عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 28 - 04 - 2017, 02:51 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,207,207

كل هذا المجد لا تساوية ليلة واحدة فى الطاحونة

كل هذا المجد لا تساوية ليلة واحدة فى الطاحونة

عبارة عبر بها البابا كيرلس السادس عن قيمة الفرح الروحى بحياة سكون وسكنى الطاحونة ، مقارنة بمجد وكرامة المنصب ولقاء الرؤساء .. عبارة قالها - متنهداً من كل القلب - لتلميذه بعد عودتهم من إحتفال بإرساء حجر أساس الكاتدرائية الجديدة بحضور عبد الناصر وهيلاسيلاسي ..
إرساء حجر أساس هو فى الطاحونة ، حيث التعب والجهد والفرح الروحى بعرق لا تمسحه عن الجباه إلا يد من يرى فى الخفاء وحده .. وكل من إختبر وفرح بتعب جهاد الطاحونة ، لا يغنيه عن هذا الفرح كل أمجاد ومباهج أخرى أبداً ..
حجر الأساس هو فى التعب وسط البسطاء الجلوس على ( دكك ) من طين الطاحونة ، العرايا إلا مما يستر الجسد ، وبسمة وجوههم السمراء تحاول أن تخفى خواء بطونهم فتفشل إذ ينطق شحوب الوجوه بصراخ أمعاء لا تعرف صنوف ما نأكل نحن المترفون ..
حجر الأساس لأى خادم لابد أن يضعه لخدمته فى طاحونة ، فى عشوائيات وعزب ونجوع وقرى مجهولة ليست على خريطة الكاتدرائيات الفخمة وكنائس الأحياء الراقية .. ومتى خدم الخادم منا هذه الأحياء الراقية والمدن الكبرى ، فستظل ذكرى ( الطاحونة ) له درساً يتذكره بتنهيدة عميقة مع صدر البابا كيرلس وهواء رئتيه ..
أتنهد وأنا أحمل ذكريات خدمة ( عزبة دنا ) بعشوائيات الإسكندرية ، كنت شاباً بالمدارس الثانوية يختبر الطاحونة لأول مرة ، يجمعنا المهندس مجدى أنيس ، والمهندس رمزى باسيلى أمين الخدمة ( أبونا متى باسيلى - أطال الله فى عمره ) كل يوم جمعة لنغوص فى الطين - حرفياً - بعد أن نخلع الأحذية ونحملها فى أيدينا مشمرين البنطال إلى أعلى الركب ، وكم من مرة فقدنا توازننا فى يوم ممطر وحوارى منحدرة لتنال أقمصتنا شرف هذا الطين .. وبعد عناء الطريق نلتقى بالأستاذ ( ولسن فلتاؤوس ) المحامى ليوزعنا على المنازل نجمع أطفال العزبة فى رحلة ثانية من بركات ( الطين ) وطفح المجارى ..
لم تكن للعزبة كنيسة فى ذلك الوقت من الستينيات ، كانت جمعية بإسم القديس أنبا شنودة بمنزل متواضع نجتمع فيه تحت السلم أحيانا إذ تكتظ الحجرات قليلة العدد بالأولاد والبنات ، الطين على ملابسهم ويمسح وجوههم البريئة مرسوماً بأصابعهم الصغيرة ، والذباب لا يرحم طفولتهم ليضيف إلى اللوحة جمال طاحونة حياتهم الفقيرة ..
وحينما ترتفع حناجرهم الصغيرة بأصوات التراتيل والألحان الكنسية ، وحينما يتسابقون فى ترديد المزامير وآيات الكتاب المقدس ، كنا نفرح نحن بحجر أساس وضعناه فى طاحونة ..
طاخونة ثانية أتنهد فى ذكراها ، هى اليوم قلعة تشهد بمجد الله وكاتدرائية وعشرات من الآباء الكهنة ، بدأها كاهن قديس عرف عرق الجهاد وحيداً ، ومارس الفرح الروحى بسهر طاحونته فى قرى إيكنجى مريوط والعامرية ، تعرفنا بالمتنيح القمص بيشوى بطرس - ذلك الصعيدى البسيط - فإستعدنا معه ذكريات ( عزبة دنا ) ، فى طاحونة ثانية .. سبعينيات القرن الماضى وتحديات فترة التعصب الدينى المقيت ، والجماعات الرافضة لعمل الله فى كنيسته .. هذه كلها مع الفقر المادى وقلة عدد الخدام ووعورة الطرق وغيرها مما لا نعرف ، لم تمنع الكاهن البسيط من أن يتمتع بعشرة طاحونته فأرسلتنا يد الله - مجموعة من الشباب - لنكون له مصدر عزاء ، ويكون لنا نبع حب ودروس فى خدمة الطاحونة ..
كنا خمسة كبيرنا المرحوم إدوارد ووسيلة مواصلاتنا سيارة جورج يواقيم - متعه الله بالصحة ، والأخ إميل ( ميليو ) ، والأخ فؤاد سائق السيارة ، أما البركة التى ما كنا ندرى وقتها بقدر قيمتها ، فهى مصاحبة الأخ وجيه صبحى لنا مرات كثيرة ، نعم ، لقد خدم معنا فى هذه الفترة قداسة البابا تواضروس الثانى ..
ولن أحكى عن منازل الطين التى إختبأنا فيها من أعين المتطفلين المتعصبين ، ولن أحكى عن فرحتنا بجمع لحم المسيح القدوس وقد مزقته يد الجهل والفقر وعدو الإيمان المتطرف يقتنص بمكر الثعالب وشراسة الذئاب .. ولن أحكى عن بركات قداسات صليناها فى ستر ظلام الفجر مع أبينا المتنيح أبونا بيشوى بطرس ، ولن أحكى عن دموعه التى هى الآن فى زق الله محفوظة له بكنز أبديته .. لقد كانت هذه القداسات هى سور وسياج خدمة طاحونة إيكنجى مريوط وصحرائها المثمرة ..
وطاحونة ثالثة تمتعت بخلوتها كاهناً ، خدمة منطقة ( الطابية ) بضواحى الإسكندرية ، لم تكن لهم كنيسة وقد عانوا الأمرين مع رجال الأمن للحصول على ترخيص يخول لهم بنائها دون جدوى ، فرضخوا للأمر - وقتها - وإكتفوا بالصلاة كل جمعة فى حجرة تحت السلم - بمعنى الكلمة - ينحشر فيها العشرات من الكبار والصغار ، كم كنت حريصاً وأنا أصلى لهم القداسات أن أكتفى بالقليل جداً من حبات البخور حتى لا أقتل الأقل جداً من الأكسجين ، لقد كانت معجزة حقيقة أن يكفى القليل منه لتنفس الجموع ، معجزة تعيد وتكرر معجزة الخمس خبزات والسمكتين ، بصدق ، لا أقل .. !!
وسيدة قروية فى التسعين من عمرها أتتنى بعد القداس تطلب : ( بدى إعترف على يدك يا جدس أبونا ) .. وفى زاوية ما تحت السلم إنتحينا لتفاجئنى بوابل من الدموع يحشرج صوتها الخافت الضعيف ، بذلت جهداً فى تهدئتها حتى تستطيع الكلام ، وعندما تكلمت ، نطقت عجباً :
( حاللنى يا جدس أبونا ، أولت إمبارح هملت صلاة الساعة التاسعة .. !! ) ..
كانت هذه خطية العجوز إبنة التسعين ، إبنة ( طاحونة ) طابية الإسكندرية .. فهل من درس أبلغ منه لكاهن مثلى إن أهملت مخدعى .. ؟ !!
ويوما ، كنت أفلح فى أرض ( طاحونة ) منطقة سيدى بشر قبلى ، وسط شوارع وأزقة ضيقة يصحبنى أحد الخدام العارفين بالمنطقة ومسيحييها ، نطرق الأبواب لتستقبلنا الوجوه الباسمة الفرحة بزيارة الكاهن ، وسيدة مسنة تفتح لنا باب منزلها البسيط المتواضع ، فتحت كتابى المقدس ورحت أقرأ من قصص المعجزات البسيطة المعروفة إذ توسمت فيها طفولة أولاد مدارس الأحد ، نظرت فى وجهى بإبتسامة جميلة وقالت :
( طل فى وشى يا جدس أبونا عدل ، مش بتتشبه ع الوش ده ؟ )
يا إلهى .. لقد كان وجهها يحمل ملامح وجه البابا شنودة - نيح الله نفسه - إلى حد بعيد ، لقد كانت هى السيدة ( نظيرة جيد ) الشقيقة الكبرى لقداسة البابا .. !! ..
( نعم يا جدس أبونا ، أنا أخته ، بنت أمه وأبوه ، أنا كنت بحكى له الحواديت دى من الإنجيل وهو صغير ) ..
هكذا قالت .. وهكذا إختزنت لى بركة طاحونة سيدى بشر قبلى ..
أما طاحونة خدمة أفريقيا فتحتاج منى كتاباً لا مقال ، كتابها يفوق فى عدد أسفاره كلمات أى مقال إذ يطوف كل مجال ، مجالاتها عدة ، وخبراتها شتى ، وبركاتها بركات حقل مثمر لأرض سوداء ، سوداء كخيام قيدار .. ولكنها جميلة
أنا اليوم فى كندا الجميلة النظيفة المترفة .. لا أنكر بركات الخدمة فى كل مكان يمجد به وفيه إسم الله القدوس ، خدمت كنائس كثيرة بقارات العالم ، أخذت بركة الخدمة مع رجال ونساء أتقياء وتعلمت من الجميع .. ولكنها كلها ، لا تساوى يوماً من أيام الطاحونة ..
( الصورة لرهبان دير مار مينا الأوائل يزرعون شجرة طاحونة ، بعرق جهاد نجنى نحن اليوم ثمارها اللذيذة ) ..
رد مع اقتباس