منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   كلمة الله تتعامل مع مشاعرك (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=45)
-   -   وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=25)

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:36 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
الكنيسة والحركة المسكونيّة ملاحظات واستنتاجات!

نحن في مدى الكنيسة وعمقها. الكنيسة كجسد الرّبّ يسوع المسيح له المجد. “نحن أعضاء جسده، من لحمه ومن عظامه” (أفسس 5: 30). ولكنْ، هل جسد يسوع غير الرّبّ يسوع، أعني شخص الرّبّ يسوع المسيح؟ أتُرى الكنيسة جزء منه، امتدادٌ له، أم هي إيّاه بالذّات؟ أتُراها ضربٌ من المؤسّسة باسمه، أمْ هي حضورُه في الملء ممتدًّا إلى الأبد؟
لا هي جزء منه ولا هي مؤسّسة باسمه! عندما أسَّس السّيِّد سرَّ الشّكر أعطى تلاميذه –وإيّانا من خلالهم– جسدَه ودمَه. هذا يعني، عمليًّا، ذاتَه بالكامل. يومذاك أسّس الكنيسة! جسدُه بمعنى ذاته، ودمُه بمعنى حياته. عندما أبان الرّسول المصطفى أنّنا من الآن –من المسيح صُعُدًا– لا نعرف أحدًا حسب الجسد؛ وإن كنّا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكنْ الآن لا نعرفه، بعد؛ عندما أبان الرّسول ذلك أراد أن يلقي الضّوء على ما أسماه “الخليقة الجديدة” (2 كورنثوس 5: 16 – 17)، أي على الكنيسة الّتي هي إيّاه الرّبّ يسوع المسيح.
التّلاميذ عرفوا الرّبّ يسوع، قبل القيامة والصّعود والعنصرة، بالجسد البشريّ. أمّا نحن فنعرف الرّبّ يسوع في الرّوح القدس. هذا لا يجعل معرفتنا به ومقاربتنا له بمعزل عن بشرته، بل يجعلها معرفة من نوع جديد: إلهيّة بشريّة، أو قل: إلهيّة في البشرة! لا إلهيّة فقط بل إلهيّة بشريّة. ولا روحيّة فقط. الرّوح البحتُ نحن لا نعرفه. لذا متى قلنا “روحيّة” عنينا ما هو بشريّ ولكنْ متروحنًا. ما هو روحيّ ولكنْ في البشرة كواحد وإيّاها.
تجسُّدُ المسيح أتى بنا إلى خليقة جديدة، نتعاطى، فيها، الرّوحَ بشريًّا، كما نتعاطى البشرة روحيًّا! مَن يَحسبون أنّ ثمّة فصلاً، بعدُ، بين ما للجسد وما للرّوح، وأنّ للجسد جسديّاته، فيما الرّوحيّات قصْرٌ على ما للرّوح، يخطئون! الجسد، في ذاته، عند ربِّك، لا ينفع شيئًا، الرّوح هو الّذي يحيي! لقد بتنا في حيِّز آخر جديد بالكلّيّة من الوجود. في المسيح، نحن نتعاطى كلّ ما للإنسان، من أبسط أموره إلى أعقدها، ولكنْ روحيًّا، أو قل تجسّديًّا، لا جسديًّا، أي على نحو إلهيّ بشريّ!
هذا المعطى الجديد، هذا الكيان الجديد، هذا الواقع الجديد، ومن ثمّ هذا المدار الجديد، هو إيّاه الكنيسة! وما دام الأمر كذلك فالجسد في الكنيسة واحد، وكنيسة الجسد واحدة، لأن هذا هو إيّاه، في كِلا الحالين، المسيح الرّبّ. كذلك الرّوح في الكنيسة واحد، إذ وحده يعطينا أن نكون من المسيح الواحد وأن نحيا فيه. على هذا، لا يمكن الكنيسة إلاّ أن تكون واحدة، وفي كلّ حال. لا أحد ولا قوّة، خارج المسيح، يهدِّد وحدة كنيسة المسيح. وحدتها بديهيّة! فلا المسيح قابل للتّجزئة ولا روحه القدّوس!
عندما نساهم القدسات، فإنّنا نأخذ، من المنظور، ما هو جزء؛ ولكنْ، هذا الجزء المنظور، المحسوس، يحوي المسيحَ كلَّه واحدًا غيرَ منظور، وكذا الرّوحَ كلّه. بكلام آخر، وربّما أدقّ، اللاّمنظور يتجلّى في المنظور، كما في الكتاب المقدّس، أو كما في الأيقونة!
من هنا كون الكلام على كنيسة منقسمة تصوّرٌ غير صحيح. المسيحيّون وحدهم ينقسمون فئات متخالفة وفرقًا متصارعة. لكنَّ الكنيسة شيء والمسيحيّين شيء آخر. الكنيسة قائمة، ربّما، في هذا أو ذاك ممّن نعتبرهم مسيحيّين، والمسيحيّون في الكنيسة. غير أنّ الكنيسة ككيان والمسيحيّين كجماعة لا يتماهيان! طبعًا، في الاستعمال تَرِد لفظة “كنائس” بمعنى “جماعات المؤمنين”، هنا أو هناك. ولكنْ، في الاستعمال الأساسي والعميق، لفظةُ “الكنيسة” تَرِدُ بمعنى “جسد المسيح”. لذا متى أردنا أن نستدلّ على إحدى الجماعات/ الكنائس القويمة نقول: الكنيسة الّتي هي هنا أو هناك، إشارة إلى الكنيسة الواحدة في كلّ جماعة أو مكان، الكنيسة الواحدة في ملئها، في الرّوح والحقّ، هنا أو هناك. فإذا لم يكن ملءُ الكنيسة ووحدتُها متمثّلَين في مكان محدّد وجماعة محدّدة، فإنّنا لا نتكلّم، بالمرّة، على الكنيسة الواحدة الحقّ الّتي هي في هذه الجماعة وذاك المكان. في هذه الحال، حتّى ضمن الجماعة الواحدة، يمكن أن يكون الإنسان من الكنيسة، ويمكن أن لا يكون؛ أو قل: يمكن أن تكون الكنيسة فيه، ويمكن أن لا تكون. من الممكن، إذًا، أن تكون هناك كنائس، ولكنْ، هذا لا يعني، بالضّرورة، أن يكون كلُّ مَن هو من هذه الجماعات/ الكنائس في الجسد، في الكنيسة، في المسيح، ومنه! يجيء مثلُ ذاك من مسيحيّة ما، ربّما مزغولة، ولا يأتي من مسيح الرّبّ وروحه بالضّرورة!
ثمّة مَن يُحسَبون، إذًا، في جماعة كنسيّة دون أن يكونوا في الكنيسة الإلهيّة البشريّة الحقّ! بإمكان المسمّى مؤمنًا أن يكون انتماؤه إلى الجماعة الكنسيّة خارجيًّا: معمَّد، يدين بدستور الإيمان، يساهم القدسات، يتعاطى الأسرار الكنسيّة، وحتّى يصوم ويصلّي؛ دون أن يكون في الكنيسة، في المسيح؛ أي دون أن ينتمي، في الرّوح والحقّ، كما قلنا، إلى الكنيسة الواحدة الّتي هي جسد المسيح. طبعًا، الانتماء إلى جسد المسيح، أن يكون الإنسان عضوًا حيًّا في جسد المسيح، يتضمّن أن يكون معمَّدًا، كما يتضمّن كلّ ما ذكرناه أعلاه، ولكنّه يعني، أوّليًّا وجوهريًّا، أن يحيا في مستوى الإيمان الحيّ الفاعل بالمحبّة. الانتماء إلى الكنيسة بالمنظورات وحدها لا يكفي. نحن نَرى ما لا يُرى، ونحيا في مستواه، نلتزمه بالكامل، ولو اعتللنا، بسبب ضعفنا، بالخطيئة! نحيا في مستوى ما هو منظور من إيماننا بالرّبّ يسوع، ولكنْ من منطلق ما هو غير منظور، لجهة الإيمان الحيّ الكامل بالرّبّ يسوع والفاعل بالمحبّة!
هذه المكوِّنات/ الحقائق تطرح موضوع الوحدة الكنسيّة، أو قل تحتّم طرحه طرحًا لا بشريًّا، بل إلهيّ بشريّ. لا الوحدة موضوع صيغ إيمانيّة كلاميّة ولا شركة طقوس! لا هي مسألة رأس بشريّ واحد، ولا مجمع واحد، ولا هي مسألة إدارة موحّدة متكاملة! لا هي تراكم أجساد وتلاقي طوائف، ولا هي تلاقي رؤى أيديولوجيّة في تعاطي الجماعات، فيما بينها، أو في تعاطيها مع العالم! الوحدة الكنسيّة لها، طبعًا، هذا وذاك من الوجوه: صيغ إيمانيّة واحدة، أو موحّدة، وطقوس ذات بُنى أساسيّة واحدة، ومدبّرون ذوو مواهب مختلفة، وإدارات تسيِّر أمورها بلياقة وترتيب، وتعاون وتفاهم بين الأفراد والجماعات، هنا وثمّة. هذا كلّه وارد باعتبار واقعنا البشريّ المجتمعيّ، وبصفته المجال الّذي يمكن أن تثمر فيه الوحدة المسيحيّة الحقّ! لكن هذا كلّه ليس هو ما يحقّق الوحدة الكنسيّة، بل ما يتجلّى فيه التّعبير عنها! اعتبارُه الأساس في استعادة الوحدة، بعد الانقسام المزعوم للكنيسة، يقدِّم ويستعيض بما هو بشريّ نظريّ ترتيبيّ عمّا هو من الرّوح القدس الحيّ. كذلك، يجعل الرّوحَ، وتدابيرَ الرّوح، في مستوى الداعمة، في الأذهان، لتدابير البشر، بعضًا من تحصيل حاصل؛ أو قل صفةً تُضفَى على ما يرتئيه النّاس وفقًا لقناعاتهم ومصالحهم واستنساباتهم! بكلام آخر، ينسبون إلى روح الله ما هو منهم ولهم، وبذا يؤلِّهون ذواتهم، باختلاس ما لله، تاركين ما هو لروح الله، مِن الرّوحيّات، مسيَّبًا، مغمورًا! وفي ذلك ضلال كبير!
ليكن واضحًا أنّ وحدة الكنيسة محقَّقة، أبدًا، ويضمن استمرارَها روح الرّبّ. النّاس، كمؤمنين، يجعلون أنفسهم في مسار الإلهيّات، في الرّوح، في المسيح. يسلكون، بأمانة، في الرّوح والحقّ،؛ يتعاطون الأسرار الكنسيّة؛ يحفظون الوصيّة؛ يلزمون التّوبة؛ يتدرّعون بالفضائل المسيحيّة؛ يتسلَّحون، أبدًا، بالصّلاة، باسم الرّبّ يسوع؛ يثبتون في محبّة الله والإخوة؛ يتمِّمون الكلّ للمسيح في الحياة والممات! فإن أقاموا على ذلك، صاروا، في الرّوح، واحدًا والله، ومن ثمّ واحدًا فيما بينهم! وحدةُ الكنيسة لسنا نحن مَن يحقِّقها؛ وما يمكن أن نحقِّقه نحن، لجهة وحدة الكنائس، لا يتماهى، بالضّرورة، والكنيسة الواحدة، كنيسة المسيح والرّوح القدس، كنيسة الله الّتي اقتناها بدمه! نحن، فقط، نشترك في الكنيسة الواحدة أو ننقطع عنها، ننتمي إليها أو نكون غرباء عنها بالرّوح والحقّ! إذًا، وحدة الكنيسة كائنة في الرّوح القدس؛ ثمّ بالرّوح تنعكس علينا في علاقتنا فيما بيننا. من تحت إلى فوق، ثمّ تتنزّل علينا، إلى ما هو فيما بيننا، لتجمعنا الواحدَ إلى الآخر، وترفعَنا، جميعًا، كواحد، إلى الآب الواحد!
على هذا، مَن يطلبون الوحدة المنظورة فيما بينهم، ولا يعملون حثيثًا من أجل أن يصيروا واحدًا والله، يقعون، من حيث لا يدرون، في الوثنيّات الكنسيّة، وتاليًا في النّفسانيّات الشّيطانيّة (يعقوب الرّسول)، ويهيِّئون لا لمجيء مسيح الرّبّ: “أيّها الرّبّ يسوع تعالَ”، بل لمجيء ضدّ المسيح، من حيث لا يدرون!
فيما تتّسع دائرة الارتداد الفعليّ الكبير، الّذي تحدَّث عنه الرّسول المصطفى بولس، في رسالته الثّانية إلى أهل تسالونيكي، وفيما يستمرّ، حثيثًا، عملُ الحركة المسكونيّة نحو الوحدة المزعومة للكنائس، يحقّ لنا أن نتساءل: هل القصد، في العمق، هو الكنيسة الواحدة، فعلاً، أم القصد شيء آخر؟ إذا كان القصد، بصدق، هو الكنيسة الواحدة، فلا شكّ أنّنا بإزاء مغالطة بحاجة إلى تقويم. أنوِّه، هنا، بموقف الأب جورج فلوروفسكي، إبّان تأسيس مجلس الكنائس العالميّ (1938)، الّذي حدّد، منذ البدء، أنّ الكنيسة واحدة، وأنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الرّوميّة هي المحافِظة الوحيدة على الوجدان الرّسوليّ، عبر التّاريخ إلى اليوم؛ وأنّ دورها، في مجلس الكنائس، هو مساعدة غير الأرثوذكس في استرداد ذاك الوجدان الرّسوليّ المفتقد لديهم. هذا إذا ما كان القصدُ، عن حقّ، هو الكنيسة الواحدة. أمّا إذا كان القصد آخَر، وهذا ما يبدو لناظر الكثيرين، فالخشية أنّ المرتجى الفعليّ هو توحيد الكنائس مقدّمةً لتوحيد ديانات أهل الأرض، دعمًا للتّعايش فيما بينهم، ما ينطوي، في أفهامنا، على قصد عميق هو، في نهاية المطاف، القضاء المبرَم، باسم وحدة الشّعوب، على كنيسة المسيح بإفراغها من مسيحها وروحها، وتأطيرها بالإطار العقليّ النّسبيّ. ومن ثمّ اعتبار مسيح الرّبّ واحدًا من مجمع آلهة مُحدَث! أمّا الكنيسة، فعليًّا، فيُصار إلى الفصل بين كونها المسيح إيّاه وكونها مؤسّسة باسمه! في هذه الحال، يُصار إلى الاكتفاء بهيكلها البشريّ الكلامي الحجريّ الطّقوسيّ التّاريخيّ التّنظيميّ! إحساسنا، في العمق، أنّ ما يطالعنا، في هذا الاتّجاه، هو، بالأحرى، مَسعى حثيثٌ إلى “متحفة” الكنيسة و”نفسنتها” ودهرنتها!
في هذه الأثناء، في غفلة عن الأنظار، وبعيدًا عن الأضواء الدّهريّة، على نحو ما جرى في مغارة بيت لحم، أصلاً، ثمّة “قطيع صغير” تَنْهَدُ النّفوسُ فيه إلى ربّها، مِن الّذين ينشدّون بروح الله إلى روح الله، في توق وشوق وولهٍ عارم إلى مَن فوق. هؤلاء تنبعث منهم رائحة الطّيب الإلهيّ لتنتشر فيما بين الّذين لم تتعطّل فيهم، بعدُ، المشام الرّوحيّة! وحدهم هؤلاء تتجلّى لهم وحدة الكنيسة بهيّة، كاملة في ملئها، فيما يبحث الأكثرون، في عَطَب بصيرتهم، عن الكنيسة العروس، المَقولِ عنها ضائعة! أين؟ في غياهب ظلمات العقل وظلال الموت، موت الحسّ الوجدانيّ القويم، بين ركام الأوهام والبدع المقامةِ بديهيّاتٍ مُحدَثة!
خلاصة الكلام أنْ أعطني، وكفى، هاجسَ قداسةٍ أصيلاً أدلّك على مَن يعملون، حقًّا، على إبراز تجلّيات وجه العروس، الكنيسة الواحدة الحقّ! بغير ذلك، عبثًا تبحث عنها وعبثًا تسعى إليها!
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:41 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
البطريرك

رأس الكنيسة المحلية (الأبرشية) هو الأُسقف. والكنيسة المحلية هي الموصوفة كالكنيسة العالمية واحدة، جامعة، مقدّسة، رسوليّة. على هذا الأساس الرسوليّ تأتي كل كنيسة يرئسها أُسقف أرثوذكسي. بتطور الأزمنة أخذ أُسقف العاصمة يسمّى “ميتروبوليت” التي صارت “مطران” بالعربية عن طريق اللغة السريانية.
غير أن الميتروبوليت تسمية شرفية لأسقف العاصمة ولكنه -على صعيد الأسرار الإلهية- هو مجرّد أسقف. من سُمّي “رئيس أساقفة” أو “ميتروبوليت” أو “بطريركًا” يبقى في جوهر الأسرار أُسقفا. الميتروبوليت أو البطريرك ليسا مرتفعين دينيا عن الأُسقف الا من حيث الترتيب المجمعيّ.الميتروبوليت في القديم يرئس مجمع الأساقفة.
في منتصف القرن الخامس ظهر المتروبوليت الذي بقي -دينيا- أُسقفا ولكنه يرئس الأساقفة في النظام المجمعي. يتقدمهم ويكون الاول بين إخوة متساوين. جوهريا، الأساقفة مهما كانت مقاماتهم الإدارية هم أساقفة فقط. يجتمعون بإقامة رئيس أساقفة أو ميتروبوليت أو بطريرك.
البطريرك يرئس من لهم لقب أُسقف أو مطران أو رئيس أساقفة. على صعيد الأسرار، البطريرك مجرّد أُسقف، وليس من أحد دينيا فوق الأسقف. البطريركية ليست درجة، هي ترتيب تنتظم فيه حياة الجماعة.
في الوضع الحاضر عندنا صارت الميتروبوليتيّة مجرّد تسمية للأسقف. كل رئيس أبرشية في الكرسي الأنطاكي صار يسمّى “ميتروبوليت”. ليس هذا هو الوضع في الكنائس الأخرى.
الميتروبوليت القديم صار لقبه بطريركًا في أواسط القرن الخامس، وهو يرئس المجمع المقدس كله. ثم اندثر عندنا مقام المتروبوليت كرئيس لمجمع صغير يؤلّفه الأساقفة المحليّون. وصار كل رئيس كهنة في الكرسي الأنطاكي يدعى “ميتروبوليت” أو مطرانا. والمطارنة أصحاب الأبرشيات يؤلّفون مجمعا برئاسة البطريرك.
المجمع المقدّس هو اجتماع مطارنة كنيسة مستقلّة، فهناك، على سبيل المثال، المجمع القسطنطيني يرئسه بطريرك القسطنطينية، وعندنا المجمع الأنطاكي الذي ينعقد برئاسة البطريرك الأنطاكي.
البطريرك يرئس المجمع ويسعى الى التقارب الروحي بين الأبرشيات ويتّصل برؤساء الكنائس الأرثوذكسية المستقلة ويعبّر عن وحدة الكنيسة الأنطاكية تجاه كل الهيئات الدينية والمدنية. هذا لا يمنع أيّ مطران من الاتصال الشخصي بزملائه المطارنة الآخرين في كرسيّنا وخارج كرسيّنا أو أن يُراسل من يشاء في العالم وأن يشرح وجهة نظره في هذا الأمر او ذاك. البطريرك لا يقيّد حرية المطارنة بالتعبير عن فكرهم او أن يسافروا، ويمكن لأيّ مطران من عندنا أن يشرح لصديق له في كنيسة مستقلّة أُخرى مواقف كنيستنا او أن يناقشه في اللاهوت او أن ينشر في مجلة ارثوذكسية او غير أرثوذكسية او في مجلة علمية ويتحمّل مسوولية ما يكتب.
غير أن البطريرك اذا تحرّك خارج الكرسيّ الأنطاكي لا ينطق باسمه ولكنه يعبّر عن رأي المجمع. لا يقول: هذا موقف الكنيسة الأنطاكيّة الا اذا تسلّح بقرار من المجمع المقدس. هو لسان حال المجمع. البطريرك ينقل فكر إخوته.
هو حامل المجمع. مسؤوليته السَهَر على المجمعية وعلى وحدة الفكر الأنطاكي. والمطران يحمل الى المجمع أبرشيته لأنه غير مستقلّ عنها. المفروض أنه يتفاعل مع أهل الرأي في أبرشيته ويُكوّن رأيه بالمشاروة. ليس أحد منّا منفصلا عن التراث وتعاون الإخوة. الأسقف يحمل القديم والحاضر معا. لا يخالف التراث ولا التعبير الحيّ عن التراث في اليوم الذي يعيشه.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:50 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟

مقدّمة: باريس، في سنّ العشرين
إنّ الإحساس بالزمن لدى الراهب الذي انكفأ عن العالم ليعيش في الموانئ السّلاميّة، أعني الأديار، يختلف عن إحساس أهل العالم المُنغَمِسين حُكْمًا في دوّامة الأحداث. في الدّير، يبدو الزّمن واقفًا، والسُّنون تَكُرُّ على وَقْعٍ وَحيدٍ هو تَتالي الأعياد والأصوام. فالحياة الرُّهبانيّة في جَوْهَرِها خارجةٌ عن نطاق الحوادث، ولا ينبغي أن يلفُت الراهبُ الأنظار.
ففيما أنا بينَكم شيخٌ أشْيَبُ، يُساوِرُني الشعور بأنّي واحدٌ منكم، ما زلتُ في السابعة والعشرين، كما حين دخولي الجبل المقدّس، منذ حوالي ثلاثٍ وثلاثين سنة. وأنتهز هذه الفرصة لأحدّثَكم عن نظرتي للحياة لمّا كنتُ في العشرينات من عمري، وكيف صِرْتُ إلى جبل آثوس.
عندما دخلتُ الجامعة، بُعَيْدَ أحداث أيّار 1968 ، لم أُشارِكْ في الحياة السِّياسيَّة الجائشة المُضطَربة في تلك الفترة، ولكنّني، ضِمنيًّا، شاطَرْتُ أبناءَ جيلي مَطاليبَهم. تلك الفترة عَرفَتْ تيّاراتٍ فلسفيّةً سياسيّةً تستلهمُ المذهب الإشتراكيّ، وتناهِضُ مجتمعَ الإستهلاك، ولكن بنسبة عالية من الرومنطيقيّة. آنذاك أُعميَت عيونُنا، ولم يُرِد أحدٌ من “اليَساريّين” أن يرى حقيقةَ البلاد التي حَسِبْناها “أرض النعيم”، كالصّين أيّام ماو Mao وكوبا.
في الاجتماعات التي سادَتْها الشِّعارات الحماسيّة الثوريّة، لَفتَني أنّ كلّ ما اقترحَهُ هؤلاء من أجل التَّحَرُّر ليس سوى استعبادٍ أكبر للأُدْلوجة idéologie التي أطلقوا عليها إسم “مصلحة الشعب والعمّال”.
مع مُرور الزَّمن، تأكّد لي صوابُ إحساسي. فقد انهارَت الشّيوعيّة انهيارًا مُفاجئًا، كاشفةً أنّها لم تتمكّن من الانتشار إلاّ لقاءَ القَمع والاضطهادات المتحيِّزة، الممارَسة باسم الشَّعب (كما حدَثَ في أيّام الثّورة الفرنسيّة). وفي غضون سنوات قليلة، اضمحلّت الفلسفات الماركسيّة كالغبار، ولم يبقَ في طبقة مثقَّفي باريس مَن يَجرؤ ويَنسِبُ نفسَه إليها. أمّا قبل عشر سنوات، فلم يَكُنْ لائقًا ألاّ ينتمي المَرء على الأقلّ إلى الحزب الشيوعيّ. ونذكر مثلاً أنّ جان بول سارتر، الذي خلَبَ أَلبابَ جيل ما بعد الحرب، أخذَ يُوَزِّعُ مَناشير مُوالِيَة “لماو تسي تونغ” عند مَداخل المعامِل، لكي يُطابق بينَ أفكاره “والتزام الثورة”! كم بدَتْ تلك الأنشطة الحِزبيّة سخيفة واهية!
إذًا، زالت الماركسيّة في سَنوات قليلة، ولكنّها خلّفت عشرات ملايين الضّحايا، وهو رقم قياسيّ في التاريخ، يَحدونا، مع اعتبار النّازيّة، على وصف القرن العشرين بأنّه قَرن المذاهب السّياسيّة (الأُدلوجات idéologies) الفاتِكة. وَلَئِنْ زالَتْ هذه بشكلها السّياسيّ، فإنّ بعض أفكار “أيّار 68‘” أحدثَتْ فِعلاً ثورة خُلُقيّة في العالم الغربيّ بأسره.
تلك الأيّام التي أكملتُ خلالَها دراستي الجامعيّة هي حقبة من التاريخ زَعزعَتْ أُسُسَ السّلوك برمّتها، وقَلَبَتْ المَفاهيم في مَيْدانَي الجنس والأخلاق، فأحدثَتْ ثَورة خُلُقيّة امتدَّت عَواقبُها على المدى الطّويل امتدادًا أفعل من التغيّرات السياسيّة، مهما تكن هذه جذريّة، وقد أمست العَودة عنها غير معقولة. أدّت هذه الثورة الخُلُقيّة إلى تفكُّك الأُسرة، وانهزام كلِّ سلطة، وانهيار مفاهيم الدّين والمُثُل العُليا التي ربطت أواصر شعبٍ كاملٍ، كحُبّ الوطَن، أو بذل الذات، وسواها.
يا للمفارقة، لقد انتَصر الفَوضويّون، لا سياسيًّا، بل خُلُقيًّا، حيث يسود اليوم مُعظمَ المجتمعاتِ الغربيّة “تحرّرٌ فوضويّ”. والذين أرادوا القضاء على المجتمع الرأسماليّ أمسوا من أغنياء رجال الأعمال أو من رجالات السيّاسة، ولكنّهم لا يزالون يحاولون ضرب سائر أسس المجتمع الذي أنشأته المسيحيّة منذ ألفَي سنة، من أجل أن يفرضوا “مبدأ اللذّة”، يعني سيادة الفرد المتروك إلى أبسط ميوله الغريزيّة. فمنذ القرن التاسع عشر، وضَعَ علم التحليل النفسانيّ (psychanalyse) هذا المبدأ في أساس شخصيّة الإنسان، فيما ينظر إليه اللاهوت المسيحيّ كمصدر سقوط الإنسان الأوّل (ما يسمّيه الآباء حُبّ الذات philautia).
بالتالي، أصابَ من حَدَّدَ المجتمعَ الغربيَّ بأنّه “مجتمع الشهوة”, بالأحرى من “مجتمع الاستهلاك”. فالاقتصاد العالميّ بأسره يقوم على تغذية حاجات لا تنتهي بوساطة الدِّعاوة (او “دعاية” publicité )، من خلال المناداة بوعود لَذّاتٍ سهلة متواصلة، تنأى عن الحاجات الحقيقيّة للإنسان. والهدف الوحيد من هذا هو إشباع الرغبة، وتثبيت “الأنا”.
هذه إذًا عاقبة “الأُدْلوجات” التي حَشَدَتْ في الطُّرقات آنذاك أترابي من الشّباب. معظمهم حرّكته في البدء روح شهامة صادقة، ولكنّهم انخدعوا بمنطق عنيد لا بدّ أنّ شخصًا خفيًّا أثاره فيهم، ما هو إلاّ الشيطان.
عواقب الثورة الخلُقيّة: مجتمع الشهوة والعزلة
وتَبِعَتْ هذه الأحداث ثورةٌ أُخرى، هي ثورةُ المَعلوماتيّة ووسائل التواصل المباشَر، حتّى أمكَنَنا اليوم أن نطّلع اطّلاعًا مباشَرًا على كلّ شيء تقريبًا. كلٌّ منّا له أن يصل إلى كمّيّة معلومات لا يمكن لأحد التّحكّم بها، ولا حتّى ترتيب محتوياتها كما يجب. فبهذه الطّريقة، انتصر وَهْمٌ آخر، وَهْمٌ قائمٌ على المعرفة المباشَرة السّهلة، وعلى شبكات الترابُط interconnexion، وعلى عالم ظاهريّ (virtuel)، كلّما غاصِ فيه المرء غَرَّقَه في عزلة كُبرى. ولا داعي هنا لأَسوقَ لَكُم مثَلاً واضحًا عن شُبّان يُقيمون صداقات في أربع أقطار الأرض، ولا يعرفون أن يكلّموا المقرَّبين منهم.
وحتّى لو استطعنا أن نستعلم عن كلّ ما يجري في العالم، فنادرون يعرفون أن يجدوا التفسير السّديد لهذه المعلومات، سيّما أنّ أخصّائيّي الإعلام يتلاعبون بها ليَجنوا أرباحًا طائلة. وما يزيدُ الوضعَ تناقضًا وتعقيدًا، هو أنّ هذه الوسائل الجديدة تُضاعف إمكانيّة حرّيّة التعبير لدى الأقلّيّات، ما كان مستحيلاً في العهد الإعلاميّ السالف، حيث تَحكَّمَتْ الدُّوَل والشَّركات الكبرى بالإعلام. مثالاً على ذلك، أنّ المعلومات الوحيدة الصّادقة حول ما جرى في “كوسوفو” خلال الحرب أعطاها للعالم كلّه راهب واحد من دير ديتشاني. أمّا الآن، فالنّاس كلّهم في تواصل مع الناس. والحقّ إنّ مُستخدِمي هذه الوسائل يُستعبَدون لها أكثر فأكثر، ويَبتلعون في جمود تامّ المذاهب والأفكار التي تُقدَّم لهم جاهزة بشكل صوَر يسهل هضمها.
والمصيبة أنّ عالم الإعلام لديه من قوّة الجاذبيّة ما يصعب معه السيطرة على الوقت وتقدير المنفعة الفعليّة المجتناة منه. هذا يتطلّب نضوجًا كبيرًا قد نكتسبه على مدى بضع أجيال، عندما سيشعر الناس بالتُّخمة من المعلومات والصُّوَر، ويجدون الأجسام المضادّة لها anticorps، فلا يأخذون منها إلاّ المفيد. ولكنّنا ما زلنا بعيدين عن هذا النّضوج، ما عدا استثناءات نادرة.
هذا المجتمع الإستهلاكيّ دخل منذ زمن بعيد في عمليّة تدمير ذاتيّ تجرّ خلفها الطّبيعة (الأزمة البيئيّة)، والعالم بأسره (العَوْلمة). إلاّ أنّ معظم الغربيّين ما زالوا عميانًا، يظنّون أنّهم مستمرّون في “التحرّر” من قيود المجتمع البُرجوازيّ (المحافظ). والنتيجة واضحة: أزمة إقتصاديّة وخُلُقيّة شاملة، وانعزال أشخاص لا يؤمنون بشيء، وسعي جنونيّ إلى إشباع الرغبات الأنانيّة والروح المادّيّة، فطلاقٌ، فإجهاضٌ، فانتحارٌ، وهلمّ جرًّا.
هذا الانهيار ما زال في أوّله، ولكنّه عاقبة أدلوجة هي منطق “الاستقلاليّة” الشيطانيّ، منطق عشق الأنا التي تنتصب كأنها صنمُ “بُغضِ الله”.إنّ عالَم العَولمة والتواصل أمسى عالَمَ الانعزال وانقطاع الشركة بين الناس، الذين باتوا أرقامًا أو أشياء.
• حصيلة التاريخ
أتت هذه الحالة حصيلة مسيرة تاريخيّة طويلة. فمن وجدانيّة القدّيس أغسطينوس subjectivité التي قَوْلَبَت الثّقافة الغربيّة بجملتها (أدب السِّيَر الذاتيّة، مثلاً)، انتقلنا إلى تحليل عقلانيّ للكون وللمبادئ الدّينيّة (مثل تطبيق مناهج أرسطو في اللاهوت ابتداءً من القرن الثاني عشر). من هنا، نشأت العلوم التي ادّعت كشف أسرار الطبيعة، مبعدةً الله تدريجيًّا. شيئًا فشيئًا، بدت فرضيّة “العلّة الفائقة” للوجود رأيًا زائدًا لا ضرورة له، فحاولوا التخلّص منها. ومن المذهب الإنسانيّ المعجَب بالآداب القديمة، في القرن السادس عشر، وصلنا إلى عقلانيّة القرن السابع عشر rationalisme (مع ديكارت) – وما هي في الحقيقة سوى عاقبة علمانيّة للاّهوت السخولاستيكيّ ، ومنه إلى فلسفات المذاهب الطّبيعيّة (naturalisme)، وعهد التنوير (Les Lumières)، حيث زعم العقل أنّه تحرّر من الدّين، ومن الله ذاته، باسم العِلم. ومن هذا التّنوير وُلِدَت الثورة الفرنسيّة، وأفكار التحرير الوطنيّ، وشرعة حقوق الإنسان ذات القدسيّة المطلقة، وهي حقوق الفرد، التي تسمح اليوم بالتدّخّل العشوائيّ في حياة البلدان والناس. ثمّ الاقتصاد الرّأسماليّ، وما نَعهَدُ فيه من جنوح الإنسان إلى استغلال الإنسان. أمّا القرن التاسع عشر، عصر الثورة الصّناعيّة، فأوجَدَ بدوره فلسفات تدّعي أنّ “الله مات”، حاولَ الناس بها الانعتاق من الدّين انعتاقًا أكبر، ليبرّروا سيطرة الإنسان على الطبيعة. وما إن أُعلِنَ “موت الله” نظريًّا، لم يبقَ إلاّ تلقّي التَّبعات القصوى لذلك. وهذا ما يصفه دوستويفسكي في شخصيّات شباب مُنادين بالعَدَميَّة هيّأوا للثورة الرّوسيّة.
وبعد أن تمهّد السبيل للمتطرّفين، – وما هؤلاء سوى أشخاصٍ يَحصُدون ما زَرعوه، ويعرفون أن يتلقّوا النتائج المُتوقَّعة لمبادئ تتبنّاها غالبيّة الناس-، تمّ تطبيق هذه المبادئ في السّياسة، فأدّى هذا إلى القرن العشرين، وهو القرن الذي عرفَ مَوتَ الإنسان، مع الحربَين العالميّتَن، والقنبلة الذّرّيّة، ومعتقلات الموت…
عَقِبَ هذه الكوارث، وبعد مبادرة مفعمة من روح الشهامة والمصالحة تَلَتْ الحرب العالميّة الثانية مباشرةً، استعاد الفلاسفة نظريّات القرن السّابق، واقتفى أثرَهم روّاد الفنّ، ليروّجوا لإلحاد جذريّ ونزعة إنسانيّة تدّعي إرضاء الأنا أساسًا لها، وتتخطّى كلّ حاجزٍ قد يقف في وجه هذا الإشباع لمبدأ اللذّة.
وها نحن الآن، نساءٌ ورجالٌ يدّعون أنّهم “متحرّرون”، ويزدادون شقاءً، لا على المستوى المادّيّ فحسب، بسبب انهيار النظام الاقتصاديّ، بل بسبب فقدانهم معنى الحياة، وتَعَسِهِم النّفسيّ والروحيّ.
• البحث عن معنى الحياة
أمّا أنا، فلم تَروِ غَليلي الأدلوجات idéologies الرّائجة، وبدأتُ أبحث عن معنى وجودي. وبفضل لقاءات ومطالعات حول الحضارات الشّرقيّة التّقليديّة، اكتشفتُ أنّ المجتمع الغربيّ المعاصر هو المجتمع الوحيد الذي يدّعي أنّه تأسّس على مبدأَي التقدُّم واستقلاليّة الفرد، فيما سائر الحضارات التي عرفَها التاريخ ترتكزُ على “التُّراث” tradition ، لا بمعنى مجرّد تكرار الماضي، بل كمبدأ مُحيٍ مُحَمَّل بالمعاني، تُستقى منه القِيَم وأسباب الوجود، وهو ما يربط الناس ببعضهم، وبأسلافهِم من الناس، وبالكون، وبالله تعالى.
وإنّ بعض الاطّلاع على ديانات الشرق الأقصى، سنح لي أن أدرك كذلك أنّ معنى حياة الإنسان ليس في تكديس الخيرات المادّيّة، بل في اختبار ما يتجاوز الحياة البشريّة العابرة. هذا أثار فيّ اهتمامًا بالحياة الروحيّة، شأني شأنَ كثيرين من أبناء عصري، الذين لجأوا، ولا يزالون، إلى الشرق الأقصى، في سعيهم إلى حياة التصوّف. إلاّ أنّ تلك الحياة غالبًا ما امتزجت لديهم بالأوهام، وابتعدت عن واقع الحياة في مختلَف المجتمعات. كما أنّ تلك الكتابات الصوفيّة الشرقيّة بدت لي غريبةً تمامًا عن معنى الإله الشّخصانيّ الذي عرفتُه في طفولتي، وأحسستُ به في قلبي. فلمّا تابعتُ بَحثي، وفي نفسي ظمأٌ إلى الحقّ، صِرتُ إلى اكتشاف آباءِ الكنيسة، وطقسِ القُدّاس الأرثوذكسيّ، اكتشافَ المُعجَب المُندَهِش، وبَدا لي كُلٌّ منهما نافذَةً مفتوحةً على سرِّ الله الحيّ، والحياة الأبدّية.
أثَّر فيّ هذا الاكتشاف تأثيرًا كبيرًا، لأنّه أظهرَ لي أنّه لا حاجة لتقصّي معرفة فلسفيّة (غنوصة gnose) هي حَكرٌ على العارِفين، إنّما الكنزُ في متناوَل كُلِّ إنسانٍ مُعَمَّد. وهذه “الحياة الأكثر وفرةً” (يو10، 10) التي يُظهِرُها لنا القُدّاس الإلهيّ هي حياة الله بالذات. لا بل إنّها الله نفسه الذي يسمح لنا بمشاركته، ويعطي العالم وحياتنا معنى إيجابيًّا. فبفضل القدّاس الإلهيّ في الكنيسة، يصبح وجود كُلٍّ منّا مرقاةً إلى الشركة الأبديّة مع “المطلَق”، لا “وهمًا كَونيًّا”، كما يُصَوِّرُه الشرق الأقصى. وهذا “المُطلَق” هو شخص، وليس شيء. إنّه كائنٌ فائق السموّ ولكنّه يحبّني. هذا المفهوم لا يمكن أن تقبلَه حركات التصوّف الشرقيّة التي تقول “بالذوبان”، وباضمحلال الشخص في محيط اللامتناهي. وحدَها المسيحيّة تجرؤ وتنادي الله عن حقيقة “أبانا”. في الحضارات الأخرى، هذا الإسم له معنى الاستعارة.
مُذّاكَ، بدا لي القدّاس الإلهيّ الطريق إلى حلّ المشاكل الوجوديّة التي يواجهها أبناء عصرنا، بقدر ما يُدركون بُطلان “أصنام” مجتمع “التحرّر” المزعوم، فينطلقون للبحث عن معنى للوجود.
احتفظتُ من أيّام تيّارات المعارضة في سنة 1968 برفض المساومات وبشوق إلى المطلَق، وبرفض المألوف، وبمَقتِ الشِّعارات الثوريّة المُصنَّعة والانجذاب نحو النجاح والمال. فغيَّرتُ دراستي، ووَقَفْتُ نفسي على البحث عن المعاني الرَّمزيّة في الطُّقوس المسيحيّة، سيّما معنى الزمن فيها، وعلى اكتشاف التراث الآبائيّ حول دعوة الإنسان إلى التألّه بالمسيح.
• هدف الحياة المسيحيّة
من خلال مطالعة كتب الآباء، اكتسبتُ نظرةً للمسيحيّة مختلفة تمامًا عن تلك التي تلقّيتُها في طفولتي الكاثوليكيّة. اكتشفتُ أنّ المسيح لم يأتِ ليؤسّس ديانةً أُخرى، لها أنظمتها ومحرَّماتها، تُسْهِمُ في حُسْنِ سَير المجتمع. لا، أتى أوّلاً ليُحَرِّرَنا من الموت، أي من عُزلة الفَردانيّة individualisme والخِناق الذي تُطوِّقُنا به. أتى ليفتحَ لنا طريقَ السماء، طريقَ الشركة مع الله، والاشتراك في جسده المقدّس.
إذً ليست المسيحيّة “مؤسَّسة” من مؤسَّسات هذا العالم، بل هي حدَث الخلاص الذي أتمّه شخص الإله المتأنّس. إنّها حدَثٌ وَقَعَ في مكان وزمان محدَّدَين، في فلسطين المحتلّة من الرومان، ولكنّه حدثٌ مستمِرٌ في سرّ الكنيسة.
كان الأب بورفيريوس يؤكّد أنّ المسيح لم يأتِ ليسود علينا، أو ليفرض علينا شريعةً، إنّما ليصيرَ “أخانا” و”صديقنا الحميم”. أتى لِيَؤولَ بنا إلى ذَوقِ حَضرةِ الله في صَميم جَسَدِنا. ليس المسيح حكيمًا من حُكماء هذا العالم، ولا مُتنفِّذًا جبّارًا، إنّما هو مِلْءُ العذوبة والمحبَّة الذي يُقَرِّبُ لنا ذاته لنتناولها .
لقد علّم القدّيس سيرافيم ساروف أنّ هدف الحياة المسيحيّة هو اقتناء الروح القدس. فلا مسيحيّة من دون هذه المشاركة في حياة الله، وهي الحياة بالروح القدس التي أرسلها لنا المسيح يوم العنصرة، لكي يُشرِكنا في قداسة الله.
• الكنيسة جسد المسيح وشركة القدّيسين
هذا هو السرُّ الذي نحتفل به دائمًا في القدّاس الإلهيّ، سيّما في فترة ما قبل العنصرة، بعد أن انتصر المسيح مرّةً إلى الأبد. لقد أعتقَنا ابنُ الله المتأنِّس من الموت بقيامته، وأكثر من ذلك، رَفعَ جسدَ الإنسان إلى كرامةِ الجلوس عن يمين الآب معَه، فوق الملائكة وسائرِ القوّات السماويّة. في المسيح يسوع، تتألّهُ طبيعتُنا البشريّة بأسرها. إلاّ أنّ هذه العطيّة الممنوحة للطبيعة التي اتّخذها كلمةُ الله لم يُمكِن أن تبقى عطيّة عامّة غير شخصيّة. وَجَبَ أن يتحقّق سرّ الخلاص في كلّ شخص، وأن يقبله الإنسان طوعًا في ذاته. ولكي يسنح لنا المسيح أن نشترك في إتمام هذا السّرّ، أرسل الروح القدس على رُسُلِه المجتمعين في وحدة المحبة، فحوّل الروحُ هذه الجماعة البشريّة إلى كنيسة، هي جسدُه السّرّيّ. المسيح حاضرٌ إذًا، هنا والآن، بنعمة الروح القدس، ولكن من خلال جسده “المتعدّد الأقانيم” . كُلٌّ منّا أصبح عضوًا كاملاً في هذا الجسد يومَ عمادته، وهو عضو فريد لا غنى عنه، ولكنّه لا يحيا إلاّ ضمن الجسد الكامل وبه.
“5وَأَنْوَاعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ… وَلكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ… وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا يَشَاءُ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا” (1كور12: 5،7، 11-12).
في سرّ الكنيسة الكبير هذا، يبقى كلٌّ منّا ما هو، ولكنّه يتصوّر بصورة المسيح بنعمة المعموديّة، يُطعَّم به، إن جازَ التعبير، وبقدر ما يتعاون مع النّعمة، ينمو فيه المسيح حتّى يتجلّى فيه بملئه.
وجسد المسيح هذا الذي نؤلِّفُه ليس مجرّد واقع اجتماعيّ لمسيحيّين يجتمعون من أجل الاحتفال بالقدّاس الإلهيّ، إنّما لهذه الجماعة بُعدٌ عموديّ ، يشمُلُ العالم العلويّ. فالكنيسة جسد المسيح هي أيضًا شركة القدّيسين.
في أحد أقدم النّصوص المسيحيّة، “راعي هرماس”، وصفٌ رمزيٌّ للكنيسة كامرأة مُسنّة، وتأكيد أنّ الله “خلق العالم من أجل الكنيسة” ، ليتمّ فيها تألّه الإنسان. ويقول القدّيس غريغوريوس بالاماس إنّ الكنيسة هي “شرِكة – أو جماعة- التألُّه”.
إنّ الكنيسة هي “شركة القدّيسين”. هذا التعبير خاصّ بأحد اللاهوتيّين الغربيّين، وقد دخل في دستور الإيمان اللاتينيّ، دون الأرثوذكسيّ، غير أنّه يعبّر عن نظرة أرثوذكسيّة للكنيسة. فنحن لا نكتفي في الكنيسة بفرح التَّلاقي، ولكنّنا “مواطنو القدّيسين” (أفسس2: 19)، ونشعر أنّنا نساكنُهُم في ملكوت الله الحاضر منذ الآن في تاريخ البشريّة.
إن كُنتُ أحيا في شركةٍ والعالم العلويّ، وأُسْهِمُ فيه منذ الآن، فهذا يعني أنّ حياتي ليست لي، ولكنّها حياة جسد المسيح بكامله، وأنا مسؤول عنه. إذا عرفنا أن ننظر بعيون الإيمان المتجلّيّة، يمكننا أن نرى القدّيسين حاضرين في نشاطات الكنيسة كلّها، سواءٌ من خلال إيقوناتهم، أو باستدعاء أسمائهم، أو بتذكاراتهم السّنويّة، أو في أسمائهم التي نُطلقها على الأولاد، وعلى القُرى، وعلى الأشياء، طلبًا لشفاعتهم. يستحيل على المرء أن يكون مسيحيًّا أرثوذكسيًّا من غير أن يكون في شركة “القدّيسين جميعًا”، كما يقول القدّيس يوستينوس بوبوفيتش (†1979).
إذًا لستُ أنا لوحدي، منغلقًا على فرديّتي، مَنفيًّا في عالم سيقودني حتمًا إلى الموت والنّسيان. بل بانتمائي إلى شركة أعضاء الكنيسة الظافرة كلّهم، أكتسب كرامةً أبديّة. من خلال شركتي بالقدّيسين، أشترك في الحياة الأبديّة التي سبقوا وورثوها، أشترك في الملكوت حيث يعيشون مع المسيح. إذا فَهِمْنا هذا، تتغيّر نظرتنا كلّها إلى الحياة، ولا ننظر إلى شيئ كأنّه سخيفٌ أو عابرٌ، بل يصبح كلّ عمل وكلّ لقاء ممتلئًا من هذه الحياة الإلهيّة، هذه “الحياة الأكثر وفرةً”.
منذ أوّل عهدهم، وعى المسيحيّون شركتهم هذه مع القدّيسين، فسُمّوا “قدّيسين” لأنّهم مدعوّون إلى القداسة في جملة سلوكهم (1كور1: 2). نحن ندعو بعضنا بعضًا “إخوة”، من غير تكلّف عاطفيّ، لأنّنا أضحينا أبناء الآب السماويّ الواحد بالروح القدس مع المسيح، الذي “هُوَ بِكْرٌ بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ” (رو8: 9).
“لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي” (متى12: 50).
إنّ دم المسيح الجاري فينا يصير “الإسمنت” الذي يربط هذه الأخوّة الإلهيّة، أخوّة نختبرها في سائر نشاطاتنا المشترَكة التي يجب أن تتّصف بميزة إلهيّة إنسانيّة، ولو خارج القدّاس الإلهيّ، حتى تنقل إلينا الحياة السماويّة.
في الكنيسة، ليست علاقاتنا بشريّةً أخويّةً فحسب، تظهر من خلال التعاون والمحبّة -وقد باتا نادرَين في المجتمع العلمانيّ حيث تَحكُمُ المَصالح الشَّخصيّة-، إنّما أضحتْ هذه العلاقاتُ مَراقيَ تَصعدُ بي شخصيًّا إلى الله. إنّها مملوءةٌ من طاقات التألُّه التي تَؤولُ بي إلى “القداسة” بدَوري، من خلال اختبار الروح القدس اختبارًا حيًّا.
منذ العهد القديم والربُّ يقول “كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس” (لاوي11: 44). قد يبدو الاقتداء بقداسة الله هذا مستحيلاً، مُناقضًا، وربّما مُعثِرًا، تمامًا لأنّ كلمة “قداسة” تعني “ما هو مفروز”، ما لا يمكن مشاركتُه. رغم ذلك، فمنذ العهد القديم، جعلت هذه القداسة نفسَها قابلة للمشاركة، من خلال وصايا الناموس المُعلَنَة لموسى على جبل سيناء، ومن خلال الطقوس اليهوديّة والرّموز. تلك، ولو أتَتْ مَنقوصة، هيّأَتْ شعبَ الله المختار، صورة الكنيسة، للشَّرِكَة الكاملة بين الله والإنسان في شخص الإله الإنسان، وهذه الشَّرِكة تغدو في مُتَناوَلِنا بنعمة الروح القدس.
أن نحيا مسيحيًّا يعني بالتالي أن نستجيب لنداء المسيح ونتبعه في صعوده للسَّماء، ليصير كلٌّ منّا إلهًا بمشاركة مواهب الروح القدس. ويذهب الآباء أبعد من ذلك، فيعلّمون أنّ الإنسان مدعوٌّ ليصير كلّيًّا كما هو الله، أي أن يشاركه الأبديّة والخلود، والأزليّة، لا بالطبيعة، بل بالمشاركة. “مُّتَّحِدًا كلُّه بالله كُلِّه، في تداخل تامّ، وصائرًا كلّ ما هو لله، ما عدا المساواة بالجوهر، ومتلقِّيًا الله كلًّه بدلاً عن ذاته”.
هذا هو البُعد الهائل الذي نحن مدعوّون إليه في الأتّون المُتَّقِد، أتّون الكنيسة، الذي سيحوّل حديدَ الطبيعة الإنسانيّة إلى حديد محمّى مُتَّقِد بنار الأُلوهة، من خلال الأسرار الإلهيّة والفضائل المقدّسة، ولكن من غير أن تفقد هذه الطبيعة خصائصها.
كيف أصير قدّيسًا؟
كيف نبلغ هذه الحالة، فنصير قدّيسين؟ الأمر سهل: يكفي أن نؤمن بأنّه ممكن، وأن نتبع الطريق التي رسَمَها السالِفون، فنسيرَ في خطى تراث القداسة في الكنيسة، وهو خبرة الروح القدس تتناقلها الأجيال.
لم يكن القدّيسون كائنات غريبة من كوكب آخر، بل بشرًا مثلنا، شَغَفَهم عشقُ الله
par l’amour de Dieu touchés ، والاقتداء بالمسيح. فقرّروا أن يضحّوا بكلّ ما لديهم من أجل الانصراف إلى هذا الحبّ، من غير أن يتنازلوا لقِيَم هذا العالم الزّائلة. إنّهم أناسٌ عَزَموا على اتّباع الحَمَل حتّى موتِه على الصليب، من أجل أن يختبروا قيامته وحياته الإلهيّة.
الطريق إلى القداسة تبدأ بأن نَعي بُطلان ما يمكن أن يُوَفِّره لنا العالم، وأن نُدرك حالة انفصالنا عن الله. و”التوبة” هي الرغبة في التغيير، في أن نعطي معنىً لحياتنا.
أن نحيا كتلاميذ للمسيح في عالم بعيد عن الدّين، يعني أوّلاً ألاّ نخجل باختلافنا عن الآخرين، وأن نعترف بإيماننا من غير تَردُّد عند الحاجة، ولو تعرّضنا لهُزء الآخرين. “”طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ … وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي” (متى5: 11).
الاعتراف بالإيمان عمليًّا في حياتنا اليوميّة يتضمّن أيضًا رفضَ المساومات لروح العالم والخطيئة. من أجل ذلك علينا أوّلاً أن نعرف المبادئ الخُلُقيّة والرّوحيّة للكنيسة لكي نستطيع أن نُمَيِّز ما لا يوافق هويّتنا المسيحيّة في المجتمع المحيط بنا. فمعظم أبناء عصرنا يتجرّعون من غير تمييز كلّ ما يُعرَض عليهم في الإعلام، من غير أن يُدركوا ما فيه من المعاني المضادّة للمسيحيّة كُلَّ التضادّ، إلى حدّ التجديف أحيانًا.
من الأماكن والممارسات ما لا يتماشى مع إيماننا، ومنها “الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ” التي ” تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ” (1كور15: 33). يجب ألاّ نخجل من قطع تلك العلاقات. هذا الجهاد أيضًا إعتراف بالإيمان.
فلنتحرّر من الأصنام التي صنعها الفرعون الجديد، أي الإعلام. فالمسيح يدعونا إلى الحرّيّة الحقيقيّة. ومهما يتحتّم علينا تعاطي التِّكنولوجيا، فعلاقتنا بوسائل الإعلام والتواصل ينبغي أن تنتظم وفق مبدأ الحاجة، لا المُتعة، ولا الكسل. فالصوم عن المعلومات أهمّ من الصوم عن الطعام.
الرّوحانيّة والأخلاق
ينطوي العيش في الكنيسة إذًا على مشاركة سرّ التألّه هذا، سرّ التقديس. فكلُّ تحجيم لأَبعاد المسيحيّة إلى مستوى الخُلُقيّات البَحْتَة هو انحراف. المسيحيّة ليست ديانةً، بل هي الذَّهاب إلى أقصى الحدود، هي ثورة جذريّة، هي النار التي جاء الربّ ليلقيها على الأرض (لو12: 49). ومَن شَعَرَ بهذه النار في قلبه يصير مجنونًا من أجل الله، لا ليهدم نواميس المجتمع، بل ليكمّلها ويسمو عليها.
أن يكون المرء مسيحيًّا، يعني أن يقتني رُقيًّا خُلُقيًّا لا يسمح له بإبرام الصَّفقات مع سفاهة الحياة الدّنيويّة وما فيها من ابتذال، ولكن من غير أن يعادي المجتمع.
إنّ مَناقبيّة الكنيسة في موضوع الجنس بشكل خاصّ ليست من باب العَقليّة الضيّقة البالية، بل هي شرط الحياة التي يتحكّم بها فعلاً العشق الإلهيّ. وهي تساعد على الخروج من الذات لنحبّ الآخر ونحترمه على أساس أنّه شخصٌ على صورة الله، وترفض النَّرجسيّة التي يدعو إليها مجتمعٌ غارقٌ في الجنس حتى الإفراط، لأنّ هذه لا تؤدّي إلاّ إلى السّأم والعزلة.
التحرُّر الجنسيّ المزعوم لا يَنتُجُ عنه إلاّ وقوع الإنسان في حلقة مُفرَغَة لتعاقُب اللّذّة فالشَّهوة. كلُّ تلذّذ جَسديّ يولِّدُ فيه شهوة جديدة ويُغلِق عليه في الموت.
من صفات الشباب المسيحيّ الشَّجاعةُ ورفضُ المساومة إزاء روح العالم. لا ينبغي الجزع والخوف، بل التصدّي بثبات لإغراءات الدُّنيا. فهروب الشابّ من أمام التجربة ليس علامة جُبن بل عنوان مَجده. وعلينا اتّخاذ بأس الشّباب من الشّهداء مثالاً.
-القدّيسة بلاندين Blandine من ليون Lyon (25 تمّوز)
خادمة صبيّة، أظهرَت من الثبات إزاء التّعذيبات ما أفقد المُعَذِّبين صبرَهم. كفاها أن تقول “أنا مسيحيّة، ونحن لا نأتي أيّ عمل قبيح”، حتّى لا تعود تشعر بالعذابات.
…علّقوها على عمود، وعرضوها على الوحوش، فلم تتوقّف عن الصلاة عاليًا لتشدّد عزم إخوتها في الجهاد. رأوا فيها الربَّ نفسه، الذي صلِبَ لخلاصنا، فازدادوا يقينًا بأنّ كلّ مَن يتعذَّبُ من أجل مجد المسيح، يعيش أبدًّا في شركة الله الحيّ. في ذلك اليوم، لم يجرؤ أيٌّ من الوحوش ويمسّ بلاندين بأذى. كانت نحيفة، ضعيفة، محتقَرة، فتسربلت المسيح، المجاهد العظيم، الذي خوّلها أن تغلب العدوّ…
في اليوم الأخير، تلقّت نصيبَ رفاقها من العذابات، وقد جاء دورها آخرهم جميعًا. بعد الجلد، والوحوش، والنار، حبسوها في شبكة ليتركوها ضحيَّةَ أحد الثيران. رفستها البهيمة عاليًا مرارًا، أمّا هي، فلم تشعر بما يحدث لها، لأنّها واصلت حديثها إلى المسيح، وكلّها مأخوذة برجائها في الخيرات المستقبلة. فانتهى الأمر بهم إلى ذبحها، هي أيضًا. واعترف الوثنيّون مُكرَهين أنّهم لم يشهدوا في حياتهم امرأة تكابد عندهم عذابات بهذا المقدار وبهذه الوحشيّة.
-بَربَتوا Perpétue القرطاجيّة (1شباط)
كانت في الثانية والعشرين، في صفّ الموعوظين. سألت الجند حينما أوقفوها أن يسمحوا لها بالاحتفاظ بابنها الرضيع. في الزنزانة الخانقة حيث احتجزوها، مع مسيحيّين آخرين، رأت في الرؤيا سلَّمًا تصعد إلى السماء، وأدوات التعذيب معلّقة في جوانبها. أمّا هي ، فانطلقت، وداست التنّين الذي في كعب السُّلَّم، لتصل إلى القمّة بقفزة واحدة، حيث استقبلها مصفٌّ من الشهداء يلبس البياض. ولمّا سمعت حكم القاضي، هتفت: ” الحمد لله! كنت دائمًا فرحة مَرِحة. والآن فرحتي تزداد!”
أمّا فيليسيتاس (Félicité) الحامل في شهرها الثامن، فندبَت حظَّها لأنّ موعد إعدامها تأجّل بسبب وضعها الخاصّ. وبفضل صلاة الشّهداء، سهّل الله أنّ تنتابها آلام المخاض قبل الألعاب بثلاثة أيّام. ولمّا رآها أحد الحرّاس تتأوّه، سخر منها، واعدً إيّاها بآلامٍ أفظع بما لا يُقاس. فأجابته القدّيسة: “الآن، أنا التي تتألّم، أمّا حينذاك، فسيأتلّم شخصٌ آخر من أجلي، لأنّي سأتألّم من أجله!” ثمّ ولَدَت فتاةً أودَعَتْها امرأةً مسيحيّة، وأخذت تستعدّ لجهادها الأخير…
طرحوا “بَربَتوا” أمام بقرة هائجة، فرمتها هذه في الهواء برفسة، ولمّا وقعت على كُليَتيها، سرعان ما أنزلت فستانها الممزّق، ملتفتةً إلى الحشمة أكثر من انتباهها إلى الألم. وربطت ضفائر شعرها المنحلّة، لئلاّ تبدو كالمرأة في الحداد، فيما هي وارثةٌ المجد. ثمّ ذهبت إلى فيليسيتاس لتساعدها على النّهوض. فلمّا شاهد الجمهور شرف خُلْقِهما وجمال طلعتهما، هدأ قليلاً، وأُخرِجَت الشّهيدتان من الحلبة.
…ساعة تنفيذ الإعدام، بعد أن قبّلت رفاقها قبلة السلام، أخطأ السّيّاف وأصابها بين ضلوعها، فصرخت. ثمّ أمسكت يد الجنديّ المرتجفة، وصوّبت السَّيف نحو عُنُقها…
-أوريستوس (13 كانون الأوّل)
مُجنَّد حديث العهد في الجيش الرومانيّ المتمركز في الكبادوك أيّام حملة الاضطهاد التي شنّها ذيوكليسيانوس. أثناء التّمرينات، فيما همّ برمي الحربة، ظهر الصليب الذّهبيّ المعلَّق في رقبته. ولدى استجواب الدوق ليسياس، الذي اعتقل لتوّه إفستراتيوس ورفقته، اعترف بأنّه مسيحيّ منذ نعومة أظفاره… فسُلِّمَ للمحكمة والتعذيب معهم في سبسطية. ولمّا صدر أمرٌ بإلقائه على سرير حديديّ محمّى بالنار، تملّكه خوفٌ طبيعيّ كإنسان، فتردّد قليلاً. ولكنّ إفستراتيوس شجّعه، فأسرع الشّاب بحماسة، قائلاً: “يا ربّ، في يديك أستودع روحي!”
-شهداء جدد من أيّام العثمانيّين
هؤلاء أجبِروا على إنكار المسيح في حداثتهم، تحت ضغظ الأتراك، ثمّ أدركوا فداحة خطإهم، وسلكوا في التوبة وحياة النسك، ممّا أثار في نفسهم رغبة الاقتداء بآلام المسيح. فهيّجوا الحكّام المسلمين، دائسين العمامة التي ترمز إلى انتمائهم للإسلام، وتوجّهوا إلى منصّة الإعدام وهم يحيّون المسيحيّن مسرورين، كمن يذهب إلى العرس (مثلاً: القديس لوقا من ميتيلين- 23آذار).
*****
طريق القداسة:
– الانتباه إلى حاجة القريب والمحبّة في تفاصيل الحياة. اللطف ونبل الأخلاق ميزة القدّيسين وعنوان المناقبيّة المسيحيّة في وجه السّفاهة والبذاءة التي يروّجها عالمنا المعاصر.
– ذكر الله والصّلاة المستمرّة: هذه يمكن أن تتّخذ أشكالاً متنوّعة، ولكنّها تبلغ ذروتها في اللقاء بالمسيح في الحبّ، وهي اتّحاد بالله ومشاركة في نوره. ولكن يجب التمييز بين طلب المعونة من الله والصّلاة التأمّليّة، التي هي هدف الحياة المسيحيّة. فالله في هذه الصلاة يحتضننا ليدخلنا إلى حبّه. ومن أراد أن يشعر بحضور الربّ في قلبه عليه أن ينمّي وعيَ ضميره وحسِّه الرّوحيّ.
– الأسرار ليست ضربًا من ضروب السِّحر، بل تنقل إلينا طاقة النعمة التي تقدّسنا، ولكن على قدر ما نستعدّ لها.
-مواهب الروح القدس: إنّ الذين “صَلبوا أجسادهم” أي كُلَّ ما يشُدُّهم إلى الإنسان القديم، لكي يعيشوا بحسب الروح القدس، سينالون في المقابل الثِّمار التي هي “الطاقات الإلهيّة”.
“وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ” (غلا5: 22-23).
هذه الثمار قد تعتلن فينا بطرائق أخرى، نعرفها من خلال العلامات التالية: أن نَقبل الآخرين كما هم، من غير أن نحاول تغييرهم على هوانا. أن نُظهِرَ ثباتًا وتفاؤلاً في الصّعاب (بطالة، فقر، قلق بسبب وضع البلد، وهنا ينبغي أن نتذكّر أنّ القدّيسين عاشوا كلّهم في فتراتِ بلبلة لم تعرف الأمان). ألاّ نخشى الفقر، بل نكتفي بالقليل، لكي نكرّس وقتًا أطول لخدمة من هُم على صورة الله، بدل أن نكدّس المقتنيات ونجمّع الرّفاق. أن نُظهر عمليًّا عنايتنا بالقريب ومحبّتنا له، ليس فقط ببذل الإحسان من أجل إسكات الضمير، بل ببذل كلام التعزية للمتألّمين، وبعض الوقت للمرذولين.
أخيرًا، إنّ مثالنا الأعلى ومَنشأ الجهاد في حياتنا هو أن نذوق الحياة الأبديّة وننشر حولنا فرح انتصار المسيح على سائر أشكال الموت. فالمسيح لا ينفكّ يقرع باب قلبنا، منتظرًا أن نفتح له.
إنّ الفرح الحقيقيّ الذي يمنحنا إيّاه الروح القدس الحاضر فينا بمواهبه هو ميزة كلّ مسيحيّ.
ملحق:
علاقة الأرثوذكس بالغرب وبالعالم المعاصر
أن نعيش تراث الكنيسة منذ ألفي سنة، وهي حاضرة في الأبديّة، هو أن نعيش “الإنسان الجديد”. حينئذ، نشتمُّ في ما يَروجُ في العالم رائحة البطلان والموت. يعبر في الغد، ولا ينفكّ الناس يبتدعون حاجات اصطناعيّة ليوهموا أنفسهم أنّهم لا يموتون.
يجب أن نفتخر باختلافنا، لا عن ضغينة، بل لأنّ هذا الاختلاف هو ختم مصداقيّة العقيدة الأرثوذكسيّة، وهي ما يبحث عنه الغربيّون، بعد أن فقدوا الحلقة التي تصلهم بالتراث. إيّانا وعقدة النقص، لأنّ نقطة القوّة عند الغرب دخلت منذ فترة بعيدة في عمليّة تدمير ذاتيّ.
فلنتعلّم أن نستغلّ الوقت حسنًا، لأنّ الفرص التي نفوّتها لا تعود. كلّ لحظة من حياتنا محمّلة بالأبديّة، ويمكن أن تصير سلَّمًا إلى ملكوت الله. أن نفتدي الوقت، يعني أن نجد الفرَص المناسبة لاقتحام ملكوت السماوات، فنغدوَ ورثةً له “مع القدّيسين جميعًا”.

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:50 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
عيد ارتفاع الصليب

هذا العيد مرتبط بحادثتين أُولاهما اكتشافُ القديسة هيلانة الصليب تحت تراب الجلجلة فيما كانت في فلسطين تبني الكنائس. اما الحادثة الثانية فهي أن عود الصليب كان موضوعًا في كنيسة القيامة وسرقه الفرس الذين كانوا قد احتلوا اورشليم في السنة 628، وبعد أن انتصر عليهم الامبراطور البيزنطي هرقل أعاد الصليب الى المدينة المقدسة، فرفعه البطريرك أمام المؤمنين.
من هنا عبارة ارتفاع او رفع الصليب. وفي يوم العيد يصير طواف قبل القداس اذ يوضع صليب صغير على صينيّة فيها زهور، ويوضع على طاولة امام الهيكل، ويرفعه الكاهن فوق رأسه وينزل به الى الأرض أثناء ترتيل “يا رب ارحم” خمس مئة مرة، فيعطي الكاهن زهرة لمن قبّل الصليب الكريم.
في كنيستنا لا يوجد صليب بغير مصلوب مرسوم عليه او منحوت موضوع عليه فيصبح، عند ذاك، أيقونة. السجود هو اذًا لصورة المصلوب على رجاء القيامة.
إيماننا كله مرتكز على صلْب المسيح وقيامته. وهذا الصلب نحتفـل بـه بمناسبات مختلفة خارج الأسبوع العظيم منها هذه المناسبة. بلا موت المسيح ليس عندنا رجاء. وإذا المسيح لم يمُت ولم يقُم ليس لنا قيامة ولا أساس لإيماننا. المحبة التي بشّر بها المسيح ظهرت بنوع خاصّ على الصليب وتجلّت بالقيامة. المحبة ليست فقط تعليمًا. هي واقع الصلب وواقع نهوض المسيح من بين الأموات. هذا نُعبّر عنه بوضع الصليب في عنق الولد المعمَّد ليفهم طوال حياته أنه دُفن مع المسيح وأنه سيقوم على رجاء الحياة الأبدية.
هذا العيد يجدّد دعوتنا الى أن نسلك حياة جديدة، أن نصبح خلائق جديدة بالروح القدس. الصليب رمز لهذه الحقيقة التي كشفها لنا المُخلّص والتي نسعى أن نختبرها بذوق كل جمالات المسيح إذا أردنا التغلّب على شهواتنا. بمقدار انعتاقنا منها نكون قد أعلنّا أننا نتبع المسيح القائم من بين الأموات.
الحياة الجديدة تعني التوبة التي هي الرجوع الى وجه يسوع وترك مُغريات الدنيا. “من أراد أن يتبعني فليكفُر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. تُقرّر انت أوّلا أن تمشي وراء المسيح، وأن تتحمّل كل شيء بصبر، وفي الوقت نفسه أن تحبّ الإخوة ليراكُم الناس أنكم أحرار من الخطيئة وقياميّون.
أجل أنت متألم ككل البشر، والمسيح حمل آلامكم. كل يوم سوف تعاني وقد تقلق كثيرًا، وإنْ أَردت الفرح فهو الذي يعطيك إياه يسوع اذا سلّمته قلبك ليسكن فيه. هذا يعني أن تتخذ الصليب رفيقًا لك لتتحمّل هذا الوجود وتسير به الى فوق.
ولكن قيام الوجود معك ورَفْعَه الى المسيح يتطلّب منك الجهاد لمعرفة كلمة الله التي في الإنجيل. إقرأه كل يوم وتأمله ليرى الرب أن وجهك صار نيّرًا وأنك سائر الى حياة جديدة. وإلى جانب معرفتك للإنجيل اختبارك للصلاة اليومية الى جانب مشاركتك في القداس الإلهي كل أحد.
لا حياة لك إلا بحديثك مع الله صباح مساء ليكون فيك الشعور بالله ورحمته وجلاله واحتضانه إياك.
تجديد حياتك الروحية هو الذي يكفل لك القوّة لحَمْل الصليب فالسير الى القيامة.
إشارة الصليب على وجهك وصدرك تَمّمْها بوعيِ أهميةِ الصليب والتصاقك به بهذه الإشارة حتى تعرف أنك سماويّ.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:52 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
عن الصليب – للقديس يوحنا الدمشقي

لا يمكن خلق الكائنات بالتفكير البشريّ -الإيمان ضرورةٌ عامة- ما هو الإيمان: “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالةٌ. وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله” (1كور 1: 18). “فإن الروحي يحكم في كل شيء” (1كور 2: 15). “أما الإنسان الحيواني فلا يُدرك ما لروح الله” (1كور 1: 14). فإنها لَجهالةٌ عند الذين لا يقتبلون ذلك بإيمانٍ ويشكّكون في صلاح الله واقتداره العام، بل يدقِّقون في بحث الإلهيات بأفكار بشريّة وطبيعيّة، لأن كلّ ما يتعلّق بالله هو فوق الطبيعة والنطق والتفكير. فإذا تساءل أحدهم كيف وبماذا ولماذا أخرج الله كل شيء من العدم إلى الوجود، وأراد أن يعبّر عن ذلك بأفكار طبيعيّة، فهو لا يستوعبّ÷ وتكون معرفته نفسها طبيعية وشيطانية. أما إذا هو انقاد على هدى الإيمان وفكّر بإنّ الإله صالح وقدير وصادق وحكيم وعادل، فهو يرى كل شيء سهلاً وممهّداً، والسبيل إليه رحباً. فإنه الفلاّح بدون إيمان لا يشقّ أرضاً إلى أَتلامٍ ولا التاجرُ بدون إيمان يزجُّ بنفسه على خشبة صغيرة في لجّة البحر الهائج، ولا الزواجات تقوم، ولا أي شيءٍ آخر مما في الحياة. فبالإيمان نفهم خروج كل شيء من العدم إلى الوجود بقوّة الله، وبالإيمان نقدِّر كل الإلهيّات والبشريّات قدرها. فإنّ الإيمان اقتناع لا يتخلّله أبحاث فارغة!
ليس من شيء أعجب من صلب المسيح. فوائده: إذاً فإنّ كلّ أعمال المسيح ومعجزاته عظيمة جداً وإلهيّة وعجيبة. بيد أنَّ أعجبها كلها صليبُه الكريم. فلولاه لما بَطُلَ الموت أبداً ولا انحلَّت خطيئة أبينا الأول ولا سُلب الجحيم ولا مُنحت القيامة ولا أُعطيت لنا قوّ’ لاحتقار الأشياء الحاضرة والموت نفسه ولا تمهَّدَ السبيل للعودة إلى السعادة القديمة ولا فُتحت أبواب الفردوس وجلَستْ طبيعتُنا إلى ميامن الله، ولا صرنا أبناء لله وورثته، لولا كان بصليب ربّنا يسوع المسيح، لأنّ كل شيء قد اصطلح بالصليب. ولذا فإنّ الرسول يقول: “إنّ كل من اصطبغ منّا في يسوع المسيح اصطبغ في موته” (رومة 6: 3)، و”نحن جملة من اعتمدنا في المسيح قد لبسنا المسيح” (غلاطية 3: 27)، و”المسيح قوّ’ الله وحكمة الله” (1 كور 1: 24). فهوذا موت المسيح -أي صليبه- قد أَلبسنا حكمة الله وقوّته الأقنومية. والكلمة، كلمة الصليب، هو قوة الله، ذلك لأنه اقتدار الله، ولأنه انتصر على الموت وبه قد ظهر لنا، ولأنه -على نحو ما أنَّ أطرافَ الصليب الأربعة ترتبط وتشتدُّ في نقطتها الوسطى-، كذلك، بقوّ’ الله، يجتمع العلوُّ والعمقُ والطولُ والعرضُ أي الخليقة كلها، ما يُرى وما لا يُرى.
إشارة الصليب تمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين: والصليبُ قد أُعطي لنا سمةً على جبهتنا، على نحو ما دُفعتِ الختانة لإسرائيل. والمؤمنون يتميّزون بواسطتها من غير المؤمن فنعرفهم. وهو ترسٌ وسلاحٌ وفوزٌ ضدَّ إبليس، وهو ختمٌ كي لا يمسَّه مبيدُ الكلّ، كما يقول الكتاب. وهو نهوض الساقطين وسندُ الواقفين وعكّاز الضعفاء وعصا الرعاة وإرشاد المرتدّين وكمال الفائزين. وهو خلاصٌ للنفس والجسد، وتنقيةٌ من كل الشرور ومجلبةٌ لكلّ الخيرات، وإزالة الخطيئة ونبت القيامة وعودُ الحياة الأبدية.
السجود لعود الصليب ولسائر ما قدَّسه المسيح بلمسه إياه: إذاً فيجب السجود للعود الكريم حقاً والمستحقّ الإكرام الذي قرَّب عليه المسيحُ ذاته مذبوحاً لأجلنا، وقد تقدّس بلمسه الجسدَ والدمَ الأقدسين. ويجب السجود أيضاً للمسامير والحربة وثيابه، ولمساكنه التي هي المذود والمغارة والجلجلةُ وقبرُه الخلاصي الميحييّ ولصهيون أُمّ الكنائس ولأمثالها، على ما يقول داود أبو المسيح إلهنا: “لندخل إلى مساكن الربّ ولنسجد لموطئ قدميه” (مز 131: 7). والبرهان على أنه يعني بذلك الصليب، يُؤخذ مما يأتي: “قمْ أيها الرب إلى راحتك” (مز 131: 8)، لأن القيامة تتبع الصليب. فإذا كان الحبيبُ يحبُّ من محبوبه بيته وسريره ولباسَه، فكم بالأحرى كثيراً يجب أن نُحبَّ -من إلهنا ومخلِّصنا- ما بواسطته صرنا مخلَّصين!
يجب السجود لرسم الصليب، على أنه إشارة المسيح، ولا ينبغي السجود لمادة الصليب: ونحن نسجد أيضاً لرسم الصليب الكريم المحيي ولو كان من مادة أخرى، لأننا لا نكرم المادّة، حاشا! بل الرسمَ، على أنه رمزُ المسيح. وقال قال هو بوصيته لتلاميذه: “وحينئذٍ تظهر علامة ابن البشر في السماء” (متى 24″ 30) -دالاًّ بذلك على الصليب-. لذلك قال أيضاً ملاك القيامة للنسوة: “إنكنَّ تطلبنَ يسوع الناصري المصلوب” (مرقس 16: 6)، لأن كثيرين هم الذين يتكنَّون بالمسيح وبيسوع، ولكنَّ المصلوب واحد. وهو لم يقل: المطعون بحربةٍ، بل المصلوبَ. وعليه يجب السجود لعلامة المسيح، لأنه حيثما تكون العلامة يكون هو نفسه أيضاً. أمّا المادة المعمول منها رسمُ الصليب، ذهباً كانت أم حجارة كريمة، فإذا حدث أن زالَ الرسم، لا ينبغي لها السجود. وعليها فإننا نسجد لكل ما يُنسب لله، مركّزين عبادتَنا عليه.
إن عود الحياة رمز للصليب: إن عود الحياة – ذاك الذي قد غرسه الله في الفردوس – كان قد سبق ورمز إلى الصليب الكريم. فلمّا دخل الموت إلينا بالعود، وجبَ أن تُعطى لنا بالعود الحياة والقيامة. ويعقوب الأول لمّا سجد لرأس عصا يوسف قد صوَّر الصليب، ولما بارك ولدَيْه بيديه المتعارضتين، رسمَ علامة الصليب رسماً جليّاً جداً. وإن عصا موسى -بضرب البحر بها في شكل صليب- أنقذت إسرائيل وغرَّقت فرعون. وإنّ يديه المبسوطتين على شكل صليب قهرتا عماليق. -والماء المرّ قد صار حلواً بالعود وانفلقت الصخرة وجرت منها المياه. – وإن عصاً أيضاً قد احتفظت لهارون برئاسة الكهنوت. والحيّة لما رُفعت على عود وقد بدت مائتة، خلَّص العود أولئك المؤمنين الناظرين إلى عدوّهم مائتاً. ذلك على مثال المسيح الذي لم يعرف خطيئة وقد سُمِّر بجسد الخطيئة. لذلك صرخ موسى العظيم قائلاً: “أنظروا إلى حياتكم على عود معلّقة تجاه أعينكم” (تثنية 28: 66). وقال أشعيا: “بَسطتُ يديَّ النهار كلّه نحو شعبٍ عاصٍ يسلكون طريقاً غير صالح وراءَ أفكارهم” (أشعيا 65: 2). أما نحن الساجدين له عسانا نحظى بالنصيب مع المسيح المصلوب!
عن كتاب “المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي”
القديس يوحنا الدمشقي

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:55 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
الخطيئة من نظرة بالاماسيّة ونظرة عقلانيّة

” يا بنـيَّ مغفورةٌ لك خطاياك “

أتى بعض اليهود بمخلّعٍ إلى يسوع طالبين، طبعاً، أن يحلَّه ويخلِّصه من عاهته الجسدية. لكنّ يسوع التفت بشكلٍ غريبٍ إلى هذا المخلّع – والشلل أوضحُ الأمراض ظهوراً للعيان – وكأنَّه لم يرَ إلاَّ المرض الذي اهتمّ هو أن يشفيه، وقال للمخلّع: “مغفورةٌ لك خطاياك”؛ ففوجئ اليهود.
تترك لنا هذه الأحداث أسئلةً عديدةً. ما مفهوم يسوع للخطيئة الذي جعله يتجاهل الحاجة الجسدية ويركز على المرض الروحي؟ وثانياً لماذا اختارت لنا الكنيسةُ هذا النصّ في أحد القديس غريغوريوس بالاماس، الذي نحييه اليوم، وهو الذي تصدّى في القرن الرابع عشر لـ برلعام من كلابريا في صقلّية؟
لم يكن الصراع بين بالاماس وبرلعام نظريّاً وجدالاً فكريّاً، بل هو خلافٌ على طريقة تعامل الإنسان مع الله وعبادته له والعيش معه والسير إليه.
نعم، لعلَّ الإلحاد المعاصر ليس هو عدم الإيمان بوجود الله، وهذه هي صيغة الإلحاد الغابر، إنما تزييفُ هذا الإيمان وإفساده. لذلك لم يعد الخطر على الإيمان من الاضطهادات الخارجيّة، وإنّما من خطر فقدان صفاء الإيمان، أي من الداخل. إذا ألقينا نظرةً على مفهومنا للخطيئة، وهذا الأمر هو من أدقّ الأمور في علاقتنا بالله، فإنّنا نجد أنَّ هذا المفهوم الدقيق مهدَّدٌ فعلاً وربّما مزيّفٌ بسبب العقلانيّة البرلعاميّة الغربيّة. لنرى إذاً ما هي الخطيئة من مفهومنا المسيحيّ الأرثوذكسيّ الحقيقيّ!
عقلانيّاً، يتساءل إنسان اليوم، لماذا بلغة الدين نسمّي أفعالاً وتصرّفاتٍ ما “خطيئةً”؟ ما دامت هذه أحياناً كثيرةً تبدو مفيدةً لي شخصيّاً، ومناسبة أو مريحة، وتلبّي لديّ شهواتٍ دون أن تضرّ أحداً آخر، ولربّما أحياناً تبدو مفيدة له أيضاً؟ لماذا هذا المفهوم “العتيق” و”المعقّد” للخطيئة؟
عقلانياً، يحلّل غالبيّة الناس اليوم مفهوم الخطيئة، مصطدمين بالمفاهيم “الدينيّة” القديمة لها! هم يرغبون إذاً بتجاوز كلّ الموانع وكلّ رادعٍ أخلاقيٍّ، حتّى ولو كلّفهم ذلك أحياناً إسكات صوت الضمير الداخلي، متساهلين مع كلّ ما يتركه هذا الأسلوب التحليليّ من غموضٍ داخليّ. ويحتكمون بعد ذلك إلى تسمياتٍ جديدةٍ لتلك التصرفات من أجل تبريرها. ولو أنّنا تناولنا أدقّ التصرفات وأهمّ المسلكيّات الإنسانيّة، وتساءلنا ما هو تحديد الإنسان المعاصر للخطيئة فيها، لوجدنا أنّنا غالباً ما نفسد ذلك مستبدلين الرشوة بالشطارة مثلاً، وخالطين الحبّ بالزنى أحياناً، ومحوّلين الخدمة إلى الاستخدام، ومعوّضين عن المحبّة بالمصلحة، ومحدّدين السعادة بالرفاهيّة… ولا نتأخر عن تحليل ذلك بعقلانيةٍ تبرّر كلّ ذلك.
لنفكّر عقلانياً كإنسان اليوم “وبمفاهيم معاصرة”! كما يقال: هل تضرّ الرشوة حين تُسيِّر أعمال كلّ الأطراف؟ ما هو ضرر الزنى مثلاً إذا لبّى شهوة فريقَين؟ ما هو خطأ الاستخدام إذا حقّق توازن الجميع؟ هل عارٌ علينا أن نطلب مصلحتنا؟ ولماذا التضحية والمحبّة، وكلّ هذه الأثقال الإنجيليّة الملائكيّة، ونحن بشر؟ أليست الراحة في الاستراحة؟ هل هذا يؤذي بشراً؟ وغير ذلك الكثير… أين الخطيئة في كلّ هذه المواضيع؟
دينياً- وكم تحمل هذه الكلمة من مخاطر وتتحمّل كثيراً من سوء الفهم- نخطئ في تفسير الخطيئة أيضاً، فنحدّدها على أنّها تعدٍّ للوصيّة الإلهيّة! وكأن المتضرّر في هذا الموضوع هو الله، الذي عليه، لعدالته وربّما “لأنانيته” ولكرامته، أن يُحصِّل حقوقه منَّا بفرض عقوباتٍ في حياتنا الحاضرة قبل جهنّم المقبلة. لكن لو فكَّرنا بشكلٍ أعمق لأدركنا أنَّ الخطيئة لا تستطيع أن تمسّ الله. فإذا ما وضعَ الله لنا نواميساً وقوانيناً تنهانا عن الخطيئة، فإنَّه لا يصنع ذلك لمصلحةٍ تتعلّق به، بل لأجلنا، “لكي نصيب خيراً… ونحيا”[1]. إنَّ إله الكتاب المقدّس، إلهنا، ليس إله الأبيقوريين أو إله أرسطو ذاك الذي لا يهمّه أمر الإنسان والعالم!
حقيقة الخطيئة، من نظرةٍ مسيحيّةٍ عمليّةٍ، وكما يعرّفها القدّيس بالاماس، هي رفض الله كأب، رفض الحبّ الأبويّ، أي رفض النعمة الإلهيّة، والعيش في عزلة عقلانيّة. ما أحزنَ الأب في مَثَل “الابن الضال” هو رحيل ابنه. لقد أهان الابن أباه بحرمانه من وجوده كابن، لذلك فإنَّ هذه الخطيئة لا تُغتفر إلاَّ بالعودة. إنَّ الحبّ الإلهيّ المنسكب جعل الله، إذا جاز التعبير، “قابلاً للتجريح”. خطيئة هي أن نرفض النور ونحبّ الظلام حين يجيئ النور إلينا. خطيئة الابن دائماً تكمن في أنّه يفكرّ وحده فقط. أكبر إهانةٍ للأب هي أن نتجاهل حبّه. يمكننا أن نحيا بعقلانيّةٍ ونحدّد مصيرنا بتحاليلنا. ويمكننا أيضاً أن نحيا مع الله بالإيمان، وهنا فقط نعطي للآب حقّه. لم يُخطئ آدم في شيءٍ بالجوهر إلاَّ في أنّه أراد أن يحيا ويفكّر ويخطط لذاته دون الله. أن ننعزل عن الله يعني أيضاً أن نعزله. أليس هذا هو الإلحاد الحقيقيّ، وهذه هي الخطيئة إذاً بين الابن وأبيه، بيننا وبين الله؟ “الخطيئة” هي أن ندّعي أنّنا أبناء بينما محبّة الآب ليست فينا. لا تعني الحياةُ مع الله مجرّد الاعتراف بوجوده، أو أن نعرف عن وجوده الأمور الكثيرة وحسب؛ الحياة مع الله تعني أن نسعد بحياتنا معه، وبكلمةٍ أخرى أن يكون اللهُ سعادتَنا. أن نقرأ، مثلاً، اللاهوت من أجل المعرفة فقط، فهذه خطيئة! لأنّه إن قرأنا اللاهوت ولم نفرح، ونتخشَّع، ونحيا، فنحن نهين الله الذي أتى إلينا حياةً. لأنّ الله لم يأتِ ليَشغَلَ عقلنا وإنّما ليُشعِلَ قلبنا. الحياة مع الله ليست معلومات وإنّما خبرات. لا يُدَرك الله ولا يوصَف من قِبَل الدراسات، وإنّما يُخبَّر عنه من الخبرات. الدراسات إيجابيّة حين تزيد الخبرات. يمثّل برلعام خدعةَ الدين كمعرفة، ويذكِّرنا القدّيسُ بالاماس بخبرة الدين كحياة.
من وجهة النظر الأرثوذكسيّة، لا يحيا الإنسان إلاَّ على المنّ السماويّ، أي على النعمة الإلهيّة. لا يحيا الإنسان بالخبز، بل بالنعمة والكلمة الإلهيّة الخارجة من فم الله. على هذا الأساس، نُعرِّف الخطيئة أنّها “خسارة”، إذ نرفض النعمة المعطاة لنا ونحيا بمحدوديات العقل المنعزل عن الله ونعمته. خطيئة هي أن نقول “لا” للحبّ الإلهيّ المتدفق إلينا وفينا.
أَتؤمن؟ هذه هي مغامرة الإيمان، لا بل هذا هو يقينه بالذات، أنّنا نُقلع ونُبحر معتمدين على ريح النعمة لا على تجذيف أيادينا الخاصّة. لكلّ إيمانٍ أبعاده، للعقلانيّة حدودها التي لا تتجاوز الأطر الجسدانية والبشريّة والدهريّة. أمَّا أبعاد الإيمان فهي أمرٌ آخر، لأنها تنفتح على النعمة الإلهيّة والمؤلِّهة، وتسير بنا بالروح إلى فردوس القدّيسين.
لكلّ إيمانٍ مسيرةٌ وغاية، والإساءة إلى ذلك هو الخطيئة. يحدِّد القدّيس سيرافيم ساروف غايةَ الإنسان المسيحيّ بـ “اقتناء الروح القدس”، لذلك كلُّ ما يعيق هذه المسيرة هو خطيئة. على كفّة هذا الميزان يجب أن نزِين الرشوة، والمصلحة، وسائر الرغبات… وليس على موازينَ عقلانيّةِ أبناءِ هذا الدهر. هذه هي خطيئتنا الكبيرة، كما تقول الرسالة اليوم، أنّه إن كان الذين قد أهملوا بشارةً جاءت على لسان ملائكة قد أُدينوا، “فكم هي خطيئتنا نحن إن أهملنا خلاصاً كهذا” رافضين أن نسعى في طلب النعمة؟
انطلاقاً من هذه النظرة إلى الخطيئة ندرك لماذا أراد المسيح أن يغفر لذلك المخلّع خطيئته قبل شفاء أعضائه. بنظرةٍ عقلانيّةٍ فقط نستطيع أن نتساءل بحقٍّ ما هي دواعي الصوم، فهو تعذيب للجسد، أو لماذا الصلاة التي قد تبدو بلاهة! ولكن إن كنَّا نطلب النعمة الإلهيّة فالسؤال يُعكَسُ ويصير لماذا لا نصوم، ولا نصلّي، ولا نسهر…؟
هذه هي صرخة القدّيس بالاماس اليوم، أن نتحدّى العقلانيّة ساعين وراء النعمة، وذلك بالأصوام والأسهار والصلوات، متعالين فوق عالم المنطق الدنيوي. “فالبارّ بالإيمان يحيا”، حتّى إذا ما تقبَّلنا بالطهارة النعمةَ الإلهيّةَ، ندرك ونستحقّ كلمة المسيح:
“يا بنيَّ مغفورةٌ لك خطاياك، وها قد عوفيت فلا تعد تخطئ”.
آميــن
من كتاب سفر الكلمة- الجزء الأول
للمتروبوليت بولس يازجي

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:56 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
لماذا الصَّليب؟

الصَّليب أيقونة الأيقونات، السَّيِّدُ مرسومٌ عليه لأنَّ العود مرتبطٌ عميقاً بالمسيح. العبادة موجَّهة لا للخشبة بل لمن صُلِبَ عليها. يتمّ الزيَّاح به وهو ، على مِثال القرابين في البروجزماني، على رأس الكاهن. الصَّليب كالأيقونة وكرفات القدِّيسين فيه سرُّ حضور المسيح، فيه اشتراكٌ بآلآم المسيح وبقيامته. التَّكريم يبعثُ الفرح. هو مشارَكَةٌ مسبَقَة حقيقيَّة في الآلام.
* * *
إشارةُ الصَّليب فلتأتِ كامِلةً على الجبين بصورة ملموسة على الصدر والكتفين. عِنَاقُ الصَّليب يُعطينا فرحًا. في الزيّاح الصَّليبُ موضوع على زهور مُحاطًا بثلاث شموع مضاءة. الشموع الثلاث تشيرُ إلى الثالوث، هذا يعني أنَّ خلاصَنا تمّ بمؤازرة الآب والابن والروح القدس.
الزهرة تشيرُ إلى أنَّه بالصَّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم. الصَّليبُ غَدَا ليس أداةَ حزنٍ بل أداةَ فرح. الصَّليب في الوسط صار مركزًا للكون مِحْوَرًا للعالم كلّه. كلّ شيء مدعوّ للمصالحة.
كانت أورشليم المدينة المقدَّسَة معتَبَرَة في وسط العالم. هناك في هيكلها مسكن الرَّبّ ((Shekineh مُشِيرًا إلى حضرة المجد الإلهي. في المسيحيَّة، في وسط القبر المقدَّس، زُرِعَ الصَّليب المعتبَر وسط العالم.
“الله هو ملكنا قبل الدهر، صَنع الخلاصَ في وسط الأرض” (مزمور 73: 12).
كلّ واحد منّا مدعوٌّ إلى أن يحمِلَ صليبَه كلّ يوم، بمعنى أن نجعل حياتَنا كلّها تحت نير المسيح بفرح.
* * *
“ذوقوا وانظروا ما أطيب الرَّبّ”
كيف نتَّحِدُ بالمسيح؟ كيف تتمّ رؤية يسوع؟ علينا أن نُنكِرَ أنفسَنا كيف يكون ذلك؟
الخطيئة هي في أن نُخطِئ الهدف، أن نلتهي بأشياء أخرى، أن نخرج عن الطريق عالمين أن يسوع هو الطريق. أن نكفرَ بهذا الأنا الحامِل الضُّعُفَات كلّها “ماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم وخسر نفسه”. العالم هنا هو ملذَّاته، غناه، نفوذه، ونفسه هي الذات الحسنة المخلوقة على صورة الله ومثاله
كلُّ مسرَّات الدنيا لا تُقاس بالفرح الروحيِّ الذي نقتنيه بداعي محبَّتِنا ليسوع. مَلَذّات العالم كلّها لا تُقاس أمام النِّعمة التي تأتينا من الله
لنصبر على آلامنا، على الإمساك، على التقشّف، على الصلوات، على أعمال الرحمة، لكي نصل إلى القيامة
هذه كلُّها تعب من أجل المسيح، بعدها يصير فرحًا، مشاركةً لآلام السَّيِّد، بعدها تأتي القيامة. نحن في كلّ لحظة معلّقون على هذا الصَّليب، على هذا الجسر: ألمٌ وفرحٌ، موتٌ وقيامةٌ، عبورٌ فصحٌ مجيد
أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 01:58 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
البشريّة: قصّة ابنين!.

ليس الابن الأصغر، في المثَل، هو المشكلة، ولو جعلته خطيئتُه في موقع صعب، من جهة أبيه، بل الابن الأكبر!.
في العادة، تُسلَّط الأضواء على الأصغر، المعرَّف عنه بـ”الشّاطر”، أو “الضّال”، لأنّ التّعليم يقضي!. الاهتمام منصبّ عليه بقصد مماهاة أنفسنا به!. الجميع أخطأوا، والآتي أتى ليدعو خطأة إلى التّوبة!. عندك صورة الخاطئ التّائب وعندك صورة الإله الرّحيم!. ربّما عُرِّف عنه بـ”الأصغر”، إشارة إلى الأمم المتغرِّبة، بعيدًا، عن إلهها!. سافر إلى كورة بعيدة حيث أفلس!. أفرغت الخطيئة الأمم من كلّ قيمة، وجعلتها راعية خنازير!. خادمةَ النّجاسة، رمزًا!. هذا، ربّما، في مقابل الابن الأكبر، أو الابن البكر، الّذي هو إسرائيل!. رغم ذلك، للأمم الشّاطرة توبة، فيما إسرائيل، بكرها، راتع في البرّ الذّاتيّ!. الفرّيسيّة، كبرياءً ورياءً، اجتاحته إلى حدّ بعيد!.
التّركيز، في الابن الشّاطر، هو على عودته إلى نفسه!. كيف للغرباء عن إله إسرائيل أن يعودوا إلى أنفسهم؟ طالت غربتي على نفسي!. سالمت مبغضي السّلام، ولمّا كلّمتهم به ناهضوني بلا سبب!. جَعَلَتْهم خطيئتُهم في عوز إلى الدّفء الكيانيّ!. لم يَعد فيها ما يغوي، ما يُشبِع، حتّى خرنوبًا مرًّا!. لم تعد الخطيئة وعدًا بمسرّة!. باتت عنوان خواء!. إلى ذلك، ألقت الخطيئة أصحابها في المذلّة!. لا فقط جعلتهم في مستوى الخنازير؛ جعلتهم خدّام خنازير!. تمامًا، إذ ذاك، رجع الابن الشّاطر إلى نفسه!. خرج من حال الوهم بشأن خطيئته!. صارت الخطيئة، في واقع عينيه الدّاخليَّتين، عنوان الجوع والفراغ والذّلّ والهلاك!. كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا!.
من هنا صحوة الابن الشّاطر، صحوة الأمم!. أتُرى الصّحوة من الضّيق؟ بل الضّيق، كيانيًّا، يخرجك من غفلة الخطيئة؛ يكسر تماهيك بها، كطبيعة ثانية مكتسبة؛ فيخبو وهجُها لديك!. أمّا العودة، في ذهنك، إلى فوق، فمن فوق!. لا أحد يأتي إليّ إن لم يجتذبه الآب السّماويّ!. أقوم وأذهب إلى أبي!. هذا كلام إلهيّ!. بشريًّا، اليأس من الذّات وحال الذّات يفضي إلى الانتحار!. إذًا، الله، سرّيًّا، منعطف على نفس الخاطئ، مقيم فيها!. ولو كان لينصرف عنها بالكامل لانهارت!. تصرف وجهك فيضطربون، تنزع أرواحهم فيفنون، وإلى ترابهم يرجعون!. ما إن يميل الخاطئ عن نفسه، بعد غرور، حتّى يميل روح ربّه إليه بسرور!. تلقاءً!. بلا عتاب!. إن تَدِنْ نفسَك يبرِّرْك ربّك!. بين قولة الابن التّائب: أخطأت إلى السّماء وقدّامك… وقولة الأب لعبيده: أَخرجوا الحلّة الأولى… لا محاكمة ولا إدانة… فقط، فرحٌ بمَن كان ميتًا فعاش وضالاً فوُجد!. الله، بسابق معرفته، يقيم في الفرح، في الانتظار، بصمت، بهدوء، بسكون، إلى أن يعود الخاطئ إليه بروحه!. إذ كان لم يزل الابن بعيدًا رآه أبوه!. إذ ذاك أعطاه أبوه النّصيب الحقّ الصّالح الّذي يخصّه… ولكن من الفرح والدّفء، لا من صقيع مباهج هذا الدّهر العابرات الخاويات، ما يزيِّنه له السّقوط أنّه المرتجى، كذبًا، وما هو!.
ماذا صنعت الخطيئة؟ في أوّل الأمر، ملأت الابن الشّاطر قحة بعين مفتوحة: أعطني القسم الّذي يصيبني من المال!. عمليًّا، لا حقّ له بما يطلب لأنّ أباه حيّ!. لكنّه اعتبره ميتًا؛ قتله ودفنه، بمعنى؛ وارتضى أبوه أن يعامله ابنُه كنكرة وصَمَت!. هذا ميراث الحرّيّة!. لك أن تقتل ربّك في قلبك إن شئت!. ولكن، في نهاية المطاف، تستحيل الخطيئة، عن غير قصد، مولِّدة للاتّضاع: لستُ مستحقًّا، بعد، أن أُدعى لك ابنًا، اجعلني كأحد أجرائك!. والاتّضاع، في قولة أحد آباء البرّيّة، هو معاينة الله غير المنظور!. لذا كان الابنُ أعمى فأبصر!. بين أوّل الخطيئة وآخرها مراحل: صلف وزنى وغربة وجوع وذلّ وفراغ، ثمّ صحو وتوبة واتّضاع!. خير لي أن أكون صعلوكًا في بيت إلهي من أن أسكن في مساكن الخطأة… هذه تأتي بعد التّمرّغ في حمأة الغرور!. هي شريعة السّقوط أنّ البَرَكة الّتي تغادرها، زهوًا بنفسك، ولا تنوجع لفرقتها، إذ يتصحّر قلبك، لا تشتاق أحشاؤك إليها، ولا تشتهي استردادها!. لكن ربّك هو سيِّد الانتظار الصّامت بامتياز حتّى تعود!.
كلّ خطيئة تُغفر لبني البشر، ولكن ليس إن لم يتوبوا!. إذا كان الابن الشّاطر قد تاب أخيرًا، فالابن الأكبر أقام في مدار آخر، لا تطاله التّوبة!.
أسَرَ نفسه في دائرة البرّ الذّاتيّ!. كاملٌ في عين نفسه، ظَنَّ!. قطّ لم أتجاوز وصيّتك، قال لأبيه!. فضلُه على ربّه: ها أنا أخدمُك سنين هذا عددها!. لا اعتبار لديه لفضل ربّه عليه!. عطايا أبيه تحصيل حاصل عنده!. شيّء أباه!. أبوه، في نظره، غير مبال به!. لا يقيم وزنًا لمشاعره، في فهمه، ولا يهمّه لابنه أن يفرح!. جديًا لم تعطني قطّ لأفرح مع أصدقائي، قال له!. بكلام آخر، الأب متّهم، في عين ابنه الأكبر، بالمحاباة، واللاّمبالاة، والقسوة، والظّلم!. وإلى إدانة البكر لأبيه، أدان أخاه!. أكلَ معيشتك مع الزّواني، قال!. وتكلّم كمَن لم يعد أخوه أخاه!. جاء “ابنك”، قال لأبيه، ولمّا يقل جاء “أخي”!. سقط الأخ الأصغر من عين أخيه الأكبر صريعًا!. ظاهرًا لأنّه خطئ، وفي قرارة نفسه، حسدًا منه!. ذبحتَ له العجل المسمَّن!. هذا بعدما قارن نفسه به!. لذا يضيف الابن الأكبر إلى الاتّهامات، الّتي يتّهم أباه بها، تهمة إضافيّة، أو قل يحكم على أبيه بـ”سوء التّدبير”!. إذًا، في داخله، أبوه، كأب، فاشل، وكإله، فاشل!. صورة الإله، الّتي أبوه عليها، ساقطة!. لا هذا هو الأب الّذي يشاؤه لنفسه، ولا هذا هو الإله!. إذًا، ليس الابن الأكبر في وارد عبادة الإله كما هو، بل الإله الّذي تصنعه أهواؤه!. إنّما بحثُه عن صنم يدعمه في شهوة نفسه!.
ما دام الابن الأكبر يحسب نفسه كامل الأوصاف، مبرَّرًا، حقّانيًّا، فما الحاجة لأن يتوب إلى أبيه؟!. بالأحرى، أبوه بحاجة إلى توبة تجاهه!. مَن كان أبوه قتيل أهوائه ونزواته، فلا مطرح لمصالحته معه!. أللابن خلاص؟!. لسنا نعلم!. لم نُعْطَ أن نعلم!. أثمَّةَ خلاصٌ بلا توبة؟!. أثمّةَ بلوغٌ إلى التّوبة بلا عودة إلى الذّات، بلا اعتراف بالخطيئة، بلا اتّضاع!. المَثَل ينتهي بتأكيد عودة الابن الشّاطر إلى حضن أبيه استنادًا إلى محبّة الله!. كان ينبغي أن نفرح ونُسَرّ- قال الأب لابنه الأكبر- لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجد!. أخوك، يا بنيّ، يبقى أخاك، ويصير أخاك بالأكثر متى تاب إلى رشده وعاد!. وكما يحبّ الأبُ ابنه الضّال يحبّ بِكْرَه!. محبّة الله ليست مّما نعمل بل من ذاته لأنّه محبّة!. طبعًا، يُطرح السّؤال هنا: ما دام أنّ الله محبّة فكيف تتبلور محبّته، كخلاص، لابنه الأكبر؟ عرفناها متبلورة للابن الأصغر توبة!. هنا باب التّوبة، أقلّه لناظرينا، موصَد!. أترى ثمّة أبواب أخرى للخلاص، أو ربّما للتّوبة؟!. أمام إله يشاء الخلاص للجميع وهو قادر على كلّ شيء – وهذا كلام كتابيّ- وبإزاء إله لمّا يُجب عندما سئل: أقليل هم الّذين يخلصون؟ فقط، قال: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضّيّق؛ نجدنا أعجز من أن نتطارح الأمر إلاّ عبثًا!. ثمّة سرٌّ لمّا يُكشَفْ، ولا حقّ لنا في أن نهتك الحجاب!. فقط، نعلم أنّ إسرائيل، الابنَ الأكبر، صَلب أباه وربّه، وأنّ مسيح الرّبّ قال لأبيه، وهو على الصّليب: اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!. متى وكيف تأخذ المغفرة هذه طريقها إلى التّرجمة؟ هذا متروك، في المدى، لتدبير ربّك!. أنّى يكن الأمر فليس يُطاق أن يُلقى أحد في الجحيم!. متى عاين أبناء الملكوت قومًا في الجحيم فجحيمهم أقسى من الجحيم بما لا يُقاس!. هذا خُلُق ربّك و”جحيم” محبّته… وأهل بيته… اللّهمّ خلِّص المؤمنين والّذين لا يؤمنون!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 02:04 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
أحد استقامة الرأي


الأرثوذكسيّة تعني استقامة الرأي، أو الرأي الممجَّد. والاستقامة، لغةً، تعني الاعتدال والاستواء، الإنصاف والعدل والنَّزاهة، الصِّدق والأمانة، والهدى. هي صفات إلهيّة. لذلك، الرأي المستقيم يُمجَّد لأنّه يوصل إلى التشبّه بالله.
طبعًا، يَكشف الرأي المستقيم في الإيمان غاية الحياة والوجود، ويَهدي من طلب الهُدى سَواءَ السّبيل. فالرأي المستقيم هو في آنٍ كلمة وطريق. الرأي المستقيم هو “الكلمة” (O Logos) الّذي هو “الطّريق” (O Odos). لذلك، “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا” (يوحنّا 1: 14).
هذا هو سرُّ أحد الأرثوذكسيّة الّذي نعيّد له اليوم: أنّ الله شابَهَنَا لنعرفه في ما هو منظور، فينقلنا إلى معاينة اللامنظور. “الحقيقة” لا منظورة بالحواسّ الجسديّة، هذه الحواسّ تتلمّس بالعقل ما يخضع للعقل، ومن هذا التّلمّس تُدْرِك عجز العقل أمام سرّ “الكينونة” المطلقة، سرُّ “الكائن” (أنظر خروج 3: 14).
* * *
من لا يقبل سرّ التّجسُّد ليس من الله، بل هو مخدوع من إبليس: “بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ…” (1 يوحنا 4: 2 – 6).

أعطانا الله أن نراه في ابنه المتجسِّد، والّذي كان دائم الظّهور في العهد القديم على صورة “ملاك الرّبّ” (أنظر مثلًا: خروج 3). الله تجسَّد ليجدِّد فينا صورته الّتي فَسُدت بالمعصية وتشوّهت. أتى ليهبنا أن نصير على مثاله، من خلال الاتّحاد به في المعموديّة والميرون والمناولة المقدّسة والأسرار.
الأيقونة الأولى النّقيّة للمسيح ابن الله المتجسِّد هي آدم ما قبل السّقوط. كلّ معمَّدٍ صار بتنقية الولادة الجديدة من رحم الكنيسة أيقونةً متجدِّدة لابن الله.
توضع الأيقونات في الكنيسة لنلج من خلالها إلى سرِّ الحضرة الإلهيّة في الابن المتجسّد بنعمة الروح المستقرّ في الّذين اتّخذهم مسكنًا له في المعموديّة. نلج إلى سرّ الشّهادة للأرثوذكسيّة من خلال سرّ تصوُّر ابن الله عبر أيقونته وأيقونة والدته بالجسد وأيقونات قدّيسيه في المسكونة، عبرنا نحن الّذين نتّحد به في الأسرار.
الأرثوذكسيّة هي المسيح، والمسيح في العالم حاضر في كنيسته بالروح، وكنيسته هي هيكله (أنظر: 1كورنثوس 3: 16) الذّي هو نحن.
فهل أيقونة المسيح اليوم تكشف استقامة هذا الرأي الذّي يجب أن يُظهر مجد الله في العالم؟!…

Mary Naeem 04 - 07 - 2016 02:05 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
إنجيل متّى

لعلّ ما يجعلنا نتعلّق بإنجيل متّى أنه يبسط حوادث سيرة المعلّم وتعاليمه بآن فلا يهمل جانب الحادثة ولا جانب الوعظ وفي مقدمه العظة على الجبل التي تحتوي التعليم الأخلاقي للمعلّم. يبدو هذا الإنجيل موازيا بين أقوال يسوع وعجائبه، وإليه يعود المؤمن بالدرجة الأولى.
كذلك يعيدنا إنجيل متى الى العهد القديم ويبرز انه المُنطلق للعهد الجديد اذ يُبيّن وحدة الأسفار بين العهدين. يتركز هذا الإنجيل على العهد القديم إذ يعيد قارئه اليه بذكر آيات من الأنبياء. ولعل هذا عائد الى ان كاتبه توجّه أولا الى القراء القاطنين فلسطين وقال لهم: «ليتمّ ما قيل بالنبي» دالاّ بهذا أن السيد تحدّث عنه الأنبياء القدامى وانه هو المرتجى وبه تحققت كل النبوءات، كقوله مثلا: «وهذا كله لكي يتمّ ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى ١: ٢٢-٢٣، من اشعياء ٧: ١٤)، أو قوله (في ٢١: ٤- ٥): «فكان هذا كلّه لكي يتمّ ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنةِ صهيون هوذا ملككِ يأتيك وديعًا راكبًا على جحشٍ ابن أتان» (زكريا ٩: ٩).
إنجيل متّى مكتوب للمسيحيين من أصل يهودي ولليهود ليفهموا أن إخلاصهم للعهد القديم يقودهم الى المسيح وان إيمانهم لا يكتمل الا اذا اهتدوا بالمعمودية. فاستنادُ اليهود إلى الناموس المتضمّن في التوراة أي الكتب الموسويّة الخمسة (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، تثنية الاشتراع) جعل من موسى الذي صعد إلى الجبل (جبل سيناء) متلقّي الشريعة من الله. غير أن القديس متّى يُظهر في إنجيله بما لا يقبل الجدل أن يسوع المسيح بات المشترع المُطلَق في العهد الجديد إذ أوصَل الاشتراعَ إلى كمالِه حين لم ينقُض الناموس (متى 5: 17) بل «صعد إلى الجبل» (5: 1) وكمّل الكتُب الموسويّة الخمسة بمواعظه الخمس التي ما تلقّاها كما تلقّى موسى الشريعة، بل «فتح فاه» (5: 2) وسلّم الشريعة إلى التلاميذ كما سلّمها الله إلى موسى. والمواعظ الخمسة هي التالية: الموعظة على الجبل (الإصحاحات 5-7)، موعظة إرسال التلاميذ (10)، أمثال الملكوت (13)، الموعظة الكنسيّة (18)، الحديث الأُخرويّ (24-25).
لعل هذا أساسي اليوم بخاصة اذ نرى البعض لا يريدون العهد القديم في ظنّهم أنه لليهود فقط في حين ان متّى بخاصة ركّز إنجيله على انه متمم ومحقق لهذا العهد.
نعرف نحن أن إنجيل متى لا يكفي، ولكن يبدو أن المؤمنين عندنا يحبّونه بنوع خاص ربما لأنهم يجدون فيه بوضوح سردًا كنسيّ الطابع.
في الذاكرة لا بدّ من حفظ متّى لأنه يوضح الأناجيل الأخرى ويعطينا إطار الحوادث في سيرة المعلّم وينعشنا بالتعليم الأخلاقي الأكمل في العهد الجديد. جيّد ان نعود اليه لنعرف سرّ هذا التعليم عند الرب وإطار سيرته على الأرض.
جيّدٌ أيضًا أن نعرف أن متّى يذكُر في إنجيله أنه «كان جالسًا في مكان الجباية»، فرآه يسوع العابر وقال له «اتبعني»، «فقام وتبعَه» (9: 9). ذكر متّى دعوة السيّد له وتلبيتَه المباشرة ليُوحي لك أنكَ إنْ تناولتَ إنجيل متّى وقرأتَه، يُقابلُك يسوعُ العابر فيه، ويقول لك أنتَ أيضًا «اتبعني». وعندذاك، ليس أمامك إلا أن تقوم مِن قبر خطيئتك وتتبعه.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)


الساعة الآن 03:57 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025