيقة أن يقول، أن الله يستجيب تضرعاتها كأنها أوامر وليس كتوسلاتٍ، ولهذا يكتب القديس أنسلموس مخاطباً والدة الإله بهذه الألفاظ وهي: أن الرب قد رفعكِ أيتها العذراء القديسة الى مقامٍ وحالٍ هذا عظم سعادتهما، بنوع أنكِ بواسطتهما تقدرين على أن تستمدي منه كل النعم الممكن منحها لعبيدكِ. لأن حمايتكِ هي كلية الأقتدار، أي نعم أن حمايتكِ هي قادرةٌ على كل شيءٍ يا مريم. كما يدعوكِ القديس قزما الأورشليمي، وحسبما يتبع ذلك ريكاردوس الذي من سان لورانسوس قائلاً: حقاً أن مريم هي قادرةٌ على كل شيءٍ، من حيث أن الملكة بقوة كل الشرائع لها أن تتمتع بالأختصاصات عينها التي يتمتع بها الملك: فعلى هذه الصورة يقول القديس أنطونينوس: أن الله قد وضع الكنيسة الجامعة كلها ليس فقط تحت حماية مريم بل أيضاً تحت ولايتها وسلطانها*
فأن كان يلزم اذاً أن تكون الوالدة حاصلةً على سلطانٍ نفسه المختص بأبنها، فبالصواب يسوع الذي هو بذاته قادرٌ على كل شيءٍ قد صير والدته مريم قادرةً على كل شيءٍ، ولكن بهذا التمييز وهو أن يسوع هو قادرٌ على كل شيء طبيعياً ومن قبل لاهوته ذاتياً. وأما مريم فخصصت بهذه الصفة نعمةً منه تعالى. وهذا يتحقق بالعملية وهو أن كل سيءٍ تطلبه الوالدة فلا يمكن أن ينكر عليها منه شيئاً الأبن. كما أوحى للقديسة بريجيتا التي يوماً ما سمعت يسوع مخاطباً مريم هكذا: أنكِ تعلمين يا أمي كم أني أحبكِ، فاذاً أطلبي مني كل شيءٍ حتى مهما كانت مسألتكِ عظيمةً فأنا لا يمكن أصلاً أن لا أقبلها، لأنكِ حينما كنتِ معي في الأرض لم تنكري قط شيئاً أن تعمليه حباً بي، فالآن اذ أنا كائنٌ في السماء فأمرٌ عادلٌ هو أن لا أنكر أن أصنع كل ما أنتِ تريدينه مني ملتمسةً: فأنما مريم تسمى قادرةً على كل شيء بالنوع الذي يمكن أن تحصل عليه خلقةٌ ما لم تكن موضوعاً قابلاً بذاتها لأن تملك صفةً إلهيةً، فهذا النوع مريم هي قادرةٌ على كل شيءٍ أي أنها بواسطة تضرعاتها تقدر أن تنال كل ما تطلبه*
فبالصواب اذاً يقول نحوكِ يا شفيعتنا العظيمة القديس برنردوس هكذا: ريد ما تحبين، فكل شيءٍ يتم كمرادكِ، ريد أن ترفعي الخاطئ الأكثر أثماً والأشد يأساً الى أعظم درجةٍ من القداسة، ففي سلطانكِ أن تصنعي ذلك. ثم أن الطوباوي ألبرتوس الكبير فيما يخص هذا الموضوع يجعل مريم متكلمةً هكذا أنه يلزمني أن أكون مسؤولةً بتضرعات الغير لدي في أن أريد. لأني أن أردت فأمرٌ ضروريٌ هو أن يصنع ما أريده: فمن ثم اذ كان يتأمل القديس بطرس داميانوس هذه المقدرة العظيمة التي لمريم، فبتوسله نحوها في أن تترأف علينا يخاطبها قائلاً: يا مريم شفيعتنا العزيزة. أنه من حيث أنكِ حاصلةٌ على قلبٍ هكذا حنون حتى أنكِ لا تعرفين بل لا تقدرين أن تشاهدي الفقراء المحتاجين من دون أن تتوجعي لهم مشفقةً. وفي الوقت عينه أنتِ مالكةٌ أستطاعةً بهذا المقدار عظيمةً أمام الله على أن تخلصي كل أولئك الذين أنت تحامين عنهم. فلا تأنفي اذاً مشمأزةً من أن تتحذي على ذاتكِ المحاماة عن دعوانا نحن أيضاً الأشقياء البائسين الواضعين رجانا بأسره فيكِ. فأن كانت صلواتنا وتضرعاتنا لا تحرككِ لذلك. فليعطفكِ نحونا قلبكِ الرأوف، ولتحرككِ قلما يكون سلطتكِ، لأن الله لأجل هذه الغاية قد أغناكِ بأقتدارٍ هذا عظم حده، حتى أنكِ بمقدار ما أنتِ غنيةٌ مستطيعةٌ على أسعافنا، فبأكثر من ذلك تكونين رحومةً مريدةً أن تساعدينا. ثم أن القديس برنردوس يؤكد لنا هذا الموضوع حسناً بقوله هكذا: أن مريم كما في الأقتدار كذلك في الرحمة هي عنيةٌ بنوعٍ لا حد له، فبحسبما أن حبها هو كلي الأقتدار، كذلك هي كلية الأشفاق لأن تحنو علينا راحمةً. وعمليتها المتصلة معنا تبرهن حقائق الأمر.*
فمن حينما كانت مريم عائشةً في الأرض لم يكن لها أهتمامٌ بالوجه الأول من بعد عنايتها فيما يخص مجد الله. سوى في أن تعين المحتاجين، ونحن نعلم أنها منذ ذلك الوقت قد تمتعت من قبل الله بهذه الخاصة. وهي أن تستجاب طلباتها في كل شيءٍ كانت تلتمسه. وهذا هو معروفٌ لدينا من الحادث المكتمل في عرس قانا الجليل حينما نقص الخمر، فوقتئذٍ لأشفاقها وتوجعها من جرى الخجل الذي أعترى أهل البيت. قد طلبت من أبنها أن يعزيهم بصنيعه أعجوبةً قائلةً له: أن ليس عندهم خمر، أما يسوع فأجابها بقوله: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: (يوحنا ص2ع4) فتأمل أيها القارئ كيف أنه يبان من جوابه تعالى عدم أرادته حينئذٍ أن يصنع تلك المعجزة، بل كأنه أراد أن يقول لوالدته المجيدة: ما الذي يهمني ويعنيكِ بنقصان الخمر من عندهم، فالآن ليس هو بلائقٍ بي أن أمارس صنع العجائب اذ لم يكن جاء زمن كرازتي بالأنجيل، الزمن الذي فيه ينبغي لي أن أثبت حقائق تعليمي بعجائب ظاهرةٍ. ولكن مع ذلك جميعه فمريم كأنها فازت منه بمطلوبها، قالت للخدام أصنعوا كل ما يأمركم به: أي أسرعوا فأملأوا الأجانين ماءً فتنظرون كيف أنها مزمعةٌ أن تحصل التعزية للجميع، وبالحقيقة أن مخلصنا لكي يرضي والدته ويتمم مرغوبها قد أحال تلك المياه الى خمرٍ جيدٍ، فكيف تم هذا. أي أن كان الزمن المعين منه تعالى لصنيع العجائب لم يكن جاء بعد لأنه حفظ الى حين الكرازة بالأنجيل، فكيف الآن فعل هو هذه الآية خلافاً للمراسيم الإلهية السابق تحديدها، فيجاب على ذلك، كلا، أي أن هذا العمل لم يكن مضاداً لترتيب الله، لأنه ولئن لم يكن جاء بعد الزمن الذي فيه أعتيادياً كان ينبغي صنيع المعجزات فمع ذلك كان الله منذ الأزل بقوة مرسومٍ آخر حدد، أن جميع ما كانت مريم المصطفاة منه عتيدةً أن تطلبه، فلن ترد مسألتها به فارغةً، ومن ثم اذ لم تكن مريم تجهل هذه الخاصة والنعمة الجليلة الممنوحة لها، فمع أنه أستبان لها من جواب أبنها أن مطلوبها لم يكن مستجاباً.
فمع ذلك قالت هي للخدام أن يفعلوا كل ما كان يأمرهم به. بألفاظٍ تدل واضحاً على نوالها النعمة التي ألتمستها، وهذا هو معنى ما يفسر به القديس يوحنا فم الذهب الكلمات المقدم ذكرها وهي المقالة من فادينا نحو والدته: ما لي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فيقول: أن مخلصنا ولئن كان أجابها هكذا نفياً فمع ذلك لكي يكرم هو هذه الأم الإلهية لم يتأخر عن أن يطيعها مكملاً ما طلبته منه: وهذا عينه قد أيده القديس توما اللاهوتي حيث قال: أنه بهذه الكلمات وهي: أنه لم تأتِ ساعتي بعد أراد أن يبين أنه لقد كان أخَّر صنيع تلك الآية، لو كان أحدٌ آخر غير أمه طلب منه هذه النعمة، ولكن اذ أن والدته ألتمستها منه، فحالاً هو صنع الأعجوبة. ثم أن القديسين كيرللس وأيرونيموس يفسران هذا النص كما تقدم القول حسبما يورد البرادي. ومثلهما كتب الفاندافانسه في شرحه معنى كلمات الأنجيل المار ذكرها اذ يقول: أن المسيح لكي يكرم والدته قد سبق زمن صنيع العجائب.*
وبالأجمال أنه لأمرٌ أكيدٌ هو أنه لن توجد خليقةٌ ما تقدر أن تستمد لنا من الله نحن الأشقياء مراحم ورأفات هكذا غنيةً، نظير هذه الشفيعة الصالحة التي قد كرمها الله بذلك، ليس فقط بحسبما هي آمته المحبوبة منه بل أيضاً بحسبما هي أمه الحقيقية، وهذا عينه يقوله غوليالموس الباريسي، فاذاً يكفي أن تتكلم مريم ليتمم أبنها كل ما تريده منه. ففي تكلم الرب مع عروسة النشيد المفهوم بها والدة الإله يقول نحوها هكذا: أنتِ الجالسة في البساتين الأصحاب يصغون. فسمعيني صوتكِ: (نشيد ص8ع13) فالأصحاب أنما هم القديسون الذين حينما يطلبون نعمةً ما راجعةً لخير المتعبدين لهم. فينتظرون أن ملكتهم تستمدها من الله وتنالها، لأنه (كما أوردنا في الفصل السابق) لا تتوزع نعمةٌ ما من النعم الا بواسطة شفاعة مريم. فكيف تستمد هي هذه النعم، أنه يكفي أن تتكلم لأن الأبن حالاً يستجيب لها، وهذه هي ألفاظ غوليالموس الباريسي في تفسيره كلمات سفر النشيد المقدم ذكرها حيث يجعل المسيح مخاطباً والدته هكذا: أنتِ التي تسكنين في البساتين السماوية تشفعي بدالةٍ ورجاءٍ من أجل من تريدين. لأني لا أستطيع أن أنسى حال كوني أبناً لكِ، وبالتالي لا أقدر أن أنكر عليكِ الشيء الذي تطلبينه مني أنتِ التي هي أمي، بل أنه يكفي لقبول ما تلتمسينه أن تلفظي الكلمة فأستجيبها أنا أبنكِ.*
ثم يقول الأنبا غوفريدوس: أن مريم ولئن كانت تستمد من الإله أبنها النعم متوسلةً، فمع ذلك هي تتضرع اليه على نوعٍ ما بروحٍ رئاسي بحسبما هي والدته. فاذاً نحن من دون ريبٍ مطلقاً يلزمنا أن نعتبر، أن كل ما هي تطلبه منه تعالى لأجلنا وجميع ا ترغبه هي لنا فنحصل عليه أكيداً من دون ريبٍ.*
أما فالاريوس مكسيموس فيخبرنا بأن كوريولانوس حينما كان محاصراً مدينة روميه، فلم تكن تؤثر في قلبه حركة حنوٍ ورأفةٍ ما تضرعات أصدقائه وسكان المدينة بأسرهم، ولكن حينما ظهرت أمامه فكتوريا والدته لتتضرع اليه من أجلهم، فوقتئذٍ ما عاد هو أستطاع أن يستمر ثابتاً على رفض المطلوب بل حالاً رفع الحصار عن المدينة، الا أن تضرعات مريم لدى يسوع هي بما لا يحد أكثر قبولاً من تضرعات فكتوريا لدى كوريولانوس بمقدار ما أن هذا الأبن الإلهي هو مكافئ عادلٌ ومحبٌ عظيمٌ لأمه هذه الجليلة. على أن الأب يوستينوس فيكوفيانسه قد كتب قائلاً: أن تنهدةً واحدةً من الطوباوية مريم لها قبولٌ وأستحقاقٌ أمام الله أكثر مما تستطيع عليه لديه تعالى توسلات جميع القديسين معاً: وهذا الأمر عينه قد أعترف به الشيطان نفسه للقديس عبد الأحد مضطراً من قبل ما حتم به عليه هذا القديس عينه، حينما كان يخرجه من إنسانٍ معترى منه، حسبما يخبر الأب باجيوكالى، أي أنه قال له أن تنهداً واحداً مصنوعاً من والدة الإله له مفعولٌ أمام الله أفضل من صلوات جميع القديسين والقديسات وتضرعاتهم وتوسلاتهم لديه عز وجل.*
ثم يقول القديس أنطونينوس: أن صلوات البتول مريم الطوباوية اذ أنها هي صلوات أمٍ، فلها نوعٌ من حق التآمر ولهذا فلمن المستحيل أن لا تقبل طلبتها حينما تتضرع: ولذلك يخاطب البتول المجيدة القديس جرمانوس مشجعاً كل الخطأة بأن يلتجئوا الى هذه الشفيعة الحارة وقائلاً نحوها: أنكِ يا مريم اذ كنتِ حاصلةً على السلطان الوالدي نحو الله فتستمدين الغفران للخطأة الأكثر أثماً والأشد قبحاً، لأن ذاك الرب الذي في كل شيء يعرفكِ أماً حقيقيةً له. فلا يمكنه أن لا يهبكِ كل شيءٍ تسألينه: ولهذا القديسة بريجيتا قد سمعت القديسين في السماء يتكلمون مع والدة الإله قائلين لها: أيتها السيدة المباركة، ما هو الشيء الذي أنتِ لا تقدرين أن تصنعينه، لأن الشيء الذي تريدينه فهذا هو الشيء الذي يعمل. ومن ثم يصادق هذا الكلام ذاك القول الشهير وهو: أن السلطة التي لله هي لصلاتكِ أيتها العذراء ويقول القديس أوغوسطينوس: أفهل أنها لا تكون لائقةً بخيرية صلاح الرب هذه القضية، وهي أن يحفظ شرف مقام والدته والحال أنه تعالى يعلن واضحاً أنه لم يأتِ الى الأرض ليحل الناموس بل ليتممه، والحال أن أحدى وصايا هذا الناموس هي الحتم على الأولاد بأن يكرموا والديهم: بل أن القديس جاورجيوس رئيس أساقفة نيكوميديه يضيف الى ذلك قائلاً: أن يسوع المسيح لكي يفي على نوعٍ ما الألتزام الذي عليه لهذه الأم الإلهية، لأجل أنها أعطته بواسطة أرتضائها بسر التجسد الكون الإنساني من دمائها، فيكمل هو جميع ما تطلبه منه: وهنا يهتف القديس متوديوس الشهيد صارخاً: أفرحي يا مريم لأنكِ حصلتِ على الحظ السعيد في أن يكون مديوناً لكِ ذاك الأبن الذي هو يعطي الجميع ولا يقبل من أحدٍ شيئاً، فنحن كلنا مديونون لله في جميع ما عندنا على الأطلاق، لأن كل شيءٍ هو ممنوحٌ منه هبةً لنا، وأما أنتِ فأراد الله نفسه أن يكون مديوناً لكِ بأخذه منكِ الناسوت، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: أن مريم اذ أستحقت أن تعطي الناسوت للكلمة الأزلي. وبهذا الناسوت تم أفتداء الجنس البشري وصرنا نحن ناجين من الموت الأبدي، فلهذا مريم هي مقتدرةٌ أكثر من الجميع على أسعافنا لأن نحصل على الخلاص الأبدي. وكذلك كتب القديس ثاوفيلوس الأسقف الأسكندري الذي كان عائشاً على زمن القديس أيرونيموس قائلاً هكذا: أن الأبن يسر مرتضياً بأن والدته تتوسل اليه، لأنه يريد أن يهبها جميع ما تشاء مانحاً إياها ذلك حباً بها وأعتباراً لها، وبهذا يريد أن يكافئ النعمة التي هو كان أقتبلها من هذه الأم الإلهية بأعطائها إياه الجسم الإنساني، فمن ثم يلتفت القديس يوحنا الدمشقي نحو العذراء مخاطباً إياها بهذه الكلمات وهي: فأنتِ اذاً يا مريم بحسب كونكِ والدة الإله تقدرين أن تخلصي الجميع بواسطة صلواتكِ التي لها قيمة سلطان أمٍ وحاصلة على أعتبار سطوة والدةٍ,*
فلنجز القول بألفاظ القديس بوناونتورا الذي عند تأمله في مقدار عظمة الخير المصنوع من الله معنا بمنحه إيانا مريم شفيعةً بنا، يخاطب هذه البتول المجيدة قائلاً: يا لسمو خيرية صلاح إلهنا الفائقة الأدراك بالحقيقة، والعديمة التناهي، لأنه أراد أن يهبنا نحن الأثمة الأشقياء شفيعةً جليلةً التي هي أنتِ أيتها السيدة المعظمة، لكي تستطيعي بواسطة شفاعتكِ المقتدرة أن تستمدي لنا من الخير والنعم بمقدار ما أنتِ تريدين... وبالعظمة رأفة الرب الملك، كيلا نهرب نحن خوفاً من الحكومة المزمعة أن تبرز على دعوانا في ديوانه الإلهي، قد أقام لنا محاميةً وشفيعةً والدته نفسها التي لها السلطان على النعم.*
* نموذج *
أن الأب راتسي الراهب الكامندولازي يخبرنا (في الأعجوبة 47من كتابه على عجائب العذراء) بأنه كان شابٌ ما الذي بعد وفاة والده قد أرسلته والدته الى بلاط أحد المسلطين ليخدم هناك، الا أن هذه الأم الحسنة العابدة نحو والدة الإله قد ألزمت أبنها قبل سفره من عندها بأن يعطيها وعداً في أنه كل يومٍ يتلو السلام الملائكي وعند نهاية تلاوته إياه يقول هذه الكلمات وهي: أيتها البتول المباركةعينيني في ساعة موتي. فبعد أن وصل الشاب الى مكان الخدمة التي مضى ليمارسها قد أتبع طريق الرذيلة وأفتعال المآثم، حتى أن سيده أضطر لأن يطرده من خدمته، ومن ثم لنظره ذاته في تك الحال السيئة عادم القوت الضروري لحياته، شرع كمقطوع الرجا يطوف في البراري لصاً قاتولاً، غير أنه وهو في تلك الظروف لم يكن يتغافل عن أتمام ما كان وعد به أمه ملتجئاً مراتٍ كثيرةً الى شفاعة أم الرحمة، فأخيراً يوماً ما قبض عليه خدام الشريعة وأعطى ضده حكم الموت، ففي اليوم المتقدم على وضع الحكومة بالعمل اذ كان هو في السجن غائصاً في بحرٍ من الحزن، عند تأمله من جهةٍ أولى شقاوة سيرته وثقل خطاياه وحكومة الموت ضده، ومن جهةٍ أخرى مرارة حزن والدته عند سماعها بموته على هذه الصورة المفضوحة الصيت، فالشيطان لنظره إياه ميؤوساً من شدة الغم قد ظهر له بصورة شابٍ جميلٍ، ودنا منه موعداً إياه بأطلاقه من السجن وبخلاصه من الموت أن كان يفعل كل ما كان هو يريده منه، واذ وعده الشاب بذلك فحينئذٍ هو أخبره عن ذاته بأنه كان الشيطان وبأنه قد جاء لمعونته، ولكنن هذا العدو الجهنمي قد طلب منه قبل كل شيء أن ينكر يسوع وأسرار الديانة المسيحية، فالشاب الشقي قد نكرها، الا أنه اذ طلب منه الشيطان أن ينكر مريم العذراء فأجابه، كلا، أن هذا الأمر لا يمكن أن أفعله، وحينئذٍ التفت هو أي الشاب نحو والدة الإله قائلاً لها تلك الصلاة التي كان تعلمها من أمه وهي: أيتها البتول المباركة عينيني في ساعة موتي: فعند تلفظه بهذه الكلمة غاب عنه الشيطان، غير أن الشاب بقي مملؤاً من مرارة الحزن على كونه زاد على خطاياه السابقة هذه الأخيرة الأشد شناعةً ونفاقاً من جميعها، وهي نكرانه يسوع المسيح وأسرار ديانته، ولكنه اذ واظب الألتجاء الى شفاعة الأم الإلهية فهي أستمدت له نعمة الندامة على خطاياه كلها، ولذلك قد أعترف في منبر الذمة بها بدموعٍ غزيرةٍ وبتوجعٍ مرٍ، فحينما أخرجته خدام الشريعة بعد ذلك من الحبس ليمضوا به الى مكان القتل، ففي الطريق اذ شاهد هو أحد تماثيل والدة الإله مجسماً، قد حياها بالسلام الملائكي حسب عادته مضيفاً اليه تلك الكلمات وهي: أيتها البتول المباركة عينيني في ساعة موتي: فالتمثال عند ذلك أحنى له رأسه بنوعٍ قد شاهده الشعب كله، كأن العذراء المجيدة قد سلمت عليه شاكرةً معروفه، فالشاب حينئذٍ أزداد تخشعاً وطلب من الجنود أن يسمحوا له بان يدنو من ذلك التمثال ويقبل قدمي العذراء ففي الأول توقفوا عن السماح له بهذا، لأنه خارج عن الرسوم الا أنهم خوفاً من الشعب الذي كان شاهد الأعجوبة وبدأ يصرخ ضدهم، أقادوا الشاب أمام التمثال المقدس، فيا للعجب أنه عندما أنطرح هو مقبلاً قدمي البتول، فهي مدت يدها ومسكته شديداً بنوع أنه لم يعد ممكناً تخليصه منها، فحينئذٍ صرخ الشعب كله: نعمةً نعمةً: وهكذا صار، وأعطيت النعمة للشاب بأنه خلص ناجياً من الموت، فرجع الى وطنه وأستسار سيرةً مسيحيةً فاضلةً، مستحراً في التعبد لمريم التي أنقذته على هذه الصورة من الموت الزمني ومن الموت الأبدي أيضاً.*
† صلاة †
أنني أخاطبكِ يا والدة الإله العظيمة الشأن بألفاظ القديس برنردوس قائلاً: أن أبنكِ هو سريع الأصغاء الى طلباتكِ، وكل شيءٍ تسألينه فهو حالاً يعطيكِ إياه، فتكلمي اذاً تكلمي لديه يا مريم شفيعتنا في خيرنا نحن الأشقياء الذليلين، متذكرةً أنكِ أنما حصلتِ منه تعالى مفوضةً هذا السلطان والأقتدار لأجل خيرنا، لأن الله نفسه لهذه الغاية قد صير ذاته مديوناً لكِ مرتضياً بأن يأخذ منكِ الكون متجسداً بالناسوت. لكي تستطيعي حسب مشيئتكِ أن توزعي على المساكين غنى المراحم الإلهية. فنحن هم عبيدكِ ومختصون بنوعٍ متميزٍ بالتعبد لكِ. وفيما بين الآخرين أؤمل أن أكون أنا واحداً منهم، ونحن نفتخر بأننا عائشون تحت كنفكِ فائزين بحمايتكِ، فأن كنتِ أنتِ تصنعين الخير مع الجميع حتى مع أولئك الذين لا يعرفونكِ، أو لا يكرمونكِ بل بالأحرى يهينونكِ ويجدفون عليكِ، فكم من الرجاء يلزمنا نحن أن نؤمل منكِ عنايةً أفضل، ومن جودكِ سخاءً أجزل، ومن رحمتكِ (التي تفتش من تلقاء ذاتها على المحتاجين لتسعفهم) حنواً أعظم بعد أننا نحبكِ ونكرمكِ ونثق بكِ متكلين عليكِ. فأي نعم أننا خطأة جداً. ولكن الله قد أغناكِ بالرأفة وفوضكِ أستطاعةً مطلقةً تفوق كثيراً على عدم أستحقاقنا. وتسمو بما لا يحد على كثرة خطايانا، فأنتِ تريدين خلاصنا وتقدرين عليه، ونحن بأكثر من ذلك موملونه، وفيكِ مترجون أن نفوز بهبمقدار ما نحن غير مستحقين له، لكي نمجدكِ في السماء بأفضل نوعٍ حينما نبلغ إليكِ بواسطة مفعول شفاعتكِ من أجلنا. والآن نحن نقدم لديكِ يا أم الرحمة أنفسنا التي في وقتٍ ما كانت جميلةً مغتسلةً بدم يسوع المسيح. ولكنها فيما بعد قد تدنست بالمآثم، فأنتِ الآن أهتمي في تطهيرها مستمدةً لنا من الله رجوعاً صادقاً اليه تعالى تائبين عن الخطيئة، ومستميحةً لنا نعمة الحب له عز وجل، ونعمة الثبات على الخير، ثم نعمة الخلاص الأبدي، فأي نعم أن مطاليبنا هذه منكِ هي عظيمةٌ، ولكن هل أنكِ لا تقدرين أن تناليها لنا كلها، أو هل أنها هي زائدةٌ بالنسبة للحب الذي يحبكِ به الله، والحال أنه يكفي لذلك أن تفتحي فمكِ متوسلةً لدى أبنكِ، وهو لا ينكر عليكِ شيئاً مهما كان. فتوسلي اذاً يا مريم وصلي من أجلنا، ومن دون ريبٍ أنتِ تنالين ما تطلبينه ونحن نفوز بالخلاص حقاً.*
الجزء الثاني
* في أن مريم العذراء هي شفيعةٌ بهذا المقدار مملؤةٌ من الرأفة حتى أنها لا ترفض أن تحامي عن دعاوى من هم أشد شقاوةً أيضاً*
أن الأسباب والحجج التي من أجلها نحن ملتزمون بأن نحب ملكتنا هذه الكلية المحبة هي بهذا المقدار كثيرةٌ وقويةٌ حتى أنه اذا كان سكان الأرض أجمعون يمدحوها، الواعظون كافةً لا يخطبون في المنابر الا في تقريظاتها. والبشر كلهم يسفكون دماهم من أجلها، فلم يكن ذلك تكريماً كافياً ومكافأةً تامةً لمعرفة الجميل الذي نحن مدينون به لشدة الحب الذي به تحب هذه السيدة البشرين كافةً. حتى الخطأة الأكثر أثاماً الذين يحفظون نحوها نوعاً من المحبة والعبادة. فرايموندوس يوردانوس المكرم المسمى أيديوطا تواضعاً كان يقول: أن مريم لا تعرف أن لا تحب من يحبها، بل لا تأنف من أن تتنازل لأن تخدم من يخدمها. ممارسةً نحوه (أن يكن هذا خاطئاً) كل مفاعيل أقتدار شفاعتها لتستمد له الغفران من أبنها المبارك، فهكذا هي عظيمةٌ رأفتها وحنوها حتى أنه ولا واحدٌ مهما كان بلغ الى درجات الجحيم يمكنه أن يخاف ممن الألتجاء إليها منطرحاً لدى قدميها، لأنها لا تطرد أحداً من المستغيثين بها: فمريم بحسبما هي شفيعتنا الكلية الحب نحونا. هي عينها تقدم تضرعاتنا لدى الله نحن عبيدها، لا سيما تلك التوسلات التي تكون قدمت اليها، لأنه كما أن الأبن يشفع فينا لدى الآب، فكذلك هي نفسها تشفع فينا لدى الأبن، ولا تتغافل عن أن تمارس عنايتها أمامهما معاً أي لدى الآب والأبن في صالح أمورنا، وفي قضية خلاصنا الأبدي الى أن تنال لنا تلك النعم التي نحن نبتغيها: فاذاً ليس من دون أساسٍ رهنٍ يسمي الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس البتول القديسة: ملجئ الهالكين الفريد ورجاء الأشقياء وشفيعة الخطأة أجمعين الذين يلتجئون اليها، ولكن اذا وجد خاطٍ ما الذي ولئن لم يكن يرتاب في أقتدار مريم، فمع ذلك يقل رجاؤه في رأفتها خائفاً ربما من أنها لا تريد أن تساعده لأجل ثقل خطاياه وكثرتها، فالقديس بوناونتورا يشجع الخاطئ الذي هذه الصفة صفته قائلاً له: أنه لعظيمٌ هو وفريدٌ الأختصاص الذي لمريم لدى أبنها بأن تنال منه كل شيءٍ هي تريده بصلواتها أمامه، ولكن ترى ما الذي يفيدنا عظم أقتدار مريم أن كانت هي لا تفتكر فينا أصلاً، كلا، لا ينبغي لنا أن نرتاب. بل فلنكن مطمئنين ولنشكر الرب دائماً ولنمدح والدته الإلهية. لأنه كما انها هي أمام الله مقبولةٌ مكرمةٌ أكثر من جميع القديسين. فهكذا هي شفيعتنا الأشد غيرةً والأكثر حباً والأعظم محاميةً عما يأول لخيرنا. فمن ثم يهتف القديس جرمانوس مملؤاً من الفرح قائلاً نحوها: فمن هو يا أم الرحمة الذي بعد يسوع أبنكِ يهتم بنا بهذا المقدار معتنياً في خيرنا نظيركِ. من هو الذي يحمينا من التجارب التي تحزننا مثلما تحامين أنتِ عنا، من هو الذي يرتضي بأن يتشفع في الخطأة ويعضدهم وكأنه يحارب عنهم نظيركِ، فاذاً أن حمايتكِ يا مريم هي أكثر حباً وأشد قوةً مما نحن يمكننا أن نتصوره في عقولنا: لأنه (يقول أيديوطا) من حيث أن القديسين كافةً يستطيعون أن يفيدوا الذين هم متعبدون لهم أفادةً خصوصيةً زائدةً عن الآخرين فالأم الإلهية بحسبما هي ملكة الجميع، هي على هذه الصورة شفيعة الجميع ومعتنيةٌ حارةٌ في خلاص الجميع من دون أستثناءٍ:*
فهي تهتم في كل أحدٍ حتى في الأشرار، بل أنها تفتخر هي في كونها تدعى محامية الخطأة وشفيعتهم الخاصة، حسبما أوضحت ذلك هي نفسها لعبدة الرب الراهبة مريم فيلاني المكرمة قائلةً لها: أنني من بعد الصفة الشريفة التي أمتلكها بكوني والدة الإله فأفتخر بهذه الصفة الأخرى أكثر من البقية وهي بكوني أدعى شفيعة الخطأة، ثم يقول الطوباوي أماداوس: أن سلطانتنا لا تهمل أن تعتني لدى العزة الإلهية دائماً بالتضرعات الكلية الأقتدار من حيث أنها وهي في السماء تعلم جيداً حال شقاوتنا وشدة أحتياجاتنا، فلا تقدر أن لا تتوجع من جرائنا وألا تشفق علينا. ومن ثم بحبٍ والدي بحسبما هي أمنا تنعطف بأشفاقٍ وتعتني بحنوٍ في أن تسعفنا على الدوام وتهتم في أمر خلاصنا الأبدي: ولهذا ريكاردوس الذي من سان لورانسوس يشجع كل إنسانٍ مهما وجد شقياً على الألتجاء الى مريم شفيعتنا بحسن أتكالٍ، مؤكداً له بأنه يجد فيها دائماً أستعداداً حياً لأسعافه، كما يقول غوفريدوس: أن مريم هي على الدوام مستعدةٌ لأن تصلي من أجل الجميع.*
فيا لها من عنايةٍ وغيرةٍ حارةٍ تتعاطى بها شفيعتنا المجيدة دعوى خلاصنا الأبدي، (يقول القديس برنردوس) لأننا في حال غربتنا هذه قد سبقنا وقدمنا شفيعتنا التي لكونها أم الديان وأم الرحمة أيضاً فتتعاطى أمر خلاصنا وتكتسب لنا الدعوى. ثم أن القديس أوغوسطينوس اذ كان يتأمل الحب والأعتناء اللذين بهما تهتم مريم دائماً في تضرعاتها لدى العزة الإلهية، لكي يغفر لنا الرب خطايانا ويسعفنا بأنعامه ويخلصنا من المخاطر وينجينا من الشقاوة والهلاك، يقول مخاطباً هذه السلطانة المجيدة هكذا: أي نعم أيتها السيدة أن القديسين كلهم يحبون خلاصنا ويصلون من أجلنا، ولكن الحب والشفقة والحنو والأنعطافات التي تظهرينها نحونا أنتِ من السماء بأستمدادكِ لنا بواسطة تضرعاتكِ من أجلنا نعماً هكذا عظيمةً من الله. فهذا كله يلزمنا بأن نعترف بأنه ليس لنا في السماء سوى شفيعةٍ واحدةٍ التي هي أنتِ، وأنكِ أنتِ وحدكِ محبةٌ صادقةٌ حقيقيةٌ مهتمةٌ ومعتنيةٌ في خيرنا وخلاصنا: ثم يقول القديس جرمانوس: ترى من هو الذي يمكنه أن يدرك الأهتمامات والأعتناء والغيرة التي بها تسعفنا مريم أمام اله دائماً في قضاء أحتياجاتنا، لأن رأفتها وأشفاقها نحونا نحن الأشقياء وحبها إيانا ورغبتها خيرنا هي بهذا المقدار وافرةٌ حارةٌ صادقةٌ، حتى أنها تصلي من أجلنا من دون مللٍ وتكرر تضرعاتها، ولا تشبع من التوسل في صالحنا، وهكذا تسعفنا بأنقاذها إيانا من الشرور وبأستمدادها لنا النعم التي نحتاج اليها.*
فيا لشقاوتنا وتعاستنا نحن الخطأة لولا نكون حاصلين على هذه الشفيعة العظيمة التي هي مقتدرةٌ جداً ورحومةٌ في الغاية وحكيمةٌ بما لا يوصف وفطونةٌ فوق الكفاية: حتى أن القاضي الإلهي أبنها يسوع (يقول ريكاردوس) لا يمكنه أن يحكم بالهلاك على أولئك المذنبين الذين هي تحامي عنهم: ومن ثم يسلم عليها القديس يوحنا جاوماترا قائلاً: السلام عليكِ أيها الشريعة الملاشية من الدعاوى كل الخصومات." لأن جميع الدعاوى المحامى عنها من هذه الشفيعة الكلية الفطنة والحكمة فتكتسب كافةً من دون أن تخسر واحدةٌ منها، ولهذا يسمي مريم القديس بوناونتورا: أبيغال الحكيمة: فأبيغال هي تلك الأمرأة (المذكورة في الاصحاح الخامس والعشرين من سفر الملوك الأول) التي عرفت جيداً أن تهدئ بواسطة توسلاتها وبراهين حكمتها غضب داود الملك حينما وجد هو ممتلئاً رجزاً ضد نابال، فقد راق قلب داود اذاً بواسطة تضرعات أبيغال بهذا المقدار حتى أنه هو نفسه كأنه شكر فضلها قائلاً لها: مباركٌ الرب إله أسرائيل الذي أرسلكِ اليوم تجاهي. ومباركٌ هو كلامكِ ومباركةٌ أنتِ كما منعتني اليوم عن أن أدخل في الدم وأنتقم بيدي: فهذا الأمر عينه تصنعه مريم في السماء على الدوام في صالح خطأةٍ لا يحصون عدداً، لأنها تعرف هي جيداً أن تهدئ غضب العدل الإلهي بواسطة تضرعاتها المملؤة أشفاقاً، وبكلماتها ذات العذوبة والحكمة، حتى أن الله نفسه يباركها عن ذلك وكأنه على نوعٍ ما يشكر عناية حبها وتضرعاتها التي تمسكه عن أن يهمل هؤلاء الخطأة مرذلاً، ويعاقبهم مقاصاً حسبما يستحقون، فيقول القديس برنردوس: أنه لأجل هذه الغاية اذ كان الآب الأزلي يريد أن يستعمل معنا كل أنواع الرحمة والحكمة الممكنة، فما عدا الشفيع الأول والأصلي الذي يشفع فينا لديه وهو أبنه يسوع المسيح، قد منحنا هذه الشفيعة التي هي مريم لدى أبنها يسوع المسيح عينه:*
فلا ريب ولا أشكال (يقول القديس برنردوس نفسه) في أن يسوع المسيح هو الوسيط العدل الوحيد فيما بين الله الآب وبين البشر، وهو الذي بقوة أستحقاقاته الخصوصية الذاتية يقدر حقاً حسب مواعيده أن يكتسب لنا الغفران والنعمة الإلهية. ويريد ذلك ولكن من حيث أن البشر يعرفون في شخص يسوع المسيح العظمة الإلهية الكائنة به حسبما هو إلهٌ، ويخافون منه، فلهذا لزم بالضرورة أن يقام لنا شفيعٌ نقدر نحن أن نلتجئ اليه بأقل خوفٍ وبأكثر طمأنينةٍ، فأقام الله لنا مريم شفيعةٌ بنوع أننا لا نقدر أن نصادرف محاميةً، لا أشد منها أقتداراً أمام العزة الإلهية، ولا أكثر منها أشفاقاً نحونا: ولهذا بالحقيقة يفتري على مريم ليس بالقليل (يتبع القديس برنردوس كلامه السابق بقوله الحاضر) ذاك الذي يخاف من أن يمضى لدى قدمي هذه الشفيعة الموعبة من العذوبة والحلاوة. والبعيدة عن الصرامة والقساوة. بل هي بجملتها عواطف حبٍ وأشفاقٍ وحنوٍ وخيريةٍ، فأقرأ يا هذا خبرية الأناجيل المقدسة كلها وأفحصها جيداً، واذا رأيت مدوناً عن مريم حادثاً ما يشير الى صرامتها وشدة معاملتها، فحينئذٍ خف منها وأخشى من أن تبادر اليها. غير أنك لا تقدر أن تجد ذلك. فاذاً بادر اليها فرحاً وهي تخلصك بشفاعتها:*
أما غوليالموس الباريسي فجعل الخاطئ الملتجئ الى هذه السيدة أن يخاطبها بهذه العبارات الجليلة قائلاً لها: يا أم إلهي أني فيما أنا به من الحال الشقية عينها التي قد أوصلتني اليها خطاياي أبادر اليكِ ملتجئاً بكِ برجاءٍ وطيدٍ، فأن طردتيني رافضةً إياي، فأنا أستطيع أن أقول لكِ أنكِ على نوعٍ ما لملتزمةٌ أنتِ بأن تعينيني، لأن الكنيسة الجامعة كلها والمؤمنين أجمعين يسمونكٍ أم الرحمة، فأنتِ هي يا مريم تلك التي لأجل كونها عزيزةً أمام الله ومحبوبةً منه فدائماً طلباتها هي مقبولةٌ لديه تعالى، فرأفتكِ العظيمة ما نقصت قط عن أحدٍ، وعذوبتكِ وحلاوة قلبكِ وليونة ناسوتكِ ولطافة معاملتكِ لم تدعكِ أصلاً أن تحتقري أحداً من الخطأة. مهما كانت حاله سيئةً ومآثمه فظيعةً وقبائحه شنيعةً بحيث أنه يستغيث بكِ مستمداً منكِ العون، لأنه أهل يمكن أن الكنيسة كلها أفكاً وبطلاً وسدىً تدعوكٍ شفيعتها ومحاميتها، وتلقبكِ بملجاء البائسين، فلا يكن أبداً أن خطاياي تستطيع يا أمي أن تمسككِ عن أن تتممي نحوي واجبات الوظيفة العظيمة ذات الرأفة والرحمة المقلدة لكِ، والتي بموجبها أنتِ هي الشفيعة في البشر والوسيطة فيما بينهم وبين الله لأجتلاب الصلح. وأنتِ بعد أبنكِ هي الرجاء الوحيد للميؤوسين والملجئ الفريد للبائسين. فجميع ما أنتِ حاصلةٌ عليه من النعمة والمجد ومن المرتبة العظمى عينها وهي حال كونكِ والدة الإله (فأن يكن مباحاً لي فأقول) أن هذه كلها أنتِ ملزومةٌ بأن تعرفي جميلها عليكِ للخطأة. لأن الكلمة الأزلي بسبب هؤلاء الخطأة قد صيركِ أماً له بتجسده منكِ، فاذاً أبعد البعد هو التفكر في أن الأم الإلهية التي ولدت للعالم ينبوع الرأفة يمكن أن تنكر رحمتها على أحد المساكين الملتجئين اليها، فمن حيث أن وظيفتكِ يا مريم هي أن تتوسطي فيما للصلح بين الله والناس. فليحرككِ لأن تفتكري بي أشفاقكِ نفسه الذي هو بما لا يحد عظيمٌ، حتى أن خطاياي مهما كانت كثيرةً وكبيرةً فلا يمكن أن تسمو عليه.*
" فكونوا متعزين اذاً يا معشر صغيري الأنفس (أقول لكم مع القديس توما الفلانوفي) وأبتهجوا بسرورٍ يا ميؤوسين، وتشجعوا معاً أنتم أيها الخطأة كافةً. فأن هذه البتول العظيمة التي هي والدة إلهكم وديانكم، فهي هي نفسها شفيعة الجنس البشري والمحامية عنه، وهي مقتدرةٌ على أن تنال من الله كل شيءٍ، وهي كلية الحكمة وتعرف جميع الوسائط التي بها تهدئ غضب العدل الإلهي. وهي شفيعةٌ عامةٌ مشاعةٌ للجميع، فتقبل كل واحدٍ ولا ترفض أصلاً أن تحامي عن أحدٍ مهما كان ممن يقصدونها.*
* نموذج *
أنه مما صنعته البتول المجيدة شفيعتنا الرأوفة مع الراهبة المسماة بياتريكس، من راهبات الدير الكائن في فونطابرالدوس كما هو مدون من المعلم كيساريوس ومن الأب رهو، يظهر واضحاً كم هو سمو رأفة هذه الشفيعة نحو الخطأة، فالراهبة المذكورة التعيسة اذ كانت غلبت من آلام الدنس مغرمةً في عشق شابٍ ما قد كان ملك حبه قلبها، فأعتمدت على أن تهرب من الدير معه كما تممت الأمر فعلاً، لأنها يوماً ما قد تقدمت أمام أيقونة والدة الإله، وهناك تركت مفاتيح الدير بما أن وظيفتها كانت بوابةً، وخرجت من الدير بروحٍ عديم الحياء، وعندما وصلت الى بلدةٍ أخرى فهناك سلمت ذاتها لكل صنف من القبائح، وأضحت أمرأةً مشاعةً لفعل الدنس حيث أستمرت مدة خمس عشرة سنةً في هذه الحال الشقية، فيوماً ما بعد الزمن المذكور قد صودف في تلك المدينة الرجل المتعلقة به أمور دير فونطابرالدوس الزمنية، فلما رأته هناك تقدمت اليه لعلمها أنها غير معروفةٍ منه، وسألته أن كان يعرف تلك الراهبة المدعوة بياتريكس، فأجابها الرجل
– نعم أني أعرفها جيداً، وهي موجودةٌ في الدير وبالحقيقة أنها راهبةٌ قديسةٌ وقد أقيمت حديثاً معلمة للمبتدئات. فلما سمعت هي منه هذا الجواب قد بهتت متحيرةً قلقةً لم تعد تعلم ماذا تفتكر ولا كيف تصدق الأمر، فمن ثم لكي تتحقق القضية جيداً بالأمتحان قد غيرت ملبوسها وأنطلقت الى الدير وأستدعت الراهبة بياتريكس الموجودة هناك، وهوذا بوالدة الإله الكلية القداسة قد ظهرت أمامها بالصورة والهيئة ذاتها المصورة هي بها في تلك الأيقونة التي كانت بياتريكس وضعت أمامها مفاتيح الدير مع ثوبها الرهباني، وحينئذٍ قالت لها هذه الأم الإلهية هكذا: أعلمي يا بياتريكس أنني لكي أمنع عنكِ فضيحة الصيت وخسران السمعة الصالحة قد أتخذت على ذاتي صورتكِ وهيئتكِ، وعوضاً عنكِ قد مارست وظيفتكِ في كل مدة الخمس عشرة سنةً التي كنتِ أنتِ فيها بعيدةً عن الدير وعن الله، فأرجعي يا أبنتي وأعملي توبةً لأن أبني لم يزل ينتظر رجوعكِ اليه، وأجتهدي بواسطة صلاح سيرتكِ في أن تحفظي الأسم الصالح الذي أنا أكتسبته لكِ ههنا بما تصرفت به على أسمكِ: قالت هذا وغابت من أمامها. فوقتئذٍ بياتريكس دخلت الدير وتردت بالثوب الرهباني وعاشت كقديسةٍ حافظةً الجميل نحو المحسنة أليها وعندما دنا موتها قد أخبرت بالحادث المذكور تمجيداً لمراحم والدة الإله شفيعتها.*
† صلاة †
يا أم سيدي العظيمة أني ألاحظ حسناً أن تصرفي مدةً من السنين مديدةً بنكران الجميل وبعدم المعروف نحو الله ونحوكِ. يستحق أن يعاقب عدلاً بهذا العقاب وهو أنكِ تهمليني متروكاً بعد الآن من عنايتكِ وأهتمامكِ، لأن الخائن الكافر بالجميل نحو المحسن اليه لا يعود يستحق أنعاماً ما، ولكن أيتها السيدة أنا لي طمعٌ وأعتبارٌ عظيمان في خيرية صلاحكِ، وأعلم أكيداً أن جودتكِ هي أكبر كثيراً من كفراني بالجميل. فداومي اذاً يا ملجأ الخطأة على أسعافكِ خاطئاً بهذا المقدار محتاجاً وهو كلي الأتكال عليكِ، ولا تهمليه يا أم الرحمة، بل أمددي يدكِ لتنهضى هذا الساقط البائس الطالب منكِ الرأفة، فأنا أسألكِ يا مريم المجيدة أما أن تحامي عني متشفعةً بي، وأما أن اخبريني الى من ألتجئ ليتخذ على ذاته حمايتي بنوعٍ أجود منكِ، ولكن أين يمكنني أنا أن أجد شفيعةً لها أستطاعةٌ أمام الله، وذات أشفاقٍ عليَّ أكثر منكِ بعد أنكِ أنتِ هي أمٌ لله، فلا شك في أنكِ أنما أنتخبتِ أماً لمخلص العالم لكي تسعي في خلاص الخطأة، وقد أعطيتِ لي خلاصاً، فخلصي أيتها البتول من يلتجئ اليكِ، لأني أي نعم أنا لا أستحق محبتكِ لي بعد الآن ولكن الشوق الذي في قلبكِ نحو خلاص الهالكين نظيري، فهذا يجعلني أن أؤمل أنكِ تحبيني. وأن أحببتيني فكيف يمكن أن أهلك، ولهذا أن أنا فزت بالخلاص بواسطتكِ كما أرجو بثقةٍ منكِ يا أمي المحبوبة في الغاية، فلا أعود أصلاً أن أوجد نحوكِ ناكر الجميل. بل سأكافئ عدم معروفي السابق بالمدائح والتسابيح والتقريظات القلبية الى الأبد في السماء حيث أنتِ تملكين سرمداً بكل سعادةٍ، مرتلاً تعظيمات الشكر لرحمتكِ، ومقبلاً بتكرارٍ غير منته تلك اليد السخية
التي خلصتني من جهنم مراتٍ عديدةً موازيةً عدد المرات التي بها
أنا سقطت في الخطيئة المميتة، فأنا أحبكِ
يا مريم منقذتي ورجائي وملكتي
وشفيعتي وأمي، وأريد أن
أحبكِ وأعظمكِ دائماً
آمين*
https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg
الجزء الثالث
* في أن مريم العذراء وسيطة الصلح فيما بين الله وبين الخطأة*
أن نعمة الله هي كنزٌ عظيمٌ فائق الثمن مشتهى بأشواقٍ متقدةٍ من كل نفسٍ، فالروح القدس يسمي كنز النعمة كنزاً غير متناهٍ، لأننا بواسطة نعمة الله نحن قد أرتقينا الى مرتبة خلان الله وأصدقائه كقوله تعالى: لأنها عند الناس كنزاً غير متناهٍ والذين أستعملوه بلغوا الى محبة الله محمودين من أجل الأشياء الموهوبة لهم من الآب (سفر الحكمة ص7 ع14) فمن ثم مخلصنا يسوع المسيح الذي هو إلهنا لم يرتب في أن يسمي أصدقاه وأحباه أولئك الذين هم في حال النعمة قائلاً لتلاميذه: لا أسميكم الآن عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يصنع سيده بل سميتكم أحبائي: (يوحنا ص15ع14) فلتكن ملعونةً الخطيئة لأنها تلاشي رباط هذا الحب والصداقة مع الله، كما يقول أشعيا النبي (ص59ع2): أن أثامكم فرقت فيما بينكم وبين إلهكم: بل أن الخطيئة تجعل النفس مبغوضةً من الله كقوله عز وجل: أن المنافق ونفاقه هما مبغوضان على حدٍ سواء عند الله: (سفر الحكمة ص14ع9) وهكذا من حال الصداقة لله تنتقل النفس الى حال العداوة له تعالى. فماذا ينبغي اذاً أن يفعله الخاطئ الذي لتعاسته يحصل في وقتٍ ما عدواً لله، أنه يلزمه أن يجد له وسيطاً يمكنه أن يستمد له من المراحم الإلهية الغفران، ويجعله أن يكتسب من جديد صداقة الله ومحبته التي خسرها. فهنا القديس برنردوس يهتف قائلاً نحو الخاطئ الذي هذه الصفة صفته هكذا: أفرح متعزياً أيها المسكين الذي خسرت الله، لأن سيدك هذا نفسه قد أعطاك الوسيط وهو أبنه يسوع المسيح الذي يستمد لك منه كل شيءٍ تريده.*
ثم أن هذا القديس يتأوه من تصرف البعض قائلاً: أواه كيف أن البشر يقدرون أن يعتبروا صارماً هذا المخلص الذي هو كلي الرأفة والحنو نحونا بهذا المقدار، حتى أنه أباح حياته ولا شيء ذاته من أجل خلاصنا، فترى لماذا يظنون مخوفاً ذاك الذي هو العذوبة والمحبة بالذات، فيا معشر الخطأة الميؤوسين أي شيءٍ أنتم تخافون، فأن كنتم أنما تخشون لأجل أنكم أغظتم الله وأهنتموه، فأعلموا أن يسوع قد سمر خطاياكم على الصليب مبجنةً مع يديه نفسيهما، ومن حيث أنه وفى عنها الوفاء التام للعدل الإلهي، فقد نزعها من أنفسكم ملاشياً، ولكن أن كنتم تخافون من أنكم تلتجئون الى يسوع المسيح، لأن عظمة جبروته وعزة ربوبيته تخيفكم، من حيث أنه ولئن كان هو تأنس متجسداً فلم يزل إلهاً حقاً. فهل تريدون لكم وسيطاً آخر يدخل بكم أمام هذا الوسيط الإلهي، فألتجئوا الى مريم لأنها هي تتشفع منأجلكم لدى أبنها الذي من دون أرتيابٍ يستجيب طلباتها، وهو حينئذٍ يشفع فيكم لدى أبيه الذي لا يمكنه أن ينكر عليه شيئاً: فهذه الأم الإلهية يا أولادي (يختتم القديس برنردوس كلامه قائلاً) هي سلم الخطأة الذين بواستطها يصعدون جديداً الى علو نعمة الله، وهذه هي رجائي الأعظم وهي أساس ثقتي كلها وبرهان أتكالي بجملته.*
فهوذا الألفاظ التي تتفوه بها عن ذاتها من قبل الله مريم البتول قائلةً: أنا سورٌ وثدياي كبرجٍ، فكنت أنا في عينيه كواحدة سلامٍ: (نشيد ص8ع10) أي أنها تقول أني أنا حصنٌ منيعٌ محامية عن أولئك الذين يلتجئون اليَّ، ورحمتي هي لخيرهم نظير البرج لحمايتهم، ولهذا أنا قد أقمت من سيدي وسيطةً للصلح والسلام فيما بين الله والبشر. ثم يقول الكردينال أوغون في تفسيره كلمات النشيد المقدم ذكرها: أن مريم هي الوسيطة العظيمة للصلح التي تستمد من الله السلام للأعداء وتفوز لهم بالصلح، وتكتسب الخلاص للخطأة الهالكين، وتنال الغفران للأثمة، وتستمد الرجاء للميؤوسين: ومن ثم قد دعيت هذه العروسة من عروسها الإلهي: جميلةً مثل سرداق سليمان: (نشيد ص1ع5) على أن سرادق داود الملك كانت سرادق الحرب، وأما سرادق سليمان فلم تكن الا سرادق السلام والصلح. وبهذا يشير إلينا بكفايةٍ الروح القدس على أن أم الرحمة هذه لا تتعاطى شيئاً مختصاً بالحرب وبالأنتقام من الخطأة بل أنما تتعاطى الصلح والسلام فقط. وتهتم في أكتساب الغفران لهم عن جميع مآثمهم*
ولذلك قد جاء رسم مريم وتمثالها في حمامة نوح، التي بعد خروجها من السفينة قد رجعت إليها وفي فمها عودٌ من الزيتون فيه ورقةٌ، الأمر الذي كان علامة الصلح والسلام الممنوح من الله للبشر بعد أتقاد نار غضبه ضدهم، ولذلك يخاطب القديس بوناونتورا البتول المجيدة هكذا قائلاً: أنتِ هي الحمامة الأمينة التي اذ تداخلت واسطةً في البشر أمام الله، قد أكتسبت للعالم الهالك السلام والصلح والخلاص. فمريم اذاً هي تلك الحمامة السماوية التي أجتلبت للعالم الهالك عود الزيتون علامة الرحمة والرضى. لأنها أعطتنا يسوع المسيح ينبوع الرحمة وأكتسبت لنا بعد ذلك بأستحقاقات هذا الأبن الإلهي كل النعم التي يمنحها الله، حسبما يقول الأب سبينالي. ثم أن القديس أبيفانيوس يلاحظ هذه القضية وهي: كما أنه بواسطة مريم أعطى السلام من السماء للعالم، فكذلك بواسطتها ما زال الخطأة على الدوام يستمدون الصلح مع الله: ولهذا الطوباوي ألبرتوس الكبير يجعل مريم متكلمةً هكذا: أني أنا هي حمامة نوح التي جلبت للكنيسة السلام التام والصلح العام:*
وعلى هذه الصورة قد كان رسماً لمريم البتول ذاك القوس الذي رآه القديس يوحنا الأنجيلي في جليانه محيطاً بالعرش الإلهي كقوله في سفر الأبوكاليبسي (ص4ع3): وكان قوس قزحٍ فيما حول الكرسي شبيهاً بمنظر زمردٍ: فالكردينال يتأله في تفسيره هذا النص يقول: أن مريم هي تلك التي تجول دائماً حول كرسي الله في ديوان المحكمة الإلهية، لكي تهتم في تخفيف صرامة العدل، وفي تلطيف الأحكام كيلا تعاقب الخطأة بحسبما تستحق أعمالهم السيئة: ثم أن القديس برنردينوس السياني يقول: أن هذه البتول هي ذاك القوس الذي عنه خاطب الله نوح قائلاً: أن هذه هي علامة الموثق الذي أقرره بيني وبينك وبين كل نفسٍ حية توجد معكم الى الأجيال الدهرية. أن أجعل قوسي في السحاب، فيكون علامة موثقي الذي أقرره بيني وبين الأرض... ويكون قوسي في السحاب وأبصره لأذكر الموثق الأبدي: (تكوين ص9ع13 وما يتلوه) فمريم هي هذا القوس الذي هو علامة الصلح والموثق الأبدي: ويقول القديس المذكور نفسه: أنه بالنوع الذي به حينما ينظر الله القوس في السحاب يذكر عهد الصلح وموثق السلام الذي صنعه مع الأرض، فبهذا النوع حينما تتضرع إليه مريم يغفر هو للخطأة الأهانة المصنوعة منهم في حقه، ويوطد فيما بينه وبينهم الصلح والصداقة:*
ومن ثم قد مثلت مريم بالقمر كما قيل عنها: أنها جميلةٌ مثل القمر: (نشيد ص6ع9) فيقول القديس بوناونتورا: أنه كما أن القمر هو متوسط فيما بين الشمس والأرض، فهكذا مريم تدخل واسطةً فيما بين الله والناس الخطأة، لكي تهدئ غضب الرب عنهم، ولكي تنيرهم بالرجوع الى الله: فالوظيفة الأخص التي أعطيت من الله لمريم في وضعه إياها على الأرض هي قائمةٌ بالنوع الذي به جاء الخطاب عنها في سفر النشيد بهذه الكلمات وهي: أرعي الجداء التي لكِ: (ص1ع8) فكأنه تعالى حين خلقته مريم قال لها الكلمات المقدم ذكرها، لأنه أمرٌ واضحٌ يعرفه الجميع هو أن الخطأة قد مثلوا بالجداء، فكما أن الأبرار الذين مثلوا بالخراف يقامون من عن يمين الديان في حين الدينونة العامة، فهكذا الجداء يقامون من عن شماله، ثم أن غوليالموس الباريسي يخاطب والدة الإله قائلاً: أن هؤلاء الجداء قد سلموا لرعايتكِ أيتها الأم العظيمة مريم. لكي تحيليهم الى خرافٍ، ومن حال كونهم مستحقين لأجل خطاياهم أن يقاموا في يوم الدين من عن شمال الديان. فبواسطة تضرعاتكِ من أجلهم يحصلون على أن يقاموا من عن يمينه تعالى: ثم أن الرب قد أوحى للقديسة كاترينا السيانية بأنه قد خلق أبنته المحبوبة مريم نظير طعمٍ لذيذٍ يجتذب البشر بواسطته كمن بشبكة الصيد، لاسيما الخطأة مكتسباً إياهم للرجوع إليه. ولكن ينبغي هنا أن ننبه عن العبارة الجليلة التي يوردها غوليالموس أنكليكوس فيما يلاحظ كلمات سفر النشيد وهي: أرعي الجداء التي لكِ: بقوله: أن الله يوصي مريم برعاية الجداء، لأن مريم لا تخلص الخطأة أجمعين، بل أولئك فقط الذين يخدمونها ويكرمونها متعبدين لها، وبالضد هو أن الخطأة الذين يعيشون في آثامهم ولا يكرمونها تكرمةً خصوصيةً ولا يلتجئون إليها طالبين شفاعتها ليخرجوا من حال الخطيئة، فهؤلاء ليسوا من جداء بها بل أنهم في يوم الموقف العظيم هم عتيدون أن يطردوا الى صف الشمال مع الأبالسة: فيوماً ما اذ كان أحد الأشراف لثقل جملة خطاياه الكثيرة على منكبيه حاصلاً في القلق الذي دنا به الى اليأس من الخلاص. فأحد الرهبان المطلع على حاله السيئة قد شجعه لأن يلتجئ الى والدة الإله أمام أحدى أيقوناتها الكائنة في كنيسةٍ ما أشار هو اليه عنها، فأقتبل الرجل المشورة الصالحة وذهب الى تلك الكنيسة، وعندما شاهد عن بعدٍ الأيقونة المنوه عنها شعر حالاً في ذاته كأن البتول المجيدة كانت تدعوه بعذوبةٍ لأن يأتي أمامها بثقةٍ، فأسرع هو إليها منطرحاً لدى قدميها، ثم دنا منها ليقبلها، لأن الأيقونة كانت تمثالاً مجسماً، فالأم الرأوفة مدت حينئذٍ يدها اليه ليقبلها، أما هو فرأى مكتوباً على تلك اليد: أنا أخلصك من محزنيك. وكأنها كانت تقول له: يا أبني لا تيأس فأنا أنزع عنك خطاياك وقلق ضميرك وتوبيخاته التي تعذبك: فيقال في هذه الخيرية أن ذاك الإنسان عند قراءته تلك الكلمات قد شعر بأنفعالات ندامةٍ شديدةٍ على خطاياه، وبحبٍ ملتهبٍ نحو الله ونحو والدته المجيدة حتى أنه لم يمكنه أن يعيش بعد ذلك اليوم بل تنيح قدمي هذه الأم الحنونة. فكم وكم من الخطأة يرجعون الى الله بالتوبة يومياً بواسطة هذه السيدة التي تجتذبهم كالحجر المغناتيس، حسبما أوضحت ذلك هي نفسها للقديسة بريجيتا قائلةً لها في الوحي: أنه كما أن حجر المغناتيس يجذب اليه الحديد، فهكذا أنا أجذب الى قلوب الناس الأشد قساوةً في الخطايا لكي أصالحهم مع الله: فهذا الأمر العجيب لا يحدث نادراً بل أن التجربة اليومية تؤكده علانيةً، أما أنا فيمكنني أن أقدم شهادةً صادقةً على حوادث كثيرةٍ مثل هذه تمت في أزمنة معاطاتنا الرسالات والرياضات الروحية للشعب. حيث أتفق مراتٍ عديدةً أن كثيرين من الخطأة المصرين على أثامهم. بعد أنهم يكونون أستمعوا عظاتنا الأخر من دون أدنى إفادةٍ لهم، ومن غير أن يتحركوا الى التوبة. فعند أستماعهم العظة المختصة برحمة والدة الإله كانوا يبادرون الى منبر التوبة راجعين الى الله بندامة القلب. ثم أن القديس غريغوريوس الكبير يخبر في كتابه الثالث من أدبياته عن الوحش المسمى ليونكورنوس أو الأسد المقرن بأنه بهذا المقدار هو شرسٌ كاسرٌ، مفترسٌ قويٌّ، حتى أنه لمن المستحيل أن يقدر أحد الصيادين أن يقتنصه. ولكن التجربة قد علمت الصيادين بالأمتحان طريقةً سهلةً لمسك هذا الوحش من دون خطرٍ أو تعبٍ، وهي أنهم يرسلون اليه شابةً بتولاً التي عندما تراه وتصرخ به، فهو حالما يسمع صوتها يدنو منها طائعاً ويسلم ذاته هادياً بين يديها لأن تربطه وتسوقه معها: فكم وكم من الخطأة الأشد شراسةً من الحيوانات البرية والوحوش الضارية في المآثم يهربون من وجه الله، ولكن عند سماعهم عذوبة صوت هذه البكر الكلية الطهارة يبادرون الى حمايتها ويسلمون ذواتهم بين يديها مرتضين بأن الله يربطهم برباطات حبه المقدس.*
وأما القديس يوحنا فم الذهب فيقول: أن مريم قد أختيرت والدة للإله حتى أن أولئك الخطأة المساكين الذين لأجل سيرتهم الردية لا يمكنهم أن يفوزوا بالخلاص بموجب العدل الإلهي، فبحسب رأفتها وعذوبتها وبقدرة شفاعاتها تستمد لهم النعمة التي بها يخلصون: والقديس أنسلموس يثبت ذلك بقوله: أن مريم قد أقيمت مرتفعةً الى رتبة والدة الإله لأجل خير الخطأة أكثر مما لأجل خير الأبرار، لأن فادينا يسوع المسيح قد أعلن واضحاً أنه أنما جاء الى العالم لأجل خلاص الخطأة. اذ يقول: أني لم آتِ لأدعو الصديقين بل الخطأة الى التوبة: ولهذا الكنيسة المقدسة تقول نحو والدة الإله هاتفةً: أنكِ أيتها البتول لا تكرهين الخطأة الذين لولاهم لما كنتِ صرتِ قط أماً مستحقةً لأبنٍ هكذا كلي العظمة: ولذلك يخاطب غوليالموس الباريسي هذه الطوباوية قائلاً: أنكِ لملتزمةٌ أنتِ يا مريم بأن تساعدي الخطأة، لأنكِ بسببهم قد حصلتِ على الحال الجليلة التي أنت فيها، وأن يكن مباحاً لي فأقول أنكِ لمديونةٌ أنتِ للخطأة بكل ما أنتِ حاصلةٌ عليه من المواهب والنعم والعظمة، أي حال كونكِ والدة الإله، لأنكِ بسبب الخطأة قد خلقتِ من الله منتخبةً، وأهلتِ منه لأن تستحقي أن تحصلي على الإله أبناً لكِ: وهنا القديس أنسلموس يستنتج مبرهناً بقوله: فاذاً أن كانت مريم بسبب الخطأة حصلت على حال كونها والدة الإله. فكيف يمكنني ولو كانت خطاياي بهذا المقدار عظيمةً أن أيأس من نوال غفرانها.*
فالكنيسة المقدسة في الصلاة المختصة ببارامون عيد أنتقال والدة الإله الى السماء التي تقال في القداس توضح: أن هذه الأم الإلهية قد أنتقلت من الأرض الى السماء لكي تتوسط لدى الله بثقةٍ، ولكي تقبل بطمأنينةٍ أكيدةٍ وساطتها ومطلوباتها من أجلنا. ولذلك القديس يوستينوس يسميها: المفوضة المطلقة. أي بمنزلة قاضيةٍ مختارةٍ، نظير ذاك الشخص الذي الجهتان المختاصمتان تضعان في يده أن يتأمل حقوق كلٍ منهما، وأن يحكم عليهما بما يراه صواباً وحسبما يشاء: وأنما يريد هذا القديس أن يعني بذلك أنه كما أن المسيح هو وسيط الناس لدى الله أبيه، فهكذا مريم هي وسيطتهم أمام أبنها، الذي يترك لها كل الحقوق ويسلمها ما يحق له عليهم بحسبما هو ديانهم مفوضاً الأمر لأرادتها.*
أما القديس أندراوس الأقريطشي فيسمي مريم: ضمنية صلحنا مع الله: وبهذا يريد أن يرشدنا معلماً إيانا بأن الله الذي برحمته الغير المتناهية يسعى راغباً رجوع الخطأة اليه بالتوبة، لكي يصالحهم بإيهابه إياهم الغفران، فحتى أنهم يكونون على ثقةٍ وطمأنينةٍ به تعالى، يقدم لهم والدته بمنزلة ضمينةٍ، وكعربونٍ لتحقيق المغفرة، ومن ثم يحييها هذا القديس بالسلام قائلاً لها: السلام عليكِ يا صلح الله مع البشر: ومن هذا القبيل يأخذ القديس بوناونتورا بالتكلم نحو كلٍ من الخطأة بقوله: فأن كنت يا هذا تخاف من أن يكون الله لأجل مآثمك مستعداً لأن ينتقم منك. ترى ماذا تصنع أنه يلزمك أن تبادر نحو تلك التي هي رجاء الخطأة أي نحو مريم، ولكن أن كنت تخاف من أنها لا تريد هي أن تأخذ على ذاتها حمايتك وأسعافك، فأعلم أنها لا تقدر هي أن ترفض التجاءك إليها أو قبول المحاماة عنك، لأن الله نفسه قدر رتب عليها هذا الأمر وأقامها في هذه الوظيفة وهي أن تسعف الخطأة البائسين:*
وهنا يقول الأنبا آدم: أهل يلزمه ربما أن يخاف من أن يذهب هالكاً ذاك الخاطئ الذي تقدم له ذاتها أم القاضي عينها لأن تكون أماً له وشفيعةً ومحاميةً عنه، أو هل أنكِ أنتِ يا مريم الملقبة عدلاً بأم الرحمة يمكن أن تأنفى من أن تتضرعي لدى أبنكِ الإلهي الذي هو القاضي والديان، من أجل أبنٍ آخر من أولادكِ الذي هو الخاطئ الملتجئ اليكِ، أممكنٌ هو لك أن ترفضي أن تعتني في خير نفسٍ مفتداةٍ بدم أبنكِ، أو أنكِ لا تدخلين من أجلها واسطةً عند الفادي نفسه الذي لأجل ذلك مات على عود الصليب أي ليخلص الخطأة، كلا، أنكِ لن ترفضي هذا العمل بل أنكِ بحبٍ كليٍ تقدمين ذاتكِ لأن تصلي من أجل كل أولئك الذين يسرعون الى كنف وقايتكِ، عالمةً أن ذاك الإله الأزلي الذي أقام أبنه الوحيد وسيطاً فيما بينه وبين الإنسان، فهو تعالى نفسه قد أقامكِ وسيطةٍ فيما بين القاضي والمذنب: فمن ثم يعطف القديس برنردوس خطابه نحو الخاطئ قائلاً: أنك مهما كنت أيها الأثيم غارقاً في بحر حمأة الرذائل، ومنغمساً شايخاً في الملكات ارديئة، فلا تقطع رجاك بل أشكر سيدك الذي لرغبته في أن يستعمل معك الرحمة، فليس فقط أعطاك أبنه نفسه شفيعاً بك لديه، بل أيضاً لكي يهبك شجاعةً وطمأنينةً أفضل وعلةً أكيدةً للرجا فقد دبر لك وسيطةً مقتدرةً على أن تستمد لك بواسطة صلواتها من أجلك كل ما هي تريده لك، فاذاً قم مسرعاً وأمضِ الى مريم مستغيثاً بها وهكذا تعود خالصاً ناجياً:*
* نموذج *
أن روبانسا وبونيفاسيوس يخبراننا بما يأتي ذكره وهو أنه قد كانت في مدينة فلورنسا أبنةٌ شابةٌ أسمها بناديكتا أي مباركة. ولكن الأفضل هو أن تسمى ملعونةً لأجل السيرة الرديئة الدنسة المشككة القبيحة التي كانت هي حينئذٍ مستيسرةً بها في تلك المدينة. فلأجل حسن حظ هذه الشقية قد جاء وقتئذٍ القديس عبد الأحد ليكرز في المدينة المذكورة، فبناديكتا بمجرد روح البحث والتفرج قد ذهبت يوماً ما لتستمع وعظ القديس، غير أن الرب قد عطف قلبها الى الندامة عند سماعها تلك العظة، حتى أنها بعد الكرز قد تقدمت حالاً الى منبر الأعتراف أمام القديس المذكور عينه مقرةً لديه بخطاياها بدموعٍ سخيةٍ، فالقديس أقتبل أعترافها وحلها من مآثمها وواضعاً عليها القانون الوفائي بأن تصلي المسبحة الوردية. الا أن هذه الأمرأة التعيسة قد رجعت لأجل الملكات السيئة المتأصلة فيها الى خطاياها السابقة. فلما سمع ذلك عنها القديس عبد الأحد ذهب اليها مؤنباً إياها وأجتهد في أنها أعترف عنده مرةً أخرى. ثم أن الباري تعالى لكي يوطدها في طريق التوبة قد كشف لها يوماً ما منظر جهنم، وهناك أراها هالكين البعض الذين هي كانت علة سقوطهم في الخطايا. وبعد هذا قد فتح أمامها سجلاً كانت مدونةً فيه خطاياها كلها، فعند ذلك أستوعبت بناديكتا خوفاً ورعدةً من هذا وذاك، وبادرت نحو مريم العذراء مستغيثةً بها لكي تعينها، وحينئذِ هي شاهدت أن هذه الأم الإلهية كانت متوسلةً لله من أجلها طالبةً منه عز وجل أن يهبها زمناً كافياً فيه تبكي على مآثمها وتصنع أعمال التوبة الواجبة. فالرؤيا قد أنتهت على هذه الصورة وبناديكتا شرعت تعيش بسيرةٍ صالحةٍ، ولكن من حيث أن السجل الذي كانت رأت فيه مدونةً قبائحها لم يعد يزول من فكرها، وكان يسبب لها خوفاً شديداً، فيوماً ما ألتجأت هي الى شفيعتها الحارة ومعزيتها الوحيدة مريم قائلةً لها: أي نعم أني لأجل مآثمي الباهظة قد أستحقيت أن أكون الآن مدفونةً في قعر الجحيم، ولكن من حيث أنكِ أنتِ يا سيدتي قد أستمديتِ لي زمناً لعمل التوبة وهكذا خلصتني من جهنم، فالآن أنا ألتمس منكِ يا كلية الرأفة هذه النعمة أيضاً وهي أن خطاياي المدونة في ذاك المصحف الذي رأيته، فهذه التي أنا لا أكف أصلاً من أن أبكي عليها فلتصير بقوة شفاعتكِ ممحيةً من السجل المذكور: فعند نهاية هذه الصلاة ظهرت لها والدة الإله وقالت لها: أنه لأجل نوال مطلوبها كان يلزمها أن لا تغفل فيما بعد عن التذكر بخطاياها ولو كانت محيت، والا تفتر من التأمل في سمو رحمة الله المستعملة نحوها. وأيضاً أن تفتكر مراتٍ كثيرةً في الآلام المقدسة التي تكبدها من أجل خلاصها فادي العالم، وأن تتأمل في أن كثيرين قد هلكوا في الدركات الجهنمية مع أنهم أرتكبوا خطايا أقل جداً من مآثمها، ثم أخبرتها بأنه في ذاك اليوم عينه قد كان مات طفلٌ أبن ثمان سنين فقط بعد أرتكابه خطيئةٍ واحدةٍ مميتةٍ لا غير ولأجلها حكم عليه بالهلاك الأبدي: فبناديكتا اذ أنها بكل أمانةٍ أطاعت البتول قد ظهر لها بعد ذلك مخلصنا يسوع المسيح مقدماً لها ذاك المصحف المدونة فيه خطاياها وقال لها: هوذا السجل، فأنظري أن خطاياكِ قد محيت منه وهو الآن أبيض كما تشاهدينه، فأكتبي فيه منذ الآن فصاعداً أفعال الحب والفضائل: وبالحقيقة أن بناديكتا قد عاشت باقي أيامها عيشة مقدسة أستحقت بها ميتةً صالحةً فائزةً بالخلاص الأبدي.*
† صلاة †
أنه اذ كانت اذاً وظيفتكِ يا سيدتي الكلية الحلاوة هي كما يقول غوليالموس الباريسي أن تدخلي وسيطةً فيما بين الله وبين الخطأة. فأنا أقول لكِ مع القديس توما الفيلانوفي أسرعي نشيطةً في تكميل واجبات وظيفتكِ هذه في شأني أنا أيضاً. فلا تقولي لي أن دعواي هي عسرةٌ جداً أن تكتسب على صالحي، لأني أعرف جيداً (وهكذا الجميع يقررون لي) أن كل الدعاوى التي أنت حاميتِ عنها لم تخسر منها واحدةٌ قط. ولو مهما وجد الرجاء مقطوعاً منها فهل دعواي وحدها تضيع، كلا، فأنا من ذلك لا أخاف، بل أني أخشى من شيءٍ واحدٍ وهو كيلا يدخل عندي الأرتياب في أنكِ ترتضين بالمحاماة عني، عند تأملي كثرة خطاياي وقبحها، الا أنني اذ ألاحظ من جهةٍ أولى عظمة رحمتكِ وأتساعها. ومن جهةٍ أخرى شدة رغبتكِ القلبية المستوعب منها حنانكِ الكلي الأشفاق في أن تعيني الخطأة الأكثر أحتياجاً. فلذلك أنا لا أخاف ولا من هذا الحادث أيضاً. لأنه ترى من هو ذاك الذي مضى خازياً وأنتهى هالكاً بعد أن كان ألتجاء اليكِ. فاذاً أنا أدعوكِ لأغاثتي وأسعافي يا شفيعتي العظيمة وملجأي وسندي ورجائي وأمي. وأستودع في يدكِ دعوى خلاصي الأبدي مسلماً إياكِ نفسي بجملتها. فهذه النفس هي هالكةٌ ولكن يخصكِ أنتِ أن تخلصيها، الا أن نوعاً واحداً من الخوف بقي يحزنني ياملكتي العزيزة وهو من أن يعتريني ربما هذا الشقاء بأن أتغافل يوماً واحداً عن أن أجدد ثقة رجائي فيكِ، ومن ثم أتوسل اليكِ يا مريم شفيعتي بحق الحب الشديد الذي أنتِ تحبين به أبنكِ يسوع المسيح، أن تحفظي بي رجائي في شفاعتكِ مزداداً يوماً فيوماً ثقةً وطمأنينةً، لأني أرجو بوساطتكِ أن أكتسب الصلح مع الله وأدوم في هذه النعمة العظمى وهي صداقته تعالى التي فيما مضى قد أحتقرتها وخسرتها بحماقتي، واذ أني أؤمل أن أكون نلتها جديداً بواسطتكِ، فأرجو أيضاً أن أحفظها في المستقبل دائمةً، واذا ما فزت بنعمة حفظها فأستطيع أخيراً أن آتي يوماً ما الى السماء، حيث أقدم لكِ الشكر من أجلها. وهناك أسبح رحمة الله ورحمتكِ الى الأبد. هكذا أؤمل وكذلك فليكن لي.*

Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:36 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
* فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: فأنعطفي بنظركِ الرؤوف نحونا:
وفيه يبرهن بأن مريم البتول هي بجملتها نظرٌ للتوجع
من أجلنا نحن الأشقياء لكي تعيننا.*
فالقديس أبيفانيوس يسمي مريم: ذات الأعين الكثيرة: وذلك لأجل أهتمامها الكلي في ملاحظتنا وأعانتنا ما دمنا في هذه الأرض. فيوماً ما اذ كان أحد المقسمين يقسم على أحد المعترين من الشيطان فسأل المقسم هذا الروح النجس أن يخبره ماذا كانت تصنع مريم العذراء فأجابه العدو الجهنمي: أنها تنزل وتصعد: مريداً أن يشير بذلك الى أن هذه السيدة الحنونة لم يكن لها أهتمامٌ آخر سوى في أن تنزل الى الأرض، جالبةً للبشر النعم التي تكون أستمدتها لهم من الله، ثم تصعد الى السماء لكي تكتسب الرضوان الإلهي نحو تضرعاتهم، فاذاً بالصواب يسمي هذه البتول المجيدة القديس أندراوس أفالينوس: خدامة السماء أو عمالة الفردوس: لأنها على الدوام توجد مباشرة أعمال الرحمة بأستمدادها النعم للجميع أبراراً وأشراراً. فداود النبي يقول: عينا الرب على الصديقين وأذناه الى طلبتهم: (مزمور 34عدد16) أما ريكاردوس الذي من سان لورانسوس فيقول: أن عيني هذه السيدة هما مفتوحتان على الصديقين وعلى الخطأة بنوعٍ متساوٍ، لأن عينيها هما عينا أمٍ، والحال أن الوالدة تحدق بنظرها الى طفلها ملاحظةً إياه بعنايةٍ ليس فقط كيلا يسقط، بل أيضاً اذا سقط لتساعده منهضةً وتقيمه من سقطته.*
وهذا الأمر قد أوضحه بكفايةٍ مخلصنا يسوع المسيح بنفسه بما أوحاه لآمته القديسة بريجيتا التي يوماً ما سمعته تعالى يخاطب والدته المجيدة قائلاً لها: أطلبي مني يا أمي كل ما تشتهينه: (الأمر الذي على الدوام يصنعه عز وجل مسروراً في أن يرضي قلب هذه الأم المحبوبة منه في الغاية بتكميله كل ما هي تطلبه) ولكن ترى ما الذي ألتمسته مريم من أبنها الإلهي بعد سؤاله إياها كما تقدم القول، فالقديسة بريجيتا نفسها سمعت مريم تطلب منه تعالى هذا الشيء بقولها له: يا أبني أنكَ أنتَ قد أقمتني بصفة أم الرحمة وبوظيفة شفيعة عن البائسين وملجأً للخطأة، والأن تقول لي ماذا أشتهي منكَ، فأنا أطلب إليك أن تصنع الرحمة مع المحتاجين. فمن ثم يقول القديس بوناونتورا مخاطباً والدة الإله هكذا: أنكِ يا مريم أنتِ بهذا المقدار ممتلئةٌ من الرحمة، وحريصةٌ على أن تسعفي المساكين، حتى أنه يبان كأنه ليس لكِ أهتمامٌ آخر. سوى أن تكرمي على المساكين وترحمي البائسين وتشاهدي الأشقياء مكللين بالرحمة: ومن حيث أنه فيما بين جميع المساكين الفقراء توجد الخطأة في أول رتبة من الشقاوة والتعاسة فمريم (كقول بيدا المكرم في تفسيره الاصحاح الأول من بشارة القديس لوقا) تستمر على الدوام متوسلةً لدى أبنها من أجلهم.*
بل أن هذه السيدة منذ كانت عائشةً على الأرض حسبما كتب القديس أيرونيموس (في رسالته الى البتول أوسطوكيوس) قد كان قلبها كلي الأنعطاف والحب نحو البشر، بنوع أن توجعها وغمها من أجل مصيبة الغير لم يكن يشعر بهما صاحب المصيبة عينه نظيرها: وقد أظهرت حقائق ذلك واضحاً في حادث عرس قانا الجليل (كما أشرنا عن هذا الأمر في الفصول السابقة): حيث أنه اذ نقص الخمر عن أرباب الوليمة، فلأشفاقها عليهم من دون أن يلتمس أحدٌ منها أسعافاً قد باشرت وظيفة معزيةٍ مملؤةٍ من الحنو في قضاء أحتياجهم، كما يورد القديس برنردينوس السياني، وبمجرد توجعها لذنيك العروس والعروسة قد أستمدت من ابنها الإلهي فعل تلك الآية التي بها أحال المياه الى خمرٍ جيدٍ.*
ثم أن القديس بطرس داميانوس يخاطب هذه البتول المجيدة هكذا قائلاً: أفهل أنكِ لأجل كونكِ أرتقيتِ الى مرتبة ملكة السماوات قد نسيتينا نحن الأذلاء المساكين، كلا، لا يمكن هذا الفكر في عقل أحدٍ أصلاً، لأنه أمرٌ غير لائقٍ هو أن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه كما هو قلب مريم الكلية الرحمة، يتناسى شقاء حال أناسٍ مملؤين من الفقر والمسكنة نظيرنا، ومن ثم ليس له مدخل عند هذه السيدة المثل الدارج وهو: أن الكرمات تغير الصفات. لأن هذا المثل هو جارٍ بالعمل فيما بين أهل العالم الذين اذا أرتقى أحدهم الى مقامٍ ما شريفٍ، فيمتلئ تغطرساً مستوعباً من الكبرياء ويتناسى بالكلية أصدقاءه الأولين الفقراء، وأما مريم فبخلاف ذلك أنها تبتهج بحال كونها أرتقت الى مرتبةٍ تستطيع بها بأبلغ نوعٍ وبأكثر سخاءٍ وبأشد أستطاعةٍ أن تسعف المحتاجين. الأمر الذي اذ كان يتأمله القديس بوناونتورا، قد خصص هذه البتول المجيد بالكلمات التي قالها بأعاز لراعواث وهي: بارك الرب عليكِ يا أبنتي لصنعكِ الأخير أفضل من صنيعكِ الأول: (راعوث ص3ع10) مريداً أن يبين بهذا الأمر ما شرحه هو نفسه فيما بعد، أي أنه من حيث أن قلب مريم وهي عائشةٌ في العالم قد كان بهذا المقدار مملؤاً من الرأفة نحو المحتاجين، فهو الآن أعظم من ذلك أشفاقاً في حال كونها سلطانة السماء، ثم أن القديس يورد البرهان عن ذلك بقوله: أن هذه الأم الإلهية تظهر الآن حقائق رحمتها الفضلى متعاظمةً بكثرة النعم الفائقة الإحصاء التي تستمدها لنا، لأنها الآن تعرف أفضل معرفةً حال شقائنا وشدة أحتياجنا، وكما أن أشعة الشمس تسمو متفاضلةً على أشعة القمر، فهكذا رحمة مريم الآن اذ هي في السماء تسمو متفاضلةً على رحمتها التي كانت لها نحونا قبلاً في مدة حياتها على الأرض، فمن هو الذي يحيى في العالم ولا يتمتع بأشراق نور الشمس، ومثله من هو الذي لا يلمع فوق رأسه ضياء رحمة مريم.*

https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg
فلأجل ذلك قيل عن هذه السعيدة: انها منتخبةٌ كالشمس: (نشيد ص6ع9) لأنه لا يوجد أحدٌ في العالم مستثنى من حرارة هذه الشمس، كما يقول عنها القديس بوناونتورا: ان ليس أحدٌ يختفي من سخونتها. وهذا عينه أوحت به القديسة أنيسا من السماء للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أن سلطانتنا التي هي الآن متحدةٌ بأبنها في السماء، لا يمكنها أن تنسى صلاحها الخاص بها، ومن ثم تستعمل هي خيريتها مع كل أحدٍ حتى مع الخطأة الأكثر شراً والأشد نفاقاً بنوع أنه، كما أن الشمس تنير الأجرام السماوية والأرضية معاً، فهكذا لا يوجد أحدٌ في العالم لا يشترك بعذوبة قلب مريم متمتعاً بواسطتها بالرحمة الإلهية: (أن كان هو يلتمس ذلك) ففي بلاد فالانصا قد كان موجوداً أنسانٌ ما خاطٍ جداً، الذي ليأسه من الخلاص ولزعمه أن يهرب من حكومة العدل المتوجب عليه قد أعتمد على أن يتبع مذهب الهاجريين، ففي ذهابه نحو المينا ليسافر بحراً أجتاز من أمام كنيسةٍ كان يعظ فيها الأب أيرونيموس لويس اليسوعي في شأن الرحمة الإلهية، فالرجل المومى اليه اذ أستمع تلك العظة قد رجع الى الله بالتوبة، وأعترف بخطاياه عند الأب أيرونيموس المذكور، فهذا الأب لأنذهاله من حال الغيير العجيب الذي حصل عليه ذاك الخاطئ التائب. قد سأله مستفهماً أن كان هو معتاداً على أفعال عبادة ما مقبولةٍ لدى الله، ومن أجلها قد وهبه تعالى النعمة الخصوصية الفعالة رحمةً مجانيةً. فأجابه الرجل بأنه لم يكن يصنع شيئاً أخر سوى أنه يومياً كان يلتجي الى مريم العذراء طالباً منها أن لا تهمله، ثم أن هذا الأب الواعظ عينه قد وجد هناك في البيمارستان رجلاً كان له خمسة وخمسون سنةً ما أعترف بخطاياه قط. ولم يكن يمارس شيئاً آخر من أفعال الديانة والعبادة سوى أنه كل مرةٍ كان يشاهد أيقونةً ما لوالدة الإله، فكان يلتمس منها الا تدعه أن يموت في حال الخطيئة المميتة، وهو ذاته أخبر بأعترافه، بأنه مرةً ما اذ وجد هو مع عدوٍ كان له يتضاربان بالسيوف، ففي المعركة قد أقتدر عليه عدوه وأخذ منه سيفه وبالتالي حصل لا محالة في خطر أن يقتل من عدوه، فحينئذٍ هتف هو نحو والدة الإله قائلاً" أواه أني الآن أنا عدت مقتولاً وهكذا أمضي هالكاً، فيا أم الخطأة عينيني. فعندما قال هذا قد رأى ذاته من دون أن يعلم كيف قد أخذ من المكان الذي كان هو فيه الى محلٍ بعيدٍ أمين للغاية من عدوه، وبعد هذا أعترف أعترفاً عاماً ومات مقتبلاً الأسرار المقدسة. أما القديس برنردوس فيقول: أن مريم قد أقامت ذاتها كلاً للكل في كل شيءٍ، وتفتح باب رحمتها لكل واحدٍ لكي يدخل الجميع في هذا الباب وكلٌ يجد ما يلائمه، فالأسير يصادف أنقاذه من الأسر، والسقيم الشفاء، والمحزون التعزية، والخاطئ الغفران، والله المجد، وهكذا اذ أن مريم هي الشمس فلا يوجد من يختفي من سخونتها: لأنه من تراه يكون على الأرض، يهتف القديس بوناونتورا، ولا يحب هذه الملكة الكلية الحب، فهي أبهى من الشمس جمالاً، وأطيب من الشهد حلاوةً، وهي كنزٌ من الصلاح، وموضوعٌ لحب الجميع، والكل يشعرون بعذوبة معاملها. فأنا أحييكِ بالسلام يا سيدتي وأمي بل قلبي الخاص ونفسي، فسامحيني يا مريم أن كنت أقول لكِ أني أحبكِ، لأني أن كنت أنا لست أهلاً لأن أحبكِ فأنتِ لن تزالي أهلاً لأن تحبى مني.*
ثم أنه يورد في الرأس 53 من كتاب4 من سيرة حياة القديسة جالتروده ما أوحي به لهذه القديسة بأنه حينما تقال من المؤمنين هذه الكلمات نحو والدة الإله وهي: فأصغي اذاً إلينا يا شفيعتنا وأنعطفي بنظركِ الرؤوف نحونا. فلا تقدر هذه السيدة أن لا تنعطف لأجابة من يتوسل إليها بهذه الصلاة: فأي نعم أن عظمة رحمتكِ قد أملأت الأرض كلها (يقول القديس برنردوس) أيتها السيدة: ولهذا كتب القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذه الأم الشديدة الحب هي متعطشة بأشواقٍ قلبيةٍ لأن تصنع الخير مع الجميع، حتى أنه يقال عنها بالصواب أنها تهان ليس فقط من أولئك الذين يفترون عليها بألفاظٍ نفاقيةٍ ذاتياً (كما يفعله البعض الذين هم ذووا نفوسٍ سيئةٍ لا سيما المتملكة فيهم رذيلة اللعب تحت مكسب وخسارة الذين مراتٍ كثيرةً من شدة يأسهم يجدفون على هذه السيدة المجيدة) بل أيضاً تهان من أولئك الذين لا يتوسلون إليها طالبين منها نعمةً ما، ولهذا يخاطبها القديس أيدابارتوس قائلاً: أنكِ أنتِ تعلمينا أيتها السيدة أن نرجوا منكِ أنعاماً تفوق أستحقاقاتنا، لأنكِ لا تكفين على الدوام من أن توزعي علينا نعماً متزايدةً جداً جداً عما يمكن نحن أن نستحقه.*
فالنبي أشعيا قد سبق متنبئاً بأنه بواسطة السر العظيم المتضمن أفتداء الجنس البشري كان يلزم أن يهيأ لنا نحن الأشقياء المحاربين كرسيٌ الرحمة بقوله: ويستعد بالرحمة الكرسي ويجلس عليه حقاً في مسكن داود حاكماً وطالباً للحكم ويجازي سريعاً ما هو في العدل: (أشعيا ص16ع5) فمن هو هذا الكرسي. فيجيب القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذا الكرسي هو مريم التي فيها يجد الجميع أبراراً وأشراراً الرحمة والشجاعة. لأنه كما أن السيد هو كلي الرحمة، فهكذا السيدة هي كلية الرأفة والحنو، وكمثل الأبن هي أمه سيدتنا لا ينكران رحمتهما على أحدٍ من الملتجئين إليهما: ومن ثم يقول الأنبا غواريكوس مصيراً يسوع أن يخاطب والدته هكذا: أنني أضع فيكِ يا أمي كرسي مملكتي في الوقت الذي فيه بواسطتكٍ أنا أصنع الرحمة واهب النعم التي تطلب مني. فأنتِ قد اعطيتيني الكون الإنساني من دمائكِ، وأنا أعطيكِ الكون الإلهي، أي الأقتدار على كل شيءٍ. الأمر الذي بواسطته تستطيعين أن تسعفي مخلصةً كل من تريدين أن يخلص.*
فيوماً ما حينما كانت القديسة جالتروده تتلو هذه الكلمات وهي: فأنعطفي بنظركِ الرأوف نحونا: قد شاهدت مريم البتول الكلية القداسة حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، حيث أومت بيدها للقديسة الى عيني أبنها يسوع قائلةً لها: أن هاتين هما العينان المملؤتان رحمةً ورأفةً اللتان أنا أقدر أن اعطفهما لخلاص كل أولئك الذين يستغيثون بي: ثم أن مرةً ما كان أحد الخطأة ماثلاً أمام أيقونة والدة الإله في أحد الأمكنة ومتوسلاً إليها بدموعٍ حارةٍ بأن تستمد له من الله غفران خطاياه، فشاهد هذه الأم الحنونة ألتفتت نحو أبنها الكائن في حضنها قائلةً له: يا أبني هل أن دموع هذا الخاطئ تمضي خائبةً. وحينئذِ سمع الخاطئ جواب يسوع لأمه بقوله: قد غفرت له.*
فكيف يمكن أن يخيب ضائعاً من يلتجئ الى هذه الأم الصالحة، بعد أن أبنها الإله بالذات قد وعد بأن يصنع حباً بها الرحمة بقدر ما تريده، هي مع كل أولئك الذين يبادرون إليها طالبين الأسعاف، فهذا الأمر قد أوحى به الرب للقديسة بريجيتا اذ صيرها أن تسمع هذه الكلمات المقالة منه لأمه مريم هكذا:"- أنني أهبكِ يا أمي العزيزة من سلطان قدرتي على كل شيءٍ أن تغفري الخطايا لجميع الأثمة الذين بحسن عبادةٍ يلتجئون إليكِ مستغيثين برحمتكِ، وذلك بأي نوعٍ أنتِ تريدين ويرضيكِ". ومن ثم اذ كان يتأمل الأنبا آدم بارسانيوس في عظم الرأفة التي لهذه الأم الإلهية نحونا، هتف نحوها قائلاً: يا أم الرحمة أن عظمة أقتداركِ هي موازيةٌ لعظمة رحمتكِ، لأنكِ بمقدار ما أنتِ مستطيعةٌ على أن تستمدي الغفران، فبمقدار ذلك أنتِ رحومةٌ في أن تهبيه. لأنكِ، كيف يمكن أن لا تتوجعي مشفقةً على الأشقياء المساكين أنتِ التي هي أم الرحمة؟" وهل يمكن الا تقدري أن تعينيهم أنتِ التي هي أم الإله ىالقادر على كل شيءٍ، كلا، بل أنكِ أنتِ بالسهولة عينها التي بها تدركين جيداً وتعرفين حسناً حال شقاوتنا نحن البائسين، فبها نفسها أنتِ تنالين لنا من الله كل ما تريدين.*
وهنا يهتف الأنبا روبارتوس نحو هذه السيدة قائلاً: تمتعي اذاً أيتها الملكة العظيمة بمجد أبنكِ في العلاء وأشبعي من هذا المجد، وأرتضي بأن ترسلي إلينا نحن عبيدكِ وأولادكِ المساكين الكائنين ههنا أسفلاً الفضلات التي تزيد عنكِ، متنازلةً لهذا الصنيع ليس كأنه لنا به أستحقاقٌ ما نحن الأثمة، بل رحمةً منكِ وأشفاقاً علينا لنشترك بهذه الفضلات.*
ثم اذا أتفق لنا أن كثرة خطايانا تسوقنا الى ضعف الرجاء بالغفران، فليقل كل منا نحو هذه السيدة مع غوليالموس الباريسي هكذا: لا توردي أيتها الملكة المجيدة خطاياي ضدي، لأني أنا أورد رأفتكِ ضد هذه الخطايا، ولا يكن أصلاً أن يقال أن مآثمي تستطيع أن تقاوم في المحاكمة رحمتكِ التي هي أقوى منها أقتداراً بما لا يحد على أن تكتسب لي الغفران، أكثر مما تقدر خطاياي على أن توجب عليَّ الهلاك.*

* نموذج*
أنه يوجد مدوناً في الرأس الحادي عشر من القسم الأول من تاريخ الرهبنة الكبوجية أنه كان في مدينة البندقية رجلٌ وظيفته محاماة الدعاوي في المحاكم. شهيرالأسم جداً الا أنه بكثرة الغشوش والأختلاسات الخفية ضد العدل قد صار مثرياً بغنى واسع وبالتالي كان يعيش بأطلاق العنان لشهواته بسيرةٍ رديئةٍ للغاية وربما لم يعد باقياً فيه من أفعال الديانة سوى أنه كان معتاداً على أن يتلو يومياً صلاةً ما خصوصيةً تكريماً لوالدة الإله. ومع ذلك قد وجدت هذه العبادة الضعيفة فيه كافيةً لأن تنقذه برحمة هذه الأم الصالحة من الموت الأبدي. وتم ذلك على النوع اآتي أيراده: وهو أن الرجل المومى اليه لحسن حظه قد أكتسب معرفةً وصداقةً مع الأب الكبوجي متى باسوس ومن ثم قد توسل بلجاجة الى هذه الأب في أن يأتي اليه يوماً ما يغتدي معه في بيته. فالأب المذكور قد أرتضى أخيراً أجابةً لتوسلاته المتكررة. وذهب عند الرجل الذي حالما رآه في بيته قال له: أنني قبل كل سيءٍ أريد أن أريك أيها الأب موضوعاً ربما قط لم تشاهده في حياتكَ، وهو أنه يوجد عندي سعدانٌ يخدمني في البيت بنوع أفضل من أنسانٍ فهيمٍ، لأنه يغسل لي الكؤوس على المائدة وينقل الصحون للأكل ويفتح لي الباب ويغلقه. فأجابه الأب متى بقوله: تأمل يا أخي في أنه ربما لا يكون هذا السعدان حيواناً محصناً بل شيئاً آخر مزاداً عليه. فكيفما كان الأمر أحضره الى ههنا: فبدأ الرجل يستدعي السعدان مثل عادته وبأسمه، فلم يأتِ، واذ فتشوا عليه في كل مكانٍ من الدار، قد وجدوه أخيراً مختفياً تحت السرير في مكانٍ أرضيٍ من أسفل البيت، الا أنهم ماكانوا يقدرون أن يخرجوه من تحت السرير. فأخيراً قام الأب متى من محله ومضى مع الرجل الى حيثما كان السعدان مختفياً، وعند وصوله اليه قال له بمحضر الجميع: أني آمرك أيها الوحش الجهنمي بأن تخرج خارجاً، وأحتم عليك من قبل الله بأن تخبرنا عن ذاتك من أنت: فالسعدان أجابه بأنه هو الشيطان وبأنه أنما كان مقيماً في ذاك البيت منتظراً الرجل محامي الدعاوى العائش بالخطيئة، حتى أنه متى أهمل في يومٍ ما تلاوة تلك الصلاة التي كان هو يكرم بها والدة الإله، فحالاً بموجب الأذن الذي وهب له من الله يثب عليه فيخنقه ويأخذ نفسه الى جهنم!
فلما سمع الرجل هذا الكلام أمتلأ خوفاً وأنطرح على قدمي الأب متى طالباً الأغاثة، فهذا الأب البار قد شجعه بكفايةٍ، ثم التفت نحو الشيطان قائلاً له: أني آمرك بسلطان الرب بأن تخرج من هذا البيت من دون أن تصنع ضرراً ما بالكلية، ولكنني أسمح لك بأن تنقب أحد حيطان الدار علامةً لتأكيد خروجك وأبتعادك من هنا: فحالما قال هذا واذا بالشيطان قد فتح في الحائط نافذةً كبيرةً بزلزلةٍ مهولةٍ وخرج، وقد شاء الله أن يبقى ذكر هذا الحادث زمناً مديداً. وذلك لأنه كل مرةٍ كانوا يريدون أن يسدوا تلك النافذة بموادٍ ما فكانت تستمر مفتوحةً. الى أن وضعوا أخيراً بمشورة الأب متى عينه رخامةً منقوشةٌ عليها صورة ملاكٍ، أما الرجل محامي الدعاوى فقد رجع الى الله تائباً ونؤمل أنه يكون أستمر ثابتاً على التوبة الى الموت.
† صلاة †
أيتها البتول المثلثة القداسة الخليقة الأعظم والأسمى من المخلوقات كلها، فأنا التعيس العاصي على إلهي أحييكِ بالسلام من هذه الأرض، معترفاً بأني لا أستحق نعماً ما بل عقاباتٍ صارمةً، ولا أستحق رحمةً ما بل دينونةً مسقطةً، الا انني لا أقول ذلك كأني ضعيف الرجاء في رأفتكِ، لأني أعلم أنكِ تفتخرين بأن تكوني أشد تعطفاً وأكثر رحمةً بمقدار ما أنتِ أعظم سمواً بالرتبة والمقام، وأعرف أنكِ تسرين بحال كونكِ بهذا المقدار غنيةً لكي توزعي من غناكِ جزءاً علينا نحن المساكين، وأفهم أنه بقدر ما يكون أولئك الذين يلتجئون إليكِ أكثر فقراً وأوفر شقاوةً، فأنتِ بأبلغ من ذلك تحامين عنهم وتسعفينهم وتخلصينهم، فيا أمي أنتِ التي يوماً ما قد بكيتِ متوجعةً على موت أبنكِ من أجلي، أتوسل إليكِ بأن تقدمي لدى الله تلك الدموع عينها. وأن تستمدي لي لأجلها منه تعالى توجعاً حقيقياً على خطاياي. ففي حين موت أبنكِ قد سببت لكِ خطايا البشر من الحزن أشده، ومن جملتهم قد أغمتكِ خطاياي أنا أيضاً الكثيرة، فأستمحي لي اذاً يا مريم أني قلما يكون من الآن فصاعداً ما عدت أحزن قلبكِ، ولا أغيظ إلهي بخطايا جديدةٍ وبنكران المعروف وبعدم مراعاة الجميل، لأنه ترى ماذا يفيدني بكاكِ من أجلي أن كنت أستمر عائشاً عديم المعروف. وماذا تنفعني رحمتكِ أن كنت أوجد من جديد خائناً وهكذا أمضي هالكاً، فلا تسمحي بذلك يا ملكتي، فأنتِ قد عوضتِ لله عن نقائصي كلها،وتقدرين أن تنالي من الله كل شيءٍ تريدين. وتستجيبين كل من ينحو إليكِ متضرعاً، ولهذا أنا ألتمس منكِ هاتين النعمتين وأرجو نوالهما منكِ بدون ريبٍ أو نقصانٍ، وأريدهما من غير أمهالٍ،
فأحداهما هي أنكِ تستمدين لي من الله أن أكون أميناً في حقه تعالى بنوع أن لا أغيظه فيما بعد أصلاً، وثانيتهما هي أن أحبه عز وجل في
سائر أيام حياتي الباقية بمقدار
ما أغظته فيما مضى
آمين

Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:38 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
الفصل الثامن: فأرينا بعد هذا المنفى - كتاب مريم البتول









https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg

الفصل الثامن

* في شأن ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: فأرينا بعد هذا المنفى*

*يسوع ثمرة بطنكِ المباركة*

*وفيه ثلاثة أجزاء*

الجزء الأول

* في أن مريم البتول تنجي المتعبدين لها من جهنم*

أنه لمن المستحيل أن يمضي هالكاً في الجحيم من يكون متعبداً لمريم بأمانةٍ ويكرمها ويلتجئ إليها. فربما أن هذه القضية تظهر للبعض في بدء ملاحظتهم إياها أنها متفاوتة الحدود الواجبة. غير أني أتوسل الى من يقول ذلك عنها بألا يحكم عليها بالشجب قبل أن يقرأ ما أنا مزمعٌ أن أبرهنه بالمحاماة عنها، فالقول أن من كان للعذراء عبداً لن يدركه الهلاك أبداً. لا ينبغي أن يفهم به عن أولئك الذين يطمعون بأستنادهم على تعبدهم لمريم لكي يستهونوا بفعل الخطايا بأقل خوفٍ، ولذلك يوجد البعض الذين ظلماً وعدواناً يتلاومون على نوعٍ ما ضد تعظيم شأن رحمة مريم نحو الخطأة قائلين: أن هؤلاء الأثمة عند سماعهم ذلك يستخدمونه بيسماً لكي يتزايدوا في أفعال الخطايا: على أنه لا شك في أن عباداً جهلةً هذه صفتهم يستحقون لأجل طمعهم الجسور بالنوع المذكور عقاباً لا رحمةً، فاذاً أنما يفهم بالمتعبدين لمريم أولئك الذين برغبةٍ حقيقيةٍ في أن يصلحوا ذواتهم ويغيروا سيرتهم، يكرمونها بحسن تدينٍ أمينين ويلتجئون إليها مستغيثين. فعن هؤلاء أقول أنه لمن المستحيل أدبياً أن يدركهم الهلاك الأبدي. فأنا أجد أن هذه القضية هي مقالةٌ من الأب كراسات أيضاً، وقبل هذا الأب هي مقولةٌ من المعلم فاغا في الكتاب المسمى اللاهوت المريمي، ومن العلامة ماتدونسا ثم من لاهوتيين آخرين غيرهم. ولكي يعرف جيداً أن هؤلاء العلماء لم يوردوا هذه القضية بطريق العرض فلننظرن ما الذي قاله في هذا الشأن القديسون والمعلمون في بيعة الله، الا أني أرغب من القارئ أن لا يستغرب إيرادي أن كنت أستشهد أراء كتبةٍ مختلفين يقولون شيئاً واحداً هو هو نفسه، لأني قصدت بذلك أن أدون ههنا أقوالهم كلها لكي أبين، كيف أن الكتبة الكنائسين قد أتفقوا برأيٍ واحدٍ عند أيرادهم هذه القضية في مصنفاتٍ مختلفةٍ.*

فيقول القديس أنسلموس: انه كما أن من ليس هو حسن التعبد لمريم، ولا تحامي هي عنه لا يمكن له أن يفوز بالخلاص، فهكذا لمن المستحيل أن يهلك من يلتجئ الى هذه البتول القديسة وهي تقتبله في حمايتها بحبٍ: وهذا القول يورده القديس أنطونينوس بكلماتٍ تماثله قائلاً: أنه كما أن أمراً من المستحيل هو أن يفوز بالخلاص من تعرب مريم عنه عيني رحمتها معرضةً عنه، فبالضرورة ينتج أن أولئك الذين مريم تلاحظهم بعين رأفتها، وتحامي هي عنهم يحصلون على الخلاص ويتمتعون بالمجد. فاذاً هذا القديس يضيف الى القول السابق ذكره أن المتعبدين لمريم بالضرورة يخلصون.*

فليعتبرون جيداً الجزء الأول من القضية الموردة من القديسين المقدم ذكرهما أولئك الذين يحتسبون التعبد لمريم فضلةً زائدةً، أو أنهم بعد أبتدائهم بالعبادة لها يهملونها كسلاً وتهاوناً. وليرهبوا مرتعدين من هذا الوعيد المخوف وهو أنه غير ممكنٍ أن يفوز بالخلاص أولئك الذين لا تحامي عنهم مريم الأم الإلهية، وهذا يورده آخرون أيضاً نظير الطوباوي ألبرتوس الكبير القائل: أن كل الذين ليسوا عبيداً لكِ يا مريم يهلكون جميعاً. والقديس بوناونتورا يقول: أن من يهمل تعبده لمريم البتول فيموت في خطيئته. وقال هو نفسه في مكانٍ آخر: أن من لا يلتجئ إليكِ أيتها السيدة فلا يبلغ الى الفردوس السماوي، بل أن هذا القديس الجليل قد أتصل الى أن يقول: أنه ليس فقط لا يخلص أولئك الذين تغرب مريم عنهم نظرها معرضةً. لكن أيضاً لا يوجد رجاءٌ لخلاصهم: وقبل هؤلاء القديسين قد كان أورد هذه القضية القديس أغناتيوس الرسولي الشهيد بتعليمه: في أنه لا يمكن خلاص أحدٍ من الخطأة الا بواسطة مريم البتول المثلثة القداسة. التي بضد ذلك هي تخلص بواسطة شفاعاتها ذات الرأفة كثيرين من أولئك الذين بموجب العدل الإلهي كان يلزم أن يهلكوا. فقد يوجد البعض الذين يضعون صعوباتٍ ما في تصديق أن هذه الكلمات هي حقاً للقديس أغناتيوس المذكور. أما الأب كراسات فقلما يكون يبرهن في أن القديس يوحنا فم الذهب أسعمل هو ذاته هذا القول، ويوجد ذلك مكرراً من الأنبا جالانسه أيضاً، ثم بهذا المعنى تخصص الكنيسة المقدسة بمريم تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (أ ص8ع36) وهي: أن جميع الذين يمكتوني يحبون الموت: أي الذين يمقتوني ولا يحبوني فيجتلبون لذواتهم الموت ويحبونه. لأن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس في تفسيره كلمات سفر الأمثال (ا ص31ع14) وهي: فصارت كمركب تاجرٍ: يقول أن كل أولئك الذين هم خارج المركب المذكور يغرقون في بحر هذا العالم: حتى أن أيكولامباديوس الأراتيكي نفسه كان يعتبر علامةً أكيدةً للرذل الأبدي قلة العبادة الموجودة في البعض لمريم والدة الإله اذ أنه يقول هكذا: أنه لا يقالن أصلاً عني أني مضاد لمريم التي أعتبر أن من يضادها يكون حاصلاً على علامةٍ أكيدةٍ في عقله بأنه هو من المرذولين. وبضد ذلك تقول مريم: من أطاعني لا يخزى: (ابن سيراخ ص24ع30) ومن يلتجئ اليَّ ويستمع ما أقوله له لن يمضي هالكاً: ولهذا يقول نحوها القديس بوناونتورا: أن الذي يهتم في أن يكرمكِ أيتها السيدة فيكون بعيداً من أن يدركه الهلاك. ويقول القديس أيلاريوس: أن هذا عينه يصح ولئن كان مكرم العذراء قد أغاظ الله كثيراً فيما مضى.*

فمن ثم يبذل الشيطان كل مجهوده مع الخطأة لكي يصيرهم بعد أن يكونوا أضاعوا نعمة الله بالأثم أن يفقدوا عبادتهم لمريم أيضاً. فأمنا ساره حينما رأت أسماعيل أبن جاهر المصرية يلعب مع أسحاق أبنها فخوفاً من أن الأول يعلم الثاني عوائد رديئةً قالت لرجلها أبراهيم أبينا: أخرج هذه الأمة وأبنها: (تكوين ص25ع10) وأنما لم تكتف ساره بأخراج أسماعيل وحده من بيتها، بل أرادت أخراج أمه أيضاً معه. لتأملها أن أسماعيل لو كان يخرج هو وحده خارجاً وتبقى أمه في البيت فمن المعلوم أنه لكان يستمر يتردد هو الى هناك ليشاهد أمه، وهكذا لما كان يزول سبب العشرة فيما بينه وبين أبنها أسحق، فمثل ذلك الشيطان لا يكتفي بأن يشاهد النفس تطرد عنها يسوع بفعل الخطيئة، بل يريد منها أن تطرد أمه مريم أيضاً بترك العبادة لها، لأنه يخاف من أن الأم بواسطة شفاعتها ترجع الأبن معها الى تلك النفس، وخوفه هذا هو في محله. لأن الأب العلامة باجيوكالى يقول: أن من هو أمينٌ بمواظبته على تكريم والدة الإله فمن دون أعاقةٍ يقتبل عنده هذا الإله راجعاً اليه بواسطة أمه مريم. ولذلك بكل حقٍ يسمي القديس أفرام السرياني التعبد لمريم: صك العتق ومصحف الحرية. أي أنه بواسطتها لا يعود المتعبد لها مأسوراً بعد من الجحيم ولا يمضي اليه هالكاً، كما أنه أي القديس أفرام نفسه يسمي مريم: المحامية عن الهالكين. وبالحقيقة أن يكن صادقاً كما هو حقاً كذلك ما يقوله القديس برنردوس وهو: أن مريم لا تقدر أن تنقص لا في أقتدارها ولا في أرادتها عن أن تخلصنا: وأنما لا ينقض أقتدارها عن تخليصنا لأنه لمن المستحيل على الأطلاق أن تضرعاتها لدى الله لا تفوز بالقبول التام، حسبما يقول القديس أنطونينوس: أنه لمن المستحيل مطلقاً أن طلبات والدة الإله تمضي خائبةً من القبول. وقال القديس برنردوس عينه: أن طلبات هذه الأم الإلهية لا يمكن أصلاً أن لا تستجاب أو أن تذهب سداً، بل أنها تستمد كل ما تشاء ثم ولا تنقص أرادتها عن أن تخلصنا، لأنها هي أمنا وتشتهي تخليصنا أوفر أشتهاءً منا نحن أنفسنا، فأن كان ذلك كذلك اذاً كيف هو ممكنٌ حدوث هذا الأمر، وهو أن أنساناً ما أميناً في عبادته لمريم يمضي هالكاً، لأنه أن يكن هذا الإنسان خاطئاً ولكنه ذو أرادةةٍ على أصلاح سيرته بالتوبة، وذو ثباتٍ على الألتجاء الى هذه الأم الصالحة، فيخصها أن تستمد هي له النور الذي به يخرج عن حاله السيئة. وتنال له التوجع القلبي على خطاياه والثبات على عمل الصلاح وأخيراً الميتة الصالحة. لأنه ترى أية أمٍ يمكنها بسهولةٍ ان تخلص أبنها من الموت بمجرد توسلها لدى القاضي في أن يمنحه نعمة العتق من حكومة الموت المبرزة ضده. وهي تتأخر عن أن تصنع ذلك. أفهل نحن نستطيع أن نفتكر هذا الفكر فضلاً عن أن نقبله، وهو أن مريم التي هي الأم الأشد حباً والأكثر أشفاقاً من كل الأمهات نحو المتعبدين لها، فمع أنها تقدر أن تخلص نفس من هو أبنها من الموت الأبدي، وتستطيع أن تفعل ذلك بكل سهولةٍ وهي لا تصنعه.*

فيا لحسن حظنا أيها القارئ الحبيب أن كنا نشعر في ذواتنا أن الله قد منحنا الحب لسلطانة السماء هذه. ووهبنا التعبد الأمين لها الأمر الذي من أجله يلزمنا أن نشكره عز وجل شكراً دائماً. على أنه كما يقول القديس يوحنا الدمشقي أن الله لا يهب هذه النعمة الا لأولئك الذين هو يريد خلاصهم بأرادةٍ خصوصيةٍ، وهذه هي كلمات القديس المذكور الجليلة التي بها ينعش رجاه ورجانا وهي:" أن كنت أنا أضع رجائي فيكِ يا والدة الإله فأكون مخلصاً. واذ ما كنت تحت كنف حمايتكِ فلا أخاف من شيءٍ أصلاً، لأن الكيان في التعبد لكِ هو نفس أمتلاك الأسلحة الضرورية للخلاص، التي لا يمنحها الله الا لأولئك الذين هو تعالى يريدهم خالصين. ولهذا كان يسلم عليها المعلم أرازموس قائلاً: السلام عليكِ يا مخيفة الجحيم ويا رجاء المسيحيين لأن الأتكال عليكِ هو تأكيد نوال الخلاص.*

فمن ثم أمرٌ محزنٌ جداً للشيطان أن يشاهد نفساً ما مواظبةً واجبات العبادة لهذه الأم الإلهية، فيقرأ في سيرة حياة الأب ألفونسوس الافارس الكلي التعبد لمريم، أنه اذ كان هو مرةً ما ممارساً صلواته وشعر بذاته مجرباً بقلقٍ من أفكار ضد العفة محركة ضده من الشيطان ليخزيه بها، فقال له حينئذٍ هذا العدو الجهنمي هكذا: أترك أنت عبادتك هذه لمريم وأنا أكف عنك من التجارب.*

ثم أن الآب الأزلي قد أوحى الى القديسة كاترينا السيانية، كما هو مورد من بلوسيوس، بأنه تعالى من قبل جودة خيرية صلاحه قد وهب مريم، أكراماً لأبنه الوحيد المولود منها بالجسد، بأنه ولا واحدٌ من الذين يستغيثون بشفاعاتها، ولو كان خاطئاً يمضي مأخزذاً غنيمةً للجحيم. حتى أن النبي والملك داود كان يتوسل في أن تنقذ نفسه من الجحيم لأجل الحب الذي كان في قلبه وقتئذٍ نحو مريم العتيدة أن تولد في العالم. اذ يقول: يا رب أحببت جمال بيتك وموضع محله مجدك فلا تهلك مع الكفرة نفسي ولا مع رجال الدماء حياتي: (مزمور 26ع8) لأن مريم هي بيت الرب الذي شيده عز وجل لذاته على الأرض ليسكن فيه بين الناس واجداً فيها راحته بتجسده منها. حسبما هو مدون عنها في سفر الأمثال: أن الحكمة أبتنت لها بيتاً: (ص9ع1) فمن ثم يقولالقديس أغناطيوس الرسولي الشهيد: أن من يكون مهتماً في العبادة لمريم العذراء لا يمضي هالكاً: والقديس بوناونتورا يثبت ذلك بقوله نحو هذه البتول المجيدة هكذا: أن المغرمين بحبكِ أيتها السيدة يتمتعون في هذه الحياة بسلامٍ عظيمٍ، وفي العالم العتيد لا يصادفون الموت الى الأبد: ثم أن بلوسيوس الحسن التعبد يؤكد لنا: بأنه لا حدث قط ولا يحدث أصلاً أن أنساناً متعبداً لمريم بأتضاعٍ ونشاطٍ يذهب هالكاً في الأبدية.*

فكم وكم من الخطأة لكانوا هلكوا مؤبداً، أو لكانوا لبثوا مصرين على آثامهم من دون توبةٍ، لولا تكون دخلت مريم وسيطةً عنهم لدى أبنها الإلهي مستمدةً لهم منه الرحمة. فهكذا يقول المعلم توما الكامبيسي وهذا هو رأي لاهوتيين كثيري العدد لا سيما القديس توما شمس المدارس. وهو أن والدة الإله قد وقفت بقوة شفاعاتها لدى الله حكومة الهلاك المبرزة على كثيرين من أولئك الذين ماتوا في حال الخطيئة المميتة. مكتسبةً لهم نعمة الرجوع الى الحياة ليمارسوا أفعال التوبة ويخلصوا بها. ثم يوردون في هذا الشأن جملة حوادث هذه صفتها محررة من مؤرخين مدققين جداً، ففيما بين النموذجات الأخرى المثبتة هذه القضية نورد هنا ما دونه فلوداردوس الذي كان عائشاً نحو الجيل التاسع. فهذا العلامة يخبرنا في تاريخه عن شماس أنجيلي أسمه أدالمانوس، الذي اذ كان أعتبر أنه مات فحينما أخذت جثته الى القبر لتدفن، قد رجعت روحه اليه فعاش وأخبر بأنه شاهد مكان جهنم حيث حكم عليه العدل الإلهي بالخلود هناك، ولكن لأجل تضرعات البتول المجيدة والدة الإله من أجله قد أرجع الى العالم كي يمارس واجبات التوبة عن خطاياه.*

وكذلك سوريوس يورد في الرأس الخامس والثلاثين من كتابه الأول: أن أنساناً مدنياً رومانياً أسمه أندراوس قد مات غير تائب، وأن مريم قد أستمدت له من الله أن يرجع الى الحياة حيث يمكنه أن يكتسب الغفران:*

ويخبر بالبارتوس (في العدد الأول من القسم الثاني من كتاب الثاني عشر على البتول الطوباوية) بأنه في أزمنته حينما كان مجتازاً الملك سيجيزموندوس بعسكره في جبال الألب قد سمع صوتاً من جثةٍ كانت مطروحةً في الأرض فانيةً لم يبق منها سوى العظام، وكان ذاك الميت يطلب معلم أعتراف قائلاً: أنه لأجل كونه هو أحد المتعبدين لمريم والدة الإله، فحينما كان خادماً في الجندية ومات، قد أستمدت هي له من الله النعمة في أنه يستمر باقياً بالنفس مع تلك الجثة الى أن يعةترف بخطاياه، وهكذا اذ جاء اليه الكهنة وسمع أعترافه فحينئذٍ مات.*

فهذه النموذجات وغيرها لا يلزم أن تستخدم لكي تشجع أحداً ما من الجسورين على أن يعيش في حال الخطيئة تحت الرجاء في أن مريم العذراء تخلصه من جهنم ولئن أدركه الموت وهو في حال الخطيئة، لأنه كما أن من يطرح ذاته في بئرٍ عميقةٍ تحت الأمل في أن مريم تحفظه من الموت، حسبما صنعت ذلك بعض الأحيان مع غيره، يحسب أحمق عديم العقل! فهل من حماقةٌ أعظم وجهالةٌ أشد ألقاء الإنسان ذاته في خطر، فيموت في حال الخطيئة تحت الأمل في أن البتول الطوباوية تخلصه من جهنم، بل أنما تفيد هذه النموذجات لأن تنعش رجانا عند تأملنا في أنه أن كانت شفاعات هذه الأم الإلهية، قد أستطاعت أن تخلص من الجحيم أيضاً أولئك الذين ماتوا في حال الخطيئة، فكم بأولى حجةٍ تحفظ من الذهاب الى جهنم أولئك الذين وهم في الحياة يلتجئون إليها بنية أن يصلحوا ذواتهم ويغيروا سيرتهم الردية ويخدموا هذه السيدة بأمانةٍ.*

فلنقل اذاً نحوها مع القديس جرمانوس (في عظته على وضع زنارها): ترى ما عساه أن يكون لنا يا أمنا العزيزة نحن الذين نعم أننا خطأة، ولكننا نريد أن ننقي ذواتنا من الأثم ونبادر إليكِ أنتِ التي هي حياة المسيحيين: فنحن يا سيدتنا نسمع القديس أنسلموس قائلاً: أنه لا يمضي هالكاً ذاك الذي أنتِ تصلين من أجله مرةً واحدةً فقط: فاذاً صلي من أجلنا ونحن نعود ناجين من جهنم. ثم أن ريكاردوس الذي من سان فيقطر يقول: ترى من يمكنه (حينما أحضر في الديوان الإلهي ولا يكون القاضي على صالحي) أن يخبرني بأني حصلت في دعواى على أن تكوني أنتِ يا أم الرحمة محاميةً عني. والطوباوي أريكوس صوزونه قد كان يعلن جهاراً أنه وضع نفسه في يدي مريم البتول، وكان يقول أنه أن كان القاضي يوجد معتمداً على أن يحكم عليه بالهلاك، فهو كان يريد أن الحكومة عليه تدخل الى يد مريم، مترجياً هو بأنه اذا تسلم الحكم لتلك اليدين المملؤتين سخاءً وأشفاقاً يدي مريم البتول، فمن دون أرتيابٍ هي حينئذٍ توقف الحكومة: فهذا الأمر عينه أقوله أنا أيضاً يا ملكتي الكلية القداسة وأرجو أن يكون لي، ولذلك أريد أن أكرر لديكِ الهتاف دائماً مع القديس بوناونتورا قائلاً: عليكِ يا سيدتس توكلت فلا أخزى الى الأبد. فأنا أيتها السيدة قد وضعت كل رجائي فيكِ مؤملاً أن لا أرى ذاتي ضائعاً، بل أفوز بالخلاص في السماء حيث أسبحكِ وأحبكِ الى الأبد.*

* نموذجٌ *

أنه قد كان في أحدى مدن أقليم فياندرا شابان حديثان في السن يدرسان العلوم، ولكن عوضاً عن أنهما يهتمان وقتئذٍ في أكتساب العلوم قد كانا يبيحان ذاتيهما لكلنوعٍ من رذلتي الشراهة والدنس، فاذ وجدا ليلةً ما من تلك الليالي المدنسة منهما بالقبائح في بيت أرمأةٍ خاطيةٍ لأفعال الأثم، فأحدهما الذي كان أسمهريكاردوس بعد ساعاتٍ من الليل قد رجع الى مكان سكناه. وأما رفيقه فبقي عند تلك الأمرأة الدنسة، فعندما دخل ريكاردوس الى مخدعه لينام قد فكر بأنه في ذاك اليوم لم يكن صلى تلك المرات السلام الملائكي حسب عادته التي بها يومياً كان يتلوها عبادةً منه لمريم العذراء، فأي نعم أن النوم كان حينئذٍ متغلباً عليه وبالتالي كان يستصعب تلاوتها في ذاك الوقت، ولكن لم يرد أن يتركها مطلقاً بل أغتصب ذاته وقالها، ولئن كان بقليل من العبادة وكأن نصف نائمٍ، ثم أتكأ على سريره راقداً، فبعد برهةٍ وفيما هو يغط في النوم سمع باب بيته يقرع بشدةِ، وحالاً من دون أن يفتح الباب قد شاهد رفيقه الشاب داخلاً إليه بصورةٍ مخيفةٍ من شدة البشاعة، واذ سأله من أنت، قد أجابه قائلاً: أما عدت تعرفني من أنا: فقال له ريكاردوس: وكيف أنك قد أستحلت الى هذه البشاعة حتى يبان كأنك شيطان: فحينئذٍ ذاك التعيس تنفس الصعداء صارخاً: أواه الويل لي، فأنا قد هلكت في جهنم: فسأله ريكاردوس: وكيف تم ذلك: فأجابه الشخص بقوله: أعلم أنه حينما خرجت أنا بعدك من بيت تلك الأمرأة الدنسة. قد وثب عليَّ الشيطان فخنقني وبقي جسدي طريحاً في الطريق ونفسي حكم عليها بالهلاك، ثم أعلم أيضاً أن هذا العقاب الذي حل بي قد كان معداً لك أنت أيضاً، الا أن الطوباوية مريم البتول لأجل الكرامة القليلة التي أنت صنعتها لها، بتلاوتك السلام الملائكي المرات المعتاد على تلاوتها، قد أنقذتك من هذا العقاب، فسعيدٌ أنت أن كنت تستفيد من هذا التنبيه الذي أرسلتني والدة الإله لأن أنبهك به. قال هذا ثم كشف رداءه وأظهر لريكاردوس اللهيب المحيط به والأفاعي والعقارب التي كانت تلسعه وهكذا غاب من أمامه. فوقتئذٍ ريكاردوس أنطرح على الأرض مدرفاً من عينيه تياراتٍ من الدموع مقدماً الشكر الواجب لوالدة الإله التي خلصته من الهلاك. وفيما كان يفتكر عازماً على الطريقة التي بها يغير سيرته ويصلحها قد سمع ناقوس دير الرهبان الفرنسيسكانيين يقرع لأجل "صلاة الفجر". فقال حينئذٍ لذاته: أن الله يدعوني الى هذا الدير لكي أصنع توبةً عن خطاياي: فنهض في تلك الساعة عينها ومضى الى الدير متوسلاً لأولئك الآباء بأن يقبلوه عندهم، الا أنهم لمعرفتهم به وبفساد سيرته قد كانوا يماتعون قبوله، غير أنه قد أخبرهم بالحادث جميعه بدموعٍ سخيةٍ، ومن حيث أن أثنين منهم خرجا حالاً وذهبا الى الطريق وشاهدا جثة ذاك الشاب التعيس ملقاةً على الأرض مخنوقةً مسودةً نظير الفحم، فبعد أن رجعا وأخبرا بالحقيقة قد قبل ريكاردوس في الدير، وأبتدأ بعيشةٍ فاضلةٍ. وفيما بعد ذهب الى بلاد الهند ليكرز بالإيمان ومنها مضى الى بلاد الجامبون، وهناك حصل أخيراً على الحظ السعيد والنعمة العظيمة بأن يموت شهيداً من أجل الإيمان بالمسيح محروقاً حياً. (كما هو مدون في تأليف ألفونسوس أندرادا)*

† صلاة †

يا مريم أمي العزيزة ترى في أي عمقٍ من الشرور لقد كنت أنا حاصلاً الآن، لولا أن يدكِ المملؤة حنواً وأشفاقاً تحفظني مراتٍ كثيرةً من هوة الهلاك، بل بأبلغ من ذلك كم من السنين مرت عليَّ الى يومنا هذا، وأنا في قعر الجحيم هالكاً، لو لم تنجيني من جهنم، لأن خطاياي الثقيلة لكانت تقودني الى هناك والعدل الإلهي لكان حكم عليَّ بالخلود فيها. والشياطين لكانوا بفرحٍ يتممون الحكومة لولا تخلصيني منها، وقد صنعت ذلك من دون أن أكون أنا ألتمسته منكِ. وهكذا أنقذتيني من غير أن أتوسل إليكِ يا أمي الرأوفة، فبماذا يمكنني أن أكافئكِ عن نعمٍ بهذا المقدار عظيمةٍ صنعتيها معي يا منقذتي، وعن حبٍ هذا حده قد أحببتيني به، فأنتِ قد أنتصرتِ أخيراً على قساوة قلبي وأجتذبتيني لأن أحبكِ ولأن أثق بكِ راجياً، وبعد ذلك في كم وكم من الخطايا لكنت سقطت لولا أنكِ مراتٍ عديدةً تعينيني بيدكِ المعينة في الأخطار التي أنا وجدت فيها وتحفظيني من السقوط. فداومي عنايتكِ في خلاصي من الجحيم يا أمي الجليلة ويا رجائي الوطيد ويا حياتي، بل الأعز من حياتي نفسها. وقبلاً أنقذيني من الخطايا التي يمكن أن أسقط بها، ولا تسمحي بأن أشتمكِ لاعناً في جهنم، لأني أحبكِ يا سيدتي المستحقة كل محبةٍ، فهل يمكن أن يحتمل صلاحكِ أن تشاهدي أحد عبيدكِ الذي يحبكِ هالكاً. فأنا أرجوكِ بأن تستمدي لي الا أكون بعد الآن كافراً بجميلكِ عليَّ، ولا خائناً في حق إلهي الذي حباً بكِ قد وهبني نعماً هكذا عديدةً وعظيمةً، فماذا تخبريني يا مريم أهل أنني عتيدٌ أن أخلص أمهل أني أمضي هالكاً. فأي نعم أني سأهلك أن كنت أبتعد عنكِ مهملاً، ولكن من هو الذي يطيق أن ينفصل عن حبكِ، وكيف يمكنني أن أنسى المحبة التي أحببتيني بها، فأنتِ بعد الله هي موضوع حب نفسي، بل لا أقدر أن أعيش من دون أن أحبك، لأني مغرم القلب والنفس فيكِ وأرجو أن أحبكِ دائماً في الزمن الحاضر والمستقبل وفي كل الأبدية، أيتها الخليقة الأعظم جمالاً والأكثر قداسةً والأوفر عذوبةً وحلاوةً، والموضوع الأفضل ما يكون في العالم بأسره مستحقاً أن يحب آمين.*



https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg

الجزء الثاني

* في أن مريم البتول تسعف أنفس المتعبدين لها بعد الموت في المطهر*

أنهم بالحقيقة لسعيدون جداً هم عباد هذه الأم الكلية الرأفة، لأنهم يسعفون ويعانون منها ليس في هذا العالم فقط بل في المطهر أيضاً يفوزون بمساعدتها لهم وبتعزيتها إياهم. ومن حيث أن الأنفس في المطهر هن أكثر أحتياجاً الى الأسعاف، لأنهن يوجدن هناك متكبداتٍ عذاباتٍ شديدةً جداً من دون أن يقدرن على أن يسعفن ذواتهن بذواتهن فبأبلغ من ذلك تتلألأ مفاعيل شفقة أم الرحمة نحوهن بأجتهادها في أعانتهم. فيقول القديس برنردينوس السياني: أن الكلية القداسة مريم لها سلطةٌ وسلطانٌ مطلقٌ في ذاك الحبس المطهري المحبوسة فيه الأنفس اللواتي هن عروسات يسوع المسيح. على أن تسعفهن وأن تخلصهن أيضاً من تلك العذابات:*

فنظراً الى أسعاف مريم هذه الأنفس فالقديس برنردينوس عينه اذ يخصص بمريم تلك الكلمات المدونة في حكمة أبن سيراخ وهي: في أمواج البحر مشيت: (ص24ع8) يقول: أن عذابات المطهر تسمى أمواجاً لأنها عذباتٌ عابرةٌ وقتيةٌ خلافاً لعذبات جهنم الثابتة الأبدية، وأنما تدعى عذابات المطهر أمواج البحر، لأنها مرةٌ جداً كمياه البحر، فالأنفس المتعبدة لمريم اذ يكن مملؤاتٍ من الحزن جداً فيما بين أمواج تلك العذبات المرة فهذه السيدة تزورهن مراتٍ كثيرةً وتسعفهن: وهنا يقول نوفارينوس: هوذا البرهان الذي يوضح كم يجب أن يعتبر ويحب التعبد لمريم السيدة الصالحة. لأنها لا تعرف أن تنسي تلك الأنفس المتعبدة لها، ولا تهمل أن تساعدهن حينما يتعذبن في ذاك اللهيب. على أنه ولئن كانت هذه السيدة تسعف بوجه العموم كل الأنفس الكائنة في المطهر، الا أنها مع ذلك تسعف أنفس أولئك الذين في هذا العالم كانوا متعبدين لها عبادةً خصوصيةً أسعافاً خصوصياً.*

فهذه البتول المجيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أني أنا أمٌ لكل الأنفس الكائنة في المطهر، ففي الوقت الذي فيه هن يتعذبن بشدةٍ بكل تلك العذابات المتوجبة على الخطايا المفعولة منهن في العالم، ففيه أنا في كل ساعةٍ أخففها عنهن طالما هن هناك بواسطة صلواتي من أجلهن. ثم أن هذه الأم الشفوقة لا تأنف من أنها تأتي بذاتها بعض الأحيان الى ذلك السجن المقدس لكي تزور الأنفس بناتها وتعزيهن. كما جاء عنها القول في حكمة أبن سيراخ (ص24ع8): أني دخلت سالكةً في عمق الغمر: حيث أن القديس بوناونتورا يخصص الكلمات المذكورة بوالدة الإله مضيفاً إليها قوله عن لسانها: أنا دخلت في عمق ذاك الغمر أي المطهر لكي أسعف بحضوري هناك تلك الأنفس البارة: أما القديس فينجانسوس فرارى فيقول: أن مريم هي مفيدةٌ للأنفس الكائنة في المطهر. لأنهن يحصلن بواسطتها على الأسعاف الكلي. فيا لعظمة حنو هذه البتول القديسة الكلية الأشفاق نحو تلك الأنفس المتكبدات العذابات في المطهر، اللواتي هن على الدوام يشعرن بمفاعيل المعونات والأسعافات التي تمارسها هي نحوهن.*

لأنه أية تعزيةٍ لهن في حال ضيقتهن سوى مريم وأسعافها لهن اذ هي أم الرحمة، فالقديسة بريجيتا يوماً ما سمعت يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: أنكِ يا أمي أنت هي أم الرحمة وأنتِ هي تعزية الأنفس الكائنة في المطهر. بل أن البتول الطوباوية عينها قالت للقديسة بريجيتا: انه كما أن المريض الفقير المطروح على الفراش مسكيناً يكون مملؤاً من الحزن لمشاهدته ذاته متروكاً مهملاً، الا أنه يحصل على تعزيةٍ وافرةٍ عندما يسمع كلمةً ما تنذر بأسعافه، فهكذا تلك الأنفس المطهرية يشعرن بتعزيةٍ جزيلةٍ بمجرد سماعهن ذكر أسمي. فاذاً مجرد ذكر أسم رميم (الذي هو أسم رجاءٍ وخلاص) يسبب للأنفس المسجونة في المطهر تعزيةً وافرةً عندما تلفظه بأفواههن بناتها هؤلاء المحبوبات منها. أما نوفارينوس فيقول: أن هذه الأم المملؤة من الحب عندما تسمع الأنفس المطهرية يستغثن بأسمها، تضاعف هي تضرعاتها لدى الله الذي أجابةً لمطلوبها يترأف عليهن بالأسعاف، نظير النداء المنحدر من السماء ليبرد عنهن سعير تلك النيران الملتهبة.*

غير أن مريم العذراء لتظهر عنايتها نحو أنفس المتعبدين لها ليس فقط في تعزيتهن وأسعافهن في مدة أقامتهن في المطهر، بل في أنقاذهن أيضاً من ذلك السجن بواسطة شفاعتها. ففي يوم صعود هذه القديسة والدة الإله المجيد من الأرض الى السماء جميع الأنفس اللواتي كن وقتئذٍ في المطهر خلصن منطلقاتٍ معها الى السعادة البدية، كما كتب العلامة جرسون بقوله: أن سجن المطهر في ذلك اليوم حصل فارغاً من الأنفس التي كانت فيه.*

ويثبت ذلك نوفارينوس مبرهناً عنه بأقوال كتبةٍ كنائسيين كثيرين معتبرين جداً وهو: أن والدة الإله في حين أنتقالها من الأرض الى السماء ألتمست من أبنها الإلهي هذه النعمة، وهي أن تخلص جميع الأنفس الكائنة في ذلك اليوم مسجونةً في المطهر وتقودهن صحبتها الى النعيم: فيقول جرسون: أن البتول المجيدة من ذلك النهار أخذت سلطان التملك على هذه الخصوصية الممنوحة لها من الله وهي أن تخلص من المطهر أنفس المتعبدين لها: وهذا يؤكده لنا تأكيداً مطلقاً القديس برنردينوس السياني بقوله: أن البتول الطوباوية هي حاصلة على هذه السلطة والتفويض المطلق، وهو أنها بواسطة تضرعاتها، وكذلك بتخصيصها أستحقاقاتها الذاتية أسعافاً للأنفس المطهرية، لا سيما أنفس المتعبدين لها، تخلصهن من تلك العذابات: وهذا عينه يقوله نوفارينوس معتبراً أنه لأجل أستحقاقات والدة الإله الخصوصية ليس فقط تعود العذابات المطهرية لطيفةً عذبةً على تلك الأنفس، بل أيضاً تجعلها مختصرةً بزمنٍ أقل من المرسوم عليهن، لأنها بتوسلاتها من أجلهن تنقص عنهن زمن العذابات ليخلص بسرعةٍ.*

ثم أن القديس بطرس داميانوس يخبرنا عن أمرأةٍ أسمها ماروتسا، بأنها قد ظهرت لأشبينتها بعد موتها وقالت لها، أنها في يوم عيد صعود مريم البتول الى السماء قد خلصت هي من عذابات المطهر، جملةً مع أنفسٍ كثيرة تفوق عدداً على جميع الشعب الروماني، حيث أنطلقن كلهن الى السماء. وكذلك يقول القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن والدة الإله في كل يومٍ من يومي هذين العيدين السنويين أي الميلاد والقيامة تنحدر بذاتها الى المطهر مرافقةً من أجواقٍ ملائكيةٍ كثيرةٍ وتخلص من السجن المطهري أنفساً عديدةً. ثم أن نوفارينوس يبرهن في أن هذه الطوباوية تصنع ذلك في كل يوم عيدٍ من أعيادها هي أيضاً الأحتفالية السنوية.*

وما عدا هذا لشهيرٌ ومعروفٌ بكفايةٍ هو الوعد الذي وعدت به السيدة المجيدة للبابا يوحنا الثاني والعشرين، الذي ظهرت هي له وأمرته بأن يعلن لجميع أولئك الذين يحملون على ذواتهم ثوبها المسمى ثوب سيدة الكرمل، أن أنفسهم يخلصن من المطهر في يوم السبت الأول الذي يأتي بعد موتهم: فالحبر الأعظم المذكور كما يورد الأب كراسات قد أشهر ذلك وأعلنه لجميع المؤمنين في منشوره الباباوي الذي أبرزه في هذا الشأن، وقد أثبت المنشور المومى إليه الباباوات ألكسندروس الخامس، وأكليمنضوس الثامن وبيوس الخامس، وغريغوريوس الثالث عشر، وبولس الخامس، الذي سنة 1612 أبرز منشوراً وبه أعلن قائلاً: أن الشعب المسيحي يستطيع أن يعتقد بحسن عبادةٍ بأن البتول الطوباوية تسعف بشفاعاتها المتواصلة وبأستحقاقاتها الذاتية وبحمايتها الخصوصية بعد الموت وخاصةً في يوم السبت (المكرس لعبادتها من الكنيسة) أنفس الأخوة المشتركين بأخوية سيدة ثوب الكرمل، الذين تنفصل أنفسهم عن أجسادهم من هذه الحياة وهم في حال نعمة الله ويكون هؤلاء الأخوة. حملوا على ذواتهم ثوبها بحفظ واجبات فضيلة الطهارة بقدر واجب ألتزمات دعوتهم الخصوصية، ويكونون تلوا الفرض المختص بهذه السيدة، واذا لم يكونوا أستطاعوا تلاوة هذا الفرض فيكونون حفظوا الصيامات االكنائسية، وأمتنعوا عن أكل اللحم نهار الأربعاء، ما عدا يوم عيد الميلاد: ثم في خدمة الفرض الأحتفالي المختص بعيد سيدة الكرمل يقرأ هكذا: أنه يعتقد الأعتقاد التقوى بأن البتول القديسة تعزي بحبٍ والديٍ في المطهر أنفس المشتركين بهذه الأخوية، وأنها من دون أعاقةٍ تخلصهن بواسطة شفاعاتها من تلك العذابات، وتقودهن الى الوطن السماوي. (كما هو مدون تحت اليوم السادس عشر من شهر تموز في عيد سيدة الكرمل) فكيف لا نستطيع نحن أيضاً أن كنا متعبدين لهذه الأم الصالحة أن نرجوا لذواتنا النعم والأسعافات المقدم ذكرها. وكيف لا نقدر أن نؤمل أننا بعد موتنا نذهب الى السماء من دون الدخول الى المطهر، مترجين نوال هذه النعمة لأجل خدمتنا والدة الإله وعبادتنا لها بحبٍ خاص، كما أن والدة الإله أرسلت الراهب أبونضوس الى الطوباوي غوديفرادوس قائلةً له: أمض فقل للأخ غوديفرادوس أنه أن كان يتقدم نامياً في الفضيلة، سيكون مختصاً بأبني وبي أنا أيضاً، وحينما تخرج نفسه من جسده فأنا أصيرها أن لا تمضى الى المطهر بل أني أخذها أنا وأقدمها أمام أبني.*

فأن كنا اذاً نريد أن نسعف الأنفس المطهرية فلنجتهدن في ان نتوسل الى والدة الإله من أجلهن في صلواتنا كافةً المقدمة منا في أسعافهن، مخصصين إياهن بنوعٍ متميزٍ بصلوة المسبحة الوردية المقدسة، التي تجلب لهن أسعافاً عظيماً حسبما يبان من النموذج اآتي إيراده.*

* نموذجٌ *

أن الأب أوسابيوس نيارامبارك يخبرنا (في الرأس 29 من الكتاب4 على الأنتصارات المريمية) بأنه كانت في مدينة أراغونا أبنةٌ فتاة أسمها ألكسندرا، التي اذكانت شريفة الأصل وجميلةً جداً في الخلقة فتعلق نحوها بنوعٍ ممتاز عن الآخرين حب أثنين من الشبان بشدةٍ، ولأجل الغيرة التي أتقدت حرارتها فيما بين هذين الشابين أحدهما ضد الآخر من جرى حبهما الزائد لتلك الفتاة قد تضاربا بالأسلحة والأثنان سقطا على الأرض مقتولين. فحينئذٍ أقرباء هذين الشابين لشدة حزنهم على فقدهما وثبوا على الفتاة ألكسندرا عينها، فقتلوها لأجل أنها صارت علةً لموت ذنيك التعيسين، ثم قطعوا رأسها وطرحوه في بئرٍ عميقةٍ، فبعد أيامٍ من ذلك اذ كان القديس عبد الأحد ماراً بالقرب من البئر، فبألهام خصوصي من الله قد دنا من البئر عينها وقال: ألكسندرا أخرجي خارجاً: واذا بالرأس المقطوع صعد من البئر ولبث على حافتها متوسلاً للقديس بأن يستمع أعترافها، فالقديس أستمع أعتراف ألكسندرا ونقل القربان الأقدس وناولها إياه زوادةً أخيرةً بمحضر الشعب الغفير، الذي تقاطر الى هناك من كل ناحيةٍ من المدينة لمشاهدة هذا العجب. وبعد ذلك القديس طلب من ألكسندرا أن تخبره كيف ولأية حجةٍ هي نالت من الله هذه النعمة، فأجابته بأنها حينما أماتها القاتلون وقطعوا رأسها قد كانت هي حاصلةً في حال الخطيئة المميتة، ولكن والدة الإله الكلية القداسة مكافأةً لعبادتها لها بتلاوتها المسبحة الوردية قد حفظتها في الحياة. فقد أستمر رأس ألكسندرا حياً عند حافة تلك البئر مدة يومين مشاهداً من جميع الذين كانوا يأتون الى هناك. وبعد ذلك ذهبت نفسها الى المطهر. غير أنها عقيب خمسة عشر يوماً قد ظهرت للقديس عبد الأحد جميلةً متلألئةً بالضياء نظير كوكبٍ مشعشعٍ وقالت له: أن الأسعاف الأخص الذي يحصل للأنفس المطهرية في تلك العذابات هو تلاوة المسبحة الوردية من أجلهن، وأن هذه الأنفس اذ يخلصن من المطهر بمفعول صلاة الوردية، فحالما يبلغن الى السماء يمارسن تقدمة التوسلات لله من أجل أولئك الذين يكونون أسعفوهن بتقدمتهم لأجلهن هذه الصلاة الكلية الفاعلية على تخليصهن من المطهر: قالت هذا ثم صعدت أمام عيني القديس الى السماء متهللةً بفرحٍ لا يوصف لتتمتع بالسعادة الطوباوية.*

† صلاة †

يا سلطانة السماوات والأرض يا أم مخلص العالم مريم المجيدة. أيتها المخلوقة الأعظم والأسمى والأجمل والأحب من كل المخلوقات، أي نعم أن كثيرين على الأرض لا يحبونكِ ولا يعرفونكِ، ولكن توجد ألوفٌ وربواتٌ وكراتٌ ومليوناتٌ فائقة الأحصاء من الملائكة ومن الطوباويين في السماء يحبونكِ ويسبحونكِ دائماً، ثم في هذه الأرض أيضاً كم وكم من الأنفس السعيدة تلتهب أتقاداً في نيران حبها إياكِ، وتعيش مغرمةً في صلاحكِ! فليتني أحبكِ أنا أيضاً يا سيدتي المحبوبة في الغاية، وأكون دائماً في أتمام خدمتي إياكِ وفي مديحكِ وتكريمكِ، وفي الأجتهاد بأن تكوني محبوبةً من الجميع. أنتِ قد صيرتِ الإله نفسه متعلقاً بحب جمال نفسكِ حتى أنكِ، لكي أقول هكذا، قد أجتذبتيه من حضن أبيه الأزلي الى أحشائكِ الكلي الطهر متجسداً من دمائكِ وصائراً أبناً حقيقياً لكِ، أفهل أنني أنا الدودة الحقيرة لا ألتهب حباً بكِ، أي نعم يا أمي الكلية الحلاوة أنا أيضاً أريد أن أحبكِ حباً شديداً. وأقصد أن أفعل كل ما أقدر عليه لكي أجعل الآخرين أيضاً أن يحبوكِ. فأقبلي اذاً يا مريم شوقي المتقد نحو حبكِ وساعديني على أن أضعه بالعمل، فأنا أعلم أن المغرمين بحبكِ هم مقبولون لدى عيني إلهكِ، لأنه تعالى بعد الشيء المختص بمجده لا يرتاح الى شيءٍ آخر بمقدار أرتياحه الى أن تكوني ممجدةً مكرمةً محبوبةً من الجميع، فأنا أرجو منكِ أيتها السيدة كل التوفيقات والسعادات. فيخصكِ أن تستمدي لي غفران خطاياي كلها، ونعمة الثبات على الخير. وأن تساعديني في ساعة موتي. وبعد ذلك أن تخلصيني من العذابات المطهرية. وأخيراً أن تقوديني الى الفردوس السماوي، فهذه الأشياء يترجاها منكِ محبونكِ ولا يخيبون من أملهم، فأرجوها منكِ أنا أيضاً الذي أحبكِ حباً شديداً

فوق كل شيءٍ بعد حبي لله آمين. †



https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg

الجزء الثالث

* في أن مريم العذراء تقود عبيدها الى الفردوس السماوي *

فيا لها من علامةٍ جليلةٍ للأنتخاب الى المجد هي الحاصل عليها عبيد مريم البتول بتعبدهم لها. على أن الكنيسة المقدسة تخصص بهذه الأم الإلهية الكلمات المدونة في سفر حكمة أبن سيراخ (ص24ع11) وهي: قد طلبت في جميع هؤلاء راحةً وأنا في ميراث الرب أحل ساكنةً: فيقول الكردينال أوغون في تفسيره هذا النص: طوباوي هو ذاك الذي يجد مريم البتول المثلثة الغبطة راحةً في بيته، فمريم لأجل أنها تحب الجميع، تهتم في أن العبادة لها تنتشر عند الجميع. ولكن كثيرون أما أنهم لا يقبلون هذه العبادة، وأما أنهم لا يحفظونها، فمغبوطٌ هو الذي يقتبلها ويحفظها: ويضيف الى ذلك الرجل العلامة باجيوكالى هذا التفسير أيضاً وهو: أن قولها وأنا في ميراث الرب أحل ساكنةً، أنما هو أنها تسكن في من هم ميراث الرب المنتخبون، لأن العبادة لمريم البتول أنما تحل ساكنةً في جميع أولئك الذين هم ميراث الرب، أي الذين سيكونون في السماء ساكنين يسبحونه تعالى الى الأبد. ثم أن الطوباوية والدة الإله تتبع كلماتها السابقة بهذه اللاحقة قائلةً: عند ذلك أمرني خالق الجميع والذي خلقني أستراح في مسكني وقال لي، أسكني في أل يعقوب ورثي في إسرائيل وفي مختاري أجعلي أصولكِ: (ص24ع12). فتريد أن تعني بقولها هذا معلنةً "أن خالقي قد تنازل لأن يأتي فيستريح ساكناً في أحشائي، وقد أراد مني أن أحل قاطنةً في قلوب جميع المختارين (الذين جاء رسمهم في شخص يعقوب وهم ميراث هذه البتول) وقد رسم أن في جميع المنتخبين للمجد تتأصل عبادتي ويتأسس فيهم الرجاء والحب نحوي.*

فكم وكم من الطوباويين الكائنين الآن في السماء لما كانوا وجدوا هناك لولا تكون أقادتهم الى تلك السعادة مريم بقوة شفاعاتها المقتدرة، لأن الكردينال أوغون يجعل هذه السيدة متكلمةً عن ذاتها بما جاء في العدد السادس من الاصحاح 24عينه من حكمة أبن سيراخ وهو: وأنا جعلت أن يشرق في السماء ضوءٌ باقٍ: أي أنني قد صيرت أن يتلألأ مشرقاً في السماوات عددٌ وافرٌ من المصابيح الأبدية، بمقدار ما هو عدد عبيدي الحسني العبادة نحوي. ومن ثم يتبع الكردينال المذكور كلامه بقوله: لأن قديسين كثيرين هو الآن في السموات الذين لكانوا عدموا أن يوجدوا فيها، لولا تكون مريم أوصلتهم الى هناك بمفعول شفاعاتها: ويقول القديس بوناونتورا: أن باب السماء يفتح لكل أولئك الذين يحسنون رجاهم بثقةٍ في شفاعات مريم. لكي يقبلوا في السعادة الأبدية. ولذلك سمى القديس أفرام السرياني العبادة نحو هذه الأم الإلهية أفتتاح أبواب الفردوس. وكذلك بلوسيوس المتعبد اذ يخاطب والدة الإله يقول هكذا: أنها قد سلمت ليدكِ أيتها السيدة مفاتيح الملك الطوباوي وخزائنه: ولهذا يلزمنا أن نتوسل الى هذه السيدة على الدوام مكررين نحوها كلمات القديس أمبروسيوس وهي: أفتحي لنا يا مريم أبواب الملكوت، لأنكِ أنتِ حافظةٌ بيدكِ مفاتيحه. بل أنكِ نفسكِ هي باب الملكوت، كما تدعوكِ الكنيسة المقدسة في طلباتها هاتفةً: يا باب السماء صلي لأجلنا:*

ولهذه العبادة تسمي الكنيسة المقدسة هذه الأم العظيمة: نجمة البحر: لأنه (حسبما يقول القديس توما اللاهوتي في كتيبه الثامن): كما أن المسافرين في البحر يستدلون على المينا المقصود وصولهم اليه من قبل نجمة البحر، فهكذا المسيحيون هم مقادون ومرشدون في بحر هذا العالم للبلوغ الى مينا الخلاص وللدخول الى الفردوس بواسطة مريم البتول:*

وكذلك من هذا القبيل يسمي القديس بطرس داميانوس والدة الإله: سلم السماء، لأنه بواسطتها قد أنحدر الله من السماوات الى الأرض لكي يستحق البشريون بواسطتها أن يصعدوا من الأرض الى السماء. ثم يقول القديس أنسطاسيوس مخاطباً هذه البتول الطوباوية هكذا: أنكِ لأجل هذه الغاية عينها أنتِ أيتها السيدة قد صيرتِ ممتلئةً نعمةً، وهي لكي تكوني لنا طريقاً لبلوغنا الى الخلاص. ومصعداً لأرتقائنا الى الوطن السماوي. ومن ثم القديس برنردوس يلقب مريم: بالمركبة الناقلة من الأرض الى السماء والقديس يوحنا جاوماترا أيضاً يسميها كذلك قائلاً لها: السلام عليكِ أيتها المركبة الكلية الشرف التي بواسطتها تنقل عبادكِ من الأرض الى الفردوس السماوي: ولهذا يهتف نحوها القديس بوناونتورا صارخاً: أنهم لطوباويون هم أولئك الذين يعرفونكِ يا والدة الإله. اذ أن المعرفة بكِ هي المحجة التي يبلغ السائرون فيها الى الحياة العديمة الموت، وإذاعة فضائلكِ هي السبيل للوصول الى الخلاص الأبدي.*

ففي تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية (ك1 ق1 رأس35) يوجد مدوناً عن الراهب لاوُن: أنه شاهد مرةً ما سلماً حمراء كان واقفاً عليها يسوع المسيح. ونظر سلماً أخرى بيضاء كانت واقفةً فوقها أمه تعالى البتول القديسة، ثم نظر أن كثيرين كانوا يبتدئون أن يصعدوا على السلم الحمراء، ولكن بعد ذلك كانوا يسقطون من عليها الى الأرض مراتٍ مترادفةً كثيرةً، بمقدار المرات التي بها كانوا يحاولون أن يصعدوا إليها، ولهذا وجد من حرضهم على الذهاب نحو السلم البيضاء ليصعدوا فوقها، فشاهدهم هو من ثم أنهم مضوا إليها وبكل سهولةٍ أرتقوا صاعدين عليها، اذ أن والدة الإله نفسها كانت تمد يدها فتمسكهم وتسندهم، وبهذا النوع كانوا يبلغون أمينين الى الفردوس السماوي! فيسأل هنا القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس قائلاً: من هو الذي يخلص، ومن يبلغ الى الملكوت السماوي، (وهو ذاته يجاوب على سؤاله بقوله): أن أولئك الذين تهتم من أجلهم أم الرحمة هذه بتضرعاتها، هم الذين يخلصون ويبلغون الى الملك السماوي آمنين، وهذا الأمر عينه تثبته مريم نفسها بقولها: بي تتملك الملوك: (أمثال ص8ع15) أي بواسطة شفاعاتي تملك الأنفس أولاً في هذه الحياة الزائلة على الأرض، بتسلطهم على آلامهم وشهواتهم كمنتصرين غالبين، وبعد ذلك ينطلقون الى السماء ليملكوا أبدياً حيث يصيرون جميعاً ملوكاً (كما يقول القديس أوغوسطينوس). وبالأجمال أن مريم الطوباوية. كقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس، هي سيدة الفردوس السماوي، لأنها هناك تأمر حسبما تريد وبما تشاء وتدخل إليه من تريدهم. ولهذا يخصص هو بها كلمات أبن سيراخ (ص24 ع15) وهي: وكان أمري نافذاً في أورشليم، ولذلك من دون ريبٍ أنا أمر بما أشاء وأدخل الى هناك من أريد. ومن حيث أنها هي والدة رب الملكوت السماوي فبالصواب والعدل هي سيدة الفردوس حسبما يقول روبارتوس.*

ثم أن هذه الأم الإلهية قد نالت لنا بواسطة صلواتها المقتدرة وأسعافاتها الفعالة الملك السماوي، أن كنا لا نضع من قلبنا مانعاً ما لأمتلاكه، كما يقول القديس أنطونينوس. ومن ثم أن الإنسان الذي يخدم هذه السيدة وهي تتشفع من أجله، فهو حاصلٌ على وثيقةٍ أكيدةٍ في نوال الفردوس، كأنه حقاً هو كائنٌ فيه (حسبما يورد الأنبا غواريكوس) ويضيف الى ذلك القديس يوحنا الدمشقي بقوله: أن الخدمة لمريم المجيدة والكيان من عدد عبيد بلاطها، هو سيمة الشرف الأعظم الذي يمكننا أن نحصل عليه، لأن الخدمة لملكة السماء هي أمتلاك السماء، والعيشة تحت أوامرها هي أعظم من التسلط الملوكي. وبضد ذلك أن الذين لا يخدمونها لا يخلصون، من حيث أن الذين هم معدومون أسعافات هذه الأم العظيمة، هم مهملون متروكون من معونات أبنها ومن مساعدة أهل البلاط السماوي بأسرهم.*

فلتكن على الدوام مسبحةً خيرية صلاح إلهنا الغير المتناهية، لأنه رتب راسماً وأقام مريداً في السماوات شفيعةً لنا مريم الطوباوية، حتى أنها بحسب كونها والدة للقاضي الديان وأماً للرحمة، تتعاطى معاطاةً فعالة بواسطة شفاعاتها ومحاماتها دعوى خلاصنا الأبدي. وهذا هو تعليم القديس برنردوس، ويقول الأب يعقوب الراهب العلامة فيما بين الآباء اليونانيين: أن الله قد جعل مريم نظير جسر للخلاص الذي أذا ما أجتزنا فوقه ناجين من أمواج بحر هذا العالم، فنقدر أن نبلغ الى المينا المغبوط الذي منه ندخل الى الفردوس السماوي: ولذلك يهتف اقديس بوناونتورا قائلاً: أسمعوا يا معشر الشعوب فأنتم الذين تشتهون أمتلاك الفردوس الأبدي، أخدموا مريم وكرموها فتصادفون الحياة السرمدية من دون ريبٍ.*

فلا ينبغي لأحدٍ مطلقاً أن ييأس من نوال السعادة الأبدية حتى ولو كان هو من عدد الذين قد أستحقوا جهنم بخطاياهم. لأن هؤلاء أنفسهم اذا أخذوا أن يخدموا مريم بأمانةٍ فلا يفقدون خلاصهم. ثم يقول القديس جرمانوس مخاطباً العذراء هكذا: ترى كم وكم من الخطأة قد أهتموا في أن يجدوا الله بواسطتكِ يا مريم وقد أدركوه وخلصوا: أما ريكاردوس الذي من سان لورانسوس فيتأمل فيما هو مدون في الأبوكاليبسي (ص12ع1) وهو: أن القديس يوحنا الأنجيلي قد شاهد هذه الأمرأة الكلية القداسة، مكللةً على رأسها بأكليلٍ مركبٍ من أثنتي عشر كوكباً: وبضد ذلك أن سفر النشيد (ص4ع8) يوضح هذه العروسة الإلهية مكللةً من وحوشٍ ضاريةٍ أسودٍ ونمورةٍ اذ يخاطبها عروسها الإلهي قائلاً: تعالي يا عروستي من لبنان، هلمي من لبنان تجئين فتتكللين من صير الأسود ومن جبال النمورة: فكيف اذاً ينبغي أن يفهم هذا. فيجيب ريكاردوس عينه: بأن هؤلاء الوحوش الضارية هم الخطأة الذين بواسطة شفاعات مريم من أجلهم وبمساعدتها إياهم يستحيلون الى نجومٍ سماويةٍ وكواكب أبديةٍ. وهؤلاء يليقون أن يكونوا أكليلاً لهامة ملكة الرحمة هذه أفضل لياقةً من أن تتوج هي بكواكب السماء المادية كلها: ثم أن عبدة الرب الأخت الراهبة سيرافينا البتول التي من كابري. اذ كانت يوماً ما تتوسل الى الطوباوية مريم العذراء في الأيام المتقدمة على عيد أنتقالها الى السماء (كما يقرأ في سيرة حياة هذه الراهبة) قد ألتمست منها أن تستمد من الله نعمة التوبة لألف واحدٍ من الخطأة، ولكن لما بدأت تخاف من أن تكون طلبتها تزايدت عن الحدود، قد ظهرت لها العذراء المجيدة وهذبت فيها هذا الخوف الباطل قائلةً لها: لماذا تخشين، أهل أنني ربما لا أستطيع أن أنال من أبني نعمة الخلاص لألف واحدٍ من الخطأة، فهوذا أني قد أستمديت لكِ تمام الطلبة: قالت هذا وأخذتها بالروح الى السماء وهناك أرتها عدداً فائق الإحصاء من الأنفس الأثيمة اللواتي كن أستحقين جهنم بخطاياهن. وبعد ذلك بواسطة شفاعات هذه الأم الإلهية قد نالوا الخلاص وبدأن يتمتعن بالسعادة الأبدية.*

فأي نعم أنه لا يوجد إنسانٌ أصلاً طالما هو في قيد الحياة الزمنية يقدر أن يكون متأكداً تأكيداً مطلقاً خلاصه الأبدي العتيد، كما كتب: لن يعرف الإنسان أن كان هو مستوجباً المحبة أم البغضة، كل شيءٍ محفوظٍ للمستقبل غير يقين: (سفر الجامعه ص9ع1) ولكن مع ذلك فالنبي داود طلب من الله قائلاً: يا رب من يسكن في مسكنك أو من يحل في جبل قدسك: (مزمور 15ع1) فيجيب القديس بوناونتورا في تفسيره هذا النص مخاطباً الأثمة بقوله: يا معشر الخطأة فلنتبع أثر خطوات مريم، ولننطرح على قدميها المغبوطين، ولا نتركها أن لم تباركنا هي. لأن بركتها إيانا تؤكد لنا نوال الملكوت. ويقول القديس أنسلموس: أنه يكفينا أيتها البتول السيدة أنكِ تريدين أن تخلصينا، لأنه حينئذٍ لا يمكن لنا أن لا نكون خالصين. ويضيف الى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن الأنفس المحامى عنهن من مريم يخلصن بالضرورة ومن دون كل ريبٍ.*

فبالصواب اذاً يقول القديس أيدالفونسوس: أن البتول الكلية القداسة قد سبقت وتنبأت عن ذاتها بقولها: فها منذ الآن يعطيني الطوبى سائر الأجيال: (لوقا 1ع48) لأن جميع المختارين ينالون بواسطتها الطوبى الأبدية: أما القديس متوديوس فيخاطب هذه المباركة في النساء قائلاً نحوها: أنكِ أنتِ هي أيتها الأم العظيمة أبتداء سعادتنا، ووسطها، ونهايتها، فالبداية لأنكِ تستمدين لنا نحن الخطأة نعمة غفران مآثمنا. والوسط لأنكِ تنالين لنا نعمة الثبات على الخير. والنهاية لأنكِ أخيراً تستمدين لنا نعمة البلوغ الى الفردوس والدخول الى السعادة الأبدية: فبواسطتكِ أيتها السيدة قد فتح باب السماء يقول نحوها القديس برنردوس، وبكِ فرغ الجحيم وبوساطتكِ قد اخصب الفردوس، وبالأجمال أنه بكِ قد أعطيت الحياة الأبدية لعددٍ فائق الإحصاء من الأشقياء الذين كانوا مستحقين الموت السرمدي:*

الا أن الأمر الذي يشجعنا بأبلغ من كل ما سواه على أن نوطد رجانا متأكدين نوال الفردوس، هو الوعد الجميل الذي وعدتِ به هذه الأم الطوباوية لكل أولئك الذين يكرمونها، لا سيما الذين يجتهدون بواسطة أقوالهم ونموذجاتهم الصالحة في أن يجعلوها معروفةً ومكرمةً من الآخرين أيضاً. وهذا الوعد هو المدون في حكمة أبن سيراخ (ص24ع30) بقولها: أن الذين يعملون بي لا يخطئون. ومن شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية. فمن ثم يهتف القديس يوناونتورا قائلاً: أنهم لسعيدون هم بالحقيقة أولئك الذين يحصلون على أنعطاف مريم نحوهم محاميةً عنهم، لأن الطوباويين في السماء يعدون هؤلاء رفاقهم العتيدين من دون ريبٍ، اذ أن من يحمل على ذاته علامة تعبده لمريم يكون أسمه مدوناً في مصحف الحياة. ماذا يفيد التعب والقلق في الفحص عن الأحكام والآراء المدروسة. وهل أن الأنتخاب الى المجد يصدر قبل سابق النظر الى الأستحقاقات الخصوصية أم بعد تأمل هذه الأستحقاقات!" هل أن أسماءنا هي مكتوبةٌ في سفر الحياة أم لا؟ فنحن أن كنا عبيداً حقيقيين لمريم والدة الإله وفائزين بحمايتها، فمن دون أشكالٍ بل بكل تأكيدٍ أسماؤنا هي مسجلة في مصحف الحياة، لأنه كما يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله لا يمنح نعمة العبادة نحو والدته القديسة الا لأولئك الذين يريدهم مخلصين: ويبان أن هذا هو مطابقٌ لما أعلنه عز وجل واضحاً بواسطة رسوله القديس يوحنا في سفر الجليان قائلاً: أن الذي يغلب... أنا أكتب عليه أسم إلهي وأسم المدينة الجديدة التي لإلهي: (أبوكاليبسي ص3ع12) أي أن الذي يكون غالباً ومخلصاً يحمل على قلبه مكتوباً أسم مدينة الله، فمن هي مدينة الله هذه الا مريم حسبما يفسر القديس غريغوريوس الكبير في شرحه كلمات النبي داود هذه: أنه قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله: (مزمور86ع3) فيمكننا حسناً أن نقول اذاً مع القديس بولس الرسول: لكن أساس الله الوطيد قد وقف ثابتاً وعليه هذا الختم، أن الرب قد عرف الذين له: (تيموتاوس ثانية ص2ع19) فالذي يكون عليه هذا الختم أي عبادته لمريم قد عرفه الرب أنه له وخاصته، ولذلك كتب القديس برنردوس قائلاً: أن التعبد لوالدة الإله هو ختمٌ وعلامةٌ كلية التأكيد لنوال الخلاص الأبدي: ثم أن الطوباوي الانوس اذ يتكلم بخصوص السلام الملائكي يقول: أن كل من يكرم البتول مراتٍ كثيرةً بتلاوة السلام الملائكي، يحوي في ذاته علامةً عظيمةً لأنتخابه الى المجد. ويقول هو عينه في محلٍ آخر: أنه يفوز بذلك أولئك أيضاً الذين يثابرون بثبات على تلاوة المسبحة الوردية المقدسة يومياً. وبأبلغ من هذا يورد الأب نيارامبارك قائلاً: أن عبيد والدة الإله هم ذووا أختصاصاتٍ أكثر وأفضل، ليس في مدة حياتهم فقط في هذا العالم، بل أنهم في السماء أيضاً سيكونون مكرمين بنوعٍ متميزٍ جداً عن الآخرين، ومتردين بحللٍ شريفةٍ تعلنهم واضحاً أنهم حواص ملكة السماء وأهل بلاطها كما قيل عنهم: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضعفةً: (أمثال ص31ع21)*

فالقديسة مريم مادلينا داباتسي قد شاهدت في وسط البحر مركباً حاوياً ضمنه عبيدمريم العذراء أجمعين، ورأت هذه السيدة ماسكةً في يدها دفة تدبير المركب، ومهتمة في أن تقود هؤلاء الركاب كافةً بكل طمأنينةٍ وتأكيدٍ الى مينا الخلاص، وقد حصلت القديسة المذكورة على تفسير هذه الرؤيا وهو: أن كل أولئك الذين يعيشون في الحيوة الحاضرة تحت حماية والدة الإله، خم ناجون من غرق الخطيئة في بحر هذا العالم الجزيل الأخطار، وفائزون بالنجاة من الهلاك، لأنهم يقادون بمعوناتها وحمايتها بنوعٍ أمينٍ الى مينا الفردوس السماوي. فلنجتهد اذاً في أن نصعد الى هذا المركب المغبوط الذي هو كنف حماية أم الرحمة. وفيه نكون مطمئنين على البلوغ الى الغبطة الأبدية، اذ أن الكنيسة المقدسة ترتل في تسابيحها قائلةً نحو هذه السيدة هكذا: أن كل أولئك العتيدين أن يشتركوا في النعيم الأبدي، هم ساكنون فيكِ أيتها القديسة والدة الإله، لأنهم يحيون تحت كنف حمايتكِ.*

* نموذج *

أن كيساريوس يخبرنا (في الرأس3 من كتابه7) عن توما أحد الرهبان الجيستاررجيانسيين أنه كان حاراً جداً في العبادة لوالدة الإله، وكان يشتهي أن تزوره هي مرةً ما، ولذلك كان يتوسل إليها على الدوام في أن تهبه هذه النعمة. فليلةً ما اذ قد خرج الى بستان الدير، وكان يتفرس في السماء ويتنهد بتحسراتٍ قلبيةٍ متقدةٍ بحرارة الشوق لمشاهدة سيدته، واذا به ينظر منحدرةً من السماء أمرأةً كلية الجمال متلألئةً بالضياء قد جاءت اليه وسألته قائلةً له: أتحب يا توما أن تسمع صوت ترتيلي: فأجابها: أي نعم أني أرغب ذلك: فحينئذٍ تلك البتول رتلت بنغمةٍ كلية العذوبة بعض تراتيل، التي عند سماعها أضحى الراهب توما البار يظن ذاته كأنه في الفردوس السماوي، فلما أنتهى الترتيل غابت هي عنه وتركت أشواقه متقدةً لأن يعرف من كانت هبي بالحقيقة. ففيما هو غائصٌ في تلك الأفكار واذا ببتولةٍ أخرى ذات جمالٍ عظيم كالأولى قد جاءت أمامه ونظير تلك أسمعته صوت ترتيلها، فهو لعدم أستطاعته أن يمسك ذاته عن أن يعرف من كانت هي تلك البتول، قد سألها عن أسمها، وهي أجابته قائلةً: أن البتول التي جاءت إليك قبلي هي القديسة كاترينا، وأما أنا فأسمي أنيسا، وكلتانا بتولان شهيدتان ليسوع المسيح، قد أرسلتنا إليك سيدتنا لكي نعزيك، فأشكر هذه الأم الإلهية وأستعد متأهباً لأقتبال نعمةٍ أعظم: قالت له هذا وأغربت عنه، فالراهب بقي تحت الرجاء العظيم في أن يشاهد ملكته المحبوبة، ولم يخب هو من أمله، لأنه بعد ذلك ببرهةٍ قد رأى أشراق ضياءٍ عظيمٍ أبرق وأستوعب منه قلبه أبهاجاً كلي العذوبة. واذا بوالدة الإله قد ظهرت له من باطن ذلك الضياء محاطةً من أجواقٍ من الملائكة. وهي ذات جمالٍ فائق بما لا يحد ولا يوصف على جمال تلك البتولتين اللتين ظهرتا له قبلاً، ثم قالت له: أنني قد أقتبلت منك يا عبدي وأبني العزيز، التعبد الذي خدمتني به، وأستجبت صلواتك، فأنت قد أشتهيت أن تراني، وهوذا أنا جئت اليك وأريد أن أسمعك أنا أيضاً ترتيلي: قالت هذا وبدأت ترتل، فقد كان أبتهاج قلب توما بهذا المقدار عظيماً حتى أنه غاب عن حواسه. وسقط على الأرض منكباً وبقي هكذا. فلما قرع ناقوس الصلاة السحرية وأجتمعت الرهبان حسب عادتهم في الخورص ولم يجدوا فيما بينهم توما أخذوا يفتشون عليه في قلايته وفي أمكنةٍ أخرى الى أن وجدوه أخيراً في البستان مطروحاً على الحضيض كمائتٍ، فأقاموه وأدخلوه داخلاً، واذ رجع الى ذاته قد حتم عليه الرئيس بأمر الطاعة المقدسة بأن يخبرهم بجميع ما حدث له. فحينئذٍ لأضطراره من قبل أمر الطاعة قد أخبرهم بكل ما رآه وسمعه وبما أنعمت عليه به هذه الأم الإلهية.*

† صلاة †

يا سلطانة الفردوس السماوي أم الحب المقدس أنكِ اذ كنتِ فيما بين المخلوقات كلها أنتِ هي المحبوبة من الله أكثر حباً، كما أنكِ أنتِ هي المحبة إياه الأولى أشد حباً، أرتضي بأن يحبكِ هذا الخاطئ الحقير أيضاً الأكثر كفراناً بالجميل والأشد شقاءً منجميع أهل الأرض، الذي عند مشاهدته ذاته معتوقاً من الهلاك الجهنمي بواسطتكِ، ومن دون أستحقاقٍ منه منعماً عليه منكِ أنعاماتٍ هكذا عظيمة، فقد أشتعل قلبه غراماً بمحبة صلاحكِ وقد وضع فيكِ رجاه كله، فأنا هو هذا الخاطئ ومن ثم أحبكِ يا سيدتي وأتمنى أن يكون حبي إياكِ أكثر مما أحبكِ به القديسون الأشد غراماً بمحبتكِ. وأشتهي من كل قلبي لو أكون قادراً على أن أجعل كل البشر الذين لا يعرفونكِ أن يفهموا جيداً كم أنتِ مستحقة المحبة. لكي يكرمكِ الجميع ويحبكِ الكل، بل أني أرغب أن أموت من أجل حبكِ بمحاماتي عن دوام بتوليتكِ، وعن حال كونكِ والدة الإله حقاً، وعن الحبل بكِ البريء من دنس الخطيئة الأصلية، هذا أن كان يحتاج الأمر لأن أقدم حياتي فداءً بالمحاماة عن خصوصياتكِ هذه ذات الأعتبار والقيمة، فأقبلي مني يا أمي العزيزة المحبوبة عواطف تعلقي القلبي بكِ، ولا تسمحي بأن أحد عبيدكِ الذي يحبكِ يكون عدواً لإلهكِ المحبوب منكِ بهذا المقدار العظيم. فالويل لي لأني في وقتٍ ما كنت كذلك حينما أهنت سيدي. الا أنني وقتئذٍ لم أكن أحبكِ يا مريم وكنت قليلاً أهتم في أن أكون محبوباً منكِ، أما الآن فأنا لا أتمنى شيئاً بعد نعمة الله أكثر من أن أحبكِ وأن أحصل منكِ محبوباً. ثم ولا يضعف رجائي في ذلك من قبل خطاياي الماضية، اذ أنني أعلم جيداً أنكِ سيدةٌ كلية الحنو والرأفة، ولا تأنفين من أن تحبي الأشد شقاوةً فيما بين الخطأة أيضاً الذين يحبونكِ، بل أنكِ لا تدعين أن يسمو أحدٌ بحبه على حبكِ، فأنا أريد أن آتي الى الفردوس لأحبكِ هناك أيتها الملكة الجليلة، لأني حينما أبلغ لأن أضبط قدميكِ فأعرف أفضل معرفةً كم أنتِ مستحقةً من المحبة، وكم صنعتِ من العناية الى أنكِ خلصتيني. ولهذا أحبكِ هناك أشد حباً طول أزمنة الأبدية من دون خوفٍ أصلاً من أن أعدم هذا الحب أو أنتزح عنه، فأنا أرجو يا مريم رجاءً أكيداً أن أفوز بالخلاص بوساطتكِ. ومن ثم أسألكِ أن تصلي من أجلي لدى أبنكِ يسوع ولا أريد أكثر من ذلك.



لأنه يخصكِ أن تخلصيني وأنتِ هي رجائي ولهذا أمضي





على الدوام مرتلاً، يا مريم رجائي أن





خلاصي هو متعلقٌ بكِ.



آمين.



Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:40 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
* فيما يلاحظ هذه الكلمة وهي: يا شفوقة يا رؤوفة:*
* وفيه يبرهن عن كم هي عظيمة شفقة
والدة الإله ورأفتها*
أن القديس برنردوس اذ يتكلم عن عظمة حنو مريم وأشفاقها نحونا نحن الأشقياء البائسين، يقول: أن هذه البتول هي الأرض الموعود بها من الله التي تقطر لبناً وعسلاً: ولهذا قال القديس البابا لاون الكبير: أن البتول المجيدة هي مالكة قلباً وأحشاءً رحومةً شفوقةً بهذا المقتدار، حتى أنها ليس فقط تستحق أن تسمى أم الرحمة، بل ينبغي أيضاً أن تدعى الرحمة بالذات: والقديس بوناونتورا اذ يلاحظ أن مريم قد أختيرت والدةً لله لسبب شقاوة المساكين، وأنها قد أقيمت بوظيفة أن توزع المراحم على الجميع، متأملاً أيضاً في الأهتمام العظيم الذي عندها في أن تسعف البائسين كافةً، وكيف أن ذلك يجعلها غنيةً بهذا المقدار بالرأفة والأشفاق، حتى أنه يبان أنها لا تشتهي شيئاً آخر سوى أن تعين المحتاجين وتسعف المعوزين وتساعد المساكين وتحسن الى البائسين. فمن ثم يقول: أنه حينما ينظر الى مريم فكأنه لا يعود يشاهد في الوجود العدل الإلهي، بل الرحمة الإلهية فقط.*
وبالأجمال أن أشفاق والدة الإله ورأفتها هي هكذا عظيمة: حتى أن أحشاءها الرأوفة، كما يقول الأنبا غواريكوس، لا تعرف أن تمكث برهةً ما من دون أن تفيض نحونا مجاري حنوها. وتبيح لنا أثمار أشفاقها: والقديس برنردوس يهتف قائلاً: أهل يمكن أن يجري فائضاً من يبنبوع الرأفة شيءٌ آخر غير الرأفة. ولهذا لقبت هي بالزيتونة، كما قيل عنها: أنا مثل الزيتون الجميل في البقاع: (أبن سيراخ ص24ع19) فكما أنه من الزيتزن لا يخرج شيءٌ آخر الا الزيت (الذي هو رسم الرحمة) هكذا من يدي مريم لا يخرج شيءٌ آخر الا النعم والمراحم: ولذلك بكل عدلٍ (يقول المكرم لويس دابونته) يليق أن تسمى مريم: أم الزيت: اذ أنها هي أم الرحمة. فإذا ما ألتجأنا نحن الى هذه الأم طالبين منها زيت رأفتها فلا نخاف من أنها يمكن أن تنكره علينا، كما نكرت أعطاء الزيت الخمس العذارى الحكيمات للخمس الجاهلات قائلات لهن: ليس لنا ما يكفينا وإياكن: (متى ص25ع9)، كلا، بل أن هذه السيدة هي غنيةٌ بزيت المراحم، كما ينبه القديس بوناونتورا، ولذلك تدعوها الكنيسة المقدسة: عذراء كلية الحكمة: لكي نفهم من ثم (حسبما يقول أوغون الذي من سان فيتوره) أن مريم هي بهذا المقدار ممتلئةٌ نعمةً وأشفاقاً، حتى أنها تقدر أن تسعف الجميع بسخاء رأفتها من دون أن تفرغ كنوز غناها.*
ولكني أسأل مستفهماً لماذا يقال في النص المتقدم ذكره: أنا مثل الزيتون الجميل في البقاع، ولا تقول بالأحرى: أنا زيتونةٌ ضمن بستانٍ أو كرمٍ مسيجٍ بالجدران محفوظةٌ داخل السياج، لا في البقاع الشائبة للخطف؟ فيجيب الكردينال أوغون في تفسيره هذا النص: أن هذه الزيتونة أنما هي في البقاع ليمكن لكل أحدٍ بسهولةٍ أن يشاهدها، ومن دون مانعٍ يدنو منها ليستمد علاجاً لأحتياجاته: ويثبت هذا التفسير الجليل القديس أنطونينوس بقوله: أنه حينما تكون زيتونةٌ ما مغروسةً في الحقل خارج الحيطان والسياج، فيستطيع كل أحدٍ من غير حاجزٍ أن يذهب اليها ويقطف أثمارها. ولهذا أن الجميع يقدرون أن يلتجئوا الى مريم أبراراً وأشراراً ليستمدوا زيت رحمتها: فكم وكم من الأحكام الأنتقامية المعطاة من العدل الإلهي ضد الخطأة قد عرفت هذه البتول الكلية القداسة أن تنال بواسطة تضرعاتها عدم وضعها بالعمل، مخلصةً منها الأشرار الذين ألتجأوا اليها مستغيثين بها. ويقول توما الكامبيسي: أي ملجأ أكثر أمناً نستطيع نحن أن نجد خارجاً عن حضن مريم وأحشائها المملؤة رأفةً، لأنه هناك يجد الفقير أسعافه، والمريض علاجه، والحزين تعزيته. والمرتاب أقناعه، والمشكك هدؤه بالمشورة الصالحة، والمهمل أعانته، والمحتاج كفاية.*
فيا لتعاستنا لولا نكون حاصلين على أم الرحمة هذه المتهتمة والمعينة دائماً في أسعافنا وسد عوزنا في شدائدنا وشقاوتنا. على أن الروح القدس يقول بفم أبن سيراخ (ص36ع27): أنه حيث لا توجد الأمرأة ينوح الفقير: فالقديس يوحنا الدمشقي يبرهن أن هذه الأمرأة هي مريم البتول، وحيث لا توجد هي فيضام الجميع لأن الله أراد أن النعم كلها تتوزع باسطة تضرعاتها لديه. فاذا نقص وجودها فلا ريب بنقصان الرجاء عن نوال الرحمة، كما أوحى الرب للقديسة بريجيتا بقوله: حيث لم توجد صلوات مريم بالتضرعات فلا رجاء لنوال الرحمة.*
ولكن أهل أننا نخاف من أن هذه الأم الحنونة لا تنظر الى شقاوتنا ولا تتوجع لنا، كلا، بل أنها هي تلاحظ وترثي لنا من أجلها أكثر مما نحن أنفسنا نلاحظها ونتوجع من جرائها. فيقول القديس أنطونينوس: من هو ذاك الذي فيما بين القديسين كافةً يشفق علينا ويحنو مترأفاً وينعطف متريثاً لحالنا نظير مريم: وحسبما يورد ريكاردوس الذي من سان فيتوره بقوله: أن مريم حيثما تشاهد الشدائد، وأينما تنظر المسكنة والشقاء، فلا تقدر أن تهملها من دون أن تسعف الكائنين فيها! ويثبت ذلك العلامة ماندوتسا مخاطباً والدة الإله هكذا: أنكِ أيتها البتول المباركة توزعين بيدٍ طلقةٍ سخيةٍ مراحمكِ أينما لاحظتِ الأحتياج والضرورة ملمةً بنا. فأمنا هذه الصالحة لا تكف أصلاً عن ممارسة ما هو متعلقٌ بوظيفتها في توزيع المراحم، كما تعلن هي نفسها عدم أنتقاصها، بل دوام خدمتها هذه الرحومة بقولها هكذا: أنني الى الدهر المزمع لا أنقص، لقد خدمت أمامه في القبة الطاهرة: (أبن سيراخ ص24ع14) فيشرح هذه الكلمات الكردينال أوغون بأن مريم تقول: أنني الى حد نهاية العالم لا أهمل أبداً أن أعتني بأسعاف البشر في شدائدهم، ولا أتغافل أصلاً عن التضرعات من أجل الخطأة لكي ينالوا الخلاص ناجين من الشقاء الأبدي.*
فقد كتب المؤرخ سفاطونيوس عن الملك تيطس قيصر، أنه بهذا المقدار كان منصّباً بأنعطافٍ وشوقٍ لأن يمنح النعم للذين كانوا يلتمسونها منه، حتى أنه كان يقول عن ذاك اليوم الذي لم يكن فيه يتقدم لديه أحدٌ ما في طلب نعمةٍ من النعم: أنه يومٌ ضائعٌ ونهارٌ فاقد الثمر لي. لأني أجتزته من غير أن أسعف فيه أحداً بنعمةٍ ما: فتيطس ربما كان يقول ذلك بروح المجد الباطل وبقصد أن يكتسب لذاته ريادة مديح الشعوب. وأعتبارهم جودة صفاته أحرى مما بروحٍ صادقٍ لمحبة القريب، وأما ملكتنا مريم فلو أتفق أن يمر يومٌ ما من دون أن تلتمس منها نعمةٌ ما، أو من غير أن تهب هي فيه رحمةً ما، فلكانت تقول ذلك لهذه العلة وحدها، وهي لكونها أنما هي ممتلئةً من الحب الصادق نحو البشر، ومن الشوق الأكيد الى أن تصنع معنا الخير: بنوع أنها كما يقول القديس برنردينوس البوسطى. توجد هي شائقةً ومتعطشة لأن تهبنا النعم. أفضل شوقاً وتعطشاً منا نحن أنفسنا لأقتبال هذه النعم، ولذلك كل مرةٍ نحن نلتجئ اليها فنجدها دائماً مملؤة اليدين من المراحم ومن المواهب السخية التي تريد أن تمنحنا إياها.*
فأمنا رفقا أنما كانت رسما لأمنا البتول المجيدة، فرفقا حينما طلب منها غلام أبراهيم أن تسقيه قليلاً من الماء الذي كان في الجرة التي هي أملأتها من العين، فليس أنها أسرعت اليه هو فقط ووضعت الجرة على ساعدها وأسقته قائلةً له: أشرب يا سيدي: بل أنها بعد أن شرب قالت له أيضاً: أنني أستقي ماءً للجمال التي معك حتى تشرب كلها: وهكذا أفرغت الماء في المستقى. وأعجلت راجعةً الى البئر ثانيةً وأملأت فأسقت جميع الجمال (سفر التكوين ص24ع18 الخ) فمن ثم يلتفت القديس برنردوس الحسن التعبد لمريم البتول مخاطباً إياها هكذا: أنكِ أيتها السيدة رأوفةٌ وأكثر سخاءً من رفقا. ولذلك أنت لا تكفين بأن توزعي نعم رحمتكِ الغير المحدودة على غلمان أبراهيم فقط، المفهوم بهم عبيد الرب الأمناء في خدمته تعالى، بل أنكِ تهبين هذه النعم للجمال أيضاً التي هي رسمٌ للخطأة، وكما أن رفقا قد أعطت أكثر مما طلب منها، فعلى هذه الصورة أنتِ تهبين أكثر من الشيء الذي يلتمس منكِ: ثم يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن سخاء مريم يشابه سخاء أبنها الإلهي الذي يعطي دائماً أكثر مما يطلب منه، ولهذا يقول عنه القديس بولس الرسول أنه مستغنٍ في جميع المستغيثين به: (روميه ص10ع12) أي هو غنيٌ بالنعم نحو جميع الذين يلتجئون اليه بالصلوات، ولهذا يقول نحو البتول المجيدة أحد العلماء العباد هكذا: صلي من أجلي أنتِ يا سيدتي، لأنكِ تطلبين لي النعم بأعظم عبادةٍ مما أنا أعرف أن أصنع، وأنتِ تنالين من الله نعماً ومواهب أعظم وأوفر من تلك التي أنا أستطيع أن ألتمسها.*
فالقديسان الرسولان يعقوب ويوحنا عندما شاهدا أن أهل قرية السمرة لم يريدوا أن يقبلوا يسوع عندهم، قد أحتدا بالغيرة قائلين: يا رب أتريد أن نقول فتنحدر نارٌ من السماء وتفنيهم، فألتفت هو ونهرهما قائلاً لستما تعرفان أي روحٍ أنتما: (لوقا ص9ع52 ألخ) فكأنه تعالى يقول لهما: أنني بهذا المقدار أنا رحومٌ رأوفٌ شفوقٌ عذبٌ حتى أني نزلت من السماء لكي أخلص الخطأة لا لكي أعاقبهم، وأنتما تريدان أن تشاهداهم هالكين، فماذا تقولان عن نارٍ وعن أنتقامٍ، أسكتا ولا تتكلما بعد في أمر عقابٍ وقصاصٍ لأن هذا ليس هو روحي. فمن حيث أن روح مريم العذراء بجملته هو شبيهٌ بروح أبنها فلا نقدر أن نرتاب في أنها هي بكليتها متعطشةٌ بأنعطافٍ لأن تصنع الرحمة، لأنها (كما أوحت للقديسة بريجيتا) قد دعيت أم الرحمة، بل أن رحمة الله عينها قد صنعتها هكذا شفوقةً حنونةً عطوفةً حلوةً رأوفةً نحو الجميع، ولذلك قد شاهدها القديس يوحنا في جليانه ملتحفةً بالشمس. كما يقول في سفر الأبوكاليبسي (ص12ع1): وظهرت آيةٌ عظيمةٌ في السماء أمرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس: ففيما يلاحظ هذه الكلمات يخاطب القديس برنردوس والدة الإله قائلاً: أنكِ أيتها السيدة قد ألبستِ الشمس أي كلمة الله جسداً إنسانياً، الا أنه تعالى قد ألبسكِ هو رحمته وأقتداره.*
http://www.peregabriel.com/gm/albums.../normal_GG.jpg
فبهذا المقدار اذاً هي حنونةٌ متعطفةٌ شفوقةٌ هذه الملكلة (يقول القديس برنردوس عينه) حتى أنها حينما ترى أحد الخطأة مهما كان، ملتجئاً إليها ومستغيثاً برحمتها. فلا تتوقف هي فاحصةً عن أستحقاقاته أو عدمها أي أن كان يستحق هو أن يستجاب مطلوبه أم لا، بل أنها تستجيب الجميع وتقبل طلباتهم من دون أستثناءٍ. ولأجل ذلك يلاحظ مبرهناً القديس أيدالبارتوس بقوله: أن مريم قد دعيت: جميلةً مثل القمر: (نشيد ص6ع9) على أنه كما أن القمر لأجل قربه من كرة الأرض ينير أولئك السكان في قطب الأرض السفلي الذين لا تظهر لهم الشمس الا أزمنةً قليلةً في دور السنة. فهكذا مريم تسعف الخطأة الأكثر شقاءٍ والأشد أحتياحاً والأوفر أعداماً للأستحقاقات: ثم أن القمر ولئن كان يتخذ أنواره من الشمس فمع ذلك مفعولاته تكمل بأكثر سرعةٍ من الشمس، لأن الشيء الذي تعمله الشمس في مدة سنةٍ يعمله القمر في مدة شهرٍ (كما يقول المعلم يوحنا ديمينان في تكلمه عن الفلك في الرأس 3من الكتاب 1) ومن ثم يورد القديس أنسلموس: بأننا بعض الأحيان نستمد النجاة بواسطة أستغاثتنا بمريم بأكثر سرعةٍ مما نستمدها بأستغاثتنا بيسوع: ولهذا يحرضنا أوغون الذي من سان فيتورة على: أنه اذا أتفق لنا أن كثرة خطايانا تسبب لنا الخوف من أن ندنوا من الله ملتجئين اليه، لأنه تعالى ذو عزةٍ متناهيةٍ قد أهينت منا بأفعال الآثام، فلا نبغي لنا حينئذِ أن تتوقف عن أن نبادر بالأستغاثة نحو مريم، لأننا لا يمكن أن نجد فيها شيئاً ما يخيفنا. لأنه أي نعم أنها هي كلية القداسة بريةٌ من العيب سلطانة العالم، وهي نفسها والدة للإله عظيمة الجلالة، الا أنها هي من لحمنا ودمنا وهي أبنة آدم نظيرنا.*
وبالأجمال يقول القديس برنردوس: أن كل شيءٍ يختص بمريم، هو مملؤٌ من النعم والمراحم. لأنها هي بحسب كونها أم الرأفة. قد صيرت ذاتها كلاً للكل. وبحسبما هي موعبةٌ من الحب الشديد نحو الجميع، قد أقتبلت أن تصير مديونةً للأبرار والأشرار معاً بصنيع الرحمة معهم. ولهذا هي تفتح للكل أحضان رحمتها حتى يتمتع بذلك الجميع. كما أن الشيطان. كقول القديس بطرس الرسول: يجول حول البشر زائراً كالأسد يلتمس من يبتلعه: (بطرس أولى ص5ع8) فهكذا بالضد مريم تجول مفتشةً من دون أنقطاعٍ على أن تعطي الحيوة والخلاص لمن تقدر هي أن تصنع معه ذلك. حسبما يورد ريكاردوس البوسطي.*
ثم يلزمنا أن نعرف جيداً أن أقتدار والدة الإله في المحاماة عنا هو أعظم جداً مما نستطيع نحن أن ندركه بعقولنا. كما يقول القديس جرمانوس. فمؤلف الكتاب المدعو بوماريوس يسأل كمستفهمٍ. عن كيف أن ذاك الرب الذي كان في الناموس القديم بهذا المقدار صارماً في أطلاق القصاصات والعقابات عاجلاً. فالآن هو تعالى عينه يستعمل المراحم مع الأثمة الأكثر خطأً من أولئك القدماء، ثم يجيب هو نفسه عن ذلك قائلاً: أن الله يفعل الأن هذه المراحم كلها حباً بمريم وتكريماً لأستحقاقاتها: والقديس فولجانسيوس يقول:" أنه لقد كان العالم من دون ريب أنقلب حاصلاً في الأندثار الكلي، لولا تكون مريم مسندةً إياه بقوة شفاعاتها". الا أننا نقدر أن نذهب مطمئنين أمام الله (يتبع القول القديس أرنولدوس كارنونانسه) وأن نترجا مؤملين نوال كل خيرٍ اذ أننا حاصلون على الأبن الإلهي وسيطاً بنا لدى أبيه الأزلي، وعلى الأم الإلهية وسيطةً بنا لدى هذا الأبن السرمدي. فكيف يمكن أن الآب لا يستمع طلبات الأبن الذي يظهر لديه الجراحات التي ألم هو بها من أجل خلاص الخطأة. وكيف هو من المحتمل أن الأبن لا يستجيب تضرعات الأم عندما تظهر هي لديه ثدييها اللذين بهما أقاتته بالحليب مغذيةً. أما القديس بطرس الذهبي النطق فيورد عبارةً جليلةً بقوله عن العذراء المجيدة هكذا: أنه اذ قدمت لله هذه الجارية البتول أحشاها الفائقة الطهر نظير فندقٍ سكن فيه تعالى في مجيئه الى العالم. فلذلك هي تطلب منه عز وجل بمنزلة أجرةٍ عن سكناه فيها. السلام للعالم والخلاص للخطأة الميؤوسين والحياة للموتى.*
فكم هو عظيمٌ عدد الذين أستحقوا أن يحكم عليهم بالهلاك (يقول الأنبا جالاس) من أولئك الذين فازوا بالخلاص، لولا تدركهم مراحم مريم العذراء لأنها أنما هي كنز الله وخازنة جميع النعم ومن ثم أن خلاصنا هو متعلقٌ بها وكائنٌ بين يديها: فلنبادر اذاً دائماً الى أم الرأفة هذه ونترجى خلاصنا بكل تأكيدٍ بواسطة شفاعاتها. اذ أنها (كما يشجعنا على الثقة بها برنردينوس البوسطي) هي خلاصنا وحياتنا ورجانا ومشيرتنا وملجانا ومعونتنا: ويقول القديس أنطونينوس: أن مريم هي ذاك العرش، أي عرش النعمة الذي يحرضنا الرسول الإلهي على أن نتقدم اليه بثقةٍ لنستمد الرحمة الإلهية، مع كل المعونات الضرورية لخلاصنا، كما يقول في سالته الى العبرانيين (ص4ع16) هكذا: فلنتقدم بدالةٍ الى عرش النعمة لنأخذ نعمةً ونجد رحمةً لمعونةٍ نستفرصها: ولهذا القديسة كاترينا السيانية تسمي والدة الإله: موزعة المراحم الإلهية.*
فلنختتم القول بتلك الكلمات العذبة المملؤة حلاوةً التي يخاطب بها القديس برنردوس هذه الأم الرأوفة هاتفاً: أنكِ يا مريم أنتِ حليمةٌ نحو الأشقياء رأوفةٌ نحو المستغيثين بكِ، عذبةٌ حلوةٌ مع محبينكِ، شفوقةٌ مع التائبين. حنونةٌ مع الساعين في نجاحهم لطيفةٌ مع الكاملين. فأنتِ توضحين ذاتكِ رأوفةً بأستنقاذكِ إيانا من العقابات، وشفوقةً بتوزيعكِ علينا النعم، وحلوةً لذيذةً بأيهابكِ ذاتكِ لكل من يطلبكِ.*
* نموذج *
أن الأب كارلوس بوفيوس يخبر بأنه كان في مدينة دومانس من مملكة فرنسا رجلٌ. الذي مع كونه مقترناً بسر الزواج قد كان معاشراً أحدى النساء عشرةً دنسةً فسقيةً. فأمرأته العارفة ذلك اذ لم يمكنها منعهما عنه فلم تكن تصنع شيئاً آخر سوى أن تطلب لهما من الله القصاصات المريعة، لا سيما أنها ذهبت يوماً ما الى أحدى الكنائس وأمتثلت أمام هيكل والدة الإله، ملتمسةً منها أجراء صرامة العدل ضد تلك الأمرأة الأثيمة المانعة عنها رجلها. غير أن الأمرأة الخاطئة عينها كانت من عادتها أن تذهب يومياً الى تلك الكنيسة، وتصلي أمام أيقونة والدة الإله نفسها السلام الملائكي. فليلةً ما قد ظهرت في الحلم هذه الأم الرأوفة لأمرأة الرجل المومى إليه، التي حالما رأتها شرعت مثل عادتها تطلب القصاصات قائلةً: أصنعي العدل يا والدة الإله أنصفي بالقسط للمظلومة: الا أن العذراء المجيدة أجابتها بقولها: أنكِ تطلبين مني قيام العدل وأجراء صرامة القسط فتضلين، لأنكِ أن أردتِ ذلك فأذهبي الى آخرين غيري يصنعونه لكِ، فأنا لا أستطيع أن أتتم مرغوبكِ، ثم قالت لها: أعلمي أن تلك الأمرأة الخاطئة عينها تتلو أمامي كل يومٍ ذاك السلام الذي من يكرمني بتلاوته، فمهما كان هو، أنا لا أحتمل أن أراه مصاباً بعقابٍ ما، ولا ساقطاً في القصاصات لأجل خطاياه. فلما أصبح النهار نهضت هذه الأمرأة ومضت الى تلك الكنيسة فحضرت القداس... وفيما هي خارجةٌ من الكنيسة صادفت الأمرأة الخاطئة داخلةً إليها، فشرعت تشتمها وتقول عنها أنها هي ساحرةٌ قويةٌ في هذه الصنعة، حتى أنها أتصلت الى أن تسحر مريم العذراء وتجعلها محاميةً عنها. فالناس الذين سمعوها متكلمةً هكذا نهروها قائلين: أسكتي ماذا تقولين؟ أما هي فأجابتهم بقولها: كيف أريد أن أسكت عن أن أقول ما هو حقيقي جداً، لأن مريم العذراء قد ظهرت لي في هذه الليلة، واذ طلبت منها أن تنصفني بالعدل من هذه الأمرأة الفاجرة، فأجابتني بأنها لا تقدر أن تصنع لي ذلك، من كون هذه الأمرأة الشريرة تتلو أمامها كل يومٍ سلاماً ما يجعلها غير مستطيعةٍ أن تعاقبها! فالناس حينئذٍ سألوا تلك الخاطئة ما هو السلام الذي كانت هي تصليه أمام أيقونة العذراء، فقالت لهم أنه هو السلام الملائكي. غير أنها أي الأمرأة الخاطئة عندما سمعت وتحققت أن البتول القديسة لأجل هذه العبادة الجزئية التي كانت هي تقدمها لها. قد صنعت معها هذا السخاء بحفظها إياها من العقاب المستحقته خطاياها، فدخلت الكنيسة وأنطرحت أمام أيقونتها المقدسة طالبةً من الشعب الغفران عن الشكوك التي سببتها هي لهم، ونذرت أن تحفظ العفة الدائمة، ثم بعد ذلك خلعت عنها الأثواب العالمية. وتردت بالثوب الرهباني وعمرت لها قلايةً بالقرب من تلك الكنيسة، حيث أجتازت الزمن الذي بقي لها من العمر بأفعال أماتاتٍ وتقشفاتٍ، وبأعمال التوبة الصارمة الى أن فارقت هذه الحياة.*
† صلاة †
يا أم الرحمة أنكِ من حيث أنتِ بهذا المقدار رأوفةٌ وذات أشتياقٍ لأن تصنعي الخير معنا نحن الأذلاء الأشقياء ولأن تتممي مرغوباتنا التي نطلبها منكِ، فأنا الذي هو الأشقى فيما بين البشر أجمعين ألتجئ إليكِ مستغيثاً برأفتكِ لكي تهبيني ما ألتمسه منكِ. فلتستمد الناس من رحمتكِ ما يرغبون، صحةً جسديةً، املاكاً زمنيةً، سعاداتٍ أرضيةً، أما أنا فآتي إليكِ أيتها السيدة طالباً تلك الأشياء التي أنتِ نفسكِ ترغبينها لي أكثر مني، وهي بكليتها مطابقةٌ لمشيئة قلبكِ الكلية القداسة فأنت كنت على الأرض متواضعةً هكذا، فأستمدي لي اذاً فضيلة التواضع ومحبة الأحتقار. أنتِ كنتِ بهذا المقدار صبورةً في أحتمال شدائد هذه الحياة، فألتمسي لي فضيلة الصبر لأحتمل كل شيءٍ مضادٍ. أنتِ وجدتِ ممتلئةً حباً متقداً نحو الله، فأكتسبي لي موهبة الحب المقدس النقي. أنتِ صودفتِ موعبةً محبةً نحو القريب بكليتكِ، فأطلبي لي فضيلة الحب نحو الجميع، لا سيما نحو أولئك الذين يبغضوني ويضادوني. أنتِ كنتِ جزيلة التسليم لإرادة الله، فأستمدي لي حسن الخضوع التام والتسليم العام لكل ما يريد الله أن يفتقدني به. أنتِ بالأجمال هي الأكثر قداسةً فيما بين جميع المخلوقات يا مريم المجيدة، فصيريني قديساً، لأنه لا ينقصكِ حبٌّ وكل شيءٍ لديكِ هو ممكنٌ وأنتِ ترغبين أن تكتسبي لي كل شيءٍ يوافقني خلاصاً، الا أن شيئاً واحداًيمكن أن يوجد مانعاً عني نوال مسألتي وهو، أما التهاون في الألتجاء المتصل إليكِ، وأما ضعف الرجاء في حنوكِ ومقدرة شفاعاتكِ، غير أن هذا الألتجاء الدائم إليكِ وهذا الرجاء الوطيد فيكِ يلزم أن تستمديهما لي أنتِ نفسكِ من أبنكِ. فهاتين النعمتين العظيمتين ألتمس منكِ، وأريدهما حقاً وأطلبهما بثقةٍ يا مريم أمي ورجائي وحياتي وملجأي وتعزيتي. آمين.*

† يا حمامة الروح القدس، †
أنتِ شفيعة العالم، وموزعة النعم والمواهب.

Mary Naeem 03 - 08 - 2022 12:45 PM

رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
 
فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: يا مريم الحلوة اللذيذة:*
*وفيه: يبرهن كم هو عذبٌ حلاوةً وطيبٌ لذةً أسم مريم. *
*في مدة الحياة وفي ساعة الموت*
أن الإسم العظيم الذي خصصت به والدة الإله أي مريم لم يخترع من أحدٍ في الأرض. ولا أبدعه عقلٌ ما إنساني، حسبما حدث ويحدث في أختراع الأسماء الأخرى المستعملة من البشر، بل أن هذا الإسم قد جاء من السماء ورسم بأمرٍ إلهيٍ خاص، كما يشهد القديسون أيرونيموس وأبيفانيوس وأنطونينوس وغيرهم كثيرون. ثم أن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس يقول: أن إسمكِ يا مريم الجليل المحبوب قد خرج من كنز اللاهوت الى خارجٍ. لأن الثالوث الأقدس بجملته قد أعطاكِ هذا الإسم. الذي بعد أسم أبنكِ الإلهي يسمو متراساً على الأسماء كلها، وزينه بمعنى الجلالة والأقتدار، مريداً أن يكرمه الجميع منحنين عند التلفظ به من السماويين والأرضيين حتى الجحيم نفسه: ولكن فيما بين الأشياء الأخرى الجليلة التي بها زين الرب أسم مريم هو العذوبة الكلية الحلاوة، التي بها يشعر عباد هذه السيدة عند تلفظهم به في مدو حياتهم وساعة موتهم كما يأتي الشرح.*
فنظراً الى عذوبة هذا الإسم عند المتعبدين لمريم في مدة حياتهم يقول القديس أونوريوس السائح: أن أسم مريم هو مملؤٌ من العذوبة الإلهية! بنوع أن أنطونيوس البدواني المجيد يتحقق في أسم مريم العذوبة نفسها، التي يلاحظها القديس برنردوس في أسم يسوع، لأن هذا القديس أي برنردوس يقول عن أسم يسوع: أنه هو أبتهاجٌ للقلب وشهد العسل للفم وعذب الصوت للأذن: وهذا عينه يقوله القديس أنطونيوس البدواني عن أسم مريم. فقد ذكر في سيرة حيوة الطوباوي الأب يوفيناله أنجينا أسقف سالوتسو، انه حينما كان يسمي مريم، كان يشعر بحلاوةٍ حسيةٍ بهذا المقدار عظيمةٍ، حتى أنه كان يمص شفتيه كمدهونتين بالشهد. ويقرأ عن أمرأةٍ في بلاد كولونيا أنها قالت يوماً ما للأسقف مرسيليوس، أنها كل مرةٍ كانت تلفظ أسم مريم فكانت تستطعم في فمها بحلاوةٍ أكثر من العسل، واذ بدأ الأسقف المذكور أن يتلفظ بهذا الإسم فهو نفسه صار يشعر بتلك الحلاوة. ثم أنه قد يستدل من كلمات سفر النشيد الآتي إيرادها، أن الملائكة عند صعود والدة الإله الى السماء قد سألوا ثلاث مراتٍ عن إسمها بقولهم: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخورٍ: (ص3ع6): من هي هذه المستشرفة كمطلع الصبح: (ص6ع9): من هي هذه الصاعدة من البرية مدللة مستندة على حبيبها: (ص8ع5) فهنا يستفهم ريكاردوس الذي من سان لورانسوس بقوله: لماذا الملائكة يسألون مراتٍ مترادفةً عن أسم هذه السيدة والسلطانة المجيدة مع كونه هو معروفاً منهم: ثم يجيب هو نفسه عن ذلك قائلاً: أن أسم مريم هو مملؤٌ من العذوبة والحلاوة لدى الملائكة أنفسهم، حتى أنهم كرروا السؤال تواتراً ليسمعوا بالجواب ذكر أسمها ملفوظاً به على سماعهم.*
ولكن أنا لا أتكلم هنا عن الحلاوة الحسية المختصة بهذا الإسم المجيد. لأن هذه العذوبة الحسية لا تعطى عموماً للجميع. بل أتكلم عن حلاوةٍ خلاصيةٍ مسببة الطمأنينة والشجاعة والقوة. التي بوجه العموم يستفيدها من ذكر أسم مريم كل أولئك الذين يتلفظون به بروح الديانة وحسن العبادة. فاذ يتكلم عن ذلك الأنبا فرانكونه يقول: أنه بعد أسم يسوع المقدس فأسم مريم هو غنيٌ بالخيرات بهذا المقدار، حتى أنه في السماء وعلى الأرض لا يرعد أسمٌ آخر سواه، منه تحصل أنفس العباد على نعمةٍ ودالةٍ ورجاءٍ وطمأنينةٍ وافرةٍ لأن أسم مريم يحوي ضمنه نوعاً من الجاذبية للحب. ومن الحلاوة المنعشة الفؤاد. ومن موضوعاتٍ إلهيةٍ، حتى أنه حسبما يليق أن تشعر به قلوب محبينها يحرك فيهم عطراً زكي العرف عذب النشر. وأما الأمر العجيب المختص بهذا الإسم العظيم فهو أنه اذا ما سمع مقولاً مراتٍ لا تحصى عدداً من محبين هذه السيدة الشريفة. فدائماً هم يصغون لسماعه كأنه جديدٌ. اذ أنهم يشعرون بالعذوبة عينها كل مرةٍ يسمعون نغمة التلفظ به. والطوباوي أنريكوس صوزونه أيضاً بتكلمه عن هذه العذوبة يقول: أنه عند سماعه تسمية مريم. كان يشعر بذاته متوطداً في الرجاء بهذا المقدار، حتى أنه فيما بين سيمات الأبتهاج القلبي وحرارة الحب مع الدموع الهاطلة من عينيه حين تلفظه بهذا الإسم المجيد المحبوب، كان يشتهي أن قلبه يخرج من مركزه الى فمه. لأن أسم مريم الكلي الحلاوة كان نظير شهد العسل ينحل في أقصى جوارح نفسه، ولذلك يهتف نحو والدة الإله صارخاً: يا له من أسمٍ كلي القداسة. فترى ماذا تكونين أنتِ يا مريم في ذاتكِ أن كان أسمكِ وحده هو هكذا موضوعٌ للحب والأنعطاف القلبي ومملؤٌ من النعم.*
ومن ثم يلتفت القديس برنردوس نحو أمه المغرم هو بمحبتها قائلاً لها: يا مريم البتول الكلية القداسة، يا عظيمةً يا رأوفةً يا مستحقةً كل التسابيح وسائر التقريظات ومجموع المدائح، أن أسمكِ هو عذبٌ حلوٌ محبوبٌ بنوعٍ هذا حده، حتى أنه لا يمكن أن يسمى ملفوظاً به من أحدٍ من دون أن يشتعل في قلبه لهيب نار الحب نحو الله ونحوكِ، بل بأكثر من ذلك أنه يكفي لأسمكِ أن يستحضر بأزاء عقل أحدٍ من محبينكِ. لكي يضرم فيه زيادة المحبة لكِ والتعزية له: ويقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه أن كان المال يعزي الفقراء لأنه يزيح عنهم شقاهم، فكم بأبلغ من ذلك يعزينا نحن البائسين أسمكِ يا مريم، اذ أنه أفضل جداً من خيرات الأرض ينعش قلوبنا ويزيح شدائدنا ويخفف عنا ثقل مشقات هذه الحياة.*
وبالأجمال أن أسمكِ يا والدة الإله موعبٌ بجملته من النعم والبركات الإلهية، حسبما يخاطبكِ القديس متوديوس، بنوع أنه، كشهادة القديس بوناونتورا، لا يستطاع أن يلفظ أسمكِ من أحدٍ بالعبادة الواجبة من غير أن يجلب له نعمةً ما. ويقول أيديوطا: فليؤت بإنسانٍ ممن تصلبت قلوبهم كالجلمود، وممن قد يئسوا من الرجاء فاذا كان هذه الإنسان يسميكِ يا بتولاً كلية رأفتها، فإسمكٍ هو ذو قوةٍ مقتدرةٍ تستطيع أن تلين صلابة ذاك القلب، لأنكِ أنتِ هي تلك التي تشجعين الخطأة على الثقة، وتنعشين في قلوبهم الرجاء الوطيد بنوال الغفران وبأكتساب النعمة: ثم أن القديس أمبروسيوس يهتف قائلاً: أن أسمكِ الكلية حلاوته يا مريم هو مسحةٌ ذات عرفٍ زكيٍ تجلب نشر رائحة النعمة الإلهية. ولذلك يتضرع هذا القديس نحو الأم الإلهية قائلاً: فلتنحدر اذاً الى أنفسنا هذه المسحة الخلاصية. أي كأنه يقول هكذا: أيتها السيدة صيرينا أن نتذكر مراتٍ مترادفةً في أن نلفظ أسمكِ بحبٍ ودالة. من حيث أن تسميتكِ على هذه الصورة هي علامةٌ توضح أما أننا ممتلكون نعمة الله، وأما أننا من دون أبطاءٍ نكتسبها جديداً بعد فقدها، ولذلك يكون ذكر أسمكِ عربوناً لنا في أكتسابنا إياها.*
أما لاندولفوس الذي من ساسونيا فيقول: أن التذكر في أسمكِ يا مريم يعزي المحزونين، ويرد الى السلوك في محجة الخلاص الأمينة أولئك الذين خرجوا عنها تائهين، ويشجع الخطأة لكيلا يهملوا ذواتهم أن يسقطوا في خطية قطع الرجاء من الخلاص. وقال الأب بالبارتوس: أنه كما أن يسوع المسيح قد أشفى العالم كله من شروره ودثاره بواسطة الخمس جراحات التي أحتملها بجسده المقدس، فهكذا مريم بواسطة أسمها المثلثة قداسته المركب من خمسة أحرفٍ (كما هو باليوناني واللاتيني) تجلب يومياً الغفران للخطأة عن مآثمهم:.*
ومن ثم قد شبه أسم مريم المقدس في سفر النشيد بالزيت اذ يقال: أن أسمكِ دهنٌ مهراق لهذا أحبتكِ الشباب: (ص1ع2) فيفسر هذا النص الطوباوي الانوس: بأنه كما أن الدهن يشفي السقماء ويبعث رائحةً زكيةً، ويضرم اللهيب. فكذلك أسم مريم يشفي الخطأة من أسقامهم الروحية، وينعش القلوب، ويضرم فيها نار الحب الإلهي. ولهذا يحرض ريكاردوس الذي من سان لورانسوس الخطأة مشجعاً إياهم على أن يبادروا الى الأستغاثة بهذا الإسم العظيم، لأن به كفاءةً لأن يبرئهم من أدواء عزائهم الرديئة كافةً، اذ أنه لا يوجد مرضٌ بهذا المقدار عضالٌ حتى أنه لا يشفى من قوة أسم مريم المجيد.*
وبضد ذلك، كما يبرهن توما الكامبيسي: أن الشياطين يخافون مرتعدين من سلطانة السماء بنوعٍ هذه صفته. حتى أنهم بمجرد ذكر أسمها العظيم يهربون من أمام ذاك الذي يلفظه بفمه كالهرب من لهيب نارٍ متأججةٍ. ثم أن البتول المجيدة هي عينها أوحت للقديسة بريجيتا بأنه لا يوجد في هذا العالم خاطئٍ ما بارد القلب بالكلية من محبة الله، ويستغيث بأسمها مع قصده على الرجوع الى الله بالتوبة، من دون أن يبتعد عنه الشيطان حالاً: كما أنها أثبتت ذلك مرةً أخرى بقولها للقديسة المذكورة: أن الشياطين جميعاً يهابون أسمها ويخافونه ويحترمونه بنوع أنهم حالما يستموعونه ملفوظاً فيهملون تلك الأنفس التي يكونون مقيدينها بمخاليبهم ويهربون عنها.*
وكما أن الملائكة الأشرار يبتعدون عن الخطأة الذين يستغيثون بأسم مريم. فهكذا بالعكس يقترب الملائكة الأبرار بأبلغ نوعٍ نحو أنفس أولئك الذي يستدعون لمعونتهم هذا الإسم بعبادةٍ، كقول والدة الإله عينها بالوحي للقديسة بريجيتا (حسبما هو مدون عند ديونيسيوس كارتوزويانوس) ويشهد القديس جرمانوس: بأنه نظير ما أن التنفس هو علامة وجود الحياة. فكذلك تكرار أسم مريم مراتٍ مترادفةً هو علامةً تشير أما الى أن النفس هي حيةٌ بالنعمة الإلهية. وأما أنها من غير تأخيرٍ تحيى ثانيةً بأكتساب نعمة التقديس، لأن هذا الإسم المقتدر له قوةٌ على أن يستمد المعونة والحياة لمن يستغيث به بحسن تدينٍ: وبالأجمال أن هذا الإسم العجيب هو نظير البرج الشاهق الحصين الذي اذ يحتمي فيه الخاطئ فينجو من الموت. من حيث أن هذا البرج السماوي المنيع يحمي الخطأة بأمنٍ ويخلصهم ولئن وجدوا من الميؤوسين: (هذا ما يقوله ريكاردوس الذي من سان لورانسوس).*
ثم أن هذا البرج الحصين ليس فقط ينجي الخطأة من أن يحل بهم العقاب، بل أيضاً يحمي ضمنه الأبرار من وثبات الجحيم ضدهم. كما يورد ريكاردوس عينه مبرهناً: بأنه بعد أسم يسوع لا يوجد أسمٌ آخر يحوي المعونات القوية. ويجلب للبشر الأشفية العجيبة بمقدار ما هو أسم مريم المجيد. لا سيما لأنه أمرٌ معروفٌ عند الجميع بما أن التجربة تحققه، هو أن المتعبدين لمريم يجدون في أسمها المقدس قوةً عظيمةً لإبادة التجارب الدنسة، ومن ثم يتفلسف المعلم المذكور عينه عند تفسيره هذه الكلمات المدونة من القديس لوقا الأنجيلي (ص1ع27) وهي: وأسم العذراء مريم: اذ يقول: أن هاتين اللفظتين أي عذراء ومريم الموردتين من الأنجيلي البشير متحدتين معاً من دون أفتراق أحدهما عن الأخرى. توضحان لنا هذا الأمر وهو أن أسم هذه البتول الكلية الطهارة لا ينبغي أن يكون منفصلاً أصلاً عن العفة. ولذلك يقول القديس بطرس الذهبي نطقه: أن أسم مريم هو دليل الطهارة والعفة: مريداً أن يعني بهذا أن ذاك المسيحي الذي يكون تجرب بأفكارٍ ضد العفة، وحصل مرتاباً، هل أنه قبلها أو أستلذ بها أم لا. فأن كان يعرف ذاته أنه حين التجربة ذكر أسم مريم مستغيثاً بمعونتها فهذا هو دليلٌ أكيدٌ على أنه لم يتدنس بزلةٍ ضد العفة في تلك التجربة.*
فلأجل ذلك ينبغي لنا أن نتمسك بمشورة القديس برنردوس القائل: أفتكر يا هذا في مريم، وأستغث بها في حين الأخطار والشدائد والأرتيابات، ولا تبعدن مريم لا عن فمك ولا عن قلبك. وكان هذا القديس يقول: فلنفتكر في مريم حين حصولنا في أي خطرٍ كان من شأنه أن يورطنا في خسران النعمة الإلهية، ولنستغث بأسمها جملةً مع أستغاثتنا بأسم يسوع، لأن هذين الأسمين يستعملان دائماً متحدين أحدهما مع الآخر. وليستمرا بأتصالٍ في قلوبنا وفي أفواهنا من دون أن يفارقانا زمناً مستطيلاً، لأن لهذين الأسمين الكلية قداستهما قوةً عظيمةً لأن يحفظانا من السقوط بالخطيئة. ولأن يجعلانا ظافرين بكل التجارب: فالنعم الموعود بها من يسوع المسيح لأولئك الذين يكرمون أسم مريم هي جليلةٌ ساميةٌ، لأنه اذ كان تعالى نفسه متكلماً مع والدته المجيدة قد صير القديسة بريجيتا أن تفهم حسناً في الوحي، أن كل من يستغيث بأسم مريم بثقةٍ ورجاءٍ وبعزمٍ على أصلاح سيرته، يفوز ب 3 أنعامات خصوصية وهي: التوجع الكامل على خطاياه، والوفاء عنها، ثم التقوى المؤدية الى الكمال المسيحي، وبعد ذلك أخيراً ينال السعادة الأبدية. لأنه يضيف الى هذا المخلص نفسه في الوحي بقوله: أن كلماتكِ يا أمي هي عزيزةٌ لدي ومحبوبةٌ مني جداً حتى أني لا أقدر أن أنكر عليكِ إيهاب شيءٍ مما تطلبينه. أما القديس أفرام السرياني فقد أتصل الى أن يقول: أن أسم مريم هو مفتاح باب السماء لذاك الذي يتلفظ به بحسن عبادةٍ. ولهذا بالصواب يلقب القديس بوناونتورا مريم البتول: بأنها خلاص المستغيثين بأسمها أجمعين. كأن مجرد الأستغاثة بهذا الإسم المجيد يستمد لهم نوال الخلاص الأبدي. كما أن العلامة أيديوطا يثبت: أن الأستغاثة بأسم مريم المقدس تقود الى أكتساب نعمةٍ فائقةٍ في السخاء والفاعلية في هذه الحياة، والى نوال مجدٍ سامٍ في الدهر العتيد.*
وأما توما الكامبيسي فيختتم كلامه في هذا المعنى مع القارئين قائلاً لهم: فأن كنتم يا أخوتي ترغبون اذاً أن تصادفوا التعزية في أية شدةٍ وتجربةٍ تصيبكم، فبادروا بالألتجاء الى مريم البتول، وأستغيثوا بأسمها وكرموها وسلموا ذواتكم لعنايتها، فأفرحوا مع مريم، وأبكوا معها، وأمشوا برفقتها، ومعها فتشوا على يسوع. وأخيراً أهتموا في أن تعيشوا مع يسوع ومريم جملةً، وفي أن تموتوا بين أيدهما. فاذا فعلتم ذلك فلا ريب في أنكم تتقدمون دائماً ناجحين في طريق الرب، لأن مريم بكل طيبة خاطرٍ تتوسل من أجلكم لدى أبنها الإلهي الذي خلواً من أشكالٍ يستجيب طلبات هذه الأم المجيدة.*
فاذاً عذبٌ هو جداً في هذه الحياة وكلي الحلاوة في قلوب عبيد مريم وفي أفواههم ذكر أسمها المقدس، لأجل النعم العزيزة التي تكسبهم إياها أستغاثتهم به حسبما لاحظنا آنفاً. ولكن هذا الأسم يعود لديهم أكثر عذوبةً وحلاوةً عند ساعة موتهم، لأجل فوزهم بميتةٍ مقدسةٍ مملؤةٍ من التعزية بأستغاثتهم حينئذٍ به. فالأب سارتوريوس كابوتوس اليسوعي يحرض جميع أولئك الذين يوجدون حاضرين عند المدنفين من الموت، على أن يذكروهم بأسم مريم مستدعينه بأفواههم مراتٍ مترادفةً مبرهناً بأن أسم الحيوة هذا الموعب من الرجاء، اذاً لفظ به بمجرد اللفظ ساعة الموت فيكفي لأن يبدد الأعداء الجهنميين، ولأن يشجع المنازعين ويعينهم في جميع شدائدهم الأخيرة. وكذلك القديس كاميلوس دالاليس قد ترك لرهبانه وصيةً وكيدةً، في أنهم حين مساعدتهم المنازعين يذكرونهم مراتٍ كثرةً بأسم يسوع وأسم مريم، حسبما هو نفسه قد استعمل ذلك دائماً مع الآخرين وأخيراً بكل حلاوةٍ وعذوبةٍ أستخدمه في ذاته ساعة أنتقاله من هذه الحياة. اذ أنه (بموجب ما هو مدون في سيرة حياته) كان في تلك الساعات الأخيرة يتلفظ بهذين الأسمين المحبوبين منه في الغاية بخشوعٍ هذا حده، حتى أن السامعين كانوا يلتهبون حباً نحوهما، وبعد ذلك اذ كانت عيناه محدقتين بأيقونتهما المقدسة والصليب في يده على صدره، قد أغرب نظره مغلقاً إياه ورقد مائتاً كنائمٍ ببهجةٍ وتعزيةٍ لا يمكن وصفهما بكفايةٍ. هذا بعد أن كانت كلماته الأخيرة التي أغلق شفتيه بها، ألفاظ أستغاثته بهذين الأسمين المجيدين يسوع ومريم الكلية حلاوتهما. ثم يقول توما الكامبيسي: أن هذه الصلاة الوجيزة المتضمنة كلمتين فقط وهما يسوع ومريم: أستغاثةً بهما، فبمقدار ما هي ساهلةٌ أن تحفظ غيباً، فبأكثر من ذلك هي حلوةٌ في تأملها وعذبةٌ في تلفظها ومقتدرةٌ معاً لأن تحمي المستغيث بها من هجمات أعداء خلاصنا.*
أما القديس بوناونتورا فيقول: مغبوطٌ هو ذاك الذي يحب أسمكِ المملوء حلاوةً يا مريم والدة الإله، لأن أسمكِ هو هكذا مجيدٌ وعجيبٌ حتى أن كل أولئك الذين يستدعونه ذاكرينه بأفواههم أستغاثةً به عند ساعة موتهم، فلا يعود يلم بهم خوفٌ ما من هجمات الأعداء كافةً.*
فيا لسعادة من يحصل على الحظ الطوباوي في أن يموت نظير ما رقد بالرب الأب فولجانسيوس الراهب الكبوجي الذي من أسكولى. لأنه قد مات وهو مرتلٍ هذه الكلمات بأبتهاجٍ هاتفاً: يا مريم يا مريم يا من هي أعظم جمال يفهم، أريد الذهاب معكِ وها أنا برفقتكِ. أو نظير مارقد بالرب الطوباوي أريكوس الراهب الجيستارجيانسي (الموردة بأعمال حياته في تاريخ رهبنته تحت سنة 1159) الذي آخر كلمةٍ أغلق فمه عليها مائتاً كانت أسم مريم. فلنصل اذاً أيها القارئ الحبيب متضرعين لدى الله في أن يهبنا هذه النعمة وهي أن تكون كلمتنا الأخيرة ساعة موتنا التلفظ بأسم مريم الحلو، كما كان يشتهي راغباً القديس جرمانوس، ويلتمسه طالباً بقوله: يا لها من ميتةٍ حلوةٍ ورقودٍ أمينٍ تلك الميتة وذاك الرقود المرافقان والمحميان من الأستغاثة بأسم مريم الخلاصي، الذي لا يمنح الله قوماً أن يستغيثوا به ساعة موتهم. الا أولئك الذين هو تعالى يريدهم أن يخلصوا بأرادةٍ خصوصيةٍ.*
فأنا أحبكِ كثيراً يا سيدتي وأمي. ولأجل محبتي إياكِ أحب أسمكِ المقدس أيضاً. قاصداً بعزمٍ أكيدٍ وراجياً بمعونتكِ أن أستغيث به دائماً في مدة حياتي وفي ساعة موتي. فلنختتم اذاً الإيراد بتلك الصلاة الخشوعية التي للقديس بوناونتورا قائلاً كلٌ منا: أيتها السيدة المباركة لأجل مجد أسمكِ أحضري أنتِ لتستقبلي نفسي بعد خروجها من هذا العالم، وأنتِ أعتنقيها بيديكِ... فلا تأنفي يا مريم من أن تأتي لتعزيها بحضوركِ المملوء حلاوةً، بل كوني لها سلماً ومحجةً وصراطاً مستقيماً تبلغ به الى السماء، مستمدةً لها من أبنكِ نعمة الغفران والراحة الأبدية (كما يلتمس منكِ القديس المذكور عينه مختتماً قوله هكذا) يا مريم شفيعتنا أنه يخصكِ ان تحامي عن عبيدكِ، وأن تتخذي على ذاتكِ دعوى خلاصهم أمام منبر أبنكِ يسوع المسيح الديان الإلهي.*
* نموذجٌ *
أن الأب روه في تكلمه عن السبوت، والأب ليراوس في تأليفه الملقب بالتريضاجيون المريمي يخبران، بأنه في بلد غالدريا قد حدث سنة 1655 أن أبنةً ما أسمها مريم قد كانت أرسلت من عمها الى مدينة نيماغا، لتشتري من هناك من السوق المتجرية التي كانت تصير في يومٍ معلومٍ بعض مصالح لازمة. محتماً عليها بأن تبيت تلك الليلة في بيت عمتها القاطنة في المدينة المذكورة. فالجارية قد أطاعت إرادة عمها، ولكنها اذ مضت الى هناك وأنطلقت مساءً الى بيت عمتها، فهذه قد طردتها بجفاوةٍ ولم تقبلها عندها. فمن ثم أضطرت الفتاة لأن تاخذ بالرجوع عند عمها مسافرةً في الطريق ليلاً، ولكنها من شدة غيظها من عمتها قد أستدعت الشيطان بحماقةٍ. وهذا العدو الجهنمي قد ظهر لها حالاً بصورة رجلٍ واعداً إياها بأن يساعدها، بحيث أن توافقه في قضيةٍ واحدةٍ. فالأبنة الميؤوسة أجابته بأنها تعمل كل شيءٍ يريده منها. أما هو فقال لها: أنا لا أطلب منكِ شيئاً آخر سوى أنكِ منذ الآن فصاعداً لا عدت ترسمين ذاتكِ بأشارة الصليب، وأن تغيري أسمكِ: فأجابته الشقية بقولها: أنه نظراً الى رسم الصليب فأنا أبطله ولا أستعمله بعد، وأما نظراً الى أسمي مريم فهذا لأنه عزيزٌ جداً على قلبي لا أريد أن أغيره. فقال لها الشيطان: ولا أنا أعينكِ. فبعد مجادلةٍ ومقاومةٍ كثيرةٍ قد أتفقا أخيراً على هذا، وهو أن الفتاة تحفظ لذاتها أول حرفٍ فقط من أسم مريم وهكذا تدعى بهذا الحرف وهو الميم. فأنطلقا جملةً الى مدينة أنفارسا، وهناك مكثت هذه المنكودة الحظ مدة ست سنوات عائشةً بسيرةٍ ممقوتةٍ مملؤةٍ من القبائح، حتى أنها أضحت حجر عثرةٍ وصخرة شكٍ للجميع مع رفيقها إبليس اللعين. فيوماً ما قالت ميم لهذا العدو الجهنمي أنها كانت تشتهي أن تنظر مكان مولدها غالدريا، فالشيطان ولئن ظهر في الأول ممانعاً لطلبها هذا، قد أضطر أخيراً للأرتضاء به ولذلك سافرا من مدينة أنفارسا واذ جاءا الى مدينة نيماغا قد وجدا هناك في مكان المفترج المشاع مباشراً أحتفال مشهدٍ يتضمن جانباً من قصة حياة مريم البتول الكلية القداسة، فميم لما نظرت الأحتفال قد تحركت من قبل العبادة القليلة التي لم تكن ذالةً منها بالكلية نحو والدة الإله وبدأت تبكي، فالشيطان أخذ يحرضها على الخروج من ذاك المكان بقوله لها: ما لنا والأقامة ههنا، أهل يلزمنا أن نصنع مرسحاً خصوصياً. أخرجي من هنا: ومن ثم مسكها بيدها مغتصباً إياها على الخروج. الا أنها لم ترد أن تطاوعه ولهذا اذ رأى ذاته مغلوباً منها وعرف أنها فلتت من يده، فكيداً ورجزاً قد حملها الى الفضاء وطرحها في وسط ذاك المحفل، فحينئذٍ هي أخبرت الحاضرين بقصتها، ثم أنطلقت عند الكاهن لتعترف بخطاياها، الا أنه أي الخوري قد أرسلها الى أسقف كولونيا ليتبصر بأمرها، وهذا الأسقف قد أعرض واقعة الحال للحبر الروماني الذي أمر بأحضارها إليه، وهو نفسه سمع أعترافها ووضع عليها القانون للتوبة أن تحمل دائماً ثلاثة أطواقٍ من حديد، الأول في عنقها والثاني في يدها اليمين والثالث في يدها الشمال، فمريم هذه التائبة أرتضت بذلك، وحينما جاءت الى ماستريك قد دخلت الى دير الراهبات التائبات حيث عاشة أربع عشرة سنةً بأفعال توبةٍ شاقةٍ. وأخيراً اذ نهضت يوماً ما صباحاً من فراشها قد رأت الثلاثة الأطواق الحديد من ذاتها مكسورةً ومطروحةً من عنقها ومن يديها، وبعد ذلك بمدة سنتين قد توفيت بميتةٍ صالحةٍ بصيت القداسة. ودفنت مع الأطواق الحديد نفسها التي بها من حال كونها أسيرةً للجحيم قد تحررت وصارت أسيرة الفردوس بشفاعة والدة الإله سميتها التي أعتقتها وخلصتها.*

خاتمة القسم الأول
*تتضمن بعض صلواتٍ خشوعيةٍ مؤلفةٍ ومستعملةٍ من بعض*
* القديسين تكريماً لوالدة الإله*

أننا لقد أضفنا الى هذا القسم الأول الصلوات المشار إليها، ليس لأجل تلاوتها


فقط مستعملةً كصلواتٍ، بل أيضاً لكي يفهم أتفاق الرأي العام


الموجود فيما بين القديسين، نظراً الى عظم رحمة والدة الإله.


ونظراً الى سمو أقتدارها، ثم نظراً الى الرجاء

العظيم والثقة الوطيدة التي كانت

لهؤلاء القديسين في هذه السيدة

راسخةً ومؤسسةً على

مفعول حمايتها
*المنيعة*


الساعة الآن 07:28 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024