![]() |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
الصوم مدخل إلى الفصح (القيامة) Lent: journey to pascha. حينما يبدأ الإنسان رحلة ما ينبغي عليه أن يعرف إلى أين هو ذاهب، وهذا هو نفس الأمر بالنسبة للصوم. فالصوم فوق كل شيء وقبل كل شيء، وهو رحلة روحية SPIRITUAL JOURNEY ونهاية هذه الرحلة وغايتها هو الفصح أو عيد القيامة (عيد الأعياد) THE FEAST OF FEASTS فالصوم هو إعداد لتكميل الفصح والبصخة، وإعداد لرؤية القيامة ومعاينة أفراحها التي نتهلل بها في ذكصولوجية عيد القيامة ونقول (حينئذ امتلئ فمنا فرحًا ولساننا تهليلًا لان ربنا يسوع المسيح قام من بين الأموات بقوته أبطل الموت وجعل الحياة تضيء لنا، فلهذا نحن أغنياء بالخيرات الكاملة)، لذلك ينبغي علينا أن نفهم معنى ومغزى الصوم الكبير كرحلة تقودنا إلى عيد القيامة، لأن هذا الفهم يكشف لنا أمرًا أساسيًا وحاسمًا جدًا في حياتنا المسيحية. والكنيسة قبل أن تعيد لقيامة المخلص تعبر الأربعين المقدسة ثم البصخة والصليب حتى تصل بنا لنوال رؤية القيامة كعربون لقيامتنا الحقيقية. انه من الضروري أن نعرف أن عيد القيامة هو أكثر من مجرد كونه واحد من الأعياد، وأعمق من أن يكون تذكارًا سنويا لحادث قديم مضى!! إن أي مسيحي اشترك ولو لمرة واحدة في تلك الليلة، ليلة قيامة المسيح (التي هي أكثر إشراقًا ولمعانًا من النهار) BRIGHTER THAN THE DAY. وتذوق الفرح العجيب والفريد فرح رؤية قيامة المسيح في داخله (قام المسيح من بين الأموات ورد أعدائه إلى خلف وأعطاهم عارًا أبديًا، قد قام الله مثل النائم.. يسوع المسيح ملك المجد قام من بين الأموات)، يعرف ان عيد القيامة هو أكثر من مجرد عيد من الأعياد، ولكن ما هو موضوع هذا الفرح؟ ولماذا نرتل في قداس عيد القيامة وفي الخماسين المقدسة (بالموت داس الموت ووهب الحياة الأبدية للذين في القبور) إنها الحياة الجديدة التي أشرقت وبزغت لنا من القبر منذ حوالي ألفي عام، قد أعطيت لنا نحن، ووهبت لكل الذين يؤمنون بالمسيح. (سحق الأبواب النحاس وكسر المتاريس الحديد وأخرج مختاريه بفرح وتهليل) هذا ما نترنم به في ذكصولوجية مديح عيد القيامة المجيد والخماسين. وقد أُعطيت لنا القيامة يوم معموديتنا التي فيها (دفنا مع المسيح للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات.. هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة) (رو 6: 4). وهكذا فإننا في عيد القيامة نحتفل ونعيد لقيامة المسيح لا كحدث قد وقع في الماضي، بل كحدث لا يزال يحدث لنا إلى الآن، وهو ما يقرره لنا تقليدنا الليتورجى القبطي في إبصالية عيد القيامة (كل جنس البشر جميع طرقهم مستقيمة لأن الكلمة محب البشر. المسيح قام). كل واحد منا قبل هبة الله الحياة الجديدة هذه لكي يعيش بموجبها تلك الهبة التي تغير تغييرًا جذريًا في موقفنا تجاه كل شيء في هذا العالم بل وتغير موقفنا من الموت نفسه، إنها تجعلنا نستطيع أن نؤكد بفرح: (لقد أُبيد الموت)،رغم أننا نعرف أن الموت لا يزال موجود ولا نزال نواجهه وسيأتي إلينا يومًا ما ليأخذنا، ولكن إيماننا الأكيد هو أن المسيح بموته غير طبيعة الموت نفسها، وجعل الموت عبورًا إلى ملكوت الله، فعندما نصلى من أجل الراقدين نقول (ليس موت لعبيدك بل هو انتقال)، فالمسيح الذي داس الموت بالموت أنعم للذين في القبور بالحياة الأبدية وجعلنا مشتركين في قيامته، تلك التسبحة التي نسبح بها في إبصالية القيامة (يسوع المسيح خلص شعبه من إبليس بذراعه، فرحًا وتهليلًا أعطاهما لنا الله لان ملكنا عمانوئيل. المسيح قام من بين الأموات). هذا هو إيمان الكنيسة الذي يؤكده ويظهره عدد لا يحصى من قديسيها على مر العصور. (كل أجناس البشر تسبح قيامتك، لوقا الحكيم ويوحنا حبيبه يبشرون جيدًا: يسوع المسيح قام ها أن الرسل رأوا وفرحوا وكرزوا في العالم لان ملك المجد يسوع المسيح قد قام، اله الأنبياء والأبرار والصديقين هو السيد، المسيح قام) وبعد كل هذه التسبحة ألا نلاحظ في خدمتنا اليومية أن هذا الإيمان الحي نادرًا ما نراه في واقع حياتنا الآن، وأننا في معظم الأحوال نخون (الحياة الجديدة) التي قبلناها وأخذناها كهبة، ونعيش وكأن المسيح لم يقم من بين الأموات، وكأن القيامة الفريدة ليس لها أي معنى بالنسبة لنا؟ إن السبب ضعفنا وتخاذلنا وفتورنا وعجزنا عن أن نحيا بالإيمان والرجاء والمحبة.. وهو ما توجه الكنيسة أنظارنا له في الأحد الأول من الصوم الكبير (اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره) (مت 6: 33) وللأسف نحن غارقون في اهتماماتنا اليومية، ولأننا ننسى فإننا نفشل ونسقط.. وتصبح حياتنا (قديمة) مرة أُخرى، تصير حياتنا مظلمة ومضيعة وتافهة وفي النهاية تصير بلا معنى، تصير الحياة رحلة لا معنى لها ولا غاية، حتى يأتينا الموت فجأة. ينبغي أن نرجع حياتنا إلى الحياة الجديدة التي أعلنها السيد المسيح لنا وكشفها بل ووهبنا إياها، وفي الحقيقة أننا أصبحنا نعيش كأن المسيح لم يأتي إلى العالم بالمرة، وهذه هي الخطية الحقيقية الوحيدة خطية جميع الخطايا.. إنها مأساة المسيحية الاسمية، فإذا كنا قد أدركنا هذا حينئذ يمكن أن نفهم ما هو الفصح المسيحي ولماذا نحتاج إلى الصوم قبله؟ من أجل إعدادنا وتهيئتنا لعيش القيامة وجدة الحياة المقامة في المسيح يسوع، وهنا يمكن أن نفهم أن طقس العبادة الليتورجية في الكنيسة، بكل دوراتها وخدماتها بحسب نظام السنة الطقسية الليتورجية، إنما هي موجودة لكي تساعدنا على استعادة رؤية الحياة الجديدة وتذوقها -تلك الحياة التي نفقدها ونخونها وننساها ونضيعها- وفي الصوم نستعيد رؤية الحياة الجديدة لكي نتوب ونرجع إليها من جديد، لأنه كيف يمكننا أن نطلب ملكوتًا ليس لنا أي ارتباط به ولا أية فكرة عنه؟ إن عبادة الكنيسة الليتورجية هي وسيلة دخولنا إلى تذوق حياة الملكوت الجديد والشركة فيها.. فنمشى الرحلة إلى حضن الآب (أحد الاستعداد - أحد التجربة - أحد الابن الشاطر - أحد السامرية - أحد المخلع - أحد المولود أعمى (أحد التناصير) أحد الشعانين حتى أحد القيامة العظيم). إذ أن الكنيسة من خلال عبادتها تعلن لنا شيئا من ذلك الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر الذي أعده الله للذين يحبونه، وفي مركز عبادة الكنيسة ومحور حياتها الليتورجية يوجد عيد القيامة كقلب هذه العبادة وذروتها وقمتها، وهو مثل الشمس يشرق بأشعته في كل مكان وفي كل زمان، لان القيامة هي الباب الذي ينفتح لنا سنة على بهاء ولمعان مملكة المسيح، وهي عربون الفرح الأبدي الذي ينتظرنا وهي مجد الانتظار الذي يملئ الخلقة كلها فمنذ الآن أبيد الموت لذلك نترنم في تسابيح القيامة الكنسية ونقول:- (من أجل القيامة المقدسة سبحوا وهللوا ورتلوا وبشروا في الأمم، الطغمات تسبحه، تهلل يا جنس ادم بفرح روحي ها البرية كلها تفرح معًا لان اسم الافتخار هو اسمه تهللوا أيها الأنبياء لان السيد غير المدرك إلهنا يسوع المسيح قد قام، السلام للقيامة والقبر والدم الذي سفكه الوحيد يسوع المسيح قد قام). (إبصالية عيد القيامة) إن عبادة الكنيسة كلها مرتبة ومنظومة حول عيد القيامة الذي هو قلب السنة الليتورجية، والقيامة هي النهاية والغاية وهي أيضًا البداية والنهاية.. ولأهميتها هذه يأتي دور الصوم الكبير، وبالصوم تقدم لنا الكنيسة معونة، تقدم لنا مدرسة للتوبة تمكننا بها من أن نستقبل عيد القيامة وفرح القيامة وفرح القيامة التي هي نهاية القديم ودخول إلى الجديد لذلك نقول: (ويرينا فرح قيامته سنين كثيرة). وقد كان الغرض الرئيسي من الصوم في العصور الأولى هو إعداد الموعوظين وتهيئتهم للمعمودية، هكذا ظل غرض الصوم.. فإن كان عيد القيامة هو رجوعنا كل سنة إلى معموديتنا، فيكون الصوم هو إعدادنا لهذا الرجوع كل سنة إلى معموديتنا، إعدادنا لهذا الرجوع بالتوبة والمصالحة والصلاة والاعتكاف والميطانيات والمجاهدة، وأعمال الرحمة مع الصوم فنأتي في النهاية إلى العبور، عبورنا إلى الحياة الجديدة في المسيح لكي نذوق فرح قيامته ونراها في اليوم الذي صنعه الرب لنتهلل ونفرح فيه. وان كانت عبادة الكنيسة في الصوم الكبير لا تزال تحتفظ إلى اليوم بسمات اعداد الموعوظين للمعمودية، فإنما هذا لكي يكون لنا في كل سنة إعادة اكتشاف واستعادة للهبة الإلهية التي وهبنا إياها.. ولا بد أن نركز على جموعية الصوم والصلاة والتوبة لان فيها عمق شركتنا في جسد المسيح. إنها رحلة وأول خطوة فيها الحزن المضيء حزن الصوم الكبير البهي الذي به ننظر النهاية من بعيد، ونتطلع إلى فرح القيامة والى الدخول في مجد الملكوت، وهذه هي الرؤية وهذا هو التذوق المسبق لفرح القيامة الذي يجعل حزن الصوم لامعًا ومضيئًا ويجعل الجهد المبذول في الصوم ربيعًا روحيًا.. SPIRITUAL SPRING، فالصوم هو بالحقيقة رحلة، يلازمها الحزن اللامع والمشرق للصوم، كهدف بعيد للغاية الأخيرة، انه فرح القيامة والدخول إلى بهاء الأبدية والتذوق المسبق للفصح. وكل التوجيهات الكنسية الأبوية تبدو ظاهرة واضحة في طقس الكنيسة في فترة الصوم سواء في الألحان أو في الطلبات أو في القراءات الإنجيلية أو في نبوات العهد القديم أو في القدوة التي يقدمها الآباء والرعاة كما رسم لنا المجمع المقدس المسكوني. وقد جعلت أمنا البيعة الأُرثوذكسية طقسًا للصوم الكبير تقدم فيه روحها من خلال الألحان والمردات (مرد الإنجيل (جى بنيوت) + قسمة الصوم الكبير + التوزيع بالطريقة الصيامي وكذلك قراءات النبوات في رفع بخور باكر بعد (إفنوتى ناى نان) ثم صلاة الطلبة مع المطانيات.. ) وكذلك نجد أن الكنيسة لا تصلى العشيات في أيام الصوم لان القداس ينتهي في الغروب، ووجود الذبيحة المقدسة إلى وقت المساء على المذبح هو المرموز إليه الذي يبطل معه رفع بخور عشية وهو الرمز للذبيحة المسائية (ما عدا عشية السبت)، ومن الإشارات الليتورجية الجميلة التي تدلل على روح الحزن المضيء والعبادة الهادئة الخاشعة أن الكنيسة لا تستخدم الدف في أيام الصوم.. لان الصوم الجماعي يوحد ويؤلف القلوب والأفكار والألسنة في العبادات خلال هذا الربيع الروحي، ليكون بحق صوم الاستنارة والضياء والتربية الروحية وزمن التوبة والمصالحة والرجوع، الذي فيه تأخذنا الكنيسة وتُعيد أمامنا الهدف من المعمودية: أن نرى ملكوت الله ونتذوقه، وظهور هذا الملكوت ودخولنا فيه بالتوبة والرجوع، في صلة حب وشركة صادقة وحارة مع الله، نبعًا روحيًا وفجرًا لامعًا سريًا يشرق في الأفق، فلا تحرمنا من شبعك يا محب البشر الصالح. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
عبادة الصوم THE LENTEN WORSHIP * الحزن المضيء BRIGHT SADNESS من السمات المميزة للروحانية الأرثوذكسية والتي ترتبط بالصوم، الحزن المضيء تلك الحالة من تغيير العقل والقلب والسلوك والنفس، وتجديد الإنسان بكليته وصيرورته في جو ومناخ جديد ومتجدد، ويوصينا العظيم الأنبا أنطونيوس "ليست الفضائل خارجكم بل هي لكم وفيكم ولا تتطلب منك سوى الإرادة لان ملكوت الله داخلكم". أن غاية الصوم الأربعيني ليست تتميم فروض شكلية إجبارية، ولكن الغرض أن تلين قلوبنا حتى تنفتح على حقائق الروح فنترك إرادتنا الحسية وتلتزم الهدوء بكل نوع، وذلك الجوع والعطش السري يكون هدفه الإتحاد بالله واختيار العطش والجوع لشركة معه ونوال غفران الخطايا وهو ما نعبر عنه في إبصالية الصوم ونقول [تعالوا لنصوم أصوامًا كاملة لان بالصلاة والصوم يغفر لنا الرب]، وهذا المناخ الأربعيني والجو الصيامي وتلك الحالة الفريدة من الفكر والعقل لا يمكن بلوغها إلا بالعبادة من خلال تلك الأطعمة الروحية المتنوعة التي نأكلها خلال هذا الموسم الليتورجي.. وإذا ما اعتبرت العبادة مجرد طقوس أو مراسيم غير مفهومة وترتيبات شكلية لابد من تتميمها وتكميلها، لن نجنى ثمارها، ولكن إذا ما فهمناها في جملتها وروحانيتها فإنها تكشف وتعلن روح الصوم وبركاته وتجعلنا نرى ونشعر ونختبر ذلك الحزن المضيء الذي هو موهبة الصوم ورسالته الحقيقية، التي هي التفتيش ومحاسبة النفس بلوغًا إلى السلوك بحسب الدعوة التي دعينا إليها. من خلال الحزن العميق الذي يتخلل الخدمة كلها، فالخدمة أطول من المعتادة وأكثر رتابة [أي على وتيرة ونسق واحد] حيث لا حركة ولا ضجيج، فالنبوات والطلبات والمطانيات والألحان تتم في تناغم وتناوب، والجموع متوسلة منسكبة [اكلينومين تاغوناطو].. ونسجد اثنتي عشر سجدة وعلى فترة يطول مداها نقف بخشوع لنستمتع بغنى الطقس الصيامي ذي الوتيرة الواحدة في حزن تام.. الذي لا هدف منه إلا عيش الحزن المضيء عندما نردد [أخطأت أخطأت يا ربي يسوع اغفر لي لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران] بلحنها المؤثر الفعال الذي يخترق الآذان والقلوب والنفوس ليهزها ويحركها في طريق التوبة والفضيلة [ونحن أيضا فلنصم بطهارة وبر] من اجل صوم روحاني مبارك.. وهذه التوبة والجهادات بالجوع والعطش توصلنا إلى نوال رؤية القيامة التي هي فعل الحزن المضيء، وعندئذ نتلامس مع عالم آخر، عالم الفردوس والملكوت الذي في داخلنا. وتلك الرتابة والإطالة في العبادة تجعلنا نتيقن أنه أمر نحتاج إليه إذ كانت رغبتنا فعلًا متمركزة في اختيار السر ومعايشة ذلك "الفعل غير الملحوظ فيا، وتأخذنا العبادة الليتورجية لكي نختبر ونعيش الفعل فتأتى لنا بالنماذج الحية التي عاشت فعل الصوم فأخذت البركات، فنقول في إبصالية الصوم [ايليا أغلق السماء بالصلاة والصوم فلم تمطر، ذبيحة إبراهيم قبلها السيد الإله بالصلاة والصوم وجعله رئيس آباء، ويعقوب من اجل نواياه الصادقة البريئة بالصوم والصلاة نال بركة أبيه، ولوط البار استحق أن يأتي إليه الملاكان وبالصلاة والصوم خلص من الشدة، وموسى أخذ اللوحين بالصلاة والصوم، ونوح أشار إليه الله بالفلك وبالصوم والصلاة خلص من الطوفان]،وهكذا تستحضر الكنيسة في عبادتها الصومية الثلاثة فتية، ويونان النبي، وصموئيل ماسح الملوك، ويوسف العفيف رئيس مصر، والاثني عشر تلميذ، وداود ذا القيثارة وصاحب النبوة وكل الأنفس التي أرضت الرب بأعمال الصوم والصلاة تكون معنا فنعيش شركة السمائيين والقديسين في العبادة الليتورجية، لنتعلم منهم ونسلك كما سلكوا حاذين حذوهم فنفوز بملكوت السموات، فالخلاص والتوبة ليسا احتقارًا للجسد أو إهمالًا له، بل إعادة الجسد إلى نوره الحقيقي كتعبير عن الروح وحياتها، كهيكل للنفس البشرية التي لا تثمن والنسك المسيحي هو حرب من أجل الجسد وليس ضده، لهذا السبب يتوب الإنسان بكليته، بالصلاة والعبادة والسجود.. ورويدًا رويدًا تنفتح مداركنا ونفهم أو بالحري نشعر أن ذاك الحزن هو بالحقيقة حزن مضيء، وان تحولًا سريًا على وشك الحدوث في داخلنا، ويبدو الأمر كما لو كنا قد بلغنا مكانًا اختفت فيه ضوضاء الحياة وضجيجها وجلية الشوارع التي غالبًا ما تملأ أيامنا وليالينا، نبلغ مكانًا لا تصير لهذه الأمور أيه سيادة علينا، وهنا تكمن أهمية الصوم لنا عندما نبلغ حالة ذهنية تملأ كياننا كله، حالة من الترقب والتوتر الحلو تصبح طبيعة ثانية، عندما يختفي القلق والتوتر العالمي بطريقة ما والى مكان ما، فنبدأ نشعر بأنفسنا أحرارًا وأكثر خفة وسعادة. وهو ما نحس به ونردده في مرد الإنجيل أثناء الصوم الأربعيني [سلام الله الذي يفوق كل عقل يحل في قلوبكم بالمسيح يسوع ربنا]. ليست تلك السعادة السطحية المزعجة ذات الجلية التي تأتى وتنصرف مرات كثيرة، تلك السعادة الوقتية الزائلة الهشة سريعة الزوال، بعكس هذه السعادة العميقة التي مصدرها النفس البشرية التي تلامست مع الملكوت متوقعة انتظار ربنا يسوع المسيح [الباروسيا]، ذلك العالم المصنوع من النور والسلام والبهجة والثقة التي لا يعبر عنها وعجيبة حينئذ نفهم لماذا كانت الخدمات الليتورجية طويلة ورتيبة، أن طولها ورتابتها إنما بهدف عميق ألا وهو دخولنا إلى السكون والاعتكاف الباطني، لأنه من المستحيل أن نعبر حالتنا الراهنة العادية، حالة الفكر الذي صاغته الانشغالات والاندفاع والضوضاء وطياشة الفكر أي تلك الحالة الأخرى الجديدة، دون أن نستعيد في ذواتنا معيارًا جديدًا عن الاستقرار الداخلى، نستمده من عباداتنا، عندما نقر ونشهد في اسبسمس واطس الصوم المقدس [أنا اعرف انك صالح، رؤوف ورحيم، اذكرني برحمتك إلى الأبد. أطلب إليك يا ربي يسوع لا تبكتني بغضبك ولا برجزك تؤدب جهالتي] فتكون عبادتنا. وهذا ما أكده القديس العظيم الأنبا أنطونيوس "إن الروح القدس يجعل عمل التوبة حلوًا وشيقًا ويأخذنا التي التحول الكامل نحو الله ويصير لنا ملجأ وقوة ويطفئ عنا كل الشرور المتحركة فكل تغير إنما يبدأ من الداخل من الحياة الباطنية لان كل مجد ابنه الملك من داخل. والآباء الروحانيون الذين صاغوا المنهج الكنسي الليتورجى في الصوم والذين شكلوا أيضًا البنية العامة للعبادات في الصوم الكبير، من قراءات والحان ومدائح وميامر ونبوات وطقس صيامي ومطانيات وطلبات وقداسات متأخرة، أضفوا على ليتورجية الصوم جمالًا خاصًا يليق به، هؤلاء جميعًا كانوا يفهمون ضعف النفس البشرية، فجعلونا نقول في الصوم [بصوتي صرخت إليك يا إلهي فمن أجل الصوم أعطني خلاصًا. أعن ضعفي أيها المخلص. ومن أجل الصوم اغسل أقذارنا]، أن هؤلاء، الآباء الذين وضعوا العبادات والألحان الليتورجية كانوا يعرفون حقًا فن التوبة، وكل عام خلال الصوم الأربعيني يجعلون هذا الفن في متناول كل فرد له أذنان للسمع وعينان للنظر، عندما نطلب ونلح ونترجى ونئن قائلين [أخطأت يا يسوع ربي أخطأت يا يسوع إلهي يا ملكي لا تحسب على الخطايا التي صنعتها]، وكل العبادات أثناء الصوم تحض على التوبة وترسم الطريق لها، لنتطلع إلى فرح القيامة والدخول في مجد الملكوت، هذا هو فكر الكنيسة، لأن جوهر الصوم أن نتذوق العبادات والألحان بوزنها الصيامي لنستنير ونبلغ بإيماننا درجة الكمال، عندئذ نفهم ما هو تعليم كنيستنا الصحيح. واللاهوت الأرثوذكسي القبطي يؤكد على اقتران الجهاد بالفرح، فرح الملكوت (الاستعداد)، فرح الغلبة (التجربة)، فرح التوبة (الابن الضال)، فرح الكرازة والخدمة (السامرية)، فرح الغفران والشفاء (المفلوج)، فرح الاستنارة ونذر المعمودية (التناصير)، فرح ملكوت المسيح الآتي (الشعانين)، ومن خلال الحزن المضيء يشعر كل أرثوذكسي بالعبادة التي تحث على التوبة وحمل الصليب والجهاد والسلوك بلا عثرة ورفض المشورة الشريرة، عندما يدخل إلى البيعة في أثناء الصوم الكبير، يدرك بسرعة ما يدور، حتى ولو كانت معرفته محدودة، مصدر سلامنا وسكون أنفسنا وراحتها. أن أولئك الذين يعتقدون أن العبادة الليتورجية هي مجرد "فروض"، وأولئك الذين يلحون في اختصار عدد مرات الذهاب إلى الكنيسة واختصار زمن الصلوات ووقتها، لا يمكنهم أبدًا أن يستوعبوا طبيعة ودسم وغنى وعمق وضياء العبادة التي تأخذنا إلى سر الحضور الإلهي. عندما نقول في أرباع ناقوس الصوم [ربنا يسوع المسيح صام عنا أربعين يومًا God's Presence وأربعين ليلة حتى خلصنا من خطايانا، أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ليأت لأن لك المجد إلى الأبد آمين]. وهنا نلمس حضور المسيح في وسطنا، وأنه معنا ونحن فيه خلال صومه الأربعيني، وتستهدف العبادة الكنسية من ذلك أن تأخذنا في بطء وتهيئة وهدوء بالغ رويدًا رويدًا للتمتع بالحضور الإلهي بشكل طبيعي وسوى بالرغم من طبيعتنا الساقطة، وعندما نجد أنفسنا في حضرته الإلهية أثناء العبادة تنتهز الكنسية هذه الفرصة لتتضرع إليه في مرد الابركسيس وتقول له [اذكرني يا رب، اذكرني يا إلهي، اذكرني يا ملكي، إذا جئت في ملكوتك]. وهنا نختبر ذلك التحرر السري أكثر خفة وسلامًا، ويصبح لرتابة وحزن الخدمة التعبدية مغزى فيشرق فينا جمال جواني يشبه الشمس المبكرة التي وهي بعد Transfigured جديد، حيث تتغير هيئتنا. معتمه في قلب الوادي، تبدأ في إنارة قمة الجبل، هذا النور وذاك الفرح السري يبزغان من أعماق التسبيح والتهليل المتعمق.. وهو ما نقوله في تسبحة ذكصولوجية الصوم [أسبح مراحمك يا ربي إلى الأبد ومن جيل إلى جيل بفمي اخبر بحقك]، فما قد بدل للعيان رتيبًا يستعلن الآن سلامًا، وما كان يبدو طويلًا وكأنه حزن قد اختبرته النفس الآن في أولى حركاتها فاستكشفت عمقه المفقود وهذا ما تصرخ به في تسابيح الصوم في كل صباح أثناء دورة الحمل [فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله الذي يفرح شبابي اعترف لك بالقيثارة يا الله الهى اذكر يا رب داود وكل دعته الليلويا]. لقد ارتبط الصوم في العهد القديم بفكرة الحزن والنحيب، ولكن حزننا هذا حزن مضيء حزن برجاء وحنين للفردوس، منطلق ومرتقب للقيامة. الحزن المضيء حزن منفاي، حزن ما ضاع من عمري، تعبر عنه الليتورجيا في قطع توزيع أيام الصوم [أطلب إليك يا ربي يسوع لا تبكتني بغضبك ولا برجزك تؤدب جهالتي، يا محب البشر سيدي يسوع أسالك لا تطرحني على يسارك مع الجداء الخطاة ولا تقل لي أيضًا إني ما أعرفك اذهب عنى أيها المعد للنار الأبدية.. لأني أعلم بالحقيقة أني خاطئ وأعمالي الرديئة كلها ظاهرة أمامك، أعطني يا رب توبة لكي أتوب قبل أن يسد الموت فمي في أبواب الجحيم وأعطني جوابًا على كل ما فعلته، القاضي العادل يسوع الذي يدينني رؤوف هو مخلصي يتراءف على شعبه كصالح ومحب للبشر، ارحمنا كعظيم رحمتك]. وهنا نتلاقى مع ضياء وجود الله في حياتنا بغفرانه وبهجته، ذاك الاشتياق، الذي تتم استعادته، وسلام ذلك البيت الذي كان مفقودًا، قد صار شعبًا وحزنًا مضيئًا وغنى ورحمة ومصالحة وتقديس من خلال مناخ عبادة الصوم.. التي فيها نعيش قانون توبة جماعي، كما رسمته ليتورجيا الكنيسة التي تشتمل على التسبيح المقترن بالبهجة والفرح الروحي والانسكاب، والقطع التي يغلب عليها الطابع التفسيري والتعليمي لتحث العابدين على النسك والصلوات والمصالحة والمحبة والاتضاع والطهارة والانسحاق والرحمة [تمسكوا بالصوم والصلاة معًا وقوموها بالطهارة التي للقديسين وأحبوا النشاط والبتولية] {إبصالية آدام على تذاكية الأحد }.. وكلها معاني ليتورجية تلف الكنيسة بروح الجهاد القانوني المستقيم الذي يسرى في كنيستنا التي لإخلاص لأحد خارجها. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
الكتاب المقدس في عبادة الصوم صلاة الكنيسة هي دائمًا كتابية أي أنها تعتمد على لغة ونص وصور ورموز الكتاب المقدس الذي كما يحوى الإعلان الإلهي للإنسان يعبر أيضًا عن استجابة الإنسان الموحى إليه بهذا الإعلان الإلهي، ومن ثم تُصاغ صلواته وتسبحته وتمجيده، فقد انقضت آلاف السنين على كتابة المزامير إلا أن الإنسان عندما يحتاج إلى التعبير عن التوبة ويطلب مراحم الله اللامحدودة لا يجد تعبيرًا دقيقًا ووحيدًا إلا في مزمور التوبة [ارحمني يا الله كعظيم رحمتك] الذي نصليه في كل خدمات السواعي، وكل حالة يمكن تصورها عن الإنسان أمام الله والعالم والآخرين من الفرح المهيمن بكليته، لحضور الله في مواجهة قنوط الإنسان المتغرب عن الله والبعيد والعاجز عن الوصول إليه بسبب تلك الهوة السحيقة، هوة الخطية والغربة عن الله، كل ذلك يجد تعبيره الكامل في تلك البشارة المفرحة "كيريجما".. الكتاب المقدس الذي هو أيقونة الله ورسالته إلى خليقته، التي تركها المسيح وديعة للكنيسة لكي يكون كلام الله المسموع في العبادة والمكتوب هو حياة لنفوسنا.. فنتقبل الكلمة ونطيعها وهو ما يسميه الآباء بالميترجي تقابل الإرادة الإنسانية مع عمل النعمة الإلهية كما سمع العظيم أنطونيوس الوصية وعاشها عندما خرج من الكنيسة.. والكتاب المقدس يشكل دائمًا غذاء الكنيسة اليومي وأداتها في العبادة الليتورجية، لأننا لا نعرف الكتاب المقدس إلا معاشًا بالقديسين مشروحًا بالآباء، وما أحلى أن نسمع لإنجيل الكنيسة في العبادة، فهي صوت الإنجيل الحسي بحسب تعبير القديس باسيليوس الكبير. وأثناء الصوم الأربعيني المقدس يعطى للبعد الكتابي في العبادة الليتورجية تأكيد متزايد، ويستطيع المرء أن يقول أن الأربعين يومًا هي بمثابة عودة الكنيسة إلى حالة العهد القديم الروحية، إلى زمان ما قبل المسيح، زمن التوبة والتوقعات المتجهة نحو تمامها في المسيح وكأنها فترة انتظار للمسيا المنتظر مشتهى كل الأجيال، زمن تاريخ الخلاص، السائر صوب كمال تحقيقه في المسيح، وهذه العودة ضرورية لأنه حتى ونحن ننتمي إلى زمن ما بعد المسيح ونعرفه وقد "اعتمدنا فيه" إلا أننا دائمًا ما نسقط بعيدًا عن الحياة الجديدة التي نلناها منه، وهذا يعنى أننا نتقهقر مرة أخرى إلى [الزمن العتيق] والكنيسة من جهة قد بلغت فعلًا "بر الأمان" في بيتها لأنها هي "محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة وعطية الروح القدس"، ومع ذلك فمن جهة أخرى هي في طريقها لا تزال تصبو طويلًا صوب تحقيق كل الأشياء في الله [لأن منه وبه وله كل الأشياء قد خلقت] وعودة المسيح وكمال نهاية الأزمنة عند مجيئه الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجدًا. الصوم الأربعيني المقدس هو الزمان الذي يتحقق فيه فعلًا ذلك الجانب الآخر والمظهر الثاني للكنيسة لحياتها كتوقع ومسيرة، أعني حياتها التي تقضيها في ترقب وترحال، وهنا يستمد العهد القديم عمق مغزاه وملء معناه ليس ككتاب يحوى مجرد نبوات قد تحققت إنما هو نسيج إنسان وخليقة كاملة في طريقها نحو ملكوت الله، والتزمت كنيستنا بقراءة سفر إشعياء النبي كل يوم من أيام الصوم الكبير، ونستطيع أن نقول أن نبوة إشعياء هي رحلة مع آحاد الصوم وكأن إشعياء الإنجيلي كان يرسم للكنيسة بروح النبوة برنامج الصوم الأربعيني. ونجد أن المزامير أيضًا تشغل مكانًا فريدًا ومركزيًا بالحق في العبادة الليتورجية، فالكنيسة ترى فيها أفضل وأنسب وأكمل تعبير لصلاة الإنسان التائب المنسحق المسيح بل أيضًا الأيقونة الكلامية للمسيح وللكنيسة (ديالوج dialogue)، وتأخذنا القراءات الكنسية الإنجيلية للعبادة الليتورجية في رحلة تقودنا إلى قدس الأقداس في النهاية "البصخة". ومن هنا نجد أن القراءات الإنجيلية الليتورجية قد أصبحت الأيقونة الفعلية للمسيح والكنسية، فهي استعلان داخل الاستعلان الإلهي، ويقول الآباء في كتاباتهم "المسيح فقط وكنيسته يصليان ويبكيان ويتناجيان في هذا الكتاب"،ومنذ البدء صاغت المزامير أساس صلاة الكنيسة، فكانت هي بمثابة "لغتها الطبيعية"، إذ شكلت المادة الأساسية والبنية الثابتة والدائمة لصلوات السواعي في الأجبية، وأيضا صيغت منها التسبحة والبنية الثابتة للذكصولوجيات والإبصاليات، ولكل الأعياد والتذكارات على مدار السنة الليتورجية، وبالأخص في العبادة الليتورجية أثناء دورة الصوم. والتزمت الكنيسة بضرورة قراءة سفر إشعياء النبي أثناء الصوم في الأيام التي تقرأ فيها النبوات لكي من خلال الأم MYSTERY OF SALVATION تكشف من جديد ذلك السر العظيم سر الخلاص وتضحيات المسيح نخلصنا حتى إننا نجدها في الأسبوع الأول من الصوم تبدأ في قراءة الإصحاح الأول من السفر، ويأتي منتصف السفر عند {أش 40} حسب رأى المفسرين مع "أحد السامرية" ويكون سفر أشعياء النبي رحلة مع آحاد الصوم الكبير وكأن أشعياء كان يرسم للكنيسة بالروح برنامج الصوم الكبير، لأنه سفر التوبة والرجوع إلى الله وهذه هي غاية قصد الصوم وهدفه.. وهذه القراءات الإنجيلية لا نزال نصلى بها كخدمات صيامية ليتورجية تعليمية سبق استخدامها للتحضير للمعمودية (إعداد الموعوظين) والتي تتضمن طريق الخلاص الذي يكتمل بالمسيح ويكتمل فيه. وقد خصصت كنيستنا قطمارس للصوم الأربعيني الكبير katameooc ضم قراءات الإنجيل كلها وفيه تتجمع الوصايا الروحية، وتقدم من أجل حياتنا وبنياننا حتى تتحول فينا إلى ثمار النعمة والخلاص، وأناجيل آحاد الصوم هي تجمع غنى وعميق من اجل تطهيرنا وإنارتنا وتهيئتنا في زمن تربية روحية واستنارة، للبلوغ إلى ذوق فرح قيامة المخلص.. فنجد أن الآحاد حسب التقويم الليتورجي القبطي مرتبة بإلهام الروح القدس وتدبير الآباء العظام، الأحد الأول أحد المخلع ثم أحد المولود أعمى ثم أحد الشعانين إلى أن نصل لذروة السنة الليتورجية القبطية في عيد الأعياد كلها وتاجها حيث قيامة السيد الرب. فليس الكتاب المقدس مجموعة مناظرات عقيدية وقصص وحكايات تروى على سبيل المعرفة والتسلية العقلية، لكنه صوت الله الحي يتحدث إلينا المرة تلو المرة ليأخذنا دائمًا متعمقًا بنا إلى العمق الذي لا يستقصى، حيث غنى حكمته ومحبته، وليست هناك مأساة أكثر من تلك التي نراها في الإهمال الذي يناله الكتاب المقدس، والأسوأ من ذلك هو لامبالتنا نحن تجاهه، فما كان بالنسبة للآباء فرحًا وشبعًا لا ينتهي ولذة لا تبطل، ونموًا روحانيًا وعقليًا، قد صار اليوم بالنسبة للعديد منا مجرد نص عتيق قد عفا عليه الزمن وصار بلا معنى في حياتنا، وكل أملنا أننا كما استعدنا روح الصوم ومغزاه أيضا، نستعيد قيمة الكتاب المقدس كغذاء روحي حقيقي وشركة مع الله كما جعلته أمنا البيعة مصدرًا وركيزة جوهرية لها مكانتها الفريدة في العبادات.. لذلك نجدها تضع القراءات الدسمة والنبوات من العهد القديم خلال ليتورجيا الصوم الكبير وكأم تعلمت بحذق روحي ومهارة ملهمة كيف تعد غذاء أبنائها بنفسها، تمد يدها لأولادها الجائعين الجالسين بإنصات أمام المنجلية يتغذون بفرح وشغف من طعام الروح.. وإذا التفتنا إلى العبادات بانتباه نجدها تتضمن معرفة للكتاب المقدس وقدرة فائقة على التأمل فيما يعنيه لنا في حياتنا، فنتغذى من ينابيع الكتاب المقدس خلال القراءات الكنسية في الصوم الكبير الذي هو بالنسبة للآباء والكنيسة نبع الإيمان. وتتجاوب الكنيسة في الصوم مع أساسيات منهجها الليتورجي فتقام القداسات اليومية، ويبحث الكهنة عن الأسر المتخاصمة ليصالحهم، وعن زوجة غاضبة يسعون ورائها ليردها إلى رجلها وأطفالها، وتقام النهضات الروحية لإنهاض الغافلين وإيقاظ وعيهم بالتوبة من اجل يقظة روحية تختزن لبقية أيام السنة، فنعيش إيماننا ودعوتنا بجدية، ونكتشف مجددًا نذر معموديتنا ومسحتنا في معناها وبركتها. وتدفعنا الكنيسة في الصوم لإعادة النظر في الحياة والسلوك الشخصي والعائلي مع قطع الأهواء والشهوات ورفض المشورة الشريرة، وضبط النفس والتعفف، والنمو في أعمال الفضيلة والخدمات الاجتماعية والرحمة بالمساكين والفقراء، والسهر على كلمة الله، والمواظبة على صلوات المخدع بندم وتضرع وقرع صدر، وإقامة المذبح العائلي الأسرى، وترك الخطايا المحببة إلى غير رجعة، بل في دفء الروح نتقدم لعيش القداسة بمسرة لذيذة.. فلا تتأخر في اخذ نصيبك من هذا الربيع الروحي لتتحول حياتك من حياة حسب الجسد إلى حياة الروح، حتى إذا ما اقبل عيد القيامة يكون قيامة لحياتك. لا تيأس من الجهاد لأنه هكذا صارت الخاطئة التي مسحت رجل المخلص بشعر رأسها مكرمة أفضل من العذارى، إنها دموع التوبة التي سكبتها حنة النبية عندما كانت شفتاها تتحركان وصوتها لم يسمع، لقد أصبحت راحاب التي كانت زانية قديسة، واللص اليمين القاتل صار أول مواطني الفردوس، هذه هي أعمال الله وإرادته العجيبة! وهكذا صار العشار متى إنجيليًا والمجدف بولس رسولًا وأسيرًا للحب الإلهي.. والساقط موسى صار القوى الأنبا موسى القس الأسود، فلا تيأس من خلاصك، فالذي كان بالنسبة لكثير من الأرثوذكسيين طقس وترتيب قديم بلا معنى لحياتهم، نعيشه الآن على رجاء أنه عندما نكتشف معنى الصوم وروحه، نكتشف أيضًا الكتاب المقدس والعبادة والتقليد والتاريخ الكنسي كغذاء روحي حقيقي وكشركة مع الله. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
الصوم في حياتنا LENT IN OUR LIFE * اخذين الأمر بجدية.. TAKING IT SERIOUSLY طالما نتحدث عن تعليم الكنيسة بخصوص الصوم الأربعيني، الذي تسلمناه أساسًا عن طريق الليتورجية، وجب علينا ان نطرح تلك الأسئلة: كيف نطبق هذا التعليم في حياتنا؟ وكيف يصير الصوم حقيقة في وجودنا وواقعنا [صومًا حقيقيًا]؟ وخصوصًا أن هذه الحياة الليتورجية عندما صيغت، وعندما تأسست هذه الخدمات والألحان والترتيبات الطقسية والقوانين الكنسية كانت في عالك يختلف عن الذي نعيش فيه الآن، فقد اختلف نمط الحياة [الحضر - الازدحام - تصارع المعتقدات والطوائف] ومن ثم يصبح سؤالنا واقعيًا بدرجة أكثر، كيف نستطيع في حياتنا اليومي أن نحافظ على تراث الصوم الكبير المقدس، وميراث روحانية الكنيسة؟ فمن الواضح ان كثير من المؤمنين صارت مشاركتهم في عبادة الصوم شيء مهملا، فلم تعد روحًا فاعلة عاملة فينا، ولم نعد نشعر يقوتها وثقلها في حياتنا، وصار فهمنا للصوم سلبيًا حيث اعتبرناه موسم تحدث فيه تغييرات معينة مثل الانقطاع عن اكل اللحم وتحريم المتع العالمية واستبدال طعام بطعام، ويصير السؤال "ما الذي نقدمه في الصوم؟" أم أننا بلغة إيجابية نرى الصوم عبارة عن الوقت الذي نمارس فيه توبة حقيقية وشركة فعالة حية؟ [لا مجرد أحد الزعف، أحد السامرية، جمعة ختام الصوم] فيكون الصوم مجرد ترتيبات جوفاء لأثمر فيها، لقد ركزت الكنيسة في قطع عشية الصوم ان نترنم بالفضائل التي ينبغي أن نسعى لبلوغها فنقول [الصوم والصلاة يخزيان الشيطان والزهد يهزم طغيانه والمحبة أساس البنيان والتواضع يقوى أركانه وان نطلب ملكوت الله، ونعطى صدقة والى آخره]. ويغيب عنَّا أحيانًا أساس الصوم كَمُمَارسة جموعية تستهدف التوبة الجماعية والشركة الجماعية في التعليم والأسرار والأغابي.. في ممارسات يغلب عليها الطابع الروحي لا الطابع الشكلي, حتى لا يفقد الصوم تأثيره على حياتنا, كَطريق للتوبة والتجديد, وهو ما قصدته الكنيسة في تعليمها الليتورجي الروحي, ولابد أنْ يتماشى المفهوم العام عن الصوم عند الشعب مع روح العبادة الصيامية بدون شكليات لِنَعيش الروحيات, أنَّه بالرغم من اعتيادنا الصوم إلاَّ أنَّنا أَضعنا الكثير من تأثيره في حياتنا وجديتها, فَهل آن الأوان أنْ نُعيد اكتشاف الصوم وأنْ نجعله من جديد قوة روحية في واقع وجودنا وكياننا كل يوم؟ بالحب والتوبة والمصالحة والنسك والحشمة والتعفف والصلاح وأعمال الرحمة والخشوع والسجود وقرع الصدر ورفض المشورة الشريرة والجهاد القانوني والتداريب الروحية. لقد جعلت الكنيسة في تقليدها الليتورجي القبطي في الصوم تعاليم توصينا بها لِنَعيشها.. واظبوا على الكنائس واتلوا القراءة ودقوا صدوركم في الصلوات. التوبة مرهم لكل جراح والمحبة تستر كل العيوب. حبوا الأعداء وسامحوا إخوتكم وباركوا مَنْ يشتمكم ولا تقاوموا مَنْ يطردكم. اطلبوا ملكوت الله وبره والباقي كله يزاد لكم ويتم. أعطوا صدقة للمعوزين ولا تسلكوا في الأمور بوجهيْن.. هذه هي التعاليم الليتورجية التي أرادت الكنيسة أنْ توجهها لنا في فترة الصوم الأربعيني لِنَتحلَّى ونتجمَّل بها, وهي تعتمد أساسًا على جديتنا في تناول فعل الصوم, فمهما كانت الصعاب التي نحياها اليوم في ظلّ مجتمعات أكثر تعقيدًا وتشابكًا, فَمَا من مشكلة يمكن أنْ تُشكِّل عقبة حقيقية تجعل الصوم مستحيلًا [الأعذار], إنَّ أصل الفقدان المستمر لِمَغزى الصوم وتأثيره الفعلي في حياتنا يكمُن في أمور أكثر عمقًا من هذا, إنَّه يكمُن في وعينا أو لا وعينا, وفي حصر الإيمان واختزاله،فَيُصبح مجرد ممارسات ورموز وأمور شكلية سطحية تُفقِدَه جديته وفاعليته وبركاته التي تؤثر في حياتنا, تلك التي تجعل للإيمان الحي الاختباري متطلبات وضروريات ينبغي أنْ نلتزم بها ونجاهد من أجلها.. (قانون الصوم). وهذا الانحصار الشكلي في الصوم هو الاختزال الذي أحدثناه عمومًا في حياتنا الأرثوذكسية, فَكَان بمثابة عدوى وعطب أصابنا من الطوائف الأخرى التي راحت تُبدِّل وتُغيِّر وتختصر في العبادات والطقوس بِحِجة جعلها أكثر مواءمة لظروف الإنسان العصري.. فصار هذا الانحصار والشكلية انحرافًا للتسليم [التقليد المسيحي CHRISTIAN TRADITION] بل وخيانة للإيمان المسيحي نفسه وتصغير له. وهو ما تحرص كنيستنا على التمسك به في صلواتها وأصوامها وتدابيرها الروحية التي ألَّفها الروح القدس واختبرها القديسون. إنَّ كل مَنْ تذوق الصلوات وتنعم ببركاتها في أعماقه, وعاش اللحن القبطي المؤثر يستطيع أنْ يُعبِّر ويختبر مشاعر التوبة الصادقة والندم الحقيقي والاستنارة السرية الحادثة في الداخل فيكون صومه طاهرًا بخشوع, صومًا ليس معناه الجوع لكنَّه توبة ورجوع, صومًا نستعيد فيه جدة الحياة ومعناها الإلهي وعمقها المقدس. وفى الواقع إنَّه لَفَخر للأرثوذكسية إذ هي تحفظ تقليدها, حارسة له ولا تساوم مع قياسات الدنيا, إنَّ عظمة ومجد الأرثوذكسية في أنَّها لا تُساق وراء محاولات التعديل حتى تجعل المسيحية سهلة, فالأرثوذكسية هي استقامة الحياة والعقيدة أيضًا, والأرثوبراكسية هي المسيحية العملية, إنَّ مجد الأرثوذكسية لا مجدنا نحن الأرثوذكس يكمُن في ثباتها على التسليم الآبائي, فَلا ينبغي أنْ نُعيد صياغة ليتورجياتنا, حاشا بل نفتخر ونعتز بصلوات آبائنا الذين تلذذوا بترديدها الساعات الطوال دون ملل ولا كلل متذكرين إخوتنا الرهبان في القرون السالفة والحالية, حينئذٍ نكتشف عذوبة الاختبار المسيحي الكنسي ونتعلَّم كيف نعيش مستترين في المسيح ربنا. أمَّا بِخُصوص الصوم لابد أنْ نطرح على أنفسنا الأسئلة الأساسية, لماذا نصوم؟ وما هو الصوم؟ حتى لا نكتفي بالرموز. قد يقنع البعض برمزية الصوم فَيَزعم أنَّ المسيح رب المجد صام عنا, إذن فقدْ قام هو بالمهمة عنَّا, ويزعم البعض أنَّنا لسنا المسيح أو لسنا مسحاء وأعضاء جسده السري, من لحمه ومن عظامه, وإنْ كان هو صام عنَّا ولأجلنا, فكم نكون نحن في أمسّ الاحتياج أنْ نصوم لِنَتشبه به.. وقد انطبعت روح الآباء على صلوات الكنيسة فلا تزال البيعة القبطية تدعونا أثناء الصوم أنْ نُثبت أنظارنا على المسيح ربنا فنقول: [تعالوا وانظروا مخلصنا محب البشر الصالح صنع فعل الصوم مع عظيم تواضعه فوق الجبال العالية بانفراد جسدي, علمنا المسير لكي نسير مثله, وأبطل قوة العدو وحيله وحججه, والمجرب افتضح أمره] {ذوكصولوجية الصوم الكبير} فالصوم جهاد واختبار وتذوق نترجَّى فيه ونتوب (ميطانيا) ونتطهر بالاعتراف ونُخبئ فيه الكلمة (كيريجما) ونخدم فيه (دياكونيًا) ونشهد فيه للمسيح (مارتيريا) حتى نتدرب على الأبدية (الباروسيا) وبعض المجلات الكَنَسية تُظهر طرق إعداد أطعمة شهية, وبدلًا من أنْ تهتم بغذاء الروح راحت تنشغل بشهوة البطن وبألوان وروائح.. وهي كلها أشياء لا تربطنا بالله في حياة جديدة فيه, إنَّما ما يربطنا به هو أنْ نقتفى آثار وعادات وحياة آبائنا القديسين, الذين تميزت ممارستهم بجدية العبادة, فلم تكن عبادتهم مجرد رموز شكلية للصوم بل حياة عملية وفعلية عاشوها ومارسوها, ويكمن الخطر في تصورنا أنْ نعتبر الصوم مجرد نظام من الرموز والعادات, يجعلنا بذلك نبتعد عن عمق معنى الصوم باعتباره جهاد من أجل حياة جديدة, جهاد يفوق مجرد إعداد وجبات وأكلات الصوم, وبدلًا من استنفاذ الهِمَم في الأكل نتحول إلى المشاركة في واقع الفصح الروحي SPIRITUAL REALITY OF EASTER. وهذا يعنى أنَّه إنْ لم تكن الطقوس المتَّبعة خلال التقليد الكنسي وثيقة الصلة بمحتوى المضمون الروحي الشامل الذي أفرزها, فلن نستطيع أنْ نُدرك أو نَعِى أو أنْ نأخذ تلك الطقوس التعبدية مأخذ الجدية, وتبقى الكنيسة وقد فقدت اتصالها الحي, ومن ثَمَّ يضعف سلطانها وقوتها التي تؤثر في حياة المؤمنين.. وبدلًا من أنْ نُحوِّل تراثنا الغنى إلى رموز, علينا أنْ نُترجمه إلى واقعًا حيًا معاشًا في صميم كياننا, وعلى كل واحد منَّا أنْ يشترك في قداسات الصوم وفي رفع بخور باكر, إنَّنا مَدعوُّون لشركة أعمق, أنْ نعيش غِنَى العبادة ونفهمها كحدث روحي حقيقي يرفعنا إلى ما فوق, ولا نحرم أنفسنا من جمال الخدمة الصيامية وعمقها وعونها الروحي الضروري. ولِكَي نأخذ الصوم مأخذ الجدية لابد أنْ نعتبره تحديًا يتطلب استجابة, وقرارًا, وخطة, وجهادًا مستمرًا, ولهذا السبب كما نعلم أعدت الكنيسة وأسَّست أسبوع استعدادًا للصوم الكبير المقدس وأيضًا سبقته بِصَوم يونان.. إنَّه وقت الاستجابة ووقت صنع القرار, ووقت الخطة المدروسة.. وأفضل سبيل لخطة الصوم وأسهلها هو أنْ نتبع خُطى الكنيسة التي لا خلاص لأحد خارجها.. نعيش وِفق خطة البيعة بِحَسب أناجيل آحاد الصوم [الاستعداد التجربة الابن الضال السامرية المخلع المولود أعمى "التناصير" الشعانين]. فهذه الدروس الإنجيلية العملية ليست مجرد حكايات نستمع إليها جالسين مُتثائبين في الكنيسة, ولكنَّها وُضعت لِنَعيشها ونخبئها في قلوبنا ونختبرها على هذا المنوال.. هذه هي حياتي أنا, هذه هي التزاماتي أنا واهتماماتي أنا, فَمَا الابن الضال إلاَّ أنا ومَا السامرية إلاَّ أنا ومَا المولود أعمى إلاَّ أنا.. ، علينا أنْ ننظر إلى الصوم بعمق كتجديد روحي يتطلب جهادًا وانسكابًا وتوبة ودموعًا وسهرًا ومحاسبة للنفس, وقرارًا تصحيحيًا وجهدًا متواصلًا, ولهذا السبب وضعت الكنيسة الترتيب الطقسي لآحاد الصوم الأربعيني, وأفضل الطرق وأسهلها هو أنْ نتبع توجيه الكنيسة الليتورجي. فليس المقصود من هذه القراءات الإنجيلية زيادة كم المعرفة إنَّما الغاية الأساسية منها كما قصدت الكنيسة أنْ نتنقَّى من كل شائبة, فَكَم تمتلئ أفكارنا وعقولنا بكل صنوف الاهتمامات والتوترات والانطباعات, وهذه القراءات الليتورجية ليست مجرد "وصفات للراحة" وكأنَّنا ننظر إلى الصوم من الخارج, بل الحتمي هنا أنَّنا في الفترة التي تسبق الفصح نرى شيئًا يأتينا من الله ذاته كفرصة تغيير وتجديد وتعميق [CHANGE - RENEWAL - DEEPENING] فرصة نعتبر فيها كلامنا كقوة هائلة لها قدسية لابد أنْ تكون للبنيان لأنَّنا سنعطى عنها حساب, فرصة للعطش والجوع للحياة الأفضل لا بروح العالم وكأنَّنا نمارس عادات كَنَسية دون اختبار عمقها والتمتع بغناها مجاهدين حتى الدم ضد الخطية. ولكى يتم هذا الاختبار فينا لابد من المشاركة في الخدمات التعبدية في الصوم ولابد من أنْ يكون هناك قرار وجهاد ومتابعة للعبادة الليتورجية والمشاركة فيها PARTICIPATION IN LENTEN SERVICES في كل صلوات باكر عندما نصلى الطلبات [ارحمنا يا الله ضابط الكل ارحمنا يا الله مخلصنا ارحمنا يا الله ثم ارحمنا ثم نصلى من أجل الأحياء والمرضى والمسافرين والأهوية والمياه وخلاص الناس والمواضع وسلامة العالم والملوك والمسبيين والراقدين ومن أجل الصعائد والقرابين والمتضايقين والموعوظين]. ونتضرع في مرد الابركسيس إلى الله الذي يرفع خطايا الشعب من قبل المحرقات ورائحة البخور على الجبل وهو في نفس الوقت الذبيحة والكاهن وهو العطية والمعطى والموهبة والواهب في آنٍ واحد, بل رئيس الكهنة الأعظم إلى الأبد على طقس ملكي صادق الذي نناديه في لحن [ميغالو].. وكأنَّنا في العبادة نتطلع إلى المسيح قائد موكب نصرتنا وهو على جبل التجربة, يُقدم ذبيحة الصوم لأجلنا وعنَّا, وفي ذات الوقت هو الكاهن الأعظم الذي نقدم إليه وبه كل ذبيحة, وتقودنا العبادة إلى خطوة لاهوتية عميقة فَتُقدم لنا المسيح ككاهن يرفع ذبيحة النسك إلى الأقداس السماوية فهو الذبيحة التي ذُبحت عن خطايا العالم كله وهو الذي يُقدم الذبيحة والكاهن في آنٍ واحد وهذا ما تقصده الكنيسة عندما تقول لحن [ميغالو].. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
لكن بالصوم والصلاة BUT BY PRAYER AND FASTING ليس هناك صوم أربعيني بدون انقطاع وصوم, فَأهداف الصوم الروحية الحقيقية ليست كما يتصور البعض أنَّه امتناع رمزي عن شيء ما وتغيير عادات غذائية معينة.. لكن لابد أنْ نلتفت إلى جهاد الصوم, ولكي نفهم جهاد الصوم ينبغي أنْ نفهم أولًا ما قدمته لنا الكنيسة من تعاليم حول الصوم ثم نسأل أنفسنا كيف نطبق هذا التعليم في حياتنا.. فالامتناع عن الأطعمة بالانقطاع ضروري وجوهري ولكن ليس هو كل الصوم وإلاَّ كان الأكل حرامًا, ولكن المغزى الحقيقي للصوم, أنَّه قبل كل شيء قد استعلن لنا تلك العلاقة الوثيقة بين حدثيْن, نجدهما في الكتاب المقدس أحدهما في بداية العهد القديم والآخر في بداية العهد الجديد, وكثير من الناس يصومون, ولكن المهم جدًا هنا هو أنْ ندرك ونعيش المحتوى المسيحي الفريد للصوم ومضمونه الروحي النسكي.. الحدث الأول كسر الصوم على يد آدم في الفردوس عندما أكل من الثمرة المحرمة, والحدث الثاني مع المسيح آدم الثاني الذي بدأ بالصوم, فآدم الأول جُرِّب وتعثَّر ووقع في التجربة وانهزم, لكن المسيح رب المجد آدم الثاني جُرِّب فانتصر وغلب لحسابنا, وكانت نتيجة فشل آدم الطرد من الفردوس والموت.. أمَّا ثمرة انتصار وغلبة المسيح فكانت إبادة الموت والعودة إلى الفردوس.. وهكذا يُستعلن لنا الصوم كضرورة حتمية وقصوى في أهميتها كأمر حاسم جدًا في جهادنا, وليس مجرد فرض أو عادة.. بل هو وثيق الصلة بصميم سر الحياة والموت نفسه [MYSTERY OF LIFE AND DEATH] وبصميم الهلاك والخلاص والدينونة.. وهو ما تقوله وتؤكده لنا ذكصولوجية الصوم [لأنَّك لا تشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا.. أسألك يا مخلصي فتدركني مراحمك لتخلصني من الشدائد المضادة لنفسي.. لا تحرق عدم معرفتي مثل سدوم ولا تهلكني مع عمورة لكن يا ربي اصنع معي مثل أهل نينوى الذين صاموا فغفرت لهم خطاياهم].. وفى التعليم الأرثوذكسي ليست الخطية هي التعدى وكسر قاعدة تستوجب العقاب فحسب بل هي انقطاع عن الحياة التي أنعم بها علينا الله, هي عطب قد أصاب الحياة التي وهبها الله لنا ولهذا السبب فإنَّ قصة الخطية الأصلية الأولى قدمها لنا الكتاب المقدس كفعل الأكل لأنَّ الأكل وسيلة الحياة, إنَّه الذي يحفظنا أحياء ويبقينا على قيد الحياة لكن هنا يكمن السؤال الأساسي, ما معنى أنْ نكون أحياء؟ وماذا تعنى لفظة حياة بالنسبة لنا؟ اليوم هذا المصطلح له معنى بيولوجى بالدرجة الأولى فالحياة على وجه الدقة تعتمد أساسًا على الطعام, وتعتمد عمومًا على الطعام الطبيعي وبأكثر شمولًا على العالم المادي, وبحسب الكتاب المقدس والتسليم المسيحي [التقليد] فإنَّ تلك الحياة بالخبز وحده تعنى الموت لأنَّها حياة مائتة زائلة, لأنَّ الموت مبدأ يعمل فيها دائمًا, والله كما نعلم لم يخلق موتًا لأنَّه مانح ومعطى الحياة, فكيف تُصبح الحياة إذن زائلة مائتة؟ ولماذا الموت والموت وحده هو النهاية الحتمية والقانون المطلق لذاك الذي يوجد ولكل موجود! تجيب الكنيسة: لأنَّ الإنسان رفض الحياة كما قدمها ووهبها الله وكما أعطاه إياها ففضَّل حياة لا تعتمد على الله بل على "الخبز وحده", فالإنسان لم يعص الله فقط وعُوقِب, بل بسقوطه غيَّر صميم العلاقة بينه وبين العالم, لقد أعطاه الله العالم كطعام وكأنَّ العالم مقدمًا للإنسان من الله بمثابة "طعام" أيّ كوسيلة حياة ليكون القصد منها الشركة مع الله [COMMUNION WITH GOD] حيث الحياة هنا تبلغ غايتها بل عمق محتواها فيه [فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس].. ومن ثَمِّ كان خلق الله للطعام وللعالم كوسائل للشركة معه فإذا ما قبلت من أجل الله منحت الحياة وأعطتها, لأنَّ الطعام في حد ذاته ليس فيه حياة, ولا يقدر أنْ يهب الحياة, الله فقط فيه الحياة وهو وحده عنده الحياة, يهبها لا في الطعام نفسه ولا في السعرات الحرارية لأنَّه هو مبدأ الحياة.. وبالجملة نكون عندما نأكل أو نحيا أو نعرف الله في شركة معه لأنَّ كلها شيء واحد, وهذا هو عمق مغزى تدبير الكنيسة في الصوم.. وكانت مأساة آدم أنَّه أكل من أجل نفسه هو, والأكثر من ذلك أنَّه أكل "معزل عن الله" منفصلًا عنه لكي يصبح مستقلًا عن الله [التأله الكاذب]،وإذ قد فعل ذلك فلأنَّه اعتقد أنَّ الطعام يملك الحياة في ذاته, وأنَّه إذا ما تناول هذا الطعام يستطيع أنْ يصبح مثل الله أي تصير له حياة في ذاته, ولكي نَصِف الأمر ببساطة فآدم "آمن بالطعام", لقد آمن بالطعام مع العلم أنَّ الغرض الوحيد للاعتقاد والإيمان هو الله وحده. إنَّ الغاية الوحيدة لإيماننا إنَّما تكمن في الاتكال والاعتماد على الله والله وحده الذي فيه شبعنا لأنَّ فيه غنى وشبع وسرور وفي يمينه المجد كل الأيام, واليوم صار العالم والطعام ولقمة العيش هو إله الإنسان ومصدر حياته وأساسها, وصار الإنسان عبدًا لهما [أيّ العالم والطعام], ونقول أنَّنا نؤمن بعمل الله ولكن لابد أنْ نؤمن أنَّ الله حياتنا وطعامنا وملجأنا وناصرنا وشبعنا وغنانا وحياتنا الأبدية معًا.. وهذا ما تلفت عيون قلوبنا له البيعة في موسم الصوم الأربعيني عندما تضع لنا "إنجيل الاستعداد" اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره, وتأخذنا إلى الشبع الحقيقي لكلمة الله في "إنجيل أحد التجربة", وتُعرِّفنا أنَّ المسيح هو الينبوع الحي الذي كل مَنْ يشرب منه لا يعطش "إنجيل أحد السامرية", وأنَّ السيد هو سرّ الشفاء والخلق في أحد "المولود أعمى", وهو الذي يملك على حياتنا في "أحد الشعانين", وبالجملة هو سرّ غلبتنا وقيامتنا في أحد القيامة العظيم. إنَّ كلمة آدم في العبرانية تعنى (الإنسان) إنَّه اسمي واسمنا المشترك جميعًا, فلا يزال الإنسان هو آدم ولا يزال آدم عبد الطعام.. وقد يزعم أنَّه يؤمن بالله لكن الحقيقة أنَّ الله ليس حياته ولا طعامه ولا محتوى وجوده الذي يشمله بالتمام.. وقد يزعم أنَّه ينال حياته من الله, لكنَّه لا يعيش في الله ومن أجل الله, فقد تأسست كل علوم الحياة واختباراتها وصار وعينا يسير وفق نفس المبدأ [بالخبز وحده].. ينبغي أنْ نعرف أنَّنا نأكل لنظل أحياء لكنَّنا لا نحيا لكي نأكل, وعدم حياتنا في الله هي خطية كل الخطايا وهذا هو حكم الموت الذي يكمن في حياتنا.. فهل من دخول إلى الأحضان الأبوية مع الابن الشاطر في الأحد الثاني للصوم؟ وهل من لقاء مع المسيح عند بئر السامرية؟ وهل من استنارة وبصيرة روحية مع المولود أعمى في أحد التناصير؟ المسيح هو آدم الثاني الجديد الذي أتى لِيُصلح ما فسد في الأرض في حياة آدم الأول, أتى ليستعيد الإنسان إلى الحياة الحقيقية لهذا بدأ بالصوم "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً" (مت 2:4). وتضع الكنيسة أمامنا المسيح من خلال منهج عبادتها فنقول أنَّه [اعتمد وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة وكان مع الوحوش لمَّا صام في البرية لكي نصنع مثله في زمن وحدتنا].. والجوع هو تلك الحالة التي نتيقن خلالها من اتكالنا على شيء آخر عندما نحتاج وبشكل ضروري وأساسي إلى الطعام فنعرف أنَّ لا حياة لنا في أنفسنا وأنَّنا لا نملك حياة في ذواتنا, وأنَّه ذلك الحد الذي بعده قد نموت جوعًا ولا نستطيع أنْ نتجاوزه وأسأل: عَلاَمَ تعتمد حياتي وتتوقف؟ وحيث أنَّ السؤال ليس سؤالًا أكاديميًا نظريًا بل نحسه بكامل أجسادنا هنا يأتي وقت التجربة وزمنها. لقد أتى الشيطان إلى آدم في الفردوس, وأتى إلى المسيح في البرية, أتى إلى اثنيْن جائعيْن وقال كُلا لأنَّ جوعكما دليل على اعتمادكما بالكامل على الطعام وعلى أنَّ حياتكما هي في الأكل والطعام فَصَدَّق آدم الأول وأكل.. ولكن المسيح الكلمة المتجسد رفض التجربة وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل [بالله الكلمة].. فالحياة تصير بكل كلمة تخرج من فم الله. لقد رفض المسيح ربنا أنْ يقبل تلك الأكذوبة الكونية التي نشرها الشيطان الكذاب في العالم جاعلًا من تلك الأكذوبة حقيقة بديهية, وتؤكد ذاتها ولا تحتمل الجدل بعد أنْ صارت أساس عالمنا وعلومنا وبذلك استعاد المسيح تلك العلاقة بين الأكل والحياة والله التي كسرها آدم والتي لا نزال نكسرها نحن كل يوم. فَمَا هو الصوم بالنسبة لنا نحن المسيحيين؟ إنَّه دخولنا ومشاركتنا في اختبار المسيح نفسه الذي صام عنَّا, تلك الخبرة التي بها يحررنا من الاعتماد الكامل على الطعام والمادة والعالم, وقد صار محررنا ونحن بعد نعيش في هذا العالم الساقط, عالم آدم القديم باعتبارنا جزءًا منه لا نزال نعتمد على الطعام وصار موتنا الذي يجب أنْ نجتازه بفضل موت المسيح عبورًا إلى الحياة أيّ فصحًا, والأكل الذي نأكله والحياة التي يسندها هذا الأكل, يمكن أنْ تكون حياة في الله ومن أجل الله.. وهنا نقول, هل اللقمة للإنسان أم هل الإنسان للقمة؟ الإنسان الذي يعيش لِيَأكل كأنَّه سجين يعبد ذاته, ونحن شبعنا في المسيح طعام الأبدية ومصل عدم الموت, لقد صار جزءًا من طعامنا بالفعل [خبز الخلود] جسد ودم المسيح نفسه, وهكذا لن يكون لأتعاب الصوم أيَّة منفعة بدون التمتع بالتناول الذي نُعبِّر عنه بهذا القانون الذي نُردِّده في ختام القداسات أثناء الصوم ونقول: [هذا هو جسد ودم الإله الوحيد هذان اللذان تناولنا منهما فلنشكره ولنسبح مع الطغمات والأبرار صارخين قائلين: يا مَنْ صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة اقبل إليك الصوم واغفر لي آثامي بطلبات وشفاعات سيدتي القديسة مريم خلصنا.. ], وكل صوم يلزم أنْ ينتهي بالتناول إذ بذلك تكمل ذبيحتنا ويكمل بذلنا [صلوا من أجل التناول باستحقاق. اطلبوا عنَّا وعن كل المسيحيين] {القداس الإلهي}. فالصوم وحده يُمكنه أنْ يُحقق هذا التحوُّل, ويمنحنا الدليل الوجودي على أنَّ الاعتماد على الأكل والمادة ليس هو الحياة, بل الكلمة والصلاة والنعمة والانسحاق والتقدم إلى السرائر.. , وإذ يقترن الصوم بالصلاة والنعمة, والعبادة والشركة, والتوبة والشهادة والخدمة يصبح صومًا روحيًا. وإذا ما تعمقنا في فهم هذا كله يصير الصوم الوسيلة الوحيدة التي يستعيد بها الإنسان قامته الروحية الحقيقية, والأمر ليس نظريًا بل هو تحدى عملي لذلك الكذاب الكبير المحتال إبليس الذي استطاع بأنْ يقنعنا أنْ نعتمد على الخبز وحده, وراح يبنى المعرفة البشرية كلها والعلم والوجود على تلك الأكذوبة المضيعة والمضللة, فالصوم هو هدم لتلك الأكذوبة وهو الدليل أيضًا على أنَّه أكذوبة.. ومن المفيد أنْ ندرك أنَّ المسيح خلصنا لمَّا كان صائمًا وواجه الشيطان [إنجيل الأحد الثاني من الصوم "أحد التجربة"], وأنَّه قال فيما بعد أنَّ الشيطان لا يُهزم إلاَّ بالصلاة والصوم.. لذلك تلتزم كنيستنا في عبادتها الليتورجية أثناء فترة الصوم الأربعيني, بصلاة أطول, وإماتة أشد, وتضحية لأبعد مدى وأكثر تجسيدًا.. وهذه هي أعجوبة الصوم التي تجعلنا أكثر اتحادًا وقربًا من الله.. فالصوم هو الجهاد الحقيقي والعراك ضد إبليس لأنَّه تحدى ذلك القانون الواحد الشامل الذي يجعله [رئيس هذا العالم]. وغلبتنا بالصوم والجوع والعطش هي نبع الطاقة الروحية لكي لا تبقى هذه الأكذوبة التي نعيشها منذ آدم إلى الآن!! أين نحن الآن من مفهوم الصوم الأصيل؟ كم نحن بعيدون الآن عن مفهوم الصوم إذ نعتبره مجرد تغيير للأكل ومجرد شكليات, ما هو مسموح وما هو ممنوع, يا لها من ضحالة ومجرد تغيير طعام!! إنَّ الصوم لا يعنى إلاَّ شيء واحد, أنْ نجوع لنبلغ ذلك الحد (حالة الإنسانية التي تعتمد تمامًا على الطعام.. ) لِنَكتشف في جوعنا أنَّ ذلك الاعتماد ليس هو الحقيقة كلها عن الإنسان وأنَّ الجوع نفسه إنَّما هو أولًا وقبل كل شيء حالة روحية نورانية نذوق فيها الطبيعة الجديدة التي تجلَّت على جبل طابور.. وأنَّ الصوم في جملته جوع من أجل الله ولله, لذلك نجد أُمنا البيعة الأرثوذكسية قد تزينت بأحلى ما عندها من طقوس وألحان وقراءات وممارسات روحية وكلها أطعمة روحية تُعِدَّها لأولادها العابدين الذين حرموا أنفسهم بإرادتهم من طعام الأرض البائد وأغلقوا حواسهم عن كل لذة ترابية وعكفوا ملازمين البيعة بنسك وتقوى لأنَّ العبادة الليتورجية تُحوِّل النسك والصوم إلى عبادة قلب ولذة روح وممارسة وخبرة عملية ومجال سلوكي بحياة الجميع.. فالامتناع عن الطعام غير كافٍ, إذ يجب أنْ يرافقه نظيره الإيجابي, والذي يتحدد وفقًا لبرنامج العبادة الكَنَسية, التي تكون أكثر وضوحًا فيها. وفى الكنيسة الأولى كان الصوم دائمًا يعنى الانقطاع الكامل, يعنى حالة الجوع يعنى دفع الجسد إلى أقصى ما يمكن من قمع وهنا نكتشف أنَّ الصوم كجهاد طبيعي لا معنى له بدون مغزاه الروحي, فالصوم كجهد جسدي لا معنى له البتة بدون الجهاد الروحي, وبدون تعزية أنفسنا بالحق الإلهي, وبدون اكتشاف اعتمادنا على عمل الله يصبح صومنا انتحارًا. ولأنَّ المسيح نفسه قد جُرِّب أثناء الصوم لذا فما بقيت لنا فرصة واحدة بعد تجربته لِنَتجنب تلك التجربة فلا مفر منها, والصوم البدني وإنْ بدا ضروريًا فإنَّه يُصبح بلا معنى بل وأيضًا يصبح خطيرًا إذا انفصل عن الجهاد الروحي, وإذا انفصل عن الصلاة والتأمل في الإلهيات, وهو ما نصرخ من أجله في العبادة قائلين [تعالوا نصرخ نحوه ونبكى أمامه كما علَّمنا.. أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك في كل جيل وجيل.. اطرد الشياطين عنَّا لنكمل بسلام لأنَّه ليس لنا آخر سواك]. والصوم فن بل فن الفنون, أبدع فيه القديسون أيَّما إبداع, ويكون الأمر خطيرًا ولا طائل من وراءه إذا مارسنا هذا الفن بدون عناية وحذر, أعنى بدون إرشاد أب الاعتراف والمرشدين الروحيين, والعبادة كلها أثناء الصوم الأربعيني هي تذكرة دائمة بالصعاب والجهاد والتجارب التي تنتظرنا, ولهذا السبب عينه نحتاج لاستعداد روحي للجهاد في الصوم, وهذا الاستعداد يشمل التضرع لله لِيُساعدنا وأنْ يجعل صومنا متمركزًا حوله.. [ربنا يسوع المسيح صام عنَّا حتى خلصنا *أبانا الذي في السموات* أنا أعرف أنَّك صالح ورؤوف اذكرني برحمتك إلى الأبد * اجعلنا مستحقين نعمتك أيها المخلص في هذه الأيام ونحن بلا خطية مع صوم نقى]. لذلك ينبغي علينا أنْ نصوم من أجل خاطر الله [FOR GOD'S SAKE], لِنُعيد اكتشاف جسدنا باعتباره هيكل حلوله الإلهي.. ونُوفِّر وقارًا للجسد والطعام, ولكل منظومة حياتنا, لأنَّنا آنية للسيد, وهياكل مقدسة له. ولِنُمارس الصوم على صعيديْن: أولًا كصوم كلى, وثانيًا كصوم نسكي, فالصوم النسكي معناه اختزال الطعام حتى الكفاف وأقل من الكفاف حتى تُعاش حالة الجوع الثابت التي تُذكرنا بالله, ونبقى في جهاد ثابت حافظين فكرنا فيه.. وهذا الصوم يجعلنا أكثر خفة ويقظة ونشاطًا وبتولية وتركيزًا وتكريسًا ورقة وفرحًا ونقاوة, وعندئذٍ نتناول الطعام كَهِبة حقيقية من الله لِيَكون منظومة لحياتنا وسماتها كلها, فتتحول الطبيعة بالصلاة والصوم والتذكرة واليقظة والتركيز إلى قوة إيجابية [فالصوم والصلاة هما اللذان عَمِلَ بهما موسى حتى أخذ الناموس والوصايا وهما اللذان رفعا إيليا إلى السماء, وهما اللذان خلَّصا دانيال من الجب وهما اللذان عَمِلَ بهما الأنبياء والصديقون والشهداء].. والصوم الكلى هو أنْ يتزامن صومنا مع العبادة والمطانيات والهجعات والسجود وقرع الصدر وأعمال التوبة والرحمة والمحبة والخدمات وفترات الانقطاع, فلا صوم من غير انقطاع, ولا صوم من غير ذبائح, ولا صوم من غير اقتداء بالمسيح الذي صام عنَّا.. [اتْبَعْنِي] {مت9:9} |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
وأخيرًا يصير لنا الصوم نمط الحياة LENT: STYLE OF LIFE وأخيرًا يصبح لنا الصوم وممارسة العبادات والصلوات الفردية والجماعية كنمط للحياة كلها, فلا يكون انشطارًا في الوجود أو ثنائية في الحياة, ولكن نمط حياة تُعاش في ديمومة مستمرة, نقتبلها أثناء الصوم كنسق ووتيرة للحياة بجملتها.. لأنَّ الأرثوذكسية هي العيش والاختبار والممارسة والتذوق والتلامس المستمر من غير ازدواج ولا انفصام ولا ثنائية ولا سطحية.. فَلَنا حياة واحدة, لا حياتان ولنا رأى واحد لا رأيان. إنَّ الصوم نمط حياة تُشدِّد فيه الكنيسة على التوبة كمعمودية ثانية [أعطني يا رب توبة لكي أتوب قبل أنْ يسد الموت فمي في أبواب الجحيم]. والذين يدركون ويعرفون ويفهمون جمال العبادات وعمقها يتمتعون بها, فالجهل بالليتورجيا هو السبب المباشر في ضعف ممارسة الصوم وإدراك غايته فيصبح مجرد مجموعة من فرائض وعادات غذائية, ولا طريق إلى إدراك روحانية الصوم كتدريب يصبح نمط حياة, إلاَّ بالسماع الواعي والاشتراك في العبادات الصيامية (نصلى بالروح ونصلى بالذهن أيضًا), فتصبح عبادتنا خشوعية سهمية تعبدية نسكية بعيدة عن الشكلية والآلية (حينئذٍ لا يتعب فَمُنا, ولا يسكت لساننا, إذ ننطق بكرامة الصوم والصلاة). إنَّنا ندرك معاني الصوم بالليتورجيا خلال ذكصولوجيات وإبصاليات الصوم, تلك العبادة التي تنكشف من خلالها رؤية الحياة والموت والأبدية, ونترنم فيها بترنيمات الفرح السماوي اللذيذ والأصيل الذي يفصح عن روحانية وأصالة الكنيسة, فبينما نحن صائمون نحس خلال العبادة أنَّنا نرنو إلى شاطئ الوطن السماوي وأنَّ سفينة حياتنا تتهادى حيث تعيَّن نصيبنا كوطن وكمواطنين [أهدنا إلى ملكوتك], نقترب من أرض الأحياء وأهل بيت الله, ممَّا حدا بالآباء أنْ يضعوا ضمن صلواتنا: [نعم يا سيدنا اقبلنا إليك وأعطنا كمالًا مسيحيًا يرضيك ونصيبًا مع جميع قديسيك]. ولا شيء يجعلنا نعيش الصوم بعيدًا عن مفهوم الفريسي التافه الذي يجعل الصوم سلبيًا, إلاَّ التأمل في صلواتنا الكنسية التي استطاعت أنْ تطبع في وجداننا حلاوة هذا الزمن الروحي, حتى أنَّ أعضاء الكنيسة كلها عبر ضفاف النيل, يعيشون روحانية الصوم متشبهين بالقديسين وسكان البراري!! أليس الصوم والتربية النسكية هي التي صنعت شهداء الكنيسة ومُعترفيها, [شهداء المسيح تغلبوا على العذاب بواسطة الصوم واحتمال صبره]. [العذارى الحكيمات المتسربلات بالطهارة كانت مصابيحهن مملوءة زيتًا بالصوم والصلاة]. وأيّ مؤمن ذاق طعم الحياة الليتورجية الحقيقية يدرك يومًا بعد يوم ما معنى أنْ نترجى, وكيف أنَّ المسيحية هي قبل كل شيء رجاء وفرح وتهيئة للملكوت, لذلك تؤازرنا في الصوم قوة الروح القدس لِنُعيد النظر في حياتنا وسلوكنا الشخصي فنقطع الأهواء والشهوات بسكين الروح, ونضبط أنفسنا بتعفف, نامين في الفضيلة والرحمة ساهرين على كلمة الله مواظبين على الصلاة القلبية بندامة قرع صدر. [تعالوا لِنَصوم صومًا كاملًا لأنَّ بالصلاة والصوم يغفر لنا الرب]. والناظر بعمق إلى منهج كنيستنا الليتورجي, يعرف أنَّ كل مقومات الصوم, ليست مجرد "وصفات" ولكنها اقتراب وذبيحة نقدم فيها ذبيحة حبنا للمسيح العريس السماوي الذي صام عنَّا, حينئذٍ لا ننظر للصوم من بعيد, ولكن كأمر آتٍ إلينا من الله نفسه ليس فيه مساومة, رتَّبته أُمنا الكنيسة كفرصة للتغيير والتجديد والتوبة والتعمق, وهي فرصة نركز فيها أبصارنا نحو ربنا يسوع المسيح الذي صام من أجلنا لكي ما نتغذى به [تعالوا انظروا مخلصنا محب البشر الصالح, صنع فعل الصوم بتواضعه العظيم فوق الجبال العالية بانفراد جسدي, وعلمنا المسلك الذي نسلك مثله, أبطل قوة العدو وحيله وحججه, وافتضح المجرب أمامه]. وتنتهز العبادة خلال فترة الصوم الفرصة لِتُذكرنا وتُحضرنا إلى اكتشاف الحياة المسيحية كجهاد وتوبة مستمرة لا تنتهي, وكذلك تحرص على الجهاد وضبط النفس والمواظبة على الصلوات [قانون الأجبية] وحضور القداسات, وكل هذا يجعلها تفصح عن قانونية الجهاد الروحي الذي ينبغي أنْ يلفّ أعضاء الكنيسة, وهي أيضًا تُشير إلى قوة الصوم وبركاته كسلاح قوى له فاعليته, [المتمسكون بالصوم والصلاة دائمًا بأيديهم سيوف وأسلحة, ربنا يسوع ملك السلام يغبط الصوم وكل من مارسه, جنس الأشرار يهربون ويهلكون بواسطة الصلاة والطلبات مع الصوم, شهداء المسيح تغلبوا على العذاب بواسطة الصوم واحتمال صبره, العذارى الحكيمات المتسربلات بالطهارة كانت مصابيحهن مملوءة زيتًا بالصلاة والصوم]. إنَّ الآباء المسترشدين بالروح القدس الذين وضعوا البنية العامة للعبادة الليتورجية في الصوم أرادوا أنْ يجعلوا من الصوم نموذج ونمط الحياة بجملتها, حتى أنَّ المنهج الليتورجي القبطي رسم للعابدين طريق نموهم الروحي, مؤكدًا على محبة المسيح عريس الكنيسة لكل الخاطئين الذين يشتاق إلى رجوعهم إليه [لأني أعلم بالحقيقة أنِّى خاطئ وأعمالي الرديئة كلها ظاهرة أمامك, أقول بصوت العشار صارخًا قائلًا اللهم اغفر لي أنا الخاطئ]. لأنَّنا بالصوم ننال غفران الخطايا والتطهير [إنَّنا نحن شعبك وغنم قطيعك, تجاوز عن آثامنا كصالح ومحب البشر] [أيها المتحنن على الخطاة من أجل الصوم اغفر لنا خطايانا] [برودة وراحة ونياحًا من أجل الصوم تكون في الدينونة]. والصوامون سيكافأون عن ذبيحة صومهم مثلما نال الغلبة داود بن يسى ومثلما تحنن الرب على حواء وآدم بعد أنْ خدعتهما الحية, وأيضًا مثلما استنار عقل أخنوخ ورُفِعَ إلى السماء, وقبلت السماء صلاة إيليا وذبيحة إبراهيم من أجل الصوم, ومثلما خلص اسحق بتهليل من أجل الصوم, ومثلما نظر يعقوب السلم من أجل الصوم, ومثلما خضعت الأسود لدانيال النبي من أجل الصوم, وطالت أيام صموئيل ماسح الملوك وختامًا نقول أنَّ إله الآلهة يسوع الديان من أجل الصوم ثبَّت المجاهدين. والعبادة الكنسية تشير إلى قانونية الصوم كممارسة روحية وتدريب إلهي إنجيلي رسولي, آبائي, ومن ثَمَّ يلزم ممارسته, فالذي يعتبره البعض رموز وممارسات وقراءات وتلاوات, هو في الحقيقة عمل وسائط النعمة وأساس الجهاد الروحي. [بصوتي صرخت إليك يا إلهي فمن أجل الصوم أعطني خلاصًا, أَعِنْ ضعفي أيها المخلص ومن أجل الصوم اغسل أقذارنا]. ووسط الجوع والعطش, تشبعنا الكنيسة أُمنا بمائدة عبادتها حتى نقف عمليًا على عدم مصداقية المبدأ القائل أنَّ الإنسان هو ما يأكل, فتضفى الكنيسة في عباداتها طابع الدالة البنوية وتَرجِّى الميراث الأبدي. [كل النفوس التي أرضت الرب الإله بالأعمال, بالصلاة والصوم فازت بملكوت السموات] وفيما نحن نصوم ترفعنا الكنيسة فوق ضعف الجسد وحروبه, لِنَقرن الصوم بالتسبيح [نعم يا سيدنا يا ذا السلطان نسبحك بالمدائح ونسجد لك في الكنائس من الآن وإلى الانقضاء, حينئذٍ لا يتعب فَمُنا ولا يسكت لساننا إذ ننطق بكرامة الصوم والصلاة]. ولِنَسد جوع الجسد بشبع الروح, بالتقدم للزاد السماوي حيث الذبيحة الإلهية [الجسد والدم اللذان لك هما لمغفرة خطايانا مع العهد الجديد الذي أعطيته لتلاميذك] [الآن تناولنا من جسدك ودمك الحقيقيين تجديدًا لقلوبنا وغفرانًا لخطايانا].. أخيرًا تُقدِّم لنا الكنيسة نماذج من الأنبياء والرسل والقديسين والقديسات الشفعاء, ليكونوا لنا في الطريق آثار غنم, وفي السماء سحابة شهود فنقول: بالصوم استحق إبراهيم أنْ يضيف الله عنده مع ملائكته الأطهار. بالصوم أصعد اسحق ذبيحة طاهرة معطيًا إشارة للمسيح. بالصوم خلص يعقوب من عيسو أخيه وأخذ بركة من أبيه. بالصوم تراءف الله على عبده الصالح البار أيوب ومنحه الشفاء. بالصوم ارتفع يوسف وملك على مصر. بالصوم رفع الله غضبه عن أهل نينوى. بالصوم تنبأ جميع الأنبياء والأبرار من أجله بأنواع كثيرة. بالصوم أرسل القديسين لِيَكرزوا في جميع المسكونة. بالصوم نال الشهداء المجاهدون الأكاليل غير المضمحلة. وهذه هي الأرثوذكسية, كما أنَّها استقامة الرأي والعقيدة هي استقامة الحياة أيضًا.. ويتم ذلك بالجهاد الروحي لاستعادة العادات المسيحية المستمدة من التسليم والتي تُذكِّرنا دائمًا بما ينبغي أنْ نكون عليه حسب بدايات الحياة المسيحية, فالصوم هو برنامج عمل, لا مجرد عظات ولا صلوات وعادات إنَّما هو توبة ومحبة وزهد ومصالحة وبذل وعطاء. لابد من أنْ نبدأ من البيت [المذبح العائلي], لابد أنْ نُغير نمط حياتنا ونفرغ هذا المجتمع الضوضائي, ونستبدله بالاعتكاف الإيجابي, من خلال القراءات والمواظبة على الليتورجية, والإقتداء بمعلمي الكنيسة العظام وسير حياتهم كالأنبا أنطونيوس ومريم المصرية والقديس القوى موسى الأسود والأنبا بيشوي حبيب مخلصنا الصالح. والمجد والإكرام لمن جاع ليظهر أنَّه أخذ الجسد وصار معنا من أجلنا, غير المنظور الذي جاء وأشرق علينا فصيَّر الخاطئ مُبررًا. ارحمنا ثم ارحمنا وارث لضعفنا واقبلنا وجِدْ علينا بالغفران, واجعلنا لأوامرك طائعين يا صاحب الأمر والتدبير. نسألك أن تحفظ بيدك العالية حياة البابا شنودة الثالث عمود الدين وكل الآباء والمدبرين. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
آحاد الصوم الكبير من اجل فهم أفضل لتقليد الكنيسة الليتروجي ومشاركة أعمق في حياتها، سنتأمل في آحاد الصوم الكبير في هذا الفصل، لأنه لا حياة روحية من غير اختبار وممارسة وحمل للصليب في قانونية الجهاد. ويعلمنا الإنجيل أن التوبة هي بداية الحياة المسيحية الحقيقية وشرطها الأساسي، فأول كلمات المسيح رب المجد في بدء كرازته كانت "توبوا" (مت 4: 7). ولكننا في زحمة حياتنا اليومية لا نفكر في التوبة، ونفترض أن كل ما علينا أن نذهب إلى الكنيسة وان نمتنع عن بعض الأطعمة في الصوم، عندئذ نكون صائمين، ولكن أمنا الكنيسة -الأمر الهام- رتبت أسابيع الصوم الكبير، كوقت مخصص للتوبة والجهاد الروحي، من اجل التمتع بفرح القيامة. وهذا الترتيب الطقسي الليتورجي لآحاد الصوم، يجب علينا أن نعيشه كحياة وعضوية في الكنيسة المقدسة البيعة الأرثوذكسية، لا على مستوى المعرفة بل على مستوى التذوق والتمتع بكل ما تدبره لنا من خلال طقسها الصيامي وروح الصوم الكبير وخدماته، فليس هناك شيء في العالم أجمل وأكثر حلاوة وغنى مما تقدمه لنا أمنا الكنيسة أورشليم الأرضية التي خارجا عنها لا يوجد خلاص. وهذه الأناجيل (أناجيل آحاد الصوم الكبير) ليست للترديد والإصغاء في الكنيسة فحسب بل القصد منها أن نحملها معنا إلى بيوتنا لنحياها ونلهج فيها ونتهجاها، عندئذ فقط نقف على حقيقة خبرة الصوم ونتأمله بالقياس إلى حياتنا فيطبع الطقس حياتنا اليومية، لان الإنسان المسيحي بجملته كائن ليتورجي عليه أن يتدرب كل حين على الصلاة والتسبيح والتمتع بمعية القديسين وبركة الحضرة الإلهية. ولأهمية الصوم الكبير، وضعت الكنيسة صوم نينوى قبله بأسبوعين وبنفس الطقس ليكون بمثابة تمهيد واستعداد للجو الروحي المناسب للتوبة ومحاسبة النفس والمواظبة على الصلاة، للتهيؤ لشركة صوم الأربعين المقدسة وأسبوع البصخة إلى أن تشرق علينا بهجة قيامته بسلام. والمسيح إلهنا عريس الكنيسة يعضدنا ضد خداع الشهوات، رب الكل الذي جرب من العدو إبليس لكي يعلمنا جميعنا فيه كيف ننتصر ونغلب ظافرين به،ويا لها من رحلة تعدنا فيها الكنيسة لنتتبع آثار خطوات الرأس عابرين من البرية إلى الفردوس، ولننظر أية طرق نسلكها، وها هو المسيح مخلصنا في البرية يعلمنا ونحن في برية العالم، ويدربنا ويمسحنا بالدهن المقدس ونحن ندعوه أن يرد لنا بهجة خلاصنا، وكل من يريد أن يقتنى مجد الإنجيل والقيامة، عليه أن يتدخل إلى العمق، ليلمس أن المسيح قد جاع لا إلى طعام بل إلى خلاصنا، فنغلب بالمسيح وفي المسيح بما سبق أن غلب به آدم، فلنحذر الشهوات الحسية والشراهة وسهام العدو، فتتغذى بالكلمة الإلهية ونقتنى طعام كلمة الحياة السمائي الذي بجوهره غير المنظور يثبت قلب البشر (مز 103: 15)، ولنبعد عن تجربة جناح الهيكل، فإبليس لا يستطيع أن يؤذى إلا ذاك الذي يلقى بذاته إلى أسفل حيث شبكة المجد الباطل، بل نفتخر بضعفنا، ونخدم إلهنا حتى يجازينا بثمار الحياة الأبدية، ولنهرب من كل ما هو تحت سيادة إبليس لئلا نقع تحت عبوديته المرة ولا نعود بعد نشقى أو نتثقل بالأحمال بل نرفع أصواتنا باتفاق مقدس في صوم وصلاة وسهر وأعمال رحمة وتمسك بالإيمان الصحيح في مواجهة البدع والهرطقات. إنها رحلة تأخذنا فيها الكنيسة إلى أحضان الآب السماوي، مرورا بالآحاد الليتورجية. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
الأحد الأول للصوم الكبير | أحد الاستعداد
** الأحد الأول للصوم الكبير. أحد الاستعداد. (مت 6: 20) تركز الكنيسة في هذا الأسبوع على الاستعداد، وتتحدث عن الصدقة والصلاة والصوم كممارسات تقوية، وعن أبانا الذي في السموات، وعن عدم الاتكال على المال، والبعد عن الرياء والغش والعصيان (أش 1: 3). فهدف الكنيسة هو العبادة بلا رياء، والعمل في خفاء، والاتكال على الله، والتوبة الإيجابية وأعمال البر، فنرى ملكوت الله وتتدفق فينا الحياة الإلهية. نسمع المسيح نبع الحياة ينادينا لكي نجعل كل كنوزنا في السماء ويحذرنا من محبة المال، (لا تقدرون ان تخدموا الله والمال، لا تهتموا لحياتكم.. اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم.. فلا تهتموا بالغد). ويجوز أن نسمى هذا الأسبوع "أبانا الذي في السموات"، حيث نشعر باهتمام الآب بنا، فلا نعود بعد نهتم بالعالم موجهين أنظارنا نحو السماء.. إن سبب الأمراض النفسية والعصبية والقلق والخوف والرعب من المستقبل، هو أن كنزنا في الأرض حيث قبض الريح. وترفعنا الكنيسة لكي ننشغل بالسماء حيث كنزنا الحقيقي، فنرى الله ونحيا في أحضانه، بعيدًا عن كنوز الأرض التي يفسدها السوس وتتعرض للصدأ وطمع اللصوص، نحيا في عبادة (الصدقة في الخفاء -لقاء الصلاة والحب الداخلى- الصوم والنسك ببهاء وسرور) سماوية نقية نسمع فيها للمشورة الإلهية بأن السماء والأرض تزولان (مت 24: 35). وتلفت الكنيسة أنظارنا إلى مراحم الله لنلتزم بها، وتطالبنا لنصالح خصمنا ونبعد عن المنازعات، وتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء كطبيعة داخلية تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء فيتحول كنزنا إلى فوق. والصوم هو وضوح الرؤيا ووضوح الهدف حتى لا يضيع العمر ولا تفنى السنين، بل نسعى نحو غايتنا السمائية وننشغل بأيدينا، ولأننا لا نقدر أن نعبد الله ونحب المال في ذات الوقت، لذلك قصدت الكنيسة في أحد الاستعداد أن تختار هذا الإنجيل لتسألنا عن سلامة الإيمان وسلامة القلب، وكل من لا يحترس لنفسه يكون نصيبه مع امرأة لوط، والغنى الغبي، وحنانيا وسفيرة، لذلك نصلى في مديحة الأحد (كونوا في المال زاهدين واتجروا في العشر وزنات ولا تسلكوا في الأمور بوجهين فالله يعلم ظاهرها وخافيها). وتوصينا الكنيسة في إنجيل هذا الصباح بالتسليم (قال لا تهتموا بالغد بالمرة فالغد بشأنه يهتم، واطلبوا ملكوت الله وبره والباقي يزاد لكم ويتم). وفيما نتجمع حول الكنز السماوي وطلب ملكوت الله، لابد أن نقتنى البصيرة الداخلية (العين البسيطة) التي تجعل الجسد نيرا، له هدف سماوي لا يتذبذب بين النور والظلمة (فلا تكونوا ذي لسانين والشرائع لا تحابوا فيها) فالعين يشبهها الآباء بالقائد إن سقط أسيرا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وبربان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع السفينة بالخيرات التي تملأها؟! والعين البسيطة هي التي لا تنظر في اتجاهين ولا تتضارب أهدفها بل يكون لها هدف واحد وفكر واحد بسيط وفريد غير منقسم ولا متذبذب، تلك العين البسيطة التي لا تعرج بين السماء والأرض لأن حب المال يجرى ورائه كثيرون، فيتسبب في بؤسهم واستعبادهم له، وكل من يخدمه (أي المال) يخضع للشيطان القاسي المهلك، ويصير مهلكا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه حيث ظلمة القلق والارتباط بشكليات العالم، فعوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعوض الاهتمام بالأبدية ينشغل بالعالم والأمور التافهة. كفانا عروجًا بين الفريقين، ولنحيا في الكنيسة أمنا ساعيين نحو خلاصنا ولنردد مع القديس أغسطينوس شفيع التائبين "لقد خلقتنا يا رب متجهين إليك وستظل قلوبنا قلقة إلى أن تستريح فيك".. إنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ ولنتأمل الذين كان يذكرهم بولس الرسول بالخير، والآن يذكرهم باكيًا إذ أحبوا العالم الحاضر وغنى هذا الدهر وهم أعداء صليب المسيح،وينبهنا القديس يوحنا الرسول: من أراد أن يكون محبا للعالم فقد صار عدوا لله، ولكن إن أردتم أن تتعلموا احتقار أباطيل العالم. اسألوا إبراهيم أب الآباء الذي كان يمتلك خيرات كثيرة ولكنه كان يرفع وجهه إلى اله السماء وينظر إلى الميراث الأبدي والمدينة التي لها الأساسات. اسألوا داود النبي الذي لم تشغله مهام الملك، ولا هموم الغنى عن شركته الحقيقية مع الله، وكان يسأل ويلتمس أن يسكن في بيت الرب ويتفرس في هيكله المقدس. اسألوا الرسل الحواريين الأطهار الذين تركوا كل شيء وحسبوه نفاية وخسارة من أجل فضل معرفة المسيح، وصاروا كفقراء، ولكنهم يغنون كثيرين، وكأن لا شيء لهم وهم يملكون كل شيء.. (ها قد تركنا كل شيء وتبعناك)، اسألوا القديس أنطونيوس العظيم الذي باع 300 فدان وتبع الرب، هل أعوزه شيء في كل أيامه التي عاشها حتى بلغ 105 سنة؟ اسألوا الأنبا بولا أول السواح الذي ترك العالم والأقرباء والميراث، اسألوا الغرباء الصغار مكسيموس ودوماديوس اللذين تركا الملك والغنى والكراسي. لقد أوصانا الرب بالبعد عن اهتمامنا الباطل بالعالم (لا تهتموا) من أجل التطلع للحياة الأبدية (أهدنا إلى ملكوتك)، لأنه من منا إذا اهتم يقدر أن يزيد عن قامته ذراعًا واحدًا، لأنكم أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد، لأنه ما هي حياتنا؟ إنها بخار يظهر قليلا.. فلا تكون أفكارنا مرتبطة بالأرضيات، نعمل ولا نهتم، ينصب اهتمامنا على ما هو أعظم لأجل بلوغنا الحياة الأبدية الدائمة. وتمتعنا بالأحضان الأبوية في هذا الصوم يجعلنا نتدرب على الاتكال والتسليم ويقينية الإيمان والرجاء الذي لا يخزى.. أحيانًا كثيرة نكتئب ونحزن ونرتبك وننسى إننا في يد الله الذي يحوط على كنيسته بسور من نار، وأعطاها الوعد الإلهي أن كل أله صورت ضدها لا تنجح وكل لسان يقوم عليها في القضاء تحكم عليه، وإنه هو في وسطها فلا تتزعزع إلى الأبد، وتعلمنا الكنيسة في تقليدها الليتورجي أن نصلى في تسليم كامل لله (اقتتنا لك يا الله مخلصنا لأننا لا نعرف آخر سواك اسمك القدوس هو الذي نقوله فلتحيا نفوسنا بروحك القدوس).. فلنتأمل طيور السماء التي يقويها الآب السماوي، واثقين إنه يعلم احتياجاتنا، فالارتباك بالأمور المنظورة هو نصيب من بلا رجاء في الحياة العتيدة، والذين بلا مخافة من جهة الدينونة المقبلة. |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
الأحد الثاني من الصوم الكبير | أحد التجربة ** الأحد الثاني من الصوم الكبير أحد التجربة (مت 4: 1-1) * كيف امتلأ المسيح من الروح القدس وهو مانح الروح القدس؟ * لماذا صام المسيح وهو غير محتاج للصوم؟ * كيف يجوع السيد المسيح مع انه هو الذي يعطى طعاما للجائعين؟ * ماذا ربحت البشرية من تجربة المسيح الأولى؟ * أراه جميع ممالك المسكونة * إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل * ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل |
رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
الأحد الثاني من الصوم الكبير | أحد التجربة ** الأحد الثاني من الصوم الكبير أحد التجربة (مت 4: 1-1) * كيف امتلأ المسيح من الروح القدس وهو مانح الروح القدس؟ * لماذا صام المسيح وهو غير محتاج للصوم؟ * كيف يجوع السيد المسيح مع انه هو الذي يعطى طعاما للجائعين؟ * ماذا ربحت البشرية من تجربة المسيح الأولى؟ * أراه جميع ممالك المسكونة * إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل * ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل في هذا الأسبوع تقودنا الكنيسة لندرك مفاهيم التجربة وأعماقها، هدفها تنقيتنا، ووسيلتها روح القضاء والإحراق، ونتيجتها مجد الداخل المغطى.. وبالتربة التي هي روح القضاء ودينونة النفس، وبالجهاد ضد الخطية الذي هو روح الإحراق، تتحول النفس إلى مجد العروس التي جاهدت وتعطرت وتزينت واغتنت بأسرار الكنيسة والإنجيل وعمل الروح القدس، فلا ندع التجارب تفقدنا بركة الصوم والتوبة، وتعطل رحلة الصوم، لأن الصوم هو ميعاد طلب الثمر الجيد والعنب الصالح.. إنه وقت الصراحة في الإيمان، فعندما يوجد صراع متزايد من المجرب يلزمنا أن نصوم حتى يقوم الجسد بالواجب المسيحي في حربه ضد شهوات العالم بالتوبة وحث النفس على النصرة في اتضاع، لذلك نقول في المديح (لأنه مخادع ولعين والساهرين لا سلطة له فيهم، بل في ذرى اللهو المتغافلين وسط أشواكه يرميهم). ولأن البرية (برية سيناء) كانت برية تجارب انتصر فيها الشيطان، لذا ففي العهد الجديد أخذ المسيح إلهنا شعبه (كنيسته التي هي جسده) وجاز به غالبا الشيطان محطما قوته، وصار ذليلًا مطرودًا. الشيطان الأفعوان المتمرد جلب علينا الخطية وجعل الموت والفساد يسودان الأرض. وأما المسيح فقد جاء لكي يجعلنا به وفيه نربح الغلبة ونفوز بالنصرة من حيث انهزمنا وسقطنا في آدم، لقد تقابل على الجبل رئيس الخطية مع رب المجد يسوع فلنتهلل ولنسبح مرنمين لإلهنا ومخلصنا المسيح ابن الله، ولنطأ الشيطان والحية تحت أقدامنا رافعين صوت الهتاف والنصرة لأنه الآن قد طرح وسقط، لنتهلل فرحين لان الثعبان الماكر والحية المختالة قد أمسكت في فخ لا فلات منه لان النصرة لحسابنا وحقا كان لائقا بذاك الذي جاء ليحل موتنا بموته، أن يغلب أيضًا تجاربنا بتجاربه ويقول القديس أنبا مقار (إن أول العصيان كان من آدم في الفردوس بسبب شهوة الطعام، وأول الجهاد من سيدنا المسيح في البرية في الصوم.. فصوموا مع المخلص لتتمجدوا معه وتغلبوا الشيطان). ويقول الأنبا يوساب الأبح (أتانا الابن الوحيد وأول درس عمله وعلمه لإنارة طريق الخلاص ليعتقنا من السقوط الذي لآدم بشهوة الأكل، هو إنفراده في البرية أربعين يومًا). (أنا يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس). امتلاؤنا من الروح القدس هو قوتنا في مواجهة تجارب الشيطان، لقد انعم علينا سيدنا بامتياز البنوة وصرنا شركاء الطبيعة الإلهية، لسنا بعد أولادًا للحم والدم بل ندعوه بالحري أبانا السماوي وصار هو بكرا لنا بين إخوة كثيرين نحن الذين قد شابهناه، وهو قبل على نفسه فقرنا وقبل أن يتقدس بالروح القدس مع أنه هو مقدس كل الخليقة ولم يرفض أن يصير إنسانا من أجل خلاص وحياة الكل، بل قد صار شبيها لنا في كل شيء ما خلا الخطية. * كيف امتلأ المسيح من الروح القدس وهو مانح الروح القدس؟قد صار جسدًا أي إنسانًا غير محتقر لمسكنتنا، بل لكي نغتني نحن بما له فصار شبيهًا لنا في كل شيء ما عدا الخطية وحدها، لقد قبل أن يتقدس كإنسان من أجلنا وهو الذي يقدس الكل كإله وحل الروح القدس عليه كالتدبير لأجل إنسانيته. * لماذا صام المسيح وهو غير محتاج للصوم؟لقد صام ليضع نصب أعيننا أعماله قدوة وليؤسس سر النصرة والغلبة وطريقة سكن البراري، لأن بهذا يغلب.. وهكذا وضع نفسه لنا مثالا يُحتذى به، فهو صام عنا ولأجلنا وانتصر لنا لننتصر به، مؤسسا بصومه سر اللاهوت النسكي والحياة الرهبانية ليلهمنا الطريق الذي نسلك فيه، وفي الواقع نحن في المسيح فزنا بكل هذه البركات، فالسيد يظهر بين المجاهدين بينما هو كإله يمنح الجائزة للفائزين ويبدو بين اللابسين الأكاليل بينما هو الذي يضع الأكاليل على رؤوس الغالبين مكللا بالمجد كل أحد ونحن فيه قد ربحنا كل شيء لحسابنا، لقد غلب وأفحم خبث الشيطان لذالك يدعونا القديسون دائما أن نثبت أنظارنا على مسيح البرية كقائد لنا في حياة النسك. فيقول مار اسحق "إن المسيح يتقدمنا بنفسه في هذا الموكب النسكي صائمًا معتزلًا مصليًا". وقد انطبعت روح الآباء هذه في صلوات الكنيسة فلا زالت الكنيسة في عبادتها الليتورجية أثناء الصوم تثبت أنظارنا في المسيح كقائد ناسك مظفر (تعالوا وانظروا مخلصنا محب البشر الصالح صنع فعل الصوم مع عظم تواضعه وعلمنا المسير لكي نسير مثله) ذكصولوجية الصوم المقدس. * كيف يجوع السيد المسيح مع انه هو الذي يعطى طعاما للجائعين؟جاع أخيرا مع انه هو الذي طعاما للجائعين وهو الذي يشبع كل الجياع ببره بل هو نفسه الخبز النازل من السماء ولكنه من جهة أخرى لم يرفض فقرنا فكان يليق به أن لا يترفع عن أي شيء يتعلق بمسكنتنا الإنسانية الضعيفة، فهو اخذ الذي لنا وأعطانا الذي له، وهو الذي افتقر وهو غنى لكي نستغني نحن بفقره (2كو 8: 9) لقد جاع ليؤكد حقيقة ناسوته فهو جاع معنا ولنا ليعطينا الشبع والغنى، وبنفس هذا الجوع انتصر على الشيطان، فلم يصعد (إلى البرية) كمن هو ملزم أو من هو أسير إنما صعد باشتياق إلى المعركة، وان كان الشيطان يذهب إلى الإنسان ليجربه، إلا إنه لا يستطيع أن يهاجم المسيح، لذا ذهب المسيح إليه. قال إبليس: توهم إبليس أن ألم الجوع سيحقق مقاصده الشريرة وقال له (إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا) وهنا الشيطان يجرب المسيح كأنه إنسان عادى أو كواحد من القديسين لأنه كان مرتابًا في أن يكون هذا هو المسيح، فأراد المحتال الماكر أن يتحقق من إلوهيته المسيح معتبرًا أن تحويل طبيعة شيء سيكون من عمل وفعل قوة الله وقدرته، وعلم المسيح دهائه وحيله الماكرة فلم يحول الحجر خبزًا (كما حول الماء في عرس قانا الجليل إلى خمر) وصد إلحاح الشيطان وفضوله قائلا (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان). * ماذا ربحت البشرية من تجربة المسيح الأولى؟بشهوة الأكل انهزمنا في آدم وبالتعفف والصوم في المسيح قد غلبنا وانتصرنا، أن الإنسان الأول إذا أطاع بطنه لا الله طرد من الفردوس، لان الطعام الذي ينبت من الأرض يقوت الجسد أما الروح فتتغذى بكلمة الله، فالأرض تغذى الجسد الذي هو منها أما الروح فقوتها كلمة الله والخبز الروحي الذي يشدد قلب الإنسان. فالنفس الناطقة العاقلة غذائها معرفة الكلمة (اللوغس) لقد أراد الكذاب أن يوهم البشرية أن حياتها كلها لا تقوم بالطعام ولكن الرب علمنا أن الحياة لا تقوم إلا في الابن في شخصه وحده. * أراه جميع ممالك المسكونةوقف الشيطان الماكر ليرى الرب كل ممالك المسكونة (هذه كلها لي فإن سقطت وسجدت لي أعطيها لك)، لقد اغتصب احتيالا ممالك الله، لقد قال إشعياء النبي (هل اعد ذلك لكي تملك؟ إنها بحيرة عميقة، نار وكبريت وحطب معد، غضب الرب كبحيرة متقدة بنار وكبريت) (أش 33: 3) فكيف ينسني له وهو الذي نصيبه النار التي لا تطفأ أن يعطى السيد المسيح الممالك التي له؟ فكيف أن الذي تسجد له الكراسي والأرباب سيسجد لهذا المنجوس! انه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد، وهكذا أصابت هذه الوصية من الشيطان مقتلا وهو الذي خدع كل الذين تحت السماء.. لقد بكت السيد المسيح العدو الشيطان على تضليله العالم وعلى جعله الكل يسجدون له، وبهذا وضع حدا نهائيا لعبادة الشيطان، هكذا غلب وانتصر لحساب البشرية كلها. * إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفلوهى تجربة "المجد الباطل" فهو يسأل عن برهان الألوهية، فأجابه الرب (إنه قيل لا تجرب الرب إلهك) لأن الله لا يسعف الذين يجربونه ولا يعطى المعونة لهم بل للذين يؤمنون به، من أجل ذلك لم يعطى المسيح آية قط للذين يجربونه. (جيل شرير وفاسق يطلب آية لا تعطى له آية) (مت 12: 19). وهكذا فقد غلبنا في المسيح وفزنا بالنصرة فيه، ورجع إبليس بالخزي الذي غلب آدم وتمكن فيه قديمًا، وقد ذهب الآن خائبًا لكي ندوسه تحت الأقدام لأن المسيح الذي صام عنا ومن أجلنا وجرب لينتصر لحسابنا، وغلب وسلمنا القوة لنغلب وأعطانا القدرة على النصرة والإمكانية على الغلبة، إنها علاقة كيانية حميمة اتحادية لأننا في المسيح الذي قال (ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو) (لو 10: 19) وهنا نرى أن الشيكان يستخدم آيات في حروبه معنا ويستخدم كلام الكتاب لي يخدعنا ويقولها مريدا أن يسقطنا. * ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليللقد سكن الرب البرية وصام عنا وجرب من الشياطين وهناك فاز بالنصرة لنا، وسحق رأس التنين، لقد ساد على الشيطان ووضع الإكليل على طبيعة الإنسان في شخصه المبارك بالغنائم التي اغتنمها بنصرته، ثم عاد إلى الجليل ليمارس سلطانه وقوته ويجرى العجائب ويصنع المعجزات لأنه ابن الله. لقد انهزم الشيطان وغلب من المسيح في ثلاث مواقع التجربة على الجبل ويسوع لم يكن وحده يجرب. بل كان لابسا جسدنا متحدا بنا، كنا فيه ومعه وحين ندخل التجربة اليوم لا ندخلها وحدنا، وهو يجرب معنا وفينا، يقول الكتاب (ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين) أي ليستأنف التجربة معه فيما بعد، وهو يتقدم إلينا يمجد اسمه فينا فجين يجربنا الشرير لا يكون هدفه أن يهزمنا فقط بل أن يعبر المسيح الغالب والساكن فينا فنحن في الجهاد والحرب مع الشيطان لا ننتصر بقوتنا بل باسم رب الجنود الذي يحارب معنا وهو المجرب فينا والمنتصر لحسابنا أيضًا ولا يمكن أن تتم النصرة إلا اختبر الإنسان الفداء واقتنى المؤمن قوته من سر التناول، ليمضى المؤمن ويقول للسيد المسيح (تقدم أنت) (تث 5: 27) وواجه هذا التعيير، وانتصر معي ولحسابي، وكل تجربة هي امتحان لبنوتنا لله، فلنحترس إذن لأننا أبناء الله.. وتعلمنا الكنيسة انه لن يكون الصوم بالامتناع عن الطعام بقدر ما يكون بالشبع الروحي من طعام الحياة جسد الرب ودمه لان ملكوت الله ليس أكلًا ولا شُربًا، وليست العبادة مظاهر اجتماعية أو استعلاء على الآخرين، نحن كخدام نخدم في القرى والأحياء النائية علينا في هذا الصوم أن نوصى من نخدمهم بضرورة وحتمية التقدم للأسرار الإلهية خلال فترة الصوم، علينا أن نقدم المسيح الذي فيما هو مجرب قادر أن يعين المجربين، وان ننقل الحياة الكنسية المقررين من خلال العظات والكلمات وتحفيظ الترانيم ومدائح الصوم الكبير ليشبع الجميع بالروح ولنعلم ونعيش واثقين أن غلبة آدم الثاني ربنا يسوع المسيح لعدو جنسنا الشيطان تمت للإنسانية المتألمة لتصير خبرة حياة كل مؤمن بالمسيح ويقبل كلمة البشارة، وهذه هي صورة آدم الأول النفساني الترابي الذي هو علة السقوط وآدم الثاني المحيى السماوي الذي هو موضع النصرة، إن تجارب الشيطان توجه بالأكثر ضد الذين تقدسوا، لأنه يشتاق بالأكثر أن ينال النصرة على الأبرار. ويعلمنا السيد المسيح أن لا ندخل في حوار الشيطان لان آدم الأول ضل وانهزم بسبب دخوله في حوار مع الشيطان الذي خدعه هو وحواء برجاء كاذب وأقصاهم عن الخيرات الحقيقية، ولكن المسيح رب المجد آدم الثاني رفض مشورة الشيطان -مع أن في قدرته أن يفعلها- حتى يعلمنا أن نرفض فعل أي شيء ارتجالًا أو عبثا.. ونعلم أن المسيح كان حريصا على إخفاء لاهوته في حواره مع الشيطان، لقد اتخذ المسيح جسد طبيعتنا واتحد بنا في علاقة حياتية حميمة كيانية وليس هناك من سبيل على الإطلاق للتمتع بكنوزه المذخرة لنا إلا بالتلامس الاختباري معه، إن السيد المسيح صام عنا ولأجلنا وما تم في التجربة إنما هو لأجلنا ولكي يعلمنا (تعلموا منى) انه ليس تعليم الدرس والتلقين ولكن تعليم الخبرة والممارسة والتذوق والتلامس والاختبار، ولابد أن نتلامس ونمارس ونختبر ليصير التعليم حياة وخبرة فعالة نعيشها لأن يسوع صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة ولأنه يهدف إلى تعليمنا من كل ما عمله وأجتازه.. نعم أننا نحمل الأسلحة لا لنكون عاطلين بل لنحارب بها، فصوم الرب أربعين يوما يدلنا على أدوية الخلاص، وأصر المسيح على أن لا يصوم أكثر من موسى وإيليا لئلا نشك في أنه أخذ جسدنا (جسد مثلنا) ولقد سمح المسيح لنفسه أن يجرب وهو ابن الله لكي يعيننا فننتصر في التجارب ليس فقط بقدرتنا ولم بمعونته وقدرته (لأنه في ما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين) (عب 2: 18) لقد احتمل أن يجرب من الشيطان لكي نتعلم فيه كيف نظفر به، لقد جاع في البرية حتى ما يكفر بصومه عن الطعام الذي ذاقه آدم الأول بعصيانه، فلنتبع إذن آثار خطواته ونحن نعبر من البرية إلى الفردوس، فالآن ها هو المسيح في البرية يدفع الإنسان إليها ليعلمه ويشكله ويدربه، لنتعلم أن نغلب في المسيح ما سبق أن غلب به آدم.. انظروا أسلحة المسيح التي ظفر بها لأجلنا، انه لم يستعمل قوته كإله لأني ماذا كنت أفيد من ذلك! وهو قد اظهر أيضًا في نفس الوقت بقوله (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) انه تجرب بالجسد الذي أخذه وسرقة مجد الله ولنهرب من كل ما هو تحت سيادة إبليس وعبوديته المرة، لقد قام لنا السيد نفسه نموذجا لمصارعة تجارب إبليس والانتصار عليه في تجربته المثلثة على الجبل، وهو الآن يغلب عدو الخير الذي يحاربنا عندما يقف بجوارنا يقوينا ويسندنا في تجاربنا، ولا ننسى أن عدو الخير لم ييأس من فشله هذه المرات الثلاث أمام المسيح لكنه تركه إلى حين، إن الرب أعطانا في تجربته على الجبل كيف نستطيع أن ننتصر، فهو قائدنا الذي سمح لنفسه بالتجربة حتى يعلمنا نحن أولاده كيف نحارب العدو الشرير، لقد غلب تجاربنا بتجاربه، وذهب المسيح إلى الشيطان بحسب قول القديس يوحنا فم الذهب، فالمعركة ضد إبليس من اجلنا ولحسابنا، فالمسيح صام ليقدس أصوامنا بصومه كالأم التي تتذوق الدواء أمام طفلها المريض حتى يشرب منه، من اجل هذا تقدس الكنيسة هذا الصوم بكونه قد تقدس بصوم السيد نفسه، وتقدم موضوع التجربة في قراءات الأسبوع الثاني من الصوم لتعلن لأولادها انه حيث يوجد الجهاد تقوم الحرب وحيث توجد الحرب يلزم الجهاد الروحي. وعلينا أن ننتبه كخدام إلى التجربة الثالثة التي تمس العبادة ذاتها لان العدو يقدم لنا كلمات الكتاب مشوهة ليحول عبادتنا وخدماتنا إلى شكليات واستعراضات ورياء حتى عرض أن نصعد منطلقين نحو السماويات ننطرح من جناح الهيكل إلى أسفل لان الشكل والرياء تحول عن الغاية الحقيقية التي هي خلاص نفوسنا والذين يسمعوننا أيضًا.. لقد انتصر المسيح لحسابنا، لندوس العدو بالأقدام ولنسهر إذن على خلاص أنفسنا، والمسيح إلهنا الذي غلب العالم والشيطان يحفظنا بلا لوم لحين ظهوره.. بصلوات حبيبنا البابا المكرم الأنبا شنودة الثالث. |
الساعة الآن 02:40 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025